السيرة النبوية عند أهل البيت (ع) المجلد الأول
--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الأول
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الأول
الطبعة الثانية - منقحة ومزيدة
1438 - 2017
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
شابك : 9786006612881
شماره كتابشناسى ملى : 4793168
عنوان ونام پديد آور : السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام / علي الكوراني العاملي
مشخصات نشر : قم ، دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 .
مشخصات ظاهري : 2 ج . / يادداشت : عربي .
يادداشت : چاپ دوم . / يادداشت : ج . 2 ( چاپ دوم : 1438 ق . = 2017 م . ) .
يادداشت : كتاب حاضر اولين بار در سال 1388 تحت عنوان " جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) " توسط انتشارات باقيات منتشر شده است .
عنوان ديگر : جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) .
موضوع : محمد ( ص ) . پيامبر اسلام . 53 قبل از هجريت - 11 ق . / موضوع : 632 . Muhammad . Prohpet . d
موضوع : سنت نبوي / موضوع : Wonts of the Prophet
موضوع : اسلام - - تاريخ - - ازآغاز تا 11 ق / موضوع : 632 Islam - - History - To
رده بندى ديويى : 93 / 297
رده بندى كنگره : 1396 9 ج 9 ك / 46 / Bp 24
سر شناسه : كورانى ، على ، 1944 - م . Kurani Ali
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
- *
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ( 1 )
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ذي قعدة 1438 ه ق - July 2017
المطبعة : باقرى - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 3000 نسخة .
شابك : 978 - 600 - 6612 - 88 - 1
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------
مقدمة الطبعة الثانية
بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
وبعد فقد وفقني الله تعالى لكتابة السيرة النبوية عند أهل البيت « عليهم السلام » ، وكتبت عن علي والزهرا ء صلوات الله عليهما ، وعن الإمام الحسن السبط ( عليه السلام ) ، وكذلك عن الأئمة زين العابدين ، والكاظم ، والجواد ، والهادي ، والعسكري ، وعدة مجلدات عن الإمام المهدي صلوات الله عليهم .
وقد طالبني بعض العلماء الأجلاء بأن أكمل هذه الدورة في سيرة النبي وأهل البيت الأطهار « عليهم السلام » ، فاستخرت الله تعالى وبدأت بتلبية طلبهم .
أسأله تعالى أن يهب لي التوفيق لإكمال هذا العمل المبارك ، وأن يجعله ذخراً ليوم وقوفي بين يديه عز وجل ، يوم يفوز به الفائزون بولاية النبي وآله الأطهار ( صلى الله عليه وآله ) .
كتبه بقم المشرفة : علي الكوراني العاملي
في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1436
--------------------------- 6 ---------------------------
.
--------------------------- 7 ---------------------------
تمهيد
أهمية السيرة النبوية
للسيرة النبوية أهمية خاصة عند المسلم ، فهي إيمانٌ وعلمٌ ، وفقهٌ للرسول والرسالة ، وتعريفٌ له بنبيه الذي ينتمي اليه ، ويتقرب إلى ربه بالاقتداء به ( صلى الله عليه وآله ) .
وأشهر كتاب وصل الينا في السيرة ما عُرف بسيرة محمد بن إسحاق بن يسار « توفي 151 » ثم اختصره وغيَّرَ فيه عبد الملك بن هشام « توفي 218 » فعُرف بسيرة ابن هشام ، وذكر في أوله أنه تارك من سيرة ابن إسحاق : « أشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها ، وأشياء بعضها يُشَنَّعُ الحديث به ، وبعضٌ يسوءُ بعض الناس ذكره » !
ومعناه أنه أراد كسب رضا العباسيين الذين ألف لهم كتابه ، والذين يزعمون أن جدهم العباس وارث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويزعم المنصور أنه رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في منامه : « وعقد له لواءً أسود وعممه بعمامة من ثلاثة وعشرين دوراً ، وأوصاه بأمته ، وقال له : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة » !
فأصدر المنصور أمره للمسلمين بتدوين رؤياه وقال : « ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب ، وتعلقوها في أعناق الصبيان » ! تاريخ بغداد : 1 / 85 ، تاريخ دمشق : 32 / 301 ، رواه ابن كثير في النهاية : 10 / 129 وحكم بصحة المنام !
على أن سيرة ابن إسحاق أيضاً فيها مشكلات ، فقد غَيَّر فيها في مراحل حياته ،
--------------------------- 8 ---------------------------
حيث كان أول أمره يتشيع للحسنيين ، ثم صار مع خصومهم العباسيين . وعاش في المدينة ، ثم نفي منها إلى البصرة ، وفارس ، ثم عاش في بغداد . ولهذا صار لكتابه روايات متعددة ، وقد اعتمد ابن هشام على رواية زياد البكائي دون غيرها ، بينما قال في مقدمة القطعة التي عثروا عليها في المغرب : « ولسيرة ابن إسحاق رواة غير البكائي ، وابن بكير ، وبكر بن سليمان ، وسلمة بن الفضل ، أوصلها مطاع الطرابيشي في كتابه : رواة المغازي والسير إلى واحد وستين راوياً » . « ابن إسحاق : موقع الوراق » .
ويظهر أن نسخ هؤلاء الرواة فيها « تعديلات » ابن إسحاق على كتابه ، وأنه حذف منه كثيراً من مناقب أهل البيت « عليهم السلام » ، وما يمس بني أمية وبني عباس !
ومن أمثلة ذلك حذف اسم العباس من أسرى بدر ، مع أنه متواتر ، وحذف ابن هشام لحديث الدار الذي نص على وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) ، عند نزول قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ .
لذلك ، فإن القيمة العلمية لسيرة ابن هشام وابن إسحاق منخفضة ، وعلى الباحث فحص روايتها ، ومقارنتها بالروايات الأخرى .
كانت الخلافة تحرق مصادر السيرة !
اتفقت المصادر على أن أول من صنف في السيرة : عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو قبطي : « هو أول من صنف في المغازي والسير » . الذريعة : 17 / 153 .
قال في الشيعة وفنون الإسلام / 84 : « الفصل الثامن في تقدم الشيعة في علم السير ، فأول من وضعه عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، صنف في ذلك على عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » . وكان أبوه أبو رافع « رحمه الله » مرجعاً : « كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول : ما صنع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم كذا ؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها » . تقييد العلم لابن عبد البر / 92 والإصابة لابن حجر : 4 / 125 .
فأين هذا الكنز الثمين : كتاب ابن أبي رافع « رحمه الله » ؟ لقد أحرقته الحكومات ، ولا تعجب فقد كان الإحراق من صلب سياساتهم !
--------------------------- 9 ---------------------------
قال الزبير بن بكار في الموفقيات / 222 ، وهو من علماء السلطة : « قدم سليمان بن عبد الملك إلى مكة حاجاً سنة 82 ه - ، فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومغازيه فقال له أبان : هي عندي قد أخذتها مصححةً ممن أثق به . فأمر سليمان عشرة من الكتاب بنسخها فكتبوها في رق ، فلما صارت إليه نظر ، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر ، فقال : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل ! فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم ، وإما أن يكونوا ليس هكذا ! فقال أبان : أيها الأمير لايمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق ، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا ! فقال سليمان : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه ، ثم أمر بالكتاب فحُرِق ! ورجع فأخبر أباه عبد الملك بن مروان بذلك الكتاب ، فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تَقْدِمْ بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها ! قال سليمان : فلذلك أمرت بتحريق ما نسخته » !
فالميزان عند الخليفة : أن يكون في الكتاب مدحٌ لبني أمية ، أما إذا كان فيه مدحٌ لآخرين فيقول لابنه : « وما حاجتك أن تَقْدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل » !
وترى في هذا النص أن الخلافة تتبنى سياسة التعتيم والتجهيل ، فقد قال لابنه : تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها ! وقد طبقها الابن وحرق ما كتبوه له !
كنوزٌ من السيرة وعلوم الإسلام أحرقتها السلطة !
حرصت الحكومات القرشية على إحراق كتب شيعة أهل البيت « عليهم السلام » وإبادتها ، ومع ذلك سلمت من نارهم ثروة كبيرة ، تغطي كثيراً من فصول السيرة النبوية وليس كلها ، ونراها أحياناً تستفيض بأوسع من السيرة الحكومية .
ويكفيك مثالاً على سياستهم في إبادة العلم : كُتب جابر بن يزيد الجعفي ، وكُتب أحمد بن عقدة ، وكُتب سليمان الأعمش ، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم ! فقد أحرقوا كتبهم أو فقدت من تلاميذهم في سنوات تشريدهم وتقتيلهم ! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث ، أي مئتي مجلداً !
--------------------------- 10 ---------------------------
قال مسلم في مقدمة صحيحه / 15 : « الجراح بن مليح يقول : سمعت جابراً يقول : عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر « الباقر ( عليه السلام ) » عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كلها » !
وقد أحضر المنصور سليمان الأعمش ليلاً ليمنعه من رواية مناقب علي ( عليه السلام ) وقال له : « فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله كم رويت من حديث علي بن أبي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء ؟ قلت : شئ يسير يا أمير المؤمنين ! قال : كم ؟ قلت : مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد ! قال : يا سليمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء ؟ فإن حلفت لا ترويه لأحد من الشيعة حدثتك به » ! فضائل علي ( ( ع ) ) لابن المغازلي / 226 .
وقال الشهيد نور الله التستري في الصوارم المهرقة / 214 : « إن أهل بغداد أجمعوا على أنه لم يظهر من زمان ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة ، من يكون أبلغ منه في حفظ الحديث . وأيضاً قال الدارقطني : سمعت منه أنه قال : قد ضبطت ثلاث مائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت وبني هاشم « عليهم السلام » ، وحفظت مائة ألف حديث بأسانيدها ! ونقل الذهبي عن عبد الغني بن سعيد أنه قال : سمعت عن الدارقطني قال : إن ابن عقدة يعلم ما عند الناس ، ولا يعلم الناس ما عنده !
وقال الثلاثة : إن ابن عقدة كان يقعد في جامع براثا من الكوفة ، ويذكر مثالب الشيخين عند الناس ، فلهذا تركوا بعض أحاديثه ، وإلا فلا كلام في صدقه » .
وقد اشتبه الراوي فمسجد براثا في بغداد ، ومسكن ابن عقدة الكوفة .
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : 3 / 840 : « قال الحاكم ابن البيِّع : سمعت أبا علي الحافظ يقول : ما رأيت أحفظ لحديث الكوفيين من أبي العباس بن عقدة .
