الجديد في النبي (ص) - ج 1
< صفحة > 1 < / صفحة >
بسم الله الرحمن الرحيم
< صفحة > 2 < / صفحة >
< صفحة > 3 < / صفحة >
الجديد في النبي صلى الله عليه وآله
علي الكوراني العاملي
المجلد الأول
الطبعة الأولى
1443-2021
دار المعروف للطباعة والنشر
< صفحة > 4 < / صفحة >
الجديد في النبي صلى الله عليه وآله
المجلد الأول
المؤلف: علي الكَوراني
الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.
الطبعة : الأولى.
تاريخ النشر: 1442-2021
المطبعة : باقري - قم المقدّسة.
عدد المطبوع : 2000 نسخة.
شابك: 978-600-8916-50-5
شابك دوره: 978-600-8916-51-2
دار المعروف للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّي القدس - رقم الدّار: 682 . ص-ب : 158- 37156 تلفون: 32926175 25(0)0098
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www.maroof.org
Email: [email protected]
< صفحة > 5 < / صفحة >
مقدمة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام
على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد، فقد كتبت: الجديد في الإمام الحسين عليه السلام في ثلاثين نقطة من سيرته، والنقاط أكثر في سيرة جده المصطفى صلى الله عليه وآله ، وهي تحتاج الى تحليل وتفصيل؟
وهذا النوع من عرض السيرة أنفع وأعمق من العرض المجرد، بشرط أن يكون غنياً في الفكرة، بليغاً في الصورة، سلساً في الأداء.
وقد توفقت والحمد لله لبحث سبعين مفردة من سيرة النبي صلى الله عليه وآله فكانت في مجلدين، وقد اختصرت في بعضها وفصلت في بعض آخر، حسب ما قدرت الحاجة العامة الى ذلك.
ومن أمثلة هذه المفردات:
افتخار النبي صلى الله عليه وآله بنبوته وبكونه ابن عبد المطلب، فلما انهزم المسلمون في حنين وأطبقت هوازن بجيشها المؤلف من عشرين ألفاً على النبي صلى الله عليه وآله لتقتله ثبت في وجههم وقاتل وهو يرتجز:
أنا النبــــــي لا كـــــــذب * أنـــــا ابــن عبـــد المطـــلـب
فمن هو عبد المطلب وما هي صفاته التي تستحق أن يفتخر بها رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله ؟وما هو تأثير إرثه في شخصية صلى الله عليه وآله ؟
< صفحة > 6 < / صفحة >
ومنها: قوله في المشهور: أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد. لكن لم يصححه بهذا اللفظ أحد!
وصححه الشهيد الثاني بلفظ: بيد أني من قريش، واسترضعت في بني زهرة ونشأت في بني سعد. فما هي صلة الفصاحة بقريش وبني زهرة وبني سعد؟ وما هي القيمة العلمية والدينية لفصاحة النطق بالضاد؟
ومنها: أن بني هاشم لما بعث النبي صلى الله عليه وآله كانوا أربعين مقاتلاً شجاعاً، تهابهم بطون قريش، وهي مختلفة الرأي وعدد مقاتليها الأشداء لا يصل الى مائة.
وكان باستطاعة أبي طالب عليه السلام أن يغلبهم في المعركة ويخضعهم ويقيم دولة النبي صلى الله عليه وآله في مكة، فلماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وآله بذلك؟ بل رفض اقتراح بعض المسلمين عليه ونزل فيهم قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
فلماذا رفض أن يخضع قريشاً، وصبر حتى خاض معها حروباً عديدة؟!
ومنها: حالات غضب النبي صلى الله عليه وآله ، وحالات تبسمه وضحكه، ورأيه في المرأة وتعامله معها، وتعامله مع الأطفال، وتعامله مع الحيوان، وحالاته في حروبه، وحبه للعطر، وطعامه وشرابه، وبرنامجه اليومي..
الى غيرها من النقاط والموضوعات الغنية في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ، تستحق الدراسة، كما درسنا نقاطاً من سيرة ولده الحسين عليه السلام .
أسأل الله عز وجل أن يفتح لنا أبواب فهم شخصية نبيه روحي فداه ، ويضيئ حياتنا بأنوار هدايته وحكمته وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام .
كتبه: علي الكوراني العاملي، عامله الله بمنه ولطفه
بقم المشرفة
في شهر صفر الخير 1442
< صفحة > 7 < / صفحة >
الفصل الأول: ختم النبوة برسول من ذرية إسماعيل عليه السلام
الفصل الأول
ختم النبوة برسول من ذرية إسماعيل عليه السلام
ما هي العلاقة بين قوله تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ..
وقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِالله شَهِيدًا.
- العلاقة بينها أنها مفردات لمشروع رباني واحد:
يتكون من مراحل، حيث أخذ الله فرعاً من أبناء إبراهيم عليه السلام وعزله عن تعقيدات بني إسحاق، وأمهل بني إسرائيل وبني إسحاق حتى يكملوا دورتهم، فيأتي وقت الدورة الختامية، دورة الأميين بقيادة بني إسماعيل عليه السلام ونبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وإمامة أهل بيته عليهم السلام .
وأول ما يبهرك في هذا العمل القدرة الإلهية على التحكم في الكون والمجتمع وأن كل شيئ تحت السيطرة والقدرة والإدارة!
فهل تستطيع أن تقول: هذا طفلي أسكنته هنا وسيكبر ويكون أمة. وسوف يبعث من بنيه
< صفحة > 8 < / صفحة >
رسول وتكون له أمة كبيرة تمتد قروناً حتى يبعث فيها من ذرية هذا الطفل إماماً يطهر الأرض من الظلم ويملؤها قسطاً وعدلاً.
فمن أين تعلم أن طفلك سيعيش، وتعرف ما سيكون فتقول هذا القول؟ ومن أين تقدر على فعل ما سيكون، بأحداثه الكبار والصغار وتفاصيلها؟!
لكن عندما يقول الله تعالى سيكون كذا وكذا، يكون رصد له ألوف الأدوات والوسائل والعناصر والفعاليات حتى يكون كما أخبر عز وجل؟!
وعندما يتحدث عن إسكان ذرية ابراهيم عليه السلام عند البيت الحرام، وعن بعثة النبي من ذريته، وعن أمته التي ستكون من الأميين، وعن إظهار دينه على العالم كله.. فهذا كلام مهيمنٍ على كل شيئ، يملك كل الأوراق.
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ.. فأدوات جميع الأحداث بيده وقد أمرها أن تجري بهذا الإتجاه، أحداث الطبيعة والتكوين، وأحداث المجتمع.
فهكذا يعمل الله تعالى ويدير الناس والعالم، وينسج الأحداث كبيرها وصغيرها، ويسوقها الى الهدف الذي قرره!
لا تتوهم أن هذه جبرية، فإنما هي جبرية في التكوين والمجتمع والظروف، لكن داخل هذه الدائرة إنسان مختار ضمن الخطة، يخدم باختياره المشروع!
- نحن لا نعرف فلسفة هذا المشروع الرباني:
وأبونا آدم عليه السلام لم يكن يعرف، فعندما خلق الله تعالى آدم عليه السلام نشر ذرية في عالم الذر وأراه إياهم (الكافي:2/9): (فنظر آدم عليه السلام إلى ذريته وهم ذرٌّ قد ملؤوا السماء! قال عليه السلام :يا رب، ما أكثر ذريتي، ولأمرٍ مَّا خلقتهم فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال الله عز وجل: يعبدونني لايشركون بي شيئاً، ويؤمنون برسلي ويتبعونهم. قال آدم عليه السلام : يا رب فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير، وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور؟ فقال الله عز وجل: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم.
< صفحة > 9 < / صفحة >
قال آدم عليه السلام : يا رب فتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال الله عز وجل: تكلم. قال آدم: يا رب فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء، لم يبغ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض، ولا اختلاف في شئ من الأشياء؟
قال الله عز وجل: يا آدم بروحي(بقوتي فيك) نطقتَ، وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الخالق العالِم، بعلمي خالفت بين خلقهم، وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لاتبديل لخلقي. إنما خلقت الجن والإنس ليعبدون، وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي. وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً، في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم، فلذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري. وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم، وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد، والبصير والأعمى، والقصير والطويل، والجميل والدميم، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والمطيع والعاصي، والصحيح والسقيم، ومن به الزمانة، ومن لا عاهة به، فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه، ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي. وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته. فلذلك خلقتهم، لأبلوهم في السراء والضراء فيما أعافيهم، وفيما أبتليهم، وفيما أعطيهم، وفيما أمنعهم، وأنا الله الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت، على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من ذلك ما قدمت، وأنا الله الفعال لما أريد، لاأُسألُ عما أفعل، وأنا أسأَل خلقي عما هم فاعلون).
وفي رواية سعد السعود/35: (قال آدم: ما هؤلاء؟قال: هؤلاء الأنبياء من ذريتك، قال كم هم يا رب؟ قال: هم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، المرسلون منهم ثلاث مئة وخمسة عشر نبياً مرسلاً.
< صفحة > 10 < / صفحة >
قال: يا رب فما بال نور هذا الأخير ساطعاً على نورهم جميعاً؟ قال: لفضله عليهم جميعاً. قال: ومن هذا النبي يا رب وما اسمه؟ قال: هذا محمد نبي ورسولي وأميني ونجيبي ونجي وخيرتي وصفوتي وخالصتي وحبيبي وخليلي وأكرم خلقي عليَّ، وأحبهم إليَّ، وآثرهم عندي، وأقربهم مني، وأعرفهم لي، وأرجحهم حلماً وعلماً وايماناً، ويقيناً وصدقاً وبراً وعفافاً، وعبادةً وخشوعاً وورعاً، وسلماً وإسلاماً، أخذت له ميثاق حملة عرشي فما دونهم من خلايق السماوات والأرض، بالإيمان والإقرار بنبوته، فآمن به يا آدم تزد مني قربة ومنزلة وفضلاً ونوراً ووقاراً. قال: آمنت بالله وبرسوله محمد. قال الله: قد أوجبت لك يا آدم وقد زدتك فضلاً وكرامة.
أنت يا آدم أول الأنبياء والرسل، وابنك محمد خاتم الأنبياء والرسل، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول من يكسى ويحمل إلى الموقف، وأول شافع، وأول شفيع، وأول قارع لأبواب الجنان، وأول من يفتح له، وأول من يدخل الجنة. وقد كنيتك به فأنت أبومحمد).
ونحن أولاد آدم عليه السلام نقول: اللهم إنك خلقتنا أجيالاً، وبعثت فينا الأنبياء والرسل عليهم السلام وأعطيت الفرصة للطغاة والأشرار أن يقاتلوهم فيقتلوهم ويضطهدوا أتباعهم! وقد تغلبوا عليهم وسيطروا على الأرض وناسها، إلا فترات قصيرة جداً.
ونحن لانعرف أسرار إدارتك للأنبياء والأوصياء عليهم السلام وتقسيمهم الى مستويات، وتوزيعهم في الزمان والمكان، ولماذا جعلتهم بعد إبراهيم عليه السلام من أبنائه فقط، وأسكنتهم بلاد الشام، وأسكنت إسماعيل منهم جزيرة العرب، وجعلت في ذريته ختم النبوة والإمامة، وأمهلت الطغاة أن يحكموا في الأرض الى أن تبعث المهدي من ذرية إسماعيل عليهم السلام ، الذي أمرته بتطهير الأرض من الظلم والظالمين، وإقامة دولة العدل!
اللهم: لا نقترح عليك كما اقترح أبونا آدم عليه السلام ، لكنا نسألك أن تفهمنا ما نطيق من الحكمة في سياستك مع الأنبياء عليهم السلام ، وإمهالك الطويل للطغاة؟! - بواد غير ذي زرع:
فقد وضع الله بيته للناس في أرض قاحلة، حولها صحراء وبحر. واختارها ليمتحن الناس! قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه وسلامه إلى الآخرين من هذا العالم. بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها
< صفحة > 11 < / صفحة >
بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الأرض مدراً، وأضيق بطون الأدوية قطراً! بين جبال خشنة، ورمال دمئة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خُفّ ولا حافرٌ ولا ظِلف، ثم أمر أدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم وغاية لملتقى رحالهم. تهوي إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم ذُلَلاً يُهلِّلون الله حوله، ويرملون على أقدامهم شعثاً غُبْراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم. ابتلاء عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً إلى رحمته ووصلة إلى جنته.
ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، مُلْتَفِّ البُنى، متصل القرى. بين بُرة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناظرة، وطرق عامرة، لكان صغر قد الجزاء على حسب ضعف البلاء!
ولو كان الآساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها، بين زمردة خضراء وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفف ذلك من مسارعة الشك في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب عن الناس.
ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُللاً لعفوه). (نهج البلاغة:2/170).
إن كل شئ في مكة يثير العقل والقلب: موقعها الجغرافي بين آسيا وأفريقيا، وتركيبها الجيولوجي من رمال وجبال داكنة أشبعتها شمس القرون نضجاً. وموقعها الكوني حذو الضراح الذي في السماء وهو البيت المعمور (الكافي: 4 /188). وتاريخها الضارب إلى بدء تكوين اليابسة وبدء الإنسان الأرض، الممتد مع أمجاد النبوات: إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ للَّنَّاسِ للَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى للَّعَالَمِينَ.
ففي هذا الوادي جعل الله بيته من قبل آدم عليه السلام ، ثم أمرآدم وأبناءه بالحج اليه.
< صفحة > 12< / صفحة >
ثم هُجر ونُسي، ثم أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يسكن عنده من ذريته ليعمر بهم البيت ويبقى عامراً بهم الى آخر عمر الأرض. فأسكن عنده إسماعيل عليه السلام ! - بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ:
قسم الله المجتمع البشري الى: أهل كتاب، وأميين لم ينزل عليهم كتاب.
قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ للَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا.
وقال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
وقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالآنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَأمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ النَّبيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. فالأميون الشعوب الذين ليس لهم كتاب، أي غير اليهود والنصارى.
وتستعمل فيمن ليس له ثقافة دينية فهو كالجاهل وإن كان من أهل الكتاب!
قال الإمام الصادق عليه السلام (تفسير القمي:2/366) في قوله: َمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ: كانوا يكتبون، ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله، ولا بعث إليهم رسولاً، فنسبهم الله إلى الأميين). فهم أميون حكماً، وإن كانوا من أهل الكتاب عدداً.
وتستعمل بمعنيين آخرين: الأول: الذي لايقرأ ويكتب فتقول فلان أمي. والثاني: المنسوب الى مكة أم القرى تقول: أمي. وسميَ نبينا صلى الله عليه وآله النبي الأمي لأنه بُعث الى الأميين غير أهل الكتاب. ولأنه بُعث في مكة أم القرى.
وقد نفى أئمتنا عليهم السلام أن يكون لايقرأ ولا يكتب. ففي علل الشرائع(1/124): (سألت أباجعفرمحمد
< صفحة > 13 < / صفحة >
بن علي الرضا عليهما السلام فقلت: يا ابن رسول الله لم سمي النبي الأمي؟ فقال: ما يقول الناس؟ قلت: يزعمون أنه إنما سمي الأمي لأنه لم يحسن أن يكتب. فقال عليه السلام : كذبوا عليهم لعنة الله أنى ذلك والله يقول في محكم كتابه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. فكيف كان يعلمهم مالا يحسن! والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرأ ويكتب باثنتين وسبعين لساناً. وإنما سمي الأمي لأنه كان من أهل مكة ومكة من أمهات القرى. وذلك قول الله عز وجل: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا.
وعن علي بن أسباط قال: قلت للإمام الباقر عليه السلام :(إن الناس يزعمون أن رسول الله لم يكتب ولا يقرأ! فقال: كذبوا لعنهم الله أنى يكون ذلك وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. فكيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يُحسن أن يقرأ ويكتب! قال قلت: فلم سمي النبي الأمي؟ قال: لأنه نسب إلى مكة، وذلك قول الله عز وجل: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا. القرى مكة، فقيل أمي لذلك).
فالأمي: الواحد من الأميين، وهم من عدا أهل الكتاب.
والأمي: الجاهل ولو كان من أهل الكتاب.
والأمي: المنسوب الى أم القرى.
والأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب.
وقد استعمل أمير المؤمنين عليه السلام الأمية النسبية فقال (الكافي:1/60): (أيها الناس إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول صلى الله عليه وآله وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم أميون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله، على حين فترة من الرسل). فيصح قولك: أمي عن الكتابة، وعن الخطابة، وعن الحاسوب..الخ.
هذا، وقد روي أن الفرس من الأميين (حقائق التأويل/125):(جاء في الخبرأن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يكره أن يظهرالأميون على أهل الكتاب، يريد فارس على الروم، لأن الروم لهم كتاب وفارس لاكتاب لهم). لكن فقهاء السنة والشيعة عاملوا المجوس كأهل كتاب، ورووا أنهم كان لهم كتاب وأحرقوه!
5.ِليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ:
ظهر الشئ: فهو ظاهر. وظهر عليه: غلبه، وقد يحذف حرف التعدية: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
< صفحة > 14 < / صفحة >
عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ.أي عليهم.
وظاهرَه: ناصره. وتظاهر معه: عمل معه ضد آخر: تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ.إِنْ تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلاهُ.
والظهور على الآخرين: الغلبة، أعم من الإنتصار عليه بحرب أو بحجة، أو بأحداث توجب ذلك. ولذلك استعمله الله تعالى في غلبة أنصار عيسى على اليهود: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ.
وفي غلبة الإسلام الموعودة على الأديان: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
فقد تكون الغلبة بالحرب أوبالحجة أو بالمعجزة. وقد استعملها في سورة الفتح مقابل المشركين: لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِالله شَهِيدًا.
وفي سورة التوبة مقابل اليهود والنصارى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ الله وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ. إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَسُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
وفي سورة الصف مقابل اليهود: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
والنتيجة: أن الله تعالى تكفل بأن مشروعه الإسلام الذي بدأه بمحمد صلى الله عليه وآله وواصله بالأئمة من عترته عليهم السلام ، لابد أن يظهر على الأديان والمبادئ، بالحجة والعلم والمعجزة والحرب.
ومعناه أن النبي صلى الله عليه وآله بَشَّرَ بطوْر جديد في الحياة البشرية، وانتهاء السماح للظالمين بأن يحكموا أي مكان من الأرض، وبدء دولة العدل الإلهي ودوامها الى يوم القيامة.
- *
< صفحة > 15 < / صفحة >
الفصل الثاني : يُتْم الرسول صلى الله عليه وآله ضاعف الرحمة في شخصيته
الفصل الثاني
يُتْم الرسول صلى الله عليه وآله ضاعف الرحمة في شخصيته
إن يُتْمَ النبي صلى الله عليه وآله والذي ذكره الله تعالى:أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، ليس صدفة، بل هو خطة، وقد يكون اليتم لشخصيته صلى الله عليه وآله ضرورة، أو كمالاً إضافياً؟
معنى يتم النبي صلى الله عليه وآله
قال ابن الأثير في النهاية (5/292): (اليتم في الناس: فقد الصبي أباه قبل البلوغ، وفى الدواب: فقد الأم. والأنثى يتيمة وجمعها: أيتام، ويتامى. وإذا بلغ زال عنهما إسم اليتم حقيقة، وقد يطلق عليهما مجازاً بعد البلوغ، كما كانوا يسمون النبي وهو كبير: يتيم أبي طالب، لأنه رباه بعد موت أبيه.
ومنه الحديث: تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها. أراد باليتيمة البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها، فلزمها إسم اليتم فدعيت به وهي بالغة مجازاً. وقيل: المرأة لا يزول عنها إسم اليتم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت ذهب عنها. ومنه حديث الشعبي أن امرأة جاءت إليه صلى الله عليه وآله فقالت: إني امرأة يتيمة، فضحك أصحابه، فقال: النساء كلهن يتامى، أي ضعاف).
وفي عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر(نهج البلاغة:3/101): (وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم).
فمعنى قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى: أن الله أنعم عليك فهيأ لك جدك عبد المطلب وعمك أباطالب رضي الله عنهما فكفلاك في نشأتك. وكنت متحيراً فيما يجب عليك عمله، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ، فأنعم عليك، وعلمك
< صفحة > 16 < / صفحة >
دعوة الناس إلى دينه.
وَوَجَدَكَ عَائِلاً: عليك نفقة بيتك ومن تريد مساعدتهم، فأغناك بأن هيأ لك خديجة فوهبتك ثروتها، كما وهبت سارة ثروتها لإبراهيم عليه السلام ».
ومذهبنا أن نبوته كانت من صغره ورسالته في الأربعين، قال أميرالمؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:2/157): (ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره).
ومعنى وَوَجَدَكَ ضَالاً:وجدك متحيراً فيما يجب أن تفعله لهداية الناس، فهداك الى رسالته وعلمك كيف تدعو الناس، لا أنه كان متحيراً في ربه عز وجل.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله يتيماً من صغره، لأن والده توفي وعمره شهران، وتوفيت أمه وعمره ست سنين، فكفله جده عبد المطلب رضي الله عنه الى أن توفي وعمر النبي صلى الله عليه وآله ثمان سنين، فكفله عمه أبوطالب رضي الله عنه، وكان يقال له: يتيم أبي طالب. وقد أضاف يتمه صلى الله عليه وآله الى شخصيته الفريدة طاقة من الحنان والرحمة، فكانت نوراً على نور.
لئلا يكون لأحد عليه طاعة
روى الصدوق في الفقيه(3/494) والعلل (1/131): (أن الإمام الصادق عليه السلام سئل: لمَ أيتم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وآله ؟ قال: لئلا يكون لأحد عليه طاعة).
ومع أن كفالة جده عبد المطلب وعمه أبي طالب رضي الله عنهما، فضل عظيم عليه، إلا أنهما يختلفان عن الأب لو كان فإن طاعته ستكون واجبة وكأن من عليه طاعة واجبة لأحد غير الله تعالى لا يصح أن يبعث رسولاً؟! لكنه منطق غير قوي، ويوجب الشك في صحة الحديث.
لامعنى للصدفة في كل الكون
لايصح القول إن النبي صلى الله عليه وآله صار يتيماً بالصدفة بدون قصد من الله تعالى، فاعتقادنا أن الله عز وجل هو الخالق المدبر المهيمن على كل ما في الكون، فيُتْمُ النبي صلى الله عليه وآله أمر مقصود لله تعالى بتخطيط حكيم وهدف صحيح، ولا يوجد شيئ في الكون خارج عن سيطرته عز وجل، ليكون الحدث صدفة!
< صفحة > 17 < / صفحة >
نعم تستعمل الصدفة مجازاً لكل حدث غير متوقع، فيكون ما هو صدفة عندك عملاً مقصوداً عند غيرك. والكل مقصود بالنتيجة عند الله تعالى.
تأثير اليتم على الشخصية
لليتم تأثير إيجابي على الشخصية المستقيمة، وبهذا نفسر ظاهرة اليتم في العديد من الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، فهو يجعل شخصياتهم أرق، ومشاعرهم أرهف، وحنانهم على الناس والضعفاء أكثر.
ومما قيل: ما رأينا يتيماً متوسطاً، فهو إما شرير، أو على درجة عالية من النبل. وسبب ذلك أن اليتم حرمان من الأب، فإما أن يكون تأثيره إيجابياً ويوجب انكسار القلب والشفافية، أوسلبياً فيوجب الحقد على المجتمع!
ومما يدل على أن تأثير اليتم على النبي صلى الله عليه وآله تأثير إيجابي على شخصيته، أن الله تعالى قال له : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى.وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ.
يعني أنك عشت انكسار القلب من اليتم، فلا تظلم يتيماً، وعرفت ألم مسَّ الحاجة، فلا تردَّ فقيراً.
- *
< صفحة > 18 < / صفحة >
الفصل الثالث : أنا ابن عبد المطلب!
الفصل الثالث
أنا ابن عبد المطلب!
لما انهزم المسلمون في حنين وأطبقت هوازن بجيشها المؤلف من عشرين ألفاً على النبي صلى الله عليه وآله لتقتله، وصاح رئيسهم كعب بن مالك: أروني محمداً فأروه إياه فأغار عليه، واعترضه أيمن فقتله ثم رأى علياً عليه السلام يقصده فهرب. وثبت النبي صلى الله عليه وآله في وجههم وقاتل وهو يرتجز:
أنــــا النبي لا كــــذب *أنا ابن عبد المطلب
(الأرشاد:1/143 والبخاري:3/233)
فافتخر بنبوته وبأنه ابن عبد المطلب، فما هي صفات عبد المطلب التي تستحق أن يفتخر النبي صلى الله عليه وآله بها؟ وتأثير إرثه في شخصية صلى الله عليه وآله وسيرته؟
الجواب: أنه افتخربأنه صادق في نبوته صلى الله عليه وآله وأن الله تعالى سينصره كما وعده.
وافتخر بجده عبد المطلب وارث إبراهيم عليهم السلام وأنه أخذ من جده صفات كثيرة، وقد اشتهر منها أن عبد المطلب وبنيه لايفرون في الحرب أبداً!
فقد فر كل الناس في حروب النبي صلى الله عليه وآله ، وما فر النبي صلى الله عليه وآله وبني عبد المطلب في حرب أبداً، وبهم قامت معارك الإسلام فكانوا أبطال بدر، وفي أحد وخيبر فرَّ الجميع وثبتوا، وفي حنين: انهزموا بأجمعهم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا عشرة أنفس، تسعة من بني عبد المطلب وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن، وثبت تسعة النفر الهاشميون ».( الإرشاد :1/140).
أما العباس وأولاده فكانوا يفرون، لكن العباس ابن أمة كما سيأتي.
< صفحة > 19 < / صفحة >
حسدت قريش عبد المطلب وعملت للحط منه
قال اليعقوبي (1/248): ( ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني عبد مناف، فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين.
فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه، فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبد الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسموا اللعقة).
وقال اليعقوبي(2/17): ( حضر رسول الله صلى الله عليه وآله حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً، ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت).
وفي مسند أحمد: (1/190): شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم).
وكان هذا الحلف جواباً على حلف لعقة الدم الذي دعا إليه بنو عبد الدار، حيث ذبحوا بقرة، وجعلوا تحالفهم بأن يلعق ممثل القبيلة لعقةً من دمها!
قال ابن هشام (1/85): (فكان بنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، مع بني عبد مناف. وكان بنو مخزوم، وبنو سهم بن عمرو، وبنو جمح بن عمرو، وبنو عدي بن كعب، مع بني عبد الدار).
بنو عبد المطلب لا يفرون في الحرب إلا العباس!
في الخصال/452، عن الإمام الباقر عليه السلام عن جابر قال: « سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن ولد عبد المطلب فقال: عشرة، والعباس »!.
وروى في الكافي(8/259) تفسير الإمام الصادق عليه السلام لقول النبي صلى الله عليه وآله : (عشرة والعباس) فقال: (توفي مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أباعبد الله عليه السلام وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك السنة، فجلس لهم فقال داود بن علي: الولاء لنا.وقال أبوعبد الله عليه السلام :بل الولاء لي. فقال داود بن علي: إن أباك قاتل معاوية. فقال: إن كان أبي قاتل
< صفحة > 20 < / صفحة >
معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته. وقال: والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة، فقال له داود بن علي: كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق، فقال: أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق! قال فقال هشام: إذا كان غداً جلست لكم، فلما أن كان من الغد خرج أبوعبد الله عليه السلام ومعه كتاب في كرباسة وجلس لهم هشام، فوضع أبوعبد الله عليه السلام الكتاب بين يديه، فلما أن قرأه قال: أعدوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية، فرمى بالكتاب إليهما فقال: تعرفان هذه الخطوط؟ قالا: نعم، هذا خط العاص بن أمية، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش. وهذا خط حرب بن أمية.
فقال هشام: يا أباعبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم؟ فقال: نعم، قال: فقد قضيت بالولاء لك، قال: فخرج وهو يقول:
إن عادت العقرب عدنا لها *وكانت النعل لها حاضرة
قال فقلت: ما هذا الكتاب جعلت فداك؟ قال: فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبد الله، فأخذها عبد المطلب فأولدها فلاناً، فقال له الزبير: هذه الجارية ورثناها من أمنا وابنك هذا عبد لنا، فتحمل عليه ببطون قريش، قال فقال: قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس، ولايضرب معنا بسهم. فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه فهو هذا الكتاب).
أقول: معنى ذلك أن العباس وأولاده مضافاً الى أنهم من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، فهم عبيد لأبناء عبد المطلب: الزبير، وأبي طالب وعبد الله الذين كانت أم العباس أمةً لأمهم (دلائل النبوة/99) وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها، فولدها تبعاً لها ملك لهم، لأنهم أحلوا أمه ولم يبيعوها.
ونلاحظ أن المؤرخين(تاريخ دمشق:26/276)قالوا إن أم العباس نتيلة بنت جناب من بني النمر بن قاسط. وزعموا أن ابنها ضاع فنذرت أن تكسوا الكعبة حريراً. لكن هذه القصة لأم ضرار بن عبد المطلب، وليست لأم العباس!
وقد رواها ابن حبيب في المنمق/36، والبلاذري في أنساب الأشراف: 1/90، قالا: (كان ضرار بن عبد المطلب من فتيان قريش، جمالاً، وعقلاً، وهيبة، وسخاء، وإن أمه نتيلة أضلته فكاد عقلها يذهب جزعاً عليه، وكانت كثيرة المال، فجعلت تنشد في المواسم وتقول:
< صفحة > 21 < / صفحة >
أضللت أبيض كالخصاف للفتية الغرِّ بني مناف
ثم لعمري منتهى الأضياف سنَّ لفهر سُنَّةَ الإيلاف
في القرِّ حين القر والأصياف
فجعلت لمن جاء به هنيدة، ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها..).
فأخذوا قصة أم ضرار بن عبد المطلب، ونسبوها الى أم العباس!
فالعباس ملحق إلحاقاً ببني عبد المطلب العشرة لأنه ابن أمة مملوكة لأعمامه! وبسبب أنه من الطلقاء، اختلف عن بني عبد المطلب فكان هو وأبناؤه يفرون في الحرب! وقد فروا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وفروا بعده في حياة علي عليه السلام لما جعلهم ولاة اليمن ومكة، وقادة في جيشه!
أما بقية أبناء عبد المطلب فلا يفرون في الحرب، وبهذا وأمثاله افتخر النبي صلى الله عليه وآله .
- *
< صفحة > 22 < / صفحة >
الفصل الرابع : أنا ابن الذبيحين
الفصل الرابع
أنا ابن الذبيحين
قدس العرب الكعبة ونبي الله إبراهيم عليه السلام وأخذوا من حنيفيته، لكنهم بعد ذلك اعتنقوا الوثنية وعبادة الأصنام وأشهرها: هبل، واللات، والعزى، ومناة، وقدسوا هذه الأصنام حتى أن ملك المناذرة ذبح أسيره ابن ملك الغساسنة قرباناً لصنم العُزَّى!
في ذلك المحيط نذر عبد المطلب عليه السلام إذا رزقه الله عشرة أولاد أن يذبح أحدهم قرباناً لله تعالى. وعندما تم له عشرة أولاد ألهمه الله أن يقترع بينهم فخرجت القرعة على عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله ، فعزم أن يذبحه فأمره الله تعالى أن يفديه بقربان من الإبل، فاقترع فجاءت القرعة على مئة من الإبل.
فكانت قصته كجده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله يقول: أنا ابن الذبيحين، يقصد إسماعيل وعبد الله.
وفي الخصال/55، والعيون (2/189) عن علي بن فضال قال: « سألت أباالحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين؟ قال: يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وعبد الله بن عبد المطلب. أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح، يأكل في سواد، ويشرب في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد، ويبول ويبعر في سواد، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً، وما خرج من رحم أنثى، وإنما قال الله جل وعز له كن فكان، ليفدي به إسماعيل، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة. فهذا أحد الذبيحين.
< صفحة > 23 < / صفحة >
وأما الآخر، فإن عبد المطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة، ودعا الله عز وجل أن يرزقه عشرة بنين، ونذر لله عز وجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته، فلما بلغوا عشرة قال: قد وفى الله لي فلأفينَّ لله عز وجل، فأدخل وُلده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان أحب ولده إليه، ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبد الله، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله، فأخذه وحبسه وعزم على ذبحه، فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك، واجتمع نساء عبد المطلب يبكين ويصحن، فقالت له ابنته عاتكة: يا أبتاه أعذر فيما بينك وبين الله عز وجل في قتل ابنك. قال: فكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة؟ قالت: أعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم فاضرب بالقداح على ابنك وعلى الإبل، وأعط ربك حتى يرضى.
فبعث عبد المطلب إلى إبله فأحضرها وعزل منها عشراً، وضرب السهام فخرج سهم عبد الله، فما زال يزيد عشراً عشراً حتى بلغت مائة فضرب فخرج السهم على الإبل، فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة، فقال عبد المطلب: لا، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات، فضرب ثلاثاً كل ذلك يخرج السهم على الإبل، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير وأبوطالب وإخوانه من تحت رجليه، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض، وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه ويمسحون عنه التراب. وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل بالحزورة، ولا يمنع أحد منها وكانت مائة.
وكانت لعبد المطلب خمس سنن أجراها الله عز وجل في الإسلام: حرم نساء الآباء على الأبناء، وسن الدية في القتل مائة من الإبل، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط، ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس، وسمى زمزم لما حفرها سقاية الحاج ».
وأضاف الصدوق قدس سره : « ولولا أن عبد المطلب كان حُجَّةً وأن عزمه على ذبح ابنه عبد الله شبيهٌ بعزم إبراهيم عليه السلام على ذبح ابنه إسماعيل، لمَا افتخر النبي صلى الله عليه وآله بالإنتساب إليهما لأجل أنهما الذبيحان، في قوله صلى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين. والعلة التي من أجلها رفع الله عز وجل الذبح عن إسماعيل عليه السلام هي العلة التي من أجلها رفع الذبح عن عبد الله، وهي كون النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام في صلبهما. فببركة النبي والأئمة عليهم السلام رفع الله الذبح عنهما فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم».
وفي الخصال/312، من وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليهم السلام قال: « يا علي إن عبد المطلب سنَّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل: وَلا تَنْكِحُوا
< صفحة > 24 < / صفحة >
مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ. الآية. ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ..الآية.
وسن في القتل مائة من الإبل، فأجرى الله عز وجل ذلك في الإسلام.
ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط، فأجرى الله ذلك في الإسلام.
يا علي إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذبح على النصب، ويقول: أنا على دين أبي إبراهيم ».
وفي الفقيه(4/368) من وصية النبي صلى الله عليه وآله المطولة لعلي عليه السلام :« يا علي أنا ابن الذبيحين. يا علي أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام ».
وتدل الرواية التالية ( الفقيه:3 /89) عن الإمام الباقر عليه السلام على أن القرعة مشروعة في الأديان، وأن الله تعالى نهى عبد المطلب عن ذبح ولده وأمره بالقرعة، وقد يكون ذلك بعد كلام عاتكة. قال عليه السلام : « أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله عز وجل: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. والسهام ستة، ثم استهموا في يونس عليه السلام لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال: فمضى يونس إلى صدر السفينة فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه.
ثم كان عند عبد المطلب تسعة بنين فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه، فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله صلى الله عليه وآله في صلبه، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله فخرجت السهام على عبد الله، فزاد عشراً فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشراً، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبد المطلب: ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي، فنحرها ». ومعناه أن الله تعالى نهاه عن ذبحه وأمره أن يفديه بما استقرت عليه القرعة. ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله ضحى في حجة الوداع بمئة ناقة، وهي عدد فداء جده لأبيه صلى الله عليه وآله ، وأشرك فيها علياً عليه السلام لشراكته في
< صفحة > 25 < / صفحة >
وراثة عبد المطلب.
وقد صحح علماء السنة حديث: أنا ابن الذبيحين، فقد رواه الحاكم(2/554) وصححه الذهبي، والسرخسي( 8 /141) وبدائع الصنائع (5/85) وتخريج الأحاديث: (3 / 177) وفيض القدير(3 /762) وكشف الخفاء(1/199).
وفي أمالي الطوسي/457: « والصحيح أنه (الذبيح) إسماعيل لمكان الخبر، ولإجماع علماء أهل البيت عليهم السلام على أنه إسماعيل ».
وفي أضواء على المسيحية للدكتور شلبي/66: « يقول برنابا: فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: خذ ابنك البكر واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة. والبكر هو إسماعيل، وقد ولد إسحاق عليهما السلام بعده بسبع سنين ».
واستدل علماؤنا على أن الذبيح إسماعيل بقوله تعالى في سورة الصافات: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للَّجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَالْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
فقد نصت على أن البشارة بإسحاق كانت بعد البشارة بإسماعيل عليهما السلام .
وجاء في التوراة أن الذبيح ابنه البكر، وهو إسماعيل وليس إسحاق عليهم السلام .
معنى افتخار النبي صلى الله عليه وآله بأنه ابن الذبيحين
وهو يدل على صحة منام إبراهيم ونذر عبد المطلب عليهما السلام . كما يدل على المقام العظيم للذبيحين، وأن الله تعالى فداهما بكبش أنزله لإبراهيم عليه السلام ، وبالقرعة التي رست ثلاث مرات على الإبل لعبد المطلب عليه السلام .كما يدل على العلاقة الوثيقة للنبي صلى الله عليه وآله بجديه عبد المطلب وإبراهيم عليهما السلام وأنه امتداد لهما في النسب والرسالة، وأن وجوده الشريف كما نصت رواياتنا مازال يتنقل من الأصلاب الطاهرة الى الأرحام المطهرة حتى ولد من أبويه.
- *
< صفحة > 26 < / صفحة >
الفصل الخامس : أنا أفصح من نطق بالضاد! العربية ليست بأب ولا أم
الفصل الخامس
أنا أفصح من نطق بالضاد!
العربية ليست بأب ولا أم
نقل النبي صلى الله عليه وآله مفهوم العروبة من النسب إلى اللغة، قال الإمام الباقر عليه السلام : «صعد رسول الله صلى الله عليه وآله المنبر يوم فتح مكة فقال: أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من آدم وآدم من طين، ألا إن خير عباد الله عبد اتقاه، إن العربية ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه ».( الكافي: 8 / 246).
وفي كفاية الطالب للسيوطي(2/145): (يا أيها الناس إن الرب رب واحد، وإن الأب أب واحد، وإن الدين دين واحد، وإن العربية ليست لكم بأب ولا أم، وإنما هي لسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي).
أقول:المشهور أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد.لكن قال العلماء لا أصل له بهذا اللفظ!(كشف الخفاء:1/ 200)! وفي فيض القدير (3/50): ( أنا ابن عبد المطلب أنا أعرب العرب ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن)!
وقد صححه من علمائنا الشهيد الثاني بلفظ: أنا أفصح العرب، بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة. وكانت هذه القبائل أفصح العرب، فافتخر صلى الله عليه وآله بالرضاع والنشأة فيها كما افتخر بالنسب. (شرح اللمعة: 5 / 165، والمسالك: 1 / 376، والمجموع: 18 / 227).
فرضاع النبي صلى الله عليه وآله الأول من أمه آمنة بنت وهب الزهرية عليها السلام هو المؤثر في شخصيته. ورضاعه الثاني من حليمة مكمل له! وقوله صلى الله عليه وآله :ارتضعت في بني زهرة، معناه أنه رضع سنتين
< صفحة > 27 < / صفحة >
أو نحوهما، ثم أكمل رضاعه في بني سعد.
وقد كثرت أكاذيبهم وتناقضت روايتهم في كيفية أخذ حليمة له!
ومن مقولاتهم الكاذبة أن ثويبة مولاة أبي لهب أو امرأته أرضعته صلى الله عليه وآله ! (البخاري: 6 / 125) يريدون بذلك تخفيف العذاب عن صاحبهم أبي لهب لأنه حليفهم في عداوة النبي صلى الله عليه وآله !
كما كذبوا في قولهم إن النبي صلى الله عليه وآله كان يتيماً لامال له فزهدت فيه المرضعات، مع أنه حفيد عبد المطلب زعيم العرب على الإطلاق!
كما كذبوا في قولهم إن الله أرسل ملكين فشقا صدره صلى الله عليه وآله وغسلا قلبه من الرجس، وكأنه كان فيه رجس! وقد صححه الذهبي في تاريخه (1/49) وقال: إن جبريل شرح صدره مرتين، في صغره ووقت الإسراء به ».
والأمر المؤكد أن عبد المطلب رضي الله عنه سلمه إلى الحارث السعدي زوج حليمة، فأخذه إلى منازلهم في بادية الطائف.
قال ابن شاذان في الفضائل/28، في حديث رضاعه صلى الله عليه وآله : (ثم إن عبد المطلب دفعه إليها وأخذ أربعة آلاف درهم وقال لها: تعاليْ يا حليمة نمضي إلى بيت الله الحرام حتى أسلمه إليك فيه، فحمله على ساعده ودخل وطاف بالنبي سبعاً وهو على ساعده ملفوف بخرق السندس، ثم إنه دفعه إليها ومعه أربعة آلاف درهم بيض، وأربعون ثوباً من خواص كسوته، ووهب لها أربع جوار رومية، وحلل سندس. ثم إن عبد الله بن الحارث أتى بالناقة فركبتها حليمة وأخذت رسول الله صلى الله عليه وآله وشيعه عبد المطلب إلى خارج مكة).
3 - مناقب ابن شهرآشوب(1/32):(قالت حليمة: فعرفنا البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتى أثرينا وكثرت مواشينا وأموالنا. ولم يحدث في ثيابه ولم تبدر عورته، ولم يحتج في اليوم إلا مرة، وكان مسروراً مختوناً).
وفي الدر النظيم/59: (روي عن حليمة السعدية أنها قالت: كانت في بني سعد شجرة يابسة ما حملت قط، فنزلنا يوماً عندها ورسول الله صلى الله عليه وآله في حجري، فما قمت حتى اخضرت وأثمرت بركة منه. وما أعلم أني جلست موضعاً قط إلا كان له أثر إما نبات وإما خصب. ولقد دخلت على امرأة من بني سعد يقال لها أم مسكين وكانت سيئة الحال فحملته فأدخلته منزلها فإذا هي
< صفحة > 28 < / صفحة >
قد خصبت وحسنت حالها، فكانت تجئ في كل يوم فتقبل رأسه).
أقول: توفيت حليمة رحمها الله قبل هجرته صلى الله عليه وآله فبكى لها، كما وقعت ابنتها الشيماء في الأسر في حرب حنين وكانت تحضنه صلى الله عليه وآله ، فأطلق الأسرى كرامة لها.
علاقة الفصاحة بقريش وبني زهرة وبني سعد؟
أنا أفصح من نطق بالضاد: معناها أن الفصاحة قيمة إنسانية يتفاخر بها.وأن منبت الفصاحة وراثي من الأسرة، واكتسابي من التعلم في الصغر.
ومعناها: دعوا الناس يتعلمون الفصاحة، ويتفاخروا بها، لأنها ترفع مستوى الثقافة والمدنية في المجتمع، وتسهم في ترقية اللغة.
ومن المعروف أن قريشاً كانت أفصح العرب لأن القبائل المختلفة تلتقي في مكة في موسمي الحج والعمرة فتتفاعل لغاتها، وتعتدل ألفاظها وجُملها.
وبنو زهرة من ذروة قريش وقبائلها الفصيحة، وبنو سعد قرب الطائف اشتهروا بفصاحتهم من بين قبائل البادية.
فالنبي صلى الله عليه وآله من بني هاشم وارتضع في بني زهرة ونشأ في بني سعد، فمن حقه أن يكون أفصح العرب، مضافاً الى أن الله تعالى أدبه وعلمه.
وأخيراً، كلما اهتم المسلم بالفصاحة، كلما صار أقرب الى فهم كتاب ربه.
وسيأتي فصل في بلاغة النبي صلى الله عليه وآله ، وهو يعني فصاحته أيضاً.
- *
< صفحة > 29 < / صفحة >
الفصل السادس : كثرة مكذوباتهم في رضاع النبي صلى الله عليه وآله !
الفصل السادس
كثرة مكذوباتهم في رضاع النبي صلى الله عليه وآله !
الرواية الرسمية لرضاع النبي صلى الله عليه وآله
قالت روايتهم الرسمية عن رضاع النبي صلى الله عليه وآله : إن والدته لم يكن عندها حليب، فأرضعته ثويبة أمة سوداء لأبي لهب، وجاءت حليمة السعدية مع تسع نساء من بني سعد من منازلهن قرب الطائف، ليأخذن أولاد شخصيات قريش ويرضعنهم فيكرمهن آباؤهم، وعرفوا أن أهل النبي صلى الله عليه وآله يبحثون له عن مرضعة لكنهن زهدن فيه لأنه يتيم ليس له أب ليكرم مرضعته، فأخذت المرضعات أطفالاًوبقيت حليمة ولم تجد غيره فأخذته غير راغبة فيه! ولم يذكروا إسم واحدة من المرضعات التسع، ولا إسم طفل قرشي أخذنه!
وقالت روايتهم: لقد وجدوا عدداً من المكيات لكن الطفل محمداً صلى الله عليه وآله لم يقبل ثدي أي واحدة منهن، حتى جاءت حليمة فقبل ثديها!
ثم قالوا إنهم وجدوا عدة نساء، قبل الطفل ثديهن!
وروت الرواية الرسمية مجموعة كرامات للنبي الرضيع صلى الله عليه وآله ظهرت في نفسه ومحيطه، وظهرت على حليمة السعدية وقومها، وأكثرها صحيح، ومنها سقيم مثل عملية شق صدره وغسل قلبه بماء الثلج.
وفي مقابل الرواية الرسمية رووا ما يوافقنا ويكذب روايتهم ويثبت أنه رضع من أمه عليها السلام ، لكنهم أعرضوا عنها وتمسكوا برواية الحكومة ونشروها!
< صفحة > 30 < / صفحة >
استرضعت في بني زهرة ونشأت في بني سعد
قلنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام :الصحيح أن أمه عليها السلام أرضعته مدة قد تزيد على السنة، ثم أعطاه جده لزوج حليمة لينشأ في باديتهم قرب الطائف فقد صحح الشهيد الثاني قدس سره وغيره افتخار النبي صلى الله عليه وآله برضاعه الأول من أمه ثم بنشأته في بني سعد. قال في شرح اللمعة (5/165) والمسالك(1/376): «قال النبي صلى الله عليه وآله : أنا أفصح العرب، بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة. وكانت هذه القبائل أفصح العرب، فافتخر صلى الله عليه وآله بالرضاع كما افتخر بالنسب).
فرضاعه الأول من أمه آمنة بنت وهب الزهرية عليها السلام هو المؤثر في شخصيته، ورضاعه الثاني من حليمة رحمها الله مكمل له! وقوله صلى الله عليه وآله : ارتضعت من بني زهرة، لا يتحقق إلا بأن يكون رضع من حليب سنة أو أكثر.
وكما لاحظت فقد نسب الشهيد الثاني قدس سره الحديث الى النبي صلى الله عليه وآله بنحو الجزم أي حكم بأن النبي صلى الله عليه وآله قاله.
ويؤيده أن مخالفينا رووا مثله لكنهم أعرضوا عنه وأخذوا بالرواية الرسمية!
قال النووي في المجموع(18/227): (لأن الولد قد يأخذ الشبه بالرضاع في الأخلاق، ويميل طبعه إلى من ارتضع بلبنه، ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أنا أفصح العرب ولا فخر، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد وارتضعت في بنى زهرة).
وقال ابن حجر في التلخيص الحبير ( 4/13): (روي عن النبي صلى الله عليه وآله : أنا سيد ولد آدم، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد، واسترضعت في بني زهرة).
وقال الشيرازي المتوفى: 476هـ في المهذب في فقة الإمام الشافعي(3/145): (روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أنا أفصح العرب ولا فخر، بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت في بني زهرة).
فتصحيح أحد كبار فقهائنا لحديث رضاعه من أمه، ورواية ثلاثة وأكثر من علمائهم لهذا الحديث، كافٍ لتقديمه على حديث استرضعت في بني سعد، والصحيح أن أصله: نشأت في بني سعد، فيكون رضاعه من حليمة مكملاً وبعد رضاعه من أمه عليها السلام .
< صفحة > 31 < / صفحة >
من الإشكالات القاصمة على الرواية الرسمية
- أن علماء الجرح والتعديل ردوا الحديث المشهور: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد. ورواية بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد. (الفايق:1/9 و126) وقالوا لا أصل له! (كشف الخفاء:1/200)!
ومع ذلك صححه رواة السلطة! فهل رأيت حديثاً صحيحاً لا أصل له! - اضطربت الرواية الرسمية في حال آمنة أم النبي صلى الله عليه وآله فقالوا مرة إنها كانت قليلة اللبن، وأشاروا الى أن النبي صلى الله عليه وآله أبى أن يلتقم ثديها.
وفي المقابل صح قوله صلى الله عليه وآله : ارتضعت في بني زهرة، أي من أمه عليها السلام ، فدل على أن لقريش ورواتها غرضاً أن يثبتوا كفر أمه وأنه امتنع عن الرضاع منها! - غيبوا دور عبد المطلب في إعطاء النبي صلى الله عليه وآله لحليمة وزوجها وثقته بهما، وقد كان حريصاً على النبي صلى الله عليه وآله من ولادته حتى مع وجود أبويه.
وأفلتت منهم رواية تقول إن حليمة جاءت الى جده عبد المطلب عليه السلام ، فأعجبه إسمها واسم عشيرتها، وأعطاها إياه. - من مكذوباتهم المفضوحة أن حليمة زهدت بالطفل لأنه يتيم. مع أن أباه كان موجوداً بعد ولادته بشهرين، وفي رواية الى سنتين من عمره الشريف. ولو سلمنا أنه كان متوفى فالرضيع ابن عبد المطلب سيد قريش وسيد العرب وكل امرأة تتمنى أن تكون له مرضعة، لمكانة عبد المطلب وغناه وكرمه!
والأمر المؤكد أن عبد المطلب عليه السلام سلمه إلى الحارث السعدي زوج حليمة، فأخذه إلى منازلهم في بادية الطائف، وربما أرضعته حليمة مدة من الزمن، وكانت تأتي به إلى جده فيكرمهم. - ومن مكذوباتهم أن ثويبة مولاة أبي لهب أرضعته! ويظهرأن غرضهم تخفيف العذاب عن أبي لهب (البخاري: 6/125) لأنه حليف أعداء النبي صلى الله عليه وآله الذين حكموا دولته بعده!
ففي سنن البيهقي(7/162): (قال عروة: ثويبة مولاة لأبي لهب كان أبولهب أعتقها فأرضعت النبي فلما مات أبولهب أريه بعض أهله في النوم بشر خيبة فقال له: ما ذا لقيت؟ فقال
< صفحة > 32 < / صفحة >
أبولهب: لم ألق بعدكم رخاء غير أني سقيت في هذه مني بعتاقتي ثويبة. وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع! رواه البخاري في الصحيح. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن الزهري).
وقال النووي في المجموع(18/228): (ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله رضع من ثويبة مولاة أبي لهب، أرضعته أياماً وأرضعت معه أباسلمة عبد الله بن عبد الأشد المخزومي بلبن ابنها مسروح، وأرضعت معهما حمزة بن عبد المطلب).
وفي إعانة الطالبين (3/414): (وقد جوزي أبولهب بتخفيف العذاب عنه يوم الإثنين بسبب إعتاقه ثويبة لما بشرته بولادته صلى الله عليه وآله وأنه يخرج له من بين إصبعيه ماء يشربه كما أخبر بذلك العباس في منام رأى فيه أبالهب! ورحم الله القائل، وهو حافظ الشام محمد بن ناصر، حيث قال:
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه *وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائماً *يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره* بأحمد مسروراً ومات موحدا!(
أقول: لواستطاعوا لجعلوا أبالهب في الجنة وأوَّلوا سورة تبت يدا أبي لهب، أو حذفوها من القرآن، لأن أبالهب حليفهم! ولجعلوا أم جميل العوراء زوجة أبي لهب وحمالة الحطب من الحور العين، لأنها أخت أبي سفيان!
أما أبوطالب عليه السلام فلايشفع له تربيته للنبي صلى الله عليه وآله وحمايته له وتعريضه نفسه وأولاده وعشيرته لتهديد قريش وسيوفهم! فهذا هو الدين القرشي مقابل دين النبي صلى الله عليه وآله وقرآنه وأسرته!
وقد جعلوا مكافأة أبي طالب سخرية نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وآله فزعموا أن العباس قال له: «ما أغنيت عن عمك! فوالله كان يحوطك ويغضب لك! قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»!
وقد رواه بخاري(4/247) وكرره في مواضع، وفسرضحضاح النار(7/203) بأنه: يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه! وقالوا: إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار، فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم، وأفاع كأنهن البخاتي فضربنهم »! ( الدر المنثور:4/127).
< صفحة > 33 < / صفحة >
لقد عجزوا عن قتل النبي صلى الله عليه وآله ! وعجزوا عن إجلاء بني هاشم من مكة، أو تسكيت النبي صلى الله عليه وآله ودفن دعوته! فانتقموا منه بأخذ سلطانه وعزل عترته!
وانتقموا من أبي طالب فجعلوه كافراً في قعر جهنم، فهذا يثلج قلب قريش! وزعموا أن النبي صلى الله عليه وآله شفع له شفاعة عكسية! مع أن المسلم يشفع للكافر الذي سقاه شربة ماء فيدخله الجنة وقد استحق النار! (ابن ماجة:2/496).
راجع:ألف سؤال وإشكال على المخالفين لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام (1/174).
- *
< صفحة > 34 < / صفحة >
الفصل السابع : لماذا لم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله قريشاً في مكة؟
الفصل السابع
لماذا لم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله قريشاً في مكة؟
عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله كان بنو هاشم أربعين مقاتلاًشجاعاً، تهابهم قريش، وكانت قريش قبائل غير متفقة الرأي، وعدد شجعانها لايصل الى مئة.
وكان باستطاعة أبي طالب عليه السلام أن يغلبهم في أول معركة ويخضعهم، ويقيم دولة النبي صلى الله عليه وآله في مكة، فلماذا لم يرض النبي صلى الله عليه وآله بذلك، وصبر حتى تحالف مع الأنصار، وخاض معهم حروباً عديدة، ومنها حروب صعبة؟!
إنه السبب الإلهي والخطة الربانية؟
مما يدل على أن الغلبة كانت لبني هاشم
روت السيرة مواقف لأبي طالب في حماية النبي صلى الله عليه وآله تحدى فيها قريشاً وأذلها!
منها: ما رواه الكافي(1/449) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: « بينا النبي صلى الله عليه وآله في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد، فألقى المشركون عليه سلى ناقة فملؤوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء الله، فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عم كيف ترى حسبي فيكم؟ فقال له: وماذا يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر،فدعا أبوطالب حمزة وأخذ السيف وقال لحمزة: خذ السلى! (الكرش) ثم توجه إلى القوم والنبي معه، فأتى قريشاً وهم حول الكعبة، فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه، ثم قال لحمزة: أمِرَّ السَّلى على سِبالهم (شواربهم) ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم! ثم التفت أبوطالب إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا ابن أخي هذا حَسَبُك فينا »!
وروت المصادر هذه القصة بصيغ مشابهة كالسيد فخار بن معد في كتابه الحجة على الذاهب الى
< صفحة > 35 < / صفحة >
كفر أبي طالب/346، عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: « مر رسول الله صلى الله عليه وآله بنفر من قريش وقد نحروا جزوراً وكانوا يسمونها الظهيرة ويذبحونها على النصب فلم يسلم عليهم، فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا: يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا! فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه؟ فقال عبد الله بن الزبعرى السهمي: أنا أفعل، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره، فانصرف النبي صلى الله عليه وآله حتى أتى عمه أباطالب فقال: يا عم من أنا؟ فقال: ولمَ يا بن أخ؟ فقص عليه القصة، فقال: وأين تركتهم؟فقال: بالأبطح فنادى في قومه: يا آل عبد المطلب، يا آل هاشم، يا آل عبد مناف، فأقبلوا إليه من كل مكان مُلَبِّين قال: كم أنتم؟ قالوا: نحن أربعون. قال: خذوا سلاحكم فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر، فلما رأوه أرادوا أن يتفرقوا فقال لهم:ورب هذه البنية لايقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف! ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات حتى قطعها ثلاثة أفهار (أحجار) ثم قال:يا محمد سألتني من أنت؟ ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي صلى الله عليه وآله :
أنت النبي محمدُ * قَرْمٌ أغَرُّ مسود
لمســـــــــــــوَّدين أكارمٍ * طابوا وطاب المولد
نعم الأرومة أصلها * عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة في الجفان * وعيش مكة أنكد
فجرت بذلك سنة * فيها الخبيزة تثرد
ولنا السقاية للحجيج * بها يماث العنجد
والمأزمان وما حوت * عرفاتها والمســــــــجد
أنى تضام ولم أمت * وأنا الشجاع العربد
وبطاح مكة لا يرى * فيها نجيع أسود
وبنو أبيك كأنهم * أسد العرين توقد
ولقد عهدتك صادقاً * في القول لا تتزيد
ما زلت تنطق بالصواب * وأنت طفل أمرد
ثم قال: يا محمد أيهم الفاعل بك؟ فأشار النبي صلى الله عليه وآله إلى عبد الله بن الزبعرى السهمي الشاعر،
< صفحة > 36 < / صفحة >
فدعاه أبوطالب فوجأ أنفه حتى أدماها، ثم أمر بالفرث والدم فأُمِرَّ على رؤس الملأ كلهم! ثم قال: يا ابن أخي أرضيت؟ ثم قال: سألتني من أنت؟ أنت محمد بن عبد الله، ثم نسبه إلى آدم، ثم قال: أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً.
يا معشر قريش من شاء منكم يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني »!
وفي رواية (الكافي:1 /449) عن الإمام الصادق عليه السلام : «ثم قال لحمزة: أمِرَّ السَّلى على سِبالهم (شواربهم) ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم! ثم التفت أبوطالب إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا »!
ورواه في شرح النهج(14/77) وثمرات الأوراق بهامش المستطرف (2/3).
والربيكة: طعام من تمر وأقط وسمن. والعنجد: الزبيب).
ولأبي طالب موقف آخر يشبه هذا الموقف لما افتقد النبي صلى الله عليه وآله ليلة أسري به، وخاف أن تكون قريش قتلته، فقرر إن كانوا قتلوه أن يقتل كل رؤساء قريش كلهم، وأحضر بني هاشم الأربعين وأعطى كل واحد منهم شفرة، وقالوا ليجلس كل واحد منكم جنب رجل في دار الندوة فإذا جئتكم بدون محمد فليقتل كل منكم من الى جنبه من البطون!
فميزان القوة كان في مكة لبني هاشم على قريش، ولكن النبي صلى الله عليه وآله لم يؤمر بقتال.
طلب المنافقون من النبي صلى الله عليه وآله أن يقاتل قريشاً في مكة
وقد رفض طلبهم وقال: لم أؤمر بقتال. والذين طلبوا: سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما. (ابن حجر في أسباب النزول).
وقد يكون منهم أبوبكر وعمر وغيرهم من أبناء القبائل الصغيرة الضعيفة، الذين يأملون أن ينتصر بنو هاشم فيكون لهم موقع أفضل في مكة.
ونزل في ذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ.قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً.
ومعناه أنهم كرهوا الحرب في بدر وقال الله تعالى عنهم: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ
< صفحة > 37 < / صفحة >
وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وقد أدخل رواة قريش المقداد فيهم وكذبوا عليه لأنه لم يقل مقولتهم في طريق بدر: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ. بل قال للنبي صلى الله عليه وآله (البخاري: 5/187): «يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن إمض ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله ».
قال الطبري (5/233):«نزلت في قوم من أصحاب رسول الله كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد.فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم»!
وفي أسباب النزول لابن حجر(2/918): « نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وقدامة بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال: لم أؤمر بالقتال، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال كره بعضهم ذلك ».
وروى الحاكم (2/66) تفسيرها بابن عوف وأصحابه، وصححه على شرط البخاري، وكذا النسائي(6/ 3) والبيهقي (9/11) وغيرهم.
وهذا يكذب ادعاء قريش عدم وجود منافقين في مكة، لتحصرهم بأهل المدينة.
سبب عدم القتال في مكة حفظ حرمة مكة
قال العلامة في تذكرة الفقهاء(1/10):( إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار).
فمكة لها حسابها الخاص عند الله تعالى.
ولذا قال الحسين عليه السلام لما قال له عبد الله بن الزبير:كن حمامة من حمام هذا المسجد: (شرح الأخبار:3/145): (والله لئن أقتل خارجاً منه بشبرأحب إلي من أن أقتل فيه، ولئن أقتل خارجاً منه بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجاً منه بشبر).
لهذا لم يأذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله بأن يقاتل قريشاً في مكة، حتى لو كان النصر عليهم مضموناً له، وأذن له بمكة ساعة من نهار لتطهيرها من الأصنام.
< صفحة > 38 < / صفحة >
وسبب عدم القتال في مكة أن حقانية النبوة قد تخفى
فلو قاتل قريشاً وانتصر عليها وأقام دولة الإسلام، لاشتغلت أبواق إعلام قريش واليهود، بأنه ليس نبياً بل خارج على قريش، يريد تأسيس ملك لبني عبد المطلب! ولأنكروا أنه أقام عليهم الحجة بنبوته فكفروا، وأرادوا قتله.
على أن النبي صلى الله عليه وآله كان متعبداً بأمر ربه عز وجل، ولذلك قال: لم أؤمر بقتال.
ما هي الخطة الربانية للنبي صلى الله عليه وآله ؟
الخطة أن يجد النبي صلى الله عليه وآله أنصاراً فيذهب اليهم، وقد عرض نفسه في موسم الحج على عشرين أو ثلاثين قبيلة، وكان يعرض عليهم الإسلام ويقرأ لهم بعض آياته، ويقول لهم: إن الله بعثني رسولاً وإن قريشاً كذبتني ومنعتني أن أبلغ رسالة ربي، فخذوني معكم الى قبيلتكم واحموني لكي أبلغ رسالة ربي. وكانوا يخافون إن حموه من قريش، ويقولون له: إجعل لنا الأمر بعدك إذا انتصرت على قريش والعرب، فيقول لهم: الأمر لله وليس بيدي، وقد أمرني أن أشرط عليكم أن لا تنازعوا الأمر أهله!
قال ابن هشام(2/289): (قال فراس بن عبد الله.. بن عامر بن صعصعة: والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه)! فأمره الله أن يواصل دعوته حتى بعث له الأنصار!
- *
< صفحة > 39 < / صفحة >
الفصل الثامن : لولا أبو طالب لما نجحت دعوة النبي صلى الله عليه وآله
الفصل الثامن
لولا أبو طالب لما نجحت دعوة النبي صلى الله عليه وآله
مواقف أبي طالب غيرت ميزان القوة
الموقف الأول: كفالته للنبي صلى الله عليه وآله وتزويجه، وقد شرحناه في السيرة النبوية.
الموقف الثاني: لما سمعت قريش بنبوته فغضبت وزمجرت وقررت قتله! فأسلم أبوطالب عليه السلام ونهض مع النبي صلى الله عليه وآله وجمع بين هاشم وحماه من قريش.
ففي أمالي الصدوق/713، عن ابن عباس بسند قوي: (قال أبوطالب للنبي صلى الله عليه وآله : يا ابن أخي، الله أرسلك؟ قال: نعم. قال: فأرني آية. قال: أدع لي تلك الشجرة. فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه، ثم انصرفت. فقال أبوطالب: أشهد أنك صادق، يا علي صِلْ جناح ابن عمك).
ثم رآهما يصليان، فقال لجعفر:ياجعفر صِلْ جناح ابن عمك، أي صَلِّ معه.
ففي تفسير المفيد/407 والأوائل للعسكري/109: (أن أباطالب مر على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يصلي وعلي عليه السلام إلى جانبه، فلما سلَّم قال: ما هذا يا ابن أخي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : شيئ أمرني به ربي يقربني به إليه. فقال لابنه جعفر: يا بني: صِلْ جناح ابن عمك، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بعلي وجعفر جميعاً يومئذ فكانت أول صلاة جماعة في الإسلام، ثم أنشأ أبوطالب عليه السلام يقول:
إن علياً وجعفــــــراً ثقتي * عند ملم الخطوب والكرب
والله لا أخــــــــذل النبي ولا * يخذله من بنيَّ ذو حسب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي).
< صفحة > 40 < / صفحة >
الموقف الثالث: لما جاء اليه أشراف قريش يشكون النبي صلى الله عليه وآله ويطالبون بتسليمه لهم: « فقالوا: يا أباطالب، أن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفَّه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه! فقال لهم أبوطالب قولاً رفيقاً وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه.
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أباطالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. فبعث أبوطالب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمَّلني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاءٌ أنه خاذله ومُسَلِّمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته! ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وآله فبكى ثم قام، فناداه أبوطالب فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيئ أبداً ثم أعلن أبوطالب على الملأ كلمته المشهورة: والله ما كذب ابن أخي قط.
وفي شرح النهج (14/56): « قال ابن إسحاق: ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أباطالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وآله وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أباطالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل!
فقال لهم أبوطالب: والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبداً!
فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أباطالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً!
فقال أبوطالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ! فاصنع ما بدا لك ».
< صفحة > 41 < / صفحة >
« فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادي بعضهم بعضاً! ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب، وقد قام حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وآله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ماكان من أبي لهب عدو الله).