وعن ابن عقدة قال : أنا أجيب في ثلاث مائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم . حدث بهذا عنه الدارقطني . وعن ابن عقدة قال : أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها . . وقال أبو سعد الماليني : أراد ابن عقدة أن ينتقل ، فكانت كتبه ست مائة حملة » . وذكر نحوه في وسائل الشيعة : 20 / 131 وذكر قول الشيخ الطوسي فيه : « أمره في الثقة والجلالة والحفظ أشهر من أن يذكر » .
--------------------------- 11 ---------------------------
وفي مجلة تراثنا : 21 / 180 : « أفرد الذهبي رسالة عن حياته ، مذكورة في مؤلفاته في مقدمة سير أعلام النبلاء باسم : ترجمة ابن عقدة . ترجم له أعلام العامة بكل تجلة وتبجيل ووثقوه ، وأثنوا على علمه وحفظه وخبرته وسعة اطلاعه ، وأرخوا ولادته ليلة النصف من المحرم سنة 249 ، ووفاته في 7 ذي القعدة سنة 332 . ومن المؤسف أن هذا الرجل العظيم لم يبق من مؤلفاته الكثيرة الكبيرة سوى وريقات توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق ، ضمن المجموعة رقم 4581 ، باسم : جزء من حديث ابن عقدة من الورقة : 9 - 15 » !
أما اليوم فلا تجد حتى الترجمة التي كتبها الذهبي لابن عقدة !
ويتضح حجم جريمة الحكومات في تضييع علم العترة « عليهم السلام » لوعرفت أن كل ألفي حديث تبلغ مجلداً تقريباً ، وأن صحيح بخاري ومسلم وبقية الكتب الستة مع حذف المكرر تبلغ : 9780 حديثاً ، وكل ما في الصحيحين : 2980 حديثاً .
http : / / www . ahlalhdeeth . com / vb / showthread . php ? t = 2586 9
فتكون أحاديث جابر بن يزيد الجعفي خمساً وثلاثين مجلداً ، أو سبعة أضعاف البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة . والعشرة آلاف حديث التي يرويها سليمان الأعمش في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحدها أكثر من مجموع الكتب الستة !
أما أحاديث أحمد بن عقدة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتبلغ خمسين مجلداً ، وأحاديثه عن أهل البيت « عليهم السلام » وبني هاشم ، مئة وخمسين مجلداً !
ولم تكتفِ السلطة بمصادرة الكتب وإحراقها ، حتى أفتى علماؤها بأن كل من روى شيئاً فيه نقد ولو بسيط لأبي بكر وعمر ، فحكمه أن يدفن حياً !
قال الذهبي في ميزان الإعتدال : 2 / 75 ، عن العلل لأحمد بن حنبل : 3 / 8 : « قال عبد الله بن أحمد : سألت ابن معين عنه » « زكريا بن يحيى الكسائي » « فقال : رجل سوء يحدث بأحاديث سوء . قلت : فقد قال لي : إنك كتبت عنه ؟ فحول وجهه وحلف بالله إنه لا أتاه ولا كتب عنه . وقال : يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها » !
وقال عنه ابن تيمية في منهاج السنة : 7 - 232 : « لا يحتج به باتفاق أهل العلم ، فإن
--------------------------- 12 ---------------------------
زكريا بن يحيى الكسائي قال فيه يحيى : رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها . قال ابن عدي : كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة » .
فهل يجوز أن تخسر أجيال الأمة ثروة عظيمة بسبب روايات تنتقد بعض الصحابة ؟ أمَا كان الواجب على علماء الأمة أن يرووها ويردوا عليها ؟ ! لكنهم صاروا أعداء العلم ، لأنهم أطاعوا سياسة التعتيم والتجهيل الأموي التي قال عنها الخليفة لابنه : « تُعَرِّف
أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها » !
فحضرة الخليفة الذي يحدد ما يسمح بمعرفته للناس ، ويحرق كل ما لم يعجبه !
القرآن مصدر للسيرة لكنهم ضيعوا أسباب نزوله !
كان جبرئيل ( عليه السلام ) ينزل بآيات القرآن فيبلغها النبي ( صلى الله عليه وآله ) للصحابة ، لكنهم لم يحفظوا أسباب نزولها وأوقاتها ! بل نرى أن الصحابة صلوا مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) على مئات الجنائز ، ثم اختلفوا هل كان يُكَبِّر على الجنازة أربع تكبيرات ، أو خمساً !
إن هذه الحالة من عدم الضبط في الأمة ، تستوجب وجود إمام بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنده علم الكتاب ليبينه للأجيال بعلمٍ ويقين ، لابظنون واحتمالات كما فعل الصحابة ! ولذا أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فأعدَّ علياً ( عليه السلام ) وصياً وخليفة وإماماً ، وعلمه علم الكتاب ، فجمعه بأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حياته ، وأكمل جمعه عند وفاته .
لكن قريشاً أبعدت علياً والعترة « عليهم السلام » عن السلطة ، ولم تقبل منهم حتى نسخة القرآن التي جاءهم بها علي ( عليه السلام ) ، خوفاً من أن تكون في غير مصلحتها : « فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة ! فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما ! فحمل الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة » ! المناقب : 1 / 320 .
فقد كان ( عليه السلام ) مأموراً من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يعرضه عليهم ، فإن لم يقبلوه احتفظ به عند الأئمة من ذريته « عليهم السلام » حتى يظهره المهدي ( عليه السلام ) ، وتركهم يجمعونه كما يريدون ، حتى لا يكون للأمة
--------------------------- 13 ---------------------------
قرآنان . راجع : تدوين القرآن / 182 ، ألف سؤال وإشكال : 1 / 243 .
ولهذا السبب تخبطت الأمة في علوم القرآن وأسباب نزول آياته ، فانظر من باب المثال إلى تهافت كلامهم في آخر آية نزلت ، مع أنهم كانوا يومها ألوفاً :
1 . روى أحمد : 1 / 36 في مسنده عن ابن المسيب أن عمر سئل عن آية الربا فلم يعرفها فقال إنها آخر آية ! « وإن رسول الله قبض ولم يفسرها » !
2 . وفي البخاري : 5 / 115 : « وآخر آية نزلت : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » .
3 . وفي البخاري : 5 / 182 : « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ، آخر ما نزل » . !
4 . وفي مستدرك الحاكم : 2 / 338 وصححه على شرط الشيخين : « آخر ما نزل من القرآن : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ » . يقصد الآيتين : 128 و 129 من سورة التوبة .
5 . وفي صحيح مسلم : 8 / 243 : « تَعْلمُ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً ؟ قلت نعم ، إذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفَتْح . قال : صدقت » .
6 . وفي الطبراني الكبير : 12 / 19 : « آخر آية أنزلت : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ » . يقصد الآية : 281 من سورة البقرة !
7 . وكأن السيوطي استحى من تهافت أحاديثهم الصحيحة في آخر ما نزل فأجملها في الإتقان : 1 / 101 ، ولم يعددها كما عدد الأقوال في أول ما نزل !
وهذا التناقض يوجب سقوط رواياتهم ، فلا يبقى للباحث في أسباب النزول إلا ما قاله أهل البيت « عليهم السلام » أو المجمع عليه وهو قليل ، كآية : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ، المجمع على نزولها بعد ثلاث سنين من البعثة ، وأن الدعوة قبلها كانت لبني هاشم خاصة حتى كفاه الله المستهزئين . وهي مقطع مهم في السيرة ، لأنها تعين سنة هلاك عدد من الفراعنة ، وتنفي وجود دعوة عامة قبل ذلك التاريخ .
شعر أبي طالب ( ( ع ) ) مصدر للسيرة
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعجبه أن يُرْوَى شعرأبي طالب وأن يُدَوَّن وقال : تَعَلَّمُوهُ وعلموه أولادكم فإنه كان على دين الله . وفيه علمٌ كثير » . وسائل
--------------------------- 14 ---------------------------
الشيعة : 17 / 331 ، إيمان أبي طالب للمفيد / 10 ومكاتيب الرسول للأحمدي : 1 / 378 .
وقد وصلنا منه نحو ألف بيت ، وهي تكشف حقائق مهمة من سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من قبل البعثة ، في كفالة عمه ، وآياته التي شاهدها الراهب بحيرا ، ومحاولة اليهود قتله ، ثم بِعثته وتكذيب قومه له ، إلى قرب هجرته ( صلى الله عليه وآله ) !
قال الصالحي الشامي في سبل الهدى : 2 / 142 : « وقال أبو طالب في هذه السفرة قصائد ، منها ما ذكره ابن إسحاق ، وأبو هفان في ديوان شعر أبي طالب . . الخ . » .
وأبو هفان أقدم من جمع شعر أبي طالب « رحمه الله » وشَرَحَه ، وهو عبد الله بن أحمد بن حرب بن مهزَّم البصري النحوي ، صاحب كتاب أشعار عبد القيس . « الذريعة : 14 / 195 وإيضاح المكنون : 2 / 49 » . وذكره النجاشي كتبه في رجاله / 218 ، وقال : « مشهور في أصحابنا وله شعر في المذهب . وبنو مهزم بيت كبير بالبصرة في عبد القيس » .
وقد اشتهر من شعر أبي طالب لاميته الرائعة ، التي أرخ فيها لهيجان طغاة قريش ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مطلع نبوته ، وقد مدحها العلماء حتى النواصب ، لكنهم لم يستشهدوا بها في تدوينهم السيرة النبوية ، لأنها تفضح زعماء قريش !
وأوردها ابن كثير في النهاية : 3 / 70 برواية ابن هشام ، ورد تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب ، وقال عنها : « قلت : هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً ، لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً ، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر » . ويقصد بالأموي المؤرخ الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي مولى الأمويين توفي سنة 195 ، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي . الديباج : 1 / 34 .
لكن أتباع السلطة أعرضوا عنها متعمدين لأنهم يبغضون علياً ( عليه السلام ) ، وقد يصل بغضهم بسببه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولاعذر لهم في ترك شعر أبي طالب حتى لو اعتبروه كافراً « رحمه الله » ، لأن شعره وثائق من شاهدٍ على أحداث السيرة .
--------------------------- 15 ---------------------------
أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) أدرى بسيرة جدهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأصدق
يشهد الجميع بأن الأئمة من أهل البيت « عليهم السلام » : علياً والحسنين وزين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي « عليهم السلام » أعرف بسيرة جدهم ( صلى الله عليه وآله ) وأصدق من غيرهم ، ومع ذلك يُعرضون عنهم متعمدين ويأخذون السيرة من رواة مغرضين ويجعلون قولهم ديناً يدينون به ! وكمثال على ذلك ما نسبوه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه اقتص من أشخاص قتلوا رعاة إبل الصدقة ، ففقأ عيونهم بمساميرمحماة ، ثم أحرقهم بالنار أو تركهم ينزفون !
فقد رواه بخاري عن أنس : 1 / 64 قال : « قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة « مرضوا من هوائها » فأمر لهم النبي بلقاح « نوق حلوبة » وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا ، فلما صحوا قتلوا راعي النبي ( صلى الله عليه وآله ) واستاقوا النعم ، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم ، فلما ارتفع النهار جئ بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسُمِّرَتْ أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون » !
وفي : 4 / 22 : « أمر بمسامير فأحميت فكحَّلهم بها ، وطرحهم بالحرة حتى ماتوا » !
وقد رووا استنكار أهل البيت « عليهم السلام » لهذه التهمة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنهم لم يقبلوا منهم !
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه سمَّرَ يد رجل إلى الحائط ! ومن ثَم استحل الأمراء العذاب » !
علل الشرائع : 2 / 541 ، راجع ألف سؤال وإشكال : 2 / 440 .
وقد أفتى الشافعي بجواز التعذيب . « الأم : 4 / 259 » قال : « وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح . . قال : والله ما سمل رسول الله عيناً ، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم » .
وهكذا جعلت السلطة أنس الصحابي كذاباً على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لإثبات مشروعية تعذيب مخالفيها ، وانتزاع الاعتراف منهم لقتلهم ! ولو قبلوا من أهل البيت « عليهم السلام » تبرئة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكذبوا رواة السلطة لكانوا علماء بحق !
--------------------------- 16 ---------------------------
هدف الكتاب وفروقه عن السيرة الرسمية
1 . اهتم علماؤنا بالسيرة وألفوا فيها كتباً وفصولاً . وكتب أخيراً العالم الصديق السيد جعفر مرتضى العاملي موسوعته : الصحيح من سيرة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، في أكثر من ثلاثين مجلداً ، حاكم فيها بتفصيل مسائل السيرة الرسمية عند حكومات الخلافة القرشية . لكن بقيت الحاجة إلى سيرة تركز على أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » وكلمات علماء مذهبهم . لذا قمت بتدوين أحداث السيرة متتبعاً أولاً رواية أئمة أهل البيت « عليهم السلام » ثم كلام علماء مذهبهم ، أو ما ارتضوه من رواية غيرهم .
وكان لابد أحياناً من محاكمة الرواية المشهورة بما يناسب الكتاب ، لتكتمل الصورة الناصعة لسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) منزهةً عن أهواء الحكام ، وتخليط رواتهم .
أما فروقها عن السيرة الحكومية الرسمية فتعرفه بمقارنة فهرسها بفهارس السِّيَر الرسمية ، لتجد أولاً التسلسل المنطقي والعمق العلمي والحداثة في كل فصل ، وتجد العنونة حيث لم يعنونوا ، وفروقاً في أسباب الأحداث ، وإظهاراً لحقائق كثيرة ، وكشفاً لتحريف الرواية الحكومية .
2 . نعتقد بعصمة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) عصمة شاملة قبل البعثة وبعدها ، في تبليغ الرسالة ، وفي أموره الشخصية ، بدليل : قوله تعالى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . وقول علي ( عليه السلام ) : ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم . فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) من طفولته نبياً ، أما في الأربعين فبعث رسولاً .
أما قوله تعالى : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى « الضحى : 6 ، 7 ، 8 » : فمعناه أن من نعم الله عليك أنه هيأ لك جدك عبد المطلب وعمك أبا طالب ( صلى الله عليه وآله ) فكفلاك في يتمك ونشأتك . ومن نعمه عليك أنه هداك من صغرك ، لكنك كنت متحيراً ضالاً فيما يجب عليك عمله ، فهداك بالرسالة إلى دعوة الناس إلى دينه . ووجدك عائلاً عليك نفقة بيتك ومن تريد مساعدتهم ، فأغناك بخديجة فوهبتك ثروتها ، كما وهبت سارة ثروتها لإبراهيم ( عليه السلام ) .
--------------------------- 17 ---------------------------
وأفرط بعض أتباع السلطة ففسروا : وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ، بأنه ( صلى الله عليه وآله ) كان كافراً والعياذ بالله ! ورده الرازي في تفسيره : 31 / 216 ، وفسره بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان ضالاً عن النبوة ، لأنه لم يكفر بالله تعالى طرفة عين . ومذهبنا أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً من صغره ، وكان يرافقة ملك من لدن أن كان فطيماً ، فلا بد أن يكون معنى الضلال الحيرة فيما يجب أن يفعله لهداية الناس ، وليس الحيرة في ربه عز وجل .
قال الشريف المرتضى « رحمه الله » في تنزيه الأنبياء « عليهم السلام » / 150 : « في معنى هذه الآية أجوبة : أولها : أنه أراد وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها ، أو عن شريعة الإسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق . لأن الضلال هو الذهاب والانصراف فلا بد من أمر يكون منصرفاً عنه » . وقال أهل البيت « عليهم السلام » إن معنى آوى : آوى إليك المؤمنين ، ومعنى فهدى : هداهم إليك » . تنزيه الأنبياء / 151 . عيون أخبار الرضا ( ( ع ) ) : 2 / 177 ، كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي / 92 ، أخذ أكثره من تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ( ( رحمه الله ) ) !
3 . نعتقد بإيمان آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى إسماعيل وإبراهيم وآدم « عليهم السلام » ، وأن أجداده وعمه أبا طالب كانوا على ملة إبراهيم ( عليه السلام ) الحنيفية ، ولم يكونوا مكلفين باليهودية ولا بالمسيحية .
4 . كان اليهود ينتظرون بعثة النبي الخاتم من الجزيرة ، وجاءت لذلك مجموعات منهم بعد عيسى ( عليه السلام ) ، وسكنت في وادي القرى ، وخيبر ، والمدينة ، ومكة ، وغيرها .
5 . في السابعة والثلاثين من عمره ( صلى الله عليه وآله ) كان يأتيه جبرئيل ( عليه السلام ) ويعلمه ، وفي الأربعين بدأ نزول الوحي عليه ، وكان في أفق مبين واضح كما نص القرآن ، ولم يكن في جو عُنفٍ وشكٍّ كما يرويه البخاري ، بل نعتبر ذلك من طعن قريش في نبينا ( صلى الله عليه وآله ) أو من جهالة الراوي .
6 . انتشر خبر بعثته ( صلى الله عليه وآله ) فاستشاط زعماء قريش غضباً ، واتخذوا قراراً بقتله قبل أن يسمعوا حجته ! لأنه نقض اتفاقية توزيع مناصب الشرف بين قبائل قريش ودعا إلى
--------------------------- 18 ---------------------------
زعامة بني هاشم ! ثم أمره الله تعالى أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وزيراً ووصياً ، فقام بذلك ، فزاد ذلك من غضب قريش واعتبروه نبأ عظيماً ، لأنه جعل وصيه من عشيرته بني هاشم !
فالمرحلة الأولى من الدعوة ، كانت خاصة ببني هاشم وتوحيدهم لحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومدتها ثلاث سنوات ، لم يَدْعُ فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) غيرهم ، حتى أهلك الله الفراعنة المستهزئين الخمسة وأوحى اليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ، فبدأ بالدعوة العامة .
وقد حرَّف رواة السلطة سِرِّيَّة الدعوة ، لأن سريتها انحصرت بمن كتموا إسلامهم خوفاً من قريش كعمار ، أو كتموه حرصاً على نجاح الدعوة كأبي طالب وحمزة .
أما النبوة وآيات القرآن وسوره فكانت علنية .
7 . ضخَّم رواة السلطة دار الأرقم وجعلوها مرحلة في دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لإثبات مناقب لبعض القرشيين ، وادعوا أن المسلمين خرجوا من دار الأرقم إلى المرحلة العلنية ، ولا وجود لمرحلة دار الأرقم أصلاً ، ولا لإسلام عمر وأبي بكر في الفترة الأولى .
8 . كانت الهجرة إلى الحبشة مرة واحدة ، ولم يرجع المسلمون خطأ كما زعموا لما مدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصنام قريش ، ووصفها بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتها ترجى .
9 . بيَّنا الرواية الصحيحة لمحاصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم في شعب أبي طالب ، ومدتها ، ورددنا ما ادعوه لبعض زعماء قريش أنهم عملوا لنقض صحيفة المحاصرة !
10 . بينا أن الصحيح أن وفاة أبي طالب وخديجة « عليهما السلام » كانت قبل هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بسنة وأشهر ، وليس بثلاث سنوات ، كما قيل .
11 . عرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) نفسه على نحو ثلاثين قبيلة ليحموه من قريش فيبلغ رسالة ربه ، وقبلت بعضه القبائل حمايته بشرط أن تكون لها الخلافة بعده فرفض ، وأخذ البيعة من الأنصار على أن يحموه وأهل بيته كما يحمون أنفسهم وذراريهم ولاينازعوهم الأمر .
--------------------------- 19 ---------------------------
12 . زاد الخطر على حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد وفاة عمه أبي طالب « رحمه الله » حتى اختبأ لفترة في الحجون ، وتصاعد عملهم لقتله حتى طوقوا بيته فخرج مهاجراً بدون أن يشعروا ، وأنام علياً ( عليه السلام ) مكانه . وفي طريقه ( صلى الله عليه وآله ) وجد أبا بكر وغلامه فأخذهما معه ، وجاء علي في اليوم التالي إلى الغار وجهزهم فهاجروا ، ومعهم دليلهم عبد الله بن أريقط الجهني .
13 . أدى علي ( عليه السلام ) أمانات النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة ، ونجا من محاولة اغتيال ، وكانت هجرته ببقية أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) الهجرة العلنية الوحيدة ، وبعثت له قريش مجموعة فرسان ليردوه ، فقتل قائدهم وانهزم الباقون . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في انتظاره في قباء ، ولما وصل اليه أخبره أن الله أنزل فيه وفي الفواطم آيات تمدحهم .
14 . طلب أبو بكر من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدخل المدينة ولاينتظر علياً ( عليه السلام ) في قباء ، فأصر على انتظاره ، فغضب أبو بكر وتركه في قباء وذهب إلى السنح ، ولم يحضر هو ولا عمر في قُباء ولا في دخول النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة .
15 . أرسى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسس دولته في المدينة ، وعقد معاهدات مع اليهود ، وآخى بين المسلمين واختار علياً ( عليه السلام ) فآخاه .