الموقف الرابع: (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي أسريَ به فيها بمكة. وكان أبوطالب أمر علياً وجعفراً وحمزة بالتناوب لحراسته، وكان يتفقد مكانه في الليل! ولما لم يجده خاف أن يكون القرشيون قتلوه فبعث من يبحث عنه، واستدعى شباب بني هاشم ووزع عليهم سيوفاً قصيرة أو شفاراً، وأمرهم أن يكون كل واحد منهم بجانب زعيم قرشي، فإذا أمرهم فليقتل كل منهم من بجنبه من الزعماء، وأولهم أبوجهل)! ( مناقب ابن شهرآشوب:1 /156).
وفي الخرائج للراوندي(1/85): « فتلقاه على باب أم هاني حين نزل من البراق فقال: يا ابن أخي، انطلق فادخل بين يدي المسجد، وسلَّ سيفه عند الحجر وقال: يا بني هاشم أخرجوا مُداكم. فقال: لو لم أره ما بقي منكم شفر (أحد) أو عشنا، فاتقته قريش منذ يوم أن يغتالوه).
وفي الغدير(7/350) عن الواقدي: « فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم، فأمرت هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم: إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولايستأذني فيه ولو كان هاشمياً! فقالوا: وهل كنت فاعلاً؟ فقال: إي ورب هذه وأومى إلى الكعبة! فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وكان من أحلافه: لقد كدت تأتي على قومك؟ قال: هو ذلك. ومضى به صلى الله عليه وآله وهو يقول :
إذهب بُنَيَّ فما عليك غضاضةٌ * إذهب وقَرَّ بذاك منك عيونا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
وذكرت ديناً لا محالة إنه * من خير أديان البرية دينا
< صفحة > 42 < / صفحة >
فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والإستعطاف، وهو لا يحفل بهم »!
وفي تاريخ اليعقوبي(2/26): « فأعظموا ذلك وجلَّ في صدورهم، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لا يؤذون رسول الله ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه أبداً ».
الموقف الخامس: لما كتبوا صحيفة المقاطعة، فحمى أبوطالب وبنو هاشم النبي صلى الله عليه وآله في شعب بني هاشم. قال في إعلام الورى (1/125): (وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يؤاكلوا بني هاشم ولايكلموهم ولايبايعوهم ولايزوجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولايحضروا معهم، حتى يدفعوا محمداً إليهم فيقتلونه، وأنهم يد واحدة على محمد صلى الله عليه وآله ليقتلوه غيلة أو صراحاً. فلما بلغ ذلك أباطالب جمع بني هاشم ودخل الشعب، وكانوا أربعين رجلاً فحلف لهم أبوطالب بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن شاكت محمداً شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم. وحصَّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله صلى الله عليه وآله مضطجع ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار)!
وفي سيرة ابن إسحاق(2/142): «فأخبر الله عز وجل بذلك رسوله صلى الله عليه وآله فأخبر أباطالب فقال أبوطالب: يا ابن أخي من حدثك هذا، وليس يدخل إلينا أحد ولا تخرج أنت إلى أحد، ولست في نفسي من أهل الكذب؟ فقال له رسول الله :أخبرني ربي هذا! فقال له عمه: إن ربك لحق وأنا أشهد أنك صادق. فجمع أبوطالب رهطه ولم يخبرهم ما أخبره به رسول الله صلى الله عليه وآله كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة بالخبث والمكر، فانطلق أبوطالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظل الكعبة، فلما أبصروه تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله فيقتلوه! فلما انتهى إليهم أبوطالب ورهطه رحبوا بهم وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم، وفي حياته فرقتكم وفسادكم! فقال أبوطالب: قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة فاقبلوا ذلك منا. هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا، فجاؤوا بها ولا يشكون إلا أنهم سيدفعون رسول الله إليهم إذا نشروها، فلما جاؤوا بصحيفتهم قال أبوطالب: صحيفتكم بيني وبينكم، وإن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني أن الله عز وجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم يدع لله فيها إسماً إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فإن كان
< صفحة > 43 < / صفحة >
كاذباً فلكم عليَّ أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه!فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ! وكانوا هم بالغدر أولى منهم واستبشر أبوطالب وأصحابه وقالوا أينا أولى بالسحر والقطيعة والبهتان ».
(فسقط في أيديهم، ونكسوا على رؤوسهم! فقال أبوطالب: علامَ نُحبس ونُحصر وقد بان الأمر! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال: اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا، واستحل ما يحرم عليه منا! ثم انصرفوا إلى الشعب »! ( طبقات ابن سعد: 1 / 208).
وقال أبوطالب في معجزة الصحيفة (سيرة ابن إسحاق:2/144):
وقد كان من أمر الصحيفة عبرةٌ * متى ما يُخَبَّرْ غائبُ القوم يعجبِ
محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب
وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً * ومن يختاق ما ليس بالحق يكذب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً * على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا خاذلين محمداً * لدى غربة منا ولا متقرب
ســـــــتمنعه منا يد هاشميةٌ * مركبها في الناس خير مركب
فلا والذي تخذى له كل نضوة * طليحٌ نجيٌّ نجلةٌ فالمحصب
يميناً صدقنا الله فيها ولم نكن * لنحلف كذباً بالعتيق المحجب
نفارقه حتى نُصـرَّع حوله * ومـانالتكذيـب النبـي المقـرب).
- *
أقول: صدق ابن أبي الحديد حيث قال (شرح النهج: (1/142): (فإن من قرأ علوم السير عرف، أن الإسلام لولا أبوطالب لم يكن شيئاً مذكوراً).
وقال(شرح النهج: (14/84):
ولولا أبوطالب وابنـــــــــــه * لما مثُل الدين شخصاً فقاما
فذاك بمكة آوى وحامى * وهذا بيثرب جس الحماما
< صفحة > 44 < / صفحة >
فلله ذا فاتحاً للهدى * ولله ذا للمعالي ختاما
وما ضر مجد أبى طالب * جهولٌ لغا أو بصير تعامى
نظرة في شعر أبي طالب عليه السلام
- أول من جمع شعر أبي طالب عليه السلام أبوهفان، واسمه عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي العبدي، توفي سنة 257 هجرية، وعرف كتابه باسم ديوان أبي طالب، وهو يتضمن 424 بيتاً أو نحوها.
وشعر أبي طالب أكثر من ذلك، فقد وجدت قصائد لا توجد في الديوان كالدالية التي مطلعها (شرح النهج (14/77) وهي اثنا عشر بيتاً:
أنت النبي محمـــــــد * قرم أغـــــــــر مسود
لمســـــــــودين أكارم * طابوا وطاب المولد
نعم الأرومة أصلها * عمرو الخضم الأوحد) - لعل أشهر شعر أبي طالب قصيدته اللامية التي تبلغ مئة وعشرة أبيات.
قال ابن كثير في النهاية (3/70): « قال ابن إسحاق: ولما خشي أبوطالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله ولا تاركه لشئ أبداً حتى يهلك دونه ».
ثم أورد القصيدة برواية ابن هشام الذي أورد منها أربعاً وتسعين بيتاً، وردَّ تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب، وقال: قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لايستطيع يقولها إلا من نسبت إليه وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخرى ».
أقول: يظهر أن لامية أبي طالب كانت في السنة الثانية للبعثة قبل موسم الحج، رداً على إعلام قريش الكاذب وتحريضهم العرب على النبي صلى الله عليه وآله .
وقد أخطأ بعضهم فجعلها بعد محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب، أو قبله لما عرضت
< صفحة > 45 < / صفحة >
قريش عليه شاباً بدل النبي صلى الله عليه وآله .
ملاحظات حول شعر أبي طالب عليه السلام
أ. تقرأ شعر أبي طالب عليه السلام فتُعجب ببلاغته، والمتداول منه نحو خمس مئة بيت، وقد يبلغ الألف بيت، فهو ثروة مهمة لم يعطوه حقه في تدوين السيرة وتوثيقها، مع أن المؤرخين أبدوا إعجابهم به! وقد رأيت قول إمامهم ابن كثير في لامية أبي طالب: « هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً، لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً »!
فما دامت أهم من المعلقات وأبلغ فلماذا لم يعتمدوها؟! إن مشكلتهم أنهم يريدون كسب رضا الحكومات الأموية والعباسية، فلا يذكرون شعر أبي طالب عليه السلام إلا عند الضرورة، لأنه يسجل شجاعة بني هاشم ونبلهم ودورهم في حماية النبي صلى الله عليه وآله ويكشف التاريخ الأسود لزعماء قريش ويطعن في نسب عدد منهم. ولذا تقرب علماء السوء الى الحكومات بذم أبي طالب وزعموا أنه مات كافراً، لينفوا أنه وارث عبد المطلب وأن النبي صلى الله عليه وآله وارثه!
ونفي الوراثة الربانية أمر مهم عندهم وإلا انهار أساس خلافة السقيفة!
ب. يكشف شعر أبي طالب أموراً وأحداثاً في السيرة النبوية لم يسجلها الرواة وعتموا عليها، فمنها أن قريشاً قررت إجلاء بني هاشم ونفيهم من مكة إن لم يسلموهم النبي صلى الله عليه وآله ! وعملوا لتنفيذ ذلك فأحبطه أبوطالب:
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةَ * وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِلِ
وذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبي غَيْرَ بُغْضِنَا * لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ * فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا * بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
وأبوعمرو المنافق هو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل، وهذا يدل على أن حساد بني هاشم من أقربائهم كانوا مع قرار نفيهم!
< صفحة > 46 < / صفحة >
ج. ومن ذلك أن أباطالب أشار في شعره إلى أعمال عدائية قامت بها قبائل أو شخصيات معينة لم يكشفها الرواة! لاحظ قوله في هذه القصيدة:
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ * إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ
جزت رحم عنا أسيداً وخالداً * جزاء مسئ لا يؤخر عاجل
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا * عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى * وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ..الخ.
وقوله في قصيدة أخرى:
وليد أبوه كان عبداً لجدنا * إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم * فكانوا لنا مولى إذا بغي النصر
فقد سهفت أحلامهم وعقولهم * فكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
والوليد هو أبوخالد بن الوليد، أحد المستهزئين (البيهقي: 9 / 8)، وقد كشف أبوطالب أن أمه رومية عاملة سفينة، كانت أمَةً لهاشم!
د. وقوله في المعجزة في أبي جهل:« لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو ساجد، وبيده حجر يريد أن يرميه به فلصق الحجر بكفه! فقال أبوطالب:
أفيقوا بني غالب وانتهوا * عن الغي من بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذن خائف * بوائق في داركــــــــــم تلتقي
تكون لغيركم عبـــــــــــرة * ورب المغارب والمشـــــــــــرق
كما ذاق من كان من قبلكم * ثمود وعاد فمن ذا بقي
غداة أتاهم بها صرصر * وناقة ذي العرش قد تستقي
فحل عليهم بها سخطة * من الله في ضربة الأزرق
وأعجب من ذاك في أمركم * عجائب في الحجر الملصق
< صفحة > 47 < / صفحة >
بكف الذي قام من خبثه * إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفـــــــــــــــه * على رغمة الجائر الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى * لغي الغـــــــــواة ولم يصدق »
( كنز الفوائد / 75، وأبوطالب حامي الرسول / 21، وابن إسحاق: 4 / 192).
لذلك ينبغي لكتاب السيرة والمؤرخين أن يتتبعواالأحداث التي أرخها أبوطالب، ويبحثوها، ويرفضوا ما يعارضها في السيرة الحكومية الرسمية.
- *
< صفحة > 48 < / صفحة >
الفصل التاسع : لماذا صبر النبي صلى الله عليه وآله ثلاث سنين حتى صدع بما يؤمر؟
الفصل التاسع
لماذا صبر النبي صلى الله عليه وآله ثلاث سنين حتى صدع بما يؤمر؟
كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام :
انتشر خبر بعثة النبي صلى الله عليه وآله فاستشاط زعماء قريش غضباً، واتخذوا قراراً بقتله قبل أن يسمعوا حجته! لأنه بزعمهم نقض توافق توزيع مناصب الشرف بين قبائل قريش، ودعا إلى زعامة بني هاشم!
وزاد غضبهم لما أمره الله أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وزيراً ووصياً، وقد روى الجميع حديث الدار في تفسير قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ أَلْمُؤْمِنِينَ. وأن النبي صلى الله عليه وآله جمع بني هاشم وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم الى الإسلام واختار منهم علياً عليه السلام أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة. فكان ذلك نبأ عظيماً على قريش وهو أن بني هاشم انشقوا على قريش، وادعى ابنهم النبوة، ثم اختار ابن عمه وصيه وخليفته، وكأن قبائل قريش لا وجود لها!
وأرادوا أن يتأكدوا من ذلك فأرسلوا أباسفيان باستطلاع الأمر، وروايته بسند صحيح عندهم، في مناقب آل أبي طالب(2/ 276) من تفسير القطان عن وكيع، عن سفيان عن السدي، عن عبد خير، عن علي قال: أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد هذا الأمر بعدك، لنا أم لِمَنْ؟ قال: يا صخرالأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى!
قال: فأنزل الله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ.عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما)!
وفي الكافي(1/207) بسند صحيح عن الإمام الباقر عليه السلام قال أبوحمزة الثمالي: (قلت له: جعلت
< صفحة > 49 < / صفحة >
فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ؟ قال: هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه، كان أمير المؤمنين يقول: ما لله عز وجل آية هي أكبر مني، ولا لله من نبأ أعظم مني». وتفسير القمي:2/401، وتفسير فرات/533، والطرائف/94، واليقين /410، وغيرها.
فالمرحلة الأولى من الدعوة كانت خاصة ببني هاشم وتوحيدهم لحماية النبي ومدتها ثلاث سنوات، لم يدعُ النبي صلى الله عليه وآله فيها غيرهم حتى أهلك الله الفراعنة المستهزئين الخمسة وأوحى إليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ، فبدأ بمرحلة الدعوة العامة.
وفي هذه السنوات الثلاث كانت آيات القرآن وسوره متواصلة وعلنية، وكانت السِّرية فقط على أشخاص كتموا إسلامهم خوفاً من قريش كعمار، أو كتموه حرصاً على نجاح الدعوة كأبي طالب وحمزة.
قال ابن إسحاق في سيرته (2/126): « ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله أن يصدع بما جاء به وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعو إلى الله تعالى، وكان ربما أخفى الشئ واستسر به، إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه ».
وقال ابن هشام(1/169): « وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وآله أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين. ثم قال الله تعالى له: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ».
وقال ابن عبد البر في الإستيعاب (1/34): « ثم نبأه الله تعالى وهو ابن أربعين سنة، وكان أول يوم أوحى الله تعالى إليه فيه يوم الإثنين، فأسر رسول الله صلى الله عليه وآله أمره ثلاث سنين أو نحوها، ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه ».
فالمتفق عليه عند الجميع أنه صلى الله عليه وآله في السنين الثلاث لم يدع غير بني هاشم، ولا جلس في المسجد في هذه المدة، فقد هدده عتاة المستهزئين بأنه إن دعا الناس فسيقتلونه، ثم أنذروه إلى يوم معين ليعلن تراجعه عن نبوته، فكفاه الله شرهم وقتل المستهزئين الخمسة في يوم واحد، وأنزل عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ!
وقد ضخَّم رواة السلطة دار الأرقم وجعلوها مرحلة في دعوة النبي صلى الله عليه وآله لأجل إثبات
< صفحة > 50 < / صفحة >
منقبة لعمر حيث زعموا أنه كان صاحب مكانة وقوة فتحدى قريشاً وأخرج النبي صلى الله عليه وآله إلى المرحلة العلنية، لكن الواقع ينفي ذلك!
وينبغي التنبيه إلى أن بعض الأحاديث السنية والشيعية حسبت سنوات السيرة في مكة عشر سنوات، فاستثنت السنوات الثلاث الأولى لأنها خاصة ببني هاشم، وحسبت بعثته من أول الرابعة حيث أهلك الله المستهزئين، وأمره أن يصدع!
زعماء قريش أسوأ من الفراعنة والجبارين!
قال الله تعالى لهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً. فهم فراعنة بنص القرآن.
وهم أسوأ من الفراعنة وأشد عناداً للحق، ففرعون لما أدركه الغرق: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وهم لما قامت عليهم الحجة ورأوا الحق: قَالُوا اللهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
وكان زعماء قريش سمعوا أن الأنبياء السابقين بشروا بنبي من ولد إسماعيل وسمعوا توقعات علماء اليهود والنصارى بأنه سيخرج في مكة، وسمعوا بقصة بحيرا الراهب وقوله إنه النبي الموعود.
لهذا أصدروا الأمر بقتل النبي صلى الله عليه وآله بمجرد أن قال إنه بعث نبياً، ولم يطلبوا منه الدليل، فالدليل لايهمهم والحجة لا تعنيهم، لأن قبولهم بنبيٍ من بني هاشم ينقض توافقهم على توزيع مناصب السيادة، ويعني رئاسة بني هاشم على بقية البطون، وهو أمر مرفوض بكل وجودهم!
فكان الموقف الصحيح بزعمهم قتله، فطالبوا أهله وعشيرته بتسليمه لهم ليقتلوه! وهذا طغيان لم يصل اليه أحد من الطغاة ولا الفراعنة!
لم يكن بإمكان النبي صلى الله عليه وآله أن يخرج الى المسجد ويدعو الناس الى نبوته ودينه حتى جاءه جبرئيل عليه السلام بعد أن حصد رؤوس المستهزئين كلهم في ساعات!
ففي الخصال/279: عن الإمام الحسين عليه السلام أن أميرالمؤمنين عليه السلام قال ليهودي من أحبار الشام في
< صفحة > 51 < / صفحة >
جواب مسائله: فأما المستهزؤون فقال الله عز وجل له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ فقتل الله خمستهم، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد! أما الوليد بن المغيرة فإنه مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه، فانقطع أكحله حتى أدماه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد!
وأما العاص بن وائل السهمي، فإنه خرج في حاجة له إلى كداء فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد! وأما الأسود بن عبد يغوث، فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له فاستظل بشجرة تحت كداء فأتاه جبرئيل عليه السلام فأخذ رأسه فنطح به الشجرة فقال لغلامه: إمنع هذا عني! فقال: ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً إلا نفسك! فقتله وهو يقول: قتلني رب محمد!
وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياًفرجع إلى أهله فقال:أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول: قتلني رب محمد.
وأما الأسود بن المطلب فإنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه غلبة العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات، وهو يقول: قتلني رب محمد!
كل ذلك في ساعة واحدة، وكانوا قالوا صباح ذلك اليوم للنبي صلى الله عليه وآله : يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك، فدخل النبي منزله فأغلق عليه بابه مغتماً بقولهم، فأتاه جبرئيل عليه السلام ساعته فقال له: يا محمد السلام يقرؤك السلام وهو يقول: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادع، وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. قال: يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني؟ قال له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ. قال: يا جبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي؟ فقال: قد كفيتهم! فأظهر أمره عند ذلك »!
وخرج النبي صلى الله عليه وآله الى الحجر في أول السنة الرابعة وبدأ بدعوة الناس، ولو خرج قبلها لهاجمه بعض هؤلاء المستهزئين يريدون قتله!
الثلاث سنين مرحلة الدعوة الناعمة!
مع كل جبروت قريش في رد البعثة، وإصرارهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله ، كان يكفي
< صفحة > 52 < / صفحة >
لأبي طالب عليه السلام شهور لترتيب حمايته ببني هاشم ثم ينطلق في دعوته.
لكن الأمر طال ثلاث سنوات، فما هو السبب؟
في اعتقادي أن تأخير شروعه في الدعوة كان أمراً مقصوداً لله تعالى، ليسمع الناس أولاً بنبوته، ويصل اليهم مايتنزل عليه من القرآن، ويتفاعل في نفوسهم، الى أول السنة الرابعة حيث نزل عليه الأمر: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ.
فكأن السنوات الثلاث مرحلة الدعوة الناعمة قبل البدء بالدعوة رسمياً.
ونلاحظ هذا التدرج في تعامل النبي صلى الله عليه وآله بأمر ربه مع المجتمع، لكي يأخذ الأمر والحدث وقته الكافي، وينضج وجوده في أنفسهم نضجاً طبيعياً.
- *
< صفحة > 53 < / صفحة >
الفصل العاشر : لماذا أخذ النبي صلى الله عليه وآله أبابكر معه في هجرته؟
الفصل العاشر
لماذا أخذ النبي صلى الله عليه وآله أبابكر معه في هجرته؟
جعلوا آية الغار سيفاً قتلوا به من خالفهم!
قال الله تعالى: إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
معنى الآية: أن الله تكفل بنصر النبي صلى الله عليه وآله وإن لم تنصروه، فقد نصره عندما كان وحيداً فاراً من قومه ليس معه إلا شخص واحد غير مقاتل، فأنزل عليه السكينة والطمأنينة وجنوداً من ملائكته. فليس في الآية مدح للشخص الذي كان معه، بل فيها أنه خاف وسكنه النبي صلى الله عليه وآله .
فالآية متركزة على الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وحده غير ناظرة إلى غيره، بل يشير إفراد الضمائر فيها إلى أن أبابكر لايشترك معه في السكينة بل بمجرد التواجد قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ولم يقل أخرجهما. وقال تعالى: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا، ولم يقل عليهما.
وقال المفيد( الفصول المختارة/43) ما حاصله: « لم ينزل الله سبحانه السكينة قط على نبيه صلى الله عليه وآله في موطن كان معه فيه أحد من أهل الإيمان، إلا عمهم في نزول السكينة وشملهم بها، إلا في هذا المورد فأفردها).
وقد أكثر السنيون في مدح أبي بكر، فقالوا إنه تواعد مع النبي صلى الله عليه وآله على الهجرة، وإنه أعدَّ راحلتين، وإن النبي صلى الله عليه وآله كان يتردد الى بيته تلك الأيام. وروواعن عائشة الكثير!
وقالوا إن أسماء بنت أبي بكر كانت تحمل لهم الطعام إلى الغار، وإنها شقت حزامها قطعتين
< صفحة > 54 < / صفحة >
لتربط الزاد فسماها النبي صلى الله عليه وآله ذات النطاقين، مع أنها كانت هاجرت مع زوجها الزبير قبلهم إلى المدينة). (خليفة ابن خياط / 207).
قال ابن حجر في الإصابة (4/148): « ومناقب أبي بكر كثيرة جداً، وقد أفردها جماعة بالتصنيف، وترجمته في تاريخ ابن عساكر قدر مجلدة، ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ. فإن المراد بصاحبه أبوبكر بلا نزاع، إذ لايعترض بأنه لم يتعين لأنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الهجرة عامر بن فهيرة وعبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن أريقط الدليل، لأنا نقول لم يصحبه في الغار سوى أبي بكر. وثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأبي بكر وهما في الغار: ما ظنك باثنين الله ثالثهما ».
وفي فتح الباري (13/180): « قال ابن التين: ما انفرد به أبوبكر وهو كونه ثاني اثنين وهي أعظم فضائله التي استحق بها أن يكون الخليفة من بعد النبي لذلك قال عمر: وإنه أولى الناس بأموركم فقوموا فبايعوه ».
وفي تحفة الأحوذي(10/106): « أجمع المفسرون على أن المراد بصاحبه في الآية يعني قوله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ. هو أبوبكر، وقد قالوا من أنكر صحبة أبي بكر كفر، لأنه أنكر النص الجلي! بخلاف صحبة غيره ».
أما نحن فنقول: إنها روايات مكذوبة لمدح أبي بكر وبناته، وقد نص المحدثون السنة على كثرة المكذوبات في فضائل أبي بكر وعمر، وهذه منها.
ونقول إن النبي صلى الله عليه وآله وجد أبابكر في الطريق فأخذه معه لئلا يخاف فيخبر قريشاً عن النبي صلى الله عليه وآله ، واشترى منه جملاً للدليل، فمات الجمل قبل أن يصل الى المدينة، فاستأجر غيره. أما النبي صلى الله عليه وآله فهاجر على ناقته العضباء.
وقد وردت هذه المضامين في رواياتنا، ففي الخرائج (1/144): «قال علي عليه السلام : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة فقد أمرني الله تعالى بذلك. فقلت له: السمع والطاعة، فنمت على فراشه وفتح رسول الله صلى الله عليه وآله الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. ومضى وهم لا يرونه، فرأى أبابكر قد
< صفحة > 55 < / صفحة >
خرج في الليل يتجسس عن خبره، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم، فأخرجه معه إلى الغار ».
وفي شواهد التنزيل(1/127) «أنام رسول الله علياً عليه السلام على فراشه ليلة انطلق إلى الغار، فجاء أبوبكر يطلب رسول الله فأخبره علي أنه قد انطلق فاتبعه ».
لا فضيلة حقيقية لأبي بكر في الآية
قال النعمان المغربي في شرح الأخبار(2/246): « إن الصحبة قد تكون للبر والفاجر، وقد وصف الله تعالى في كتابه صحبة مؤمن لكافر فقال: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ».
والسؤال: لماذا قدر الله تعالى أن يكون أبابكر صاحب النبي صلى الله عليه وآله في الهجرة؟ ولماذا استعمل في الآية كلماتٍ توهم فضيلته.
يجيب السنيون: بأن الله تعالى خص أبابكر بالصحبة في الهجرة، وخصه بأنه ثاني اثنين، وهذا ترشيح له للخلافة.
وأجاب علماؤنا: إذا كانت الفضيلة في الأول والثاني، فإن ثاني الإثنين في الآية رسول الله صلى الله عليه وآله وليس فيها أول، أو أبوبكر الأول فهل يكون أفضل؟!
وأجابوا: بأن الله تعالى لايسأل عما يفعل، وكون شخص الى جنب النبي صلى الله عليه وآله لايدل بحال على صلاحه. وصحابة الرسل عليهم السلام فيهم مضلون وأعداء بنص القرآن، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً. لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ للَّإِنْسَانِ خَذُولاً. وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.
وأجابوا بأن الله تعالى له أسرار في امتحان الناس:لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
ترك أبوبكر النبي صلى الله عليه وآله بقباء وذهب غاضباً!
قال الطبرسي في إعلام الورى (1/152) :(إن أبابكر أراد من النبي أن يدخل المدينة من قباء
< صفحة > 56 < / صفحة >
فقال: لا أريم من هذا المكان حتى يوافيني أخي علي بن أبي طالب. فقال أبوبكر:ما أحسب علياً يوافي! قال: بلى ما أسرعه إن شاء الله. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله فارقه أبوبكرودخل المدينة)!
وفي الكافي(8/338)ومختصر البصائر/129بسند صحيح «فقال له أبوبكر: إنهض بنا إلى المدينة، فإن القوم قد فرحوا بقدومك وهم يستريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولاتقم هاهنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم عليك إلى شهر! فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : كلا ما أسرعه، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل، وأحب أهل بيتي إليَّ، فقد وقاني بنفسه من المشركين.
قال: فغضب عند ذلك أبوبكر واشمأز، وداخله من ذلك حسد لعلي عليه السلام فانطلق حتى دخل المدينة، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وآله بقبا ينتظر علياً عليه السلام ».
أقول: غطى رواة السلطة ترك أبي بكر للنبي صلى الله عليه وآله في قباء، فلم يصرحوا به، قال ابن هشام (2/342): « نزل النبي صلى الله عليه وآله في قباء، ونزل أبوبكر على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح».
والسنح خارج المدينة باتجاه نجد: « قال عياض: هذا حد أدناها وأبعدها ثمانية أميال).
- *
< صفحة > 57 < / صفحة >
الفصل الحادي عشر : نقاط عن والدي النبي صلى الله عليه وآله
الفصل الحادي عشر
نقاط عن والدي النبي صلى الله عليه وآله
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين، أي إسماعيل وعبد الله، وقد تقدمت قصة نذر عبد المطلب عاشرأولاده، وأن الله أمره أن يفديه بالإبل ويقترع بينهما، فاقترع حتى رست القرعة على مئة من الإبل ففداه بها.
كان عبد الله أحب أولاد عبد المطلب اليه
لما جاء أبرهة بجيشه ليهدم الكعبة، خاف أهل مكة وهربوا منها، وبقي فيها عبد المطلب وقليل من الناس، فطاف عبد المطلب بالبيت وأخذ بحلقة باب الكعبة، وخاطب الله تعالى فقال
لاهـــــــــــــــــــمَّ إن الــــــمـــــــــــرء * يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهــــــــــــــــم * ومِحالهــــــــم ربي مِحالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا * فشئٌ ما بدالك).
(المنمق لابن حبيب/76، وابن سعد:1/92):
ولما اقترب جيش أبرهة من مكة جمع عبد المطلب بنيه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال: أنظر يا بني ماذا يأتيك من قبل البحر؟ فرجع فلم ير شيئاً، فأرسل واحداً بعد آخر من ولده، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر، فدعا ولده عبد الله وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أباقبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال:
< صفحة > 58 < / صفحة >
يا سيد النادي رأيت سحاباً من قبل البحر مقبلاً، يُسْفِلُ تارة ويرتفع أخرى!
إن قلت غيْماً قلته، وإن قلت جَهَاماً خِلته، يرتفع تارة وينحدر أخرى!
فنادى عبد المطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طيرحجر وفي رجليه حجران، فكان الطائر الواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة! كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره!وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ..».(كنز الفوائد/83 عن الإمام الصادق عليه السلام ).
وكلام عبدالله عليه السلام من أبلغ الكلام، فقد سمى أباه عبد المطلب سيد النادي وفي رواية سيد الوادي. وفرق بين السحاب والغيم والجهام، والأخير هو الغيم الذي لاماء فيه، يقول: رأيت سحاباً مقبلاً نحو مكة يهبط كأنه غيم مثقل بالماء، ويصعد كأنه جهام لاماء فيه، فهو بين صعود وهبوط. فعرف عبد المطلب بأنه سرب(طائرات)الأبابيل الذي وعده به ربه عز وجل.
وكان عمر عبد الله عليه السلام يومها أكثر من عشرين سنة، لأنه كان متزوجاً وقد ولد ابنه النبي صلى الله عليه وآله في تلك السنة، ولا بد أن يكون معنى قول الراوي: وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه، أنه كان شاباً في مقتبل العمر. وقال اليعقوبي كان عمره لما توفي خمساً وعشرين سنة، وقد ولد النبي صلى الله عليه وآله في عام الفيل، وتوفي فيها والده عليه السلام .
وقال ابن إسحاق (1/2): (كان عبد الله بن عبد المطلب أبورسول الله صلى الله عليه وآله أصغر بني أبيه كان هو والزبير وأبوطالب لفاطمة بنت عمرو بن عابد بن عبد الله بن عمران بن مخزوم، وكان فيما يزعمون أحب ولد عبد المطلب اليه).
زواج عبد الله من آمنة بنت وهب عليهما السلام
قال ابن عبد البر في الإستيعاب(1/28): ( أمُّ رسول الله صلى الله عليه وآله آمنة بنت وهب ابن عبد مناف، قرشية زهرية، تزوجها عبد الله بن عبد المطلب، وهو ابن ثلاثين سنة، وقيل: بل كان يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، خرج به أبوه عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف فزوجه ابنته.
وقيل: كانت آمنة في حجر عمها وهيب بن عبد مناف بن زهرة، فأتاه عبد المطلب، فخطب
< صفحة > 59 < / صفحة >
إليه ابنته هالة بنت وهيب لنفسه، وخطب على ابنه عبد الله آمنة بنت وهب، فزوجه وزوج ابنه في مجلس واحد فولدت آمنة لعبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله ).
ورووا أن امرأة رأت النور في جبين عبد الله عليه السلام ، فطلبت منه أن يتزوجها فرفض.
وفي كمال الدين/196: « روي عنها أنها قالت: لما حملتُ به لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل، فرأيت في نومي كأن آت أتاني فقال لي: قد حملت بخير الأنام، فلما حان وقت الولادة خفَّ عليَّ ذلك حتى وضعته، وهو يتقي الأرض بيده وركبتيه، وسمعت قائلاً يقول: وضَعْتِ خير البشر فعوَّذيه بالواحد الصمد من شر كل باغ وحاسد. فولد رسول الله عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت [بقيت] من ربيع الأول يوم الإثنين. فقالت آمنة: لما سقط إلى الأرض اتقى الأرض بيديه وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء، وخرج مني نور أضاء ما بين السماء والأرض).
وفي الكافي (1/454) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: « لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله فُتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين إلى أبي طالب ضاحكة مستبشرة فأعلمته ما قالت آمنة، فقال لها أبوطالب: وتتعجبين من هذا، إنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره ».
رضع النبي صلى الله عليه وآله من أمه آمنة ثم أخذته حليمة
أكثر رواة الحكومة الروايات في رضاع النبي صلى الله عليه وآله ، فضيعوا الحقيقة في مكذوباتهم! ومما قالوه إن أمه لم ترضعه لأنها كانت قليلة اللبن، أو أرضعته أياماً قليلة، ثم أرضعته ثويبة أمة أبي لهب أياماً، ثم جاءت حليمة!
والصحيح أن أمه عليهما السلام أرضعته مدة تزيد على السنة، ثم أعطاه جده لزوج حليمة لينشأ في باديتهم قرب الطائف، فقد صحح الشهيد الثاني قدس سره وغيره افتخار النبي صلى الله عليه وآله برضاعه الأول من أمه، ثم بنشأته في بني سعد.
قال في شرح اللمعة(5/165) والمسالك(1/376) والمجموع(18/227): «قال النبي صلى الله عليه وآله : أنا أفصح العرب، بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة. وكانت هذه القبائل أفصح العرب، فافتخر صلى الله عليه وآله بالرضاع كما افتخر بالنسب ».
< صفحة > 60 < / صفحة >
فرضاعه الأول من أمه هو المؤثر في نموه، ورضاعه الثاني من حليمة مكمل له! وقوله صلى الله عليه وآله :ارتضعت من بني زهرة، يعني أنه رضع من حليب أمه سنة أو أكثر.
أما الحديث المشهور: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد ( الفايق:1/9 و126). فشهد العلماء بأنه لا أصل له! (كشف الخفاء:1/200).
قال النبي صلى الله عليه وآله : أنا ابن العواتك
روى في الكافي(5/50) عن الإمام الصادق في افتخار النبي صلى الله عليه وآله بأمه وجداته قال: «أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناد: يا سوء صباحاه! فسمعها رسول الله صلى الله عليه وآله في الخيل، فركب فرسه في طلب العدو وكان أول أصحابه لحقه أبوقتادة على فرس له وكان تحت رسول الله صلى الله عليه وآله سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر، فطلب العدو فلم يلقوا أحداً، وتتابعت الخيل فقال أبوقتادة: يا رسول الله إن العدو قد انصرف فإن رأيت أن نستبق؟ فقال: نعم، فاستبقوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله سابقاً عليهم، ثم أقبل عليهم فقال: أنا ابن العواتك من قريش، إنه لهو الجواد البحر، يعني فرسه ».
وفسره في الحدائق(22/356) فقال: « جمع عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب، وكان هذا الإسم لثلاث نسوة من أمهاته صلى الله عليه وآله ، إحداهن عاتكة بنت هلال أم عبد مناف بن قصي، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال، أم هاشم بن عبد مناف، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، أم وهب أبي آمنة أم النبي صلى الله عليه وآله ، فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة، قيل: وبنو سليم كانوا يفتخرون بهذه الولادة).
توفي عبد الله والنبي صلى الله عليه وآله طفل ابن شهرين
قال الكليني في الكافي (1/439): (توفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وماتت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو صلى الله عليه وآله ابن أربع سنين. ومات عبد المطلب وللنبي صلى الله عليه وآله نحو ثمان سنين).
وفي الكافي(8/302) عن الإمام الصادق عليه السلام قال:«كان حيث طَلَقَتْ آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبي صلى الله عليه وآله حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب، فلم تزل معها حتى
< صفحة > 61 < / صفحة >
وضعت، فقالت إحداهما للأخرى: هل ترين ما أرى؟ فقالت: وما ترين؟ قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب! فبينما هما كذلك إذا دخل عليهما أبوطالب فقال لهما: ما لكما من أي شئ تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت فقال لها أبوطالب: ألا أبشرك؟ فقالت: بلى، فقال: أما إنك ستلدين غلاماً يكون وصي هذا المولود ». وفي رواية: إصبري سبتاً أبشرك بمثله إلا النبوة، والسبت ثلاثون سنة وكان بين رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام ثلاثون سنة. فكان أبوطالب كأبيه يعلم بنبوة النبي صلى الله عليه وآله ). (الكافي: 1 / 452، ومعاني الأخبار / 403).
وقد توفي عبد الله في المدينة عند أخواله، قال ابن عبد البر في الإستيعاب(1/33): (مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب وأمه حامل به. وقيل بل توفي أبوه بالمدينة والنبي صلى الله عليه وآله ابن ثمانية وعشرين شهراً، وقبره بالمدينة في دار من دور بني عدي بن النجار، وكان خرج إلى المدينة يمتار تمراً. وقيل بل توفي أبوه وهو ابن شهرين فكفله جده عبد المطلب.
وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: بعث عبد المطلب ابنه عبد الله يمتار له تمراً من يثرب فمات بها، وكانت وفاته وهو شابٌّ عند أخواله بني النجار بالمدينة، ولم يكن له ولد غير رسول الله صلى الله عليه وآله ).
فأقل الروايات في عمر عبد الله عليه السلام أنه توفي والنبي صلى الله عليه وآله حمل في بطن أمه، وأكثرها أنه توفي وعمر النبي صلى الله عليه وآله سنتان وأربعة أشهر.
والمرجح رواية الشهرين التي رواها الكليني رحمه الله ويدل عليها قول عبد المطلب لابنه أبي طالب لما أوصاه بالنبي صلى الله عليه وآله (الروض الأنف:1/184):
أوصيك يا عبد منافٍ بعدي * بمؤتم بعد أبيه فرد
فـارقه وهـو ضجيــع المهـد).
وفي الحجة على الذاهب/77: (لما توفي عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله كفله جده عبد المطلب ثماني سنين، ثم احتضره الموت فدعا ابنه أباطالب وقال له: يا بني تسلم ابن أخيك مني، فأنت شيخ قومك وعاقلهم، ومن أجد فيه الحجى دونهم، وهذا الغلام تحدثت به الكهان، وقد روينا في الأخبار أنه سيظهر من تهامة نبي كريم، وروي فيه علامات قد وجدتها فيه، فأكرم مثواه،
< صفحة > 62 < / صفحة >
واحفظه من اليهود فإنهم أعداؤه، فلم يزل أبوطالب لقول عبد المطلب له حافظاً، ولوصيته راعياً، ومن هنا قال: وحفظت فيه وصية الأجداد).
وفي مناقب آل أبي طالب(1/38): يقول أبوطالب وقد أوردها محمد بن إسحاق :
إن ابن آمنة النبي محمـــــــــداً * عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمـــــــــام رحمته * والعيس قد قلصن بالأزواد
فارفضَّ من عينيَّ دمعٌ ذارف * مثل الجمـــــــــان مفرَّد الإفراد
راعيت فيه قرابة موصولة * وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومه * بيض الوجوه مصاله الانجاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا * لاقوا على شرف من المرصاد
حَبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً * عنه ورد معاشــــــــــر الحساد).
رأيت آثار النبي صلى الله عليه وآله قبل أن يزيلها أعداؤه
رأيت في حج سنة 1965ميلادية شعب بني هاشم، ويسمونه الآن شعب علي، وكان واضح المعالم، وفي يسار مدخله بيت عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وهو مكان مولده الشريف، وكانوا جعلوه مكتبة باسم: مكتبة مكة، ثم أراد مشايخهم هدمه فمنعتهم الحكومة خوفاً من ردة فعل المسلمين، فأبقوه مكاناً خالياً إلى يومنا هذا سنة، وكأنهم ينتظرون فرصة لهدمه!
ورأيت يومها بيت أبي طالب رضي الله عنه داخل الشعب على يمينك في مرتفع، وقد جعلوه مدرسة باسم: مدرسة النجاح، ثم أزالوه مع البيوت، وأزالوا أكثر الجبلين اللذين يقع الشعب بينهما.
كما زرت في الجهة الغربية المقابلة لشعب أبي طالب، بيت خديجة عليها السلام وكان في سوق الليل أو سوق الذهب، ويسمى مولد فاطمة الزهراء عليها السلام ، وكانوا جعلوه مدرسة للبنات، ثم أزالوه فيما أزالوا، بل أقاموا مكانه مرافق!
فكأن هؤلاء الوهابية الإنكليز لهم عداوةً مع آثار النبي وآله الأطهار عليهم السلام ، فهم يبادرون إلى إزالتها حتى لو كانت مساجد، أو أماكن مملوكة للناس!
< صفحة > 63 < / صفحة >
لكنهم أبقوا حصن حبيبهم اليهودي كعب بن الأشرف الذي أراد اغتيال النبي صلى الله عليه وآله ! فحافظوا عليه بسوره وساحته وبئره وغرفه العشـرة، وصنفوه في الآثار، ويقع جنب حديقة بلدية المدينة المنورة وتجد صوره في الإنترنت!
رثاء أبي طالب وآمنة لعبد الله عليهما السلام
قال أبوطالب يرثي أخاه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله :
عيني ائذني ببكاء آخر الأبد * ولا تملّي على قرم لنا سند
أشكو الذي بي من الوجد الشديد له * وما بقلبي من الآلام والكمد
أضحى أبوه له يبكي وإخوته * بكل دمع على الخدين مطّرد
لو عاش كان لفهر كلها علماً * إذ كان منها مكان الروح في الجسد).
(وقالت آمنة بنت وهب ترثي زوجها عبد الله بن عبد المطلب:
عفا جانب البطحاء من ابن هاشم * وجاور لحداً خارجاً في الغماغم
دعتــــــه المنايـــــا دعوةً فأجابهـــــا * وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
عشيــة راحــوا يحملـون سريــــره * تعــــاوره أصحــابــــــه في التـزاحم
فــــــان يك غالته المنايا وريبها * فقد كان معطاء كثير التراحم.
(المحاضرات و المحاورات للسيوطى (1/57)
(وأخرج عن عمرو بن سعيد أن أباطالب قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخي يعني النبي صلى الله عليه وآله فأدركني العطش فشكوت إليه، فقلت: يا ابن أخي قد عطشت، وما قلت له ذلك إلا وأنا أرى أن عنده شيئاً إلا الجزع، قال: فثنى وركه ثم نزل فقال: يا عمّ أعطشت؟ قلت: نعم، قال: فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: إشرب يا عم، فشربت!(طبقات ابن سعد:1/152)
< صفحة > 64 < / صفحة >
إيمان والدي النبي صلى الله عليه وآله
قال الصدوق في الإعتقادات/110: (اعتقادنا في آباء النبي صلى الله عليه وآله أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وأن أباطالب كان مسلماً، وأمه آمنة بنت وهب كانت مسلمة عليهم السلام . وقال النبي صلى الله عليه وآله : خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم. وروي أن عبد المطلب كان حجة وأباطالب كان وصيه).
وفي الكافي(1/446) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: « نزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية ابن فضال وفاطمة بنت أسد ».
وروى الصدوق في كمال الدين/175: (عن الأصبغ بن نباته قال: سمعت أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قط، قيل له فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم عليه السلام متمسكين به).
وتقدم من الخصال/312، من وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليهم السلام قال:«يا علي إن عبد المطلب سنَّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام: حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عز وجل:وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ.. الآية.
ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ..الآية. وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عز وجل ذلك في الإسلام. ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط، فأجرى الله ذلك في الإسلام.
يا علي إن عبد المطلب كان لايستقسم بالأزلام ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذبح على النصب، ويقول: أنا على دين أبي إبراهيم عليه السلام ».
< صفحة > 65 < / صفحة >
زيارة النبي صلى الله عليه وآله قبر والديه عبد الله وآمنة
كان قبر عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله مزاراً إلى الأمس، فقد بناه المسلمون من قديم وآخرهم سلاطين مصر والدولة العثمانية، وقد زرته قبل نحو خمسين سنة وكان بيتاً في سكك المدينة في السوق غربي المسجد، وكانت واجهة بابه الخارجي وعتبته أحجاراً نقشت عليها كتيبة بالعربية والتركية.
وقد أقفله مشايخ الوهابية يومها مقدمة لهدمه! أما الآن فقد أزالوه ودخل مكانه في توسعة ساحة المسجد النبوي ولم يبق له أثر!
كما أن قبر والدته آمنة عليها السلام كان مزاراً للأوفياء لنبيهم وأسرته، وهو في الأبواء في طريق مكة، ويعرف مكانه اليوم باسم الخريبة، في منطقة الفرع.
في مراصد الإطلاع (1/19): « الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً.وبالأبواء قبر آمنة أم النبي».
وقد أفتى فقهاء المسلمين باستحباب زيارة قبر والديه صلى الله عليه وآله وشذ الوهابية فحرموا زيارتهما وعاقبوا من زارهما! ثم طغوا وأزالوا قبر والدته، فقد رأوا أن الشيعة يأخذون من ترابه للتبرك، فصبوا عليه المازوت، وفي سنة بعدها فجَّروا القبر بالديناميت!
فكتب الشيخ عبد الحسين البصري، في موقع الموسوعة الشيعية بتاريخ: 28/3 /2000، موضوعاً بعنوان ( ديناميت السلفية)! قال فيه:
« للتاريخ فقط، ولتبقى صفحة سوداء في وجة خوارج العصر، نؤرخ لحدث وقع أصاب كبد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ألا وهو تفجير قبر آمنه بنت وهب أم رسول الله عليها السلام الواقع في الأبواء، في الثامن من مارس سنة 2000 ميلادي! ألا لعنة الله على القوم الظالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ».
قال اليعقوبي (2/10): « توفي عبد الله بن عبد المطلب أبورسول الله على ما روي عن جعفر بن محمد بعد شهرين من مولده عند أخوال أبيه بني النجار في دار تعرف بدار النابغة، وكانت سنه يوم توفي خمساً وعشرين سنة، وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بعد ما أتى عليه ست سنين وثلاثة
< صفحة > 66 < / صفحة >
أشهر، ولها ثلاثون سنة، وكانت وفاتها بموضع يقال له الأبواء بين مكة والمدينة ».
وفي معجم البلدان (1/79) والطبقات (1/116): « فلما بلغ ست سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً. فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك: لما نظر إلى أطَمِ بني عدي بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبرأبي عبد الله بن عبد المطلب، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار. ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت. فلما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله في عمرة الحديبية بالأبواء قال: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله صلى الله عليه وآله ».
أقول: زعم أتباع مذاهب الخلافة أن والدة النبي صلى الله عليه وآله آمنة عليها السلام في النار! وأن النبي استأذن ربه في زيارة قبرها وهو في طريقه إلى الحديبية فأذن له، فبكى وأجهش بالبكاء طويلاً وأبكى المسلمين معه، واستأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له، وأبقاها في نار جهنم!
قال الألباني في أحكام الجنائز/187: « زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال:استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي»!
أقول: هكذا صوروا ربهم عز وجل قاسياً لا يرحم عواطف نبيه الإنسانية تجاه والدته، ولا يعبأ ببكائه وحرقته عليها، ولا يسمح له أن يقول: اللهم اغفر لها! فالمهم عندهم أن يكون آباء النبي صلى الله عليه وآله وأمهاته في النار وإن نسبوا القسوة الى الله! لأنهم إذا كانوا مؤمنين كان آله عليهم السلام ورثة إسماعيل عليه السلام ، والخلافة لهم لا قريش!
والحمد لله أنهم كذبوا أنفسهم بأحاديث منها: رواية ابن ماجة(2/1215) قال: «يُصَفُّ الناس يوم القيامة صفوفاً فَيَمُرُّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له. ويمر الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهوراً؟ فيشفع له »!
لكنهم ضيقوا الشفاعة على والدي النبي عليه السلام وأجداده وعمه أبي طالب عليهم السلام ! لأنهم بحاجة إلى تكفير أسرته عليهم السلام ليرثوا سلطانه، ويبعدوا عترته!
- *
< صفحة > 67 < / صفحة >
الفصل الثاني عشر : من طفولة النبي صلى الله عليه وآله وشبابه
الفصل الثاني عشر
من طفولة النبي صلى الله عليه وآله وشبابه
- عقيدتنا في النبي صلى الله عليه وآله ومعه آله المعصومون عليهم السلام أنهم مشروع رباني خاص لايصح أن يقاس بهم أحد حتى الأنبياء عليهم السلام .وقد روينا ذلك وروته بعض مصادر من خالفنا، فروى الحمويني في فرائد السبطين (1/45)عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله :نحن أهل البيت لا يُقاس بنا أحد). وفردوس الأخبار:5/34، وذخائر العقبى/17، وفي ينابيع المودة: 2/114، عن ابن عباس. والصالحي
الشامي(11/7) والبغدادي في القراءة/165، وكنز العمّال:12/4).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:1/30): (لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد، ولايساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين، وعماد اليقين. إليهم يفئ الغالي وبهم يلحق التالي. ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة. وقال عليه السلام : نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد، فينا نزل القرآن، وفينا معدن الرسالة).
وقال ابن الجوزي في مناقب أحمد: ( سمعت أباالحسن أحمد بن أبي القاسم بن الريان قال، سمعت عبد الله بن أحمد يقول: حدث أبي بحديث سفينة فقلت: يا أبهْ ما تقول في التفضيل؟ قال: في الخلافة أبوبكر وعمر وعثمان. فقلت فعلي بن أبي طالب؟قال: يا بني علي من أهل البيت لايقاس بهم أحد).
وروى أبوالعباس الطبري، والرياض النضرة (2/275) أن رجلاً قال لابن عمر: يا أباعبد الرحمن: فعلي كرم الله وجهه؟ قال ابن عمر: علي من أهل البيت لا يقاس بهم، علي مع رسول الله صلى الله عليه وآله في درجته إن الله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. فاطمة مع رسول الله صلى الله عليه وآله في درجته وعلي مع فاطمة عليها السلام ).
< صفحة > 68 < / صفحة >
وضرب الإمام الصادق عليه السلام مثلاً لتفضيلهم على الأنبياء عليهم السلام بشهور السنة، لما قال له ابن صهيب (علل الشرائع:1/177): (أخبرني عن أبي ذر أهو أفضل أم أنتم أهل البيت؟ فقال: يا ابن صهيب كم شهور السنة؟ فقلت: اثنا عشر شهراً فقال: وكم الحرام منها؟ قلت أربعة أشهر، قال فشهر رمضان منها؟ قلت لا قال فشهر رمضان أفضل أم الأشهر الحرام؟ فقلت بل شهر رمضان.قال فكذلك نحن أهل البيت لايقاس بنا أحد. وإن أباذر كان في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فتذاكروا فضايل هذه الأمة فقال أبوذر: أفضل هذه الأمة علي بن أبي طالب،وهو قسيم الجنة والنار، وهو صدِّيق هذه الأمة وفاروقها، وحجة الله عليها. فما بقي من القوم أحد إلا أعرض عنه بوجهه وأنكر عليه قوله وكذَّبه!فذهب أبوأمامة الباهلي من بينهم إلى رسول الله فأخبره بقول أبي ذر وتكذيبهم له فقال رسول صلى الله عليه وآله :ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، يعني منكم يا أباأمامة، من ذي لهجة أصدق من أبي ذر).
وقال المرتضى في الشافي (3/100): (لايجوز أن يقول هذا (أن علياً فضَّل أبابكر) من قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه باتفاق: اللهم إئتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر. فجاء عليه السلام من بين الجماعة فأكل معه. ولامن يقول النبي صلى الله عليه وآله لابنته فاطمة عليها السلام : إن الله عز وجل اطَّلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار منها رجلين، جعل أحدهما أباك والآخر بعلك. وقال صلى الله عليه وآله فيه: علي سيد العرب،وخير أمتي، وخير من أخلف بعدي. وعلي خير البشر، من أبى فقد كفر. ولا يجوز أن يقول هذا من تظاهرالخبر عنه بقوله عليه السلام وقد جرى بينه وبين عثمان كلام فقال له: أبوبكر وعمر خير منك، فقال: أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما. ومن قال: نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد. وروي عن عائشة في قصة الخوارج لما سألها مسروق فقال لها: بالله يا أمه لايمنعك ما بينك وبين علي أن تقولي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وفيهم (أي الخوارج) فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة. إلى غير ذلك من أقواله صلى الله عليه وآله فيه التي لو ذكرناها أجمع، لاحتجنا إلى مثل جميع كتابنا إن لم يزد على ذلك، وكل هذه الأخبار التي ذكرناها فهي مشهورة معروفة، قد رواها الخاصة والعامة، بخلاف ما ادعاه مما يتفرد به بعض الأمة ويدفعه باقيها). - وعقيدتنا أن النبي وآله صلى الله عليه وآله كانوا أناساً من نور قبل الخلق، وقد رويناه نحن ومخالفونا:
< صفحة > 69 < / صفحة >
وأشهر من رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة(2/262) عن سلمان قال: «سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين فجزء أنا وجزء علي ».
وقد بتره ابن حنبل لأن نصه كما في تاريخ دمشق(42/67): « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله، مطيعاً يسبح الله ذلك النور ويقدسه، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم ركز ذلك النور في صلبه، فلم نزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب، فجزء أنا وجزء علي ».
وهذا النص مبتور أيضاً فقد قال في شرح النهج (9/171) عن فردوس الأخبار: «رواه أحمد في المسند وفي كتاب فضائل علي. وفي كتاب الفردوس: ثم انتقلتا حتى صارتا في عبد المطلب، فكان لي النبوة ولعلي الوصية ».
كراماته عند ولادته وسنيه الأولى صلى الله عليه وآله
- سطع منه نور، ومن أمه عليهما السلام فأضاء مكة، وأبعد منها، وقد فصلته الروايات.
- ورووا قصة الحاخام يوسف الذي عرف مولده من النجوم والنصوص الدينية، وجاء يسأل فأخبروه أنه ولد لعبد المطلب ولد فطلب رؤيته فأروه إياه ورأى الشامة على كتفه فأغمي عليه، وقال ذهبت النبوة من بني إسرائيل!
- أخذه جده الى الكعبة ودعا له: (قال ابن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب فقالت قد ولد لك الليلة غلام فانظر إليه فلما جاءها أخبرته بخبره وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه فأخذه عبد المطلب فأدخله في جوف الكعبة). (شعب الإيمان للبيهقي/136).
- واستسقى به جده لأهل مكة: «فاعتضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب..فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء بمائها).(الدعاء للطبراني/606).كما استسقى به أبوطالب وقال في لاميته:
< صفحة > 70 < / صفحة >
وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
- ومن كراماته عند حليمة: (قالت حليمة: ولم أر قط ما يرى للأطفال، طهارةً ونظافةً وإنما كان له وقت واحد ثم لا يعود إلى وقته من الغد، وما كان شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه! وكان بنو سعيد يرون البركات بمقامه معهم وسكناه بينهم حتى أنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ليمسها بيده، فيزول مابها وتعود إلى أحسن حالها). (كنز الفوائد/73).
- وكان صلى الله عليه وآله يتذكر زيارته لأخواله في المدينة: « لما نظر إلى أطَمِ بني عدي بن النجار عرفه وقال:كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبرأبي عبد الله بن عبد المطلب، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار).(الطبقات (1/116):
وفي الدر النظيم/79: (وروي أن آمنة لما قدمت برسول الله صلى الله عليه وآله المدينة نزلت به في دار النابغة، لرجل من بني عدي بن النجار، فأقامت بها شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك، فقال صلى الله عليه وآله : نظرت إلى رجل من اليهود يختلف وينظر إليَّ ثم ينصرف عني، فلقيني يوماً خالياً فقال لي: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد. فنظر إلى ظهري فأسمعه يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى أخوالي فخبرهم الخبر، فأخبروا أمي، فخافت علي وخرجنا من المدينة).
رد روايتهم بأن النبي صلى الله عليه وآله تعرى
روى مخالفونا روايات مكذوبة في أن النبي صلى الله عليه وآله تعرى من ملابسه وهو كبير!
قال ابن حجر في فتح الباري (1/401): (ذكر ابن إسحاق في السيرة أنه صلى الله عليه وآله تعرى وهو صغير عند حليمة، فلكمه لا كم، فلم يعد يتعرَّ. وهذا إن ثبت حمل على نفى التعري بغير ضرورة).
وفي إرشاد الساري (1/392): (عن عمرو بن دينار الجمحي قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان ينقل معهم الحجارة أي مع قريش للكعبة، وكان عمره إذ ذاك خمساً وثلاثين سنة، وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة أي تحتها؟ قال جابر: فحله فجعله على منكبيه،
< صفحة > 71 < / صفحة >
فسقط مغشياً عليه أي لانكشاف عورته لأنه كان مجبولاً على أحسن الأخلاق من الحياء الكامل، فلذلك غشي عليه! فما رئي بعد ذلك عرياناً.
فإن قلت: ما الجمع بين حديث الباب وما ذكره ابن إسحاق من أنه تعرى وهو صغير عند حليمة فلكمه لاكم، فلم يعد يتعرى بعد ذلك؟
أجيب بأنه إن ثبت حمل النفي فيه على التعري لغير ضرورة عادية والذي في حديث الباب على الضرورة العادية , وقد اتفقوا على الإحتجاج بمرسل الصحابي إلا ما تفرد به أبوإسحاق الإسفرايني لكن في السياق ما يستأنس لأخذ ذلك من العباس فلا يكون مرسلاً).
أقول: كل هذا مردود، ولايصح الجواب عنه بالجمع بين الحديثين لأنه لاضرورة هنا لنزع إزاره. والحديث مرسل لصحابي ولم يصححه كبار العلماء!
والعجب أنهم نسبوا التعري الى النبي صلى الله عليه وآله أمام الناس وعمره خمس وثلاثون سنة! وقد رووا هم أنه لم يتعر في طفولته عند حليمة.
ويدل على كذب روايات تعري النبي صلى الله عليه وآله قول حليمة: وما كان شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه!
ويدل عليه أن بني هاشم كانوا يلبسون السراويل وأن إبراهيم عليه السلام أول من تسرول وكان يتخذ من كل لباس واحداً لكن من السراويل اثنين، كما رووا أن النبي صلى الله عليه وآله اشترى سراويل، وأمر بلبس السراويل خاصة للنساء وقال: رحم الله المتسرولات من أمتي.
ويكفينا لرد مقولاتهم ما ثبت عندنا أن الله تعالى قرن به ملكاً من أعظم ملائكته يسلك به طريق المكارم، وينهاه عما لايليق به.
- ورووا أنه ذهب ليسمر مع شباب مكة، فأنامه الله وعصمه من اللهو. روى الحاكم(4/245) عن علي عليه السلام قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ما هممت بما كان الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلاهما يعصمني الله تعالى منهما. قلت ليلةً لفتى كان معي من قريش في أعلى مكة في أغنام لأهلها نرعي: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان.
قال: نعم، فخرجت فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف وزمر،
< صفحة > 72 < / صفحة >
فقلت ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة، فلهوت بذلك الغنا والصوت، حتى غلبتني عيني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس. ثم رجعت إلى صاحبي فقال:ما فعلت؟فقلت: ما فعلت شيئاً. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فلهوت بما سمعت وغلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس! قال صلى الله عليه وآله فوالله ما هممت بعدها أبداً بسوء مما يعمل أهل الجاهلية أكرمني الله تعالى بنبوته).
أقول: لا نقبل روايتهم هذه حتى لو لم يصدر من النبي صلى الله عليه وآله ما ينافي الكمال، لأن مع النبي صلى الله عليه وآله ملكاً يسلك به طريق المكارم، وينهاه عما لا يليق به.
وقال الماوردي في أعلام النبوة/140: (هذه أحوال عصمته قبل الرسالة، وصده عن دنس الجهالة، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم، ومن الأدناس أسلم، وكفى بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة، وقد أرسله الله تعالى بعد الإستخلاص، وطهره من الأدناس، فانتفت عنه تهم الظنون، وسلم من ازدراء العيون ليكون الناس إلى إجابته أسرع، وإلى الانقياد له أطوع).
- *
< صفحة > 73 < / صفحة >
الفصل الثالث عشر : أنواع نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله
الفصل الثالث عشر
أنواع نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله
آيات في الوحي
أنواع الوحي
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلا وَحْيًا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً، فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِي حَكِيمٌ.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا.
إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.
أوحى الى أم موسى، والحواريين، والى قومه
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ.
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
والى النحل، والسماوات، والأرض
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ.
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا.
< صفحة > 74 < / صفحة >
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا.
وحي شياطين الإنس والجن الى بعضهم
كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
المعنى اللغوي للوحي
قال الخليل في العين(3/320):(وزكريا أوحى إلى قومه، أي: أشار إليهم. والإيحاء: الإشارة. والوحي: السرعة).
وفي الزاهر/654: (سمي وحياً لأن الملك ستره عن جميع الخلق وخص به النبي صلى الله عليه وآله . ثم يكون الوحي بمعنى الإلهام).
وفي الصحاح(6/2519): (والوحي أيضاً: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك. والوحي: السرعة، يمد ويقصر، وتوحَّ يا هذا، أي أسرع).
وفي المقاييس (6/93): ( أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء أو غيره إلى غيرك. وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان).
والنتيجة: أن الوحي إيصال معنى الى آخر بطريقة خفية، ففيه عنصر الخفاء، وعنصر السرعة، وهذا المعنى اللغوي هو المستعمل فيه في الشرع.
الوحي ستة أنواع
قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلا وَحْيًا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِي حَكِيمٌ.
وَحْيًا: أي يكلمه فيوحي اليه مباشرة بدون جبرئيل.
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ: أي يكلمه الله تعالى فيخلق كلامه في شيئ ويكلمه من وراء ستر.
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً: أي يكلمه برسل من الملائكة كجبرئيل وغيره عليهم السلام .
< صفحة > 75 < / صفحة >
فالوحي بالتكليم ثلاثة أنواع: بالوحي المباشر وترافقه غشوة النبي صلى الله عليه وآله ويتصبب عرقاً، وبالتكليم من وراء حجاب، وبالتكليم بالرسل.
ويضاف اليها ثلاثة أنواع بدون تكليم: بالرؤيا الصادقة، وبالنقر في السمع، وبالقذف في القلب. وهذه الأنواع الستة هي أنواع الوحي الأساسية.
وقد تفاوتت كلمات المفسرين في تعريف الوحي، والصحيح ما ذكرناه.
حالات الوحي على نبينا صلى الله عليه وآله
- قال الصدوق في الإعتقادات/81: (اعتقادنا في ذلك أن بين عيني إسرافيل لوحاً فإذا أراد الله تعالى أن يتكلم بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل، فينظرفيه فيقرأ ما فيه فيلقيه إلى ميكائيل، ويلقيه ميكائيل إلى جبرائيل، فيلقيه جبرئيل إلى الأنبياء عليهم السلام . وأما الغشوة التي كانت تأخذ النبي صلى الله عليه وآله فإنها كانت تكون عند مخاطبة الله إياه حتى يثقل ويعرق. وأما جبرئيل فإنه كان لا يدخل عليه حتى يستأذنه إكراماً له، وكان يقعد بين يديه قعدة العبد)!
- وقال في صفحة/84: (نقول: إنه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن، ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبعة عشر ألف آية).
- في التوحيد للصدوق/115: (عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أنزل عليه الوحي؟ فقال: ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد، ذاك إذا تجلى الله له. ثم قال: تلك النبوة يا زرارة، وأقبل يتخشع). أي جعل الإمام عليه السلام يئن خشوعاً.
وفي المحاسن (2/338): (عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أتاه الوحي من الله وبينهما جبرئيل يقول: هو ذا جبرئيل، وقال لي جبرئيل، وإذا أتاه الوحي وليس بينهما جبرئيل تصيبه تلك السبتة ويغشاه منه ما يغشاه، لثقل الوحي عليه من الله عز وجل).
وفي تفسير العياشي (1/288) عن علي عليه السلام : (قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بآخره، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شئ. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء وثَقُل عليه الوحي حتى وقفت وتدلى بطنها، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض، وأغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وضع يده على
< صفحة > 76 < / صفحة >
ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وعملنا).
وفي دلائل الإمامة/9:(وفي الحديث المقبول أنه صلى الله عليه وآله أوحي إليه وهو على ناقته فبركت ووضعت جرانها. وروي أنه كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً). - وفي بصائر الدرجات/390:( عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرسول فقال: الرسول الذي يعاين ملكاً يجيئه برسالة عن ربه فيكلمه كما يكلم أحدكم صاحبه، والنبي لايعاين ملكاً إنما ينزل عليه الوحي ويرى في منامه. قلت: ما علمه إذا رأى في منامه أن هذا حق؟ قال: يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق. والمحدَّث: يسمع الصوت ولا يرى شيئاً).
وفي بصائر الدرجات/390، والكافي:1/176: (سمعت زرارة يسأل أباجعفرقال: أخبـرني عن الرسول والنبي والمحدث؟ فقال أبوجعفر عليه السلام : الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلمه فهذا الرسول.
وأما النبي فإنه يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم، ونحو ما كان رأى رسول الله صلى الله عليه وآله من أسباب النبوة قبل الوحي، حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة. وكان محمد صلى الله عليه وآله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيؤه بها جبرئيل ويكلمه بها قُبُلاً. ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه يأتيه الروح فيكلمه ويحدثه من غير أن يكون رآه في اليقظة.
وأما المحدَّث: فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه). - في الكافي (5/83): (عن أبي جعفر عليه السلام قال:قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أيها الناس إني لم أدَع شيئاً يقربكم إلى الجنة و يباعدكم من النار إلاوقد نبأتكم به، ألاوإن روح القدس قد نفث في روعي وأخبرني أن لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله عز وجل وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله عز وجل، فإنه لا ينال ما عند الله جل اسمه إلا بطاعته).