16 . كان انتصار المسلمين في بدر كاسحاً ، وقامت المعركة على أكتاف بني هاشم ، وكان بطلها الأكبر علي ( عليه السلام ) ، حيث قتل أكثر نصف السبعين فارساً ، وقتل المسلمون أقل من نصفهم . ونزلت آية تأكيد الخمس لبني هاشم ، وكان تشريع الخمس قبل بدر .
17 . نزلت سورة الأنفال بعد بدر وفيها ذم مرضى القلوب ، وتوبيخ بعضهم لفرارهم من الصف الأول ، واختلافهم على الغنائم ، واتهامهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه أخفى عباءة !
ولم يستفد الصحابة من توبيخهم في بدر فانهزموا في أحُد وتركوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) لسيوف المشركين ، وطعنوا في قيادته وإدارته وقالوا : لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ! وثبت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبو دجانة ونسيبة فجرحا ، وثبت عليٌّ ( عليه السلام ) وقاتل وحده حتى
دفع الله المشركين وهزمهم !
--------------------------- 20 ---------------------------
18 . وفي غزوة الأحزاب طالت محاصرة المشركين للمدينة نحو شهر ، فخاف المسلمون وفرَّ أكثرهم من المرابطة وتسللوا إلى المدينة بأعذار مختلفة ! حتى بقي مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات ليلة في حراسة الخندق اثنا عشر شخصاً فقط ! وتواطأ بعضهم مع المشركين فعبَّروا فرساناً منهم من نقطة من الخندق بقيادة فارس العرب عمرو بن ود العامري ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) الصحابة إلى مبارزته فخافوا ، فبرز اليه علي ( عليه السلام ) وقتله وقتل بعض رفاقه ، فهرب الباقون ووقع الرعب في المشركين ، وأرسل الله عليهم الريح فتمت هزيمتهم .
19 . في غزوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليهود بني قينقاع والنظير وقريظة ، كان بطل الإسلام عليٌّ ( عليه السلام ) فقتل عدداً من أبطالهم ، فخضعوا لشروط النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالجلاء عن المدينة .
20 . وكان لعلي ( عليه السلام ) أدوار في غزوة الحديبية ، فعتَّم عليها رواة السلطة ، وبيَّناها !
21 . وكانت خيبر قسمين : حصون النطاة وأهمها حصن ناعم ، وحصون الشق وأهمها حصن القموص . فحاصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حصن ناعم وهاجمه علي ( عليه السلام ) فدحا بابه وفتحه ، ثم أبقاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) هناك لترتيب وضعها ، واتجه إلى حصن القموص فحاصره لمدة شهر أو نحوه ، فكان المسلمون يهاجمونه يومياً تقريباً ويرجعون مهزومين ! حتى طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحضر علياً ( عليه السلام ) فأحضره وأخبرهم أنه سيفتح الحصن ، فهاجم علي ( عليه السلام ) الحصن وحده ودحا بابه الحديدي الثقيل ، وقتل بطلهم مرحباً ، وفتح الحصن !
22 . وفي غزوة حنين انهزم المسلمون ، وكانوانحو عشرة آلاف ، فثبت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنو هاشم فقط ، وقاتل علي ( عليه السلام ) وحده فقتل أربعين من حملة الرايات ، وحقق النصر !
ثم حاصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حصن الطائف ، وكان المسلمون يهاجمونه فلم يستطيعوا فتحه ، وكان علي ( عليه السلام ) في مهمة عسكرية ، فاتفق النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع ثقيف وأنهى حصار الطائف .
23 . بعد حنين أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن مرات ، فاستكمل فتحها وترتيب
--------------------------- 21 ---------------------------
أوضاعها ، وكانت له فيها جولات وبطولات ، أخفاها رواة السلطة .
24 . تتميز هذه السيرة بتسليط الضوء على خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإثبات أنها كانت مطروحة من أول بعثته لما أمره الله تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين ، ويطلب منهم وزيراً يبايعه على دعوته ليتخذه أخاً ووصياً ، فاستجاب له علي ( عليه السلام ) فأعلنه : « أخاه ووزيره ووصيه وخليفته من بعده » وأمرهم بطاعته ، فقال أبو لهب لأبي طالب : لقد أمرك بأن تطيع ابنك هذا !
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرض نفسه على القبائل لتحميه ، فاستجابت له عدة قبائل ، لكنها اشترطت أن تكون لها الخلافة بعده ، فلم يقبل .
ثم كانت الخلافة مطروحة عند منافسي علي ( عليه السلام ) فانقسم المسلمون في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى شيعة علي ومبغضيه ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يمدح علياً ( عليه السلام ) وشيعته ، ويذم من أبغضهم .
ثم كانت مطروحة بعد فتح مكة ، وكانت الشغل الشاغل لقريش وحلفائها اليهود ، فحاولوا اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) مراراً ، ليأخذوا دولته ويفرضوا خليفة منهم !
في الختام ننبه إلى أن مصادرنا هي من طبعة برنامجنا « مكتبة أهل البيت « عليهم السلام » - الإصدار الثاني » . وننبه إلى أنا قد نذكر الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) كاملة وهي في المصدر ناقصة .
نسأل الله تعالى بجاه أحب خلقه اليه محمد وآله الطاهرين ( صلى الله عليه وآله ) أن يتقبل منا هذا العمل ويشملنا بشفاعته صلوات الله عليه وآله المعصومين .
كتبه بقم المشرفة : علي الكَوْراني العاملي
غرة ربيع المولد 1429 ثم في ربيع المولد سنة 1436
- *
--------------------------- 22 ---------------------------
.
--------------------------- 23 ---------------------------
الفصل الأول
أول ما خلق الله نورالنبي « صلى الله عليه وآله »
1 . عوالم وجودنا قبل هذا العالم
إن وجودنا الفعلي ليس أول وجودنا ولا آخره ، فقد تظافرت الأدلة من القرآن والسنة وكشوف العلم ، على أنا كنا موجودين في عوالم قبل عالمنا هذا ، واشتهر منها عالم الذر الذي قال الله تعالى عنه : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا . .
وقد نصت الآيات والأحاديث على أن الله امتحن الناس في عالم الذر امتحاناً كاملاً شاملاً ، وأن عملنا في هذا العالم تطبيقٌ لما اخترناه بإرادتنا الكاملة هناك .
وورد أن الناس تعارفت أرواحهم في عالم الذر ، فائتلفوا أو اختلفوا .
ويسمى عالم الأظلة أيضاً ، وفي بعض الروايات عالم الأشباح النورانية ، وعالم الأنوار الأولى ، وأنه أول ظلال أو فَئْ خلقه الله تعالى من نور عظمته .
كما ورد اسم عالم الطينة ، بمعنى الأصل الذي خلق منه الناس .
كما أن قوله تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ، يشير إلى عالمٍ للإنسان حين كان شيئاً ولكن غير مذكور . راجع العقائد الإسلامية : 1 / 60 .
--------------------------- 24 ---------------------------
2 . خلق الله نور نبينا وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل هذا العالم
وأحاديثه في مصادرنا ومصادر غيرنا كثيرة ، وقد بحثها السيد الميلاني في المجلد الخامس من « نفحات الأزهار » ، ونورد منها :
أ . ما نص على أن الله تعالى خلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل خلق الخلق ، كما في الخصال / 481 عن علي ( عليه السلام ) : « إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار ، وقبل أن خَلَقَ آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى « عليهم السلام » . . .
وخلق الله عز وجل معه اثني عشر حجاباً : حجاب القدرة ، وحجاب العظمة ، وحجاب المنة ، وحجاب الرحمة ، وحجاب السعادة وحجاب الكرامة ، وحجاب المنزلة ، وحجاب الهداية ، وحجاب النبوة ، وحجاب الرفعة ، وحجاب الهيبة ، وحجاب الشفاعة . ثم حبس نور محمد ( صلى الله عليه وآله ) في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان ربي الأعلى ، وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان عالم السر ، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو قائم لا يلهو . . الخ . » .
فهو صريح بأنه ( صلى الله عليه وآله ) خلقه الله تعالى قبل كل شئ .
ب . ومنها أن عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) خلقوا مع نوره ( صلى الله عليه وآله ) ففي الكافي : 1 / 442 : « قال لي أبو جعفر ( عليه السلام ) : يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين ، فكانوا أشباح نور بين يدي الله . قلت : وما الأشباح ؟ قال : ظل النور ، أبدان نورانية بلا أرواح ، وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس فبه كان يعبد الله وعترته ، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ، ويصلون الصلوات ، ويحجون ويصومون » .
ج . ومنها أن نبينا ( صلى الله عليه وآله ) أول من أجاب في عالم الذر عندما خلق الله البشر ، وامتحنهم ، ففي بصائر الدرجات / 83 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن بعض قريش قال لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ قال : إني كنت
--------------------------- 25 ---------------------------
أول من أقرَّ بربي ، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين و : أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، وكنت أنا أول نبي قال بلى ، فسبقتهم بالإقرار بالله » .
د . ومنها : أن الله تعالى بعث نبينا ( صلى الله عليه وآله ) نبياً للناس في عالم الأظلة ، ففي تفسير العياشي : 2 / 126 ، عن زرارة وحمران ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) قالا : « إن الله خلق الخلق وهي أظلة فأرسل رسوله محمداً ( صلى الله عليه وآله ) فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه ، ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن في الأظلة ، وجحده من جحد به يومئذ ، فقال : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ » .
وفي بصائر الدرجات / 104 : « سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله تبارك وتعالى : هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى . قال : يعني به محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، حيث دعاهم إلى الإقرار بالله في الذر الأول » .
ه - . ومنها : أن النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) كانوا حول العرش ، وأنهم الكلمات التي تلقاها آدم ( عليه السلام ) ففي شرح الأخبار : 3 / 6 ، عن صفوان الجمال قال : « دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد ( عليه السلام ) وهو يقرأ هذه الآية : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، ثم التفت إليَّ فقال : يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم ( عليه السلام ) أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبحون الله ويقدسونه ، فقال آدم : يا رب من هؤلاء ؟ قال : يا آدم صفوتي من خلقي ، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ، خلقت الجنة لهم ولمن والاهم ، والنار لمن عاداهم . لو أن عبداً من عبادي أتى بذنوب كالجبال الرواسي ، ثم توسل إليَّ بحق هؤلاء لعفوت له . فلما أن وقع آدم في الخطيئة قال : يا رب بحق هؤلاء الأشباح اغفر لي ، فأوحى الله عز وجل إليه : إنك توسلت إلي بصفوتي وقد عفوت لك . قال آدم : يا رب بالمغفرة التي غفرت إلا أخبرتني من هم ؟ فأوحى الله إليه : يا آدم هؤلاء خمسة من ولدك ، لعظيم حقهم عندي اشتققت لهم خمسة أسماء من أسمائي ، فأنا المحمود وهذا محمد ، وأنا الأعلى وهذا علي ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا المحسن وهذا الحسن ، وأنا الإحسان وهذا الحسين » .