< صفحة > 77 < / صفحة >
روح القدس المرافق للنبي والإمام عليهم السلام
- في بصائر الدرجات/475: (عن أبي بصير قال سألت أباعبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ؟ قال: خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده عليهم السلام ).
- وفي صفحة/479: ( قد كان في حال لايدري ما الكتاب ولا الإيمان، حتى بعث الله تلك الروح، فعلمه بها العلم والفهم).
- وفي تفسير القمي(2/279): (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلا وَحْيًا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً. قال: وحي مشافهة، ووحي إلهام وهو الذي يقع في القلب، أو من وراء حجاب كما كلم الله نبيه صلى الله عليه وآله وكما كلم الله موسى عليه السلام من النار، أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء.
وروح القدس: هي التي قال الصادق عليه السلام في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي. قال: هو ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهو مع الأئمة عليهم السلام ). - وفي التوحيد/129: (عن المفضل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى لا تقدر قدرته، ولا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه علمه ولا مبلغ عظمته وليس شئ غيره، هو نور ليس فيه ظلمة، وصدق ليس فيه كذب، وعدل ليس فيه جور، وحق ليس فيه باطل، كذلك لم يزل ولا يزال أبد الآبدين، وكذلك كان إذ لم يكن أرض ولا سماء ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر، ولا نجوم ولا سحاب ولا مطر ولا رياح، ثم إن الله تبارك وتعالى أحب أن يخلق خلقاً يعظمون عظمته ويكبرون كبرياءه ويجلون جلاله. فقال:كونا ظلين، فكانا كما قال الله تبارك وتعالى).
قال مصنف هذا الكتاب: معنى قوله هو نور، أي هو منير وهاد. ومعنى قوله: كونا ظلين، الروح المقدس والملك المقرب، والمراد به أن الله كان ولاشئ معه، فأراد أن يخلق أنبيائه وحججه وشهداءه، فخلق قبلهم الروح المقدس وهو الذي يؤيد الله عز وجل به أنبياءه وحججه وشهداءه صلوات الله عليهم، وهو الذي يحرسهم به من كيد الشيطان ووسواسه ويسددهم
< صفحة > 78 < / صفحة >
ويوفقهم ويمدهم بالخواطر الصادقة. ثم خلق الروح الأمين الذي نزل على أنبيائه بالوحي منه عز وجل، وقال لهما: كونا ظلين ظليلين لأنبيائي ورسلي وحججي وشهدائي،فكانا كما قال الله عز وجل ظلين ظليلين لأنبيائه ورسلي وحججه وشهدائه، يعينهم بهما وينصرهم على أيديهم ويحرسهم بهما، وعلى هذا المعنى قيل للسلطان العادل إنه ظل الله في أرضه لعباده يأوي إليه المظلوم ويأمن به الخائف الوجل ويأمن به السبل، وينتصف به الضعيف من القوي، وهذا هو سلطان الله وحجته التي لاتخلو الأرض منه إلى أن تقوم الساعة).
حالات الوحي والإلهام لأئمتنا عليهم السلام
- في بصائر الدرجات/337:(عن الحرث بن المغيرة النضري قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما علم عالمكم، جملة يقذف في قلبه، وينكت في أذنه؟ قال فقال: وحي كوحي أم موسى).
- في الكافي(1/264و:8/125): (كتب الإمام الكاظم عليه السلام لعلي بن سويد: وسألت عن مبلغ علمنا، وهو على ثلاثة وجوه: ماض، وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وآله ).
معناه: أن الماضي فسره لنا النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وفسرناه لكم، والغابر: أي الآتي مكتوب نصه. والحادث المتجدد: إلقاء في القلب، أو صوت ملاك في الأذن، وهو أفضل علمنا لأنه متجدد. وكلها ليست وحي نبوة، فلا نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وآله . - قال الصدوق في الإعتقادات/50:(اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام أن فيهم خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح المدرج. وفي الكافرين والبهائم ثلاثة أرواح: روح القوة، روح الشهوة، وروح المدرج).
- في الكافي(1/272): (عن جابرالجعفي قال: قال أبوعبد الله عليه السلام : يا جابر إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة أصناف وهو قول الله عز وجل:وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فالسابقون هم رسل الله عليهم السلام وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عز وجل، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على
< صفحة > 79 < / صفحة >
طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عز وجل وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون، وجعل في المؤمنين وأصحاب الميمنة روح الإيمان فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة، فبه قدروا على طاعة الله ، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون). - في مختصرالبصائر/2: ( عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق الأنبياء والأئمة عليهم السلام على خمسة أرواح روح الايمان وروح القوة وروح الشهوة وروح الحياة وروح القدس. فروح القدس من الله تعالى وسائر هذه الأرواح يصيبها الحدثان. وروح القدس لايلهو ولا يتغير ولا يلعب. فبروح القدس يا جابر علمنا ما دون العرش إلى ما تحت الثرى).
- روى الكافي(2/282) في جواب أمير المؤمنين لرجل:(خلق الله عز وجل الناس على ثلاث طبقات وأنزلهم ثلاث منازل وذلك قول الله عز وجل في الكتاب: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون، فأما ما ذكر من أمر السابقين فإنهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين، جعل الله فيهم خمسة أرواح: روح القدس، وروح الايمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح البدن).
- *
< صفحة > 80 < / صفحة >
الفصل الرابع عشر : تبسم النبي صلى الله عليه وآله وضحكه
الفصل الرابع عشر
تبسم النبي صلى الله عليه وآله وضحكه
تفسير: وإنك لعلى خلق عظيم
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ: أي إنك على دين عظيم، وعلى أخلاق عظيمة.
وعظمة الدين الإسلامي بأنه يقوم على الحق والعقل والمنطق، وبأنه يدعو الى مكارم الإخلاق، وبأن فيه شريعة وقوانين عظيمة تحقق خير البشر.
وعظمة أخلاق النبي صلى الله عليه وآله : بأنه صادق، محب، هين، لين، مبشر، منبه، محذر.
فقد كان ليِّن العريكة، هيِّن الخليقة، هشاً بشاً مبتسماً، لطيفاً ظريفاً منسجماً، يحكي باللطائف ويعجب بها، ويتبسم من الظرائف ويستحسنها.
في الخصال للصدوق/30: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حسن الخلق نصف الدين).
وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام (2/55): (قال رسول الله صلى الله عليه وآله من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع فإني سمعت جبرائيل عليه السلام يقول: إن المكر والخديعة في النار. ثم قال صلى الله عليه وآله : ليس منا من غش مسلماً، وليس منا من خان مسلماً، ثم قال صلى الله عليه وآله : إن جبرائيل الروح الأمين نزل عليَّ من عند رب العالمين فقال: يا محمد عليك بحسن الخلق، فإنه يذهب بخير الدنيا والآخرة. ألا وإن أشبهكم بي أحسنكم خلقاً).
وفي الكافي(2/99): (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : مايوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق..أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق).
وفي شرح النهج(1/26): (قال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أباحسن، فلقد كان هشاً بشاً،
< صفحة > 81 < / صفحة >
ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسواً في ارتغاء وتعيبه بذلك! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام! وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر.ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك).
وفي أمالي الصدوق/ 168، أن ثلاثة نفر من شياطين قريش تعاهدوا أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وآله فقصدهم علي عليه السلام قبل أن يصلوا فقتل أحدهم وجاء باثنين أسيرين، فأمره رسول الله أن يقتل أحدهما، ثم قال له: ( يا علي، أمسك، فإن هذا رسول ربي عز وجل يخبرني أنه حسن الخلق سخي في قومه. فقال المشرك وهو تحت السيف: هذا رسول ربك يخبرك! قال: نعم. قال: والله ما ملكت درهماً مع أخ لي قط، ولا قطبت وجهي في الحرب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : هذا ممن جره حسن خلقه وسخاؤه إلى جنات النعيم ).
ممازحة النبي صلى الله عليه وآله لبعض الناس
ورد النهي عن كثرة المزاح، وهذا منسجم مع كون المؤمن جاداً عملياً.
كما ورد النهي عن العبوس، والتقطيب، وسوء الخلق.
والأمر بالبشاشة واللين، وحسن الأخلاق، والمزاح أحياناً.
ففي الكافي(2/663): (عن يونس الشيباني: قال أبوعبد الله الصادق عليه السلام : كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟قلت: قليل. قال: فلا تفعلوا (أي لا تتركوا المزاح) فإن المداعبة من حسن الخلق، وإنك لتدخل بها السرور على أخيك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يداعب الرجل يريد أن يسره).
نهى النبي صلى الله عليه وآله عن كثرة المزاح والضحك
جو الحياة الغربية والثقافة الغربية يربي إنسانهم على السخرية والإستهزاء بالآخرين، وكثرة الكذب والضحك، والتشكيك حتى في البديهيات!
وهو على النقيض من تعاليم الإسلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله عن كثرة الضحك لأنها
< صفحة > 82 < / صفحة >
تميت القلب، وتميث الدين كما يميث الماء الملح! (الكافي:2/664).
وفي أمالي الصدوق/344: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : كثرة المزاح تذهب بماء الوجه وكثرة الضحك تمحو الإيمان).
وفي أمالي الطوسي/522: ( عن علي عليه السلام قال: كان ضحك النبي صلى الله عليه وآله التبسم، فاجتاز ذات يوم بفتية من الأنصار وإذا هم يتحدثون ويضحكون بملء أفواههم، فقال: يا هؤلاء، من غره منكم أمله وقصر به في الخير عمله، فليطلع في القبور وليعتبر بالنشور، واذكروا الموت فإنه هادم اللذات).
في قرب الإسناد للحميري/69: (أن داود قال لسليمان عليهما السلام : يا بني، إياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تترك العبد حقيراً يوم القيامة. يا بني، عليك بطول الصمت إلا من خير، فإن الندامة على طول الصمت مرة واحدة خير من الندامة على كثرة الكلام مرات. يا بني، لو أن الكلام كان من فضة كان ينبغي للصمت أن يكون من ذهب).
شجع الإسلام الدعابة وأمرَ بالإعتدال فيها وفي الضحك
روى في الكافي (2/665) عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: كان يحيى بن زكريا عليه السلام يبكي ولايضحك، وكان عيسى عليه السلام يضحك ويبكي، وكان الذي يصنع عيسى أفضل من الذي كان يصنع يحيى عليهما السلام ).
وقال الشهيد الثاني في منية المريد/207: (ويتقي كثرة المزاح والضحك، فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحرمة، ويزيل الحشمة، ويذهب العزة من القلوب، وأما القليل من المزاح فمحمود، كما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده من الأئمة المهديين، تأنيساً للجلساء وتأليفاً للقلوب، وقريب منه الضحك، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله يضحك حتى تبدو نواجذه، ولكن لا يعلو صوته).
نعيمان المزَّاح في عهد النبي صلى الله عليه وآله
في مناقب آل أبي طالب (1/129): (قال سويبط المهاجري لنعيمان البدري: أطعمني، وكان على الزاد في سفر فقال: حتى يجئ الأصحاب، فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا نعم، قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم إني حر، فإن سمعتم مقاله فلا تفسدوا
< صفحة > 83 < / صفحة >
علي عبدي، فاشتروه بعشرة قلايص ثم جاؤوا فوضعوا في عنقه حبلاً، فقال نعيمان: هذا يستهزئ بكم وإني حر، فقالوا: قد عرفنا خبرك، وانطلقوا به حتى أدركهم القوم وخلصوه! فضحك النبي صلى الله عليه وآله من ذلك حيناً.
وكان نعيمان هذا مزاحاً فسمع مخرمة بن نوفل وقد كُفَّ بصره يقول: ألا رجل يقودني حتى أبول، فأخذ نعيمان بيده فلما بلغ مؤخر المسجد قال: ههنا فبل، فبال فصيح به، فقال: من قادني؟ قيل: نعيمان، قال: لله علي أن أضربه بعصاي هذه فبلغ نعيمان فقال: هل لك في نعيمان؟ قال نعم، قال قم فقام معه فأتى به عثمان وهو يصلي فقال: دونك الرجل، فجمع يديه بالعصا ثم ضربه! فقال الناس: أمير المؤمنين فقال: من قادني؟ قالوا نعيمان، قال: لا أعود إلى نعيمان أبداً!
ورأي نعيمان مع أعرابي عكة عسل فاشتراها منه، وجاء بها إلى بيت عائشة في يومها وقال:خذوها، فتوهم النبي صلى الله عليه وآله أنه أهداها له. ومر نعيمان والأعرابي على الباب فلما طال قعوده قال: يا هؤلاء ردوها علي إن لم تحضروا قيمتها، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله القصة، فوزن له الثمن، فقال لنعيمان: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: رأيت رسول الله يحب العسل ورأيت الأعرابي معه العكة، فضحك النبي صلى الله عليه وآله ، ولم يظهر له نكراً.
ويظهر أن أباهريرة تعلم المزاح مع النبي صلى الله عليه وآله من نعيمان فقد قال في المناقب:
ونهى صلى الله عليه وآله أباهريرة عن مزاح العرب فسرق نعل النبي صلى الله عليه وآله ورهَنه بتمر وجلس بحذائه يأكل فقال صلى الله عليه وآله :يا أباهريرة ما تأكل؟فقال: نعل رسول الله).
وفي الإستيعاب لابن عبد البر(4/1527): ( قال: جاء أعرابي إلى النبي فدخل المسجد وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله لنعيمان: لو نحرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم رسول الله صلى الله عليه وآله ثمنها قال: فنحرها النعيمان، ثم خرج الأعرابي فرأى راحلته فصاح: واعقراه يا محمد! فخرج النبي صلى الله عليه وآله فقال: من فعل هذا؟ قالوا: النعيمان، فاتبعه يسأل عنه، فوجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق، وجعل عليه الجريد والسعف، فأشار إليه رجل، ورفع صوته يقول: ما رأيته يا رسول الله، وأشار بإصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله وقد تغيّر وجهه بالسعف الَّذي سقط عليه، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلَّوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح
< صفحة > 84 < / صفحة >
عن وجهه ويضحك. ثم غَرِمَها رسول الله صلى الله عليه وآله .
وكان لايدخل المدينة رسل ولا طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، هذا هدية لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه من نعيمان جاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أعط هذا ثمن هذا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله : أو لم تهده لي؟ فيقول: يا رسول الله، لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن تأكله، فيضحك النبي صلى الله عليه وآله ويأمر لصاحبه بثمنه).
فانظر الى رحمة النبي صلى الله عليه وآله وحنانه، حيث أخذ يمسح رأس نعيمان ووجهه مما علق به من ورق الشجر والسعف، ولم يوبخه، بل سأله لماذا فعل ذلك؟
وفي تاريخ دمشق(63/147): (كان نعيمان الأنصاري يدور في أسواق المدينة فإذا دخل السوق طرفة من رطب أو فاكهة أو غير ذلك اشتراه فأهداه للنبي صلى الله عليه وآله وكان فقيراً فإذا كان من آخر النهار راح إلى النبي صلى الله عليه وآله ومعه صاحب الحق فيقول يا نبي الله أعط هذا حقه من ثمن كذا وكذا فيقول له النبي صلى الله عليه وآله : أوما أهديته إلينا يا نعيمان، فيقول والذي بعثك بالحق ما معي قليل ولا كثير، ولقد رأيته فلم تطب نفسي أن أجوزه وأدعه أو يشتريه أحد فيأكله قبل رسول الله صلى الله عليه وآله . قال فيضحك رسول الله صلى الله عليه وآله ويأمر بدفع حق الرجل إليه).
وفي شرح النهج (6/332): (وكان نعيمان وهو من أهل بدر، أولع الناس بالمزاح عند رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يكثرالضحك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يدخل الجنة وهو يضحك.. وسئل النخعي: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يضحكون ويمزحون؟ فقال:نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي).
أقول: النخعي هذا، هو إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه المعروف وصاحب ابن مسعود، توفي أواخر القرن الأول (تذكرة الحفاظ للذهبي:1/73) وسؤال الناس إياه عن الصحابة: هل كانوا يضحكون ويمزحون، يدل على أن إعلام السلطة صور الصحابة بصورة الملائكة، حتى أن الناس يسألون عنهم: هل كانوا يضحكون؟!
وفي المقابل تنقص إعلامهم من أهل البيت عليهم السلام ما استطاع، لكنه فشل والحمد لله!
< صفحة > 85 < / صفحة >
نماذج من تبسم النبي صلى الله عليه وآله وضحكه
كان أكثر ضحك النبي صلى الله عليه وآله التبسم، وتبسمه أنواعٌ فمنه استحسان أمر أو شيئ ، ومنه تعجب من فعل أو قول، ومنه استنكار لفعل أو قول.
فصل جامع في آداب النبي صلى الله عليه وآله وتبسمه ومزاحه
- قال ابن شهراشوب في كتابه القيم مناقب آل أبي طالب (1/126) ملخصاً
(فصل في آدابه ومزاحه صلى الله عليه وآله : أما آدابه فقد جمعها بعض العلماء والتقطها من الأخبار: كان النبي صلى الله عليه وآله أحكم الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم. وأسخى الناس، لا يثبت عنده دينار ولا درهم، فإن فضل ولم يجد من يعطيه وجنه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه.
لا يأخذ مما أتاه الله إلا قوت عامه فقط، من يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شئ.
وكان يجلس على الأرض، وينام عليها، ويأكل عليها.وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، وبفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير ويحله، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع طهوره بالليل بيده، ولا يجلس متكئاً، وإذا جلس على الطعام جلس محقراً. وكان يجيب دعوة الحر والعبد، ولو على ذراع أو كراع، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن، ويأكلها ولا يأكل الصدقة.
وكان يلبس برداً حبرة يمنية وشملة جبة صوف، والغليظ من القطن والكتان، وأكثر ثيابه البياض، وكان له ثوب للجمعة خاصة، وكان إذا لبس جديداً أعطى خلق ثيابه مسكيناً، يلبس خاتم فضة في خنصره الأيمن. يحب البطيخ، وكان يشيع الجنائز ويعود المرضى في أقصى المدينة، يجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلا بما أمر الله، ولا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه.
وكان أكثر الناس تبسماً ما لم ينزل عليه قرآن ولم تجر عظة، وربما ضحك من غير قهقهة، ما
< صفحة > 86 < / صفحة >
شتم أحداً بشتمة ولا لعن امرأة ولا خادماً بلعنة، لا فظٌّ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يحزي بالسيئة السيئة، ولكن يغفر ويصفح، ويبدأ من لقيه بالسلام. وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته.
وكان يمزح ولا يقول إلا حقاً، قال أنس: مات نُغَيْرٌ لأبي عمير وهو ابن لأم سليم (أمه) فجعل النبي صلى الله عليه وآله يقول: يا أباعمير ما فعل النغير.
وقال رجل: إحملني يا رسول الله، فقال: إنا حاملوك على ولد ناقة، فقال: ما أصنع بولد ناقة؟ قال صلى الله عليه وآله : وهل يلد الإبل إلا النوق.
واستدبر رجلاً من ورائه وأخذ يعضده وقال: من يشتري هذا العبد؟ يعني أنه عبد الله. وقال صلى الله عليه وآله لأحد: لاتنس يا ذا الأذنين.
وقال لامرأة وذكرت زوجها: أهذا الذي في عينيه بياض؟ فقالت: لا ما بعينيه بياض، وحكت لزوجها فقال: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادها!
وقالت عجوز من الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله : أدع لي بالجنة، فقال: إن الجنة لا يدخلها العُجَّز، فبكت المرأة فضحك النبي وقال: أما سمعت قول الله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. وقال صلى الله عليه وآله للعجوز الأشجعية: يا أشجعية لا تدخل العجوز الجنة، فرآها بلال باكية فوصفها للنبي صلى الله عليه وآله فقال: والأسود كذلك! فجلسا يبكيان فرآهما العباس فذكرهما له فقال: والشيخ كذلك، ثم دعاهم وطيب قلوبهم وقال: ينشؤهم الله كأحسن ما كانوا، وذكر أنهم يدخلون الجنة شباباً منورين، وقال: إن أهل الجنة جرد مرد مكحلون.
وقال صلى الله عليه وآله لرجل حين قال:
أنت نبي الله حقـــــــــاً نعلمه * ودينك الإسلام ديناً نعظمه
نبغي مع الإسلام شيئاً نقضمه * ونحن حول هـــــــــــذا ندندن!
يا علي إقض حاجته، فأشبعه علي عليه السلام وأعطاه ناقة وجلة تمر.
وقبَّل جد خالد القسري امرأة فشكت إلى النبي صلى الله عليه وآله فأرسل إليه فاعترف وقال: إن شاءت
< صفحة > 87 < / صفحة >
أن تقتص فلتقص! فتبسم رسول الله وأصحابه فقال: أوَلا تعود؟ فقال: لا والله يا رسول الله، فتجاوز عنه.
ورأي صلى الله عليه وآله صهيباً يأكل تمراً فقال: أتأكل التمر وعينك رمدة؟ فقال: يا رسول الله إني أمضغه من هذا الجانب وتشتكي عيني من هذا الجانب.
2. مازح النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام فأجابه علي عليه السلام فتبسم
روي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يأكل رطباً مع علي عليه السلام وكان يضع النوى قدام علي عليه السلام . فلما فرغا كان النوى كله في طرف علي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : يا علي إنك لأكول! فقال علي عليه السلام : يا رسول الله! الأكول الذي يأكل التمر ونواه! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ). (كشف الأسرار:1/165).
وفي رواية أنه عليه السلام قال: آكل مني يا رسول الله من يأكل التمر بنواه!
3. وتبسم صلى الله عليه وآله للمختضبين بالورس والحناء والوسم
في الفقيه (1/123): في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، قال صلى الله عليه وآله : منه الخضاب بالسواد. وإن رجلاً دخل على رسول الله وقد صفَّر لحيته فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ما أحسن هذا، ثم دخل عليه بعد هذا وقد أقنى بالحناء، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: هذا أحسن من ذاك، ثم دخل عليه بعد ذلك وقد خضب بالسواد فضحك إليه فقال: هذا أحسن من ذاك وذاك).
4.وتبسم لما حدثت فاطمة أمها عليهما السلام وهي جنين
وسمع خديجة عليها السلام تكلم جنينها، قال لها: يا خديجة من تكلمين؟ قالت: يا رسول الله، إن الجنين الذي أنا حامل به إذا أنا خلوت به في منزلي كلمني، وحدثني من ظلمة الأحشاء. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: يا خديجة، هذا أخي جبرئيل عليه السلام يخبرني أنها ابنتي، وأنها النسمة الطاهرة المطهرة، وأن الله تعالى أمرني أن أسميها فاطمة، وسيجعل الله تعالى من ذريتها أئمة يهتدي بهم المؤمنون). (الثاقب في المناقب لابن حمزة/285).
< صفحة > 88 < / صفحة >
5. وتبسم لفاطمة عليها السلام تدور الرحى في بيتها وحدها
في الخرائج (2/531): (أن أباذر قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله أدعوعلياً، فأتيت بيته فناديته فلم يجبني، والرحى تطحن وليس معها أحد، فناديته فخرج معي وأصغى إليه رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال له رسول الله شيئاً لم أفهمه، فقلت: عجباً من رحى في بيت علي تدور ما عندها أحد! فقال: إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً ويقيناً، وإن الله علم ضعفها فأعانها على دهرها وكفاها. أما علمت أن لله ملائكة موكلين بمعونة آل محمد صلى الله عليه وآله )!
وفي رواية دلائل الإمامة/139: (قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا سلمان، إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها فتفرغت لطاعة الله عز وجل، فبعث الله ملكاً إسمه روفائيل..الخ.)
6. وتبسم لامرأة شكت زوجها العنين
في تذكرة الفقهاء ( 2/643): (عن عايشة قالت جاءت امرأة رفاعة الفرضي إلى
النبي صلى الله عليه وآله وقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبتُّ طَلْقَى، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب (عنين) فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة)؟!
7. وضحك لمذنب حمل الحسنين عليهما السلام يستشفع بهما
في مناقب آل أبي طالب(3/168)عن الإمام الباقر عليه السلام قال:( أذنب رجلٌ ذنباً في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله (ولعله سرق من بيت النبي صلى الله عليه وآله )فتغيب حتى وجد الحسن والحسين في طريق خال، فأخذهما فاحتملهما على عاتقيه وأتى بهما النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إني مستجير بالله وبهما، فضحك رسول الله حتى رد يده إلى فمه ثم قال للرجل: إذهب وأنت طليق، وقال للحسن والحسين: قد شفعتكما فيه أي فتيان، فأنزل الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوااللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوااللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).
< صفحة > 89 < / صفحة >
8. وتبسم صلى الله عليه وآله لتأمين المؤمن في كل حالاته
في أمالي الصدوق/590: (عن عبد الله بن مسعود قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ تبسم، فقلت: ما لك يا رسول الله تبسمت؟ قال: عجبت من المؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحب أن لا يزال سقيماً حتى يلقى ربه عز وجل)!
وفي رواية/640: (عجبت للمرء المسلم أنه ليس من قضاء يقضيه الله عز وجل له إلا كان خيراً له في عاقبة أمره).
9. وضحك صلى الله عليه وآله لأعرابي آمن وطمع بناقة
في كفاية الأثر/172: (عن الحسين بن علي عليه السلام قال: دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وآله
يريد الإسلام ومعه ضب قد اصطاده في البرية وجعله في كمه، فجعل النبي صلى الله عليه وآله يعرض عليه الإسلام فقال: لا أؤمن بك يا محمد أو يؤمن بك هذا الضب، ورمى الضب من كمه، فخرج الضب من المسجد يهرب! فقال النبي صلى الله عليه وآله : يا ضب من أنا؟ قال: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. قال: ياضب من تعبد؟ قال: أعبد الذي فلق الحبة وبرأ النسمة واتخذ إبراهيم خليلاً وناجى موسى كليماً واصطفاك يا محمد. فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً، فأخبرني يا رسول الله هل يكون بعدك نبي؟ قال: لا، أنا خاتم النبيين، ولكن يكون بعدي أئمة من ذريتي قوامون بالقسط كعدد نقباء بني إسرائيل أولهم علي بن أبي طالب، فهوالإمام والخليفة بعدي، وتسعة من الأئمة من صلب هذا ووضع يده على صدري، والقائم تاسعهم يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت في أوله! قال فأنشأ الأعرابي يقول:
ألا يا رسول الله أنك صادق * فبوركت مهدياً وبوركت هاديا
شرعت لنا الدين الحنيفي بعد ما * عبدنا كأمثـال الحمـير الطواغيا
فيا خير مبعوث ويا خير مرسل * إلى الإنس ثم الجن لبيك داعيا
وبوركت في الأقوام حياً وميتاً * وبوركت مولوداً وبوركت ناشيا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا أخا بني سليم هل لك مال؟ فقال: والذي أكرمك بالنبوة وخصك
< صفحة > 90 < / صفحة >
بالرسالة إنا أربعة ألف بيت في بني سليم ما فيهم أفقر مني، فحمله النبي صلى الله عليه وآله على ناقة، فرجع إلى قومه فأخبرهم بذلك قالوا: فأسلم الأعرابي طمعاً في الناقة، فبقي نومه في الصفة لم يأكل شيئاً، فلما كان من الغد تقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:
يا أيها المرء الذي لا نعدمه * أنت رسول الله حقا نعلمه
ودينك الإسلام دينا نطعمه * نبغي مع الإسلام شيئاً نقضمه
فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا علي أعط الأعرابي حاجته. قال: فحمله علي عليه السلام إلى منزل فاطمة عليها السلام وأشبعه وأعطاه ناقة وجلة تمراً).
10. تبسم لعلي عليه السلام لما اشترى منه جبرئيل عليه السلام درعه
في دلائل الإمامة/84، من حديث في زواج فاطمة وعلي عليهما السلام : (ثم قال لعلي عليه السلام : إن الله قد أمرني أن أزوجك. فقال: يا رسول الله إني لا أملك إلا سيفي وفرسي ودرعي. فقال له النبي صلى الله عليه وآله : إذهب فبع الدرع، قال فخرج علي عليه السلام فنادى على درعه، فبلغت أربعمائة درهم ودينار. قال: فاشتراها دحية بن خليفة الكلبي وكان حسن الوجه، لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحسن منه وجهاً. قال: فلما أخذ علي عليه السلام الثمن وتسلم دحية الدرع عطف دحية على علي عليه السلام فقال: أسألك يا أباالحسن أن تقبل مني هذه الدرع هدية ولا تخالفني في ذلك. قال: فحمل الدرع والدراهم، وجاء بهما إلى النبي صلى الله عليه وآله ونحن جلوس بين يديه فقال: يا رسول الله، إني بعت الدرع بأربعمائة درهم ودينار، وقد اشتراه دحية الكلبي، وقد أقسم علي أن أقبل الدرع هدية، وأيش تأمر، أقبلها منه أم لا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وقال: ليس هو دحية، لكنه جبرئيل عليه السلام ، وإن الدراهم من عند الله لتكون شرفاً وفخراً لابنتي فاطمة)!
11. ضحك صلى الله عليه وآله من شجاعة أم هاني أمام أخيها علي عليه السلام
كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليها السلام (2/638) ملخصاً:عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم، سوى نفر كانوا يؤذون النبي منهم: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن خطل وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة
< صفحة > 91 < / صفحة >
فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله. وقتل مقيس بن صبابة في السوق. وقتل علي عليه السلام إحدى القينتين وأفلتت الأخرى، وقتل أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب. وبلغه أن أم هانئ بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بني مخزوم، منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد فنادى: أخرجوا من آويتم! فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه (الحبارى طائر كبير السلحة)! فخرجت إليه أم هاني وهي لا تعرفه فقالت: يا عبد الله، أنا أم هاني بنت عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأخت علي بن أبي طالب إنصرف عن داري.فقال علي عليه السلام : أخرجوهم! فقالت: والله لأشكونك إلى رسول الله! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت: فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال لها: فاذهبي فبري قسمك فإنه بأعلى الوادي. قالت أم هاني فجئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو في قبة يغتسل وفاطمة عليها السلام تستره، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله كلامي قال: مرحباً بك يا أم هاني. قلت: بأبي وأمي ما لقيت من علي اليوم! فقال صلى الله عليه وآله : قد أجرتُ من أجرت! فقالت فاطمة عليها السلام : إنما جئت يا أم هانئ تشكين علياً في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله!فقلت:إحتمليني فديتك! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : قد شكر الله لعلي سعيه، وأجرت من أجارت أم هانئ لمكانها من علي بن أبي طالب». (إعلام الورى:1 /223).
وفي رواية: قالت بأبي أنت وأمي أترى ما لقيت من علي اليوم فحكت القصة فقال علي عليه السلام :يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبياً لقد قبضت على يدي وفيها السيف فما استطعت إن أخلصها إلا بالشدة! فضحك النبي صلى الله عليه وآله وقال:لو ولد أبوطالب الناس كلهم لكانوا شجعاناً! إنا قد أجرنا من أجارت أم هاني، وآمنا من آمنت فلا سبيل لك عليهم.
وهرب هبيرة بن أبي وهب بعل أم هاني إلى نجران، وأقام بها حتى مات بها مشركاً، ولها من هبيرة أربعة من الذكور هاني وجعدة وعمر ويوسف وأسلمت أم هاني وهاجرت إلى المدينة).
12. ضحك صلى الله عليه وآله استنكاراً لنذر امرأة نذراً غير شرعي!
في سيرة ابن هشام (3/751) أن عيينة بن حصن النجدي أغار على إبل النبي صلى الله عليه وآله وقتل راعيها الغفاري وساق الإبل، ونجت امرأة الغفاري على ناقة منها، وقالت: (يا رسول الله، إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: بئسما جزيتها
< صفحة > 92 < / صفحة >
أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحريها! إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله). وتبسمه صلى الله عليه وآله هنا استنكار لنذرها!
13. تبسم صلى الله عليه وآله من شخص أساء معه الخلق
قال القاضي عياض في الشفاء (1/90):(جاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه ديناً عليه فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم، يا بني عبد المطلب مُطْلٌ، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وآله يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث، وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعاً لما روعه فكان سبب إسلامه. ذلك أنه كان يقول: ما بقي من علامات النبوة شيئ إلا وقد عرفتها في محمد إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلماً، فاختبره بهذا فوجده كما وُصف).
14. وتبسم تعجباً من سوء توفيق عائشة
في السنن الكبرى للنسائي(4/252): (عن عائشة قالت: رجع رسول الله من جنازة وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وا رأساه! قال: بل أنا وارأساه ثم قال: وما ضرك لو مُتِّ قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك، ثم دفنتك. قلت: لكأني بك لو فعلت ذلك رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك! فتبسم رسول الله، بدئ في مرضه الذي مات فيه).
15. وتبسم لامرأة كرهت زوجها ودعا لهما
في مسند أبي يعلى(3/392)، أن امرأة شكت زوجها، فأحضره النبي صلى الله عليه وآله وقال له: (جاءت تشكو منك جفاء تشكو منك أنك لا تقربها، قال: يا رسول الله والذي أكرمك إن عهدي بها لهذه الليلة وبكت المرأة، فقالت: كذب فرق بيني وبينه، فإنه من أبغض خلق الله إليَّ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أخذ برأسه ورأسها فجمع بينهما وقال: اللهم أدن كل واحد من صاحبه. قال جابر: فلبثنا ما شاء الله أن نلبث ثم مر رسول الله صلى الله عليه وآله بالسوق فإذا نحن بامرأة تحمل أدماً فلما رأته طرحت الأدم وأقبلت إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما خلق الله
< صفحة > 93 < / صفحة >
من بشر أحب إلي منه إلا أنت).
16. وتبسم صلى الله عليه وآله لأعرابي من بني سعد
في مصنف ابن أبي شيبة (7 /210):(عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي فقال: السلام عليك يا غلام بني عبد المطلب، فقال: وعليك، فقال: إني رجل من أخوالك من بني سعد بن بكر وأنا رسول قومي إليك ووافدهم، وأنا سائلك فمشدد مسألتي إليك مناشدك مناشدتي إياك، قال: خذ عنك يا أخا بني سعد. قال: من خلقك وهو خالق من قبلك وهو خالق من بعدك؟ قال: الله، قال: نشدك بذلك أهو أرسلك؟ قال: نعم، قال: من خلق السماوات السبع والأرضين السبع وأجرى بينهن الرزق؟ قال: الله، قال: نشدتك بذلك أهو أرسلك؟ قال: نعم، قال: فإنا قد وجدنا في كتاب وأمرتنا رسلك أن نصلي في اليوم والليلة خمس صلوات لمواقيتها نشدتك بذلك أهو أمرك بذلك؟ قال: نعم، قال: فإنا وجدنا في كتابك وأمرتنا رسلك أن نأخذ من حواشي أموالنا فنردها على فقرائنا فنشدتك بذلك أهو أمرك بذلك؟ قال: نعم. ثم قال: أما الخامسة فلست بسائلك عنها ولا أرب لي فيها، قال:ثم قال: والذي بعثك بالحق لأعملن بها ومن أطاعني من قومي، ثم رجع فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بدت نواجذه، ثم قال: والذي نفسي بيده لئن صدق ليدخلن الجنة).
17. وكذبوا على النبي صلى الله عليه وآله بأنه وافق الحاخام على التجسيم وتبسم!
في كتاب السنة لابن أبي عاصم/238: (عن عبد الله بن عمرقال: جاء حبر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أبلغك أن الله تعالى يضع السماوات يوم القيامة على إصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ويقول: أنا الملك! قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ:وَمَا قَدَرُوااللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قلت لأبي الربيع: فضحك تصديقاً؟قال:نعم.
< صفحة > 94 < / صفحة >
18. وكذبوا على النبي صلى الله عليه وآله أنه جَوَّزَ المنكر وتبسم!
وذلك يوم سألته سهيلة بنت سهيل بن عمرو زعيم المشركين، وزوجة أبي حذيفة بن عتبة الذي أسلم وسكن المدينة، وكان معه مولاه سالم الفارسي المعروف بسالم مولى أبي حذيفة، فكذبت على النبي صلى الله عليه وآله بأنها سألته كيف تعيش مع سالم وهو رجل له لحية، وبيتهم غرفة واحدة، وشكت للنبي صلى الله عليه وآله أن زوجها شك فيها مع سالم، فزعمت أنه صلى الله عليه وآله قال لها: أرضعيه ليحرم عليك فتعلمت ذلك منها عائشة! فقد قالت عائشة (المحلى:10/21): (جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أرضعيه. فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: قد علمت أنه رجل كبير).
أقول: اشتهرت عائشة بفتوى إرضاع الكبير وبلغ عدد الذين أرضعتهم من أختها وزوجة أخيها نحو عشرة، فكانوا يدخلون عليها على أنهم محارم!
19. وكذبوا على النبي صلى الله عليه وآله أنه تبسم وضحك واستمع الغناء!
في مسند ابن راهويه(3/664): (سمعت عائشة تقول: كانت عندي امرأة تُسمعني (تغني لي) فدخل رسول الله على تلك الحال ثم دخل عمر فقعدت فضحك رسول الله فقال عمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فحدثه فقالت: والله لا أبرح حتى أُسمع رسول الله، فأمرها فأسمعته).
20. وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله من أجل عائشة!
في فقه السنة لسيد سابق (3/500): (أن النبي قدم عليها من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها (الرف) ستر فهبت الريح فكشفته عن بنات لعائشة لُعَب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة. قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بدت نواجذه).
أقول: رواه أبوداود والنسائي وغيرهما، ومعناه أن عائشة في حياتها مع النبي صلى الله عليه وآله كانت
< صفحة > 95 < / صفحة >
تصنع اللعب وتلعب بهن! وإنما قلنا كذبوا لأن صناعة الألعاب التي فيها صور ذوات أرواح محرم باتفاق الفقهاء. و لأن عمر عائشة لما تزوجت النبي كان سبع عشرة سنة.
21. وكذبوا على النبي صلى الله عليه وآله بأنه فضل عائشة ومدحها لأنها شتمت ضرتها!
(قالت عائشة: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وآله فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله فاستأذنت والنبي صلى الله عليه وآله مع عائشة عنها في مرطها فأذن لها فدخلت فقالت إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في بنت أبي قحافة قال: أي بنية أتحبين ما أحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبي هذه فقامت فخرجت فحدثتهم فقلن ما أغنيت عنا شيئاً، فارجعي إليه قالت: والله لا أكلمه فيها أبداً، فأرسلن زينب زوج النبي صلى الله عليه وآله فاستأذنت فأذن لها فقالت له ذلك ووقعت فيَّ زينب تسبني فطفقت أنظر هل يأذن لي النبي صلى الله عليه وآله فلم أزل حتى عرفت أن النبي صلى الله عليه وآله لا يكره أن أنتصر فوقعت بزينب فلم أنشب أن أثخنتها غلبة فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: أما إنها ابنة أبي بكر)! (الأدب المفرد للبخاري/123)
22. وحرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله غضب على عمر بأنه تبسم له !
فقد اعترض عمرعلى النبي بصلافة فأيده علماء السلطة وخطؤوا النبي صلى الله عليه وآله ! ففي كنز العمال (2/419): (من مسند عمر، عن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وآله للصلاة عليه فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا كذا والقائل يوم كذا كذا، أعدد أيامه الخبيثة، ورسول الله صلى الله عليه وآله يتبسم، حتى أكثرت عليه فقال: أخِّرْ عني يا عمر، إني خيرت فاخترت قيل لي: إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ. فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له، لزدت)!
وقد عقد البخاري في صحيحه عدة أبواب (5/206 و2 /100 و7 / 36) روى فيها روايات كثيرة لإثبات فضيلة اعتراض عمر على النبي صلى الله عليه وآله وزعم نزول الوحي موافقاً لعمر مخطِّئاً للنبي صلى الله عليه وآله !
وقد ذكر البخاري، وعمر، وابنه، والفخر الرازي، تصرف عمر الخشن وغير المعقول مع النبي صلى الله عليه وآله حيث تصدى له، ووثب اليه، ووقف أمامه، وجذبه من ثوبه! ليمنعه من الصلاة على الجنازة، وقال له: أليس نهاك الله عن هذا! وأكثر عليه الكلام! فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال: أخِّر
< صفحة > 96 < / صفحة >
عني يا عمر! لكنهم قالوا إن النبي صلى الله عليه وآله لم يغضب من عمر أبداً، بل ارتاح منه وتبسم له!
وأن موقفه كان كالمعتذر منه! وأن معنى أخر عني: أخر كلامك الآن!
قال البخاري (5/206): باب قوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ. عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنما خيرني الله فقال: إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً.. وسأزيده على السبعين. قال إنه منافق! قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ).
يريدون بذلك أن يثبتوا صواب عمر وخطأ النبي صلى الله عليه وآله فارتكبوا الكذب الصريح لأن آية: وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً، نزلت في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة بعد تبوك، وابن سلول مات في السنة الرابعة!
قال في فتح الباري (8 /252) بدون خجل: (هذا تقريرُ ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين…قال ابن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصاً على النبي صلى الله عليه وآله ومشورة إلزاماً، ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وآله أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام حتى التفت إليه متبسماً، كما في حديث ابن عباس).
ثم قال ابن الحجر:( قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال أخِّر عني، أي كلامك! واستشكل الداودي تبسمه في تلك الحالة. وجوابه: أنه عبَّر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيساً لعمر وتطييباً لقلبه، كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته)!
وقد تفوق الفخر الرازي على ابن حجر فقال تفسيره (16/151): (واعلم أن هذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه، وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة، منها آية أخذ الفداء عن أسارى بدر وقد سبق شرحه. وثانيها: آية تحريم الخمر. وثالثها: آية تحويل القبلة. ورابعها: آية أمر النسوان بالحجاب. وخامسها: هذه الآية. فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدين. فلهذا قال عليه الصلاة والسلام في
< صفحة > 97 < / صفحة >
حقه: لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً)!
أقول: قد اتخذوه نبياً ولم يبعث، وجعلوا نبوته ناسخة لنبوة نبينا صلى الله عليه وآله !
23. وصدقوا في قولهم تبسم النبي صلى الله عليه وآله من رعب عمر في حر ب الخندق
قال سليم بن قيس/249: (قال علي عليه السلام للزبير: وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن، ولا فتح ولا نصر، غير مرة واحدة فرَّ ومنح عدوه دبره، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه، وقد فر مراراً، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير وأمر ونهى! ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله صلى الله عليه وآله مما رأى به من الرعب وقال: أين حبيبي علي؟ تقدم يا حبيبي يا علي).
ناداه ابن ود: أي دعاه الى مبارزته فارتعب ارتعاباً تبسم منه النبي صلى الله عليه وآله .
24. وصدقوا في قولهم تبسم النبي صلى الله عليه وآله من قول عمر في حنين
فقد فرَّ المسلمون في حنين كلهم إلا النبي صلى الله عليه وآله وبنو هاشم، كما قال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.
ولم ينزل السكينة على الفارين!
وقال الواقدي في المغازي(2/904):(قالت أم الحارث: فمر بي عمر بن الخطاب فقلت: يا عمر ما هذا فقال عمر: أمر الله)! وروي عن نسيبة أيضاً.
ودافع بنو هاشم عن النبي صلى الله عليه وآله وكان علي عليه السلام يقاتل وحده، يحمل على صاحب الراية في هوازن فيقتله ويأسر منهم ثم يرجع الى النبي صلى الله عليه وآله حتى قتل أربعين من حملة راياتهم فوقعت فيهم الهزيمة. قال ابن هشام (4/896): « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله صلى الله عليه وآله »!
أقول: فمن الذي أسرهم وكتَّفهم قبل رجوع الفارِّين والكل فارُّون ما عدا بني هاشم وكانوا
< صفحة > 98 < / صفحة >
محيطين بالنبي صلى الله عليه وآله يحرسونه، وعلي عليه السلام وحده يغوص غمار المعركة! يساعده: جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا. وقد زعموا أن ثمانين من الفارين أو مئة رجعوا قبل غيرهم، ونسبوا بطولات علي عليه السلام أو قسماً منها إليهم! لكنهم لم يسموا منهم أحداً إلا عبد الله بن مسعود، وهو ضعيف البنية صغير الجثة، غير مقاتل! ثم نسبوا النصر إلى دعاء النبي صلى الله عليه وآله وإلقائه حفنة الحصى والتراب على جيش هوازن وهو صحيح، لكنه لا يلغي دور علي عليه السلام الأساسي!
وعلى قاعدة الغنيمة لمن قاتل، فعامة غنائم هوازن لعلي عليه السلام . لكن عندما رجع أبوبكر وعمر من فرارهما، أخذا يتدخلان في الغنائم كأنهما صاحباها!
«قال أبوقتادة: يا رسول الله إني ضربت رجلاً على جبل العاتق وعليه درع له قد تحصفت عنه فأعجلت عنه قال فانظر من أخذها، فقام رجل فقال: أنا أخذتها فأرضه عنها فلو أعطيتنيها؟ فسكت رسول الله فقال عمر:لاوالله لايفيؤها الله على أسد من أسده ويعطيكها! فضحك رسول الله» (كنز العمال:10/552) أي ضحك من تدخل عمر وقد عاد لتوه من الفرار!
وقد رواها البخاري (3 / 16) وحذف منها ذكر أبي بكر وعمر ستراً عليهما!
25. وصدقوا في أن عمر ضحك حتى انقلب على ظهره فتبسم النبي صلى الله عليه وآله
بعد فتح مكة جاءت نساء قريش ليبايعن النبي صلى الله عليه وآله ، وجاءت هند بنت عتبة متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً أن يعرفها رسول الله صلى الله عليه وآله !
قال الثعلبي (9/297) في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّاللهَ إِنَّاللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: (وذلك يوم فتح مكة لما فرغ الرسول صلى الله عليه وآله من بيعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة مستنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله أن يعرفها فقال النبي صلى الله عليه وآله : أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً، فرفعت هند رأسها وقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي صلى الله عليه وآله : ولا تسرقن. فقالت هند: إن أباسفيان رجل شحيح وإني أصيب من
< صفحة > 99 < / صفحة >
ماله هنات ولا أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبوسفيان: ما أصبت من شيئ فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فأعفُ عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: ولا يزنين. فقالت هند: أوتزني الحرة! فضحك عمرحتى استلقى[على قفاه] وتبسّم النبي صلى الله عليه وآله فقال: ولا يقتلن أولادهن. فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فقال: ولا يأتين ببهتان يفترينهُ بين أيديهن وأرجلهن. وهو أن تقذف ولداً على زوجها وليس منه، فقالت هند: والله إنَّ البهتان يقبح وما تأمرنا إلاّ بمكارم الأخلاق. وقال: ولا يعصينك في معروف. فقالت: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيئ، فأقر النسوة بما أخد عليهن). وتفسير الآلوسي(28/81) وتاريخ دمشق(70/182) وتخريج الأحاديث للزيلعي(3/461). وفي أعيان الشيعة (1/277): (فتبسم بعض من حضر، لما كان بينه وبينها في الجاهلية)!
- *
حديث أن النبي صلى الله عليه وآله ما رؤي بعدها ضاحكاً!
رووا أنه صلى الله عليه وآله بعد أن نزلت عليه سورة هود ما رؤي ضاحكاً.
ورووا أنه بعد أن نزلت فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ.. ما رؤي ضاحكاً.
ورووا أنه بعد أن رأى مالكاً خازن النار ما رؤي ضاحكاً.
ورووا أنه بعد أن نزلت عليه سورة النصر ما رؤي ضاحكاً.
ورووا أن الله تعالى أراه طرفاً من مصيبته بأمته فما رؤي ضاحكاً.
ورووا أنه بعد أن رأى القردة ينزون على منبره ما رؤي ضاحكاً.
وقد تصل المناسبات المروية لحزن النبي صلى الله عليه وآله وامتناعه عن الضحك الى آخر عمره الشريف الى عشر مناسبات وأكثر، وهذا يدل على كذبهم لتضييع سبب حزنه الحقيقي، ولا حافظة لكذوب، فزمن بعضها في مكة لما نزلت سورة هود أو الزخرف، وبعضها في المدينة، وبعضها مجهول الوقت.
ومما يثبت كذبها أنه صلى الله عليه وآله كان في مكة والمدينة يتبسم ويضحك الى أواخر عمره الشريف، حتى رأى الشجرة الملعونة والقردة تحكم بعده وتنزو على منبره، وحتى رآهم يرفضون أن
< صفحة > 100 < / صفحة >
يكتب لهم عهداً، وقالوا أنه خَرِفٌ يهجر!
فقد روى الجميع أنه صلى الله عليه وآله رأى قردةً يحكمون أمته بعده، ونزل قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا.
ثم مرض مرض الوفاة فدعا المسلمين ليكتب لهم عهده، فواجهه عمر والطلقاء بالعصيان ومنعوه أن يكتب وصيته وعهده، وقالوا إنه يهجر، وقالوا إستفهموه فليتكلم لنثبت لكم أنه يهجر، فأمره جبرئيل عليه السلام أن يطردهم فطردهم وقال لهم قوموا عني!
وقد روى البخاري حديث رزية يوم الخميس في سبعة مواضع.
وفي تلك المدة لم يُرَ ضاحكاً بل كان مغموماً، جاءه جبرئيل وهو مريض (أمالي الصدوق/348 والبيهقي وغيرهما): (فقال:يا أحمد، إن الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك خاصة، يسألك عما هو أعلم به منك يقول:كيف تجدك يا محمد؟ قال النبي صلى الله عليه وآله : أجدني يا جبرئيل مغموماً، وأجدني يا جبرئيل مكروباً).
وطبيعي أن يكون مغموماً مكروباً وقد رأى أمته تركوه وأطاعوا زعيم الطلقاء، وصاحوا بوجهه: القول ما قاله عمر لا نريد أن تكتب لنا كتاباً حسبنا كتاب الله!
أما قبل رؤيا القرود ورزية الخميس، فكان يتبسم ويضحك، كما في سيرته صلى الله عليه وآله !
ومما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله
قول الإمام الصادق عليه السلام كما في مقدمة الصحيفة السجادية بسند صحيح: (إن أبي حدثني عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذته نعسة وهو على منبره، فرأى رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول الله صلى الله عليه وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه السلام بهذه الآية وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا. يعني بني أمية. فقال: يا جبرئيل أعلى عهدي يكونون وفي زمني؟ قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثم تدور رحى الاسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك، فتلبث بذلك خمساً، ثم لا بد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها، ثم ملك الفراعنة.
< صفحة > 101 < / صفحة >
قال: وأنزل الله تعالى في ذلك: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تملكها بنو أمية ليس فيها ليلة القدر.قال: فأطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله أن بني أمية تملك سلطان هذه الأمة، وملكها طول هذه المدة فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا، وأخبر الله نبيه بما يلقى أهل بيت محمد وأهل مودتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم.
قال: وأنزل الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ.
ونعمة الله: محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله حبهم إيمان يدخل الجنة، وبغضهم كفر ونفاق يدخل النار. فأسر رسول الله ذلك إلى علي وأهل بيته عليهم السلام ).
وفي كتاب سليم بن قيس/308، من رسالة علي عليه السلام لمعاوية: (ونزل فيكم قول الله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ، وذلك حين رآى رسول الله صلى الله عليه وآله اثني عشر إماماً من أئمة الضلالة على منبره يردون الناس على أدبارهم القهقرى، رجلان من حيين مختلفين من قريش وعشرة من بني أمية، أول العشرة صاحبك الذي تطلب بدمه وأنت وابنك وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص أولهم مروان، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وطرده وما ولد حين استمع لنساء رسول الله صلى الله عليه وآله ..).
وفي تاريخ الطبري(8/185): (ومنه الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله فوجم لها فما رؤي ضاحكاً بعدها فأنزل الله:وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فذكروا أنه رأى نفراً من بنى أمية ينزون على منبره. ومنه طرد رسول الله صلى الله عليه وآله الحكم بن أبي العاص لحكايته إياه وألحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يتخلج فقال له: كن كما أنت، فبقي على ذلك سائر عمره)!
وروى الجميع أن مالك خازن النار لم يضحك للنبي صلى الله عليه وآله
في تفسير القمي(2/4)في حديث المعراج بسند صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (وتلقتني الملائكة حتى دخلت سماء الدنيا فما لقيني ملك إلا كان ضاحكاً مستبشراً حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقاً منه كريه المنظر ظاهر الغضب، فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلا أنه لم يضحك
< صفحة > 102 < / صفحة >
ولم أر فيه من الإستبشار وما رأيت ممن ضحك من الملائكة، فقلت من هذا يا جبرئيل؟ فإني قد فزعت! فقال: يجوز أن تفزع منه، وكلنا نفزع منه، هذا مالك خازن النار لم يضحك قط ولم يزل منذ ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله وأهل معصيته فينتقم الله به منهم، ولو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكاً لاحد بعدك لضحك إليك ولكنه لا يضحك، فسلمت عليه فرد علي السلام وبشرني بالجنة، فقلت لجبرئيل وجبرئيل بالمكان الذي وصفه الله مطاع ثم أمين، ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمداً النار، فكشف عنها غطاءها وفتح بابا منها، فخرج منها لهب ساطع في السماء، وفارت فارتعدت حتى ظننت لتتناولني مما رأيت، فقلت له يا جبرئيل قل له فليرد عليها غطاءها فأمرها فقال لها ارجعي فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه).
وتفسيره أن معراج النبي صلى الله عليه وآله كان مئة وعشرين مرة، ويظهر أن هذا المعراج الذي رأى فيه طرفاً من النار كان في أواخر حياته.
وتفردت رواية النعماني بأن خازن النار تبسم للنبي صلى الله عليه وآله
في غيبة النعماني/102، من حديث علي عليه السلام لليهودي عن معراج النبي صلى الله عليه وآله قال: (مرَّ بمالك ولم يضحك منذ خلق قط، فقال له جبرئيل: يا مالك، هذا نبي الرحمة محمد، فتبسم في وجهه ولم يتبسم لأحد غيره! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : مره أن يكشف طبقاً من النار، فكشف طبقاً فإذا قابيل ونمرود وفرعون وهامان فقالوا:يا محمد إسأل ربك أن يردنا إلى دار الدنيا حتى نعمل صالحاً، فغضب جبرئيل عليه السلام ، فقال بريشة من ريش جناحه فرد عليهم طبق النار).
أقول: هذا الحديث المنفرد أقرب عندي، وسنده يمكن تصحيحه:أخبرنا أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الكوفي، قال: حدثنا محمد بن المفضل بن إبراهيم بن قيس بن رمانة الأشعري من كتابه قال: حدثنا إبراهيم بن مهزم، قال: حدثنا خاقان بن سليمان الخزاز، عن إبراهيم بن أبي يحيى المدني، عن أبي هارون العبدي، عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعن أبي الطفيل قالا..).
وهذه نماذج من روايتهم المزعومة في سبب حزنه صلى الله عليه وآله الى آخر عمره!
- *
< صفحة > 103 < / صفحة >
فقد رووا أن النبي صلى الله عليه وآله لم يضحك بعد آية: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
ففى الدر المنثور (3/320): (وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عمران بن حصين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه: قد أسرع إليك الشيب قال شيبتني هود وأخواتها.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شيبتني هود وأخواتها، وما فعل بالأمم قبلي!
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وأبوالشيخ عن أبي عمران الجوني قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شيبتني هود وأخواتها وذكر يوم القيامة وقصص الأمم.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي على السري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله روى عنك إنك قلت شيبتني هود؟ قال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منه قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).
وفي الدر المنثور(3/351): (أخرج ابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ، قال: شمروا شمروا فما رؤي ضاحكاً).وسبل الهدى (7/58) وفتح القدير(2/532).
ورووا أن النبي صلى الله عليه وآله لم يضحك بعد آية: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ
في الدر المنثور(6/18):( أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن قتادة في قوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ. قال أنس: رأى ما يصيب أمته بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتى قبض). وتفسير ابن كثير(7/229) وتفسير البغوي (4/140) وتفسير السمرقندي(3/346)، وعامة التفاسير.
نعم قد يكون لذلك علاقة بمصيبته بأمته فقد صح أنه صلى الله عليه وآله أري مصيبته بأمته وانحرافها بعده، فحزن ولم يضحك، وهو يؤيد ما اخترناه.
وسيأتي في الفصل السبعين تفسير قوله صلى الله عليه وآله ثلاثة أيام : ياجبرئيل أجدني مغموماً مكروباً!
- *
< صفحة > 104 < / صفحة >
الفصل الخامس عشر : متى غضب النبي صلى الله عليه وآله
الفصل الخامس عشر
متى غضب النبي صلى الله عليه وآله
1. غضب لقول اليهود إن الله استراح!
في أسباب االنزول للواحدي/266، والحاكم(2/543):(عن ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وآله فسألت عن خلق السماوات والأرض فقال:خلق الله الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق السماوات يوم الأربعاء والخميس، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر، قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو تممت ثم استراح! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله غضباً شديداً، فنزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ).
وفي تفسير الطبري(30/447): (أتى رهط من اليهود النبي فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبي حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضباً لربه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه، وقال: إخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه.
قال يقول الله: قُلْ هُوَاللَّهُ أَحَدٌ. الله الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
فلما تلى عليهم النبي قالوا:صف لنا ربك، كيف خلقه، وكيف عضده، وكيف ذراعه، فغضب النبي صلى الله عليه وآله أشد من غضبه الأول وساورهم غضباً (زاد عليهم) فأتاه جبريل عليه السلام فقال له مثل مقالته وأتاه بجواب ما سألوه عنه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
< صفحة > 105 < / صفحة >
2. غضب على خالد لما أهان عمار بن ياسر
روى الحاكم (3/291) عن الأشتر قال: (ابتدأنا خالد بن الوليد من غيرأن أسأله قال: ما أتى عليَّ يوم قط كان أعظم عليَّ من شأن عمار، لما كان يوم بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله في أناس من أصحابه وأمَّرني عليهم وكان في القوم عمار فأصبنا قوماً فيهم أهل بيت من المسلمين فكلمني فيهم عمار وناس من المسلمين قالوا خل سبيلهم، قلت: لا والله لا أفعل حتى يراهم رسول الله فيرى فيهم رأيه، فغضب عليَّ عمار فلما قدمت استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وآله فهو يستخبرني وأنا أحدثه، فاستأذن عمار فأذن له فدخل عمار فقال: يا رسول الله ألم تر خالداً فعل كذا وفعل كذا، فقلت:يا رسول الله أما والله لولا مجلسك ما سبني ابن سمية! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يا عمار أخرج فخرج عمار وهو يبكي ويقول: ما نصرني رسول الله صلى الله عليه وآله على خالد! فقال لي رسول الله: ألا أجبت الرجل، قلت: ما منعني أن أجبته ألا محقرة له،فغضب رسول الله فقال إنه من يبغض عماراً يبغضه الله، ومن يسب عماراً يسبه الله، ومن يحقر عماراً يحقره الله! فخرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وآله فلم أزل أطلب إلى عمار حتى استغفر لي).
3. غضب لما قال المنافقون عنه إنه نخلة نبتت في مزبلة!
وكان ذلك في السنة الأخيرة من حياته الشريفة، حيث تكاثر الطلقاء في المدينة وبلغوا بضعة آلاف، وأخذوا يطعنون في أسرة النبي صلى الله عليه وآله ويقولون إن محمداً نخلة نبتت في كناسة! ونشطوا في العمل لعزل أهل بيته عليهم السلام والسيطرة على الدولة بمجرد وفاته صلى الله عليه وآله ! فقد روى أتباع السلطة نُتَفاً من الحديث، ولم يسموا الذي قال ذلك! كما حذفوا مديح النبي لبني هاشم وعلي عليه السلام !
ومن ذلك ما رواه أحمد(4/166) ورجاله رجال الصحيح، قال:« أتى ناس من الأنصار النبي صلى الله عليه وآله فقالوا: إنا لنسمع من قومك حتى يقول القائل منهم إنما مثل محمد مثل نخلة نبتت في كباء (مزبلة)فقال رسول الله: أيها الناس من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله. قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. ألا إن الله عز وجل خلق خلقه فجعلني من خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً وأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً ».
< صفحة > 106 < / صفحة >
ورواه الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبونعيم والبيهقي، وفيه:« ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً، فذلك قوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب».( الدر المنثور:5/199).
وروى في مجمع الزوائد(8/215)نحوه عن ابن عمر قال: ( إنا لقعود بفناء رسول الله صلى الله عليه وآله إذ مرت امرأة فقال رجل من القوم: هذه ابنة محمد! فقال رجل من القوم: إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي فجاء النبي صلى الله عليه وآله يعرف في وجهه الغضب ثم قام على القوم فقال: ما بال أقوال تبلغني عن أقوام… الخ.
وفيه: عن ابن عباس أن صفية عمة النبي صلى الله عليه وآله شكت له فقالت: ( استقبلني عمر بن الخطاب فقال إن قرابتك من رسول الله لن تغني عنك من الله شيئاً! قال فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا بلال هجر بالصلاة! فهجر بلال بالصلاة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع! كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي، فإنها موصولة في الدنيا والآخرة.. قال: فلما سمعت الأنصار بذلك قالت قوموا فخذوا السلاح فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أغضب! قال فأخذوا السلاح ثم أتوا النبي لا ترى منهم إلا الحدق حتى أحاطوا بالناس فجعلوهم في مثل الحرجة، حتى تضايقت بهم أبواب المساجد والسكك، ثم قاموا بين يدي رسول الله فقالوا: يا رسول الله لا تأمرنا بأحد إلا أبرنا عترته! فلما رأى النفر من قريش ذلك قاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فاعتذروا وتنصلوا).
وفي مسند أحمد (1 / 207) أن العباس شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: (يارسول الله إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها! قال فغضب النبي غضباً شديداً وقال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله). وفيه: فغضب رسول الله ودرَّ عِرْقٌ بين عينيه). والترمذي (5/317) وصححه. والنسائي في فضائل الصحابة/22، والحاكم(3/ 333، وابن شيبة(7/518) والطبراني الكبير(20 / 285) وغيرهم كثير.
وفي الدر المنثور(2/335): (عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وهو غضبان محمارٌّ وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين آبائي؟ قال في النار! فقام آخر فقال من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن
< صفحة > 107 < / صفحة >
إماماً، إنا يا رسول الله حديثُ عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم من آباؤنا! فسكن غضبه).
وقد أخفى الرواة الكثير والخطير من هذه الحادثة! فقد أحضر النبي صلى الله عليه وآله الأنصار بالسلاح، وحصر قريشاً في المسجد، وخطب خطبة طويلة وبيَّن مكانة عترته عليهم السلام وأسرته عند الله تعالى! وكان معه جبرئيل عليه السلام وطعن في أنساب قريش وتحدى صاحب المقولة أن يسأله من أبوه، وأصرَّ عليهم فخاف عمر!
وروته مصادرنا بتفصيل كرواية النيشابوري في الفضائل/134:(عن علي عليه السلام قال: مررت بفلان يوماً فقال لي: ما مثل محمد في أهل بيته إلا كمثل نخلة نبتت في كناسة! قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله فذكرت ذلك له فغضب غضباً شديداً، فقام فخرج مغضباً وصعد المنبر ففزعت الأنصار ولبسوا السلاح لما رأوا من غضبه، ثم قال: ما بال أقوام يعيرون أهل بيتي! وقد سمعوني أقول في فضلهم ما أقول وخصصتهم بما خصهم الله تعالى به، وفضل علياً عليهم بالكرامة، وسبقه إلى الإسلام وبلائه، وأنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي! ثم إنهم يزعمون أن مثلي في أهل بيتي كمثل نخلة نبتت في كناسة! ألا إن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه وفرقهم فرقتين، وجعلني في خيرها شعباً وخيرها قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً، حتى حصلت في أهل بيتي وعشيرتي وبني أبي ، أنا وأخي علي بن أبي طالب.أنا خير النبيين والمرسلين، وعلي خير الوصيين، وأهل بيتي خير بيوت أهل النبيين، وفاطمة ابنتي سيدة نساء أهل الجنة أجمعين.
أيها الناس: أترجون شفاعتي لكم وأعجز عن أهل بيتي.
أيها الناس: لو أخذت بحلقة باب الجنة ثم تجلى لي الله عز وجل، فسجدت بين يديه، ثم أذن لي في الشفاعة، لم أوثر على أهل بيتي أحداً.
أيها الناس: عظموا أهل بيتي في حياتي وبعد مماتي، وأكرموهم وفضلوهم لا يحل لأحد أن يقوم لأحد غير أهل بيتي، فانسبوني من أنا!
قال فقام الأنصار وقد أخذوا بأيديهم السلاح، وقالوا: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، أخبرنا يا رسول الله من آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه! قال:سلوني، والله لا يسألني رجل إلا أخبرته عن نسبه وعن أبيه! فقام إليه رجل فقال: من أنا يا رسول الله؟ فقال:
< صفحة > 108 < / صفحة >
أبوك فلان [لا] الذي تدعى إليه! قال فارتد الرجل عن الإسلام.
ثم قال صلى الله عليه وآله والغضب ظاهر في وجهه: ما يمنع هذا الرجل الذي يعيب على أهل بيتي وأهلي وأخي ووزيري وخليفتي من بعدي وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي، أن يقوم ويسألني عن أبيه، وأين هو في جنة أم في نار!
قال فعند ذلك خشي فلان على نفسه أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وآله ويفضحه بين الناس فقام وقال: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، ونعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، أعف عنا عفى الله عنك، أقلنا أقالك الله، أسترنا سترك الله، إصفح عنا جعلنا الله فداك. فاستحيا النبي صلى الله عليه وآله وسكت، فإنه كان من أهل الحلم وأهل الكرم وأهل العفو. ثم نزل) !
4. غضب لما تجسس أبوبكر وعمر عن شأنه الشخصي!
في الكافي(5/565)عن الإمام الصادق عليه السلام قال: « إن أبابكر وعمر أتيا أم سلمة فقالا لها: يا أم سلمة إنك قد كنت عند رجل قبل رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف رسول الله من ذاك في الخلوة؟ فقالت: ما هو إلا كسائر الرجال! ثم خرجا عنها وأقبل النبي صلى الله عليه وآله فقامت إليه مبادرة فرقاً أن ينزل أمر من السماء فأخبرته الخبر، فغضب رسول الله حتى تربد وجهه والتوى عرق الغضب بين عينيه، وخرج وهو يجر رداؤه حتى صعد المنبر وبادرت الأنصار بالسلاح وأمروا بخيلهم أن تُحضر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال أقوام يتبعون عيبي ويسألون عن غيبي!
والله إني لأكرمكم حسباً وأطهركم مولداً وأنصحكم لله في الغيب، ولا يسألني أحد منكم عن أبيه إلا أخبرته. فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ فقال: فلان الراعي! فقام إليه آخر فقال: من أبي؟ فقال: غلامكم الأسود!وقام إليه الثالث فقال: من أبي؟ فقال: الذي تنسب إليه!
فقالت الأنصار: يا رسول الله أعف عنا عفا الله عنك، فإن الله بعثك رحمة فاعف عنا عفا الله عنك! وكان النبي صلى الله عليه وآله إذا كلم استحيا وعرق وغض طرفه عن الناس حياء حين كلموه فنزل.
فلما كان في السحر هبط عليه جبرئيل عليه السلام بصحفة من الجنة فيها هريسة فقال:يا محمد هذه عملها لك الحور العين فكلها أنت وعلي وذريتكما، فإنه لايصلح أن يأكلها غيركم. فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فأكلوا فأعطي رسول الله في المباضعة من
< صفحة > 109 < / صفحة >
تلك الأكلة قوة أربعين رجلاً، فكان إذا شاء غشي نساءه كلهن في ليلة واحدة ».
5. غضب من حفلة خمر أقامها الصحابة قبيل وفاته!
من عجائب رواة السلطة أنهم رووا أن أبابكر وعمر شربا الخمر وغنيا بشعر ينوح على قتلى المشركين في بدر، فجاء النبي صلى الله عليه وآله غاضباً وبيده سعفة أو مكنسة يريد أن يضربهم بها، والحديث صحيح عندهم!
فقد رواه تمام الرازي، في كتابه الفوائد (2 / 228) وفي طبعة (3/481) بسند صحيح عن أبي القموص قال: شرب أبوبكر الخمر قبل أن تحرم فأخذت فيه، فأنشأ يقول:
تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ * وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني أصطبح يا بكر أني * رأيت الموت نقَّبَ عن هشام
فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ * بألف من رجال أو سوام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من القينات والخيل الكرام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من الشيزى تُكلل بالسنام
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه، فلما نظر إليه قال: أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله والله لا يلج لي رأساً أبداً!
فذهب عن رسول الله ما كان فيه وخرج ونزل عليه: فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون! فقال عمر: انتهينا والله ».ورواها ابن هشام(2/549)، وفيها إنكار الآخرة قال:
يخبرنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ »!
ورواه ابن حجر في الإصابة(7/39) وفيه: « شرب أبوبكر الخمر فأنشأ يقول: فذكر الأبيات.. فبلغ ذلك رسول الله فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبي بكر، فلما نظر إلى وجهه محمراً، قال: نعوذ بالله من غضب رسول الله، والله لا يلج لنا رأساً أبداً، فكان أول من حرمها على نفسه! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال: شرب أبوبكر الخمر قبل أن تحرم، ورثى قتلى بدر من المشركين »!
< صفحة > 110 < / صفحة >
وذكر ابن حجر في فتح الباري(10/31) أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت أبي طلحة، وكانوا عشرة صحابة أو أكثر، وكان ساقيهم أنس بن مالك!
ثم قال: « عن أنس: كنت أسقي أباعبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة. ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس… ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس، أن أبابكر وعمر كانا فيهم! وهو منكر، مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطاً »!
يقصد ابن حجر أن حديث شرب أبي بكر وعمر للخمر صحيح السند، لكن معناه مستنكر! لكن إذا صح سند الحديث فلا قيمة لاستغراب معناه!
وكانت القصة عند نزول سورة المائدة، أي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله بشهر أو شهرين! لأن آية: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، من سورة المائدة وهي آخر ما نزل من القرآن!
كما نلاحظ أن القصة اشتهرت فاهتمت عائشة بنفي نظم أبيها للأبيات، وقالت إن أم بكر كانت زوجة سابقة لأبيها! وقد فصلنا الموضوع في السيرة النبوية (1/90).
6. غضب لما جاءه عمر بجزء من التوراة مترجم ليتبناه!
كان عمر معجباً بثقافة اليهود، حتى في حياة النبي صلى الله عليه وآله ! وكان يدرسُ عندهم في المدينة! وقد عرَّبوا له بعض التوراة واتى بها، فغضب رسول الله وزجره! وسماه وجماعته المتهوكين. ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله مرات، فمرة قال: كتبها لي أخ من بني زريق، وفي بعضها من بني قريظة، وفي بعضها انتسختها، وفي بعضها نسخها لي رجل في خيبر أي يهودي!
قال في مجمع الزوائد(1/173): (انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله: ما هذا الذي في يدك يا عمر؟ قال قلت:يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا! فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار أغضب نبيكم السلاح السلاح! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله فقال: يا أيها الناس: إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء
< صفحة > 111 < / صفحة >
نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون! قال عمر فقمت فقلت رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله ).
وفي رواية: قال عبد الله يعني ابن ثابت فقلت:ألا ترى ما بوجه رسول الله! قال فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً. قال فسريَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم. أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين).
وفي رواية: (الدر المنثور:5/148): (أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها)!
وقد استوفينا بحث الموضوع في كتاب تدوين القرآن/415.
7. غضب لما تكلم ابن شاس وابن وقاص على علي عليه السلام !
في مجمع الزوائد(9/129): (عن أبي رافع قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله علياً أميراً على اليمن وخرج معه رجل من أسلم يقال له عمرو بن شاس فرجع وهو يذم علياً ويشكوه، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إخسأ يا عمرو! هل رأيت من على جوراً في حكمه، أو أثرة في قسمه؟ قال: اللهم لا! قال: فعلام تقول الذي بلغني قال: بغضه لا أملك. قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال: من أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله تعالى.
وعن سعد بن أبي وقاص قال كنت جالساً في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله غضبان يعرف في وجهه الغضب فتعوذت بالله من غضبه فقال: مالكم ومالي! من آذى علياً فقد آذاني).
8. غضب لما جاءه بريدة برسالة من خالد يشكو علياً عليه السلام
من فعاليات قريش بعد فتح مكة، حملتهم في الطعن بعلي عليه السلام والإفتراء عليه، ففي مصادرهم أكثر من عشرين مفردة في ذلك! منها افتراؤهم عليه بأنه خطبَ بنت أبي جهل فغضب النبي صلى الله عليه وآله وهدد بأن يطلق منه ابنته!
< صفحة > 112 < / صفحة >
وقد اتفقت مصادرهم على روايتها! وأخذ فقهاؤهم يفسرون غضب النبي المزعوم وكيف خالف القرآن ومنع صهره أن يتزوج على ابنته! وقد فنَّدَ روايتهم آية الله السيد الميلاني وأثبت كذبها، في رسالته: حديث خطبة علي بنت أبي جهل! وقال عن أصل الكذبة: ( أخرج البخاري هذا الحديث في غير موضع من كتابه…أن علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها السلام فسمعتُ رسول الله يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها.والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله أبداً.سمعت رسول الله يقول وهو على المنبر: إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم! فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها.
إن علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكح بنت أبي جهل! فقام رسول الله فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد، أنكحت أباالعاص بن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها! والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد! فترك علي الخطبة). ( فتح الباري:6 /161، و: 7 / 68، و:9 /268).
ومن مفردات افترائهم: حديث بريدة الأسلمي، وصححوه أيضاً، وبحثناه في العقائد الإسلامية(4/ 93)، والإنتصار (7/97) وهو حجة بالغة على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام .
قال بريدة كما في مسند أحمد (5/356): (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بعثين إلى اليمن على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد فقال: إذا التقيتم فعليٌّ على الناس، وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده، فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، فاصطفى عليٌّ امرأة من السبي لنفسه قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره بذلك فلما أتيت النبي صلى الله عليه وآله دفعت الكتاب فقرئ عليه فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت يا رسول الله هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه ففعلت ما أرسلت به فقال رسول الله: لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي، وإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي). وفي الطبري(2/389): ( فأقام عليه خالد
< صفحة > 113 < / صفحة >
ستة أشهر لايجيبونه إلى شئ، فبعث النبي علي بن أبي طالب).
وفي مسند أحمد(5/351): (قال فأمسك النبي يدي والكتاب وقال: أتبغض علياً؟ قال: قلت: نعم، قال: فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة! قال: فما كان أحد من الناس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله أحب إلي من علي). وتاريخ دمشق(42/196) وأسد الغابة(1/176) ومجمع الزوائد(9/127) وسنن النسائي(5/136) وخصائصه/102، وفيهما: قال ابن بريدة: فو الذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي في هذا الحديث إلا أبوبريدة).
وفي تاريخ دمشق (42/191): (فانطلقت بكتابه حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فأخذ الكتاب فأمسكه بشماله، وكنت رجلاً إذا تكلمت طأطأت رأسي حتى أفرغ من حاجتي، فطأطأت رأسي وتكلمت فوقعت في علي حتى فرغت، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله قد غضب غضباً لم أره غضب مثله قط إلا يوم قريظة والنضير! فنظر إليَّ فقال: يا بريدة إن علياً وليكم بعدي! فأحب علياً فإنه لا يفعل إلا ما يؤمر! قال فقمت وما أحد من الناس أحب إلي منه! وقال عبد الله بن عطاء: حدثت بذلك أباحرب بن سويد بن غفلة فقال: كتمك عبد الله بن بريدة بعض الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: أَنافَقْتَ بَعْدي يا بريدة؟!).
وفي مجمع الزوائد(9/128): (ودخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟ فقلت: خيراً، فتح الله على المسلمين. فقالوا: ما أقدمك؟ قلت: جارية أخذها علي من الخمس، فجئت لأخبر النبي فقالوا فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي! ورسول الله يسمع الكلام، فخرج مغضباً فقال:ما بال أقوام ينتقصون علياً! من تنقص علياً فقد تنقصني، ومن فارق علياً فقد فارقني! إن علياً مني وأنا منه، خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. يا بريدة أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ وأنه وليكم بعدي! فقلت: يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً! قال فما فارقته حتى بايعته على الإسلام).
أقول:كذَّبوا أنفسهم في زعمهم أن علياً عليه السلام خطب بنت أبي جهل! فقد رووا هنا أن علياً عليه السلام تزوج بجارية في اليمن ولم يغضب النبي صلى الله عليه وآله ولا فاطمة عليها السلام !
< صفحة > 114 < / صفحة >
وقد فاق عليهم البخاري فترك كل هذه الأحاديث وروى بدلها (5/110): (بعث النبي علياً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض علياً، وقد اغتسل فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي ذكرت ذلك له فقال: يا بريدة أتبغض علياً؟ قلت: نعم، قال:لاتبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك).
يقول البخاري إن خالداً البطل جاهد وفتح وغنم، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله علياً ليقبض منه الخمس وفيه أموال وجوار، فرأينا علياً اغتسل، أي أخذ جارية منها قبل قسمتها! وهذا تحريف مفضوح، وبغض لعلي عليه السلام شديد!
9. غضبَ من تطويل إمام الجماعة لصلاته
في مسند الطيالسي/85: (قال رجل: يا رسول الله إني أصلي خلف فلان وإنه يطيل الصلاة حتى ربما تأخرت. قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله غضباً ما رأيته غضبه في موعظة قط! ثم قال:إن منكم منفِّرين فمن أم الناس فليخفف بهم الصلاة، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة).
10. غضبَ من زوجته زينب بنت جحش لإهانتها صفية
في مسند أحمد (6/261): (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لزينب: إن بعير صفية قد اعتل فلو أنك أعطيتيها بعيراً؟ قالت: أنا أعطى تلك اليهودية)!
وفي رواية: قال لزينب بنت جحش: يازينب أفقري(أعيري) أختك صفية جملاً، وكانت من أكثرهن ظهراً (إبلاً) فقالت أنا أفقر يهوديتك! فغضب النبي حين سمع ذلك منها، فهجرها فلم يكلمها حتى قدم مكة وأيام منى في سفره حتى رجع إلى المدينة والمحرم وصفر، فلم يأتها ولم يقسم لها).
11. وغضب لما طالبه سهيل بن عمرو بإرجاع من جاءه مسلماً
اعتبر زعماء قريش أن أباسفيان خانهم في فتح مكة فوافق على استسلام قريش بدون شروط، وقالوا إن أباسفيان من بني عبد مناف، وإنه مال الى محمد المنافي، وها هو محمد ينصب حاكماً أموياً على مكة! لذلك قامت قريش بعزل أبي سفيان ونصبت بدله زعيماً قوياً برأيها هو سهيل
< صفحة > 115 < / صفحة >
بن عمرو، ونشطت في دعمه والإلتفاف حوله!
وقد كتبنا في آيات الغدير/138والسيرة النبوية عند أهل البيت عليه السلام (2/645) أن سهيلاً أخذ يتصرف بعد فتح مكة وكأن معاهدة الحديبية ما زالت، وكأن النبي صلى الله عليه وآله لم يفتح مكة وينصب عليها حاكماً! فقد كتب إلى النبي صلى الله عليه وآله مطالباً بأناس جاؤوا إليه ليتفقهوا في الدين، ثم ذهب إلى المدينة مطالباً بهم، ونزل عند عمر، فذهب وأبوبكر معه إلى النبي صلى الله عليه وآله وأيدا مطلبه! يقول للنبي صلى الله عليه وآله نحن اليوم حلفاؤك، فقد تصالحنا، وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم إلينا! ومعناه أن قريشاً تتصرف كأنها وجود سياسي مستقل في مقابل النبي صلى الله عليه وآله !
فاعجب لأبي بكر وعمر أنهما أيدا مطلب سهيل! فقال أبوبكر: «صدقوا يا رسول الله! وقال عمر مثل قوله: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم »! (مجمع الزوائد: 9 / 134 و: 5 / 186، وصححه).
وجاء الموقف النبوي غاضباً حاسماً، وأعلن أنهم لايسلمون إلا بقوة السيف! ففي رواية الحاكم (2/125): «فقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا».فسيف علي عليه السلام هو دواؤهم! وقد حكم النبي صلى الله عليه وآله بكفرهم، وإن كان مجرد طلبهم يثبت كفرهم، لأنهم اعتبروا أنفسهم دولة أو جهة مقابل النبي صلى الله عليه وآله !
ولم يرد اليهم أولادهم وعبيدهم المملوكين، ومعناه أنه اعتبرهم من أموال الكفار التي أحلها الله له! ولو كان الطلقاء مسلمين وملكيتهم محترمة لم يعتق عبيدهم، فهو القائل: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه!
فعد أكمل النبي صلى الله عليه وآله تهديده بأن أمر علياً عليه السلام أن يعلن الحرب عليهم إن هم أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ! فقد روى في مجمع الزوائد(9/134): «عن ابن عباس: أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الله عز وجل يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم!والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت! لا والله، إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني! ».
< صفحة > 116 < / صفحة >
12. غضبَ من اعتراضهم على تأميره أسامة
قال ابن الجوزي في كشف المشكل(2/560): (فانتدب معه وجوه المهاجرين والأنصار وفيهم أبوبكر وعمر وسعد وسعيد وأبوعبيد ة، فتكلم حينئذ أقوام فقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين. فغضب رسول الله غضباً شديداً، وكان قد ابتدأ به مرضه، فخرج معصوب الرأس فصعد المنبر وقال: إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنوه في إمرة أبيه. وأيم الله، إن كان لخليقاً للإمرة أي ممن يصلح لها، يعني زيداً وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا من أحب الناس إلي بعده ».
وقال في عمدة القاري(18/76): (قال ابن هشام: وإنما طعنوا في أسامة لأنه ابن مولى وكان صغير السن، وقيل: إنما قال ذلك المنافقون)!
وقد بحثناه في السيرة وأثبتنا أن النبي صلى الله عليه وآله أمرهم بالحركة، وأنهم تباطؤوا وتخلفوا وأن النبي صلى الله عليه وآله لعن من تخلف عن جيش أسامة!
13. غضبَ من اعتراض حرقوص بن زهير
كان حرقوص يرى أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وآله ! فقد جاء حتى وقف على النبي وأصحابه فلم يسلم عليهم! فقال له النبي صلى الله عليه وآله : أنشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل مني أو أخير مني! قال: اللهم نعم! ثم دخل يصلي)! (مسند أبي يعلى:1/90).
فقد جاء الى مسجد النبي ليصلي لله الصلاة التي نزلت على هذا النبي صلى الله عليه وآله لكنه يرى أنه أفضل منه، ولعله يقول: إعدل يا رب! فلماذا بعثت محمداً نبياً، وأنا أفضل منه! وقد اشتهر بقوله للنبي صلى الله عليه وآله في غزوة حنين وهو يقسم الغنائم: إعدل، أراك ما عدلت!
قال البخاري(4/179): (فقال:ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل! فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحاباً يحقرأحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية… قال أبوسعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وأشهد أن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأُتيَ
< صفحة > 117 < / صفحة >
به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وآله الذي نعته)!
وفي رواية: فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله غضباً شديداً ثم قال: والله لا تجدون بعدي أحداً أعدل عليكم مني قالها ثلاثاً! ونقل في شرح النهج (2/267) عن مسند أحمد: (عن مسروق قال قالت لي عائشة: إنك من وُلدي ومن أحبهم إليَّ، فهل عندك علم من المخدج؟ فقلت: نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان، بين لخافيق (شقوق في الأرض) وطرفاء، قالت:إبغني على ذلك بينة فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلك. قال فقلت لها:سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله فيهم؟فقالت: نعم سمعته يقول:إنهم شرالخلق والخليقة، يقتلهم خيرالخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة).
أقول: لا وجود لهذا الحديث اليوم في مسند أحمد فقد حذفوه!
14. غضبَ من كلام المنافقين لعلي عليه السلام
قال ابن أبي عاصم في السنة/586: (لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة إلى تبوك خلف علي بن أبي طالب فأتاه بالجرف يحمل سلاحه فقال يا رسول الله أتخلفني بعدك ولم أتخلف عنك قط؟ قال: فولى مدبراً فاغرورقت عيناه وقال يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً لي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ حتى رؤي في وجهه فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
15. غضبَ من فرارهم في خيبر
روى النسائي(5/108): « دعا أبابكر فعقد له لواءً ثم بعثه فسار بالناس فانهزم، حتى إذا بلغ رجع! فدعا عمر فعقد له لواءً فسار ثم رجع منهزماً بالناس! فقال رسول الله: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله له ليس بفرار ».
وفي أمالي المفيد/56،عن سعد قال: (فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه ».
وفي كتاب سليم/409: (فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ما بال أقوام يلقون المشركين ثم يفرون! لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بجبان ولا فرار ولا يرجع
< صفحة > 118 < / صفحة >
حتى يفتح الله على يديه خيبراً).
وفي متشابه القرآن لابن شهرا شوب(2/68):(انهزم الأول والثاني بالإتفاق فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله صلى الله عليه وآله ).
16. غضبَ من كلام عائشة في حق خديجة عليها السلام
في شرح الأخبار(3/21): (عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، أنه ذكر يوماً خديجة، فترحم عليها، وذكر محاسن أفعالها، فغارت عائشة لذلك. قالت: ليت شعري، ما يذكرك من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله عزوجل بها من هو خيرمنها! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله غضباً شديداً وقال: لا والله ما بدلت خيراً منها. لقد آمنت بي قبل أن تؤمنَّ، وصدقتني قبل أن تصدقن، ورزقت مني من الولد وقد حرمتن). في الخصال/405: (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة عليها السلام تصايحهاوهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترين إلا أن لأمك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا ما هي إلا كبعضنا! فسمعت مقالتها فاطمة فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وآله بكت فقال لها: ما يبكيك يا بنت محمد؟ قالت: ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: مه يا حميرا فإن الله تبارك وتعالى بارك في الولود الودود، وإن خديجة رحمها الله ولدت مني.. وأنت ممن أعقم الله رحمه فلم تلدي شيئاً).
في مسند أحمد (6/154): (عن عائشة قالت ذكر رسول الله يوماً خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين. قالت فتغير وجه رسول الله تغيراً لم أره تغير عند شئ قط إلا عند نزول الوحي). ورواه البخاري وحذف منه غضب رسول الله صلى الله عليه وآله !
وفي السيرة الحلبية(3/401): « ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها! فغضب رسول الله وقال: والله ما أبدلني الله خيراً منها »!
وفي سيرة ابن إسحاق (5/228): « قالت: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة! فقام رسول الله مغضباً فلبث ما شاء الله، ثم رجع فإذا أم رومان فقالت: يا رسول الله ما لك ولعائشة إنها حَدَث، وأنت أحق من تجاوز عنها فأخذ بشدق عائشة وقال:ألست القائلة كأنما ليس
< صفحة > 119 < / صفحة >
على الأرض امرأة إلا خديجة! والله لقد آمنت بي إذ كفر قومك، ورزقت مني الولد وحرمتموه »!
17.غضب من اتهام عائشة لمارية القبطية عليها السلام
روى المفيد في:خبر مارية/16بسند صحيح عن الإمام الباقر عليه السلام : (إن عائشة قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله : إن مارية يأتيها ابن عم لها، فلطختها بالفاحشة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إن كنت صادقة فأعلميني إذا دخل، فرصدته فلما دخل عليها أعلمت رسول الله صلى الله عليه وآله ، فدعا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وقال له: خذ هذا السيف فإن وجدته عندها فاضرب عنقه. فأخذ علي السيف ثم قال: يا رسول الله، إذا بعثتني في الأمر أكون كالسكة المحماة تقع في الوبر أو أتثبت، فقال: تثبت، فانطلق ومعه السيف، فانتهى إلى الباب وهو مغلق، فالصق عينه بباب البيت، فلما رأى القبطي عيناً في الباب فزع وخرج من الباب الآخر فصعد نخلة وتسور علي عليه السلام على الحائط فقال له: إنزل. فقال: يا علي إتق الله ما هاهنا بأس، إني مجبوب وكشف عن عورته فإذا هو مجبوب وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال له: ما شأنك يا جريح؟فقال: إن القبط يجبون حشمهم ومن يدخل على أهاليهم، والقبطيون لا يأنسون إلا بالقبطي، فبعثني أبوها لأدخل إليها وأخدمها وأؤنسها. فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: الحمد لله الذي لم يزل يعافينا أهل البيت من سوء ما يلطخونا، فأنزل الله عز وجل الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وعائشة ليست غافلة ولا ساذجة. وهناك موارد أخرى غضب فيها لأجل خديجة.
18. غضبَ من أصحاب مؤامرة عقبة تبوك
اعترفت مصادر الجميع بحصول هذه المؤامرة، وتُعرف بليلة العقبة ويُعرف منفذوها بأصحاب العقبة! لكنهم اتفقوا على إخفاء أسماء (أبطالها)!
روى مسلم في صحيحه(8 /123)عن أبي الطفيل قال: «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال فقال له القوم: أخبره إذْ سألك! قال: كنا نُخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد!
< صفحة > 120 < / صفحة >
وروى المفسرون مؤامرة العقبة في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.قال البيضاوي (3/158):
« وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا، من الفتك بالرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل! فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا ».
وفي الخصال/499، عن حذيفة، أنهم أربعة عشر وعدَّد هم وقال: وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ».
فقد غضب النبي صلى الله عليه وآله عليهم غضباً شديداً، ولعنهم، وسماهم أعداء الله!
19. وغضبَ من أصحاب مؤامرة عقبة هرشى
قال البكري (4/1350): (على ملتقى طريق الشام والمدينة، في أرض مستوية، هضبة ململمة لا تنبث شيئاً، وهي من الجحفة، يرى منها البحر، سهلة المصعد صعبة المنحدر، والطريق من جنبتيها). وكانت هذه المؤامرة شبيهةً إلى حد كبيرٍ بمؤامرة اغتياله صلى الله عليه وآله في عقبة تبوك.
وتقدم حديثها في فصل الصحيفتين.
قال القمي في تفسيره (1/174): «فقال أصحابه الذين ارتدوا بعده: قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال، وقال هاهنا ما قال، وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له! فاجتمعوا أربعة عشرنفراً وتآمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وقعدوا في العقبة وهي عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء، فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها، لينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله فلما جن الليل تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل عليه السلام : يا محمد إن فلاناً وفلاناً وفلاناً قد قعدوا لك، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: من هذا خلفي؟ ثم دنا رسول الله صلى الله عليه وآله منهم فناداهم بأسمائهم، فلما سمعوا نداء رسول الله صلى الله عليه وآله فروا ودخلوا في غمار الناس… فقال صلى الله عليه وآله : يا حذيفة هؤلاء المنافقون في الدنيا والآخرة، فقلت: ألا
< صفحة > 121 < / صفحة >
تبعث إليهم يا رسول الله رهطاً فيأتوا برؤوسهم؟ فقال: إن الله أمرني أن أعرض عنهم، فأكره أن تقول الناس إنه دعا أناساً من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا، فقاتل بهم حتى إذا ظهر على عدوه أقبل عليهم فقتلهم! ولكن دعهم يا حذيفة فإن الله لهم بالمرصاد، وسيمهلهم قليلاً ثم يضطر هم إلى عذاب غليظ)!
20. وغضبَ لسلمان لما أزاحه أعرابي من مكانه
في الإختصاص/221: (سألت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن سلمان الفارسي وقلت: ما تقول فيه؟ فقال: ما أقول في رجل خلق من طينتنا، وروحه مقرونة بروحنا، خصه الله تبارك وتعالى من العلوم بأولها وآخرها، وظاهرها وباطنها وسرها وعلانيتها. ولقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمان بين يديه فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى درالعرق بين عينيه واحمرت عيناه، ثم قال: يا أعرابي أتنحى رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء، ويحبه رسوله في الأرض! يا أعرابي أتنحى رجلاً ما حضرني جبرئيل إلا أمرني عن ربي عز وجل أن أقرئه السلام! يا أعرابي إن سلمان مني، من جفاه فقد جفاني ومن آذاه فقد آذاني، ومن باعده فقد باعدني، ومن قربه فقد قربني.
يا أعرابي لا تغلظنَّ في سلمان فإن الله تبارك وتعالى قد أمرني أن أطلعه على علم المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب. قال: فقال الأعرابي: يا رسول الله ما ظننت أن يبلغ من فعل سلمان ما ذكرت أليس كان مجوسياً ثم أسلم؟فقال النبي صلى الله عليه وآله :يا أعرابي أخاطبك عن ربي وتقاولني! إن سلمان ما كان مجوسياً لكنه كان مظهراً للشرك مضمراً للإيمان.
يا أعرابي أما سمعت الله عز وجل يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
أما سمعت الله عز وجل يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
يا أعرابي خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، ولا تجحد فتكون من المعذبين وسلم لرسول الله قوله تكن من الآمنين).
< صفحة > 122 < / صفحة >
21. وغضبَ من رجل قاسٍ سلبت منه الرحمة
في المناقب (2/155):(كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقبل الحسن والحسين عليهما السلام فقال عيينة بن حصن وفي رواية الأقرع بن حابس:إن لي عشرة ماقبلت واحداً منهم قط!
فقال صلى الله عليه وآله : من لا يرحم لا يرحم، وفي رواية: فغضب رسول الله حتى التمع لونه وقال للرجل: إن كان قد نزع الرحمة من قبلك فما أصنع بك، من لم يرحم صغيرنا ولم يعزز كبيرنا فليس منا).
22. وغضب من يماني جادله جدالاً سيئاً
في الكافي (4/39): ( عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وفد من اليمن وفيهم رجل كان أعظمهم كلاماً وأشدهم استقصاء في محاجة النبي فغضب النبي صلى الله عليه وآله حتى التوى عرق الغضب بين عينيه وتربد وجهه وأطرق إلى الأرض فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال: ربك يقرئك السلام ويقول لك: هذا رجل سخي يطعم الطعام! فسكن عن النبي صلى الله عليه وآله الغضب ورفع رأسه وقال له: لولا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخي تطعم الطعام لشردت بك، وجعلتك حديثاً لمن خلفك. فقال له الرجل: وإن ربك ليحب السخاء؟ فقال: نعم فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله والذي بعثك بالحق لا رددت من مالي أحداً).
23. وغضبَ على رجل يتكلم بدون علم
(عن علي عليه السلام : أن رسول الله صلى الله عليه وآله عاد رجلاً من الأنصار، فشكا إليه ما يلقى من الحمى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الحمى طهور من رب غفور، قال الرجل: بل الحمى تفور بالشيخ الكبير حتى تحله القبور، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ليكن ذلك بك! فمات من علته تلك). (دعائم الإسلام:1/217).
24. وغضبَ على رجل سرق طفلاً فباعه
في دعائم الإسلام (2/60): (إن سبياً قدم عليه من البحرين فصفوا بين يديه فنظر إلى امرأة منهم تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: كان لي ولد بيع في بني عبس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله :ومن باعه،
< صفحة > 123 < / صفحة >
قالت: أبوأسيد الأنصاري، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال:لتركبن فلتجيئن به كما بعته فركب أبوأسيد فجاء به).
25. وغضبَ من عيينة بن حصن
في الكافي (8/70): (عن أبي جعفر عليه السلام قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله لعرض الخيل فمر بقبر أبي أحيحة (من زعماء بني أمية) فقال أبوبكر: لعن الله صاحب هذا القبر فوالله إن كان ليصد عن سبيل الله ويكذب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: خالد ابنه: بل لعن الله أباقحافة فوالله ما كان يقري الضيف، ولا يقاتل العدو، فلعن الله أهونهما على العشيرة فقداً.
فألفى رسول الله صلى الله عليه وآله خطام راحلته على غاربها ثم قال: إذا أنتم تناولتم المشركين فعموا ولا تخصوا فيغضب ولده، ثم وقف فعرضت عليه الخيل، فمر به فرس فقال عيينة بن حصن: إن من أمر هذا الفرس كيت وكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ذرنا فأنا أعلم بالخيل منك، فقال عيينة: وأنا أعلم بالرجال منك، فغضب رسول الله حتى ظهر الدم في وجهه فقال له: فأي الرجال أفضل؟ فقال: عيينة بن حصن: رجال يكونون بنجد يضعون سيوفهم على عواتقهم ورماحهم على كواثب خيلهم، ثم يضربون بها قدماً قدماً! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : كذبت بل رجال أهل اليمن أفضل، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن، الجفا والقسوة في الفدادين، أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشيطان. ومذحج أكثر قبيل يدخلون الجنة، وحضرموت خير من عامر بن صعصعة، ثم قال: لعن الله الملوك الأربعة جمداً ومخوساً ومشرحاً وأبضعة وأختهم العمردة..لعن الله رِعلاً وذكوان وعضلاً ولحيان والمجذمين من أسد وغطفان، وأباسفيان بن حرب، وشهبلاً ذا الأسنان).
أقول: عيينة بن حصن رئيس بني فزارة من نجد، عنده نحو ثمان مائة مقاتل، وكان يتاجر بهم مع اليهود في خيبر، ومع طليحة المتنبئ، ومع مسيلمة، ثم يكون هو ومقاتلوه أول الهاربين.
26. وغضب النبي صلى الله عليه وآله على من كذَّب علياً عليه السلام
روى الصدوق في الأمالي/194: ( عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه جاء إليه رجل، فقال له: يا أباالحسن، إنك تُدعى أمير المؤمنين فمن أمرك عليهم؟ قال عليه السلام : الله جل جلاله أمرني عليهم.
< صفحة > 124 < / صفحة >
فجاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، أيصدق علي فيما يقول إن الله أمره على خلقه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال: إن عليا أمير المؤمنين بولاية من الله عز وجل، عقدها له فوق عرشه، وأشهد على ذلك ملائكته. إن علياً خليفة الله، وحجة الله، وإنه لإمام المسلمين، طاعته مقرونة بطاعة الله، ومعصيته مقرونة بمعصية الله، فمن جهله فقد جهلني، ومن عرفه فقد عرفني، ومن أنكر إمامته فقد أنكر نبوتي، ومن جحد إمرته فقد جحد رسالتي، ومن دفع فضله فقد تنقصني، ومن قاتله فقد قاتلني، ومن سبه فقد سبني، لأنه مني خلق من طينتي، وهو زوج فاطمة ابنتي، وأبوولدي الحسن والحسين. ثم قال صلى الله عليه وآله أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين حجج الله على خلقه، أعداؤنا أعداء الله، وأولياؤنا أولياء الله).
27. وغضب على الذين منعوه أن يكتب وصيته
قال سليم بن قيس الهلالي في كتابه/211:( قال علي عليه السلام : يا طلحة، ألست قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله حين دعا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الأمة ولا تختلف، فقال صاحبك ما قال:(إنه يهجر) فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم تركها؟
قال: بلى قد شهدت ذاك. قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالذي أراد أن يكتب فيها وأن يشهد عليها العامة. فأخبره جبرائيل عليه السلام أن الله عز وجل قد علم من الأمة الإختلاف والفرقة، ثم دعا بصحيفة فأملى علي ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان وأباذر والمقداد، وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر الله بطاعتهم إلى يوم القيامة. فسماني أولهم ثم ابني هذا وأدنى بيده إلى الحسن، ثم الحسين، ثم تسعة من ولد ابني هذا يعني الحسين. كذلك كان يا أباذر وأنت يا مقداد؟ فقاموا وقالوا: نشهد بذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله . فقال طلحة: والله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لأبي ذر: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولا أبر عند الله، وأنا أشهد أنهما لم يشهدا إلا على حق، ولأنت أصدق وآثر عندي منهما.
ثم أقبل على طلحة فقال: إتق الله يا طلحة وأنت يا زبير وأنت يا سعد وأنت يا بن عوف، اتقوا الله وآثروا رضاه واختاروا ما عنده، ولا تخافوا في الله لومة لائم).
- *
< صفحة > 125 < / صفحة >
غضب مكذوب نسبوه الى رسول الله صلى الله عليه وآله
زعموا أنه غضب لشكاية المددي على خالد بن الوليد
لأنه أخذ منه غنيمته، فقال(مسند احمد:6/2): (هل أنتم تاركي أمرائي! إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل اشترى إبلاً وغنماً فدعاها، ثم تخير سقيها فأوردها حوضاً فشرعت فيه فشربت صفوة الماء وتركت كدره، فصفو أمرهم لكم وكدره عليهم). وقد بينا حقيقة الأمر في السيرة النبوية - غزوة مؤتة.
وزعموا أن رجلاً شكى أبابكر فغضب النبي صلى الله عليه وآله
هل أنتم تاركين لي صاحبي! إني قلت إني رسول الله فقلتم كذبت، وقال أبوبكر صدقت).ومعناه تحريم انتقاد الأمراء وانتقاد أبي بكر، وهذا لم يقله أحد!
وزعموا أن النبي صلى الله عليه وآله خالف القرآن في تفضيل الرسل عليهم السلام!
قال البخاري (4/133، ومسلم:7/101): (فغضب النبي صلى الله عليه وآله حتى رؤيَ في وجهه ثم قال: لاتفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور، أو بعث قبلي. ولا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متي). فقد كذبوا هذه الكذبة ليتقربوا الى اليهود فيقولوا إن نبينا صلى الله عليه وآله ليس أفضل من موسى ولا يونس عليهما السلام .
لكن هذا ينافي إجماع المسلمين بأنه أفضل الأنبياء عليهم السلام ، وينافي قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ).
زعموا أنه صلى الله عليه وآله سئل عن الصوم فغضب!
روى مسلم (3/167): (أنه صلى الله عليه وآله سئل عن صومه، قال: فغضب رسول الله فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وببيعتنا بيعة).
< صفحة > 126 < / صفحة >
فلا معنى لغضبه من السؤال عن صومه، بل كان ذلك لما طعنوا في أسرته فقالوا إن مثل محمد كنخلة نبتت في كبا، فجمع القرشيين تحت أسلحة الأنصار ومدح أسرته وقال لهم: ليقم الذي طعن في أسرتي وليسألني عن أبيه! وكان جبرئيل معه فقام عمر وسأله عن شيئ آخر وعن الصيام المستحب فاستمر في غضبه! وقد فصلنا ذلك في السيرة النبوية وفي ألف سؤال وإشكال.
- *
< صفحة > 127 < / صفحة >
الفصل السادس عشر : كيف يبلغ النبي صلى الله عليه وآله الى الجن؟
الفصل السادس عشر
كيف يبلغ النبي صلى الله عليه وآله الى الجن؟
نبينا صلى الله عليه وآله مرسل الى الإنس والجن
قال ابن عبد البر في التمهيد(11/117):(ولا يختلفون أن محمداً صلى الله عليه وآله رسول إلى الإنس والجن نذير وبشير. هذا مما فضل به على الأنبياء عليهم السلام أنه بعث إلى الخلق كافة الجن والإنس،وغيره لم يرسل إلا بلسان قومه. ودليل ذلك ما نطق به القرآن من دعائهم إلى الإيمان بقوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ).
بلغ النبي صلى الله عليه وآله الجن فكلمهم وهم في مكانهم وكانوا يأتونه
في مسائل علي بن جعفر/331:(عبد الله بن بكير الدجاني قال: قال لي الصادق جعفر بن محمد عليه السلام :أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عاماً للناس بشيراً أليس قد قال الله في محكم كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً للَّنَّاسِ،لأهل الشرق والغرب وأهل السماء والأرض من الجن والإنس، هل بلغ رسالته إليهم كلهم؟ قلت: لا أدري. قال: يا ابن بكير إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يخرج من المدينة فكيف بلغ أهل الشرق والغرب! قلت: لا أدري. قال: إن الله تعالى أمر جبرئيل فاقتلع الأرض بريشة من جناحه ونصبها لمحمد صلى الله عليه وآله فكانت بين يديه مثل راحته في كفه، ينظر إلى أهل الشرق والغرب، ويخاطب كل قوم بألسنتهم، ويدعوهم إلى الله وإلى نبوته، فما بقيت قرية ولا مدينة إلا ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله بنفسه).
وروى الجميع أن الله تعالى صرف إلى النبي صلى الله عليه وآله جماعة من الجن مرات، وأمره أن يتلو عليهم القرآن فاستوعبوا وآمنوا، وذهبوا الى قومهم أنبياء.
قال ابن هشام (2/287): « ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين
< صفحة > 128 < / صفحة >
ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وآله قال الله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ».
ونخلة: موضع بين الطائف ومكة على مسير ليلة من مكة.(معجم البلدان:5/278).
وفي تفسير القمي(2/299): (قوله: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
فهذا كله حكاية عن الجن. وكان سبب نزول هذه الآيات أن رسول الله خرج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه يزيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله، ثم رجع إلى مكة فلما بلغ موضعاً يقال له وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل، فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله استمعوا له، فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض أنصتوا يعني اسكتوا، فلما قضي أي فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من القراءة ولوا إلى قومهم منذرين: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى..الآيات. فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله شرائع الإسلام، فأنزل الله على نبيه: قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا. وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا. وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطًا. الآيات..فحكى الله قولهم، وولى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله منهم، وكانوا يعودون إلى رسول الله في كل وقت، فأمر رسول الله أمير المؤمنين عليه السلام أن يعلمهم ويفقههم،فمنهم مؤمنون ومنهم كافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس وهم ولد الجان).
وروى في المحاسن(2/379)، عن عمر بن يزيد قال:(ضللنا سنة من السنين ونحن في طريق مكة فأقمنا ثلاثة أيام نطلب الطريق فلم نجده، فلما أن كان في اليوم الثالث وقد نفد ما كان معنا من الماء، عمدنا إلى ما كان معنا من ثياب الإحرام ومن الحنوط، فتحنطنا وتكفنا بإزار إحرامنا، فقام رجل من أصحابنا فنادى: يا صالح يا أبا الحسن فأجابه مجيب من بُعد! فقلنا له: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا من النفر الذي قال الله عز وجل في كتابه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
< صفحة > 129 < / صفحة >
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ. ولم يبق منهم غيري، فأنا مرشد الضال إلى الطريق! قال: فلم نزل نتبع الصوت حتى خرجنا إلى الطريق ».
وفي الإحتجاج (1/330) من حديث اليهودي مع أمير المؤمنين عليه السلام : «ولقد سخرت لنبينا محمد صلى الله عليه وآله الشياطين بالإيمان، فأقبل إليه من الجِنة تسعة من أشرافهم، وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ،وهم التسعة، فأقبل إليه الجن والنبي صلى الله عليه وآله ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً. ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونصح المسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططاً ». والمناقب:1 /44 و191، والمحاسن:2/380، والحاكم:2/ 456، و 518، والزوائد:7 / 106. والبحار :10/ 44، و: 18/ 76 و 90، و: 60 / 55، وفيه: «ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله صلى الله عليه وآله ». وإنما سميا ثقلين لعظم خطرهما وجلالة شأنهما ».
خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ
خَلَقَ الآنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الآنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ.
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ.
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
وفي الخصال/153:قال الإمام الصادق عليه السلام :(الجن على ثلاثة أجزاء: فجزء مع الملائكة وجزء يطيرون في الهواء، وجزء كلاب وحيات. والإنس على ثلاثة أجزاء، فجزء تحت ظل العرش يوم لاظل إلا ظله. وجزء عليهم الحساب والعذاب. وجزء وجوهم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين)!
وفي علل الشرائع (2/593): (وسأله عن اسم أبي الجن فقال: شومان، وهو الذي خلق من مارج من نار. وسأله: هل بعث الله نبياً إلى الجن؟ فقال: نعم بعث إليهم نبياً يقال له يوسف فدعاهم إلى الله فقتلوه. وسأله عن إسم إبليس ما كان في السماء، فقال: كان إسمه الحارث).
أقول: هذه التفاصيل في قابلة للمناقشة، لكن أصل الموضوع قطعي.
< صفحة > 130 < / صفحة >
لاسلطان للجن على الإنس
في الأصول الستة عشر/9:(سألت أباعبد الله عليه السلام فقلت: الجن يخطفون الإنسان؟ فقال عليه السلام : مالهم إلى ذلك سبيل).
وفي تحف العقول/12: (يا علي إذا رأيت حية في طريق فاقتلها، فإني قد اشترطت على الجن ألا يظهروا في صورة الحيات).
وفي جواهر الكلام (2/48): (وخبر ليث المرادي عن الصادق عليه السلام سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود؟ فقال: أما العظم والروث فطعام الجن، وذلك مما اشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وآله لايصلح بشئ من ذلك).
وفي بصائر الدرجات/116: (عن سعد الإسكاف قال: أتيت باب أبي جعفر الباقر عليه السلام مع أصحاب لنا لندخل عليه فإذا ثمانية نفر كأنهم من أب و أم عليهم ثياب زرابي وأقبية طاق طاق وعمائم صفر، دخلوا فما احتبسوا حتى خرجوا، قال لي: يا أباسعد رأيتهم؟ قلت: نعم جعلت فداك. قال: أولئك إخوانكم من الجن أتونا يستفتوننا في حلالهم وحرامهم، كما تأتونا وتستفتوننا في حلالكم وحرامكم).
وفي الكافي (1/395): (عن حكيمة بنت موسى قالت: رأيت الرضا عليه السلام واقفاً على باب بيت الحطب وهو يناجي ولست أرى أحداً فقلت: يا سيدي لمن تناجي؟ فقال: هذا عامر الزهرائي أتاني يسألني ويشكو إلي! فقلت: يا سيدي أحب أن أسمع كلامه فقال لي: إنك إن سمعت به حُمِمْتِ سنة! فقلت: يا سيدي أحب أن أسمعه، فقال لي: إسمعي فاستمعت فسمعت شبه الصفير! وركبتني الحمى، فحممت سنة).
وفي الصحيح في كامل الزيارات/470: ( عن أبي حمزة الثمالي قال:قلت (للصادق عليه السلام ): جعلت فداك إني رأيت أصحابنا يأخذون من طين الحائر ليستشفون به هل في ذلك شئ مما يقولون من الشفاء؟ قال: فخذ منها، فإنها شفاء من كل سقم وجنة مما تخاف، ولايعدلها شئ من الأشياء التي يستشفى بها إلا الدعاء، وإنما يفسدها ما يخالطها من أوعيتها وقلة اليقين لمن يعالج بها، فأما من أيقن أنها له شفاء إذا يعالج بها كفته بإذن الله من غيرها مما يعالج به، ويفسدها الشياطين والجن
< صفحة > 131 < / صفحة >
من أهل الكفر منهم يتمسحون بها وما تمر بشئ إلا شمها، وأما الشياطين وكفار الجن فإنهم يحسدون بني آدم عليها فيتمسحون بها ليذهب عامة طيبها، ولا يخرج الطين من الحائر إلا وقد استعد له ما لا يحصى منهم، وانه لفي يد صاحبها وهم يتمسحون بها، ولا يقدرون مع الملائكة أن يدخلوا الحائر، ولو كان من التربة شئ يسلم ما عولج به أحد إلا برأ من ساعته. فإذا أخذتها فاكتمها وأكثر عليها من ذكر الله تعالى).
وفي الكافي (6/547): (عن أبي سلمة قال: قال أبوعبد الله عليه السلام : الحمام طير من طيور الأنبياء عليهم السلام التي كانوا يمسكون في بيوتهم وليس من بيت فيه حمام إلا لم تصب أهل ذلك البيت آفة من الجن. إن سفهاء الجن يعبثون في البيت فيعبثون بالحمام ويدعون الناس).
جنة الجن في الآخرة بين الجنة والنار
وفي تفسير القمي (2/299):وسئل العالم عليه السلام عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة؟ فقال لا، ولكن لله حظائر بين الجنة والنار، يكون فيها مؤمنو الجن، وفساق الشيعة ».
وقال الشريف المرتضى في رسائله(4/35): (إذا حصل أهل الجنة في الجنة ما حكم الملائكة، هل يكونوا في جنة بني آدم أو غيرها، وهل يراهم البشر، وهم يأكلون ويشربون مثل البشر أو تسبيح وتقديس، وهل يسقط عنهم التكليف. وكذلك الجن.
الجواب وبالله التوفيق: إنه يجوز أن يكونوا في الجنة مع بني آدم، ويجوز أن يكونوا في جنة سواها فإن الجنان كثيرة: جنة الخلد، وجنة عدن، وجنة المأوى، وغير ذلك مما لم يذكره الله تعالى.
وأما رؤية البشر لهم فلا تصلح إلا على أحد الوجهين: إما أن يقوي الله تعالى رؤية البشر، أو يكيف الملائكة. وأما الأكل والشرب فمجوز والله تعالى ينبئهم بما فيه لذتهم، فإن جعل لذتهم في الأكل والشرب جاز، وإن جعلها في غيره جاز. وأما التكليف فإنه يسقط عنهم لأنه لايصح أن يكونوا مكلفين ومثابين في حالة واحدة. والكلام في الجن يجري هذا المجرى).
وفي مختصر بصائر الدرجات/185:(وتظهرالملائكة والجن (مع المهدي عجل الله فرجه الشريف ) وتخالط الناس ويسيرون معه. ولينزلن أرض الهجرة وينزلون ما بين الكوفة والنجف، ويكون حينئذ عدة أصحابه ستة وأربعون ألفاً من الملائكة، ومثلها من الجن، ثم ينصره الله ويفتح على يديه).
- *
< صفحة > 132 < / صفحة >
الفصل السابع عشر : اشترى النبي صلى الله عليه وآله في المدينة مكان مسجده وبيوته
الفصل السابع عشر
اشترى النبي صلى الله عليه وآله في المدينة مكان مسجده وبيوته
اشترى النبي صلى الله عليه وآله مكان مسجده ومنزله!
في إعلام الورى للطبرسي(1/154): « وكان خروج رسول الله صلى الله عليه وآله من قبا يوم الجمعة، فوافى بني سالم عند زوال الشمس، فتعرضت له بنو سالم فقالوا: يا رسول الله هلمَّ إلى الجد والجلد والحلفة والمنعة، فبركت ناقته عند مسجدهم وقد كانوا بنوا مسجداً قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله فنزل في مسجدهم وصلى بهم الظهر وخطبهم، وكان أول مسجد صلى فيه بالجمعة، وصلى إلى بيت المقدس وكان الذين صلوا معه في ذلك الوقت مائة رجل.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وآله ناقته وأرخى زمامها فانتهى إلى عبد الله بن أبيّ، فوقف عليه وهو يُقَدَّر أنه يعرض عليه النزول عنده، فقال له عبد الله بن أبي بعد أن ثارت الغبرة وأخذ كمه ووضعه على أنفه: يا هذا إذهب إلى الذين غروك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم، ولا تَغْشَانَا في ديارنا! فسلط الله على دور بني الحبلى الذر (النمل الصغير) فخرق دورهم، فصاروا نُزَّالاً على غيرهم، وكان جد عبد الله بن أبي يقال له ابن الحبلى، فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله لايعرض في قلبك من قول هذا شئ، فإنا كنا اجتمعنا على أن نملكه علينا وهو يرى الآن أنك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه، فأنزل عليَّ يا رسول الله فإنه ليس في الخزرج ولا في الأوس أكثر فم بئر مني، ونحن أهل الجلد والعز، فلا تَجُزْنا يا رسول الله.
فأرخى زمام ناقته ومرت تَخِبُّ به، حتى انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم ولم يكن مسجداً، إنما كان مربداً ليتيمين من الخزرج يقال لهما سهل وسهيل، وكانا في حجر أسعد بن
< صفحة > 133 < / صفحة >
زرارة، فبركت الناقة على باب أبي أيوب خالد بن زيد، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله فلما نزل اجتمع عليه الناس وسألوه أن ينزل عليهم، فوثبت أم أبي أيوب إلى الرحل فحلته وأدخلته منزلها، فلما أكثروا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أين الرحل؟ فقالوا: أم أبي أيوب قد أدخلته بيتها. فقال صلى الله عليه وآله : المرء مع رحله. وأخذ أسعد بن زرارة بزمام الناقة فحولها إلى منزله).
وفي نور الأبصار للشبلنجي/44: (وبنى صلى الله عليه وآله في ذلك المربد حجرتي زوجتيه سودة وعائشة(؟) وأما بقية حجر زوجاته فبناها بعد عند الحاجة إليها. ومكث صلى الله عليه وآله في بيت أبي أيوب سبعة أشهر إلى أن تم المسجد والحجرتان. وفي شرح المقاصد قال: وفي الصحيح في ذكر بناء المسجد: كنا نحمل لبنة لبنه وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وآله فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار! ويقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. وكان النبي صلى الله عليه وآله ينقل معهم الصخر ويقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة * فانصر الأنصار والمهاجرة
قال الصادق عليه السلام (الكافي:3/296):(كان المسجد ثلاثة آلاف وستمائة ذراع تكسيراً».
أقول: اشترى النبي صلى الله عليه وآله مكان المسجد وبيوته مما بقي معه من أموال خديجة، وبنى المسجد وبنى منزله شرقي المسجد وله باب مفتوح على المسجد هو باب الحجرة النبوية وهي غرفة كبيرة، وعن يمينها مرافق وغرفة للخادم، وعن يسارها غرفة فاطمة عليها السلام ، وخلف البيت ساحة تفتح على السكة. وبنى جنوبي بيته غرفتين لأزواجه، وكانتا سودة وأم سلمة وليس عائشة، ثم كان إذا تزوج أضاف غرفة بعدها.
صادروا مسجد النبي صلى الله عليه وآله ومنزله بحجج واهية
من أوضح عدوان قريش على النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله أنهم منعوا ابنة النبي فاطمة عليها السلام أن ترث النبي صلى الله عليه وآله ، ثم ادعت عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله ملَّكها غرفتها وسيطرت على البيت والقبر وادعت أنها الوارثة له، وصدقها علماء السلطة واستدلوا على ملكيتها بأنك تقول بيت عائشة، فقيل لهم: إذا قلت بيت خالتك فهل هي المالكة للبيت! مع أن إضافة المكان والشيئ الى الإنسان تصح بأدنى سبب، فيصح قولك بيته لأنه يسكنه وليس يملكه.
< صفحة > 134 < / صفحة >
ولذلك نعتقد أن بيوت النبي صلى الله عليه وآله ملك له ترثها ابنته ثم أهل بيته عليهم السلام ، وأن السلطة صادرتها ودفنت فيها رؤساءها بدون إذن الورثة، ومنعت ابنه الحسن عليه السلام أن يدفن فيها ظلماً.
وقد فصلنا ذلك في رسالة: مصادرة قبر النبي صلى الله عليه وآله .
- *
عدد نفوس المدينة وعدد المسلمين عند الهجرة!
ينبغي أن نصحح تصورنا عن أعداد الناس والأقوام في التاريخ، وسبب خطئنا في التقديرأنا نشاهد في عصرنا انفجاراً سكانياً في العالم، فنقيس الماضي على الحاضر، وهذا لا يصح!
وسبب آخر: أنا سمعنا ونحن صغار، والصور في ذهن الصغير مضخمة!
والطريقة الصحيحة لتقديرالعدد: أن ننظر الى أعداد الجيوش، فعندما نرى أن غاية ما استطاعت قريش أن تجند من مكة ألفين أو ثلاثة، فلو فرضنا أنه يخرج من كل عشرة جندي، فسكان مكة يومها عشرون ألفاً. ولو فرضنا من كل خمسة فلا يزيد عدد سكان مكة عن أربعين ألفاً.
ومثال آخر: ذكر ابن حجر أن عدد الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وآله من قريش مع أسامة ليبعدهم عن المدينة سبع مئة مقاتل! قال في فتح الباري ( 8 / 115): (وقال ابن إسحاق : بدأ برسول الله صلى الله عليه وآله وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: أغز في سبيل الله، وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش، فذكر القصة وفيها: لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبوبكر وعمر، وعند الواقدي أيضاً أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف، فيهم سبع مائة من قريش).
فإذا كان المأمورون بالذهاب في جيش أسامة سبع مئة قرشي، فعدد القرشيين في المدينة نحو خمسة آلاف، وكان المهاجرون القرشيون أقل من ثلاثين نفراً، فيكون الباقون من الطلقاء جاؤوا بعد فتح مكة، فشكلوا ثلث أهل المدينة أو نصفهم.
كما أمر النبي صلى الله عليه وآله بعدِّ المسلمين فقال: (أكتبوا إلي من تلفظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفاً وخمس مائة رجل فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمس مائة). (البخاري 4: 87 ومسند أحمد:5/ 384 ).
ومثال آخر: نشط اليهود وقريش لتحشيد الأحزاب لحرب النبي صلى الله عليه وآله فبلغ جيشهم عشرة
< صفحة > 135 < / صفحة >
آلاف، وقيل ستاً وعشرين ألفاً.
ثم حَشَدَ النبي صلى الله عليه وآله المسلمين وقريشاً والقبائل في غزوة تبوك، فبلغ جيشه ثلاثين ألفاً. وعليه فلا يزيد سكان الجزيرة يومها عن سبع مئة ألف نسمة.
كما أن معاوية استطاع أن يجمع من الشام والأردن وفلسطين سبعين ألف مقاتل، فيكون عدد سكانها كلها نحو مليون ونصف.
ويكون أهل العراق أكثر منهم فقد يزيدون على المليونين. - *
< صفحة > 136 < / صفحة >
الفصل الثامن عشر : شريط من سيرة فاطمة الزهراء
الفصل الثامن عشر
شريط من سيرة فاطمة الزهراء
1. كانت تحدث أمها وهي حمل في بطنها
في مكارم الأخلاق للراوندي/119: (لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله بخديجة هجرتها نسوة مكة فاستوحشت، وكانت تكتم حزنها من رسول الله صلى الله عليه وآله فدخل يوماً وسمع خديجة تحدث فقال: من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني تحدثني وتؤنسني، قال: هذا جبرئيل يبشرني أنها أنثى وأنها النسلة الطاهرة، وأن الله سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقطاع وحيه).
وفي علل الشرائع(1/181): « محمد عمارة قال:سألت أباعبد الله عن فاطمة عليهما السلام لمَ سميت الزهراء؟ فقال: لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء، كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض ».
2. زوجها النبي صلى الله عليه وآله من علي عليه السلام بأمر ربه
وكان عرس فاطمة عليها السلام أعظم عرس في تاريخ الأنبياء عليهم السلام ، وقد وصفت الأحاديث عمل النبي صلى الله عليه وآله في مراسم الخطبة، ثم في عقد الزواج، ثم في تهيئة المنزل وتأثيثه، ثم في وليمة الزفاف ومراسمه، فكان عمله شبيهاً بعمله في تبليغ الرسالة! وقد روت فيه مصادر السنة والشيعة نحو خمسين حديثاً.
فعن ابن مسعود وأنس قال: « كنت قاعداً عند النبي صلى الله عليه وآله فغشيه الوحي فلما سُرِّيَ عنه قال:
< صفحة > 137 < / صفحة >
أتدري يا أنس ما جاء به جبريل من عند صاحب العرش؟ قلت: بأبي وأمي! وما جاء به جبريل من عند صاحب العرش؟ قال: إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي». (كبير الطبراني: 10 / 156).
وفي تاريخ بغداد ( 4/432): « طلع النبي صلى الله عليه وآله ووجهه مشرق كالبدر فسأل ابن عوف عن ذلك فقال: بشارة أتتني من ربى لأخي وابن عمي وابنتي، اللهُ زوج علياً بفاطمة، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي وأنشأ من تحتها ملائكة من نور، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار، فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي.
وفي رواية: وقال: أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما كان هميني من تزويجك، أتاني جبرئيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها فتناولتهما وأخذتهما فشممتهما، فقلت: ما سبب هذا السنبل والقرنقل؟قال: إن الله أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها، وأمر ريحها فهبت بأنواع العطر والطيب، وأمر حور عينها بالقراءة فيها طه ويس وطواسين وحم وعسق، ثم نادى مناد من تحت العرش: ألا إن اليوم يوم وليمة علي، ألا إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من علي رضاً مني ببعضهما لبعض. ثم بعث الله سبحانه سحابة بيضاء فقطرت من لؤلؤها وزبرجدها ويواقيتها، وقامت الملائكة فنثرن من سنبلها وقرنفلها وهذا مما نثرت الملائكة ».
وفي مناقب ابن مردويه/198: (وكان النبي صلى الله عليه وآله أمر نساءه أن يزينَّها ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة، فاستدعين من فاطمة عليها السلام طيباً فأتت بقارورة، فسألت عنها فقالت: كان دحية الكلبي يدخل على رسول فيقول لي: يا فاطمة هاتي الوسادة فاطرحيها لعمك، فكان إذا نهض سقط من بين ثيابه شئ فيأمرني بجمعه، فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال: هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل! وأتت بماء ورد فسألت أم سلمة عنه فقالت: هذا عرق رسول الله كنت آخذه عند قيلولة النبي عندي ».
وروى ابن ماجة:1/615: «قالت عائشة: ما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة».
وقسَّمَ علي عليه السلام عمل البيت بين والدته وبين الزهراء عليها السلام : « فقال علي لأمه فاطمة بنت أسد: إكفي بنت رسول الله الخدمة خارجاً، سقاية الماء والحاجة وتكفيك العمل في البيت: العجن والطحن ». (الإمتاع: 5 / 351)
< صفحة > 138 < / صفحة >
3. عاشت مع أمها عليهما السلام معاناة محاصرة قريش في الشعب
فتحملت معها بضع سنوات من المحاصرة، فأرسل الله جبرئيل عليه السلام ليقرئها السلام ويسليها عن فقدان بيتها، ويبشرها بأن الله تعالى بني لها بيتاً في الجنة. وكان النبي صلى الله عليه وآله يذكرها ويمدحها، فكانت عائشة تحسدها وتغار منها: «قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة »! ( صحيح بخاري: 8 / 195).
4. تسأل النبي صلى الله عليه وآله عن أمها عليها السلام لما توفيت
في تاريخ اليعقوبي(2/35)والفقيه(1/139)وأمالي الطوسي/175: « لما توفيت خديجة جعلت فاطمة تتعلق برسول الله عليه السلام وهي تبكي وتقول: أين أمي، أين أمي؟ فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال قل لفاطمة: إن الله تعالى بني لأمك بيتاً في الجنة لا نصب فيه ولا صخب. فقالت فاطمة عليها السلام : إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام).
5. دعت على فراعنة قريش فاعتبره النبي صلى الله عليه وآله إذناً بالدعاء عليهم!
كانت معه وهو يصلي في مكة، فوجه القرشيون سفهاءهم وألقوا عليه كرش ناقة وهو ساجد، فألقته عنه فاطمة وبكت ودعت عليهم.. وكأن دعاءها كان مؤشراً ربانياً ينتظره النبي ليدعو عليهم، ولعلها أول مرة بدأ الدعاء عليهم!
قال البخاري(4/71): ( بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ساجد وحوله ناس من قريش المشركين، إذ جاءه عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وآله ، فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله : اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أباجهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف أو أبي بن خلف، فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر، غير أمية أو أبي ، فإنه كان رجلاً ضخماً فلما جروه تقطعت أوصاله قبل أن يلقى في البئر).
أقول: كفى بذلك فضيلة فالنبي صلى الله عليه وآله لم يدع على قومه حتى دعت ابنته فاطمة عليها السلام فكان دعاؤها رسالة إليه من ربه، وإجازة له بالدعاء عليهم!
< صفحة > 139 < / صفحة >
وفي مسند فاطمة عليها السلام للسيوطي/118: (قال عبد الله: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله ساجد وحوله ناس من قريش وثَم سلا بعير، فقالوا: من يأخذ سلا هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره. فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وآله فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك. قال عبد الله: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله دعا عليهم إلا يومئذ، فقال: اللهم عليك الملأ من قريش.كما تقدم).
6. أخبرت أباها بمؤامرة قريش ليلة الهجرة!
من عجيب ما ذكروه في سيرة النبي صلى الله عليه وآله أن فاطمة هي التي أخبرته بتآمر زعماء قريش عليه ليقتلوه! ففي مجمع الزوائد (8/228): ( عن ابن عباس قال إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى وأساف ونائلة، لو قد رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت هذا الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فيقتلوك، فما منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك! قال يا بنية أدِّ لي وضوءً، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا هذا هو، وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه رجل منهم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قام على رؤسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافراً).
فمن أين جاءتها هذه المعلومة السرية الخطيرة؟لابد أنها كانت ملهمة!
7. هاجرت الى أبيها ونزلت معه في بيت أبي أيوب
في أمالي الطوسي/471: « ثم سار عليٌّ ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان، فتلوَّم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله فظل ليلته تلك هو والفواطم أمه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة بنت الزبير، طوراً يصلون، وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلى عليه السلام بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل، لا يفتر عن
< صفحة > 140 < / صفحة >
ذكر الله، والفواطم كذلك وغيرهم ممن صحبه، حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم، بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ. الذَّكَر علي عليه السلام والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن، وهن فاطمة بنت رسول الله وفاطمة بنت أسد وفاطمة بنت الزبير. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: يقول علي من فاطمة أو قال: الفواطم، وهن من علي عليه السلام . وتلا صلى الله عليه وآله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، وقال: يا علي، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان، ولايبغضك إلا منافق أو كافر ».
8. بنى لها غرفة في بيته وأوكلها الى أم سلمة
قال الإمام الصادق عليه السلام : «تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله سودة أول دخوله المدينة فنقل فاطمة عليها السلام إليها، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وفوض أمر ابنته إليَّ، فكنت أدلها وأؤدبها وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها ». ( دلائل الإمامة / 81).
9. خاطت لعلي عليهما السلام قميصاً للحرب
في مناقب آل أبي طالب(2/41): (وكان لعلي قميص من غزل فاطمة عليهما السلام يتقي به نفسه في الحروب).
< صفحة > 141 < / صفحة >
10. لما أصيب النبي صلى الله عليه وآله انقضت الى أُحُد كالصقر!
فعندما هرب المسلمون من المعركة وتركوا نبيهم صلى الله عليه وآله لسيوف قريش وهجماتها المستميتة لقتله، ولم يبق معه إلا علي عليه السلام .انقضَّت فاطمة الزهراء عليها السلام كالصقر المجروح إلى ساحة المعركة في أحد لتكون إلى جنبه تضمد جر احه! فكان الصحابة ممعنين في هروبهم من المعركة وفاطمة وعلي وحدهما إلى جنب النبي صلى الله عليه وآله !
ففي البخاري(3/229) والبيهقي(2/402) عن سهل قال: (هشمت البيضة على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكسرت رباعيته وجرح وجهه قال أبوحازم: وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله تغسل عنه الدم، وعلي يأتيها بالماء في مجنة، فلما أصاب الجرح الماء كثر دمه فلم يرقأ الدم حتى أخذت قطعة حصير وأحرقته حتى صار رماداً ثم جعلته على الجرح فرقأ الدم).
11. خَيَّرَها الله في أن يعطيها الحسنين عليهم السلام!
قال الصادق عليه السلام (كامل الزيارات/123، والكافي:1/464): (إن جبرئيل عليه السلام نزل على محمد صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام، ويبشرك بمولود يولد من فاطمة عليها السلام تقتله أمتك من بعدك؟ (أي فما رأيك؟) فقال: يا جبرئيل ربي السلام ومنه السلام، لاحاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي. قال: فعرج جبرئيل عليه السلام إلى السماء ثم هبط فقال له مثل ذلك، فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي.