--------------------------- 26 ---------------------------
و . ومنها : أن الله تعالى خلق أربعة عشر معصوماً ( عليهم السلام ) من نور عظمته ، ففي المحتضر / 228 ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « إن الله عز وجل خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فهي أرواحنا . فقيل له : يا ابن رسول الله عُدَّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نوراً ؟ فقال : محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين ، تاسعهم قائمهم . ثم عدهم بأسمائهم وقال : نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونحن المثاني التي أعطاها الله تعالى نبينا محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، ونحن شجرة النبوة ، ومنبت الرحمة ، ومعدن الحكمة ، ومصباح العلم ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وموضع سر الله ، ووديعة الله جل اسمه في عباده ، وحرم الله الأكبر ، وعهده المسؤول عنه ، فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله ، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده ، عرفنا من عرفنا ، وجهلنا من جهلنا . نحن الأسماء الحسنى الذين لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا ، ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه .
إن الله تعالى خلقنا فأحسن خلقنا ، وصورنا فأحسن صورنا ، وجعلنا عينه على عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة عليهم بالرأفة والرحمة ، ووجهه الذي يؤتى منه ، وبابه الذي يدل عليه ، وخزان علمه ، وتراجمة وحيه ، وأعلام دينه ، والعروة الوثقى ، والدليل الواضح لمن اهتدى ، وبنا أثمرت الأشجار ، وأينعت الثمار ، وجرت الأنهار ، ونزل الغيث من السماء ، ونبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عبد الله تعالى ولولانا لما عرف الله تعالى ، وأيم الله لولا كلمة سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولاً يعجب منه أو يذهل منه الأولون والآخرون » .
ز . ومنها : أحاديث خلق نور علي ( عليه السلام ) مع نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد رواها الجميع ، ففي مناقب علي لأبي بكر بن مردويه / 285 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين ، فجزءٌ أنا وجزء علي » .
كما روى ابن مردويه بسنده عن الباقر ( عليه السلام ) عن آبائه عن جده ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : « كنت أنا وعلي
--------------------------- 27 ---------------------------
نوراً بين يدي الله تعالى من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله تعالى آدم سلك ذلك النور في صلبه ، فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب ، حتى أقره في صلب عبد المطلب ، فقسمه قسمين : قسماً في صلب عبد الله ، وقسماً في صلب أبي طالب ، فعلي مني وأنا منه ، لحمه لحمي ، ودمه دمي ، فمن أحبه فبحبي أحبه ، ومن أبغضه فببغضي أبغضه » .
ومثله الخصال للصدوق / 640 ، وأمالي الطوسي / 183 ، وفيه : « فجعل في عبد الله نصفاً ، وفي أبي طالب نصفاً ، وجعل النبوة والرسالة فيَّ ، وجعل الوصية والقضية في علي ، ثم اختار لنا اسمين اشتقهما من أسمائه ، فالله المحمود وأنا محمد ، والله العلي وهذا علي ، فأنا للنبوة والرسالة وعلي للوصية والقضية » .
ورواه العلامة في كشف اليقين / 11 ونهج الحق / 212 ، عن ابن مردويه وابن حنبل ، وابن المغازلي وفيه : « حتى قسمه جزءين ، فجعل جزءً في صلب عبد الله ، وجزءً في صلب أبي طالب فأخرجني نبياً ، وأخرج علياً ولياً » .
ح . ومنها أن الله تعالى خلق نور نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وخلق معه نور علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
« ففي الكافي : 1 / 441 » : « عن محمد بن سنان قال : كنت عند أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) فأجريت اختلاف الشيعة فقال : يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته ، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة « عليهم السلام » فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها ، وفوض أمورها إليهم ، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون ، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله
تبارك وتعالى .
ثم قال : يا محمد ، هذه الديانة التي من تقدمها مرق ، ومن تخلف عنها محق ، ومن لزمها لحق ، خذها إليك يا محمد » .
--------------------------- 28 ---------------------------
3 . أحاديث خلق نور النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مصادر السنيين
أ . روت عدداً منها مصادرهم وصححوا بعضها وضعفوا أكثرها ، وجردوه من ذكر العترة ! ففي مجمع الزوائد : 8 / 223 : « عن ميسرة العجر ، قال : قلت يا رسول الله متى كتبت نبياً ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد . رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح » .
ب . وأشهرها حديث : كنت أنا وعليٌّ نوراً بين يدي الرحمان ، رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة : 2 / 262 ، عن سلمان قال : « سمعت حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلقالله آدم قسم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا وجزء علي » .
وقد اجتزأه ابن حنبل ، لأن نصه كما في تاريخ دمشق : 42 / 67 : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله ، مطيعاً ، يسبح الله ذلك النور ويقدسه ، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام . فلما خلق الله آدم رَكَزَ ذلك النور في صلبه ، فلم نَزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي » .
وهذا النص مجتزأ أيضاً ، فقد نقله في شرح النهج : 9 / 171 عن الفردوس وقال : « رواه أحمد في المسند ، وفي كتاب فضائل علي ، وذكره صاحب كتاب الفردوس ، وزاد فيه : ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب ، فكان لي النبوة ولعلي الوصية » .
ولا تجده في مسند أحمد فلا بد أنه حذف ، وبقي في مناقب الصحابة ، أما في الفردوس فنصه الموجود : 3 / 283 كرواية أحمد ، وكذا في الرياض النضرة للطبري / 392 !
ج - . ومنها حديث العرباض رواه أحمد : 4 / 127 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إني لعبد الله وخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت . وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن » . ورواه الحاكم : 2 / 418 و 600 و 608 ، صححه ، وكنز العمال : 11 / 409 ، 11 / 418 و 449 و 450 والدر المنثور : 1 / 139 و 5 / 184 و 207 و 6 / 213 .
وفي مجمع الزوائد : 8 / 223 : رواه أحمد بأسانيد ، والبزار والطبراني . . رجاله رجال الصحيح » .
د . ومنها : حديث : أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ، قال في كشف الخفاء : 1 / 265
--------------------------- 29 ---------------------------
« رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء ؟ قال : يا جابر ، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ، ولا جنة ولا نار ، ولا ملك ولا سماء ولا أرض ، ولا شمس ولا قمر ، ولا جني ولا إنسي ! فلما أراد الله أن يخلق الخلق قَسَم ذلك النور أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول القلم ، ومن الثاني اللوح ، ومن الثالث العرش ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول حملة العرش ، ومن الثاني الكرسي ، ومن الثالث باقي الملائكة ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء : فخلق من الأول السماوات ، ومن الثاني الأرضين ، ومن الثالث الجنة والنار . ثم قسم الرابع أربعة أجزاء : فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد : لا إله إلا الله محمد رسول الله . . الحديث . .
كذا في المواهب ، وقال فيها أيضاً : واختُلف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا ؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني : الأصح أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قدر الله مقاديرالخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء . فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش . . .
وقيل : الأولية في كل شئ بالإضافة إلى جنسه ، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري ، وكذا باقيها . وفي أحكام ابن القطان فيما ذكره ابن مرزوق عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام . . . قال الشبراملسي : ليس المراد بقوله من نوره ظاهره من أن الله تعالى له نور قائم بذاته لاستحالته عليه لأن النور لا يقوم إلا بالأجسام ، بل المراد خلق من نور مخلوقٍ له قبل نور محمد ، وأضافه إليه تعالى ، لكونه تولى خلقه . ثم قال : ويحتمل أن الإضافة بيانية ، أي خلق نور نبيه من نور
--------------------------- 30 ---------------------------
هو ذاته تعالى ، لكن لا بمعنى أنها مادة خلق نور نبيه منها ، بل بمعنى أنه تعالى تعلقت إرادته بإيجاد نور بلا توسط شئ في وجوده ، قال : وهذا أولى الأجوبة نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى : ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، حيث قال : أضافه إلى نفسه تشريفاً وإشعاراً بأنه خلق عجيب ، وأن له مناسبة إلى حضرة الربوبية » .
ه - . وروى في كنز العمال 12 / 427 ، حديث ابن عباس وشعر حسان قال : سئل النبي : « فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم ، لم يلتق أبواي قط على سفاح ، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة ، مصفى مهذباً ، ولا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما ، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي ، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري ، وبين كل نبي صفتي ، تشرق الأرض بنوري ، والغمام لوجهي ، وعلمني كتابه ، ورقى بي في سمائه ، وشق لي إسماً من أسمائه ، فذو العرش محمود وأنا محمد . ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر ، وأن يجعلني أول مشفع ، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي ، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . قال ابن عباس : فقال حسان :
من قبلها طبت في الظلال * وفي مستودع حيث يُخصف الورق
ثم سكنت البلاد لا بشرٌ * أنت ولا نطفة ولا علق
مطهر تركب السفين وقد * ألجم أهل الضلالة الغرقُ
تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق »
ومجمع الزوائد : 8 / 217 ، نحوه المناقب : 1 / 27 ، نسبو ه إلى العباس والصحيح أنه لحسان .
4 . ملاحظات على أحاديث نور النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
1 . إن ابتداء خلق الكون بخلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) حقيقةٌ كبيرة في تكوين الكون وإدارته ، وتسمى الحقيقة المحمدية . وهي تدل على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مشروع خاص لا يقاس به أحد حتى الأنبياء « عليهم السلام » . ومعه عترته المعصومون علي وفاطمة والحسنان والتسعة من
--------------------------- 31 ---------------------------
ذرية الحسين « عليهم السلام » ، الذين خلق نورهم مع نوره أو اشتقه منه ، فهم جزءٌ لا يتجزأ من الحقيقة المحمدية . وهذا يفتح باباً لتفسير مقاماتهم « عليهم السلام » .
2 . لا يمكن لأحد أن ينفي أن الله تعالى بَدَأَ خلق الكون بنور محمد ( صلى الله عليه وآله ) لأن قدرتنا المعرفية لا تسمح لنا بالنفي أو الإثبات ! فلم نكن حاضرين عندما بدأ الله تعالى خلقه ، ولا وسائل عندنا لمعرفة ذلك ، إلا بما أخبرنا به الوحي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فيجب أن نعترف بأن معلوماتنا محدودة رغم تطور العلم وكشفه الكثير عن النور والأشعة ، واستفادة العلماء منها في الطب والحرب . ورغم اكتشاف آينشتاين نظرية النسبية الخاصة والعامة ، اللتين تجعلان الزمن ركناً في وجود المادة ، وتقدمان حقائق جديدة عن النور والحركة ، وعن تحولها إلى طاقة وبالعكس ، وإمكانية سفر الإنسان في المستقبل وفي الماضي !
إلا أنا مع كل ذلك ، لا نعرف كيف بدأ الله تعالى خلق الكون ، وغاية ما توصل اليه العلماء مرحلة الغيوم السديمية ، ثم وصلوا إلى أنه كان قبلها بحرغاز سائل .
فمسائل بدء الخلق ثم تنويعه وتطويره ، من الأسرار التي هي فوق قدرتنا !
3 . حاول أتباع الخلافة تحريف أحاديث خلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآله « عليهم السلام » ، فجعلوها في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة ومعاوية ، أو في قريش كلها ، لتشمل الذين اتخذوهم أئمة مقابل أهل البيت « عليهم السلام » . ثم حذفوا منها ما يشهد بإيمان آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأمهاته إلى إبراهيم ثم إلى آدم « عليهم السلام » ، كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور : 3 / 295 : « ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من بين أبويَّ ، لم يلتقيا على سفاح قط » .
وسبب حذفهم لها أنها تثبت وراثة النبي لآبائه المؤمنين « عليهم السلام » ووراثة عترته له ، فلا يبقى محل لزيد وعمرو ! وأشد نص عليهم حديث نور محمد ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) وإن رووه هم ، لأن فيه : « ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية » . فهو يعني أن علياً وصي النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر الله تعالى ، فتكون بيعة السقيفة مخالفة لوصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
--------------------------- 32 ---------------------------
رواياتهم التي تحاول تحريف أحاديث النور
قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 295 : « عن ابن عباس أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه . قال رسول الله : فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم ، وجعلني في صلب نوح ، وقذف بي في صلب إبراهيم ، ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من بين أبويَّ لم يلتقيا على سفاح قط » .
ورواه في ذيل تاريخ بغداد : 2 / 94 والخصائص : 1 / 66 ، وقال : « ويشهد لهذا ما أخرج الحاكم والطبراني عن خريم بن أوس قال : هاجرت إلى رسول الله منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك . . . » . وذكر شعر حسان . .
وقال القاضي عياض : 1 / 82 : « ويشهد بصحة هذا الخبر شعر العباس المشهور » .
ويلاحظ أن القسم الأول من الحديث كلام ابن عباس وقد جعلوه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فصارت قريش كلها بمن فيها أئمة الكفر كأبي جهل وأبي لهب ، نوراً قبل خلق آدم ( عليه السلام ) !
ولذا قال الحلبي في سيرته : 1 / 48 : « قوله : فأهبطني ، ينبغي أن لا يكون معطوفاً على ما قبله من قوله : إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى . . الخ . فيكون نوره من جملة نور قريش ، وإنه انفرد عن نور قريش ، وأودع في صلب نوح . . » !
ولهم تحريف آخر لمصلحة خلفاء قريش !
ففي تفسير الثعلبي : 7 / 111 والقرطبي : 12 / 286 : « قال رسول الله : إن الله تعالى خلقني من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر ، وخلق المؤمنين من أمتي من الرجال من نور عمر ، وخلق المؤمنات من أمتي من النساء من نور عائشة ، فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور ، فنزلت عليه : وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ » .
وقال في السيرة الحلبية : 1 / 241 : « وفي رواية : لما انتقل النور إلى سبابته قال يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شئ ؟ قال : نعم نور أخصاء أصحابه . فقال : يا رب اجعله
--------------------------- 33 ---------------------------
في بقية أصابعي ، فكان نور أبي بكر في الوسطى ، ونور عمر في البنصر ، ونور عثمان في الخنصر ، ونور علي في الإبهام . فلما أكل من الشجرة ، عاد ذلك النور إلى ظهره » !
وقال السيد الميلاني في نفحات الأزهار : 5 / 190 :
« حديث موضوع آخر في فضل الشيخين : قال السيوطي : أبو نعيم في أماليه . . عن أبي هريرة مرفوعاً : خلقني الله من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر من نور أبي بكر ، فخلق أمتي من نور عمر ، وعمر سراج أهل الجنة . قال أبو نعيم : هذا باطل . . وقال في الميزان : هذا خبر كذب ، ما حدث به واحد من الثلاثة ، وإنما الآفة عندي فيه المنبجي لا يعرف . . . فإذا كان هذا الحديث موضوعاً باعتراف أبي نعيم والذهبي والسيوطي وابن عراق ، فإن خبر خلق الثلاثة قبل آدم ( عليه السلام ) وكونهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) على يمين العرش ، كذب بالأولوية » .
أقول : ومثله في تاريخ دمشق : 30 / 164 : « قال : حدثني جبريل أن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين الأرواح ، وجعل ترابها من الجنة وماءها من الحيوان ، وجعل له قصراً في الجنة من درة بيضاء ، مقاصيرها فيها من الذهب والفضة البيضاء ، وإن الله تعالى آلى على نفسه ألا يسأله عن حَسَنة ولايسأله عن سيئة » !
هذا ، وقد كثرت مكذوباتهم في فضائل أبي بكر وعمر حتى زكمت أنوفهم ! قال في كشف الخفاء : 2 / 419 : « وباب فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات ، كحديث : إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة ! وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي بكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر » !
راجع : نفحات الأزهار : 5 / 13 و 11 / 208 والوضاعون للأميني / 387 .
4 . نلاحظ أن أخبار خلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) مغيبةٌ عند أتباع الخلافة ، فلا تسمعها في مساجدهم وخطبهم ، ولاتراها في مناهجهم التربوية . اللهم إلا ما أخذه منها
--------------------------- 34 ---------------------------
بعض الصوفية ، وبنوا عليه بناءاتهم . وهذا السلوك المتعمد في الإعراض عن ذكر مقامات النبي ( صلى الله عليه وآله ) موروث من طلقاء قريش الذين كانوا في زمنه ( صلى الله عليه وآله ) يسمون خيار الصحابة « عُبَّاد محمد » ! ويتهمونهم بالغلو فيه لأنهم يؤمنون بمقاماته ( صلى الله عليه وآله ) ويتعبدون بأوامره ونصوصه !
وقد ورثهم في عصرنا بدوٌ أجلاف متعصبون لقريش وبني أمية ، فقالوا « محمد طارش ومات » أي مبعوث أوصل رسالة وانتهى ، وهو الآن لا ينفع !
بل قال شيخهم « عصاي هذه أنفع من محمد » ! وقد ناقشني أحد مشايخهم في نسبة هذا الكلام لابن عبد الوهاب ، فقلت له لا بأس : أنت هل ترى أن عصاك أفضل أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) الآن ؟ فبَكِمَ ولم يجب !
وقد حرم هؤلاء القساة الجفاة زيارة قبره ( صلى الله عليه وآله ) ! وحكموا على المسلمين بالغلو والشرك لمجرد قولهم : « يا رسول الله إشفع لنا عند الله » !
وقد بحثنا ذلك في المجلد الخامس من العقائد الإسلامية ، والمجلد الثاني من ألف سؤال وإشكال ، وذكرنا أن طعن « القرشيات » في شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسوأ من طعن الإسرائيليات في أنبياء الله الماضين « عليهم السلام » .
- *
--------------------------- 35 ---------------------------
الفصل الثاني
جزيرة العرب في عصر النبي « صلى الله عليه وآله »
1 . أحوال العرب في عصر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
1 . كان للعرب دول
كان للعرب في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دولة في اليمن ، وكانوا في جزيرة العرب قبائل لاتضمهم دولة ، وفي العراق قبائل بشكل دولة تحت نفوذ الفرس ، وفي الشام والأردن دولة تحت نفوذ الروم ، وكانوا في مصر أقلية تحت حكم القبط والروم .
ويمكن تقدير عدد العرب في كل الجزيرة بنصف مليون نسمة . لأن غاية ما أمكن لقريش أن تحشده من مكة لحرب الأحزاب أربعة آلاف مقاتل فلو حسبنا مقاتلاً من كل سبعة أشخاص يكون عددها في مكة وحولها أقل من أربعين ألفاً . وحشدت قبائل عرب الجزيرة نحو ثلاثين ألفاً ، فلا يزيد عددها عن نصف مليون نسمة ، وإن بالغنا قلنا مليون نسمة .
وكان عدد سكان المدينة في حرب الأحزاب نحو خمسة آلاف نسمة « الصحيح : 9 / 182 » وعند وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) اثني عشرألفاً ، وقد يكون عدد سكان المناطق القريبة من المدينة مثل عددها .
وذكر ابن حجر « فتح الباري : 81 / 15 » أن عدد الذين أرسلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في جيش أسامة ليبعدهم عن المدينة ثلاثة آلاف فيهم سبع مئة قرشي ! قال : « لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة ، منهم أبو بكر وعمر . . . وعند الواقدي أيضاً أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبع مائة من قريش » .
--------------------------- 36 ---------------------------
وهذا يعني أن عدة آلاف من طلقاء قريش جاؤوا إلى المدينة بعد فتح مكة ، فوصل عدد سكانها إلى اثني عشر ألفاً .
أما عرب اليمن فكانوا نحو مليون ، وعرب العراق والشام وفلسطين نحو مليون . فيكون مجموع العرب في الجزيرة وخارجها أقل من ثلاثة ملايين نسمة .
2 . الحالة الاقتصادية للعرب
كان اليمانيون يعيشون على الزراعة وتربية المواشي ، والتجارة وبعض الصناعات ، وكذا العرب في مصر والعراق والشام وفلسطين . وكان عرب الجزيرة في فقر شديد ، تكثر فيهم الغارات والنهب ، فليس في الجزيرة إلا واحات قليلة للزراعة ، ومراعٍ شحيحة للماشية . وكان لقريش تجارة بين الحجاز واليمن والشام ومصر ، في رحلتي الشتاء والصيف .
3 . أديان العرب قبل الإسلام
كان عرب الجزيرة والعراق وثنيين ، يعبدون أصناماً عديدة ، أهمها : هُبَل واللات والعُزَّى ومُنَاة ، وكان فيهم بقية من دين إبراهيم ( عليه السلام ) .