فعرج جبرئيل إلى السماء ثم هبط فقال له: يا محمد، إن ربك يقرؤك السلام ويبشرك أنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية. فقال: قد رضيت.
ثم أرسل إلى فاطمة عليها السلام إن الله يبشرني بمولود يولد منك تقتله أمتي من بعدي، فأرسلت إليه أن لا حاجة لي في مولود يولد مني تقتله أمتك من بعدك، فأرسل إليها إن الله جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فأرسلت إليه: أني قد رضيت).
< صفحة > 142 < / صفحة >
12. نزل عليها اللوح فيها أسماء الأئمة عليهم السلام
وقد رواه الكليني أعلى الله مقامه في الكافي(1/528) والصدوق أعلى الله مقامه في كمال الدين، وكبار المحدثين والفقهاء، وهو أن جبرئيل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بلوح زبرجد تحفةً لفاطمة عليها السلام تهنئةً لها بولادة الإمام الحسين عليه السلام ، مكتوب فيه أسماء الأئمة من أولادها عليهم السلام .
فروى الصدوق في كمال الدين/311: (عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على مولاتي فاطمة عليها السلام وقُدامها لوح يكاد ضوؤه يغشي الأبصار فيه اثنا عشر إسماً ثلاثة في ظاهره وثلاثة في باطنه، وثلاثة أسماء في آخره، وثلاثة أسماء في طرفه، فعددتها فإذا هي اثنا عشر إسماً فقلت: أسماء من هؤلاء؟ قالت: هذه أسماء الأوصياء أولهم ابن عمي وأحد عشر من ولدي، آخرهم القائم. قال جابر، فرأيت فيها محمداً محمداً محمداً في ثلاثة مواضع، وعلياً وعلياً وعلياً وعلياً في أربعة مواضع).
وروى شاذان بن جبرئيل في الروضة/62، والجواهر السنية/205، وغيرها:( قال أبوجعفر الباقر عليه السلام لجابر: لي إليك حاجة متى يخف عليك أن أخلو بك، فأسألك عنها؟ قال جابر: أي الأوقات أحببت يا مولاي، فخلا به أبوجعفر عليه السلام . وقال له: يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة عليها السلام ، وما أخبرتك به في اللوح مكتوباً. فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله أهنؤها بولادة الحسين فرأيت في يدها لوحا أخضر، ظننت أنه زمردة مكتوب بالنور الأبيض. فقلت: بأبي أنت وأمي يا بنت رسول الله، ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا أهداه الله إليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه إسم أبي ، واسم بعلي، وأسماء ولدي، وذكر الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي يبشرني به قال: فقلت لها: أريني يا بنت رسول الله، قال فأعطتنيه، فقرأته ونسخته.
فقال أبوجعفر عليه السلام :يا جابر، هل لك أن تعرضه علي؟ فقال نعم يا بن رسول الله فأنت أولى به مني. قال أبوجعفر: فمشينا إلى منزل جابر فمضى جابر إلى منزله وأتى بصحيفة من كاغذ فقال له: أنظر في صحيفتك حتى أقرأها عليك، فكان في الصحيفة مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله العزيز الحكيم إلى محمد نبيه وسفيره، نزل
< صفحة > 143 < / صفحة >
به الروح الأمين من عند رب العالمين. عَظِّمْ يا محمد أمري واشكر نعمائي، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فمن رجا غير فضلي وخاف غير عدلي عذبته عذاباً أليماً، فإياي فاعبد وعليَّ فتوكل، إني لم أبعث نبياً قط فأكملت أيامه إلا جعلت له وصياً، وإني فضلتك على الأنبياء وجعلت لك علياً وصياً، وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسناً معدن وحيي بعد أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة وأعطيته مواريث الأنبياء فهو سيد الشهداء، وجعلت كلمتي الباقية في عقبه أُخرج منه تسعة أبرار هداة أطهار، منهم سيد العابدين وزين أوليائي، ثم ابنه محمد شبيه جده المحمود الباقر لعلمي، هلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد علي، حق القول مني أن أهيج بعده فتنة عمياء، من جحد ولياً من أوليائي فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي، ويل للجاحدين فضل موسى عبدي وحبيبي، وعليٌّ ابنه وليي وناصري ومن أضع عليه أعباء النبوة، يقتله عفريت مريد، حق القول مني لأقرن عينه بمحمد ابنه موضع سري ومعدن علمي، وأختم بالسعادة لابنه علي الشاهد على خلقي، أخرج منه خازن علمي الحسن الداعي إلى سبيلي، وأكمل ذلك بابنه زكي العالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب، يُذَلُّ أوليائي في غيبته، وتتهادى رؤوسهم إلى الترك والديلم، وتصبغ الأرض بدمائهم ويكونون خائفين، أولئك أوليائي حقاً بهم أكشف الزلازل والبلاء. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
13. فاطمة عليها السلام ربَّت المجتمع النسائي المسلم
في تفسير الإمام العسكري عليه السلام /341: (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: إن لي والدة ضعيفة، وقد لُبس عليها في أمر صلاتها شئ وقد بعثتني إليك أسألك. فأجابتها فاطمة عن ذلك، ثم ثنت فأجابت، ثم ثلثت فأجابت إلى أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله. قالت فاطمة عليها السلام : هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكتُريَ يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراؤه مائة ألف دينار أيثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل علي. سمعت أبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجدهم في إرشاد عباد الله..الحديث.
< صفحة > 144 < / صفحة >
وقال عليه السلام :فضل كافل يتيم آل محمد، المنقطع عن مواليه الناشب في تيه الجهل يخرجه من جهله، ويوضح له ما اشتبه عليه على كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السهى ).
14. كات تخدم أباها صلى الله عليه وآله وترعاه فسماها:أم أبيها
قال في مناقب آل أبي طالب (3/133و357): (وكناها: أم الحسن، وأم الحسين، وأم المحسن، وأم الأئمة، وأم أبيها). ورواه الطبراني في الكبير (22/397) والإستيعاب(4/1899) ومناقب ابن المغازلي/268).
15. بكت الزهراء عند النبي صلى الله عليه وآله في مرضه
بكت لفراقه وقالت له: أخشى على نفسي وولدي الضيعة من بعدك! فهي ترى أن قريشاً ناشطة في عملها ضد عترة النبي وبني هاشم، وأن موجة قرشية قادمة هي أشد وأعتى من موجتهم في حصار الشعب، ولا من والد يرد عنها، ولا بنو هاشم!
قالت قريش لانجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة، وائتمرت لمنعهم من الخلافة! وكأنهم بدل الله عز وجل يعطون النبوة والخلافة!
كانت فاطمة عليها السلام تعد نفسها لاضطهاد قريش، لكنها تبث شجونها وتسكب عبرتها أمام أبيها الحنون، فدخلت عليه وهي تتأجج حزناً وألماً، وشكت له بأن الأفاعي فاغرة أفواهها تنتظر أن يغمض عينيه، فتهاجمها وأسرتها!
روى في كمال الدين/262: ( عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت سلمان الفارسي يقول: كنت جالساً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضته التي قبض فيها فدخلت فاطمة عليها السلام فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : ما يبكيك يا فاطمة؟ قالت: يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك، فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء، ثم قال: يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا، وأنه حتم الفناء على جميع خلقه، وأن الله تبارك وتعالى اطَّلع إلى الأرض اطِّلاعةً فاختارني من خلقه فجعلني نبياً، ثم اطَّلع إلى الأرض اطِّلاعة ثانية فاختار منها زوجك وأوحى إلي أن أزوجك إياه وأتخذه ولياً ووزيراً، وأن أجعله خليفتي في أمتي، فأبوك خير أنبياء الله ورسله، وبعلك
< صفحة > 145 < / صفحة >
خير الأوصياء، وأنت أول من يلحق بي من أهلي.
ثم اطَّلع إلى الأرض اطلاعة ثالثةً فاختارك وولديك، فأنت سيدة نساء أهل الجنة، وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة، كلهم هادون مهديون، وأول الأوصياء بعدي أخي علي، ثم حسن، ثم حسين، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي، وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله من درجتي ودرجة أبي إبراهيم.أما تعلمين يا بنية أن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي، وخير أهل بيتي أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً. فاستبشرت فاطمة عليها السلام وفرحت بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال: يا بنية إن لبعلك مناقب: إيمانه بالله ورسوله قبل كل أحد، فلم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي، وعلمه بكتاب الله عز وجل وسنتي، وليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي غير علي، وإن الله عز وجل علمني علماً لا يعلمه غيري وعلم ملائكته ورسله علماً، فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه، وأمرني الله أن أعلمه إياه ففعلت، فليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي وفهمي وحكمتي غيره. وإنك بابنيه زوجته، وابناه سبطاي حسن وحسين وهما سبطا أمتي، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فإن الله جل وعز آتاه الحكمة وفصل الخطاب وبابه.
إنا أهل بيت أعطانا الله عز وجل ست خصال لم يعطها أحداً من الأولين كان قبلكم، ولم يعطها أحداً من الآخرين غيرنا، نبينا سيد الأنبياء والمرسلين، وهو أبوك، ووصينا سيد الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك.وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة مع الملائكة، وابناك حسن وحسين سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة، ومنا والذي نفسي بيده مهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. قالت وأي هؤلاء الذين سميتم أفضل؟ قال: علي بعدي أفضل أمتي، وحمزة وجعفر أفضل أهل بيتي بعد علي، وبعدك وبعد ابنيَّ وسبطي حسن وحسين، وبعد الأوصياء من ولد ابني هذا وأشار إلى الحسين، منهم المهدي.
ثم نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إليها وإلى بعلها وإلى ابنيها فقال: يا سلمان أشهد الله أني سلم لمن سالمهم، وحرب لمن حاربهم، أما إنهم معي في الجنة.
ثم أقبل على علي عليه السلام فقال:يا أخي أنت ستبقى بعدي وستلقى من قريش شدة من تظاهرهم
< صفحة > 146 < / صفحة >
عليك وظلمهم لك، فإن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفَّ يدك ولا تلق بها إلى التهلكة، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك، فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه.
يا علي إن الله تبارك وتعالى قد قضى الفرقة والإختلاف على هذه الأمة، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من هذه الأمة ولا ينازع في شئ من أمره، ولا يجحد المفضول لذي الفضل فضله. ولو شاء لعجل النقمة وكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ويعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة دار القرار لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. فقال علي: الحمد لله شكراً على نعمائه، وصبراً على بلائه).
في أمالي الطوسي/188: ( عن ابن العباس قال: لما حضرت رسول الله الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي وما يصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه يا أبتاه، فلايعينها أحد من أمتي).
16. نعي فاطمة لأبيها صلى الله عليه وآله
قال المحقق الحلي في المعتبر(1/344): (يجوز النياحة على الميت بتعداد فضائله من غير تخط إلى كذب ولاتظلم ولاتسخط. وذهب كثير من أصحاب الحديث من الجمهور إلى تحريمه واحتجوا بما روت أم عطية قالت:أخذ علينا النبي عند البيعة ألا ننوح، ولأنه يشبه التظلم والإستعابة والتسخط بقضاء الله. وروي أن فاطمة عليها السلام كانت تنوح على النبي صلى الله عليه وآله وأخذت قبضة من تراب قبر النبي صلى الله عليه وآله وضعتها على عينيها وقالت:
ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليَا
صُبَّتْ علي مصائبٌ لو انها * صُبت على الأيام عُدْنَ لياليَا
( مسند أحمد:2/489).
وروى البخاري(5/144): ( عن أنس قال لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله جعل يتغشاه فقالت فاطمة عليها السلام : واكرب أباه! فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم! فلما مات قالت: يا أبتاه.. أجاب رباً
< صفحة > 147 < / صفحة >
دعاه. يا أبتاه.. من جنة الفردوس مأواه.. يا أبتاه.. إلى جبريل ننعاه.. فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام :
يا أنس،أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب!).
وقد روت المصادر هذا الحديث وأحاديث أخرى تهز قلب كل مسلم، عن بكاء الصديقة الزهراء عليها السلام ، ونعيها البليغ الحنون لأبيها صلى الله عليه وآله لكنها لم ترو المصادر السنية إلا قليلاً عن مهاجمة السلطة القرشية لدار فاطمة، وجمعهم الحطب وإضرامهم النار في بابها. ولا عن الأحكام العسكرية التي أعلنتها حكومة بطون قريش ومنعت بموجبها فاطمة عليها السلام أن تقيم مجلس النوح والعزاء عند قبر أبيها صلى الله عليه وآله ، بل منعت أي تجمع عند القبر والإقتراب منه، بحجة تحريم البكاء على الميت! وكذباً على النبي صلى الله عليه وآله أنه نهى أن يتخذ قبره عيداً، أي مجتمعاً للزائرين! فقد خافوا من تأثير مجالس الزهراء عليها السلام على الرأي العام، وخافوا أن يعلن بنو هاشم استجارتهم بالقبر ويقيموا عنده حتى يلبي طلبهم كما هي عادة العرب في الإستجارة بقبور عظمائهم حتى يلبى طلبهم!
17. جولتها على الأنصار مع علي عليهما السلام
كان إعلان غدير خم عملاً ربانياً، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية، وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق السياسة وفرض الأمر الواقع!
وقد نفذت قريش خطتها يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وصفَقَتْ على يد أبي بكر، وجاؤوا في اليوم التالي إلى أهل البيت عليهم السلام يطلبون منهم البيعة وإلا أحرقوا عليهم دارهم! فرفض علي عليه السلام وأجابهم جواباً شديداً اتهمهم فيه بخيانة الرسول صلى الله عليه وآله ! وفي اليوم التالي هاجموا بيت علي وفاطمة صلى الله عليه وآله وجمعوا الحطب على باب الداروأضرموا فيه النار مهددين بإحراق البيت عليهم إن لم يبايعوا.
في تلك الأيام قرر علي وفاطمة عليهما السلام أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعتهم التي شرط النبي صلى الله عليه وآله عليهم فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم، فبايعوه على ذلك! وكانت فاطمة عليها السلام مريضة من إسقاط حملها في الهجوم على بيتها فحملها علي عليه السلام على دابة، ومعهما الحسن والحسين، في أعظم جَاهَة عرفها التاريخ، وداروا على بيوت
< صفحة > 148 < / صفحة >
رؤساء الأنصار في ليلتين، وكلماهم فكان قول أكثرهم: يا بنت رسول الله لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعلي أحداً! فقالت: وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحد عذراً! ( الخصال:1/173).
فمنطق الزهراء عليها السلام منطق أبيها صلى الله عليه وآله ، وقد أقام أبوها الحجة كاملةً غير منقوصة في جميع الأمور، ومنها حق عترته الطاهرين عليهم السلام .
18. خطبة الزهراء عليها السلام في المسجد النبوي
روى في الكافي (1/543) عن الكاظم عليه السلام قال: « إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه صلى الله عليه وآله فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيه وآت ذا القربى حقه، فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل ربه فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة، فدعاها رسول الله فقال لها: يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فلما ولي أبوبكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها:إئتني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأمير المؤمنين وأم أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرض فخرجت والكتاب معها فلقيها عمرفقال:ما هذا معك يا بنت محمد؟قالت كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، قال: أرينيه فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب؟ فضعي الحبال في رقابنا »!
أقول: من الواضح أن كلامه سخرية بالآية: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ.
وروى الذهبي في تاريخه (3/24) عن ابن عباس قال: « كان عمر عرض علينا أن يعطينا من الفئ ما يرى أنه لنا من الحق! فرغبنا عن ذلك وقلنا: لنا ما سمى الله من حق ذي القربى وهو خمس الخمس، فقال عمر: ليس لكم ما تدعون أنه لكم حق، إنما جعل الله الخمس لأصناف سماهم، فأسعدهم فيه حظاً أشدهم فاقة وأكثرهم عيالاً، قال: فكان عمر يعطي مَن قبل منا من الخمس والفئ نحو ما يرى أنه لنا، فأخذ ذلك منا ناس وتركه ناس ».
فلما قرر أبوبكر وعمر حرمان أهل البيت من ميراث النبي صلى الله عليه وآله ، وصادر المنح التي منحها لهم حال حياته وحقهم في ممتلكات النبي صلى الله عليه وآله ، وحرمهم الخمس الوارد في آية محكمة:
< صفحة > 149 < / صفحة >
( لاثت الزهراء خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمُة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها ملاءة فجلست، ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فارتج المجلس، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم قالت: وذكر خطبتها في المسجد النبوي! وهي طويلة وقد أجابها أبوبكر وأجابته، وجاء فيها: « يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي! أفعلى عمد تركتم كتاب الله، ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول الله تبارك وتعالى: وورث سليمان داود، وقال الله عز وجل في ما قص من خبر يحيى بن زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. وقال عز وجل: وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله، وقال: يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ للَّذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الآنْثَيَيْنِ.وقال: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ للَّوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وزعمتم أن لا حظوة ولا إرث لي من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج منها نبيه، أم لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي صلى الله عليه وآله أفحكم الجاهلية تبغون!
ثم قالت لأبي بكر: فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله والزعيم محمد، وعند الساعة يخسر المبطلون ».
قال في شرح النهج(16/252):(فما رأينا يوماً أكثر باكياً أو باكية من ذلك اليوم).
ولهذه الخطبة مصادر عديدة نكتفي بما ذكرنا منها.
قال الجوهري في السقيفة/104: ( فلما سمع أبوبكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال: أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله، ألا من سمع فليقل ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه مُرِبُّ لكل فتنة، هو الذي يقول كرُّوها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفه ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا إني لو أشاء أن أقول لقلتُ، ولو قلتُ لبُحْتُ، إني ساكت ما تُركت. ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ألا إني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل!).
< صفحة > 150 < / صفحة >
19. زيارة أبي بكر وعمر لفاطمة
كان علي عليه السلام يصلي في المسجد الصلوات الخمس فكلما صلى قال له أبوبكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟ إلى أن ثقلت، فسألا عنها وقالا: قد كان بيننا وبينها ما قد علمت، فإن رأيت أن تأذن لنا فنعتذر إليها من ذنبنا؟ قال عليه السلام : ذاك إليكما. فقاما فجلسا بالباب، ودخل علي عليه السلام على فاطمة عليها السلام فقال لها: أيتها الحرة، فلان وفلان بالباب يريدان أن يسلما عليك، فما ترين؟ قالت: البيت بيتك والحرة زوجتك، فافعل ما تشاء. فقال: شدي قناعك، فشدت قناعها وحولت وجهها إلى الحائط.فدخلا وسلما وقالا: ارضي عنا رضي الله عنك. فقالت: ما دعاكما إلى هذا؟ فقالا: اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا وتخرجي سخيمتك. فقالت: فإن كنتما صادقين فأخبراني عما أسألكما عنه فإني لا أسألكما عن أمر إلا وأنا عارفة بأنكما تعلمانه، فإن صدقتما علمت أنكما صادقان في مجيئكما. قالا: سلي عما بدا لك. قالت: نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني؟ قالا: نعم. فرفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم إنهما قد آذياني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك. لا والله لا أرضى عنكما أبداً حتى ألقى أبي رسول الله وأخبره بما صنعتما، فيكون هو الحاكم فيكما.
قال: فعند ذلك دعا أبوبكر بالويل والثبور وجزع جزعاً شديداً. فقال عمر: تجزع يا خليفة رسول الله من قول امرأة؟!). (كتاب سليم/391، وفي روايةعلل الشرائع(1/187) و قال: ليت أمي لم تلدني ! فقال عمر أنت شيخ قد خرفت تجزع لغضب امرأة)!
20. الهجوم على بيتها وإسقاط جنينها ومرضها
روى المفيد في أماليه/ 49: « عن مروان بن عثمان قال: لما بايع الناس أبابكر دخل علي عليه السلام والمقداد بيت فاطمة عليها السلام وأبوا أن يخرجوا، فقال عمر بن الخطاب: أضرموا عليهم البيت ناراً! فخرج الزبير ومعه سيفه فقال أبوبكر: عليكم بالكلب فقصدوا نحوه، فزلت قدمه وسقط إلى الأرض ووقع السيف من يده، فقال أبوبكر: إضربوا به الحجر فضرب بسيفه الحجر حتى انكسر. وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام نحو العالية فلقيه ثابت بن قيس بن شماس فقال: ما شأنك يا أباالحسن؟ فقال: أرادوا أن يحرقوا عليَّ بيتي، وأبوبكر على المنبر يبايع له ولا يدفع
< صفحة > 151 < / صفحة >
عن ذلك ولا ينكره! فقال له ثابت: ولا تفارق كفي يدك حتى أقتل دونك، فانطلقا جميعاً حتى عادا إلى المدينة، وإذا فاطمة عليها السلام واقفة على بابها وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول: لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم! تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا! وصنعتم بنا ما صنعتم، ولم تروا لنا حقاً ».
21. أوصت بأن لا يصلوا على جنازتها ولا قبرها!
قال السيد المرتضى(الشافي: 4 / 114): (وردت الروايات المستفيضة الظاهرة: أنها أوصت بأن تدفن ليلاً حتى لا يصلي الرجلان عليها وصرحت بذلك وعهدت فيه عهداً، بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها، فلما خرجا قالت لأميرالمؤمنين عليه السلام : هل صنعتَ ما أردت؟ قال: نعم (تقصد أتيت بهما) قالت: فهل أنت صانع ما آمرك به؟قال: نعم. قالت: فإني أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي ولا يقوما على قبري! وروي أنه عليه السلام عمَّى على قبرها ورشَّ أربعين قبراً في البقيع، ولم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه.
قال الواقدي:أوصت علياً أن لايصلي عليها أبوبكروعمر).(المناقب:3 /363).
وفي رواياتنا: أنها استحلفت أمير المؤمنين عليه السلام بحق الله وحرمة رسوله صلى الله عليه وآله وبحقها أن لا يشهدا جنازتها. وعن عائشة وغيرها: فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً ولم يؤذن بها أبابكر وصلى عليها علي عليه السلام ).
وفي البحار عن الصادق عليه السلام : أوصت فاطمة أن لايصلي عليها أبوبكر وعمر فلما توفيت أتاه العباس فقال: ما تريد أن تصنع؟ قال: أخرجها ليلاً.
هذه الرواية أو ما بمضمونها وردت في عدة كتب من الفريقين وفي بعضها إيصاؤها أمير المؤمنين عليه السلام بأن لا يؤذن بموتها أبابكر وعمر…إنهما سألا أمير المؤمنين عليه السلام أن يخبرهما حتى يحضرا الصلاة عليها ثم بعد دفنها عاتبا أمير المؤمنين عليه السلام على ذلك حتى أرادوا نبش قبرها! ولكن منعهم أمير المؤمنين عليه السلام منعاً شديداً).(العلل/189، والإختصاص/185 وكتاب سليم: 255).
< صفحة > 152 < / صفحة >
22. الأحكام العرفية في مسجد النبي صلى الله عليه وآله عند قبره!
قال السرخسي في المبسوط (1/206): (رأى عمر رجلاً يصلي بالليل إلى قبر فناداه: القبر القبر، فظن الرجل أنه يقول القمر، فجعل ينظر إلى السماء، فما زال به حتى بينه).
وقد غفل واضعوا حديث لا تتّخذوا قبري أن اليهود لم يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد! كما غفلوا عن الآية التي ترد زعمهم! لأن همهم منع مجالس فاطمة عليها السلام ! فالى يومنا هذا لم يستطع أحد منهم أن يثبت أن اليهود والنصارى اتخذوا قبراً لنبي من أنبيائهم مسجداً! ولم يقرؤوا أن الله مدح المؤمنين بأنهم اتخذوا مسجداً على قبور أهل الكهف فقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا).
23. إجراءاتهم لمنع مجلس فاطمة عليها السلام
رغم كل هذه الإجراءات، بقي مجلس فاطمة عليها السلام مصدر قلق للحكومة الجديدة، فأعلنوا حديث النهي عن أصل البكاء على الميت، لأن الله يعذبه ببكاء أهله عليه!
قال البخاري(2/85): (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب)! لكن فاطمة عليها السلام لم تخضع لحديث عمر وتشدده! فنقلت مجلسها الى البقيع وكان فيه أراكة كبيرة وكان صدر المجلس تحتها، فقطعوها!
- *
< صفحة > 153 < / صفحة >
الفصل التاسع عشر : لماذا أجاز الله للنبي صلى الله عليه وآله أن يتزوج ما شاء؟
الفصل التاسع عشر
لماذا أجاز الله للنبي صلى الله عليه وآله أن يتزوج ما شاء؟
أحل الله للنبي صلى الله عليه وآله أن يتزوج ماشاء
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا.
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَالله يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَلِيمًا.
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا.
في هداية الأمة للحر العاملي(7/136):(سئل الصادق عليه السلام عن المرأة تهب نفسها للرجل ينكحها بغير مهرفقال: إنما كان هذا للنبي صلى الله عليه وآله فأما لغيره فلايصلح هذا حتى يعوضها شيئاً يُقدم إليها قبل أن يدخل بها قلَّ أو أكثر، ولو ثوب أو درهم).
وفي جواهر الكلام (29/ 119): (في الكافي مسنداً عن أبي بصير وغيره في تسمية نساء النبي صلى الله عليه وآله ونسبهن وصفتهن: عائشة، وحفصة، وأم حبيب بنت أبي سفيان بن حرب، وزينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث، وصفية بنت حي بن أخطب، وأم سلمة بنت أبي أمية، وجويرية بنت الحارث. وكانت عائشة من تيم، وحفصة من عدي،
< صفحة > 154 < / صفحة >
وأم سلمة من بني مخزوم، وسودة من بني أسد بن عبد العزى، وزينب بنت جحش من بني أسد، وعدادها في بني أمية، وأم حبيب بنت أبي سفيان من بني أمية، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وصفية بنت حي بن أخطب من بني إسرائيل. ومات صلى الله عليه وآله عن تسع نسوة، وكان له سواهن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وخديجة بنت خويلد أم ولده، وزينب بنت أبي الجون التي خُدعت، والكندية. وفي المسالك: جميع من تزوج صلى الله عليه وآله بهن خمس عشرة: وجمع بين إحدى عشرة، ودخل بثلاث عشرة، وفارق امرأتين في حياته إحداهما الكلبية التي رأى بكشحها بياضاً فقال: إلحقي بأهلك، والأخرى التي تعوذت منه بخديعة عائشة وحفصة، حسداً لها.
وفي الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام :سألته عن قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ،قلت:كم أحل له من النساء؟قال:ما شاء من شئ. قلت: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ؟ فقال: لرسول الله صلى الله عليه وآله أن ينكح ما شاء من بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته وأزواجه التي هاجرن معه، وأحل له أن ينكح من غيرهن المؤمنة بغير مهر وهي الهبة ولا تحل الهبة إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فأما لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلا بمهر، وذلك معنى قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. قلت: أرأيت قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ؟ فقال: من آوى فقد نكح، ومن أرجى فلم ينكح.
قلت: قوله تعالى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ؟قال:إنما عنى به النساء اللاتي حرم عليه في هذه الآية حرمت عليكم أمهاتكم إلى آخرها، ولو كان الأمر كما يقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له، إن أحدكم يستبدل كلما أراده، ولكن ليس الأمركما يقولون: إن الله عز وجل أحل لنبيه ما أراد من النساء، إلا ما حرم عليه في هذه الآية التي في سورة النساء).
لم يتزوج على خديجة عليها السلام وزواجاته بعدها
وهذا يدلنا على أنه صلى الله عليه وآله لم يعدد زوجاته إلا بعد أن أسس دولة وأقام تحالفات وخاض حروباً. فكان يحتاج الى علاقات متنوعة ومصاهرة القبائل والأشخاص.
وعقيدتنا في النبي صلى الله عليه وآله أنه لايعمل إلا أن يؤمر، فكل عمله و زواجه بأمر ربه لخدمة رسالته، وليس لنفسه وهواه كما يتصور البعض.
< صفحة > 155 < / صفحة >
قد يأمر الله نبيه أن يتزوج بامرأة كافرة !
فهو العليم بالأسرار، والحكيم في الأفعال، فقد أمر نوحاً عليه السلام فتزوج بكافرة وولدت ابنا كافراً مثلها. وأمر لوطاً عليه السلام فتزوج بكافرة، أما بنات لوط المؤمنات فيظهر أنهن من أم ثانية.
قال الله تعالى: ضَرَبَ الله مَثَلاً للَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.
لذلك لايمكن أن نستدل على إيمان زوجة النبي صلى الله عليه وآله بأنها زوجته، بل لا بد من نص نبوي يدل على أنها مؤمنة أو منافقة.
تحريم الزواج بأزواج النبي صلى الله عليه وآله بعده
قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ الله عَظِيمًا. ومعنى الحصانة الشرعية لهن أنه على الأمة احترامهن إلا أن يخرجن عن خط الإسلام، كما فعلت عائشة.
روى في إرشاد القلوب/ 337، عن حذيفة بن اليمان قال: « أمر النبي صلى الله عليه وآله خادمةً لأم سلمة فقال: إجمعي لي هؤلاء يعني نساءه، فجمعتهن له في منزل أم سلمة، فقال لهن: إسمعن ما أقول لكنَّ وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب فقال لهن: هذا أخي ووصيي ووارثي والقائم فيكن وفي الأمة من بعدي، فأطعنه فيما يأمركن به ولا تعصينه فتهلكن لمعصيته.
ثم قال: يا علي أوصيك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك، وأنفق عليهن من مالك وأمرهن بأمرك وانههن عما يريبك، وخل سبيلهن إن عصينك.
فقال علي:يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي. فقال صلى الله عليه وآله : إرفق بهن ما كان الرفق أمثل، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها. قال: كل نساء النبي صلى الله عليه وآله قد صمتن فما يقلن شيئاً، فتكلمت عائشة فقالت: يا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه إلى ما سواه! فقال لها: بلى قد خالفت أمري أشد خلاف! وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصينه بعدي، ولتخرجين من البيت الذي خلفتك فيه، متبرجةً قد حفَّ بك فئات من الناس فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك، ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب، ألا أن ذلك
< صفحة > 156 < / صفحة >
كائن! ثم قال: قمن فانصرفن إلى منازلكن).
ومعنى فطلقها: أي فارفع عنها الحصانة، وانزع عنها صفة أم المؤمنين. ولم يطلق علي عليه السلام عائشة رغم أنها خرجت عليه وحاربته، نعم هددها بطلاقها من رسول الله صلى الله عليه وآله لما أرادت أن تبقى في البصرة، وتجمع لحربه مرة ثانية فقبلت السفر!
وقد ورد عندنا أن الحسين عليه السلام طلقها لما فعلت بجنازة الإمام الحسن عليه السلام ما فعلت.
المكائد والعراك بين أزواج النبي صلى الله عليه وآله !
تقول عائشة كنا حزبين!
عن عائشة (البخاري:3/132):إن نساء رسول الله كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخرأم سلمة وسائر نساء النبي صلى الله عليه وآله .
يارسول الله أدرك نساءك يقتتلن!
في دلائل الإعجاز للجرجاني وأحاديث عائشة للعسكري (1/63): «سمعت أم المؤمنين عائشة سودة تنشد: عديٌّ وتيمٌ تبتغي من تحالفُ! فقالت عائشة لحفصة: ما تعرض إلا بي وبك!يا حفصة فإذا رأيتني أخذت برأسها فأعينيني فقامت فأخذت برأسها، وجاءت حفصة فأعانتها، وجاءت أم سلمة فأعانت سودة، فأتيَ النبي صلى الله عليه وآله فأخبر وقيل له: أدرك نساءك يقتتلن. فقال: ويحكن مالكن؟ فقالت عائشة: يا رسول الله ألا تسمعها تقول: عدي وتيم تبتغي من تحالف. فقال: ويحكن ليس عديكن ولا تيمكن، إنما هو عدي تميم وتيم تميم)!
يعني أن الشاعر يقصد فرعين من بني تميم، لتسكيتهن.
تكسيرهن الأواني أمام النبي صلى الله عليه وآله !
روى النسائي في المجتبى (1/417) أن أم سلمة أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فِهْر (حجر) ففلقت به الصحفة، فأرسل النبي صفحة عائشة إلى أم سلمة)!
في مسند أحمد (6:111):(قالت عائشة:صنعت له طعاماً وصنعت له حفصة طعاماً فقلت
< صفحة > 157 < / صفحة >
لجاريتي إذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبل فاطرحي الطعام. قالت فجاءت بالطعام فألقته الجارية فوقعت القصعة فانكسرت وانتثرالطعام. قالت فجمعه رسول الله وقال اقتصي ظرفاً مكان ظرفك).
وفي مسند أحمد (6/277) عن عائشة قالت:( بعثت صفية إلى رسول الله بطعام قد صنعته له وهو عندي، فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة حتى استقلني إفكل (رِعْدة) فضربت القصعة فرميت بها! قالت فنظر إلى رسول الله فعرفت الغضب في وجهه فقلت أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم! قالت قال: أولى. قلت: وما كفارته يا رسول الله قال طعام كطعامها وإناء كإنائها).
في فتح الباري (5/90): (عن عائشة قالت كان رسول الله مع أصحابه فصنعت له طعاماً، وصنعت له حفصة طعاماً فسبقتني، فقلت للجارية إنطلقي فأكفئي قصعتها فأكفأتها فانكسرت وانتشر الطعام فجمعه على النطع، فأكلوا، ثم بعث بقصعتي إلى حفصة فقال خذوا ظرفاً مكان ظرفكم).
تعالي ياحفصة نفسد لها زينتها!
(عن رزينة قالت: رأت سودة عائشة وعندها حفصة فجاءت وعليها درع وخمار صُبرة، وقد نقطت نقطتين من زعفران واحداً من ذا الجانب والآخر من ذا الجانب، فقالت حفصة لعائشة: يا أم المؤمنين يدخل عليك رسول الله الآن وهذه متزينة ونحن قشفتان فأدركتهم الغيرة فقالت حفصة لعائشة: خرج الدجال وكانت امرأة طويلة فدخلت خباء كان لوقودهم قالت واستضحكنا فدخل رسول الله فإذا سودة تنتفض فقال: مالك؟ فقالت: يا رسول الله خرج الدجال؟ فقال:لا، وهو خارج؟ فأخذ بيدها وأخرجها وجعل ينفض بكم قميصه عن وجهها وعن خمارها أثر الدخان ونسج العنكبوت ». ( الآحاد والمثاني للضحاك: 6/208).
كان عائشة وحفصة تؤذيان صفية بنت حي
في الترمذي(3/385): (أخرج الترمذي عن أنس وعن صفية قالت:بلغني عن حفصة وعائشة أنهم قالوا:نحن أكرم على رسول الله من صفية. نحن أزواجه وبنات عمه. فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله فذكرت ذلك له فقال: ألا قلت: فكيف تكونان خيراً مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى).
< صفحة > 158 < / صفحة >
وفي الطبقات (7/127): (استبت عائشة وصفية، فقال رسول الله لصفية: ألا قلت: أبي هارون وعمي موسى. وذلك أن عائشة فخرت عليها).
وفي فيض القدير(5/525): (أن عائشة قالت حسبك من صفية إنها كذا وكذا تعني قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها، كذا قرره النووي وقال: هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهوَى).
عائشة وحفصة تخدعان عروس النبي صلى الله عليه وآله
وكذبتا على أسماء بنت النعمان وخدعتاها لما زُفت عروساً للنبي صلى الله عليه وآله : فقالت لها: إن النبي صلى الله عليه وآله ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له أعوذ بالله منك وغرضها أن يطلقها النبي صلى الله عليه وآله وكانت أجمل أهل زمانها.
(قالت عائشة: فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوج العزائب قلت: قد وضع يده في العزائب، وهن يوشكن أن يصرفن وجهه عنا، وكان قد خطبها حين وفدت كندة عليه إلى أبيها، فلما رآها نساء النبي صلى الله عليه وآله حسدنها، فقالت لها عائشة: إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه إذا دخل عليك، فلما دخل وألقى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك فقال: أمن عائذ الله، إلحقي بأهلك.فطلقها الرسول بسبب هذه المقالة).(الطبقات: 8 /145. والإصابة:4/233).
وفي الكافي(5/421): (عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وآله تزوج امرأة من بني عامر بن صعصعة يقال لها سنى، وكانت من أجمل أهل زمانها، فلما نظرت إليها عائشة وحفصة قالتا: لتغلبنا هذه على رسول الله صلى الله عليه وآله بجمالها فقالتا لها: لايرى منك رسول الله حرصاً فلما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله تناولها بيده فقالت: أعوذ بالله فانقبضت يد رسول الله عنها فطلقها وألحقها بأهلها).
وروى في الطبقات(4/37) عن أبي أسيد الساعدي، وكان بدرياً قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله أسماء بنت النعمان الجونية فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة: إخضبيها أنت، وأنا أمشطها ففعلن، ثم قالت إحداهما: إن النبي يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول أعوذ بالله منك! فلما دخلت وأرخى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك! فتلَّ بكمه على وجهه واستتر به وقال: عذت معاذاً ثلاث مرات!
< صفحة > 159 < / صفحة >
قال أبوأسيد: ثم خرج علي فقال:يا أباأسيد! ألحقها بأهلها ومتعها برازقيتين يعني كرباستين فكانت تقول: أدعوني الشقية).
آذينَ مارية وتفرغن لها واتهمنها!
في الإصابة (8/311): (من طريق عمرة عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت علي مارية،وذلك أنها كانت جميلة جعدة فأعجب بها رسول الله وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا فكان عامة الليل والنهار عندها حتى فزعنا لها فجزعت فحولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك فكان ذلك أشد علينا. وقال البلاذري كانت أم مارية رومية، وكانت مارية بيضاء جعدة جميلة).
وفي البلاذري(1/450): (قالوا: وأتيَ رسول الله يوماً بإبراهيم وهو عند عائشة فقال: أنظري إلى شبهه فقالت: ما أرى شبهاً! فقال: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟ فقالت:من قصرت عليه اللقاح وسقي ألبان الضأن سمن وابيضَّ، وكانت عائشة تقول: ما غرت على امرأة غيرتي على مارية وذلك لأنها كانت جميلة جعدة الشعر، وكان رسول الله معجباً بها ورزق منها الولد وحرمناه).
وفي حلية الأولياء (3/177): (عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: كثر القول على مارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله في قبطي ابن عم لها كان يزورها ويختلف إليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لي: خذ هذا السيف فانطلق اليه فإن وجدته عندها فاقتله. فقلت:يا رسول الله أكون في أمرك إذ أرسلتني كالسكة المحماة لا يثنينى شيئ حتى أمضى لما أرسلتني به، أو الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فأقبلت متوشحاً السيف فوجدته عندها، فاخترطت السيف فلما أقبلتُ نحوه عرف أني أريده فأتى نخلة فرقى فيها ثم رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه، فإذا هو أجب أمسح ما له ما للرجال قليل ولا كثير! فأغمدت سيفي ثم أتيت النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته فقال: الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت ».
أقول: في مارية نزلت آية البراءة، فجعلتها عائشة فيها لأنهم اتهموها في غزوة المريسيع قبل ثلاث سنوات! قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وعائشة ليست غافلة ولا ساذجة.
< صفحة > 160 < / صفحة >
وكان عندهن تفنن في الخباثة والشماتة ببعضهن!
وكان عندهن تفنن في الخباثة والشماتة ببعضهن!
قتل معاوية أخاها محمد بن أبي بكر في مصر وأحرق جثته، فكانت عائشة تلعن معاوية وعمرو العاص كلما عثرت!وزاد من غيظها أن ضرتها أم حبيبة أخت معاوية أرسلت إليها كبشاً شوته حتى تفحَّم وقالت: (هكذا قد شوينا أخاك! فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت»!(الغارات:2 /757، وحياة الحيوان:1/404) ثم استرضى معاوية عائشة بالمال، فسكتت!
وكن يقتلن جواريهن باسم الحد الشرعي!
قال النووي في المجموع ( 20 / 39): « وأخرج مالك عن عائشة أنها قطعت يد عبد لها. وأخرج أيضاً أن حفصة قتلت جارية لها سحرتها ».
وفي تذكرة الحفاظ(1/29): (أن عائشة قتلت جاناً فأريت في النوم: والله لقد قتلته مسلماً فقالت: لو كان مسلماً ما دخل على أزواج النبي؟ فقيل: وهل دخل إلا وعليك ثيابك؟ فأصبحت فزعة فأمرت باثني عشرألفاً فجعلتها في سبيل الله عز وجل).
فقد قتلت عائشة هذا الرجل، وقتلت امرأة زعمت أنها كتبت لها سحراً، أما حفصة فقتلت امرأتين زعمت أنهما كتبتا لها سحراً! ( المحلى:11/395).
أقول:من تأمل شخصيات نساء النبي صلى الله عليه وآله والجو الزوجي المزعج الذي كان يعيشه في المدينة، يعرف أن زواجاته لم تكن لأجل نفسه، بل طاعة لربه لأجل رسالته.
- *
< صفحة > 161 < / صفحة >
الفصل العشرون : علاقة النبي صلى الله عليه وآله باليهود
الفصل العشرون
علاقة النبي صلى الله عليه وآله باليهود
سكن اليهود الحجاز بعد المسيح ينتظرون النبي الموعود
شاء الله عز وجل أن يكون اليهود قرب النبي صلى الله عليه وآله وأن يقيم الحجة عليهم.
ففي الكافي (8/310) عن إسحاق بن عمار قال:(سألت أباعبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؟ قال: كانوا قوماً فيما بين محمد وعيسى صلى الله عليهما، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام بالنبي صلى الله عليه وآله ويقولون: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم وليفعلن بكم وليفعلن، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله كفروا به ».
وقد سكن اليهود في وادي القرى قرب تيماء، وفي خيبر، وحول المدينة.
وأهمهم عشيرتان من أبناء هارون: بنو النضير، وبنو قريظة.
وقال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (1/168): (وأما قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ للَّكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ للَّكَذِبِ أَكَّالُونَ للَّسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. فإنه كان سبب نزولها أنه كان في المدينة بطنان من اليهود من بني هارون، وهم النضير وقريظة، وكانت قريظة سبع مائة
< صفحة > 162 < / صفحة >
والنضير ألفاً، وكانت النضير أكثر مالاً وأحسن حالاً من قريظة، وكانوا حلفاء لعبد الله بن أبي ، فكان إذا وقع بين قريظة والنضير قتل وكان القاتل من بني النضير قالوا لبني قريظة لا نرضى أن يكون قتيل منا بقتيل منكم، فجرى بينهم في ذلك مخاطبات كثيرة حتى كادوا أن يقتتلوا حتى رضيت قريظة وكتبوا بينهم كتاباً على أنه أي رجل من اليهود من النضير قتل رجلاً من بني قريظة أن يجنيه ويحمم، والتجنية أن يقعد على جمل ويولى وجهه إلى ذنب الجمل ويلطخ بالحمأة ويدفع نصف الدية، وأيما رجل من بني قريظة قتل رجلاً من بني النضير أن يدفع إليه دية كاملة ويقتل به.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة ودخلت الأوس والخزرج في الإسلام ضعف أمر اليهود فقتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير فبعثوا إليهم بنو النضير إبعثوا الينا فدية المقتول وبالقاتل حتى نقتله، فقالت قريظة ليس هذا حكم التوراة وإنما هو شئ غلبتمونا عليه، فإما الدية وإما القتل وإلا فهذا محمد بيننا وبينكم فهلموا لنتحاكم إليه، فمشت بنو النضير إلى عبد الله بن أبي وقالوا سل محمداً أن لاينقض شرطنا في هذا الحكم الذي بيننا وبين بني قريظة في القتل، فقال عبد الله بن أبي إبعثوا معي رجلاً يسمع كلامي وكلامه، فإن حكم لكم بما تريدون وإلا فلا ترضوا به، فبعثوا معه رجلاً فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: يا رسول الله إن هؤلاء القوم قريظة والنضير قد كتبوا بينهم كتاباً وعهداً وثيقاً تراضوا به، والآن في قدومك يريدون نقضه، وقد رضوا بحكمك فيهم فلاتنقض عليهم كتابهم وشرطهم فإن بني النضير لهم القوة والسلاح والكراع، ونحن نخاف الغوائل والدوائر، فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يجبه بشئ، فنزل عليه جبرئيل بهذه الآيات: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا، يعني اليهود. سَمَّاعُونَ للَّكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ. يعني عبد الله بن أبي وبني النضير: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا. يعني عبد الله بن أبي حيث قال لبني النضير: إن لم يحكم لكم بما تريدون فلا تقبلوا. وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ.. الآية).
أما بنو قينقاع فكانوا صاغة ولهم سوق على بعد نحو عشرين كيلو متراً عن المدينة.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وآله عهداً مع اليهود للتعايش كل بطن على حدة، وأول من نقض العهد بنو
< صفحة > 163 < / صفحة >
قينقاع فسار إليهم النبي صلى الله عليه وآله بعد عشرين يوماً من وقعة بدر فتحصنوا فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكمه فأوثقهم كتافاً، ووهبهم لحليفهم المنافق عبد الله بن سلول، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وكانوا ست مئة مقاتل.
وأما بنو النضير، فتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله ونزلت فيهم سورة الحشر، فبعث إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي أن لاتخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يموتون دونكم، وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم غطفان، فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي صلى الله عليه وآله إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك! فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وكبر أصحابه! وأمر علياً عليه السلام بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة من فرسانهم، ولم ينصرهم عبد الله بن أبيّ ولا بنو قريظة ولاحلفاؤهم من غطفان!
وبعد حصارهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله : نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا، فقال: لاولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل، فخرجوا إلى وادي القرى والشام.
وأما بنو قريظة، فبقوا على صلحهم مع النبي صلى الله عليه وآله حتي ذهب زعماؤهم ومعهم من غيرهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب، ثم جالوا على قبائل العرب يحثونهم على حرب النبي صلى الله عليه وآله ووعدوهم بتمر خيبر. وعندما حاصرالأحزاب المدينة نقض بنو قريظة عهدهم مع النبي وطلبوا من الأحزاب رهائن حتى لايتركوهم وحدهم مقابل النبي صلى الله عليه وآله إن انسحبوا فلم يعطوهم. ولما انهزم الأحزاب سار إليهم النبي صلى الله عليه وآله فحاصرهم حتى نزلوا على حكم حليفهم سعد بن معاذ، فحكم بقتل من حرض منهم على حرب النبي صلى الله عليه وآله ، وكانوا نحو ثلاث مئة فقتلهم النبي صلى الله عليه وآله .
وأما يهود خيبر فكانوا أكبر قوة لليهود، وشاركوا في مؤامرات اليهود على النبي صلى الله عليه وآله فقصدهم في السنة السابعة للهجرة، وأخضعهم وانتصر عليهم.
الحاخام يوسف عرف مولد النبي صلى الله عليه وآله
في كمال الدين/196: (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما بلغ عبد الله بن عبد المطلب زوجه عبد المطلب آمنة بنت وهب الزهري، فلما تزوج بها حملت برسول الله صلى الله عليه وآله فروي عنها أنها قالت:
< صفحة > 164 < / صفحة >
لما حملت به لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل، فرأيت في نومي كان آت أتاني فقال لي: قد حملت بخير الأنام، فلما حان وقت الولادة خف عليَّ ذلك حتى وضعته، وهو يتقي الأرض بيده وركبتيه، وسمعت قائلاً يقول: وضعت خير البشر فعوذيه بالواحد الصمد من شر كل باغ وحاسد. فولد رسول الله صلى الله عليه وآله عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت(بقيت) من ربيع الأول يوم الإثنين فقالت آمنة: لما سقط إلى الأرض اتقى الأرض بيديه وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء، وخرج مني نور أضاء ما بين السماء والأرض ورميت الشياطين بالنجوم و حجبوا عن السماء، ورأت قريش الشهب والنجوم تسير في السماء ففزعوا لذلك، وقالوا: هذا قيام الساعة، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة فأخبروه بذلك، وكان شيخاً كبيراً مجرباً، فقال: أنظروا إلى هذه النجوم التي تهتدوا بها في البر والبحر، فإن كانت قد زالت فهو قيام الساعة وإن كانت هذه ثابته فهو لأمر قد حدث.
وأبصرت الشياطين ذلك فاجتمعوا إلى إبليس فأخبروه أنهم قد منعوا من السماء ورموا بالشهب، فقال: اطلبوا فإن أمراً قد حدث، فجالوا في الدنيا ورجعوا وقالوا: لم نر شيئاً، فقال: أنا لهذا، فخرق ما بين المشرق والمغرب فلما انتهى إلى الحرم وجد الحرم محفوفاً بالملائكة، فلما أراد أن يدخل صاح به جبرئيل عليه السلام فقال: إخسأ يا ملعون، فجاء من قبل حراء فصار مثل الصرد قال: يا جبرئيل ما هذا؟ قال: هذا نبي قد ولد وهو خير الأنبياء، قال: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا، قال: ففي أمته؟ قال: بلى، قال: قد رضيت.
قال: وكان بمكة يهودي يقال له: يوسف فلما رأى النجوم يقذف بها وتتحرك قال: هذا نبي قد ولد في هذه الليلة وهو الذي نجده في كتبنا أنه إذا ولد وهو آخر الأنبياء رجمت الشياطين وحجبوا عن السماء، فلما أصبح جاء إلى نادي قريش فقال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا. قال: أخطأكم والتوراة ولد إذاً بفلسطين وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، فتفرق القوم فلما رجعوا إلى منازلهم أخبر كل رجل منهم أهله بما قال اليهودي فقالوا: لقد ولد لعبد الله بن عبد المطلب ابن في هذه الليلة، فأخبروا بذلك يوسف اليهودي فقال لهم: قبل أن أسألكم أو بعده؟ قالوا: قبل ذلك، قال: فاعرضوه عليَّ، فمشوا إلى باب آمنة فقالوا: أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي، فأخرجته في قماطه فنظر في عينيه، وكشف عن كتفيه فرأى شامة
< صفحة > 165 < / صفحة >
سوداء بين كتفيه وعليها شعرات، فلما نظر إليه وقع على الأرض مغشياً عليه فتعجبت منه قريش وضحكوا منه. فقال: أتضحكون يا معشر قريش، هذا نبي السيف ليبيرنكم!وقد ذهبت النبوة من بني إسرائيل إلى آخر الأبد، وتفرق الناس وهم يتحدثون بخبر اليهودي، ونشأ رسول الله صلى الله عليه وآله في اليوم كما ينشأ غيره في الجمعة، وينشأ في الجمعة كما ينشأ غيره في الشهر).
لا تشبهوا باليهود والنصارى والمجوس!
نهج البلاغة(4/5): (سئل عليه السلام عن قول الرسول صلى الله عليه وآله :غيروا الشيب ولاتشبهوا باليهود؟ فقال: إنما قال صلى الله عليه وآله ذلك والدين قُلّ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه، فامرؤ وما اختار).
وفي الكافي (6/531):(قال الصادق عليه السلام :أكنسوا أفنيتكم ولاتشبهوا باليهود).
مسند أبي يعلى(2/122): (أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله طيب يجب الطيب، نظيف يجب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يجب الجود، فنظفوا بيوتكم، ولا تشبهوا باليهود التي تجمع الأكناف في دورها).
الفايق للزمخشري (2/340): (إن الله تعالى نظيف يحب النظافة فنظفوا عذراتكم ولا تشبهوا باليهود، تجمع الأكباء في دورها).
أي تجمع اليهود الزبالة في منازلها ولا تخرجها. ومن المعروف عن اليهود قذارة بيوتهم حتى أن رائحتها ورائحة حيهم، تعرف من مسافة!
من لا يحضره الفقيه(1/130): (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حفوا الشوارب واعفوا اللحى، ولا تشبهوا باليهود).
معاني الأخبار /291: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حفوا الشوارب وأعفوا اللحى ولا تتشبهوا بالمجوس).
دعائم الإسلام (1/124): (عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ليأخذ أحدكم من شعر صدغيه ومن عارضي لحيته، ورجلوا اللحى واحلقوا شعر القفا واحفوا الشوارب واعفوا السبال، وقلموا الأظفار، ولا تتشبهوا بأهل الكتاب، ولا يطيلن أحدكم شاربه، ولاعانته ولا شعرجناحيه، فإن الشيطان يتخذها مجاثمَ يستتر بها، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخرفلا يترك عانته فوق أربعين يوماً. وعن علي عليه السلام قال: خذوا من شعر الصدغين ومن عارضي اللحية وما جاوز العنفقة من
< صفحة > 166 < / صفحة >
مقدمها. وعن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام أنه قال: أحفوا الشوارب فإن أمية لا تحفى شواربها.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: من قلم أظافيره يوم الجمعة أخرج الله تبارك وتعالى من أنامله داء وأدخل فيها شفاء. وقال: يا معشـر الرجال قصوا أظافيركم، وقال للنساء: طولن أظافيركن، فإنه أزين لكن.
وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: من اتخذ شعراً، فليحسن إليه، وقال لأبي قتادة: يا أباقتادة رجِّل جُمتك وأكرمها وأحسن إليها. وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: الشعر الحسن من كسوة الله عز وجل فأكرموه. وعنه صلى الله عليه وآله قال: من عرف فضل شيبه فوقره آمنه الله عز وجل من فزع يوم القيمة.
مفاتيح الجنان/1051: ( روي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن المجوس جزوا لحاهم ووفروا شواربهم، وإنا نحن نجزُّ الشوارب ونعفي اللحى.
ولما بلغت دعوة النبي صلى الله عليه وآله الملوك، كتب كسرى إلى عامل اليمن باذان أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله إليه فبعث كاتبه بانويه ورجلاً آخر يقال له خرخسك إليه وكانا قد دخلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال ويلكما من أمركما بهذا، قالا: أمرنا بهذا ربنا يعنيان كسرى. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي).
وفي مكارم الأخلاق(1/67): (قال صلى الله عليه وآله : من لم يأخذ شاربه فليس منا. وقال: أحفوا الشوارب واعفوا اللحى، ولا تتشبهوا باليهود.
وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : ما زاد من اللحية عن القبضة ففي النار).
- *
نماذج من وفود اليهود وأسئلتهم للنبي صلى الله عليه وآله
- في مناقب آل أبي طالب (1/47): (الزجاج في المعاني، والثعلبي في الكشف، والزمخشري في الفايق، والواحدي في أسباب نزول القرآن، والثمالي في تفسيره واللفظ له، أنه قال عثمان لابن سلام: نزل على محمد: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ، فكيف هذه؟ قال: يعرف نبي الله بالنعت الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وأيم الله لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني لأني عرفته بما نعته الله في كتابنا، وأما ابني فإني لا أدري ما أحدثت أمه.
< صفحة > 167 < / صفحة >
ابن عباس قال:كانت اليهود يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه فلما بعثه الله تعالى من العرب دون بني إسرائيل كفروا به، فقال لهم بشر بن معرور ومعاذ بن جبل: إتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك، وتذكرون أنه مبعوث، فقال سلام بن مسلم أخو بني النظير: ما جاءنا بشئ نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فنزل: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وكانت اليهود إذا أصابتهم شدة من الكفار يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، فلما قرب وقت خروجه قالوا: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ.
وهو المروي عن الصادق وكان الأحبار من اليهود يعرفونه فحرفوا صفة النبي صلى الله عليه وآله في التوراة من الممادح إلى المقابح، فلما قالت عامة اليهود: كان محمداً هو المبعوث في آخر الزمان، قالت الأحبار: كلا وحاشا وهذه صفته في التوراة.
وأسلم عبد الله بن سلام وقال: يا رسول الله سل اليهود عني فإنهم يقولون هو أعلمنا فإذا قالوا ذلك قلت لهم إن التوراة دالة على نبوتك وإن صفاتك فيها واضحة، فلما سألهم قالوا كذلك فحينئذ أظهر ابن سلام إيمانه فكذبوه فنزل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
الكلبي: قال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وفنحاص ابن عازورا:يا محمد إن الله عهد الينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أن الله بعثك الينا فجئنا به نصدقك فنزلت: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ. - في بصائر الدرجات/521: (عن الإمام الصادق عليه السلام عليه السلام قال: أتى يهودي يقال له سُبْحَت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد جئتك أسألك عن ربك فإن أجبتني عما أسألك عنه وإلا رجعت. قال: سل عما شئت. قال: أين ربك؟ قال هو في كل مكان وليس في شئ من المكان محدود. قال: فكيف هو؟ قال: أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق لله ولا يوصف بخلقه؟! قال: فمن يعلم أنك نبي قال فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين: يا سبحت إنه
< صفحة > 168 < / صفحة >
رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال سبحت: بالله ما رأيت كاليوم أبين. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله )! - في أمالي الصدوق/481:( عن أبي جعفرالباقر عليه السلام قال: كان غلام من اليهود يأتي النبي صلى الله عليه وآله كثيراً حتى استحبه، وربما أرسله في حاجة، وربما كتب له الكتاب إلى قوم. فافتقده أياماً فسأل عنه فقال له قائل: تركته في آخر يوم من أيام الدنيا. فأتاه النبي صلى الله عليه وآله في ناس من أصحابه، وكان عليه السلام بركة لا يكاد يكلم أحداً إلا أجابه، فقال: يا فلان ففتح عينيه وقال: لبيك يا أباالقاسم، قال: إشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه، فلم يقل له شيئاً، ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله الثانية، وقال له مثل قوله الأول، فالتفت الغلام إلى أبيه فلم يقل له شيئاً، ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله الثالثة فالتفت الغلام إلى أبيه، فقال أبوه: إن شئت فقل وإن شئت فلا. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمداً رسول الله، ومات مكانه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبيه: أخرج عنا، ثم قال صلى الله عليه وآله لأصحابه: غسلوه وكفنوه، وأتوني به أصلي عليه، ثم خرج وهو يقول: الحمد لله الذي أنجى بي اليوم نسمة من النار).
- علل الشرائع (1/127): (قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام : جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله أعلمهم فيما سأله فقال لأي شئ سميت محمداً وأحمد وأباالقاسم وبشيراً ونذيراً وداعياً؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله : أما محمد فإني محمود في الأرض وأما أحمد فإني محمود في السماء، وأما أبوالقاسم فإن الله عز وجل يقسم يوم القيامة قسمة النار فمن كفر بي من الأولين والآخرين ففي النار، ويقسم قسمة الجنة فمن آمن بي وأقر بنبوتي ففي الجنة، وأما الداعي فإني أدعو الناس إلى دين ربي عز وجل، وأما النذير فإني أنذر بالنار من عصاني، وأما البشير فإني أبشر بالجنة من أطاعني).
- أمالي الصدوق/287: (سمعت أباعبد الله الصادق عليه السلام يقول: أتى يهودي النبي صلى الله عليه وآله فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال: يا يهودي، ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله، وأنزل عليه التوراة والعصا، وفلق له البحر، وأظله بالغمام؟
< صفحة > 169 < / صفحة >
فقال له النبي صلى الله عليه وآله : إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول: إن آدم عليه السلام لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد، لما غفرت لي فغفرها الله له، وإن نوحاً عليه السلام لما ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق، فنجاه الله منه، وإن إبراهيم عليه السلام : لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد، لما أنجيتني منها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً. وإن موسى عليه السلام لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أمنتني منها، فقال الله جل جلاله: لا تخف إنك أنت الأعلى.
يا يهودي: إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي، ما نفعه إيمانه شيئاً، ولا نفعته النبوة. يا يهودي، ومن ذريتي المهدي، إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته، فقدمه وصلى خلفه ). - علل الشرائع (2/378): ( عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له: لأي شئ فرض الله عز وجل الصوم على أمتك بالنهار ثلاثين يوماً وفرض على الأمم السالفة أكثر من ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله إن آدم لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً ففرض الله على ذريته ثلاثين يوماً الجوع والعطش والذي يأكلونه تفضل من الله تعالى عليهم، وكذلك كان على آدم ففرض الله ذلك على أمتي ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
قال اليهودي، صدقت يا محمد فما جزاء من صامها؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتساباً إلا أوجب الله سبع خصال أولها يذوب الحرام من جسده، والثانية يقرب من رحمة الله، والثالثة يكون قد كفر خطيئة أبيه آدم عليه السلام ، والرابعة يهون الله عليه سكرات الموت، والخامسة أمان من الجوع والعطش يوم القيامة، والسادسة يعطيه الله براءة من النار، والسابعة يطعمه الله من طيبات الجنة، قال صدقت يا محمد). - في تفسير القمي (2/31): (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (كان سبب نزولها يعني سورة الكهف أن قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران، النضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل السهمي، ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل يسألونها رسول الله صلى الله عليه وآله ، فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق، ثم سلوه عن مسألة واحدة فإن ادعى علمها فهو كاذب قالوا: وما هذه المسائل؟
قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا وكم بقوا في نومهم حتى
< صفحة > 170 < / صفحة >
انتبهوا، وكم كان عددهم، وأي شئ كان معهم من غيرهم وما كان قصتهم؟ واسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه، من هو، وكيف تبعه، وما كان قصته معه؟
واسألوه عن طايف طاف من مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج، من هو وكيف كان قصته؟
ثم أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه.
قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قال: سلوه متى تقوم الساعة، فإن ادعى علمها فهو كاذب، فإن قيام الساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبي طالب عليه السلام فقالوا: يا أباطالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق، وإن لم يجبنا علمنا أنه كاذب! فقال أبوطالب: سلوه عما بدا لكم، فسألوه عن الثلاث مسائل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : غداً أخبركم ولم يستثن، فاحتبس الوحي عليه أربعين يوماً حتى اغتم النبي صلى الله عليه وآله وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزؤوا وآذوا. وحزن أبوطالب، فلما كان بعد أربعين يوماً نزل عليه بسورة الكهف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا جبرئيل لقد أبطأت؟ فقال: إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله فأنزل: أَمْ حَسِبْتَ يا محمد أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً. ثم قص قصتهم فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا. فقال الصادق عليه السلام : إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبار عات، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام، فمن لم يجبه قتله، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عز وجل، ووكل الملك بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بحيلة الصيد، وذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم!
فقال الصادق عليه السلام : فلا يدخل الجنة من البهائم إلا ثلاثة، حمار بلعم بن باعوراء، وذئب يوسف، وكلب أصحاب الكهف.
فخرج أصحاب الكهف من المدينة بحيلة الصيد هرباً من دين ذلك الملك، فلما أمسوا دخلوا
< صفحة > 171 < / صفحة >
ذلك الكهف والكلب معهم، فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا ها هنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم، ثم قالوا لواحد منهم خذ هذا الورق وادخل المدينة متنكراً لا يعرفوك، فاشتر لنا طعاماً فإنهم إن علموا بنا وعرفونا يقتلونا، أو يردونا في دينهم، فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف الذي عهدها ورأي قوماً بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته ولم يعرف لغتهم، فقالوا له: من أنت ومن أين جئت؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف، وأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة وسادسهم كلبهم وقال بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وحجبهم الله عز وجل بحجاب من الرعب، فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه لما دخل إليهم وجدهم خائفين أن يكون أصحاب دقيانوس شعروا بهم، فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنهم آية للناس، فبكوا وسألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا. ثم قال الملك: ينبغي أن نبني هاهنا مسجداً ونزوره، فإن هؤلاء قوم مؤمنون فلهم في كل سنة نقلتان، ينامون ستة أشهر على جنوبهم اليمنى وستة أشهر على جنوبهم اليسرى، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف، وذلك قوله: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ..الخ.).
وفي الكافي(7/448) عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله في الكتاب: وَلاتَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ الله أن لا أفعله فتسبق مشيئة الله في أن لا أفعله فلا أقدر على أن أفعله، قال: فلذلك قال الله عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ، أي استثن مشيئة الله في فعلك). - في أمالي الصدوق/186: ( إن رهطاً من اليهود أسلموا، منهم عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله فقالوا: يا نبي الله، إن موسى عليه السلام أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله، ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية:إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قوموا فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم،
< صفحة > 172 < / صفحة >
هذا الخاتم. قال: من أعطاك؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي. قال: على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعاً. فكبر النبي صلى الله عليه وآله وكبر أهل المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وآله : علي بن أبي طالب وليكم بعدي، قالوا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبعلي بن أبي طالب ولياً. فأنزل الله عزوجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ.
فروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لقد تصدقت بأربعين خاتماً وأنا راكع، لينزل في ما نزل في علي بن أبي طالب، فما نزل)! - معاني الأخبار/24: (عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام قال: كذبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا سحر مبين تقوله، فقال الله: اَلَمِ. ذَلِكَ الْكِتَابُ أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها ألف، لام، ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بين أنهم لايقدرون عليه بقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الآنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. ثم قال الله:ألم هو القرآن الذي افتتح. ألم هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى، فمن بعده الأنبياء فأخبروا بني إسرائيل أن سأنزل عليك يا محمد كتابا عزيزاً: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. لاريب فيه :لاشك فيه لظهوره عندهم كما أخبرهم به أنبياؤهم أن محمداً ينزل عليه كتاب لايمحوه الباطل،يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم.