وكان فيهم أقلية يهودية ، في وادي القرى وتيماء وخيبر وضواحي المدينة ومكة .
وكانت وثنية اليمنيين غير حادة ، وفيهم أقلية يهودية في صنعاء وغيرها ، وأقلية مسيحية في نجران وحولها . أما عرب الشام وفلسطين ومصر ، فانتشرت فيهم المسيحية ، بحكم كونهم تحت النفوذ الروماني .
قال الإمام الصادق « الكافي : 4 / 212 » : « إن العرب لم يزالوا على شئ من الحنيفية : يصلون الرحم ، ويُقْرُون الضيف ، ويحجُّون البيت ، ويقولون اتقوا مال اليتيم فإن مال اليتيم عِقال ، ويكفُّون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة ، وكانوا لا يُمْلَى لهم إذا انتهكوا المحارم ، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه في أعناق الإبل فلا يجترئ أحد أن يأخذ من تلك الإبل حيثما ذهبت ، ولا يجترئ أحد أن يعلق من غير لحاء شجر الحرم ، أيهم فعل ذلك عوقب . وأما اليوم فأمليَ لهم ، ولقد جاء أهل
--------------------------- 37 ---------------------------
الشام فنصبوا المنجنيق على أبي قبيس ، فبعث الله عليهم سحابة كجناح الطير ، فأمطرت عليهم صاعقة ، فأحرقت سبعين رجلاً حول المنجنيق » .
ومعنى كلامه ( عليه السلام ) أن الله تعالى أملى للعرب بعد الإسلام فلم يعاقبهم إذا تعدوا على حرمة الحرم ، إلا في حالات قليلة ، منها عندما تحصن ابن الزبير في الحرم وهاجمه يزيد سنة 63 هجرية ، ثم هاجمه عبد الملك سنة 73 ، فعاقبهم الله تعالى بصاعقة ، فلم يتعظوا ولم ينتهوا وأغواهم الحجاج ، فتركهم الله في غيهم !
قال الطبري : 5 / 29 : « فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها « غلب صوتها » ! فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم ، فرفع الحجاج بَرْكة قبائه فغرزها في منطقته ، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ، ثم قال : إرموا ، ورمى معهم ! قال : ثم أصبحوا ، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً فانكسر أهل الشام ، فقال الحجاج : يا أهل الشأم لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة ، هذه صواعق تهامة ، هذا الفتح قد حضر فأبشروا ! إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم !
فصَعَقَتْ من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة ، فقال الحجاج : ألا ترون أنهم يصابون . وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة » !
وفي نهاية ابن كثير : 8 / 363 : « فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته ، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة فخطبهم الحجاج فقال : ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم ! فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته ! فعادوا إلى المحاصرة » !
4 . كان العرب أميين
كان العرب أميين أي ليس لهم كتاب سماوي . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) « نهج البلاغة : 1 / 199 » : « أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ، ولايدَّعي نبوةً ولا وحياً ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى
--------------------------- 38 ---------------------------
منجاتهم ، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم . يحسر الحسير ، ويقف للكسير فيقيم عليه حتى يُلحقه غايته ، إلا هالكاً لا خير فيه ، حتى أراهم منجاتهم ، وبوأهم محلتهم ، فاستدارت رحاهم ، واستقامت قناتهم . وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها حتى تولت بحذافيرها ، واستوسقت في قيادها ، ما ضعفتُ ولا جبنتُ ، ولا خنتُ ولا وهنتُ . وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته » .
ومن خطبة له ( عليه السلام ) : « إن الله بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشرالعرب على شر دينٍ وفي شر دار ، متنخَّوْنَ بين حجارة خُشْن وحيات صُمّ ، تشربون الكدَر ، وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة » . نهج البلاغة : 1 / 66 .
5 . وكان العرب مجتمعاً محارباً
ففي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 281 : « قلت له : جعلت فداك ، لم سموا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد ، وأشباه ذلك ؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب فكانت تُهَوِّلُ على العدو بأسماء أولادهم ، ويسمون عبيدهم : فرج ومبارك وميمون ، وأشباه ذلك ، يتيمنون بها » .
6 . تكلم خمسة أنبياء بالعربية
روي أن الله تعالى بعث أربعة أنبياء يتكلمون العربية ، فعن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : « كان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له : أخبرني عن خمسة من الأنبياء تكلموا بالعربية ؟ فقال : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد ، صلوات الله عليهم » . الخصال / 319 .
وروي عن الباقر ( عليه السلام ) : « أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم ، وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت : يا إسماعيل هابي ابن ، أي أعطني حجراً ، فيقول له إسماعيل بالعربية : يا أبت هاك حجراً ، فإبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة » . التبيان : 1 / 463 .
--------------------------- 39 ---------------------------
وفي تحف العقول / 297 : « أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم ( صلى الله عليه وآله ) وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه ، فهو أول من نطق بها وهو الذبيح » . وفتح الباري : 6 / 286 ، عن علي ( ( ع ) ) ، الجامع الصغير : 1 / 435 والقرطبي 1 / 283 .
أقول : لابد أن يكون معنى الحديث أن إسماعيل ( عليه السلام ) أول من تكلم من أولاد إبراهيم بالعربية ، وهي لغة محيطه من قبيلة جرهم وعرب الجنوب ، أما لغته قبلها فكانت كأبيه وإخوته البابلية أو السريانية ، ولغة أمه القبطية .
هذ ا ، وقد رويت أحاديث في تكون اللغات ، وهي مرسلة أو ضعيفة ، يقلُّ فيها الصحيح ، وزعم بعضها أن العربية لغة آدم ( عليه السلام ) ولغة أهل الجنة ، والمعقول أن تكون لغة أهل الجنة أبلغ من كل لغات الدنيا .
7 . إقرؤوا القرآن بألحان العرب
أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإعراب القرآن وقراءته بألحان العرب ، ففي الكافي : 2 / 614 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أعربوا القرآن فإنه عربي ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية . . . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق ، وأهل الكبائر ، فإنه سيجيئ من بعدي أقوام يُرَجِّعُون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة ، وقلوب من يعجبه شأنهم » !
وعن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، أن علي بن الحسين كان يقرأ القرآن : « فربما مرَّ به المارُّ فصُعق من حسن صوته ، وإن الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه ! قلت : ألم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن ؟ فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يُحَمِّل الناس من خلفه ما يطيقون » !
--------------------------- 40 ---------------------------
8 . أوجب الإسلام على عرب البادية الهجرة
وحرم عليهم التعرب بعد الهجرة ، ففي النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري / 26 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا رضاع بعد فطام ، ولا وِصال في صيام ، ولا يُتْمَ بعد احتلام ، ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا تعرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا طلاق قبل النكاح ، ولا عتق قبل ملك ، ولا يمين لولد مع والده ولا لمملوك مع مولاه ولا لمرأة مع زوجها ، ولا نذر في معصية ، ولا يمين في قطيعة رحم » .
وفي النوادر / 28 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لا يصلح للأعرابي أن ينكح المهاجرة ، يخرج بها من أرض الهجرة فيتعرب بها ، إلا أن يكون قد عرف السنة والحجة ، وإن أقام بهذا في أرض الهجرة فهو مهاجر » .
9 . الهجرة إلى طلب العلم
معنى الهجرة إلى طلب العلم : الهجرة إلى الأئمة « عليهم السلام » ، ففي معاني الأخبار / 265 : « عن حذيفة بن منصور قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : المتعرب بعد الهجرة ، التارك لهذا الأمر بعد معرفته » . وهو مأخوذ من قوله تعالى : وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ .
وفي معاني الأخبار / 157 : عن عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : « إن قوماً رووا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن اختلاف أمتي رحمة ؟ فقال : صدقوا ، قلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال : ليس حيث ذهبت وذهبوا ، إنما أراد قول الله عز وجل : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ . فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويختلفوا إليه فيتعلموا ، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ، إنما أراد اختلافهم من البلدان ، لا اختلافاً في دين الله ، إنما الدين واحد » .
10 . العروبة باللغة وليست بالنسب
نقل النبي ( صلى الله عليه وآله ) العروبة من النسب إلى اللغة ، فعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « صعد
--------------------------- 41 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر يوم فتح مكة فقال : أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ، ألا إنكم من آدم ( عليه السلام ) وآدم من طين ، ألا إن خير
عباد الله عبد اتقاه ، إن العربية ليست بأبٍ والد ، ولكنها لسانٌ ناطق ، فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه » . الكافي : 8 / 246 ودعائم الإسلام : 2 / 198 .
11 . وجَّه الإسلام عصبية العرب إلى التعصب للخير
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور ، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل ، بالأخلاق الرغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة . فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر ، والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضل ، والكف عن البغي ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد في الأرض . واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال ، وذميم الأعمال ، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم . فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم ، وزاحت الأعداء له عنهم ، ومدت العافية فيه عليهم وانقادت النعمة له معهم . . .
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل ، فما أشد اعتدال الأحوال ، وأقرب اشتباه الأمثال ! تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم ، يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ! فتركوهم عالة مساكين إخوان دَبَر وَوَبَر ، أذلَّ الأمم داراً ، وأجدبهم قراراً ، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها ! فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرقة ، في بلاء أزْل ، وإطباق جهْل ! من بنات موءودة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة !
--------------------------- 42 ---------------------------
فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً ، فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فأصبحوا في نعمتها غرقين ، وعن خضرة عيشها فكهين ، قد تربعت الأمور بهم ، في ظل سلطان قاهر وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب . وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت فهم حكام على العالمين ، وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تُغمز لهم قناة ، ولا تُقرع لهم صفاة .
ألاوإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية . واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً ، وبعد الموالاة أحزاباً ، ما تتعلقون من الإسلام إلا اسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه تقولون النار ولا العار ، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه ، انتهاكاً لحريمه ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه وأمناً بين خلقه .
وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم ، إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم » . « نهج البلاغة : 2 / 150 » . وفي الكافي : 8 / 162 عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « إن الله يعذب الستة بالستة : العرب بالعصبية ، والدهاقين بالكبر ، والأمراء بالجور ، والفقهاء بالحسد ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرساتيق بالجهل » .
2 . أعلن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( ( ع ) ) سيد العرب !
قالت قبائل قريش لبني هاشم : « أما رضيتم يا بني قصي أنكم ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء ، حتى جئتمونا زعمتم نبي منكم » ! « مجمع الزوائد : 6 / 70 » . ثم صَبَّت قريش حقدها على علي ( عليه السلام ) لأنه بطل معارك النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقاتل فرسانها ، فكانت تسميه قتَّال العرب ! فأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يسميه « سيد العرب » !