هُدًى: بيان من الضلالة. للَّمُتَّقِينَ:الذين يتقون الموبقات ويتقون تسليط السفه على أنفسهم حتى إذا علموا مايجب عليهم عملوا بما يوجب لهم رضا ربهم). - من لا يحضره الفقيه (1/274): (صلى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى البيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهراً بالمدينة، ثم عيرته اليهود فقالوا له: إنك تابع لقبلتنا فاغتم لذلك غماً شديداً، فلما كان في بعض الليل خرج صلى الله عليه وآله وسلم يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل عليه السلام فقال له: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. ثم أخذ بيد النبي صلى الله عليه وآله فحول وجهه إلى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال فكان أول صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، وبلغ الخبر
< صفحة > 173 < / صفحة >
مسجداً بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو الكعبة، فكانت أول صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين فقال المسلمون:صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل: وَمَاكَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ. يعني صلاتكم إلى بيت المقدس). - كفاية الأثر /57: (عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخل جندب ابن جنادة اليهودي من خيبر على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد أخبرني عما ليس لله وعما ليس عند الله وعما لا يعلمه الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أما ما ليس لله فليس لله شريك، وأما ما ليس عند الله فليس عند الله ظلم للعباد، وأما ما لايعلمه الله فذلك قولكم يا معشراليهود عزير ابن الله، والله لا يعلم له ولداً. فقال جندب: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً.
ثم قال: يا رسول الله إني رأيت البارحة في النوم موسى بن عمران عليه السلام فقال لي: يا جندب أسلم علي يد محمد واستمسك بالأوصياء من بعده، فقد أسلمت فرزقني الله ذلك، فأخبرني بالأوصياء بعدك لا تمسك بهم.
فقال يا جندب: أوصيائي من بعدي بعدد نقباء بني إسرائيل. فقال: يا رسول الله إنهم كانوا اثني عشر، هكذا وجدنا في التوراة. قال: نعم الأئمة بعدي اثنا عشر. فقال: يا رسول الله كلهم في زمن واحد؟ قال:لا، ولكنهم خلَف بعد خلف، فإنك لا تدرك منهم إلا ثلاثة.
قال: فسمهم لي يا رسول الله. قال: نعم إنك تدرك سيد الأوصياء ووارث الأنبياء وأباالأئمة علي بن أبي طالب بعدي، ثم ابنه الحسن ثم الحسين، فاستمسك بهم من بعدي ولايغرنك جهل الجاهلين، فإذا كانت وقت ولادة ابنه علي بن الحسين سيد العابدين يقضي الله عليك، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه.
فقال: يا رسول الله هكذا وجدت في التوراة البانقطة، شبراً وشبيراً فلم أعرف أساميهم، فكم بعد الحسين من الأوصياء وما أساميهم؟ فقال: تسعة من صلب الحسين والمهدي منهم، فإذا انقضت مدة الحسين قام بالأمر بعده ابنه علي ويلقب بزين العابدين، فإذا انقضت مدة علي قام بالأمر بعده محمد ابنه يدعى بالباقر، فإذا انقضت مدة محمد قام بالأمر بعده ابنه جعفر يدعى بالصادق، فإذا انقضت مدة جعفر قام بالأمر بعده ابنه موسى يدعى بالكاظم، ثم إذا انتهت
< صفحة > 174 < / صفحة >
مدة موسى قام بالأمر بعده ابنه علي يدعى بالرضا، فإذا انقضت مدة علي قام بالأمر بعده محمد ابنه يدعي بالزكي، فإذا انقضت مدة محمد قام بالأمر بعده علي ابنه يدعى بالنقي، فإذا انقضت مدة علي قام بالأمر بعده الحسن ابنه يدعى بالأمين، ثم يغيب عنهم إمامهم. قال: يا رسول الله هو الحسن يغيب عنهم. قال: لا ولكن ابنه الحجة. قال: يا رسول الله فما اسمه؟ قال: لا يسمي حتى يظهره الله.
قال جندب: يا رسول الله قد وجدنا ذكرهم في التوراة وقد بشرنا موسى بن عمران بك وبالأوصياء بعدك من ذريتك، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله : وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.
فقال جندب: يا رسول الله فما خوفهم؟ قال: يا جندب في زمن كل واحد منهم سلطان يعتريه ويؤذيه، فإذا عجل الله خروج قائمنا يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جَوْراً وظلماً. ثم قال عليه السلام : طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمتقين على محجتهم، أولئك وصفهم الله في كتابه وقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وقال: أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
قال ابن الأسفع: ثم عاش جندب بن جنادة إلى أيام الحسين عليه السلام ، ثم خرج إلى الطائف، فحدثني نعيم أبي قيس قال: دخلت عليه بالطائف وهو عليل، ثم إنه دعا بشربة من لبن فشربه وقال: هكذا عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله أنه يكون آخر زادي من الدنيا شربة من لبن، ثم مات رحمه الله ودفن بالطائف في الموضع المعروف بالكوراء). - كفاية الأثر/11: (عن ابن عباس قال: قدم يهودي على رسول الله صلى الله عليه وآله يقال له نعثل فقال: يا محمد إني أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك. قال: سل يا أباعمارة. فقال: يا محمد صف لي ربك. فقال صلى الله عليه وآله : إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار الإحاطة به، جل عما يصفه الواصفون، نأى في قربه وقرب في نأيه، كيَّفَ الكيفية فلا يقال له كيف، وأيَّنَ الأين فلا يقال له أين، هو منقطع الكيفية فيه والأينونية، فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد
< صفحة > 175 < / صفحة >
ولم يكن له كفوا أحد. قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن قولك إنه واحد لاشبيه له، أليس الله واحد والإنسان واحد، فوحدانيته أشبهت وحدانية الإنسان ؟
فقال عليه السلام : الله واحد وأحدي المعنى، والإنسان واحد ثنوي المعنى، جسم وعرض وبدن وروح، وإنما التشبيه في المعاني لا غير.
قال:صدقت يا محمد، فأخبرني عن وصيك من هو، فما من نبي إلا وله وصي وإن نبينا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع ابن نون.
فقال: نعم، إن وصيي والخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عليه السلام ، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة من صلب الحسين، أئمة أبرار.
قال: يا محمد فسمهم لي؟ قال: نعم إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى فابنه محمد، فإذا مضى فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فبعده ابنه الحجة بن الحسن بن علي عليهم السلام . فهذه اثنا عشر إماماً على عدد نقباء بني إسرائيل.
قال: فأين مكانهم في الجنة؟ قال: معي في درجتي. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأشهد أنهم الأوصياء بعدك، ولقد وجدت هذا في الكتب المتقدمة، وفيما عهد إلينا موسى عليه السلام : إذا كان آخر الزمان يخرج نبي يقال له أحمد خاتم الأنبياء لا نبي بعده، يخرج من صلبه أئمة أبرار عدد الأسباط. فقال: يا أباعمارة أتعرف الأسباط؟ قال: نعم يا رسول الله إنهم كانوا اثني عشر. قال: فإن فيهم لاوي بن أرحيا. قال: أعرفه يا رسول الله، وهو الذي غاب عن بني إسرائيل سنين ثم عاد فأظهر شريعته بعد دراستها وقاتل مع فريطيا الملك حتى قتله.
قال عليه السلام : كائن في أمتي ما كان من بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، وإن الثاني عشر من ولدي يغيب حتى لا يرى، ويأتي على أمتي زمن لا يبقى من الإسلام إلا إسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، فحينئذ يأذن الله له بالخروج فيظهر الإسلام ويجدد الدين.
ثم قال عليه السلام : طوبى لمن أحبهم وطوبى لمن تمسك بهم، والويل لمبغضهم! فانتفض نعثل وقام من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأنشأ يقول:
< صفحة > 176 < / صفحة >
صلى العـــــلي ذو العــلى * عليك يا خير البـشر
أنت النبي المصطفى * والهــــــاشمي المفتـــــــــــخر
بك اهتدينا رشدنا * وفيك نرجـــــو ما أمر
ومعـــــشـــر ســـميتــهم * أئمــــــة اثنـــــا عـشــــــر
حباهم رب العـــــلى * ثم صفاهم من كدر
قد فـــــاز من والاهــم * وخاب من عفى الأثر
آخرهم يشفي الظمــا * وهــــــو الإمـــــــام المنتـــــظر
عترتك الأخيـــــار لي * والتابعـــــون مـــا أمــــر
من كان عنكم معرضاً * فسوف يصلى بسقر - الهداية الكبرى/44: (عن جابر بن عبد الله بن عمر بن حزام الأنصاري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بني قريظة، وأقمنا إلى أن فتح الله على رسول الله وعلينا، فانطلقنا راجعين وكان في طريقنا رجل من اليهود، فلما قربنا من كنيسته تلقانا والتوراة على صدره منشورة مزينة، فلقي رسول الله فرحب به وقربه، وقال له: يا أخا اليهود، ما لك قد سعيت إلينا بالتوراة العظيمة القدر في كتب الله المنزلة؟ فقال له اليهودي: جعلتها وسيلتي إليك يا رسول الله لتنزل وتأكل من طعامي.
فقال النبي صلى الله عليه وآله لقد توسلت بعظيم، وأنا مجيبك يا أخا اليهود ثم نزل ونزلنا فإذا بطعام اليهودي قد حضر وحضر معه من تولى إصلاحه من المسلمين، وقال اليهودي: يا أيها النبي أنا ما صنعت طعامك بيدي، بل قوم من أهل دينك لأنا عرفنا أنك تكره طعامنا أهل الملل قبلك، فجلس النبي صلى الله عليه وآله وكان على الطعام خروف مشوي، فغسل النبي يديه وغسلنا أيدينا، ومددنا إلى الطعام، ودعا بالبركة وضرب بيده إلى الخروف، فثغا الخروف واضطرب، فرفع رسول الله يده عنه ورفعنا أيدينا عنه فقال رسول الله: يا أخا اليهود عرفنا توسلك وعرفنا التوراة حقاً، وضيعت ما حفظناه فيك أغواك الشيطان حتى رأيت هذا الخروف، وسمعت منك ما قد
< صفحة > 177 < / صفحة >
عرفته من نفسي. قال اليهودي: فان كنت رسول الله حقاً فاسأل الله أن ينطق هذا الخروف كما أحياه لك فيخبرك بقصتنا.فقال النبي صلى الله عليه وآله : اللهم إني أسألك بقدرتك التي ذل لها ملكك الا ما أنطقت هذا الخروف بهذه القصعة، فقال الخروف في وسط القصعة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله، وأن الذي كان سمني لك عدوك فلان وفلان صارا إلى هذا اليهودي فدفعا إليه عشرين ديناراً وعهدوا له ولقومه من اليهود أن لا يؤذوا، وأن لا يسخروا ولا يعشروا، ولا يكرهوا على شئ يريدونه، وأنه دس السم في الطعام وتلقاك به وقالا له: إلقه في التوراة فإنه يعظمها، وأسأله أن ينزل بك، وهاك هذا الخروف وهذه العشرين ديناراً، فاتخذ بها خبز البر وفاخر أطعمة الأعاجم طبيخاً ومشوياً، ودس هذا السم بهذا الخروف ففعل ذلك!
قال جابر بن عبد الله: والله لقد ظننا أن فلاناً وفلاناً لعنهما الله قد ماتا، لأنهما طأطآ وجوههما قال النبي صلى الله عليه وآله : إرفعا رؤوسكما لا رفع الله لكما صرعة، ولا أقالكما عثرة، ولا غفر لكما ذنباً ولا جريرة، وأخذ بحقي منكما إلى كم هذه الجرأة على الله ورسوله؟ فاظهرا اختلاط عقل ودهشة حتى حملا رحليهما. وضرب النبي صلى الله عليه وآله بيده إلى الخروف وقال له: إرجع بإذن الله مشوياً كما كنت فرجع الخروف كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وآله وقد ضرب بيده إلى لحمه: بسم الله الذي لا يضر مع إسمه داء ولا غائله، وأكل، ثم قال كلوا يرحمكم الله. فقال اليهودي: أنا أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأنك محمد عبده ورسوله حقاً حقا ً، وإله موسى وهارون وما أنزل في التوراة لقد قص عليك الخروف القصة، ما نقص حرفاً ولا زاد حرفاً! وأسلم اليهودي وغزا ست غزوات، واستشهد في ذات السلاسل رحمه الله ). - مسند أحمد (1/278): (قال ابن عباس: حضرت عصابة من اليهود الى نبي الله يوماً فقالوا يا أباالقاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. قال: سلوني عما شئتم ولكن إجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب عليه السلام على بنيه لئن حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعُنِّي على الإسلام. قالوا: فذلك لك. قال: فسلوني عما شئتم. قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل كيف يكون الذكر منه، وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ قال: فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم لتتابعُني؟ قال فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. قال:
< صفحة > 178 < / صفحة >
فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟
قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد عليهم، فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وأن ماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل على ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى بإذن الله. قالوا: اللهم نعم. قال اللهم اشهد عليهم.
فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قبله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قالوا: وأنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك؟ قال: فإن وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك لو كان وليك سواء من الملائكة لتابعناك وصدقناك،قال فما يمنعكم من أن تصدقوه قالوا إنه عدونا. قال: فعند ذلك قال الله عز وجل: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى للَّمُؤْمِنِينَ. مَنْ كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للَّكَافِرِينَ. وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ.أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ… فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَللَّكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ. - تخريج الأحاديث (1/179): (روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله دخل مِدراسهم يعني اليهود فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت؟ قال: على ملة إبراهيم. قالا إن إبراهيم كان يهودياً. قال لهم: إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا، فنزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
- أسباب النزول للواحدي/77: (قال زيد بن أسلم: مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخاً قد غبر في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، فمر على
< صفحة > 179 < / صفحة >
نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال: إعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجابر بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا وقال أحدهما لصاحبه إن شئت رددتها جذعاً وغضب الفريقان جميعاً وقالا: ارجعا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة وهي حرة، فخرجوا إليها فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالاسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً، الله الله فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله سامعين مطيعين، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، يعني شاساً وأصحابه، يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ.
قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله فما رأيت يوماً أقبح ولا أوحش أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم). - تفسير الإمام العسكري عليه السلام /163، عن أبيه الهادي عليه السلام قال: (وأما الشجرتان اللتان تلاصقتا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان ذات يوم في طريق له بين مكة والمدينة، وفي عسكره منافقون من المدينة وكافرون من مكة، ومنافقون منها وكانوا يتحدثون فيما بينهم بمحمد صلى الله عليه وآله وأصحابه الخيرين فقال بعضهم لبعض: يأكل كما نأكل وينفض كرشه من الغائط والبول كما ننفض، ويدعي أنه رسول الله! فقال بعض مردة المنافقين: هذه صحراء ملساء،
< صفحة > 180 < / صفحة >
لأتعمدن النظر إلى إسته إذا قعد لحاجته حتى أنظر هل الذي يخرج منه كما يخرج منا أم لا؟ فقال آخر: لكنك إن ذهبت تنظر منعه حياؤه من أن يقعد، فإنه أشد حياء من الجارية، العذراء الممتنعة المحرمة. قال: فعرَّف الله عز وجل ذلك نبيه محمد صلى الله عليه وآله فقال لزيد بن ثابت: إذهب إلى تينك الشجرتين المتباعدتين يؤمي إلى شجرتين بعيدتين قد أوغلتا في المفازة، وبعدتا عن الطريق قدر ميل فقف بينهما وناد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمركما أن تلتصقا وتنضما، ليقضي رسول الله صلى الله عليه وآله خلفكما حاجته، ففعل ذلك زيد، فقال: فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله بالحق نبياً إن الشجرتين انقلعتا بأصولهما من مواضعهما، وسعت كل واحدة منهما إلى الأخرى، سعي المتحابين كل واحد منهما إلى الآخر والتقيا بعد طول غيبة وشدة اشتياق، ثم تلاصقتا وانضمتا انضمام متحابين في فراش في صميم الشتاء. فقعد رسول الله صلى الله عليه وآله خلفهما، فقال أولئك المنافقون: قد استتر عنا. فقال بعضهم لبعض: فدوروا خلفه لننظر إليه. فذهبوا يدورون خلفه، فدارت الشجرتان كلما داروا، فمنعتاهم من النظر إلى عورته. فقالوا: تعالوا نتحلق حوله لتراه طائفة منا. فلما ذهبوا يتحلقون تحلقت الشجرتان، فأحاطتا به كالأنبوبة حتى فرغ وتوضأ!
وخرج من هناك وعاد إلى العسكر وقال لزيد بن ثابت: عد إلى الشجرتين وقل لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمركما أن تعودا إلى أماكنكما، فقال لهما، فسعت كل واحدة منهما إلى موضعها والذي بعثه بالحق نبياً سعي الهارب الناجي بنفسه من راكض شاهر سيفه خلفه، حتى عادت كل شجرة إلى موضعها. فقال المنافقون: قد امتنع محمد من أن يبدي لنا عورته، وأن ننظر إلى إسته فتعالوا ننظر إلى ما خرج منه لنعلم أنه ونحن سيان، فجاؤوا إلى الموضع فلم يروا شيئا البتة، لا عيناً ولا أثراً.
قال: وعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك فنودوا من السماء:أوعجبتم لسعي الشجرتين إحداهما إلى الأخرى، إن سعي الملائكة بكرامات الله عز وجل إلى محمد أشد من سعى هاتين الشجرتين إحداهما إلى الأخرى، وإن تنكب نفحات النار يوم القيامة عن محبي محمد وعلي والمتبرئين من أعدائه أشد من تنكب هاتين الشجرتين إحداهما عن الأخرى). - تفسير الإمام العسكري عليه السلام /406: (قال جابر بن عبد الله الأنصاري: ولقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وحضره عبد الله ابن صوريا غلام أعور يهودي تزعم اليهود أنه أعلم يهودي
< صفحة > 181 < / صفحة >
بكتاب الله وعلوم أنبيائه فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله عن مسائل كثيرة يعنته فيها، فأجابه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله بما لم يجد إلى إنكار شئ منه سبيلاً فقال له: يا محمد من يأتيك بهذه الأخبار عن الله؟ قال: جبرئيل. قال: لو كان غيره يأتيك بها لآمنت بك، ولكن جبرئيل عدونا من بين الملائكة، فلو كان ميكائيل أو غيره سوى جبرئيل يأتيك بها لآمنت بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ولم اتخذتم جبرئيل عدواً؟ قال: لأنه ينزل بالبلاء والشدة على بني إسرائيل. ودفع دانيال عن قتل بخت نصر حتى قوي أمره، وأهلك بني إسرائيل. وكذلك كل بأس وشدة لا ينزلها إلا جبرئيل، وميكائيل يأتينا بالرحمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله :ويحك أجهلت أمر الله تعالى! وما ذنب جبرئيل إن أطاع الله فيما يريده بكم؟ أرأيتم ملك الموت؟ أهو عدوكم وقد وكله الله بقبض أرواح الخلق الذي أنتم منه؟ أرأيتم الآباء والأمهات إذا وجروا الأولاد الأدوية الكريهة لمصالحهم، أيجب أن يتخذهم أولادهم أعداء من أجل ذلك؟ لا، ولكنكم بالله جاهلون، وعن حكمته غافلون، أشهد أن جبرئيل وميكائيل بأمر الله عاملان، وله مطيعان، وأنه لا يعادي أحدهما إلا مكن عادى الآخر، وأن من زعم أنه يحب أحدهما ويبغض الآخر فقد كذب. وكذلك محمد رسول الله وعلي أخوان، كما أن جبرئيل وميكائيل أخوان، فمن أحبهما فهو من أولياء الله، ومن أبغضهما فهو من أعداء الله، ومن أبغض أحدهما وزعم أنه يحب الآخر فقد كذب، وهما منه بريئان، وكذلك من أبغض واحدا مني ومن علي، ثم زعم أنه يحب الآخر فقد كذب، وكلانا منه بريئان، والله تعالى وملائكته وخيار خلقه منه براء). - تفسير الإمام العسكري عليه السلام /519: (وكان المسلمون تضيق صدورهم مما يوسوس به إليهم اليهود والمنافقون من الشبه في الدين. فقال لهم رسول الله: أوَلا أعلمكم ما يزيل ضيق صدوركم إذا وسوس هؤلاء الأعداء إليكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ما أمر به رسول الله من كان معه في الشعب الذي كان ألجأته إليه قريش، فضاقت صدورهم واتسخت ثيابهم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : انفخوا على ثيابكم، وامسحوها بأيديكم وهي على أبدانكم، وأنتم تصلون على محمد وآله الطيبين، فإنها تنقي وتطهر وتبيض وتحسن وتزيل عنكم ضيق صدوركم. ففعلوا ذلك فصارت ثيابهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله . فقالوا: عجباً يا رسول الله بصلاتنا عليك وعلى آلك كيف طهرت ثيابنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن تطهير الصلاة على
< صفحة > 182 < / صفحة >
محمد وآله لقلوبكم من الغل والضيق والدغل ولأبدانكم من الآثام، أشد من تطهيرها لثيابكم. وإن غسلها للذنوب من صحائفكم، أحسن من غسلها للدرن عن ثيابكم. وإن تنويرها لكتب حسناتكم بمضاعفة ما فيها، أحسن من تنويرها لثيابكم).
- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا.
في تفسير مجمع البيان (3/104): (نزلت في رجال من اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي فقالوا: هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، فكذبهم الله، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا: نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأحِبَّاؤُه، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام ).
كيف حزَّب اليهود الأحزاب؟
في تفسير القمي(2/176): (إن رسول الله صلى الله عليه وآله حين أجلى بني النضير وهم بطن من اليهود من المدينة وكان رئيسهم حي بن أخطب، وهم يهود من بني هارون عليه السلام فلما أجلاهم من المدينة صاروا إلى خيبرخرج حي بن أخطب إلى قريش بمكة وقال لهم إن محمداً قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا وأجلى بني عمنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض واجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى نسير إليهم، فإنه قد بقي من قومي بيثرب سبع مائة مقاتل وهم بنو قريظة وبينهم وبين محمد عهد وميثاق، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد صلى الله عليه وآله ويكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق وهم من أسفل. وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين وهو الموضع الذي يسمى بئر المطلب، فلم يزل يسير معهم حي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة والأقرع بن حابس في قومه، وعباس بن مرداس في بني سليم، فبلغ ذلك رسول الله فاستشار أصحابه وكانوا سبع مائة رجل، فقال سلمان الفارسي: يا رسول الله إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة، قال: فما نصنع؟ قال: نحفر خندقاً يكون بيننا وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم في المطاولة، ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب
< صفحة > 183 < / صفحة >
من مواضع معروفة، فنزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أشار سلمان بصواب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بحفره من ناحية أحد إلى راتح، وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوماً من المهاجرين والأنصار يحفرونه، فأمر فحملت المساحي والمعاول وبدأ رسول الله وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، وأمير المؤمنين ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول الله صلى الله عليه وآله وعيي وقال: لا عيش إلا عيش الآخرة. اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين، فلما نظر الناس إلى رسول الله يحفر اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر وقعد رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الفتح فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه، فبعثوا جابر بن عبد الله الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يعلمه بذلك، قال جابر: فجئت إلى المسجد ورسول الله مستلق على قفاه ورداؤه تحت رأسه، وقد شد على بطنه حجراً، فقلت: يا رسول الله إنه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه، فقام مسرعاً حتى جاءه ثم دعا بماء في إناء فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ثم شرب ومج من ذلك الماء في فيه ثم صبه على الحجر، ثم أخذ معولاً فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المداين، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة أخرى نظرنا فيها إلى قصور اليمن! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أما إنه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل. قال جابر: فعلمت أن رسول الله مقوي أي جائع، لما رأيت على بطنه الحجر فقلت: يا رسول الله هل لك في الغذاء؟ قال:ما عندك يا جابر؟ فقلت: عناق وصاع من شعير فقال: تقدم وأصلح ما عندك، قال: فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعيروذبحت العنز وسلختها وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوي، فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد فرغنا فأحضر مع من أحببت، فقام صلى الله عليه وآله إلى شفير الخندق ثم قال: معاشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً..ثم ذكر شبعهم جميعاً من طعام جابر وهم نحو الألف، وبقي منه).
غدر بني قريظة بالمسلمين
في تفسير القمي(2/186): (فلما طال على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الأمر واشتد عليهم الحصار(في حرب الخندق)وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة، وخافوا من اليهود خوفاً شديداً
< صفحة > 184 < / صفحة >
وتكلم المنافقون بما حكى الله عنهم ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا نافق إلا القليل! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل، وأنه ليصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم.
فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا، وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا فإنها في أطراف المدينة وهي عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها، وقال قوم هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل وكان أمير المؤمنين عليه السلام على العسكر كله بالليل يحرسهم فإن تحرك أحد من قريش نابذهم وكان أمير المؤمنين عليه السلام يجوز الخندق ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم، فلا يزال الليل كله قائماً وحده يصلي، فإذا أصبح رجع إلى مركزه. ومسجد أمير المؤمنين عليه السلام هناك معروف يأتيه من يعرفه فيصلي فيه، وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة نشابة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله من أصحابه الجزع لطول الحصار صعد إلى مسجد الفتح وهو الجبل الذي عليه مسجد الفتح اليوم، فدعا الله وناجاه فيما وعده وكان مما دعاه أن قال: ياصريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين ويا كاشف الكرب العظيم أنت مولاي ووليي وولي آبائي الأولين اكشف عنا غمنا وهمنا وكربنا واكشف عنا شر هؤلاء القوم بقوت وحولك وقدرتك).
فاستجاب الله له، وقتل علي عليه السلام فارسهم ابن ود، وسلط عليهم الريح، فانهزموا.
وقالت اليهود يد الله مغلولة!
قال الله تعالى:وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا للَّحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَالله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
وفي التوحيد/168: (عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في قوله الله عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ: لم يعنوا أنه هكذا، ولكنهم قالوا: قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص، فقال الله جل جلاله تكذيباً لقولهم:
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ. ألم تسمع الله عز وجل يقول:
< صفحة > 185 < / صفحة >
يَمْحُواْ الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
وفي الكافي (3/341): ( إن فضل الدعاء بعد الفريضة على الدعاء بعد النافلة كفضل الفريضة على النافلة، ثم قال: أدعه ولا تقل قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة). وفي رواية عنهم عليهم السلام : فرغ من الأمر ولم يفرغ.
وفي الإعتقادات/40: ( إن اليهود قالوا إن الله قد فرغ من الأمر. قلنا: بل هو تعالى كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ويفعل ما يشاء. وقلنا:يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وإنه لا يمحوا إلا ما كان ولا يثبت إلا ما لم يكن. وهذا ليس ببداء كما قالت اليهود وأتباعهم فنسبتنا اليهود في ذلك إلى القول بالبداء، وتابعهم على ذلك من خالفنا من أهل الأهواء المختلقة. وقال الصادق عليه السلام : ما بعث الله نبياً قط حتى يأخذ عليه الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله تعالى يؤخر ما يشاء ويقدم ما يشاء.
وقال الصادق عليه السلام : من زعم أن الله بدا له في شئ اليوم لم يعلمه أمس فابرؤوا منه. وقال عليه السلام : من زعم أن الله بدا له في شئ بداء ندامة، فهو عندنا كافر بالله العظيم. وأما قول الصادق عليه السلام : ما بدا لله في شئ كما بدا له في ابني إسماعيل، فإنه يقول: ما ظهر لله سبحانه أمر في شئ كما ظهر له في ابني إسماعيل إذ اخترمه قبلي، ليعلم أنه ليس بإمام بعدي).
نموذج من عناد اليهود وردهم للحق!
في تفسير القمي(2/191) يصف أسرى بني قريظة الذين حركوا ضد النبي صلى الله عليه وآله : (وساقوا الأسارى إلى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بأخدود فحفرت بالبقيع فلما أمسى أمر بإخراج رجل رجل فكان يضرب عنقه.
فقال حي بن أخطب لكعب بن أسيد: ما ترى ما يصنع محمد صلى الله عليه وآله بهم؟ فقال له: ما يسؤك! أما ترى الداعي لايقلع والذي يذهب لايرجع، فعليكم بالصبر والثبات على دينكم، فأخرج كعب بن أسيد مجموعة يديه إلى عنقه وكان جميلاً وسيماً فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: يا كعب أما نفعتك وصية ابن الحواس الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر والخنزير وجئت إلى البؤس والتمور، لنبي يبعث مخرجه بمكة ومهاجرته في هذه البحيرة يجتزى
< صفحة > 186 < / صفحة >
بالكسيرات والتميرات، ويركب الحمار العري، في عينيه حمرة، بين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر؟
فقال: قد كان ذلك يا محمد! ولولا أن اليهود يعيروني أني جزعت عند القتل لآمنت بك وصدقتك ولكني على دين اليهود عليه أحيا وعليه أموت!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : قدموه فاضربوا عنقه، فضربت.
ثم قدم حي بن أخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله :يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك؟ فقال والله يا محمد ما ألوم نفسي في عداوتك ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل جهد ولكن من يخذل الله يخذل!ثم قال حين قدم للقتل:
لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه * ولكنه من يخذلِ الله يُخذلِ
فقدم وضرب عنقه. فقتلهم رسول الله في البردين بالغداة والعشي في ثلاثة أيام وكان يقول: أسقوهم العذب وأطعموهم الطيب وأحسنوا إلى أساراهم، حتى قتلهم كلهم، وأنزل الله على رسوله: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ أي من حصونهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرًا).
من تأثير اليهود على بعض الصحابة
في تفسير القمي (2/357): (قال علي بن إبراهيم رحمه الله في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ.قال: نزلت في فلان لأنه مر به رسول الله صلى الله عليه وآله وهو جالس عند رجل من اليهود ويكتب خبر رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله جل ثناؤه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ! فجاء إلى النبي فقال له النبي صلى الله عليه وآله رأيتك تكتب عن اليهود وقد نهى الله عن ذلك! فقال يا رسول الله كتبت عنه ما في التوراة من صفتك وأقبل يقرأ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو غضبان، فقال له رجل من الأنصار ويلك أما ترى غضب النبي عليك؟ فقال أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، إني إنما كتبت ذلك لما وجدت فيه من خبرك،فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله يا فلان! لو أن موسى بن عمران فيهم قائماً ثم أتيته رغبة عما جئتُ به لكنت كافراً بما جئتُ به.
وهو قوله: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ، حجاباً بينهم وبين الكفار وأيمانهم إقرار باللسان وخوفاً
< صفحة > 187 < / صفحة >
من السيف ورفع الجزية وقوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ. قال إذا كان يوم القيامة جمع الله الذين غصبوا آل محمد حقهم فيعرض عليهم أعمالهم فيحلفون له أنهم لم يعملوا منها شيئاً كما حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وآله في الدنيا حين حلفوا أن لا يردوا الولاية في بني هاشم، وحين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله في العقبة، فلما أطلع الله نبيه وأخبره حلفوا له انهم لم يقولوا ذلك ولم يهموا به حتى أنزل الله على رسوله: يَحْلِفُونَ بِالله مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).
وفي الخصال/353: (قال أبوعبد الله الصادق عليه السلام : إن من العلماء من يحب أن يخزن علمه ولا يؤخذ عنه، فذاك في الدرك الأول من النار!
ومن العلماء من إذا وُعظ أَنِف وإذا وَعظ عَنِف، فذاك في الدرك الثاني من النار!
ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة والشرف، ولا يرى له في المساكين موضعاً، فذاك في الدرك الثالث من النار!
ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين، فإن رُد عليه شئ من قوله أو قُصر في شئ من أمره غضب فذاك في الدرك الرابع من النار!
ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزر به ويكثر به حديثه فذاك في الدرك الخامس من النار!
ومن العلماء من يصنع نفسه للفتيا ويقول: سلوني، ولعله لا يصيب حرفاً واحداً والله لا يحب المتكلفين، فذاك في الدرك السادس من النار!
ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة وعقلاً،فذاك في الدرك السابع من النار).
سمى النبي صلى الله عليه وآله عمر وجماعته (المتهوكين)
جوَّز الوهابيون أن يتوسل المسلم إلى الله تعالى بأي شخص حتى بالكافر، فالشرط الوحيد عندهم أن يكون حياً لا ميتاً، حتى لو كان كافراً! وقد رووا أن عائشة مرضت، فدعت يهودية لترقيها، وهو توسل باليهودي!
< صفحة > 188 < / صفحة >
وروى مالك في الموطأ (2/943): ( عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أن أبابكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها! فقال أبوبكر: إرقيها بكتاب الله). يقصد بالتوراة،لأن اليهودية لا تقر بالقرآن!
أما في مذهبنا فالتوسل والإستشفاع بالله تعالى وأسمائه الحسنى، وبالنبي وآله المعصومين عليهم السلام . ولم أجد في سيرة أئمتنا عليهم السلام ولا في سلوك أصحابهم وشيعتهم ذكراً للتوسل بأحد غير المعصومين، وإن وجد فهو تبعٌ للتوسل بهم، وفي موارد خاصة.
كما ورد في الأدعية التوسل بالملائكة المقربين والأنبياء السابقين عليهم السلام وكتب الله المنزلة وعباده الصالحين والأعمال الصالحة.( مصباح المتهجد/ 358 و 302).
أما عمرفكان معجباً بثقافة اليهود حتى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وكان يدرسُ عندهم في المدينة!وقد عرَّبوا له التوراة وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله ليعترف بها، فغضب وزجره، فأعاد ذلك مرات! وله في ذلك قصص مع النبي صلى الله عليه وآله .
ففي أسباب النزول للسيوطي(1/21) (كان يأتي اليهود فيسمع منهم التوراة).
وقال في الدر المنثور (5/148): ( وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها! فقال صلى الله عليه وآله : يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً)!
وهذا يدل على أن عمر كان معه آخرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ! وقد بلغ إعجابهم بأحاديث اليهود أنهم طلبوا من النبي أن يجيز لهم كتابتها رسمياً! ولعلهم كانوا كتبوها بالفعل لكنهم أرادوا من النبي أن يمضي عملهم ويعطيه الشرعية!
ويدل طلبهم هذا على أن التدوين في مفهوم العرب كان يعني القبول والإعجاب، وأن كل ما يأخذ بقلب الإنسان لبلاغته أو صدقه، فهو يستحق الكتابة والتدوين، لكي يحفظ ويستفاد منه. لكن عمر وأبابكر لم يعطيا هذا الإحترام لسنة النبي صلى الله عليه وآله فمنعا تدوينها والتحديث بها!
فاعجب لهذا التناقض!
< صفحة > 189 < / صفحة >
وروى أحمد في مسنده (3/469): ( عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة إلا أعرضها عليك! قال فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله قال عبد الله: فقلت له ألا ترى ما بوجه رسول الله؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً. قال فسري عن النبي صلى الله عليه وآله ثم قال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم).
وفي الدر المنثور(4/3): ( وأخرج أبويعلي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم ونصر المقدسي في الحجة، والضياء في المختارة، عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالساً عند عمر إذ أتاه رجل من عبد القيس فقال له عمر أنت فلان العبدي فقال (عمر): انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : ما هذا في يدك يا عمر؟ فقلت يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا! فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه!
ثم نودي بالصلاة جامعة فقالت الأنصار: أغضب نبيكم، السلاح! فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا أيها الذين آمنوا إني قد أوتيتُ جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون)!
وهذا يدل على أن عمر وجماعته كانوا متهوكين بالفعل، لأن النبي صلى الله عليه وآله نهى المسلمين عن التهوك، وعن الإغترار بالمتهوكين!
وفي سنن أبي داود (2/403): ( عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب، قال بعثني عمر إلى الأسقف فدعوته فقال له عمر: وهل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم، قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك قرناً، فرفع عليه الدرة فقال: قرْنُ مَهْ؟فقال: قرن حديد أمينٌ شديد، قال: كيف تجد الذي يجئ من بعدي؟ فقال: أجده خليفة صالحاً غير أنه يؤثر قرابته، قال عمر: يرحم الله عثمان، ثلاثاً.
فقال: كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجده صدأ حديد، فوضع عمر يده على رأسه فقال: يا دفراه يا دفراه (الدفر النتن) فقال :يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح ولكنه يستخلف حين يستخلف والسيف مسلول والدم مهراق)!
وهذا يدل على أن عمر قرر نقل الخلافة إلى عثمان، وأن الشورى كانت شكلية، ولذا جعل حق النقض فيها لعبد الرحمن بن عوف صهر عثمان!
< صفحة > 190 < / صفحة >
ويدل على أن عمر كان يؤمن بثقافة الأسقف النصراني! ويؤمن بأنه يعلم أحداث المستقبل، ولذا سأله عن مستقبل الدولة والأمة الإسلامية، وقَبِلَ منه، رغم أنه هدده بالضرب بالدرة!
وكان عمر يحترم حاخامات اليهود ويقربهم، ويقيم لهم مجالس التدريس أمرهم في مسجد النبي صلى الله عليه وآله ليحدثوا المسلمين بأحاديث أهل الكتاب، في حين يعاقب على التحديث عن النبي صلى الله عليه وآله ! فاعجب لخليفة المسلمين!
- *
< صفحة > 191 < / صفحة >
الفصل الحادي والعشرون : طعام النبي صلى الله عليه وآله وشرابه
الفصل الحادي والعشرون
طعام النبي صلى الله عليه وآله وشرابه
كان قليل الأكل وعامة طعامه خبز الشعير
في نهج البلاغة(2/58): (فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره. قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً. أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً. عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها. وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغر شيئاً فصغره.
ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله صلى الله عليه وآله ، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقاً لله ومحادَّةً عن أمر الله.
ولقد كان صلى الله عليه وآله يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه. ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها!
فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً ولايعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر. وكذا من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده.
ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوي الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصته وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته.
فلينظر ناظر بعقله أكرم الله محمداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال أهانه فقد كذب والعظيم، وإن
< صفحة > 192 < / صفحة >
قال أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه. فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمداً صلى الله عليه وآله علماً للساعة، ومبشراً بالجنة ومنذراً بالعقوبة. خرج من الدنيا خميصاً وورد الآخرة سليما).
وفي الكافي(8/168):(قال عمرو بن سعيد بن هلال قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق عليه السلام ): إني لا أكاد ألقاك إلا في السنين فأوصني بشئ آخذ به، قال: أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، والورع والإجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع معه. وإياك أن تطمح نفسك إلى من فوقك، وكفى بما قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله :فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ. وقال الله عز وجل لرسوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ.
فإن خفت شيئاً من ذلك فاذكر عيش رسول الله صلى الله عليه وآله فإنما كان قوته الشعير وحلواه التمر، ووقوده السعف، إذا وجده، وإذا أُصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله صلى الله عليه وآله ، فإن الخلق لم يصابوا بمثله قط). وفي رواية مكارم الأخلاق/154: (وحلواه التمر، وإدامه الزيت).
وفي الشمائل المحمدية للترمذي/85: (سئل سهل بن سعد: أكل رسول الله النقي، يعني الحواري(خبز البُر) فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله أكل النقي حتى لقي الله عز وجل، فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قال:ماكانت لنا مناخل، قيل:كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار ثم نعجنه).
(عن يوسف بن سلام قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله أخذ كسرة من خبز الشعير، فوضع عليها تمرة، وقال: هذا إدام هذه، وأكل). (الشمائل/103)).
وفي الكافي(6/362): (عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: أكل النبي صلى الله عليه وآله البطيخ بالسكر، وأكل البطيخ بالرطب). لأن بطيخ المدينة قليل الحلاء.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاوياً هو وأهله لا يجدون عشاء)!
في مسند زيد/461: (قال علي عليه السلام كنا مع النبي صلى الله عليه وآله في حفر الخندق إذ جاءت فاطمة عليها السلام ومعها كسيرة من خبز فدفعتها إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال:ما هذه الكسيرة قالت قرص شعير خبزته للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة، فقال صلى الله عليه وآله :يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل في في أبيك منذ ثلاثة أيام)!
< صفحة > 193 < / صفحة >
ومن وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام (وسائل:24/432): (يا علي اثنتا عشرة خصلة ينبغي للرجل المسلم أن يتعلمها على المائدة، أربع منها: فريضة وأربع منها سنة، وأربع منها أدب. فأما الفريضة فالمعرفة بما يأكل والتسمية والشكر والرضا. وأما السنة فالجلوس على الرجل اليسرى والأكل بثلاث أصابع، وأن يأكل مما يليه، ومص الأصابع. وأما الأدب فتصغير اللقمة والمضغ الشديد، وقلة النظر في وجوه الناس، وغسل اليدين).
وفي سنن النبي صلى الله عليه وآله للطباطبائي/160ملخصاً: (في الكافي قال الصادق عليه السلام : ما كان شيئ أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يظل جائعاً، خائفاً في الله.
وقال علي عليه السلام لليهودي: محمد صلى الله عليه وآله أزهد الأنبياء، كان له ثلاث عشرة نسوة سوى من يطيف به من الإماء ما رفعت له مائدة قطَّ وعليها طعام، وما أكل خبز بر قطَّ، ولا شبع من خبز شعير قطَّ ثلاث ليال متواليات.
كان إذا قعد على المائدة قعد قعدة العبد، وكان يتكي على فخذه الأيسر.
كان يجلس على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز شعير.
وعن الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يلعق أصابعه إذا أكل.
كان النبيّ صلى الله عليه وآله يأكل الأصناف من الطعام. وكان يأكل ما أحل الله له مع أهله وخدمه، إلَّا أن ينزل بهم ضيف فيأكل مع ضيفه.
كان أول من يضع يده وآخر من يرفعها ليأكل القوم.كان إذا أفطر عند قوم قال:أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلَّت عليكم الأخيار.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : عشاء النبيين بعد العتمة فلا تدعوه ، فإن ترك العشاء خراب البدن . ما قُدِّم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله طعام فيه تمر إلَّا بدء بالتمر.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحمد الله بين كل لقمتين.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أكل لبناً مضمض فاه، وقال: إن له دسماً.
كان إذا شرب بدأ فسمى ويمص الماء مصاً ولا يعبُّه عَبّاً، ويقول: الكِباد من العب. (مرض الكبد).
كان يتنفس في الإناء ثلاثة أنفاس، يسمي عند كل، ويشكر الله في آخرهن.
< صفحة > 194 < / صفحة >
فإذا أراد أن يتنفس أبعد الإناء عن فيه حتى يتنفس.
وكان إذا أكل اللَّحم خاصة غسل يديه غسلاً جيداً، ثم مسح بفضل الماء على وجهه.
كان يأكل الأصناف من الطَّعام. وكان يأكل القثاء بالرطب، وكان أحبها إليه البطيخ والعنب، وكان يأكل البطيخ بالخربز، وربما أكل بالسكر.
عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : كلوا الزيت، وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة. وقال: نعم الإدام الخل).
وقد يأكل اللحم وغيره
(نحر رسول الله صلى الله عليه وآله منها ستاً وستين، ونحر علي عليه السلام أربعاً وثلثين بدنة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يؤخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم، ثم يطرح في برمة ثم تطبخ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله منها وعليٌّ عليه السلام ، وحَسَيَا من مرقها). (مناهج الأخيار (3/457).
(أهدت أم حفيد خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وآله أُقطاً وسمناً وضباً، فأكل النبي من الأقط والسمن، وترك الضب تقذراً). (البخاري:3/11).
(دعا النبي صلى الله عليه وآله ببرمة عظيمة فجعل فيها من ذلك الدقيق والسمن والعسل ثم أنضجه فأكل النبي صلى الله عليه وآله وأكلوا ثم قال لهم: كلوا فإن هذا يشبه خبيص أهل فارس). (الحاكم:4/110).
(قال أبوعبيد: طبخت للنبي قدراً، وقد كان يعجبه الذراع فناولته الذراع، ثم قال: ناولني الذراع، فناولته، ثم قال: ناولني الذراع). (الشمائل/96).
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله : سيد طعام أهل الدنيا والآخرة اللحم ثم الأرز. وسيد شراب الدنيا والآخرة الماء، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر). (العيون :2/38).
ويأكل الفاكهة إن وجدت
في الكافي(1/263):(عن الصادق عليه السلام :إن جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله برمانتين فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله إحداهما وكسر الأخرى بنصفين فأكل نصفاً وأطعم علياً عليه السلام نصفاً ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وآله :يا أخي هل تدري ما هاتان الرمانتان؟قال: لا، قال: أما الأولى فالنبوة ليس لك
< صفحة > 195 < / صفحة >
فيها نصيب، وأما الأخرى فالعلم أنت شريكي فيه. فقلت أصلحك الله كيف كان يكون شريكه فيه؟ قال: لم يعلم الله محمداً صلى الله عليه وآله علماً إلا وأمره أن يعلمه علياً عليه السلام ».
وفي روضة الواعظين/159: (قالت أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وآله عندي، وأتاه جبرئيل عليه السلام فكان في البيت يتحدثان إذ دق الباب الحسن بن علي عليه السلام فخرجت أفتح له الباب، فإذا الحسين عليه السلام معه فدخلا، فلما أبصرا جدهما شبها جبرئيل عليه السلام بدحية الكلبي، فجعلا يحفان به ويدوران حوله، فقال جبرئيل عليه السلام يا رسول الله أما ترى الصبيين ما يفعلان؟ فقال: يشبهانك بدحية الكلبي فإنه كثيراً ما يتعاهدهما ويتحفهما إذا جاءنا، فجعل جبرئيل يُومي بيده كالمتناول شيئاً فإذا بيده تفاحة وسفرجلة ورمانة فناول الحسن، ثم أومى بيده مثل ذلك فناول الحسين ففرحا وتهللت وجوهما، وسعيا إلى جدهما صلوات الله عليهم، فأخذ التفاحة والرمانة والسفرجلة فشمها، ثم ردها إلى كل واحد منهما كهيئتهما، ثم قال لهما: صيرا إلى أمكما بما معكما، وبدؤكما بأبيكما أعجب إلي، فصارا كما أمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يأكل منها شئ حتى صار إليهما، فإذا التفاح وغيره على حاله، فقال: يا أباالحسن ما لك لم تأكل ولم تطعم زوجتك وابنيك، وحدثه الحديث فأكل النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام وأطعمنا أم سلمة، فلم يزل الرمان والسفرجل والتفاح كلما أُكل منه عادا إلى ما كان حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله قال الحسين: فلم يلحقه التغيير والنقصان أيام فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فلما توفيت عليها السلام فقدنا الرمان، وبقي التفاح والسفرجل أيام أبي فلما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام فقد السفرجل وبقي التفاح على هيئته عند الحسن حتى مات في سمه، ثم بقيت التفاحة إلى الوقت الذي حوصرتُ عن الماء فكنت أشمها إذا عطشت فتكسر لهب عطشى، فلما اشتد علي العطش عضضتها وأيقنت بالفناء. قال علي بن الحسين عليهما السلام : سمعته يقول ذلك قبل مقتله بساعة، فلما قضى نحبه وجد ريحها من مصرعه، فالتمست فلم ير لها أثر فبقي ريحها بعد الحسين عليه السلام . ولقد زرت قبره فوجدت ريحها تفوح من قبره فمن أراد ذلك من شيعتنا الزائرين للقبر فليلتمس ذلك في أوقات السحر، فإنه يجده إذا كان مخلصاً).
وكان يتواضع في جلسته للأكل
(ما أكل رسول الله على مائدة قط، ولا أكل خبز رقاق قط، ولا اصطبغ في سَكْرَجَبَة قط، قال فقيل: يا أباحمزة فعلى أي شئ كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر). (البيهقي:7/47).
< صفحة > 196 < / صفحة >
(عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله متكئاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه تواضعاً لله عز وجل. وما رأى ركبتيه جليسه في مجلس قط ولا صافح رسول الله صلى الله عليه وآله رجل قط فنزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده، ولا كافأ رسول الله صلى الله عليه وآله بسيئة قط، قال الله تعالى له: إِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، ففعل. وما منع سائلاً قط، إن كان عنده أعطى وإلا قال: يأتي الله به، ولا أعطى على الله عز وجل شيئاً قط إلا أجازه الله، إن كان ليعطي الجنة فيجيز الله عز وجل له ذلك). (الكافي:8/164).
(وأكل النبي صلى الله عليه وآله يوماً رطباً كان في يمينه وكان يحفظ النوى في يساره، فمرت شاة فأشار إليها بالنوى فجعلت تأكل في كفه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتى فرغ، وانصرفت الشاة).
(منانقب آل أبي طالب:1/104)
وفي كثير من حالات الجوع كان الله ينزل الله له الطعام
في أمالي الصدوق/581:(عن ابن عباس قال:كنا جلوساً في محفل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ورسول الله فينا، فرأينا رسول الله وقد أشار بطرفه إلى السماء فنظرنا فرأينا سحابة قد أقبلت فقال لها: أقبلي، فأقبلت، ثم قال لها: أقبلي، فأقبلت، ثم قال لها: أقبلي، فأقبلت، فرأينا رسول الله وقد قام قائماً على قدميه، فأدخل يديه في السحاب حتى استبان لنا بياض إبطي رسول الله صلى الله عليه وآله فاستخرج من ذلك السحاب جامة بيضاء مملوءة رطباً فأكل النبي صلى الله عليه وآله من الجام وسبح الجام في كف رسول الله صلى الله عليه وآله ، فناوله علي بن أبي طالب عليه السلام فأكل علي عليه السلام من الجام، فسبح الجام في كف علي عليه السلام . فقال رجل: يا رسول الله، أكلت من الجام، وناولته علي بن أبي طالب! فأنطق الله عز وجل الجام وهويقول: لا إله إلا الله، خالق الظلمات والنور، إعلموا معاشر الناس أني هدية الصادق إلى نبيه الناطق، ولا يأكل مني إلا نبي أو وصي نبي).
وفي الخرائج (1/48): (روى عن أم سلمة أن فاطمة عليها السلام جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله حاملة حسناً وحسيناً وفُخاراً فيه حريرة فقال: أدعي ابن عمك. فأجلس أحدهما على فخذه اليمنى، والآخر على فخذه اليسرى، وعلياً وفاطمة أحدهما بين يديه والآخر خلفه، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ثلاث مرات. وأنا عند عتبة الباب فقلت: وأنا
< صفحة > 197 < / صفحة >
منهم؟ فقال: أنت إلى خير. وما في البيت أحد غير هؤلاء وجبرئيل عليهم السلام ثم أغدف عليهم كساءً خيبرياً فجللهم به وهو معهم،ثم أتاه جبرئيل بطبق فيه رمان وعنب فأكل النبي صلى الله عليه وآله فسبح، ثم أكل الحسن والحسين عليهما السلام فتناولا، فسبح العنب والرمان في أيديهما، ودخل علي فتناول منه فسبح أيضاً ثم دخل رجل من أصحابه وأراد أن يتناول. فقال جبرئيل: إنما يأكل من هذا نبي أو ولد نبي أو وصي نبي).
وفي الثاقب في المناقب/296، وتفسير الثعلبي(3/57) وتفسير ابن كثير( 1/368): (عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله ص أقام أياماً لم يُطعم طعاماً، حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه، فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئاً، فأتى فاطمة رضي الله عنها فقال: يا بنية هل عندكِ شيء آكلُ فإني جائع؟ فقالت: لا والله بأبي أنتَ وأمّي، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من عندها، بعثت إليها جارية لها برغيفين وبضعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطت عليه وقالت: لأوثرن بها رسول الله على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة من طعام،فبعثت حسناً وحسيناً إلى جدهما رسول الله صلى الله عليه وآله فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد أتانا الله بشيئ فخبأته لك، قال: فهلمي به ، فأُتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً فلما نظرت إليه بُهتتْ وعرفت أنها من بركة الله، فحمدت الله تعالى وصلت على نبيه، فقال صلى الله عليه وآله : من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: هو من عند الله إن الله يزرق من يشاء بغير حساب، فحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت يرزقها الله رزقاً حسناً فسُئِلت عنه قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّاللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. فبعث رسول الله إلى علي ، ثم أكل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته جميعاً حتى شبعوا. قالت فاطمة: وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً).
ويقبل الدعوة من كل مسلم
(مجمع الزوائد:5/27). (عن عبد الله بن بشر قال: بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أدعوه إلى طعام فجاء معي فلما دنوت من المنزل أسرعت فأعلمت أبوي فخرجا فتلقيا رسول الله صلى الله عليه وآله ورحبا ووضعا له قطيفة كانت عندنا زبيرية فقعد عليها، ثم قال أبي لأمي: هات طعامك. فجاءت
< صفحة > 198 < / صفحة >
بقصعة فيها دقيق قد عصدته بماء وملح، فوضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: خذوا باسم الله من جوانبها وذروا ذروتها، فإن البركة فيها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وأكلنا معه وفضل منها فضلة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وبارك عليهم، ووسع عليهم في أرزاقهم). (عن أنس أن النبي ص استأذن على سعد بن عبادة فقال:السلام عليكم ورحمة الله، فقال سعد وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي حتى سلم ثلاثاً ورد عليه سعد ثلاثاً ولم يسمعه فرجع النبي فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك أحببت أن استكثر من سلامك ومن البركة ثم أدخله البيت فقرب إليه زيتا فأكل النبي صلى الله عليه وآله فلما فرغ قال: أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون). (مجمع الزوائد:9/34).
(عن جابر قال كان رجل من الأنصار يقال له أبوشعيب وكان له غلام لحام فقال له: إجعل لنا طعاماً لعلي أدعو رسول الله صلى الله عليه وآله سادس ستة فدعاهم فاتبعهم رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : إن هذا قد اتبعنا أفتأذن له؟ قال: نعم). (مسند أحمد:3/353).
(قال أنس: إن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وآله لطعام صنعه. قال أنس: فذهب مع رسول الله إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله خبزاً من شعير، ومرقاً فيه دباء وقديد. قال أنس: فرأيت النبي يتتبع الدباء حوالي القصعة، فلم أزل أحب الدباء من يومئذ). (الشمائل المحمدية/96).
ويذكر الله عند البدء بالأكل وبعده
(عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: إنه صلى الله عليه وآله كان: يقول في آخر كل يوم يمضي من عند الإفطار: الحمد الله الذي أعاننا فصمنا، ورزقنا فأفطرنا.اللهم تقبله منا، وأعنا عليه، وسلمنا فيه، وتسلمه منا في يسر منك وعافية. الحمد لله الذي قضى عنا يوماً من شهر رمضان حتى يتم إن شاء الله.وكان إذا أفطر قال: اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبله منا، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وبقي الأجر.
قال: وكان صلى الله عليه وآله إذا أكل عند قوم قال: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار). (المقنعة/319).
< صفحة > 199 < / صفحة >
كان يأكل بثلاث أصابع ويلعق أصابعه ويغسل يديه
(عن سلمان قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وأخبرته بما قرأت في التوراة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده).
(الشمائل/104).
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه في فيه فمصها. وقال الصادق عليه السلام : إني لألعق أصابعي حتى أرى أن خادمي يقول: ما أشره مولاي). (جواهر الكلام:36/450).
(عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا فرغ من طعامه قال: الحمد الله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين. وعن أبي أمامة قال: كان رسول الله إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول: الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مودع ولا مستغنى عنه ربنا. (الشمائل/105)
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : من أطمعه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه).
(الشمائل/114).
ونهى عن أشياء في الطعام والشراب
ففي أمالي الصدوق/509: ( عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن الأكل على الجنابة وقال: إنه يورث الفقر. ونهى أن يأكل الإنسان بشماله وأن يأكل وهو متكئ.
ولا يشربن أحدكم الماء من عند عروة الإناء فإنه مجتمع الوسخ. وقال لايبيتن أحدكم ويده غمرة (دسمة وسخة) فإن فعل فأصابه لمم الشيطان فلا يلومن إلا نفسه.
ونهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة. ونهى أن ينفخ في طعام أو شراب وأن يأكل وذو عينين ينظر إليه ولا يواسيه، فيبتلى بداء لا دواء له).
وفي الشمائل/111: (وكان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله قال: اللهم بارك لنا في ثمارنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا وفي مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه. قال: ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر).
< صفحة > 200 < / صفحة >
وقالوا الطعام يبطل الوضوء وهو غير صحيح
(أكل رسول الله صلى الله عليه وآله كتفاً في بيت ميمونة بنت الحارث فصلى ولم يتوضأ)
(المعجم الكبير:11/165).
كذبوا على النبي صلى الله عليه وآله بأنه كان يشرب النبيذ
(سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله عليه السلام :ما تقول في النبيذ فإن أبا مريم يشربه ويزعم أنك أمرت بشربه، فقال: معاذ الله عز وجل أن أكون آمر بشرب مسكر! والله إنه لشئ ما اتقيت فيه سلطاناً ولاغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : كل مسكر حرام، فما أسكر كثيره فقليله حرام).
(الكافي:6/410).
(عن خضر الصيرفي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:من شرب النبيذ على أنه حلال خُلد في النار، ومن شربه على أنه حرام عذب في النار). (الكافي:6/398).
- *
وفي نهج البلاغة (2/49): « قام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنها؟ فقال عليه السلام : لما أنزل الله سبحانه قوله: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله بين أظهرنا فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟ فقال: يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي! فقلت يا رسول الله: أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة فشق ذلك عليَّ، فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً ؟ فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر! فقال: يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية. والربا بالبيع! قلت يا رسول الله: بأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة ».
< صفحة > 201 < / صفحة > - *
وقد أورد السيد السبزواري في المهذب(23/189):(عدداً من آداب الأكل والشرب، منها: قال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا وضعت المائدة حفها أربعة آلاف ملك، فإذا قال العبد: بسم الله قالت الملائكة: بارك الله عليكم في طعامكم ثمَّ يقولون للشيطان: أخرج يا فاسق لا سلطان لك عليهم. فإذا فرغوا فقالوا الحمد لله قالت الملائكة: قوم أنعم الله عليهم فأدّوا شكر ربهم، وإذا لم يسموا قالت الملائكة للشيطان: أدن يا فاسق فكل معهم، فإذا رفعت المائدة ولم يذكروا اسم الله عليها قالت الملائكة: قوم أنعم الله عليهم، فنسوا ربهم »
قال النبي صلى الله عليه وآله : « ما من رجل يجمع عياله ويضع مائدته فيسمون في أول طعامهم، ويحمدون في آخره، فترفع المائدة حتى يغفر لهم ».
وفي وصيته صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام في آداب المائدة: الخلال بعد الطعام وأن لا يكون بعود الريحان وقضيب الرمان والخوص والقصب.
وعنه صلى الله عليه وآله : رحم الله المتخلَّلين، قيل: يا رسول الله وما المتخلَّلون؟ قال: المتخلَّلون من الطعام فإنه إذا بقي في الفم تغير فأذّى الملك ريحه.
وعن علي عليه السلام : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن التخلَّل بالرمان والآس والقصب وقال: إنهن يحركن عرق الآكلة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : الذي يسقط من المائدة مهور حور العين.
ونهى صلى الله عليه وآله أن ينفخ في طعام أو شراب، أو ينفخ في موضع السجود.
وعن الصادق عليه السلام « إذا أكل أحدكم أو شرب فليأكل أو يشرب بيمينه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وآله كان إذا أكل مع القوم طعاماً كان أول من يضع يده وآخر من يرفعها ليأكل القوم » .
وعن الصادق عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله كان يجلس جلسة العبد ويضع يده على الأرض ويأكل بثلاث أصابع، ليس كما يفعل الجبارون يأكلون بإصبعين.
و عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أكرموا الخبز، قيل: يا رسول الله وما إكرامه؟ قال: إذا وضع لا ينتظر به غيره.
< صفحة > 202 < / صفحة >
و عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إياكم أن تشموا الخبز كما يشمه السباع فإن الخبز مبارك أرسل الله له السماء مدراراً وله أنبت الله المرعى، وبه صليتم وبه صمتم، وبه حججتم بيت ربكم.
وعن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : سيد شراب الجنة الماء). - *
وقال الشيخ محمد جواد مغنية في فقه الإمام جعفر الصادق عليه السلام (4/396):
(في كتب الفقه والحديث روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام في آداب المائدة، وبيان النافع والضار من الأطعمة والأشربة، وقد جمعها الحر العاملي في المجلد الثالث من كتاب وسائل الشيعة باب الأطعمة والأشربة، وتبلغ المئات، ولو أخرجت في كتاب مستقل لجاءت في مجلد ضخم، وفيما يلي بعض ما تضمنته تلك الروايات:
يستحب غسل اليدين قبل الطعام وبعده، مع غسل الفم، وأن يفتتح الأكل بالملح ويختم به، وأن لا يأكل الفاكهة إلَّا بعد غسلها.
وقال الصادق عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الطعام إذا جمع ثلاث خصال فقد تم: إذا كان من حلال، وكثرت الأيدي عليه، وسمى في أوله، وحمد الله في آخره.
ويكره أكل الطعام حاراً، فعن الإمام الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قدم إليه طعام حار، فقال: نَحُّوهُ حتى يبرد، إن اللَّه لم يطعمنا النار.
ونهى أن ينفخ في طعام أو شراب. وقال الصادق عليه السلام : لم يكن رسول الله يأكل طعاماً، أو يشرب شراباً إلَّا قال: اللهم بارك لنا فيه، وأبدلنا خيراً منه إلَّا اللبن فإنه كان يقول: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه. وعن النبي صلى الله عليه وآله : عليكم بالفواكه في إقبالها، فإنها مصحة للأبدان). - *
< صفحة > 203 < / صفحة >
الفصل الثاني والعشرون : يسلط الله رسله على من يشاء
الفصل الثاني والعشرون
يسلط الله رسله على من يشاء
الأرض ومن فيها ملك طلق لله تعالى
قال الله تعالى:قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ للَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
فالأرض ومن فيها ملك طلقٌ لله تعالى، فهو خالقها ومالكها، وله أن يتصرف فيها كما شاء، فيهبها لمن شاء، يهب الأراضي والثروات، بل يهب الناس والمخلوقات، ولا يحق لأحد أن يعترض على تصرفه. فالحديث الذي يقول إن الله وهب الأرض وما عليها للإمام عليه السلام منسجم مع الأصل القانوني والفقهي، ولو قال أسكنت فيها بني آدم بشرط الإسلام لكان للمسلمين الحق أن يسكنوا فيها، أما الكفار فيجب أن يعطوا أجرة أو جزية بدل سكناهم، وذلك منسجمٌ مع الأصل القانوني والفقهي.
وقال تعالى: وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ. أي كل أرض أو بلد تدخل في الإسلام بدون قتال فهي فيئٌ للنبي صلى الله عليه وآله وهي ملك له خاصة دون المؤمنين.
ملكية المعصوم أكبر من بقية الملكيات
في الإسلام أربعة أنواع من الملكية: الملكية الشخصية، وملكية الدولة، وملكية المسلمين، وملكية الإمام. وقد جعل الله ملكية الإمام أكبر الملكيات فهي تشمل أكثر الثروات الطبيعية والأراضي المشاع وغيرها. وذلك لكي يوازن الإمام بين الملكيات، فجعل يده مبسوطة ليعطي
< صفحة > 204 < / صفحة >
من ملكيته ما يسد الحاجة ويحفظ حاجة المجتمع وتوازن اقتصاد البلد.
الأرض كلها للإمام عليه السلام
قال الإمام الباقر عليه السلام (الكافي1/407): ( وجدنا في كتاب علي عليه السلام إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ للَّمُتَّقِينَ. أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون والأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، يؤدي خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها، كما حواها رسول الله صلى الله عليه وآله ومنعها. إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم و يترك الأرض في أيديهم).
وفي الكافي(1/408): (قال: رأيت مسمعاً بالمدينة، وقد كان حمل إلى أبي عبد الله عليه السلام تلك السنة مالاً فرده أبوعبد الله، فقلت له: لم رد عليك أبوعبد الله المال الذي حملته إليه؟ قال: إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت وليت البحرين الغوص فأصبت أربع مائة ألف درهم وقد جئتك بخمسها بثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك، وأن أعرض لها، وهي حقك الذي جعله الله تبارك وتعالى في أموالنا، فقال: أوَما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس يا أباسيار؟ إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شئ فهو لنا، فقلت له: وأنا أحمل إليك المال كله؟ فقال: يا أباسيار قد طيبناه لك وأحللناك منه فضم إليك مالك، وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم صغرة. قال عمر بن يزيد: فقال لي أبوسيار: ما أرى أحداً من أصحاب الضياع، ولا ممن يلي الأعمال يأكل حلالاً غيري، إلا من طيبوا له ذلك).
القانون الطبيعي وأصل الملكية عندهم في طريق مسدود
قال الحقوقيون إن القانون الطبيعي يستوجب ملكية الإنسان لما يحتاج اليه في معيشته، من مسكن وزراعة ومأكل ومدفن. وقد ناقشتهم في مستند هذه الملكية، لأنهم ما داموا يقرون
< صفحة > 205 < / صفحة >
بملكية الله تعالى فلا بد أن يستند الإستحقاق الى تمليك المالك عز وجل. وقد أقر بذلك الدكتور عبد الحي حجازي رئيس كلية الحقوق بجامعة الكويت.
فالحقوقي عندما يبحث استحقاق الملكية، لا يجوز أن يغمض عينيه عن خالق الأرض والإنسان ومالكهما عز وجل.
وبهذا يتميز الفقه الإسلامي عن القانون بأنه لاينطلق في أصوله وتفريعاته من فراغ، أو من فرضية خيالية ، بل من تمليك المالك الشرعي عز وجل.
حروب النبي صلى الله عليه وآله منها دفاعية ومنها هجومية
بعض الناس يتخيل أن هجوم النبي صلى الله عليه وآله على أعدائه لايناسب نبوته، فيقول إن حروبه كانت كلها دفاعية، وإنه لم يكن يبدأ بهجوم أبداً.
وبعضهم يريدون الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله أمام الغربيين الذين يقولون إن محمداً جاء بالقتل وسفك الدماء، فيديبونهم: كلا، بل هو مدافع.
وقد كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ما خلاصته:
قال أمير المؤمنين عليه السلام يصف حالة الأنصار في أول الهجرة (أمالي الطوسي/174): «فلما آووا رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه ونصروا الله ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة، فتجردوا للدين وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل، وما بينهم وبين اليهود من العهود، ونصبوا لأهل نجد وتهامة، وأهل مكة واليمامة، وأهل الحزن وأهل السهل، قناة الدين والصبر، تحت حماس الجلاد ».
وهذا جو يستوجب الإستنفار الدائم للدفاع. فحروبهم مع قريش وغيرها كانت دفاعاً أو وقاية من اعتداء متوقع.
وقد تبنى هذا التحليل الكُتَّاب المسلمون المعاصرون رداً على الغربيين الذين اتهموا الإسلام بأنه دين دموي انتشر بالقوة.
وقد أجاب بعضهم بإجابات ضعيفة، فادعوا أن جميع حروب النبي صلى الله عليه وآله دفاعية، لكن آيات فريضة الجهاد صريحة في تشريع القتال للدفاع والهجوم، وكذا ما دونه الفقهاء في أبواب الجهاد،
< صفحة > 206 < / صفحة >
كالكافي: 5 / 13، ومبسوط الطوسي: 2 / 2، والجواهر: 21 / 3، والمجموع: 19 / 265، والمغني: 10 / 364.
والأصل الحقوقي في هذه المسائل أن المالك المطلق للأرض والكون هو الله تعالى، فهو الخالق المالك عز وجل. وبما أنه عادل حكيم، لم يعط حق دعوة الناس اليه إلا للمعصومين من أنبيائه وأوصيائه عليهم السلام .ولهذا سلط رسوله على الناس: وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ ». وحصرالمأذون لهم بالدعوة والقتال بالمعصومين الذين اختارهم.( تهذيب الأحكام: 6 / 131).
روى في الكافي(8 /341) بسند صحيح عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال:«إنه لما ماتت خديجة قبل الهجرة بسنة ومات أبوطالب بعد موتها، حزن رسول الله حزناً شديداً، وخاف على نفسه من كفار قريش فأوحى الله إليه:أخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة، فليس لك بمكة ناصر، وانصب للمشركين حرباً. فعند ذلك توجه رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة ».
وقال ابن هشام (2/320): « أذن الله عز وجل لرسوله في القتال والإنتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب قول الله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ».
وقال الصادق عليه السلام (الكافي(5/7): «إن الله عز وجل بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشرسنين فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال! فالخيركله في السيف وتحت ظل السيف، ولايقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار ».
حروب النبي صلى الله عليه وآله مشروعة لاسترداد حريته في الدعوة
فكان من حقه صلى الله عليه وآله أن يقاتلهم لينتزع منهم حريته في التبليغ، وقد استند الى ذلك في معركة بدر فقال لبني هاشم: « قاتلوا على حقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاؤوا بباطلهم ليطفؤا نور الله). ( المناقب:1 / 162).
وفي نقض العثمانية (1/283): (فقال النبي صلى الله عليه وآله لأهله الأدنين: قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله، على باطل هؤلاء).
وحق النبي صلى الله عليه وآله وبني هاشم أن يبلغ نبيهم رسالة ربه بحرية، وأن يقاتل ليسترد حريته. كما
< صفحة > 207 < / صفحة >
أن من حقه أن يتخذ كل الإجراءات اللازمة لحماية نفسه. وحقه أن يفند افتراءهم وبهتانهم عليه وعلى رسالته.
ولأنه أفضل الأنبياء عليهم السلام ورسالته خاتمة الرسالات كانت أول قضية ترفع يوم القيامة ظلم قريش له، وصدها عن سبيل الله الذي يدعو اليه، ومنعها الخير والهداية أن تصل الى شعوب العالم وأجياله. فمحكمة القيامة تبدأ بالقضايا الكبرى التي أثرت على أمن الشعوب وهدايتهم، شبيهاً بقضايا أمن الدولة، وتنظر فيها قبل القضايا الفردية.
وأول القضايا الكبرى ظلم قريش للنبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وبني هاشم. وهذا معنى ما رواه البخاري ورويناه من أن علياً عليه السلام أول شاكٍ يوم القيامة، أي نيابة عن النبي صلى الله عليه وآله وأصالة عن نفسه! فهو صاحب قضية لها أولوية في محكمة العدل الكبرى على قضايا الأمم، لأنها الأعظم على الإطلاق!
قال البخاري في صحيحه (5/6): (عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة)!
وقال الحاكم (2/387): (قال عليٌّ: وأنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. لقد صح الحديث بهذه الروايات عن علي، كما صح عن أبي ذر الغفاري).
وهذه حقيقة قارعة، فعلي عليه السلام الشاكي يجثو على ركبتيه بين يدي الله عز وجل ويقدم شكواه على قريش بالأصالة عنه والوكالة عن النبي صلى الله عليه وآله !
وقد كان عليه السلام يعلن شكواه من قريش، ومما قاله عليه السلام (نهج البلاغة:1/82): (مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين. وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم. والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حَيِّزنا، فكانوا كما قال الأول:
أدمت لعمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلك بالزُّبد المقشــــــرة البُجْــــرَا
ونحن وهبناك لعلاء ولم تكن علياً * وحُطْنَا حولك الجُـــــرد والســـمرا
وقال عليه السلام (الخصال/366): (وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشاً لم تزل تَخيَّلُ الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة، وإبليس الملعون
< صفحة > 208 < / صفحة >
حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لِبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدراً، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار، فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالخبر، وأمرني أن أضطجع في مضجعه ، وأقيه بنفسي، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه، فمضى صلى الله عليه وآله لوجهه واضطجعت في مضجعه، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس).
وقال عليه السلام (نهج البلاغة:3/61): (فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله قبلي، فجَزَت قريشاً عني الجوازي ، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أمي).
وقال عليه السلام (نهج البلاغة:2/27):(أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم. بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى.إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لاتصلح على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم.
منها: آثروا عاجلاً وأخروا آجلاً، وتركوا صافياً وشربوا آجناً. أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والأبصار اللامحة إلى منار التقوى. أين القلوب التي وهبت لله وعوقدت على طاعة الله. إزدحموا على الحطام وتشاحُّوا على الحرام، ورفع لهم علم الجنة والنار فصرفوا عن الجنة وجوههم وأقبلوا إلى النار بأعمالهم. دعاهم ربهم فنفروا وولوا، ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا).
وقال عليه السلام (نهج البلاغة:2/202): (اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابٌّ ولا
< صفحة > 209 < / صفحة >
مساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجى، وصبرت من كظم الغيظ على أمرِّ من العلقم، وآلم للقلب من حز الشفار)!
في الخصال/462: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله :يا علي إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك، وعصوني فيك. فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر، ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة، فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي، كذلك أخبرني جبرئيل عليه السلام عن ربي تبارك وتعالى).
وقال له النبي قبل وفاته (البصائر/141):(لست أخاف عليك أن تضل بعد الهدى، ولكن أخاف عليك فساق قريش وعاديتهم! حسبنا الله ونعم الوكيل).
وفي شرح النهج(20/326): (أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إلى أن الأمة ستغدر بك من بعدي).
ورواه الحاكم (3/140و143) بلفظ: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي، وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه ستخضب من هذا يعني لحيته من رأسه).
وقال الهيثمي(9/138): (رواه البزار وفيه علي بن قادم وقد وُثق وضعف).
أقول: ما تقدم يكفي لنعرف أن شكاية علي عليه السلام يوم يجثو أمام ربه عز وجل إنما هي من قريش، وأن محاولة البخاري ورواة السلطة أن يجعلوها شكاية على من قتلهم في بدر محاولةٌ ركيكة بل سخيفة، فبعد قتله إياهم لم يبق ما يشتكيه منهم!
- *
< صفحة > 210 < / صفحة >
الفصل الثالث والعشرون : محاولات قريش واليهود اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
الفصل الثالث والعشرون
محاولات قريش واليهود اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
غضبت قريش وقررت قتل النبي صلى الله عليه وآله لمجرد بعثته!
كانت قريش تنتظرأن يظهر نبي من بني عبد المطلب، فقد شاع ذلك من الأحبار والرهبان، وبمجرد أن عرفت أن محمداً قال إنه بعث نبياً، اتخذت قراراً بقتله،لأنه يخل بتوافق قبائل قريش على مناصب السيادة، وبنو هاشم سهمهم السقاية والرفادة ويريد محمد أن يترأسوا على قريش، وهذا لايكون!
كتب أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه لمعاوية (مناقب الخوارزمي/251):« أما بعد، فإن أخا خولان أتاني منك بكتاب تذكر فيه محمداً صلى الله عليه وآله ، والحمد لله الذي صدق له الوعد، ومكن له في البلاد وأظهره على أهل عداوته والشنآن من قومه الذين ألبوا عليه العرب، وهم قومه الأدنى فالأدنى إلا قليلاً ممن عصمه الله.
كنا أهل البيت أول من آمن وصدق بما أرسل به، فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل وأمسكوا منا المادة، وقطعوا عنا الميرة، ومنعونا الماء العذب، وأحلونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وكتبوا بينهم كتاباً أن لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا نأمن فيهم، حتى ندفع إليهم نبينا صلى الله عليه وآله فيقتلوه ويمثلوا به! فعزم الله على منعه والذب عن حوزته، فمؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامي عن الأصل، وأنا أول أهل بيتي إسلاماً معه، ومن أسلم بعدنا أهل البيت من قريش فحليف ممنوع، وذو عشيرة تحامي عنه ».
أقول:إن الخطر الشديد على حياة النبي صلى الله عليه وآله كان في ثلاث فترات، أولاها السنوات الثلاث الأولى
< صفحة > 211 < / صفحة >
من أول البعثة إلى هلاك المستهزئين، والثانية فترة حصار الشعب التي استمرت أكثر من ثلاث سنوات، والثالثة بعد وفاة أبي طالب الى هجرته، وكانت نحو سنة.
وفي تفسير القمي(1/379): (فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله (أول السنة الرابعة) فقام على الحِجْر فقال: يا معشر قريش يا معشرالعرب: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام، فأجيبوني تملكوا بها العرب، وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة. فاستهزؤوا به وقالوا: جُنَّ محمد بن عبد الله، ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أباطالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شباننا وفرق جماعتنا، فإن كان يحمله على ذلك العُدْم جمعنا له مالاً فيكون أكثر قريش مالاً، ونزوجه أي امرأة شاء من قريش، فقال له أبوطالب:يا ابن أخي إن قومك قد أتوني يسألوني أن أسألك أن تكف عنهم، فقال يا عم لا أستطيع أن أخالف أمر ربي. فكف عنه أبوطالب. ثم اجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: أنت سيد من ساداتنا فادفع الينا محمداً لنقتله وتملك علينا، فقال أبوطالب قصيدته الطويلة يقول فيها:
ولما رأيت القوم لا وُدَّ عندهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائلِ
كذبتم وبيت الله نُبْزي محمداً * ولما نطاعنْ دونه ونناضلِ
ونُسْلمه حتى نُصَـرَّعَ حوله * ونذهلَ عن أبنائنا والحلائلِ
فلما اجتمعت قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وكتبوا الصحيفة القاطعة، جمع أبوطالب بني هاشم وحلف لهم بالبيت والركن والمقام والمشاعر في الكعبة لئن شاكت محمداً شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم! فأدخله الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار، قائماً على رأسه بالسيف، أربع سنين).
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه المواجهة مع الرسول صلى الله عليه وآله /175: «وعانوا الحرمان والجوع، فأكلوا نبات الأرض، وأخذ الأطفال يَمُصُّون الرمال من العطش، وكانت بطون قريش تشاهد كل هذا وتتلذذ به، دون أي إحساس بالحرج!ولكن الهاشميين لم يركعوا ولم يستسلموا، ولم يستجيبوا لبطون قريش في طلبها تسليم النبي صلى الله عليه وآله .
< صفحة > 212 < / صفحة >
لقد تحملوا ما لم تتحمله قبيلة على وجه الأرض في سبيل محمد صلى الله عليه وآله وفي سبيل دينه ولولا صبرهم وثباتهم لقتلت البطون رسول الله كما قتل غيره من الأنبياء وأجهضت دعوته في مهدها، ولكن الله أراد أن يظهر دينه، وأن يتحمل البطن الهاشمي أعباء مرحلة التأسيس الحاسمة.
ثم أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أنه أرسل حشرة أكلت صحيفة الحصار ولم تبق من كتابتها إلا اسم الله، وما إن انتهى جبريل من إلقاء تلك البشارة العظيمة حتى نهض رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبر عمه بتفاصيل خبر السماء، وعلى إثر ذلك توجه النبي وأبوطالب والهاشميون جميعاً إلى مكة. أقبلت قريش تريد الوقوف على حقيقة الأمر، وهي تظن أباطالب قد جاء ليعلن استسلامه واستسلام بني هاشم، ولكن أباطالب طلب من زعماء الشرك أن يحضروا صحيفة الحصار، فلما فعلوا ذلك قال لهم: أليست هذه صحيفتكم على العهد الذي تركتوها فيه؟ فقالت زعامة البطون: نعم. فقال أبوطالب: فهل أحدثتم فيها حدثاً؟ فقالوا: اللهم لا. فقال لهم: لقد أعلمني محمد عن ربه أن الله قد بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله، أفرأيتم إن كان صادقاً ما تصنعون؟ فقالت زعامة البطون: نكف ونمسك. فقال أبوطالب: فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه! فقالوا: قد أنصفت وأجملت. وفُضَّت الصحيفة فإذا كل ما فيها قد محي إلا مواقع اسم الله عز وجل، وبهتت زعامة الشرك وأسلم على أثر هذه المعجزة عدد من الناس، وأعلن أبوطالب أنه على الدين الحق، واهتزت شرعية الحصار والمقاطعة.
إن للهاشميين فضلاً على كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين، فلولا موقفهم الحاسم المشرف بقيادة أبي طالب، لتمكنت بطون قريش من قتل محمد صلى الله عليه وآله ولما قامت للإسلام قائمة!
ومن المهازل أن تقوم السلطات التي سيطرت على مقاليد أمور المسلمين فيما بعد،بتصوير أبي طالب مشركاً وتنكر كفاحه وجهاد أبنائه، وتفرض مسبتهم على المنابر، ولا تقبل شهادة من يواليهم، وتلقي في أذهان العامة والغوغاء أن الهاشميين ماتوا بموت محمد، وأنهم لم يخلقوا للقيادة، وإنما خلقوا ليكونوا أتباعاً لخلفاء بطون قريش، وأن الخلافة حق خالص للبطون مثلما كانت النبوة حقاً خالصاً للهاشميين، وأن هذه القسمة هي القسمة العادلة، وكأن البطون هي المخولة بتوزيع فضل الله تعالى ».
< صفحة > 213 < / صفحة >
أراد اليهود أن يغتالوه فنهاهم الراهب بحيرا
(قال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال أبوطالب: ابني، قال: ما هو ابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً، قال: فابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى به، قال: فما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريباً، قال: صدقت، إرجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليبغينه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة، فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعاً، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وعرفوا صفته فأرادوا أن يغتالوه فذهبوا إلى بحيرا فذاكروه أمره فنهاهم أشد النهي، وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما لكم إليه سبيل، فصدقوه وتركوه، ورجع به أبوطالب، فما خرج به سفراً بعد ذلك خوفاً عليه). ( الطبقات:1/154وتاريخ دمشق:3/12).
وحاول بنو النضير أن يغتالوا النبي صلى الله عليه وآله
في تفسير القمي(2/359): (وكان سبب ذلك من بني النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة يعني يستقرض، وكان قصد كعب بن الأشرف، فلما دخل على كعب قال: مرحباً يا أبا القاسم وأهلا! وقام كأنه يصنع له الطعام وحدث نفسه أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله ويتبع أصحابه، فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبره بذلك، فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الأنصاري: إذهب إلى بني النضير فأخبرهم أن الله عز وجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر، فإما أن تخرجوا من بلدنا وإما أن تأذنوا بحرب، فقالوا نخرج من بلادك فبعث إليهم عبد الله بن أبي ألا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمداً الحرب فإني أنصركم أنا وقومي وحلفاي، فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيئوا للقتال وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله إنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع)!
وفي تفسير التبيان(9/425): (قال محمد بن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بني النضير، يستعينهم في دية القتيلين من بني عامر، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وكان بين
< صفحة > 214 < / صفحة >
بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فلما أتاهم النبي يستعينهم في الدية قالوا: نعم يا أباالقاسم! نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقال: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه، ورسول الله إلى جانب جدار من بيوتهم قاعد. فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت يلقي عليه صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وآله في نفر من أصحابه، فأتاه الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا، فخرج راجعاً إلى المدينة فأخبرهم الخبر بما أرادت اليهود من الغدر.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله محمد بن مسلمة بقتل كعب بن الأشرف. فخرج ومعه سلكان بن سلامة، وثلاثة من بني الحرث. وخرج النبي صلى الله عليه وآله على أثرهم، وجلس في موضع ينتظر وجوههم. فذهب محمد بن مسلمة مع القوم إلى قرب قصره، وأجلس قومه عند جدار وناداه: يا كعب! فانتبه وقال: من أنت؟ قال: أنا محمد بن مسلمة أخوك، جئتك أستقرض منك دراهم، فإن محمداً يسألنا الصدقة، وليس معنا الدراهم. فقال: لا أقرضك إلا بالرهن. قال: معي رهن إنزل فخذه. وكانت له امرأة بنى بها تلك الليلة عروساً، فقالت: لا أدعك تنزل، لأني أرى حمرة الدم في ذلك الصوت، فلم يلتفت إليها. فخرج فعانقه محمد بن مسلمة، وهما يتحادثان، حتى تباعدا من القصر إلى الصحراء، ثم أخذ رأسه، ودعا بقومه وصاح كعب، فسمعت امرأته، فصاحت وسمع نجر النضير صوتها، فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلاً ورجع القوم سالمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله . فلما أسفر الصبح، أخبر رسول الله أصحابه بقتل كعب، ففرحوا. وأمر بحربهم والسير إليهم. فسار بالناس حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في الحصن فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بقطع النخل والتحريق فيها فنادوا يا محمد! قد كنت تنهى عن الفحشاء، فما بالك تقطع النخل وتحرقها! فأنزل الله: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ. وهي البويرة).
وقال ابن عبد ربه في الدرر/166: وخرج إليهم وذلك في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، فتحصنوا منه في الحصون فحاصرهم ست ليال فألقوا بأيديهم وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله أموال
< صفحة > 215 < / صفحة >
بني النضير بين المهاجرين خاصة إلا أنه أعطى منها أبادجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف وكانا فقيرين. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبوسعد بن وهب أسلما فأحرزا أموالهما وذكر أن يامين بن عمير جعل جعلاً لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش لما هم به في رسول الله صلى الله عليه وآله نزلت سورة الحشر في بني النضيرقال الله عز وجل: هُوَالَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ. فكان إجلاء بني النضير أول الحشر في الدنيا إلى الشام، ولذلك قيل الشام أرض الحشر).
وحاول بنو قريظة أن يغتالوا النبي صلى الله عليه وآله
في الأنوار للبكري/287: (أن سعد بن قطمير وكان من أحبار اليهود وكهانهم وكان قد اطلع على صفات النبي صلى الله عليه وآله قال فلما نظر إليه عرفه وقال: لا شك هذا الذي يفسد أحلامنا ويبطل أدياننا ويرمل نسواننا، وإني أريد بأن أحتال على قتله ثم دنا من النبي وقال يا سيدي بكم هذا الحمل الأديم فقال له النبي بخمس مائة درهم لا ينقص منها شيئ قال اليهودي اشتريت لكن بشرط أنك تسير معي إلى منزلي وتأكل من طعامي حتى تحصل لي بك البركة لأنكم سكان بيت الله الحرام فأجابه النبي صلى الله عليه وآله إلى ذلك فأخذ اليهودي ذلك الحمل الأديم وسار به إلى منزله والنبي معه قال فلما قرب اليهودي من منزله سبق إلى زوجته وقال لها يا هذه أريد منك أن تساعديني على قتل هذا الغلام المكي الذي يعطل أدياننا ويقتل رجالنا ويخرب ديارنا قالت وكيف أصنع به؟ قال خذي فردة هذه الرحى واقعدي في أعلى الدار مما يلي الباب فإذا قبض منا ثمن حمل الأديم فألقي عليه فردة الرحى فعسى أن نقتله ونستريح منه قال فأخذت زوجته فردة الرحى وصعدت إلى أعلى السطح فلما خرج النبي صلى الله عليه وآله همت أن تلقي عليه الرحى فأمسك الله على يديها وكأن لاطماً لطمها وأوقع الله في قلبها الرعب والرجفة وغشي على بصرها من نور محمد صلى الله عليه وآله ،وكان لها ولدان نائمان بفناء الدار فسقطت الرحى عليهما فقتلتهما وخرج النبي صلى الله عليه وآله سالماً قال فلما نظر اليهودي إلى ما جرى على أولاده لطم على وجهه ونادى بأعلى صوته يا بني قريظة فأجابوه من كل جانب ومكان وقالوا ما دهاك؟ قال إعلموا أنه قد دخل اليوم في بلادكم الذي يعطل أديانكم ويخرب
< صفحة > 216 < / صفحة >
دياركم وقد دخل منزلي وأكل طعامي وقتل أولادي)!
وحاول قوم من اليهود أن يغتالوا النبي صلى الله عليه وآله
وفي الوجيز لابن عطية الأندلسي(2/167): (وحكى الطبري أن الآية نزلت بسبب قوم من اليهود صنعوا للنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه طعاماً ليقتلوه إذا أتى الطعام. فأشعره الله تعالى بذلك. ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة عن ابن عباس خلاف ماترجم به من أن قوماً من اليهود صنعوا للنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه طعاماً ليقتلوه إذا أتى الطعام. قال القاضي أبومحمد: فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة).
استنفرت قريش وبنو هاشم للقتال فتراجعت قريش!
في أنساب الأشراف(2/31)، وابن هشام(1/172):(قال ابن إسحاق: ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أباطالب قد أبى خذلان رسول الله وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغني: يا أباطالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟هذا والله مالا يكون أبداً! قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ابن قصي:والله يا أباطالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال أبوطالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك. فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضاً فقال أبوطالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدي، ويعم من خذله من بني عبد مناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظي من حياطتكم بكر
من الخور حبحاب كثير رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر
< صفحة > 217 < / صفحة >
تخلف خلف الورد ليس بلاحق * إذا ما علا الفيفاء قيل له وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بلى لهما أمر ولكن تجرجما * كما جرجمت من رأس ذي علق الصخر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً * هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر
هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبـحا منهـم أكفهـما صـفر
هما أشركا في المجد من لا أباً له * من الناس إلا أن يرس له ذكر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم * وكانوا لنا مولى إذا بغيَ النصر
فـــوالله لاتنفك منــــــا عـــــــداوة * ولا منهم ما كان من نسلنا شفر
فقد سفهت أحلامهم وعقولهم * وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
قال ابن هشام: تركنا منها بيتين أقذع فيهما. (بل ثلاثة كما يأتي).
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله صلى الله عليه وآله منهم بعمه أبى طالب، وقد قام أبوطالب حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وآله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله. فلما رأى أبوطالب من قومه ما سره في جدهم معه وحدبهم عليه، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم، وليحدبوا معه على أمره، فقال:
إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً * هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
< صفحة > 218 < / صفحة >
وكنا قديماً لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء، وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها
وفي رواية الواقدي: كلَّم وجوه قريش، وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبي بن خلف، وأبوجهل، والعاص بن وائل، ومطعم وطعيمة ابنا عدي، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، والأخنس بن شريق الثقفي أباطالب في أن يدفع إليهم رسول الله ص ويدفعوا إليه عمارة بن الوليد المخزومي، فأبى ذلك وقال: أتقتلون ابن أخي وأغذوا لكم ابنكم، إن هذا لعجب! فقالوا: ما لنا خير من أن نغتال محمداً ! (أي لا بد لنا من قتله).
فلما كان المساء فقد أبوطالب رسول الله صلى الله عليه وآله فخاف أن يكونوا قد اغتالوه فجمع فتياناً من بني عبد مناف وبني زهرة وغيرهم وأمر كل فتى منهم أن يأخذ معه حديدة ويتبعه، ومضى فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: أين كنت يا ابن أخي أكنت في خير؟ قال: نعم والحمد لله. فلما أصبح أبوطالب دار على أندية قريش والفتيان معه وقال: بلغني كذا وكذا، والله لو خدشتموه خدشاً ما أبقيت منكم أحداً إلا أن أقتل قبل ذلك! فاعتذروا إليه وقالوا: أنت سيدنا وأفضلنا في أنفسنا).
وقال الأميني في الغدير (7/361): « حذف ابن هشام منها ثلاثة أبيات:
وما ذاك إلا سؤدد خصنــــا به * إلهُ العباد واصطفانا له الفخر
رجال تمالـــــوا حاسدين وبغضة * لأهل العلى فبينهم أبدا وتر
وليـــــد أبوه كان عبــــداً لجدنا * إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
يريد به الوليد بن المغيرة ».
ورواه ابن سعد (1/201) بفروقات، وفيه: (ذكر ممشى قريش إلى أبي طالب في أمره صلى الله عليه وآله ..قال أبوطالب والله. ما هذا بالنصف تسومونني سوم العرير الذليل. فلما أصبح أبوطالب غدا على النبي صلى الله عليه وآله فأخذ بيده فوقف به على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال
< صفحة > 219 < / صفحة >
يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر وقال للفتيان أكشفوا عما في أيديكم فكشفوا فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة، فقال: والله لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحداً حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم وكان أشدهم انكساراً أبوجهل).
واصلت قريش مطالبتها أباطالب بتسليمها النبي صلى الله عليه وآله
في إعلام الورى (1/125): (وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يواكلوا بني هاشم ولايكلموهم ولايبايعوهم ولايزوجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولايحضروا معهم، حتى يدفعوا محمداً إليهم فيقتلونه، وأنهم يد واحدة على محمد صلى الله عليه وآله ليقتلوه غيلة أو صراحاً. فلما بلغ ذلك أباطالب جمع بني هاشم ودخل الشعب، وكانوا أربعين رجلاً فحلف لهم أبوطالب بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن شاكت محمداً شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم. وحصَّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله صلى الله عليه وآله مضطجع ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار! وأصابهم الجهد، وكان من دخل من العرب مكة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله.
وكان أبوجهل، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله. وكانت خديجة لها مال كثير فأنفقته على رسول الله صلى الله عليه وآله ).
وفي قصص الأنبياء للراوندي/326: (وبقوا في الشعب أربع سنين لايأمنون إلا من موسم إلى موسم، ولا يشترون ولا يبيعون إلا في الموسم، وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة:موسم العمرة في رجب وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا اجتمعت المواسم يخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثم لايجسرأحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، وأصابهم الجهد وجاعوا،وبعثت قريش إلى أبي طالب:إدفع إلينا محمداً نقتله ونملكك علينا)!
< صفحة > 220 < / صفحة >
الذين تعاقدوا على قتل النبي صلى الله عليه وآله
في أنساب الأشراف(1/320): (وكان عبد الله بن شهاب الزهري جد محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب (وهو يهودي) وعتبة بن أبي وقاص (أخو سعد بن أبي وقاص) وابن قميئة الأدرمي، من بني تيم بن غالب، فكان تيم أدرم ناقص الذقن، وأبيّ بن خلف الجمحي، وعبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله . فأما ابن شهاب فأصاب جبهته، وأما عتبة بن أبي وقاص فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعيته اليمنى وشق شفته السفلى، وأما ابن قميئة الأدرمى فكلَم وجنتيه وغيب حلق المغفر فيها، وعلاه بالسيف فلم يقطع. وسقط رسول الله صلى الله عليه وآله فجحشت ركبته. وأما أبيُّ بن خلف فشد عليه بحربة فأعانه الله عليه فقتله، وكان لما شد عليه بالحربة يقول:لأقتلنك بها يا محمد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله بل أنا قاتلك إن شاء الله. فيقال إنه انتزعها من يده، فطعنه بها. فكان أبي يقول: قتلني محمد! فقيل إنه إنما خدشك فقال: أنا أعلم بالأمر، فسقط ومات في الطريق. وأما عبد الله بن حميد فأقبل يريد رسول الله صلى الله عليه وآله فشد عليه أبودجانة فضربه وقال: خذها وأنا ابن خرشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم ارض عن ابن خرشة، فإني عنه راض).
وفي سيرة ابن هشام (3/601): (قال ابن إسحاق: وكان أبي بن خلف، يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة، فيقول يا محمد إن عندي العوذ، فرساً أعلفه كل يوم فرْقاً من ذرة، أقتلك عليه، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله :بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد! قالوا له: ذهب والله فؤادك! والله إنْ بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك فوالله لو بصق عليَّ لقتلني. فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون به إلى مكة).
محاولات أبي سفيان وأبي لهب وأبي جهل اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
جعل أبوسفيان لأعرابي جعلاً على أن يغتال النبي صلى الله عليه وآله فجاء إلى المدينة، فأراد أن يغتاله فأخذه أسيد بن حضير فجذبه، فبدا خنجره وعلم غدرة وصدق النبيّ في بيان القصة، وأخبره بجعل أبي سفيان له فحبس عند أسيد، ثم دعا به فمن عليه وأطلقه فآمن وأسلم). (النهاية: 4 / 69).
< صفحة > 221 < / صفحة >
(أبوذر: كان النبي صلى الله عليه وآله في سجوده فرفع أبولهب حجراً يلقيه عليه فثبتت يده في الهواه فتضرع إلى النبي وعقد الإيمان لوعوفي لا يؤذيه فلما برأ قال: لأنت ساحر حاذق، فنزل: تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ. مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ. وكان أبوجهل يطلب غرته فوجده يوماً في سجوده فرفع صخرة عظيمة يدفعها عليه، فأمسكت من يده (لصقت) وصار عبرة للناس، فتضرع إلى النبي صلى الله عليه وآله فدعا له بفرج فزالت). (المناقب :1/68).
الطبقات(2/94): (وذلك أن أباسفيان بن حرب قال لنفر من قريش: ألا أحد يغتال محمداً فإنه يمشي في الأسواق، فأتاه رجل من الأعراب فقال:قد وجدت أجمع الرجال قلباً وأشده بطشاً وأسرعه شداً فإن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر فأسوره ثم آخذ في عير وأسبق القوم عدواً فإني هاد بالطريق خريت. قال: أنت صاحبنا فأعطاه بعيراً ونفقة وقال إطوِ أمرك فخرج ليلاً فسار على راحلته خمساً وصبح ظهر الحرة صبح سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دل عليه فعقل راحلته ثم أقبل إلى رسول الله وهو في مسجد بني عبد الأشهل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن هذا ليريد غدراً فذهب ليجني على رسول الله فجذبه أسيد بن الحضير بداخلة إزاره فإذا الخنجر فسقط في يديه وقال: دمي دمي، فأخذ أسيد بلبته فدعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أصدقني ما أنت؟ قال: وأنا آمن؟ قال: نعم. فأخبره بأمره وما جعل له أبوسفيان، فخلى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلم.
النبي صلى الله عليه وآله يرد بالمثل
وبعث رسول الله عمرو بن أمية وسلمة بن أسلم إلى أبي سفيان بن حرب وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه، فدخلا مكة ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلاً فرآه معاوية بن أبي سفيان فعرفه، فأخبر قريشاً بمكانه فخافوه وطلبوه، وكان فاتكاً في الجاهلية وقالوا: لم يأت عمرو لخير! فحشد له أهل مكة وتجمعوا وهرب عمرو وسلمة، فلقي عمرو عبيد الله بن مالك بن عبيد الله التيمي فقتله وقتل آخرمن بني الديل سمعه يتغنى ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حياً * ولست أدين دين المسلمينا
ولقي رسولين لقريش بعثتهما يتجسسان الخبرفقتل أحدهما وأسرالآخر فقدم به المدينة، فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله خبره ورسول الله يضحك).
< صفحة > 222 < / صفحة >
محاولة صفوان بن أمية اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
في تفسير التبيان (3/463): (بعثت قريش رجلاً ليفتك بالنبي صلى الله عليه وآله فأطلع الله نبيه على أمره ومنعه الله منه، لأنه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسيفه مسلول فقال له: أرنيه فأعطاه إياه، فلما حصل في يده قال: ما الذي يمنعني من قتلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله الله يمنعك فرمى بالسيف وأسلم. واسم الرجل عمرو بن وهب الجمحي بعثه صفوان بن أمية ليغتاله بعد بدر فأعلمه الله ذلك. وكان ذلك سبب إسلام عمرو بن وهب.
محاولة شيبة بن عثمان العبدري اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
في تاريخ دمشق(23/251)كان شيبة خرج مع النبي صلى الله عليه وآله إلى حنين وهو مشرك وكان يريد أن يغتال رسول الله فرأى من رسول الله صلى الله عليه وآله غرة يوم حنين فأقبل يريده فرآه رسول الله فقال: يا شيبة هلم لك فقذف الله في قلبه الرعب ودنا من رسول الله، فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله يده على صدره ثم قال إخسأ عنك الشيطان وأخذه إفكل وفزع وقذف الله تعالى في قلبه الإيمان وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وكان ممن صبر معه وكان من خيار المسلمين)!
أقول: مع ردنا لهذه الرواية التي تريد إثبات فضيلة لهذا الطليق، فهي تدل على جو قريش وإصرارها على قتل النبي صلى الله عليه وآله حتى وهي معه في حنين ضد هوازن.
كانوا يرون أن مشاركتهم في حرب حنين لا يتنافى مع العمل لاغتيال محمد! بشرط أن يكون سرياً أو فردياً ممن له ثأر عنده فيبكون عليه ويأخذون سلطانه!
ولذا شاركوا معه في الحرب فذهبوا معه إلى حُنين حيث جمعت قبائل هوازن وغطفان النجدية جموعها لحرب النبي صلى الله عليه وآله وكان جيشه عشرة آلاف مقاتل، وجعل القرشيين قواتهم في مقدمته وما أن واجههم كمين من هوازن برشقة سهام حتى انهزموا فارِّين! فسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين جميعاً! وثبت النبي صلى الله عليه وآله ومعه بنو هاشم فقط كالعادة، وقاتلوا بقوة وردوا كمين هوازن وهجومهم، وكتب الله لهم النصر. ثم رجع المسلمون الفارون.
واستغلت قريش الهزيمة فقامت بمحاولات لقتل النبي صلى الله عليه وآله ! مما يشير إلى أن الهزيمة كانت مدبرة مع قبائل هوازن! وقد روى علماء السلطة ومنهم ابن كثير المتعصب لقريش محاولة النضير
< صفحة > 223 < / صفحة >
بن الحارث قائد قوات قريش المشاركة في حنين، وجعلها مدحاً له!
قال في سيرته(3 /691):( كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد ولم نمت على ما مات عليه الآباء وقتل عليه الأخوة وبنو العم. ثم ذكر عداوته للنبي وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد! قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه فلم يمكننا ذلك! فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إنْ شعرتُ إلا برسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أنضيرُ؟ قلت: لبيك. قال: هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟ قال: فأقبلت إليه سريعاً فقال: قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع! قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فقال رسول الله: اللهم زده ثباتاً! قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتاً في الدين وتبصرة بالحق. فقال رسول الله: الحمد لله الذي هداه).
كما روى ابن هشام(4/46) اعتراف قائد قرشي آخر، قال: (قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلتُ اليومَ أدركُ ثأري من محمد، وكان أبوه قُتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً! قال: فأدرت برسول الله لأقتله فأقبل شئ حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك وعلمت أنه ممنوع مني).
فهذا إقرارٌ من زعيمين قرشيين يفترض أنهما أسلما في مكة، قد حاولا قتل النبي صلى الله عليه وآله فلم يستطيعا، ثم ادعيا أنه آمنا بالله تعالى!
وقد نصت مصادر السيرة على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عندما انهزم المسلمون في حنين أول الأمر فأظهروا فرحهم وكفرهم!
قال ابن هشام(4/46): (فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبوسفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته ( أي يحمل إصنامه) وصرخ جبلة بن الحنبل: ألا بطل السحر اليوم)!
أقول: جبلة هذا أخ صفوان بن أمية المخزومي الذي أرسل شخصاً ليقتل النبي صلى الله عليه وآله ثأراً بأبيه الذي قتل في بدر.
< صفحة > 224 < / صفحة >
قال ابن هشام(2/485): ( جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير، في الحجر، وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر… فذكر أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان: والله إنْ في العيش بعدهم خير، قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة: ابني أسير في أيديهم، قال: فاغتنمها صفوان وقال: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك أواسيهم ما بقوا لا يسعني شئ ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك، قال: أفعل. قال: ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة…).
وكشف الله لرسوله صلى الله عليه وآله عميراً وأفشل محاولته وزعموا أن عمر كشفه! ولم يكتف صفوان بمحاولته تلك بل قتل بأبيه مسلماً صبراً في مكة، هو زيد بن الدثنة (ابن هشام:3/669) وعندما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة هرب صفوان).
حاول عامر بن الطفيل اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
في تفسير الثعلبي(5/276): (قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك. فقال: دعه فإن يرد الله به خيراً يهده، فأقبل حتى قام عليه فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، قال: تجعل لي الأمر بعدك. قال: ليس ذلك إليَّ إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال: فاجعلني على الوبر وأنت على المدر، قال الرجل: فماذا يجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها.قال: أوليس ذلك لي اليوم؟ قال: لا. قال: قم معي أُكلمك، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فَدُرْ من ورائهِ بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وآله فدار أربد بن ربيعة خلف النبي ص ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله،وعامر يومئ إليه فالتفت رسول الله ص فرأى أربد وما منع بسيفه! فقال: اللهم أكفنيهما بما شئت، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف. وولى عامر هارباً، وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يمنعك الله من ذلك وأبناء
< صفحة > 225 < / صفحة >
قيلة يعني الأوس والخزرج فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم إليه سلاحه وقد تغير لونه، وهو يقول:واللات لئن أصحر محمد إلي وصاحبه عني ملك الموت لأُنفذنهما برمحي، فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكاً فلطمه بجناحه فأذراه في التارب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت كغدة البعير فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية! ثم مات على ظهر فرسه، فجعل يركض في الصحراء ويقول: أبرز يا ملك الموت!
فأجاب الله تعالى دعاء رسوله صلى الله عليه وآله وقتل عامراً بالطاعون وأربد بالصاعقة، فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثي فمنها هذه:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتآكلــــــــــون مغالــــــــــة وملاذة * ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
يا أربد الخير الكريم جدوده * أفردتني أمشي بقرن أعضب
محاولة دعثور بن الحارث اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
روى الكليني في الكافي (8/127):( عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين، والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل، فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً، فجاء وشد على رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال: ربي وربك، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ السيف، وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد! فتركه، فقام وهو يقول: والله لأنت خير مني وأكرم).
وفي المناقب (1/63): (الثمالي في تفسير قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ :أن القاصد إلى النبي كان دغثور بن الحارث، فدفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وقام على رأسه فقال: ما يمنعك مني؟ فقال: لا أحد وأنا أعهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً، فأطلقه. فسئل بعد انصرافه عن حاله؟ قال: نظرت إلى رجل طويل أبيض دفع في صدري فعرفت أنه ملك. ويقال: إنه أسلم وجعل يدعو قومه إلى الاسلام).
< صفحة > 226 < / صفحة >
محاولة النضر بن الحارث العبدري اغتيال النبي صلى الله عليه وآله
في المناقب (1/68):(الواقدي: خرج النبي صلى الله عليه وآله للحاجة في وسط النهار بعيداً فبلغ إلى أسفل ثنية الحجون فاتبعه النضر بن الحارث يرجو أن يغتاله، فلما دنا منه عاد راجعاً فلقيه أبوجهل فقال: من أين جئت؟قال:كنت طمعت أن أغتال محمداً فلما قربت منه فإذا أساود تضرب بأنيابها على رأسه فاتحة أفواهها. فقال أبوجهل: هذا بعض سحره)!
وكان أحد الذين انتدبتهم قبائل قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله ليلة هجرته، ففي المنتظم(3/49) عن الواقدي: (الذين كانوا ينتظرون رسول الله تلك الليلة: أبوجهل، والحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وابن العيطلة، وزمعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وأبولهب، وأبي بن خلف، ونبيه وأبي ابنا الحجاج).
وفي المناقب (1/69):(وتكمن نضر بن الحرث بن كلدة لقتل النبي صلى الله عليه وآله فلما سل سيفه رؤي خائفاً مستجيراً فقيل له: يا نضر هذا خير لك مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه).
وفي المناقب (1/58): (وكان أبوجهل، والعاص بن وائل، والنضر بن الحرث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات فمن رأوا معه ميرة نهوه ان يبيع من بني هاشم شيئاً ويحذرونه من النهب) أي أن يبيحوا نهبه لأنه باع بني هاشم.
وفي الحيوان:7 /482: ( النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف، من بني عبد الدار من قريش، كان من شجعان قريش ووجوهها، ومن شياطينها، صاحب لواء المشركين ببدر وهو ابن خالة النبي صلى الله عليه وآله .
في قرب الإسناد/320: (من ذلك:أن قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وعلقمة بن أبي معيط بيثرب إلى اليهود، وقالوا لهما: إذا قدمتما عليهم فسائلوهم عنه، وهما قد سألوهم عنه فقالوا: صفوا لنا صفته، فوصفوه. وقالوا: من تبعه منكم؟ قالوا: سفلتنا. فصاح حبر منهم فقال: هذا النبي الذي نجد نعته في التوراة، ونجد قومه أشد الناس عداوة له).
في أنساب الأشراف(1/139-142): (كان النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار يكنى أبافائد، وكان أشد قريش مبادأةً للنبي صلى الله عليه وآله بالتكذيب والأذى. وكان صاحب أحاديث ونظر في كتب الفرس ومخالطة النصارى واليهود. وكان لما سمع بذكر النبي صلى الله عليه وآله وحضور
< صفحة > 227 < / صفحة >
وقت مبعثه، يقول: والله لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم. فنزلت فيه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. وكان يحدث ثم يقول: أينا أحسن حديثاً أنا أم محمد؟ ويقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين. فنزلت فيه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
ونزلت فيه: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. ونزلت فيه: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
ونزلت فيه: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ..
ونزلت فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. ونزلت فيه: أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.
وكان النضر قدم الحيرة، فتعلم ضرب البربط وغنى غناء أهل الحيرة وعلم ذلك قوماً من أهل مكة، وكان غناؤهم قبل ذلك النصب. واشترى قينتين فنزلت فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله. ولقيَ النبي صلى الله عليه وآله فقال: أنت الذي تزعم أنك ستوقع بقريش عن قريب وأن الله قد أوحى إليك بذلك؟ فقال: نعم، وأنت منهم. فنزلت: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ. وسأل النبي: متى تنقضي الدنيا؟ فنزلت فيه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها.
وكان يقول: إنما يعينه على مايأتي به في كتابه هذا جبرغلام الأسود بن المطلب، وعداس غلام شيبة بن ربيعة، فأنزل الله عز وجل:وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
وأنزل الله عز وجل فيه:وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وزوراً. وقالوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
قالوا: فلما كان يوم بدر أسرالمقداد بن عمرو النضر بن الحارث، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأمر علياً بضرب عنقه فقال المقداد:أسيري يا رسول الله! فقال رسول الله: إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما يقول.اللهم أغن المقداد من فضلك).
وكان في قريش ملحدون، سماهم في المنمق/388، زنادقة قريش، وقال إنهم تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة، وهم: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، وصخر بن حرب، وعقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف، وأبوعزة، والنضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان).
< صفحة > 228 < / صفحة >
وفي حاشية رد المحتار (6/746): (كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشاً ويقول: إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بأحاديث رستم وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن).
وفي شرح النهج (6/282): « وروى الواقدي أيضاً وغيره من أهل الحديث أن عمرو بن العاص هجا رسول الله صلى الله عليه وآله هجاء كثيراً، وكان يعلمه صبيان مكة فينشدونه ويصيحون برسول الله إذا مر بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يصلي بالحجر: اللهم إن عمرو بن العاص هجاني ولست بشاعر، فالعنه بعدد ما هجاني.
وروى أهل الحديث أن النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص،عهدوا إلى سلى جمل فرفعوه بينهم، ووضعوه على رأس رسول الله وهو ساجد بفناء الكعبة فسال عليه، فصبر ولم يرفع رأسه، وبكى في سجوده ودعا عليهم، فجاءت ابنته فاطمة عليها السلام وهي باكية فاحتضنت ذلك السلى فرفعته عنه فألقته، وقامت على رأسه تبكي، فرفع رأسه صلى الله عليه وآله وقال: اللهم عليك بقريش، قالها ثلاثاً، ثم قال رافعاً صوته: إني مظلوم فانتصر، قالها ثلاثاً، ثم قام فدخل منزله، وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب بشهرين ».
أقول: كثَّفت قريش محاولاتها لقتل النبي صلى الله عليه وآله بعد وفاة عمه وحاميه، فكانت تتجسس عليه وتضع الخطط لقتله، وكان جبرئيل يخبره، وأمره ذات مرة أن يفر مع علي عليه السلام ويختبئ في جبل الحجون، لأن بيته صلى الله عليه وآله وبيوت بني هاشم كانت قرب المسجد. ولم يذكر لنا رواة السلطة أين كان عمر في تلك الفترة، وأين غابت بطولاته التي زعموها! لكن أبطال السلطة كالملح يذوبون عند الشدة!
وفي الكافي (1/449) عن الصادق عليه السلام قال: (لما توفي أبوطالب نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد أخرج من مكة فليس لك فيها ناصر، وثارت قريش بالنبي صلى الله عليه وآله فخرج هارباً حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون فصار إليه).
ورث جابر بن النضر أباه في الكفر والعناد!
فقد ورث جابر عداوة أبيه لرسول الله صلى الله عليه وآله والإسلام، وكان يكرر كلام أبيه حتى قوله:اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ !
< صفحة > 229 < / صفحة >
قال ابن سلام الهروي في تفسيره غريب القرآن (نفحات الأزهار:7/291): « لما بَلَّغَ رسول الله بغدير خم ما بَلَّغ، وشاع ذلك في البلاد، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال: يا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيئ منك أم من الله؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : والذي لا إله إلا هو إنْ هذا إلا من الله. فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ. فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ».
وقد أشكل ابن تيمية بأن سورة المعارج مكية، لكن في الرواية أن جبرئيل قال: إقرأ يامحمد، أي هذا مصداق للعذاب الواقع:
(فهبط جبرئيل وهو يقول: إقرأ يامحمد: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ). (البحار:33/165)
أخطر الساعات على حياة النبي صلى الله عليه وآله
- لما أرادوا قتله بعد إعلانه نبوته.
- لما أنذره المستهزئون الخمسة الى يوم معين ليسحب نبوته.
- لما احتدمت بين قريش وبني هاشم، وألجؤوهم الى الشعب.
- في الثلاث سنوات ونصف في الشعب.
- لما توفي أبوطالب عليه السلام .
- لما أراد الهجرة واتخذت قريش قراراً بالهجوم عليه وقتله.
- لما كان في المدينة وكانت قريش تعمل لاغتياله.
- في معركة أحد لما انهزم المسلمون وأحاط به المشركون.
- *
< صفحة > 230 < / صفحة >
الفصل الرابع والعشرون : صحيفتا قريش الملعونتان!
الفصل الرابع والعشرون
صحيفتا قريش الملعونتان!
مؤتمر زعماء قريش لإجبار بني هاشم على تسليم النبي صلى الله عليه وآله
بعد هلاك المستهزئين الخمسة، صدع النبي صلى الله عليه وآله بما يؤمر، فأخذ الإسلام ينتشر في الشباب والعبيد ولم يستطع فراعنة قريش إيقافه.
عندها تنادت قريش إلى مؤتمر في منى، للإتفاق على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة، حتى يُسَلِّموهم محمداً صلى الله عليه وآله فيقتلوه!
واجتمعت بطون قريش ومعهم حليفتهم قبيلة كنانة في محصب منى، ووقعوا معاهدة عرفت بصحيفة المقاطعة، وقعها أربعون شيخاً، وفي رواية اليعقوبي ثمانون شيخاً، على نفي بني هاشم من مكة، ومقاطعتهم مقاطعة كاملة!
وهذه هي الصحيفة الملعونة الأولى، والثانية كتبتها قريش في أيام حجة الوداع وتعاقدوا إن مات محمد صلى الله عليه وآله أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً! وسيأتي نصها.
نسخة صحيفة المقاطعة
ذكر المؤرخون كاتب الصحيفة، فقال البلاذري(1/268): ( وكان الذي خطَّ الصحيفة، فيما ذكر الكلبي، بغيض بن عامر، فشُلَّت يده يوم خطها. وقال غيره: إسمه منصور بن عكرمة). والأخير قول الطبري (2/ 79).
وفي الإشتقاق لابن دريد (1/200): ( وفي السيرة أن كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، ويقال النضر بن الحارث). وهو قول الطبري.
< صفحة > 231 < / صفحة >
وفي تاريخ الخميس(1/297): (وكتبوا صحيفة بخط منصور بن عكرمة، وقيل بغيض بن عامر فشلت يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة).
ولم أجد النص الكامل لصحيفة المقاطعة، فجمعت بعض ما ذكروه منها.
من ذلك ما رواه المقريزي: (وأجمع رأيهم ألا يجالسوهم، ولايبايعوهم، ولايدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً مواثيق: أن لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموه للقتل)! (النزاع والتخاصم/67).
(وكتبوا بينهم صحيفة أن لايواكلوا بني هاشم، ولايكلموهم، ولايبايعوهم، ولا يزوجوهم، ولا يتزوجوا إليهم، ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوا محمداً إليهم فيقتلونه، وأنهم يد واحدة على محمد ليقتلوه، غيلة أو صراحاً). (إعلام الورى:1/125).
(أن لا يناكحوهم، ولايبايعوهم، ولا يخالطوهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً، حتى يسلموا رسول الله للقتل). (تاريخ الخميس:1/297).
(أجمعوا على ألا يبايعوهم، ولا يدخلوا إليهم شيئاً من الرفق، وقطعوا عنهم الأسواق، ولم يتركوا طعاماً ولا إداماً ولا بيعاً إلا بادروا إليه واشتروه دونهم، ولا يناكحوهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وآله للقتل). (الدرر لابن عبد البر/54).
أبوطالب يدعو على ظالمي بني هاشم ويدخل الشعب
قال ابن إسحاق(2/139):( فلما سمعت قريش بذلك ورأوا منه الجد وأيسوا منه، فأبدوا لبني عبد المطلب الجفا، وانطلق بهم أبوطالب فقاموا بين أستار الكعبة فدعوا الله على ظلم قومهم لهم وقطيعتهم أرحامهم، واجتماعهم على محاربتهم، وتناولهم بسفك دمائهم، فقال أبوطالب:
اللهم إن أبى قومنا إلا النصر علينا فعجل نصرنا، وحُلْ بينهم وبين قتل ابن أخي. ثم أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون إليه والى أصحابه فقال أبوطالب: ندعو برب هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم. والله لتنتهين عن الذي تريدون، أو لينزلن الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون! فأجابوه: إنكم يا بني عبد المطلب لاصلح بيننا وبينكم ولارحم، إلا على قتل هذا الصابي السفيه! ثم عمد أبوطالب فأدخل الشِّعب ابن أخيه وبني أبيه، ومن اتبعهم من
< صفحة > 232 < / صفحة >
بين مؤمن دخل لنصرة الله ونصرة رسوله، ومن بين مشرك يحمي، فدخلوا شعبهم وهو شعب أبي طالب في ناحية من مكة ».
أرخ أبوطالب حصار الشعب بقصائد ومقطوعات
وقد أرَّخَ أبوطالب رضي الله عنه محاصرة قريش لبني هاشم، بأكثر من عشر قصائد ومقطوعات، شرح فيها إصرارهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وموقفه الحاسم في مقاومتهم، وفيها مدح النبي صلى الله عليه وآله وفيها إعلان أبي طالب إسلامه ومعجزة أكل الأرضة للصحيفة.
وهذا بعضها من سيرة ابن إسحاق (2/141):
ألا من لهمٍّ آخـــــر الليل معتمِ * طواني وأخوى النجم لم يتقحمِ
طواني وقد نامت عيون كثيرة * وســــائر أخرى ساهرٌ لم ينــــــوم
لأحلام أقوامٍ قد أرادوا محمــــداً * بسوء ومن لا يتقي الظلم يُظلم
سعوا سفهاً واقتادهم سوء رأيهم * على فَلل من رأيهم غير محكم
رجاء أمور لم ينالوا نظامها * وإن حشدوا في كل نفر وموسم
يرجُّون أن نســـــخى بقتل محمد * ولم تختضب سمر العوالي من الدم
يرجون منــــــا خطـــة دون نيلها * ضراب وطعن بالوشيح المقوم
كذبتم وبيت الله لا تقتـــلونه * جماجم تلقى بالحطيم وزمــــــزم
وتقطع أرحــــام وتنسى حليلةٌ * خليلاً وتغشى محرماً بعد محرم
وينهض قوم في الدروع إليكم * يذبون عن أحســــابهم كل مجرم
وقال في معجزة الصحيفة:
وقد كان من أمر الصحيفة عبرة * متى ما يُخَبَّرْ غائبُ القوم يعجب
محى الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب
وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
< صفحة > 233 < / صفحة >
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً * على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا خاذلين محمداً * لدى غربة منا ولا متقرب
ستمنعه منا يد هاشميةٌ * مُركَّبها في الناس خير مركب
فلا والذي تخذى له كل نضوة * طليحٌ نجيٌّ نجلةٌ فالمحصب
يميناً صدقنا الله فيها ولم نكن * لنحلف كذباً بالعتيق المحجب
نفارقه حتى نصرع حوله * ومـا نال تكذيــب النبـي المقــرب
ألا هل أتى بَحْرِيُّنَا صُنْعُ ربنا * على نأيهم والأمر بالناس أورد
ألم يأتهم أن الصحيفة أُفسدت * وكل الذي لم يُرضه الله مُفْسَد
وكانت أحق رقعة بأثيمة * يُقَطَّع فيها ساعد ومقلد
فمن يك ذا عزٍّ بمكة مثله * فعزتنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها أقلة * فلم ننفكك نزداد خيراً ونمجد
وقال معلناً إسلامه:
ألا أبلغا عني على ذات نأيها * لؤياً وخُصَّا من لؤيٍّ بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً * نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة * ولا خير فيمن خصه الله بالخَبِّ
وأن الذي أضفيتم في كتابكم * لكم كائنٌ نحساً كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا * أيا صرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حرباً عواناً وربما * أمرُّ على من ذاقه حلب الحرب
ولسنا ورب البيت نسلم أحمداً * على الحال من عض الزمان ولا كرب
أليس أبونا هاشمٌ شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
< صفحة > 234 < / صفحة >
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي مما ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفاظ ذووا النهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب
وراعية السقب: يقصد ناقة صالح عليه السلام ، وأن قريشاً كثمود. راجع: سيرة ابن إسحاق: 2 / 138، وابن هشام: 1 / 234 و 253، والطبقات: 1 / 210، وأنساب الأشراف / 31،
النبي صلى الله عليه وآله يخلد مكان مؤتمر المقاطعة
لما دخل مكة فاتحاً أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يُعَرِّفَ المسلمين تاريخ الإسلام، وتكاليف الوحي، ليفهموا قيمته، ويعرفوا معدن الإسلام، ومعدن الكفر!
و بعث بذلك رسالة إلى من بقي من الفراعنة زعماء مؤتر المقاطعة وكانوا يسمعونه، بأنهم قد تحملوا وزر هذا الكفر والعار، ثم ارتكبوا ما هو أعظم منه في حروبهم للنبي صلى الله عليه وآله ، ولم يتراجعوا إلا تحت سيوف بني هاشم والأنصار، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل، وهاهم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله تعالى ورسوله، وهم كارهون!
كانوا من بقي منهم يسمع كلامه كسهيل بن عمرو، وأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبي الأعور السلمي، وغيرهم.
وكانت تصرفاتهم الظاهرة والخفية، تدل على فرحهم بأن النبي صلى الله عليه وآله أعلن قرب موته، فهم يعدون العدة لحصار جديد لعترته ليأخذوا خلافته!
لذا أراد أن يُخَلِّد الحقيقة في وجدان الأمة فأعلن: (منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر».(السيرة الحلبية:3 /27).
ثم أكد ذلك فقال لما توجه إلى معركة حنين: ( منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر »! ( البخاري: 5/92).
ثم أكده بعد في حجة الوداع فقال صلى الله عليه وآله يوم التروية: ( منزلنا غداً إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر». ( البخاري: 2 / 158).
ثم أكده لما عاد من عرفات فقال يوم النحر: « نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث
< صفحة > 235 < / صفحة >
تقاسموا على الكفر. يعني بذلك المحصب».(البخاري: 4 / 247).
فقدكان مهماً في ميزان الله تعالى أن يحفظ المسلمون تلك الحادثة ويعرفوا مكانها، لأنها وثيقة في كيد فراعنة قريش الذي فاق كيد اليهود حيث جمع بطون قريش شيوخهم، وتقاسموا باللات والعزى على قتل النبي صلى الله عليه وآله بأي طريقة، ومقاطعة بني هاشم مقاطعة كاملة شاملة حتى يسلموه لهم للقتل، لأن ذنب محمد أن الله أرسله نبياً، وهم لا يريدون نبياً من بني هاشم، ولا يريدون أن يشاهدوا معجزاته! وقد نفذوا قرار المحاصرة أربع سنين فضيقوا على بني هاشم، حتى أكل أطفالهم ورق الشجر من الجوع، ومصوا الرمل الرطب من العطش!
ولما أعلنت قريش قرار المقاطعة رأى بنو هاشم أنفسهم مضطرين لترك بيوتهم والتجمع في نقطة واحدة، لحفظ حياتهم وحياة النبي صلى الله عليه وآله فاختاروا الشِّعب حيهم القديم وفيه بيت عبد المطلب وأبي طالب.
وفي مقابل عمل النبي صلى الله عليه وآله لتخليد مؤتمر المقاطعة في منى كان زعماء قريش يعملون لينسى الناس الحادثة ومكانها وأشخاصها، ولذلك طمستها خلافتهم وضيعت مكانها وأكثر أشخاصها! وقالوا لقد قاطعوهم مدة ثم تراجعوا!
ولم يحفظ مكان المؤامرة إلا آل النبي صلى الله عليه وآله وشيعتهم، فصار خيف بني كنانة أو المحصَّب من منى منزل بني هاشم، إلى يمين جمرة العقبة للداخل إلى منى!
قال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم: المواجهة مع رسول الله/175: «وعانوا الحرمان والجوع، فأكلوا نبات الأرض، وأخذ الأطفال يَمُصُّون الرمال من العطش، وكانت بطون قريش تشاهد كل هذا وتتلذذ به، دون أي إحساس بالحرج!ولكن الهاشميين لم يركعوا ولم يستسلموا، ولم يستجيبوا لبطون قريش في طلبها تسليم النبي.
لقد تحملوا ما لم تتحمله قبيلة على وجه الأرض في سبيل محمد صلى الله عليه وآله وفي سبيل دينه. ولولا صبرهم وثباتهم لقتلت البطون رسول الله كما قتل غيره من الأنبياء وأجهضت دعوته في مهدها، ولكن الله أراد أن يظهر دينه، وأن يتحمل البطن الهاشمي أعباء مرحلة التأسيس الحاسمة.
ثم أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أنه أرسل حشرة أكلت صحيفة الحصار ولم تبق من كتابتها إلا اسم الله، وما إن انتهى جبريل من إلقاء تلك البشارة العظيمة حتى نهض رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبر
< صفحة > 236 < / صفحة >
عمه بتفاصيل خبر السماء، وعلى إثر ذلك توجه النبي وأبوطالب والهاشميون جميعاً إلى المسجد الحرام.
أقبلت قريش تريد الوقوف على حقيقة الأمر، وهي تظن أباطالب قد جاء ليعلن استسلامه واستسلام بني هاشم، ولكن أباطالب طلب من زعماء الشرك أن يحضروا صحيفة الحصار، فلما فعلوا ذلك قال لهم: أليست هذه صحيفتكم على العهد الذي تركتوها فيه؟ فقالت زعامة البطون: نعم. فقال أبوطالب: فهل أحدثتم فيها حدثاً؟ فقالوا:اللهم لا. فقال لهم: لقد أعلمني محمد عن ربه أن الله قد بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله، أفرأيتم إن كان صادقاً ما تصنعون؟ فقالت زعامة البطون: نكف ونمسك. فقال أبوطالب: فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه! فقالوا: قد أنصفت وأجملت. وفُضَّت الصحيفة فإذا كل ما فيها قد محي إلا مواقع اسم الله عز وجل، وبهتت زعامة الشرك وأسلم على أثر هذه المعجزة عدد من الناس، وأعلن أبوطالب أنه على الدين الحق، واهتزت شرعية الحصار والمقاطعة.
إن للهاشميين فضلاً على كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين، فلولا موقفهم الحاسم المشرف بقيادة أبي طالب، لتمكنت بطون قريش من قتل محمد صلى الله عليه وآله ولما قامت للإسلام قائمة!
ومن المهازل أن تقوم السلطات التي سيطرت على مقاليد أمور المسلمين فيما بعد بتصوير أبي طالب مشركاً وتنكر كفاحه وجهاد أبنائه، وتفرض مسبتهم على المنابر، ولا تقبل شهادة من يواليهم.وتلقي في أذهان العامة والغوغاء أن الهاشميين ماتوا بموت محمد، وأنهم لم يخلقوا للقيادة، وإنما خلقوا ليكونوا أتباعاً لخلفاء بطون قريش، وأن الخلافة حق خالص للبطون مثلما كانت النبوة حقاً خالصاً للهاشميين، وأن هذه القسمة هي القسمة العادلة، وكأن البطون هي المخولة بتوزيع فضل الله تعالى ».
ومضافاً الى تخليد النبي صلى الله عليه وآله ظلم بطون قريش وتآمرهم على الإسلام، فقد قد سجل في أحاديثه طول بعثته أن الخطر والتحريف والظلم الذي يخشاه على الإسلام وأهل بيته، إنما هو من قريش وحدها، فبقية القبائل تبع لها!
< صفحة > 237 < / صفحة >
كثرة مكذوبات الخلافة في حصار الشعب!
- نلاحظ أن قريشاً أسوأ من اليهود، فاليهود كانوا ينكرون نبوة أنبيائهم ثم يقتلونهم! لكن قريشاً قالوا نريد قتل محمد حتى لو كان نبياً وأتى بمعجزات، لأن الموت عندنا أفضل من الإيمان برسول من بني هاشم! وقد وبخهم الله تعالى بذلك فقال عنهم: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ!
فقد جمعت بطون قريش بين سيئات اليهود وعناد البداوة! - وهم مع ذلك جبناء يخافون من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله ، فقرروا أن يضغطوا عليهم اجتماعياً وإقتصادياً وسياسياً، حتى يسلموهم ابنهم بأيديهم فيقتلوه!
وهم جبناء أن يقاتلوهم فيخرجوهم من مكة، فأرادوا منهم أن ينفوا أنفسهم باختيارهم من مكة! فجمعوا صفات التكبر، والجبن، والحقارة!
ثم القسوة، فهم يرون حالة بني هاشم المحاصرين ويسمعون تضوَّر أطفالهم من الجوع! ومع ذلك حرموا الرأفة عليهم مهما بلغ بهم الحصار!
« لايقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل »! ( الدرر لابن عبد البر / 54، وسبل الهدى: 10 / 59، وعيون الأثر: 1 / 165). - لكن تتفاجأ في أحاديث الخلافة عن الحصار بأن زعماء قريش يمثلون النبل والقيم والإنسانية والضمير الحي! وأنهم تلاوموا وقرروا نقض الصحيفة الظالمة وإنصاف بني هاشم، وعملوا في ذلك ليل نهار، وعرضوا أنفسهم للأخطار حتى تمكنوا من نقض الصحيفة!
وتقرأ أن النبي صلى الله عليه وآله كان يشكر لهم صنيعهم! وأوصى المسلمين أن لا تقتلوا فلاناً لأنه لم يؤذني! وفلاناً لأنه كان خيِّراً باراً من أبطال نقض الصحيفة! وهم الفراعنة الستة برواية ابن إسحاق (2/145): (أبوجهل هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن مخزوم، ومطعم بن عدي، وزهير بن أبي أمية، وأبي البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد).
وقد نظموا في مدح هؤلاء الفراعنة شعراً، كما في السيرة الحلبية(2/37):
< صفحة > 238 < / صفحة >
فتية بيتوا على فعل خير * حمــــــــد الصبح أمره والمساء
يا لأمر أتاه بعد هشــــــــام * زمعـــــــــة إنه الفتــــى الأتَّاءُ
وزهير والمطعــــــــم بن عدي * وأبو البحتري من حيث شاءوا
نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد * دت عليه من العدا الأنداء »!
وزعموا أن شاعر النبي صلى الله عليه وآله رثى مطعماً بقصيدة! وبذلك صار الفراعنة أصحاب قرار الحصار، أبطال فك الحصار، وطمسوا صمود النبي صلى الله عليه وآله وأبي طالب، بل طمسوا آية الأرضة التي أبهتتهم! وقالت روايتهم: «ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها ».
أما أبوطالب، فانتقموا منه بأن جعلوه كافراً في قعر جهنم! وزعموا أن النبي صلى الله عليه وآله شفع له فأنقذه من قعر جهنم الى ضحضاح نار يغلي منه دماغه!
قال البخاري(4/ 247) إن العباس قال للنبي: « ما أغنيت عن عمك! فوالله كان يحوطك ويغضب لك! قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار »!
أفلتت الحقيقة من غابة الكذب القرشي!
وقد أفلتت الحقيقة في رواية ابن سعد في الطبقات (1/208) قال: (فأرسل الله عز وجل على الصحيفة دابة فأكلت كل شئ إلا اسم الله عز وجل… فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم! فقال أبوطالب: علامَ نُحبس ونُحصر وقد بان الأمر! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال:اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا! ثم انصرفوا »!
وقال القطب الرواندي في الخرائج(1/85) :« فما راع قريشاً إلا وبنو هاشم عُنُقاً واحداً، قد خرجوا من الشعب! فقالت قريش: الجوع أخرجهم! فجاؤوا حتى أتوا الحجر وجلسوا فيه، وكان لا يقعد فيه إلا فتيان قريش، فقالوا: يا أباطالب قد آن لك أن تصالح قومك. قال: قد جئتكم بخبر، إبعثوا إلى صحيفتكم لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح. قال: فبعثوا إليها وهي عند أم أبي جهل، وكانت قبل في الكعبة فخافوا عليها السرق فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم
< صفحة > 239 < / صفحة >
عليها.فقال أبوطالب: هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا: لا. قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط، أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة، فأكلت كل قطيعة وإثم، وتركت كل إسم هو لله، فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه.
فصاح الناس: نعم يا أباطالب، ففتحت ثم أخرجت فإذا هي مشرَّبة كما قال! فكبر المسلمون، وامتقعت وجوه المشركين. فقال أبوطالب: أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة؟ فأسلم يومئذ عالم من الناس».
- *
الصحيفة الملعونة الثانية لعزل عترة النبي صلى الله عليه وآله
استنفرت قريش في حجة الوداع لخوفها أن يعلن النبي صلى الله عليه وآله خلافة علي عليه السلام ! وكان من بقي ممن وقع الصحيفة الملعونة الأولى حاضراً في حجة الوداع، وكان المتآمرون لقتل النبي صلى الله عليه وآله في طريق تبوك موجودين أيضاً! وقد فرحوا يومها بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يستطع كشف أسماءهم، واعتبروه نوعاً من الإنتصار عليه! وكانوا يرون أنه ماضٍ في تركيز خلافة علي عليه السلام فقد أشاد به في طريق تبوك، وفي المدينة بعد عودته، وسحب سورة براءة من أبي بكر وبعثه بها وقال: إن جبرئيل عليه السلام أمره بأنه لايبلغ عنه إلاهو أو رجل منه!
ثم أشركه في أضاحيه لأنهما من ولد عبد المطلب، وعددها مئة ناقة على عدد نذر عبد المطلب عن أبيه عبد الله. ثم خص فاطمة عليها السلام بأضحية وقال لها: قومي فاشهدي أضحيتك. (المغني: 1 / 156) بينما ذبح لكل أزواجه بقرة (المغني: 3 /501).
وتواصلت أحاديثه عن مكانة علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال إن فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وعلياً سيد العرب، وأسد الله وأسد رسوله , وولي المؤمنين بعده.
وكان يؤكد على ميزانية الخمس التي جعلها الله في سورة الأنفال لبني هاشم لينزههم عن الزكوات التي هي أوساخ الناس، وهذا أقصى الرفعة لهم!
ثم لم يرض حتى قرن عترته بالقرآن وأوصى بهما الأمة، وبشر باثني عشرإماماً ربانيين من
< صفحة > 240 < / صفحة >
عترته، أي أن إمامتهم من الله! فماذا بقي لبطون قبائل قريش!
ثم رأت قريش أنه صلى الله عليه وآله يتعمد التذكيربظلم البطون ومحاصرتهم لبني هاشم في شعب أبي طالب، فقد أعلن يوم التروية: « منزلنا غداً إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر». (صحيح بخاري:2/158).
ثم كررها بعد عرفات. ( بخاري: 4 / 247). وكان أكد عليها يوم فتح مكة!
فلا حل عند قريش إلا بمواصلة العمل لقتل محمد! وإلا فالحيلولة بينه وبين إعلانه علياً خليفة، وذلك بالتشويش على كلامه، ونفي أنه قال، وبالتهديد بإعلان الردة إن لزم الأمر! وهو أمر يخاف منه النبي صلى الله عليه وآله كثيراً!
إن نصوص خطب النبي صلى الله عليه وآله في عرفات حتى برواية السلطة، تكفي لمعرفة الجو الذي أوجدته قريش حول النبي صلى الله عليه وآله وكيف كانت تترقب كلماته لتشوش على ما لايناسبها وترفضه، وتأخذ ما يناسبها وتضخمه! فقد كان يوم عرفات أهدأ مكان وأنسبه لأن يوصل النبي صلى الله عليه وآله ما يريده إلى المسلمين المحرمين لربهم، فركب ناقته ليشاهدوه ويسمعوه، وكان صوته يصل إلى أكثرهم، ومع ذلك دعا برجل جهوري الصوت فكان يلقي الجملة ويقول له: أصرخ بها، فيصرخ ويسمعها من لم يسمعها مباشرة.
لكن ما أن بشر أمته بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام من عترته، حتى ارتفعت الضجة واللغط كما قال راوي قريش: ( فضجوا وقاموا وقعدو وكبروا ولغطوا، فأصمنيها الناس) وقال إن النبي قال: بعدي اثنا عشر إماماً ثم قال كلمة لم أفهمها فسألت عمر فقال: كلهم من قريش!
أقول: هذا هو الجو القرشي الذي قال عنه أمير المؤمنين عليه السلام ( شرح النهج:20 /298):
«إن العرب كرهت أمر محمد صلى الله عليه وآله وحسدته على ما آتاه الله من فضله واستطالت أيامه! حتى قذفت زوجته ونفرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها! وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته»!
< صفحة > 241 < / صفحة >
نسختان للصحيفة الملعونة الثانية
أرادت قريش أن تضمن نجاحها في عزل عترة النبي صلى الله عليه وآله عن الحكم، فكتبت معاهدة بذلك ووضعتها في الكعبة! وكانت نسخة موجزة، ولما وصلوا الى المدينة تشاوروا مع أشباههم، وكتبوا نسخة مفصلة وأعطوها لأبي عبيدة بن الجراح، فبعثها الى مكة ووضعها مكان النسخة الأولى.
في تفسير القمي(1/173) أنه بعد خطبة النبي صلى الله عليه وآله في منى وتأكيده على كتاب الله وأهل بيته عليهم السلام : «فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته! فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لا يردُّوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ».
وفي الكافي(4/545): « عن الحارث بن الحصيرة الأسدي، عن الباقر عليه السلام قال: كنت دخلت مع أبي(زين العابدين عليه السلام ) الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين فقال: في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله صلى الله عليه وآله أو قُتل ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً! قال قلت: ومن كانوا؟ قال: كان الأول، والثاني، وأبوعبيدة بن الجراح، وسالم ابن الحبيبة »!
نص الصحيفة الملعونة الثانية برواية حذيفة
روى الشهيد التستري في الصوارم المهرقة في رد الصواعق المحرقة/74: (عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: حدثني بريدة الأسلمي أنه لما قمنا من مكاننا في غدير خم نريد سمعت رجلاً يقول لصاحبه: ما رأيت اليوم ما فعل بابن عمه، لو قدر أن يصيره نبياً بعده لفعل! فقال له صاحبه:أسكت لو فقدنا محمداً لم نر من هذا شيئاً!
ثم لما رحل النبي صلى الله عليه وآله عن غدير خم ورأى أن أبابكر وعمر وأباعبيدة يتناجون في إنكار تلك الخطبة في شأن علي عليه السلام أمر منادياً ينادي ألا لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس يتناجون.
وارتحل عليه السلام فلما نزل منزلاً آخر أتى سالم مولى أبي حذيفة أبابكر وعمر وأباعبيدة فوجدهم يسارُّ بعضهم بعضاً، فوقف عليهم وقال: أليس رسول الله نهى أن يجتمع ثلاثة نفر على سر؟ والله لئن لم تخبروني بما أنتم عليه لآتين رسول صلى الله عليه وآله لأعرفنه ذلك منكم! فقال أبوبكر: يا سالم عليك عهد الله وميثاقه إن نحن أخبرناك بما نحن فيه فإن أحببت أن تدخل معنا دخلت وإن
< صفحة > 242 < / صفحة >
أبيت كتمت علينا. فقال سالم: ذلك لكم عليَّ. فأعطاهم عهد الله وميثاقه أنه إن لم يدخل معهم يكتمه عليهم، قالوا: اجتمعنا على أن نتعاقد اليوم على أن نمنع محمداً مما افترضه علينا من ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام !فقال لهم سالم: أنا والله به أول من يحالفكم على ذلك الأمر، والله ما طلعت شمس على أهل بيت أبغض إلي من بني هاشم ولا في بني هاشم أبغض إلي من علي! فاصنعوا ما بدا لكم فإني واحد منكم! فتعاقدوا في وقتهم ذلك ثم تفرقوا.
قال حذيفة: ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لهم: ما كنتم يومكم هذا تتناجون فيه؟ قالوا: يا رسول الله ما التقينا غير وقتنا هذا، فنظر إليهم مغضباً ثم قال: وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بالرحيل حتى دخل المدينة، واجتمع القوم بها وكتبوا صحيفة على حسب ما تعاقدوا عليه من التنكب عما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله في استخلاف علي عليه السلام ، وأن الأمر لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم بعده لعمر بن الخطاب، ثم بعده للحي من أحد الرجلين أبي عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة. وأشهدوا على ذلك أربعة وثلاثين رجلاً، أربعة عشر رجلاً أصحاب العقبة، وعشرين رجلاً غيرهم: وهم سعيد بن العاص الأموي، وأسامة بن زيد، والوليد بن أبي ربيعة، وسعيد بن زيد بن نفيل، وأبوسفيان بن حرب، وسفيان بن أمية، وأبوحذيفة بن عتبة، ومعاذ بن جبل، وبشير بن أبي سعيد الأنصاري، وسهل بن عمر، وحكيم بن حزام الأسدي، وصهيب بن سنان الرومي، والعباس بن مرداس السلمي، وأبومطيع بن أسد العبدي، وقعد ابن عمر، وسالم مولى أبي حذيفة، وسعيد بن مالك، وخالد بن عرفطة، ومروان بن الحكم، والأشعث بن قيس. قال حذيفة: حدثتني أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر أن القوم اجتمعوا في دار أبي بكر، فتوامروا في ذلك، وأسماء تسمع جميع كلامهم، فأمروا سعيد بن العاص أن يكتب على اتفاق منهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. إن المهاجرين والأنصار الذين مدحهم الله في كتابه على لسان نبيه اتفقوا جميعاً بعد أن اجتهدوا في آرائهم، وكتبوا هذه الصحيفة نصراً منهم للإسلام، وليقتدي بهم من جاء بعدهم.
أما بعد، فإن الله بمنه وكرمه بعث محمداً رسولاً إلى الناس كافة، بدينه الذي ارتضاه لعباده، فأدى ما أمر به، حتى إذا أكمل الدين وبين الفرائض والسنن وعين الحلال والحرام، فقبضه إليه
< صفحة > 243 < / صفحة >
مكرماً من غير أن يستخلف من بعده أحداً، فجعل الإختيار إلى المسلمين ليختاروا لأنفسهم من وثقوا برأيه ودينه، وأن للمسلمين في رسول الله أسوة حسنة في ترك الإستخلاف فإنه لم يستخلف على الناس أصلاً، لئلا يجري ذلك في أهل ملة واحدة، فيكون إرثاً لهم دون سائر المسلمين، ولئلا يكون دولة بين الأغنياء منهم، ولئلا يقول الذي يستخلفه إن هذا الأمر باق في عقبه من ولد إلى ولد إلى يوم القيمة. والذي يجب على المسلمين عند مضي كل خليفة أن يجمعوا أهل الصلاح وذوي الرأي منهم، ليتشاوروا في أمورهم، فمن رأوه مستحقاً للخلافة بدينه وفضله ولوه أمورهم، وجعلوه القيم عليهم، لأنه لا يخفى على أهل كل زمان من يصلح منهم للخلافة.
فإن ادعى أحد أن رسول الله استخلف رجلاً بعينه بحيث نصبه للناس باسمه ونسبه كان كاذباً في دعواه، وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وخالف إجماع المسلمين،وإن ادعى مدع أن خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وراثة لأهل بيته، فقد أبطل وأحال وخالف قول رسول الله: نحن معاشر الأنبياء لا نورث فما تركناه صدقة، وإن ادعى مدع أن الخلافة لاتصلح إلا لرجل واحد من جميع الناس وأنها مقصورة فيه وإن قال قائل أن الخلافة تتلو النبوة فقد كذب،لأنه قال أصحابي: كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وإن ادعى مدع أنه يستحق بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله فليس له ولا لولده، وإن دنا من النبي نسبه لأن الله يقول وقوله القاضي على كل أحد: إن أكرمكم عند الله أتقيكم. فمن رضي بما اجتمع عليه أصحاب رسول الله فقد هديَ وعمل بالصواب، ومن كره ذلك وخالف أمرهم فقد عاند جماعة المسلمين فليقتلوه فإن في ذلك صلاح الأمة، فإن رسول الله قد قال اجتماع لأمتي رحمة والفرقة عذاب، ولا تجتمع أمتي على ضلال أبداً، وإن المسلمين يد واحدة على من سواهم، وإنه لا يخرج من جماعة المسلمين إلا مفارق معاند لهم مظاهر عليهم، فقد أباح الله ورسوله دمه، وأحل قتله.
وكتب سعيد بن العاص باتفاق من أثبت إسمه وشهادته آخر هذه الصحيفة في المحرم سنة عشر من الهجرة.
ثم دفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح، فوجه بها إلى مكة فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة، إلى أن ولي عمر بن الخطاب فأخرجها.
وهي التي تمناها أمير المؤمنين عليه السلام لما توفي عمر فوقف به وهو مسجى بثوبه وقال: ما أحب
< صفحة > 244 < / صفحة >
أن ألقى الله تعالى إلا بصحيفة هذا المسجى)!
أقول: رويت هذه الصحيفة بروايات بينها تفاوت لكنه غير مضر بالمعنى.
قال حذيفة: فلما فرغوا من ذلك أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو في المسجد فجلسوا معه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبي عبيدة وقال: بخ بخ لك يا با عبيدة! من مثلك وقد أصبحت أمين قوم من هذه الأمة على باطلهم! ثم قرأ: فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ. ولقد أصبح نفر من أصحابي ما هم في فعلهم دون مشركي قريش لما كتبوا صحيفتهم وعلقوها في الكعبة! ولولا أن الله أمرني بالإعراض عنهم لأمر هو بالغه، لقدمتهم وضربت أعناقهم!
قال حذيفة: فوالله لقد رأيت هؤلاء النفر قد استقبلتهم الرعدة فلم يملك أحد منهم نفسه، ولم يخف على كل من حضرمع رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين والأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وآله يذمهم).
انتهى حديث حذيفة، ويظهر أن اتفاقهم على أن تكون الخلافة لأبي بكر ثم لعمر ثم لأبي عبيدة ثم لسالم،كان شفهياً! وأن سالماً دخل معهم من مكة، ثم أكد ذلك في رجوعهم.
مؤامرة عقبة هرشى لقتل النبي صلى الله عليه وآله
في معجم البلدان(5 /397): (هَرْشَى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة).
وفي معجم البكري (4/1350): (على ملتقى طريق الشام والمدينة، في أرض مستوية، هضبة ململمة لا تنبث شيئاً، وهي من الجحفة، يرى منها البحر، سهلة المصعد صعبة المنحدر، والطريق من جنبتيها).
وقد خلط بعضهم بينها وبين عقبة تبوك العميقة، التي كمن فيها بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله في عودته من تبوك ليقتلوه فأنجاه الله تعالى، فأعادوا محاولتهم بعد خطبة الغدير في عودته من حجة الوداع في عقبة هرشى، وكانت هذه المحاولة شبيهةً إلى حد كبيرٍ بمؤامرة اغتياله صلى الله عليه وآله في عقبة تبوك.
فى تفسير القمي(1/174): « فقال أصحابه الذين ارتدوا بعده: قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال، وقال هاهنا ما قال، وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له! فاجتمعوا أربعة عشر نفراً
< صفحة > 245 < / صفحة >
وتآمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وقعدوا في العقبة وهى عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء، فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها، لينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله فلما جن الليل تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل عليه السلام : يا محمد إن فلاناً وفلاناً وفلاناً قد قعدوا لك، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: من هذا خلفي؟ فقال حذيفة اليماني: أنا يا رسول الله حذيفة بن اليمان، قال: سمعت ما سمعت؟ قال: بلى. قال: فاكتم، ثم دنا رسول الله صلى الله عليه وآله منهم فناداهم بأسمائهم، فلما سمعوا نداء رسول الله صلى الله عليه وآله فروا ودخلوا في غمار الناس، وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها! ولحق الناس برسول الله وطلبوهم وانتهى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى رواحلهم فعرفهم، فلما نزل قال: ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً! فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فحلفوا أنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً ولم يريدوه ولم يكتموا شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله:
يا أَيهَا النَّبِى جَاهِدِ الْكفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا: أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيت رسول الله. وَلَقَدْ قَالُوا كلِمَةَ الْكفْرِ وَكفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينَالُوا: من قتل رسول الله صلى الله عليه وآله !
وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
فحدثني أبي عن مسلم بن خالد عن محمد بن جابر عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع من حجة الوداع: يا ابن مسعود قد قرب الأجل ونعيت إلي نفسي فمن لذلك بعدي؟ فأقبلت أعد عليه رجلاً رجلاً، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال ثكلتك الثواكل فأين أنت عن علي بن أبي طالب لم لا تقدمه على الخلق أجمعين؟! يا ابن مسعود إنه إذا كان يوم القيامة رفعت لهذه الأمة أعلام، فأول الأعلام لوائي الأعظم مع علي بن أبي طالب والناس أجمعين تحت لوائه ينادي مناد هذا الفضل يا ابن أبي طالب. ثم نزل كتاب الله يخبر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ).
وفي تفسير العياشي (1/334): « عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ. قال: حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله بين أظهرهم. فَعَمُوا وَصَمُّوا: حيث قبض رسول الله! ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ: حيث قام أمير المؤمنين عليه السلام . قال: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا.. إلى الساعة »!
< صفحة > 246 < / صفحة >
وفي تنزيه الأنبياء/120:(إن النبي صلى الله عليه وآله لما نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة في ابتداء الأمر جاءه قوم من قريش قالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام ولا يرضوا أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك فلوعدلت بها إلى حين لكان أولى، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ولكن الله أمرني به وفرضه عليَّ. فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش يسكن إليه الناس ليتم لك الأمر ولا تخالف الناس عليك، فنزل: وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
حديث حذيفة الطويل وبضمنه مؤامرة عقبة هرشى
ونورده هنا كاملاً لفوائده، ما عدا نص الصحيفة المتقدم، لأنه يكشف حقيقة صراع النبي صلى الله عليه وآله مع قريش في تلك الفترة:
ففي إرشاد القلوب (1/332):(واستُخلف علي بن أبي طالب عليه السلام فأقام حذيفة على المدائن وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام إلى حذيفة بن اليمان. سلام عليك أما بعد، فإني قد وليتك ما كنت تليه لمن كان قبلي من حرف المدائن وقد جعلت إليك أعمال الخراج والرستاق وجباية أهل الذمة فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممن ترضى دينه وأمانته واستعن بهم على أعمالك، فإن ذلك أعز لك ولوليك وأكبت لعدوك وإني آمرك بتقوى الله وطاعته في السر والعلانية، وأحذرك عقابه في المغيب والمشهد، وأتقدم إليك بالإحسان إلى المحسن والشدة على المعاند، وآمرك بالرفق في أمورك واللين والعدل على رعيتك، فإنك مسؤول عن ذلك. وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فالله يجزي المحسنين. وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة ولا تتجاوز ما قدمت به إليك، ولا تدع منه شيئاً ولا تبتدع فيه أمراً، ثم اقسمه بين أهله بالسوية والعدل، واخفض لرعيتك جناحك، وواس بينهم في مجلسك، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء، واحكم بين الناس بالحق وأقم فيهم بالقسط، ولا تتبع الهوى ولا تخف في الله لومة لائم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وقد وجهت إليك كتاباً لتقرأه على أهل مملكتك، ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين،
< صفحة > 247 < / صفحة >
فأحضرهم واقرأه عليهم، وخذ لنا البيعة على الصغير والكبير منهم إن شاء الله. قال: ولما وصل عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى حذيفة جمع الناس وصلى بهم، ثم أمر بالكتاب فقرأه عليهم وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين: سلام عليكم، أما بعد، فإني أحمدالله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد.
وبعد، فإن الله تعالى اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورسله، إحكاماً لصنعه وحسن تدبيره، ونظراً منه لعباده ، واختص به من أحب من خلقه فبعث إليهم محمداً صلى الله عليه وآله فعلمهم الكتاب والحكمة إكراماً وتفضلاً لهذه الأمة، وأدبهم لكي يهتدوا ، وجمعهم لئلا يتفرقوا ، ووفقهم لئلا يجوروا. فلما قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة الله حميداً محموداً.
ثم إن بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهداهما وسيرتهما، قاما ما شاء الله، ثم توفاهما الله عز وجل، ثم ولوا بعدهما الثالث فأحدث أحداثاً، ووجدت الأمة عليه فعالاً، فاتفقوا عليه ثم نقموا منه فغيروا.
ثم جاؤني كتتابع الخيل فبايعوني فأنا أستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى. ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله والقيام عليكم بحقه، وإحياء سنته، والنصح لكم بالمغيب والمشهد، وبالله نستعين على ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد وليت أموركم حذيفة بن اليمان وهو ممن أرتضي هداه، وأرجو صلاحه، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدة على مريبكم، والرفق بجميعكم، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والإحسان، ورحمته الواسعة في الدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال: ثم إن حذيفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد وآل محمد ثم قال: الحمد لله الذي أحيا الحق، وأمات الباطل، وجاء بالعدل ودحض الجور، وكبت الظالمين.
أيها الناس: إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً وخير من نعلمه بعد نبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وأولى الناس بالناس، وأحقهم بالأمر،وأقربهم إلى الصدق، وأرشدهم إلى العدل، وأهداهم سبيلاً، وأدناهم إلى الله وسيلة وأقربهم برسول الله صلى الله عليه وآله رحماً، أنيبوا إلى طاعة أول الناس سلماً وأكثرهم علماً وأصدقهم طريقة وأسبقهم إيماناً وأحسنهم يقيناً وأكثرهم معروفاً وأقدمهم
< صفحة > 248 < / صفحة >
جهاداً وأعزهم مقاماً.أخي رسول الله وابن عمه وأبي الحسن والحسين وزوج الزهراء البتول سيدة نساء العالمين، فقوموا أيها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنة نبيه، فإن لله في ذلك رضى ولكم مقنع وصلاح، والسلام.
فقام الناس بأجمعهم فبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام بأحسن بيعة وأجمعها.
فلما استتمت البيعة قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن التيهان أخي أبي الهيثم بن التيهان يقال له مسلم، متقلداً سيفاً، فناداه من أقصى الناس: أيها الأمير إنا سمعناك تقول في أول كلامك إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً تعريضاً بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء المؤمنين حقاً، فعرفنا ذلك أيها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا، فإنك ممن شهد وغبنا، ونحن مقلدون ذلك في أعناقكم، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لأمتكم، وصدق الخبر عن نبيكم.
قال حذيفة: أيها الرجل أما إذا سألت وفحصت هكذا فاسمع وافهم ما أخبرك به:
أما من تقدم من الخلفاء قبل علي بن أبي طالب عليه السلام ممن تسمى بأمير المؤمنين فإنهم تسموا بذلك وسماهم الناس به. وأما علي بن أبي طالب فإن جبرائيل عليه السلام سماه بهذا الإسم عن الله تعالى وشهد له الرسول صلى الله عليه وآله عن سلام جبرائيل له بإمرة المؤمنين، وكان أصحاب رسول الله يدعونه في حياة رسول الله بأمير المؤمنين.
قال الفتى: أخبرنا كيف كان ذلك يرحمك الله.
قال حذيفة: إن الناس كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الحجاب إذا شاؤوا فنهاهم رسول الله أن يدخل أحد إليه وعنده دحية بن خليفة الكلبي، وكان رسول الله يراسل قيصراً ملك الروم وبني حنيفة وملوك بني غسان على يده، وكان جبرائيل عليه السلام يهبط عليه في صورته، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يدخل المسلمون عليه إذا كان عنده دحية.
قال حذيفة: وإني أقبلت يوماً لبعض أموري إلى رسول الله رجاء أن ألقاه خالياً، فلما صرت بالباب نظرت فإذا أنا بشملة قد سدلت على الباب فرفعتها وهممت بالدخول وكذلك كنا نصنع فإذا أنا بدحية قاعد عند رسول الله صلى الله عليه وآله والنبي نائم ورأسه في حجر دحية الكلبي، فلما رأيته انصرفت فلقيني علي بن أبي طالب عليه السلام في بعض الطريق فقال: يا ابن اليمان من أين أقبلت
< صفحة > 249 < / صفحة >
فقلت من عند رسول الله صلى الله عليه وآله قال: وما ذا صنعت؟ قلت: أردت الدخول عليه في كذا وكذا وذكرت الأمر الذي جئت له فلم يتهيأ لي ذلك. قال: ولمَ؟ قلت عنده دحية الكلبي وسألت علياً معونتي على رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك الأمر. قال فارجع معي فرجعت معه، فلما صرنا إلى باب الدار جلست بالباب ورفع علي الشملة ودخل فسلم فسمعت دحية: يقول وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم قال: له أجلس فخذ رأس أخيك وابن عمك من حجري، فأنت أولى الناس به، فجلس علي وأخذ رأس رسول الله فجعله في حجره، وخرج دحية من البيت، فقال علي عليه السلام : أدخل يا حذيفة فدخلت وجلست فما كان بأسرع من انتبه رسول الله فضحك في وجه علي، ثم قال: يا أبا الحسن من حجر من أخذت رأسي؟ قال: من حجر دحية الكلبي. فقال صلى الله عليه وآله :ذلك جبرائيل، فما قلت له حين دخلت وما قال لك؟ قال دخلت وسلمت فقال لي: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال رسول الله: يا علي سلمت عليك ملائكة الله وسكان سماواته بإمرة المؤمنين من قبل أن يسلم عليك أهل الأرض.
يا علي إن جبرائيل عليه السلام فعل ذلك عن أمر الله عز وجل وقد أوحى إلي عن ربي تبارك وتعالى من قبل دخولك أن أفرض ذلك على الناس، وأنا فاعل ذلك إن شاء الله تعالى. فلما كان من الغد بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ناحية فدك في حاجة، فلبثت أياماً ثم قدمت فوجدت الناس يتحدثون أن رسول الله أمر الناس أن يسلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين، وأن جبرائيل أتاه بذلك عن الله عز وجل، فقلت: صدق رسول الله، وأنا قد سمعت جبرائيل سلم على علي بإمرة المؤمنين، فحدثتهم الحديث، فسمعني عمر بن الخطاب وأنا أحدث الناس في المسجد فقال لي: أنت رأيت جبرائيل وسمعته! إتق القول فقد قلت قولاً عظيماً، فقد خولط بك! فقلت: نعم أنا سمعت ورأيت ذلك فأرغم الله أنف من رغم! فقال يا أباعبد الله لقد رأيت وسمعت عجباً!
قال حذيفة: فسمعني بريدة بن الحصيب الأسلمي وأنا أحدث ببعض ما رأيت وسمعت، فقال لي: والله يا ابن اليمان لقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالسلام على علي بإمرة المؤمنين فاستجاب له طائفة يسيرة من الناس ورد ذلك عليه وأباه كثير من الناس! فقلت: يا بريدة أكنت شاهداً ذلك اليوم؟ فقال: نعم من أوله إلى آخره، فقلت له حدثني به رحمك الله فإني كنت عن ذلك اليوم غائباً، قال بريدة: كنت أنا وعمار أخي مع رسول الله صلى الله عليه وآله في نخيل بني النجار فدخل علينا علي
< صفحة > 250 < / صفحة >
بن أبي طالب عليه السلام فسلم فرد عليه رسول الله، ورددنا ثم قال: يا علي أجلس هنا، فدخل رجال فأمرهم رسول الله بالسلام على علي بإمرة المؤمنين، فسلموا وما كادوا.
ثم دخل أبوبكر وعمر فسلما، فقال لهما رسول الله: سلما على علي بإمرة المؤمنين، فقالا: الإمرة من الله ورسوله؟ فقال: نعم، ثم دخل طلحة وسعد بن مالك فسلما فقال لهما النبي: سلما على علي بإمرة المؤمنين، فقالا: عن الله ورسوله؟ فقال: نعم.قالا سمعنا وأطعنا.
ثم دخل سلمان الفارسي وأبوذر الغفاري رضي الله عنهما فسلما فرد عليهما السلام، ثم قال لهما سلما على علي بإمرة المؤمنين، فسلما ولم يقولا شيئاً.
ثم دخل خزيمة بن ثابت وأبوالهيثم بن التيهان فسلما فرد عليهما السلام، ثم قال سلما على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين، فسلما ولم يقولا شيئاً.
ثم دخل عمار ومقداد فسلما فرد عليهما السلام وقال: سلما على علي بإمرة المؤمنين، ففعلا ولم يقولا شيئاً.
ثم دخل عثمان وأبوعبيدة فسلما فرد عليهما السلام وقال: سلما على علي بإمرة المؤمنين، قالا: عن الله ورسوله؟ قال: نعم، فسلما.
ثم دخل فلان وفلان وعدد من جماعة المهاجرين والأنصار كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول سلموا على علي بإمرة المؤمنين، فبعض يسلم وبعض لم يقل شيئاً، وبعض يقول للنبي: عن الله ورسوله، فيقول: نعم. حتى غص المجلس بأهله وامتلأت الحجرة وجلس بعض على الباب وفي الطريق، وكانوا يدخلون فيسلمون ويخرجون.
ثم قال لي ولأخي قم يا بريدة أنت وأخوك فسلما على علي بن أبي طالب بإمرة المؤمنين، فقمنا وسلمنا ثم عدنا إلى مواضعنا فجلسنا.
قال: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إسمعوا وعوا إني أمرتكم أن تسلموا على علي بإمرة المؤمنين، وإن رجالاً سألوني ذلك عن أمر الله عز وجل أو أمر رسول الله، ما كان لمحمد أن يأتي أمراً من تلقاء نفسه بل بوحي ربه وأمره. أفرأيتم والذي نفسي بيده لئن أبيتم ونقضتموه لتكفرن ولتفارقن ما بعثني به ربي، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
< صفحة > 251 < / صفحة >
قال بريدة: فلما خرجنا سمعت بعض أولئك الذين أمروا بالسلام على علي بإمرة المؤمنين من قريش يقول لصاحبه وقد التفت بهما طائفة من الجفاء البطاء عن الإسلام من قريش: أما رأيت ما صنع محمد بابن عمه من علو المنزلة والمكانة ولو يستطيع والله لجعله نبياً من بعده. فقال له صاحبه أمسك ولا يكبرن عليك هذا الأمر، فإنا لو فقدنا محمداً لكان فعله هذا تحت أقدامنا!
قال حذيفة ثم خرج بريدة إلى بعض طرق الشام ورجع، وقد قبض رسول الله وبايع الناس أبابكر، فأقبل بريدة ودخل المسجد وأبوبكر على المنبر وعمر دونه بمرقاة، فناداهما من ناحية المسجد: يا أبابكر ويا عمر. فقال: ما لك يا بريدة أجننت؟ فقال لهما: والله ما جننت ولكن أين سلامكما بالأمس على علي بإمرة المؤمنين؟ فقال له أبوبكر: يا بريدة الأمر يحدث بعده الأمر، فإنك غبت وشهدنا والشاهد يرى ما لا يرى الغائب!
فقال لهما: رأيتما ما لم يره الله ولا رسوله! ولكن هذا وفاء صاحبك بقوله لو فقدنا محمداً لكان هذا قوله تحت أقدامنا!
ألا إن المدينة حرام عليَّ أن أسكنها أبداً حتى أموت وخرج بريدة بأهله وولده، فنزل بين قومه بني أسلم، فكان يطلع في الوقت دون الوقت، فلما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام سار إليه وكان معه حتى قدم العراق، فلما أصيب أمير المؤمنين سار إلى خراسان فنزلها فلبث هناك إلى أن مات رحمه الله. (و من أولاده في نيشابور الحاكم الحسكاني)
قال حذيفة: هذه أنباء ما سألتني عنه. فقال الفتى: لا جزى الله الذين شاهدوا رسول الله وسمعوه يقول هذا القول في علي، فقد خانوا الله ورسوله وأزالوا الأمر عمن رضي به الله، وأقروه فيمن لم يره الله ولا رسوله لذلك أهلاً. لا جرم والله لن يفلحوا بعدها أبداً، ونزل حذيفة عن منبره فقال يا أخا الأنصار إن الأمر كان أعظم مما تظن! إنه عزب والله البصر وذهب اليقين، وكثر المخالف وقل الناصر لأهل الحق.
فقال له الفتى: فهلا انتضيتم أسيافكم ووضعتموها على رقابكم وضربتم بها الزائلين عن الحق قدماً قدماً حتى تموتوا أو تدركوا الأمر الذي تحبونه من طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله .
فقال له: أيها الفتى إنه أخذ والله بأسماعنا وأبصارنا، وكرهنا الموت وزينت عندنا الحيرة، وسبق علم الله بإمرة الظالمين، ونحن نسأل الله الصفح لذنوبنا والعصمة فيما بقي من آجالنا، فإنه
< صفحة > 252 < / صفحة >
مالك رحيم. ثم انصرف حذيفة إلى منزله وتفرق الناس.
قال عبد الله بن سلمة: فبينما أنا ذات يوم عند حذيفة أعوده في مرضه الذي مات فيه وقد كان يوم قدمت فيه من الكوفة، وذلك من قبل قدوم علي عليه السلام إلى العراق، فبينما أنا عنده إذ جاء الفتى الأنصاري فدخل على حذيفة فرحب به وأقبل به وأدناه وقرب مجلسه، وخرج من كان عند حذيفة من عواده وأقبل عليه: فقال يا أباعبد الله سمعتك يوماً تحدث عن بريدة بن الخصيب الأسلمي أنه سمع بعض القوم الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن يسلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين يقول لصاحبه: ما رأيت اليوم ما صنع محمد بابن عمه من التشريف وعلو المنزلة حتى لو قدر أن يجعله نبياً لفعل، فأجابه صاحبه وقال لا يكبرن عليك فلو فقدنا محمد لكان قوله تحت أقدامنا!وقد ظننت نداء بريدة لهما وهما على المنبر أنهما صاحبا القول!
قال حذيفة: أجل القائل عمر والمجيب أبوبكر. فقال الفتى: إنا لله وإنا إليه راجعون، هلك والله القوم وبطلت أعمالهم. قال حذيفة: ولم يزل القوم على ذلك من الإرتداد وما لم يعلم الله منهم أكثر! فقال الفتى: قد كنت أحب أن أتعرف هذا الأمر من فعلهم، ولكني أجدك مريضاً، وأنا أكره أن أُمِلَّك بحديثي ومسألتي، وقام لينصرف فقال حذيفة: لا، بل اجلس يا ابن أخي وتلق مني حديثهم وإن كربني ذلك، فلا أحسبني إلا مفارقكم، إني لا أحب أن تغتر بمنزلتهما في الناس، فهذا ما أقدر عليه من النصيحة لك ولأمير المؤمنين عليه السلام من الطاعة له ولرسوله، وذكر منزلته.
فقال:يا أباعبد الله حدثني بما عندك من أمورهم لأكون على بصيرة من ذلك. فقال حذيفة: إذاً والله لأخبرنك بخبر سمعته ورأيته ولقد والله دلنا على ذلك من فعلهم على أنهم والله ما آمنوا بالله ولا برسوله طرفة عين! وأخبرك أن الله تعالى أمر رسوله في سنة عشر من مهاجرته من مكة إلى المدينة أن يحج هو ويحج الناس معه فأوحى إليه بذلك وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله المؤذنين فأذنوا في أهل السافلة والعالية ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد عزم على الحج في عامه هذا ليفهم الناس حجهم ويعلمهم مناسكهم فيكون سنة لهم إلى آخر الدهر. قال: فلم يبق أحد ممن دخل في الإسلام إلا حج مع رسول الله لسنة عشر ليشهدوا منافع لهم ويعلمهم حجهم ويعرفهم مناسكهم.
< صفحة > 253 < / صفحة >
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس وخرج بنسائه معه، وهي حجة الوداع فلما استتم حجهم، وقضوا مناسكهم، وعرف الناس جميع ما احتاجوا إليه وأعلمهم أنه قد أقام لهم ملة إبراهيم عليه السلام ، وقد أزال عنهم جميع ما أحدثه المشركون بعده، ورد الحج إلى حالته الأولى.
ودخل مكة فأقام بها يوماً واحداً، هبط عليه الأمين جبرائيل عليه السلام بأول سورة العنكبوت فقال إقرأ يا محمد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يا جبرائيل وما هذه الفتنة؟ فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرؤك السلام ويقول لك: إني ما أرسلت نبياً قبلك إلا أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف على أمته من بعده من يقوم مقامه، ويحيي لهم سنته وأحكامه، فالمطيعون لله فيما يأمرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله الصادقون، والمخالفون على أمره هم الكاذبون، وقد دنا يا محمد مصيرك إلى ربك وجنته وهو يأمرك أن تنصب لأمتك من بعدك علي بن أبي طالب عليه السلام وتعهد إليه فهو الخليفة القائم برعيتك وأمتك، إن أطاعوه أسلموا وإن عصوه كفروا، وسيفعلون ذلك وهي الفتنة التي تلوت الآي فيها، وإن الله عز وجل يأمرك أن تعلمه جميع ما علمك وتستحفظه جميع ما استحفظك واستودعك، فإنه الأمين المؤتمن.
يا محمد، إني اخترتك من عبادي نبياً، واخترته لك وصياً.
قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام فخلا به يومه ذلك وليلته واستودعه العلم والحكمة التي آتاه الله إياها، وعرفه ما قال جبرائيل، وكان ذلك في يوم عائشة بنت أبي بكر فقالت: يا رسول الله لقد طال استخلاؤك بعلي منذ اليوم، قال: فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت لم تعرض عني يا رسول الله؟ قال: بأمر لعله يكون لي صلاحاً لمن أسعده الله بقبوله والإيمان به، وقد أمرت بدعاء الناس جميعاً إليه، وستعلمين ذلك إذا أنا قمت به في الناس. قالت: يا رسول الله ولم لا تخبر به الآن لأتقدم بالعمل به ولآخذ بما فيه الصلاح؟ قال: سأخبرك به فاحفظيه إلى أن أؤمر بالقيام به في الناس جميعاً، فإنك إن حفظتيه حفظك الله في العاجلة والآجلة جميعاً، وكان لك الفضيلة بسبقه والمسارعة إلى الإيمان بالله ورسوله، ولو أضعتيه وتركت رعاية ما ألقي إليك منه كفرت بربك وحبط أجرك وبرئت منك ذمة الله ورسوله وكنت من الخاسرين، ولم يضر الله ذلك ولا
< صفحة > 254 < / صفحة >
رسوله، فضمنت له حفظه والإيمان به ورعايته.
فقال صلى الله عليه وآله إن الله تعالى أخبرني أن عمري قد انقضى، وأمرني أن أنصب علياً للناس علماً وأجعله فيهم إماماً وأستخلفه كما استخلف الأنبياء من قبلي أوصياءهم، وأنا صائر إلى ربي وآخذ فيه بأمره، فليكن هذا الأمر منك تحت سويداء قلبك، إلى أن يأذن الله بالقيام به، فضمنت له ذلك.
ولقد أطلع الله نبيه على ما يكون منها فيه ومن صاحبتها حفصة وأبويهما، فلم تلبث أن أخبرت حفصة وأخبرت كل واحدة منها أباها فاجتمعا فأرسلا إلى جماعة الطلقاء والمنافقين فخبراهم بالأمر فأقبل بعضهم على بعض وقالوا: إن محمداً يريد أن يجعل هذا الأمر في أهل بيته كسنة كسرى وقيصر إلى آخر الدهر، ولا والله ما لكم في الحياة من حظ إن أفضى هذا الأمر إلى علي بن أبي طالب، وإن محمداً عاملكم على ظاهركم، وإن عليا يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم، فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدموا آراءكم فيه، ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي، فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي صلى الله عليه وآله ناقته على عقبة هرشى، وقد كانوا صنعوا مثل ذلك في غزاة تبوك فصرف الله الشر عن نبيه صلى الله عليه وآله ، فاجتمعوا في أمر رسول الله من القتل والإغتيال واستقاء السم على غير وجه، وقد كان اجتمع أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار ومن كان في قلبه الإرتداد من العرب في المدينة وما حولها، فتعاقدوا وتحالفوا على أن ينفروا به ناقته وكانوا أربعة عشر رجلاً، وكان من عزم رسول الله أن يقيم علياً عليه السلام وينصبه للناس بالمدينة إذا قدم، فسار رسول الله صلى الله عليه وآله يومين وليلتين، فلما كان في اليوم الثالث أتاه جبرائيل عليه السلام بآخر سورة الحجر فقال: إقرأ فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. قال ورحل رسول الله وأغدق السير مسرعاً على دخول المدينة لينصب عليا عليه السلام علماً للناس فلما كانت الليلة الرابعة هبط جبرائيل عليه السلام في آخر الليل فقرأ عليه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. وهم الذين هموا برسول الله فقال صلى الله عليه وآله أما تراني يا جبرائيل أغدق السير مجداً فيه لأدخل المدينة فأعرض ولاية علي عليه السلام على الشاهد والغائب فقال له جبرائيل عليه السلام :الله يأمرك أن تفرض ولايته غداً إذا نزلت منزلك. فقال رسول الله: نعم يا
< صفحة > 255 < / صفحة >
جبرائيل غداً أفعل ذلك إن شاء الله. وأمر رسول الله بالرحيل من وقته وسار الناس معه حتى نزل بغدير خم، وصلى بالناس وأمرهم أن يجتمعوا إليه ودعا علياً عليه السلام ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله يد علي اليسرى بيده اليمنى ورفع صوته بالولاء لعلي عليه السلام على الناس أجمعين، وفرض طاعته عليهم وأمرهم أن لا يختلفوا عليه بعده، وخبرهم أن ذلك عن الله عز وجل وقال لهم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا؟ بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. ثم أمر الناس أن يبايعوه فبايعه الناس جميعاً ولم يتكلم منهم أحد، وقد كان أبوبكر وعمر تقدما إلى الجحفة فبعث وردهما، ثم قال لهما النبي متهجماً: يا ابن أبي قحافة ويا عمر بايعا علياً بالولاية من بعدي، فقالا: أمر من الله ومن رسوله؟ فقال: وهل يكون مثل هذا عن غير أمر الله، نعم أمر من الله ومن رسوله. فقال: وبايعا ثم انصرفا.
وسار رسول الله صلى الله عليه وآله باقي يومه وليلته حتى إذا دنوا من عقبة هرشى تقدمه القوم، فتواروا في ثنية العقبة، وقد حملوا معهم دباباً، وطرحوا فيها الحصى.
فقال حذيفة: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا عمار بن ياسر وأمره أن يسوقها وأنا أقودها، حتى إذا صرنا رأس العقبة، ثار القوم من ورائنا، ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة، فذعرت وكادت أن تنفر برسول الله صلى الله عليه وآله فصاح بها النبي صلى الله عليه وآله أن اسكني، وليس عليك بأس. فأنطقها الله تعالى بقول عربي مبين فصيح فقالت: والله، يا رسول الله صلى الله عليه وآله لا أزلت يداً عن مستقر يد ولا رجلاً عن موضع رجل وأنت على ظهري، فتقدم القوم إلى الناقة ليدفعوها فأقبلت أنا وعمار نضرب وجوههم بأسيافنا، وكانت ليلة مظلمة، فزالوا عنا وأيسوا مما ظنوا ودبروا. فقلت: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين يريدون ما ترى؟ فقال صلى الله عليه وآله : يا حذيفة هؤلاء المنافقون في الدنيا والآخرة، فقلت: ألا تبعث إليهم يا رسول الله رهطاً فيأتوا برؤوسهم؟ فقال: إن الله أمرني أن أعرض عنهم، فأكره أن تقول الناس إنه دعا أناساً من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا، فقاتل بهم حتى إذا ظهر على عدوه أقبل عليهم فقتلهم! ولكن دعهم يا حذيفة فإن الله لهم بالمرصاد، وسيمهلهم قليلاً ثم يضطر هم إلى عذاب غليظ. فقلت: ومن هؤلاء القوم المنافقون يا رسول الله صلى الله عليه وآله أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ فسماهم لي رجلاً رجلاً حتى فرغ منهم، وقد
< صفحة > 256 < / صفحة >
كان فيهم أناس أنا كاره أن يكونوا فيهم فأمسكت عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا حذيفة كأنك شاك في بعض من سميت لك، إرفع رأسك إليهم فرفعت طرفي إلى القوم، وهم وقوف على الثنية، فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا، وثبتت البرقة حتى خلتها شمساً طالعة فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلاً رجلاً، فإذا هم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعدد القوم أربعة عشر رجلاً، تسعة من قريش وخمسة من ساير الناس.
فقال له الفتى: سمهم لنا يرحمك الله تعالى! قال حذيفة: هم والله أبوبكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبوعبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، هؤلاء من قريش، وأما الخمسة الأخر فأبوموسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وأوس بن الحدثان البصري، وأبوهريرة، وأبوطلحة الأنصاري.
قال حذيفة: ثم انحدرنا من العقبة، وقد طلع الفجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله فتوضأ وانتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا، فرأيت القوم بأجمعهم وقد دخلوا مع الناس وصلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما انصرف من صلاته التفت فنظر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة يتناجون، فأمر منادياً فنادى في الناس لا تجتمع ثلاثة نفر من الناس يتناجون فيما بينهم بسر، وارتحل رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس من منزل العقبة….
فلما نزل المنزل الآ خر رأى سالم مولى حذيفة أبابكر وعمر وأباعبيدة يسار بعضهم بعضاً، فوقف عليهم وقال: أليس قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا تجتمع ثلاثة نفر من الناس على سر واحد، والله لتخبروني فيما أنتم وإلا أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أخبره بذلك منكم، فقال أبوبكر: يا سالم عليك عهد الله وميثاقه لئن خبرناك بالذي نحن فيه وبما اجتمعنا له، إن أحببت أن تدخل معنا فيه دخلت وكنت رجلا منا، وإن كرهت ذلك كتمته علينا، فقال سالم: لكم ذلك وأعطاهم بذلك عهده وميثاقه، وكان سالم شديد البغض والعداوة لعلي بن أبي طالب عليه السلام وقد عرفوا ذلك منه، فقالوا له: إنا قد اجتمعنا على أن نتحالف ونتعاقد على أن لا نطيع محمداً فيما فرض علينا من ولاية علي بن أبي طالب بعده! فقال لهم سالم: عليكم عهد الله وميثاقه إن في هذا الأمر كنتم تخوضون وتتناجون؟ قالوا أجل علينا عهد الله وميثاقه أنا إنما كنا في هذا الأمر بعينه لا في شئ سواه. قال سالم: وأنا والله أول من يعاقدكم على هذا الأمر ويحالفكم عليه، إنه
< صفحة > 257 < / صفحة >
والله ما طلعت الشمس على أهل بيت أبغض إلى من بني هاشم، ولا في بني هاشم أبغض إلى ولا أمقت من علي بن أبي طالب فاصنعوا في هذا الأمر ما بدا لكم فإني واحد منكم، فتعاقدوا من وقتهم على هذا الأمر ثم تفرقوا.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله المسير أتوه فقال لهم: فيما كنتم تتناجون في يومكم هذا وقد نهيتكم عن النجوى؟ فقالوا: يا رسول الله ما التقينا غير وقتنا هذا، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وآله ملياً ثم قال لهم: ءأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةًعِنْدَهُ مِنَ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. ثم سار حتى دخل المدينة واجتمع القوم جميعاً وكتبوا صحيفة بينهم على ذكر ما تعاهدوا عليه في هذا الأمر، وكان أول ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب عليه السلام وأن الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ليس بخارج منهم، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً: هؤلاء أصحاب العقبة وعشرون رجلا آخر، واستودعوا الصحيفة أباعبيدة بن الجراح وجعلوه أمينهم عليها.
قال: فقال الفتى يا أباعبد الله يرحمك الله هبنا نقول إن هؤلاء القوم رضوا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة لأنهم من مشيخة قريش، فما بالهم رضوا بسالم وهو ليس من قريش ولا من المهاجرين ولا من الأنصار وإنما هو عبد لامرأة من الأنصار؟ قال حذيفة: يا فتى إن القوم أجمع تعاقدوا على إزالة هذا الأمر عن علي بن أبي طالب عليه السلام حسداً منهم له وكراهة لأمره، واجتمع لهم مع ذلك ما كان في قلوب قريش من سفك الدماء، وكان خاصة رسول الله صلى الله عليه وآله وكانوا يطلبون الثأر الذي أوقعه رسول الله بهم من علي من بني هاشم، فإنما كان العقد على إزالة الأمر عن علي عليه السلام من هؤلاء الأربعة عشر، وكانوا يرون أن سالماً رجل منهم.
فقال الفتى: فخبرني يرحمك الله عما كتب جميعهم في الصحيفة لأعرفه، فقال حذيفة حدثتني بذلك أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة أبي بكرأن القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا في ذلك، وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبرونه في ذلك، حتى اجتمع رأيهم على ذلك فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم، وكانت نسخة الصحيفة:
وقد تقدمت نسختها.
قال: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله من سفره ذلك، نزل منزل أم سلمة زوجته فأقام بها شهراً
< صفحة > 258 < / صفحة >
لاينزل منزلاً سواه من منازل أزواجه كما كان يفعل قبل ذلك. قال فشكت عايشة وحفصة ذلك إلى أبويهما، فقالا لهما إنا لنعلم لم صنع ذلك ولأي شئ هو، إمضيا إليه فلاطفاه في الكلام وخادعاه عن نفسه، فإنكما تجدانه حيياً كريماً، فلعلكما تسلان ما في قلبه وتستخرجان سخيمته.
قال: فمضت عايشة وحدها إليه فأصابته في منزل أم سلمة وعنده علي بن أبي طالب عليه السلام فقال لها النبي: ما جاء بك يا حميراء؟ قالت: يا رسول الله أنكرت تخلفك عن منزلك هذه المرة وأنا أعوذ بالله من سخطك يا رسول الله، فقال: لوكان الأمركما تقولين لما أظهرت سراً أوصيتك بكتمانه، لقد هلكت وأهلكت أمة من الناس. قال: ثم أمرخادمة أم سلمة فقال: إجمعي هؤلاء يعني نساءه، فجمعتهن في منزل أم سلمة، فقال لهن: إسمعن ما أقول لكن، وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال لهن: هذا أخي ووصيي ووارثي والقائم فيكن وفي الأمة من بعدي، فأطعنه فيما يأمركن به، ولا تعصينه فتهلكن بمعصيته، ثم قال: يا علي أوصيك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك، وأنفق عليهن من مالك، ومرهن بأمرك وانههن عما يريبك، وخل سبيلهن إن عصينك! فقال علي عليه السلام : يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي، فقال: إرفق بهن ما كان الرفق أمثل بهن فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها.
قال: وكل نساء النبي قد صمتن فلم يقلن شيئاً، فتكلمت عايشة فقالت: يا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه بما سواه! فقال لها: بلى: يا حميراء قد خالفت أمري أشد خلاف، وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصنه بعدي، ولتخرجن من البيت الذي أخلفك فيه متبرجة قد حف بك فئام من الناس، فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك، ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب، ألا إن ذلك كائن، ثم قال: قمن فانصرفن إلى منازلكن قال، فقمن فانصرفن.
قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع أولئك النفر ومن مالأهم على علي عليه السلام وطابقهم على عداوته، ومن كان من الطلقاء والمنافقين، وكانوا زهاء أربعة آلاف رجل، فجعلهم تحت يدي أسامة بن زيد مولاه وأمَّره عليهم، وأمره بالخروج إلى ناحية من الشام، فقالوا: يا رسول لله إنا قدمنا من سفرنا الذي كنا فيه معك، ونحن نسألك أن تأذن لنا في المقام لنصلح من شأننا ما يصلحنا في سفرنا، قال: فأمرهم أن يكونوا في المدينة ريثما يحتاجون إليه، وأمر أسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة، فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله صلى الله عليه وآله منتظراً للقوم أن يوافوه إذا فرغوا
< صفحة > 259 < / صفحة >
من أمورهم وقضاء حوائجهم، وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله بما صنع من ذلك أن تخلو المدينة منهم، ولا يبقى بها أحد من المنافقين.
قال: فهم على ذلك من شأنهم ورسول الله صلى الله عليه وآله رائب يحثهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه، إذ مرض رسول الله صلى الله عليه وآله مرضه الذي توفي فيه، فلما رأوا ذلك تباطؤوا عما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله من الخروج، فأمر قيس بن عبادة وكان سياف رسول الله صلى الله عليه وآله والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم، فأخرجهم قيس بن سعد والحباب بن المنذر حتى ألحقاهم بعسكرهم، وقالا لأسامة إن رسول الله لم يرخص لك في التخلف، فسر من وقتك هذا ليعلم رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك، فارتحل بهم أسامة وانصرف قيس والحباب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأعلماه برحلة القوم، فقال لهما: إن القوم غير سائرين.
قال: فخلا أبوبكر وعمر وأبوعبيدة بأسامة وجماعة من أصحابه فقالوا: إلى أين ننطلق ونخلي المدينة ونحن أحوج ما كنا إليها وإلى المقام بها؟
فقال لهم: وما ذلك؟ قالوا إن رسول الله قد نزل به الموت، ووالله لئن خلينا المدينة لتحدثن بها أمور لا يمكن إصلاحها، ننظر ما يكون من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله ثم المسير بين أيدينا.
قال: فرجع القوم إلى المعسكر الأول وأقاموا به وبعثوا رسولاً يتعرف لهم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فأتى الرسول إلى عائشة فسألها عن ذلك سراً فقالت إمض إلى أبي وعمر ومن معهما وقل لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد ثقل فلا يبرحن أحد منكم، وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت! واشتدت علة رسول الله صلى الله عليه وآله فدعت عائشة صهيباً فقالت: إمض إلى أبي بكر وأعلمه أن محمداً في حال لا يرجى، فهلم إلينا أنت وعمر وأبوعبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم، وليكن دخولكم في الليل سراً!
قال: فأتاهم الخبر فأخذوا بيد صهيب فأدخلوه إلى أسامة فأخبروه الخبر، وقالوا له كيف ينبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله صلى الله عليه وآله واستأذنوه في الدخول، فأذن لهم وأمرهم أن لا يعلم بدخولهم أحد، وإن عوفي رسول الله رجعتم إلى عسكركم، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك لنكون في جماعة الناس. فدخل أبوبكر وعمر وأبوعبيدة ليلاً المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وآله قد ثقل فأفاق بعض الإفاقة فقال: لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم، فقيل له: وما هو يا رسول الله؟ فقال: إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون عن أمري، ألا إني
< صفحة > 260 < / صفحة >
إلى الله منهم برئ، ويحكم نفذوا جيش أسامة، فلم يزل يقول ذلك حتى قالها مرات كثيرة، قال: وكان بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله يؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة، فإن قدر على الخروج تحامل وخرج وصلى بالناس، وإن هو لم يقدر على الخروج أمر علي بن أبي طالب عليه السلام فصلى بالناس، وكان علي بن أبي طالب والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك.
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يدي أسامة، أذن بلال ثم أتاه يخبره كعادته، فوجده قد ثقل، فمنع من الدخول إليه، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضى إلى أبيها فيعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد ثقل في مرضه وليس يطيق النهوض إلى المسجد، وعلي بن أبي طالب عليه السلام قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس، فاخرج أنت إلى المسجد فصل بالناس، فإنها حالة تهنئك وحجة لك بعد اليوم، قال: فلم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله أو علياً يصلى بهم كعادته التي عرفوها في مرضه، إذ دخل أبوبكر المسجد وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد ثقل، وقد أمرني أن أصلي بالناس، فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله : وأنى لك ذلك وأنت في جيش أسامة ولا والله لا أعلم أحداً بعث إليك ولا أمرك بالصلاة.
ثم نادى الناس بلال فقال: على رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك، ثم أسرع حتى أتى الباب فدقه دقاً شديداً فسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال :ما هذا الدق العنيف؟ فانظروا ما هو؟ قال: فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب ففتح الباب فإذا ببلال فقال: ما وراءك يا بلال؟ فقال: إن أبابكر دخل المسجد وتقدم حتى وقف في مقام رسول الله صلى الله عليه وآله ، وزعم أن رسول الله أمره بذلك، فقال: أوليس أبوبكر مع أسامة في الجيش هذا والله هو الشر العظيم الذي طرق البارحة المدينة!لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك!
ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه فقال: ما وراءك يا بلال وأخبر رسول الله الخبر فقال: أقيموني أخرجوني إلى المسجد، والذي نفسي بيده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن، ثم خرج صلى الله عليه وآله معصوب الرأس يتهادى بين علي عليه السلام والفضل بن عباس ورجلاه تجران في الأرض حتى دخل المسجد وأبوبكر قائم في مقام رسول الله، وقد طاف به عمر وأبوعبيدة وسالم وصهيب والنفر الذين دخلوا،وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال، فلما
< صفحة > 261 < / صفحة >
رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وآله قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك!
وتقدم رسول الله فجذب أبابكر من ردائه فنحاه عن المحراب وأقبل أبوبكر والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأقبل الناس فصلوا خلف رسول الله وهو جالس، وبلال يسمع الناس التكبير حتى قضى صلاته ثم التفت فلم ير أبابكر فقال أيها الناس: ألا تعجبون من ابن أبي قحافة وأصحابه الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت يدي أسامة، وأمرتهم بالمسير إلى الوجه الذي وجهوا إليه، فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة!ألا وإن الله قد أركسهم فيها! إعرجوا بي إلى المنبر، فقام وهو مربوط حتى قعد على أدنى مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه قد جاءني من أمر ربي ما الناس صائرون إليه، وإني قد تركتكم على الحجة الواضحة ليلها كنهارها، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائيل.
أيها الناس: إني لا أحل لكم إلا ما أحله القرآن، ولا أحرم عليكم إلا ما حرمه القرآن، وإني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، هما الخليفتان فيكم، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فأسألكم بماذا خلفتموني فيهما.وليذادُنَّ يومئذ رجال من حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل فيقول رجال: أنا فلان وأنا فلان، فأقول: أما الأسماء فقد عرفت ولكنكم ارتددتم من بعدي، فسحقاً لكم سحقاً.
ثم نزل من المنبر وعاد إلى حجرته، ولم يظهر أبوبكر ولا أصحابه حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ).
- *
أبي بن كعب أراد أن يفضح أهل الصحيفة فقتلوه!
روى الحاكم(2/226): ( عن جندب قال: أتيت المدينة لأتعلم العلم، فلما دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إذا الناس فيه حلق يتحدثون، قال: فجعلت أمضي حتى انتهيت إلى حلقة فيها رجل شاحب عليه ثوبان كأنما قدم من سفر، فسمعته يقول: هلك أصحاب العقد عليهما السلام ورب الكعبة ولا آسى عليهم، يقولها ثلاثاً، هلك أصحاب العقدة ورب الكعبة، هلك أصحاب العقدة ورب الكعبة، هلك أصحاب العقدة ورب الكعبة! قال: فجلست إليه فتحدث
< صفحة > 262 < / صفحة >
ما قضي له ثم قام ، فسألت عنه فقالوا: هذا سيد الناس أبي بن كعب! قال فتبعته حتى أتى منزله فإذا هو رث المنزل رث الكسوة رث الهيئة يشبه أمره بعضه بعضاً فسلمت عليه فرد عليَّ السلام، قال: ثم سألني ممن أنت؟قال قلت من أهل العراق، قال أكثر شئ سؤالاً وغضب! قال: فاستقبلت القبلة ثم جثوت على ركبتي ورفعت يديَّ هكذا ومد ذراعيه فقلت: اللهم إنا نشكوهم إليك، إنا ننفق نفقاتنا وننصب أبداننا ونُرحل مطايانا ابتغاء العلم، فإذا لقيناهم تجهموا لنا وقالوا لنا، قال: فبكى أبيٌّ وجعل يترضاني ويقول: ويحك إني لم أذهب هناك، ثم قال أبيٌّ: أعاهدك لئن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلمن بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله لا أخاف فيه لومة لائم. قال ثم انصرفت عنه وجعلت أنتظر يوم الجمعة فلما كان يوم الخميس خرجت لبعض حاجتي فإذا الطرق مملوءة من الناس، لا آخذ في سكة إلا استقبلني الناس، قال فقلت ما شان الناس؟قالوا إنا نحسبك غريباً قال قلت: أجل، قالوا مات سيد المسلمين أبي بن كعب! وصححه ورواه في ترجمة أبي ، وفي: 3/302. وابن سعد:3/500 و501).
وفي مسند أحمد(5/140): ( عن قيس بن عباد قال أتيت المدينة للقي أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إلي من أبيّ، ثم حدَّث فما رأيت الرجال مُتحت (مدت) أعناقها إلى شئ مُتُوحها إليه! قال: سمعته يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة! ألا لا عليهم آسى ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين! وإذا هو أبيّ، والحديث على لفظ سليمان بن داود).
وفي صحيح ابن خزيمة(3/33): ( ثم استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقدة ورب الكعبة ثلاثاً. ثم قال والله ما عليهم آسى ولكن آسى على من أضلوا! قال قلت: من تعني بهذا؟ قال: الأمراء).
وفي المعجم الأوسط(7/217): (ولكني آسى على من أهلكوا من أمة محمد)!
وفي نيل الأوطار(3 /222): (هذا لفظ أحمد، وقد أخرج الحديث أيضاً النسائي وابن خزيمة في صحيحه. وأهل العقدة بضم العين المهملة وسكون القاف، يريد البيعة المعقودة للولاية).
وهكذا قتل أبيُّ بن كعب قبل أن ينفذ عهده الذي عاهد الله عليه أن يفضح المؤامرة على عترة النبي صلى الله عليه وآله ! ولا مجال لذكر فعاليات الشبكة القرشية وحلفائها اليهود، التي كانت وراء السقيفة! وقال أبيّ: ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم صلى الله عليه وآله !
< صفحة > 263 < / صفحة >
ففي شرح النهج (20 / 22): ( وكلمة أبيّ بن كعب مشهورة منقولة: ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم! وقوله: ألا هلك أهل العقدة، والله ما آسي عليهم إنما آسي على من يضلون من الناس!).
ونختم بما رواه المفيد في الفصول المختارة/90: (سئل هشام بن الحكم عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السلام لما قبض عمر وقد دخل عليه وهو مسجى: لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى، وفي حديث آخر لهم: إني لأرجو أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى. فقال هشام: هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد وإنما حصل من جهة القصاص وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفاً، وذلك أن عمر واطأ أبابكر والمغيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وأباعبيدة على كتْب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولم يولوهم مقامه من بعده، فكانت الصحيفة لعمر إذ كان عماد القوم،والصحيفة التي ود أميرالمؤمنين ورجا أن يلقى الله بها، هي هذه الصحيفة فيخاصمه بها، ويحتج عليه بمتضمنها. والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبي بن كعب أنه كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أفضي الأمر إلى أبي بكر بصوت يسمعه أهل المسجد: ألا هلك أهل العقدة والله ما آسى عليهم، إنما آسى على من يضلون من الناس! فقيل له:ياصاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة وما عقدتهم؟ فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولا يولوهم مقامه! أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاماً أبين به للناس أمرهم!قال: فما أتت عليه الجمعة)!!
ويؤيده مارواه في شرح النهج (20/298)عن أمير المؤمنين عليه السلام 🙁 قال له قائل: يا أمير المؤمنين أرأيت لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم، وآنس منه الرشد، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت، ولولا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة، وسلماً إلى العز والأمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً، ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا، ثم نسبت تلك الفتوح
< صفحة > 264 < / صفحة >
إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير ممن يعرف، ونشأ كثير ممن لا يعرف.
وما عسى أن يكون الولد لو كان! إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقربني بما تعلمونه من القُرْب للنسب واللحمة، بل للجهاد والنصيحة، أفتراه لو كان له ولد هل كان يفعل ما فعلت! وكذاك لم يكن يَقْرُب ما قَرُبْتُ، ثم لم يكن عند قريش والعرب سبباً للحظوة والمنزلة، بل للحرمان والجفوة.
اللهم إنك تعلم أني لم أرد الإمرة، ولا علو الملك والرياسة، وإنما أردت القيام بحدودك، والأداء لشرعك، ووضع الأمور في مواضعها، وتوفير الحقوق على أهلها، والمضي على منهاج نبيك، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك).
- *
< صفحة > 265 < / صفحة >
الفصل الخامس والعشرون : النبي صلى الله عليه وآله والعطر
الفصل الخامس والعشرون
النبي صلى الله عليه وآله والعطر
اهتمام النبي صلى الله عليه وآله بالطيب وحث المسلمين على استعماله
يأتي في فصل رأي النبي صلى الله عليه وآله في المرأة، أن الله حبب اليه الطيب