فقد روى الحاكم : 3 / 124 ، وصححه : « عن سعيد بن جبير عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال :
--------------------------- 43 ---------------------------
أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب » . ورواه في مجمع الزوائد : 9 / 131 .
وروى في : 9 / 116 عن أنس أن رسول الله قال : « مَنْ سيد العرب ؟ قالوا أنت يا رسول الله ، فقال أنا سيد ولد آدم ، وعليٌّ سيد العرب » . والطبراني الأوسط : 2 / 127 .
وفي الطبراني الكبير : 3 / 88 : « قال رسول الله : يا أنس انطلق فادع لي سيد العرب يعني علياً ، فقالت عائشة : ألست سيد العرب ؟ قال : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب . فلما جاء علي أرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الأنصار فأتوه فقال لهم : يا معشر الأنصار ، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه لكرامتي ، فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل » .
وفي تاريخ بغداد : 11 / 90 عن سلمة بن كهيل قال : « مرَّ علي أبي طالب على النبي وعنده عائشة فقال لها : إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب ! فقالت : يا نبي الله ألست سيد العرب ؟ فقال : أنا إمام المسلمين وسيد المتقين . إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب » .
وفي تاريخ دمشق : 42 / 305 ، عن أبي سعيد الخدري قال : « قال رجل يا رسول الله أنت سيد العرب ؟ قال : لا ، أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب ! وإنه لأول من ينفض الغبار عن رأسه يوم القيامة قبلي علي » .
وفي الخصال / 561 ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : « وأبناؤه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » .
أقول : أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك أن يؤكد مكانة علي ( عليه السلام ) ، ويرد الهجمة التي كانت تشنها قريش المشركة على بني هاشم وعلي ( عليه السلام ) ، لكن حملتها استمرت عليه بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع الأسف ! على يد المتأثرين بقريش من المسلمين .
فقد غصَّ أتباع الخلافة بحديث : علي سيد العرب ، لأنه يجعل علياً ( عليه السلام ) سيداً لقبائل قريش وزعمائها ، فحاولوا تضعيف الحديث كما فعل الهيثمي في مجمع الزوائد ، بحجة أن في سنده ابن عبد الله الأهتم ، وقال إنه شيعي ضعفه أبو داود !
وردَّ عليهم علماؤهم كالحافظ ابن الصديق المغربي في رسالته : إرغام المبتدع
--------------------------- 44 ---------------------------
الغبي بجواز التوسل بالنبي / 58 ، فذكر له عدة طرق ، وقال عن ابن الأهتم : « ذكره ابن أبي حاتم في الجرح ولم يجرحه . وهو بصري والبصريون أبعد الناس عن التشيع » .
أما الذهبي إمام السلفيين النواصب ، فاعترف في تاريخه : 3 / 635 بصحته مرغماً ! ورواه في ميزان الإعتدال : 4 / 115 عن حذيفة بن اليمان بسند صحيح ، قال : « لما تهيأ علي يوم خيبر للحملة قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي بأبي أنت ، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبرائيل عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم . الحديث بطوله » . ولم يكمل الذهبي رواية الحديث ، لأن فيه مديحاً لعلي ( عليه السلام ) بأنه كرار غير فرار تعريضاً بفلان وفلان ممن فرُّوا في خيبر !
لكن يظهر أن مزاج الذهبي كان سيئاً حيث روى بعضه وقال باطل « لسان الميزان : 4 / 289 »
وقال الصديق المغربي في رسالته في التوسل : « تحامل الذهبي على الحكم بوضع الحديث ، لفهمه أن الحديث يقتضي تفضيل علي على الشيخين ، وعلى أساس هذا الفهم رد هو وغيره كثيراً من الأحاديث في فضل علي ، وحكموا بوضعها أو نكارتها ، ولم يسلم من نقدهم بهذا الفهم إلا قليل . . بل يستنكرون الحديث الوارد في فضله ، ولو لم يكن في سنده شيعي » !
وقال : « حكم بوضعه في مقدمة كتبها لبعض الرسائل ، مستدلاً على وضعه بأن روح التشيع واضحة في الحديث ، ولا أدري أين هذا التشيع الذي وضح له من الحديث ! مع أن الحديث له شواهد وطرق ! وعلى قوله هذا وقاعدته الفارغة ، ينبغي ألا نقبل حديثاً في فضل علي ولو تواتر ، لا سيما إذا كان يخبر بفضل لعلي لا يوجد لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، كحديث : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ! وهكذا إذا اتبع الإنسان كلَّ جاهل ، وأجاب كلَّ صارخ ، ولم يُعمل النظر ويبحث عن الأقوال قبل قائلها ، فإنه يردُّ السنة الصحيحة جملة ، ويعطي مع ذلك السلاح لأعداء الدين وملاحدة العصر في رد ما لا يعجبهم ويوافق هواهم ، من حديث سيد المرسلين !
--------------------------- 45 ---------------------------
وقد أقر الحافظ العسقلاني الذهبي على وضعه ، فانظر لسان الميزان : 4 / 289 وقول الذهبي : موضوع ، غلوٌّ غير مقبول ! ذلك أن الحديث ورد من غير طريق
ابن علوان وعمر الوجيهي ، فرواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك . . » .
ثم ذكر له عدة طرق ، وبعضها صحيح على شرط الشيخين ، وذكر أحاديث مشابهة ردوها رغم صحتها ، لأنها تفضل علياً ( عليه السلام ) على غيره ! ورواه : ابن أبي شيبة : 7 / 474 ،
تاريخ بغداد : 11 / 90 ، تاريخ دمشق : 42 / 304 ، 64 / 192 ، بعدة طرق ، ذيل تاريخ بغداد : 5 / 60 ، السيرة الحلبية : 2 / 736 ونفحات الأزهار : 9 / 174 .
أما معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) إن علياً ( عليه السلام ) ينهض من قبره قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه يحمل لواءه يوم القيامة ، ويكون أمامه مقدمة لموكبه .
3 . وصف جاهلية العرب
1 . وصفها المغيرة بن شعبة لعامل كسرى
كما في صحيح بخاري : 4 / 63 : « حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً ، فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم ، فقال المغيرة : سل عما شئت ؟ قال : ما أنتم ؟ قال : نحن أناس من العرب ، كنا في شقاء شديد ، وبلاء شديد ، نمص الجلد والنوى من الجوع ، ونلبس الوبر والشعر ، ونعبد الشجر والحجر ، فبينا نحن كذلك ، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته ، الينا نبياً من أنفسنا ، نعرف أباه وأمه » .
2 . ووصفها جعفر بن أبي طالب للنجاشي
فقال : « كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه » ! أحمد : 1 / 2020 .
--------------------------- 46 ---------------------------
3 . ووصف علي ( ( ع ) ) جاهلية العرب
فقال كما في نهج البلاغة : 1 / 199 من خطبة له ( عليه السلام ) : « أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ، ولا يدَّعي نبوةً ، ولا وحياً ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى منجاتهم ، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم . يحسر الحسير ، ويقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته ، إلا هالكاً لا خير فيه حتى أراهم منجاتهم ، وبوأهم محلتهم ، فاستدارت رحاهم ، واستقامت قناتهم . وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها ، حتى تولت بحذافيرها ، واستوسقت في قيادها ، ما ضعفتُ ولا جبنتُ ، ولا خنتُ ولا وهنتُ . وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته » .
ومن خطبة له ( عليه السلام ) : « إن الله بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شر دين ، وفي شر دار ، مُنِيخون بين حجارة خُشْن ، وحيات صُمّ ، تشربون الكدَر ، وتأكلون الجَشَب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم . الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة » .
وقد تقدم ذلك ، وفي خطبه وكلماته ( عليه السلام ) وصف مفصل لجاهلية العرب ، ووصف لعودتها بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
4 . ووصفت الزهراء ( عليها السلام ) جاهلية العرب
في خطبتها البليغة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأسبوعين ، حيث ذكَّرتهم بنعمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليهم . وقد روت خطبتها مصادر الشيعة والسنة ، وجاء فيها قولها « عليها السلام » :
« ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمةً على إمضاء حكمه ، وإنفاذاً لمقادير رحمته ، فرأى الأمم فرقاً في أديانها ، عكفاً على نيرانها ، عابدةً لأوثانها ، منكرةً لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار عماها . . . وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القد ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال
--------------------------- 47 ---------------------------
وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً كادحاً لا تأخذه
في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال !
فلما اختار الله لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم . هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . . » . الإحتجاج : 1 / 131 .
4 . نشر كعب الأحبار أمنياته بهلاك العرب !
استطاع كعب الأحبار أن يقنع عمر بن الخطاب في خلافته بأن الإسلام كالبعير سيكبر عن قريب ويهرم وينتهي ! وأن قريشاً والعرب سيهلكون ويبادون ! وأن الكعبة ستهدم فلا تبنى أبداً ! ومكة تخرب فلا تعمر أبداً !
ففي مسند أحمد : 3 / 463 : « كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم : يا فلان كيف سمعت رسول الله ينعتُ الإسلام ؟ قال : سمعت رسول الله يقول : إن الإسلام بدأ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديسياً ثم بازلاً . فقال عمر بن الخطاب : فما بعد البزول إلا النقصان » ! البزول أقصى سن البعير -
الصحاح : 4 / 1321 .
--------------------------- 48 ---------------------------
وهكذا صارت فرية كعب الأحبار حديثاً نبوياً في أصح كتب الخلافة !
فقد روى أحمد : 1 / 23 ، عن عمر أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « سيخرج أهل مكة ثم لا يعبر بها إلا قليل ، ثم تمتلئ وتبنى ، ثم يخرجون منها فلا يعودون فيها أبداً » ! ورواه مسلم : 8 / 183 ورواه بخاري في صحيحه وعقد باباً : 2 / 159 باب هدم الكعبة !
وفي الفتن لنعيم بن حماد : 1 / 398 : « لاتستريبوا في هلكة قريش ، فإنهم أول من يهلك حتى أن النعل لتوجد في المزبلة فيقال خذوا هذه النعل إنها لنعل قرشي » . وقد بحثنا ذلك وردينا عليه ، في كتاب ألف سؤال وإشكال : 1 / 492 .
5 . ردَّ أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) على فرية كعب عن العرب
وقد ردَّ أهل البيت « عليهم السلام » فرية كعب بهلاك الأمة . فقد روى الصدوق « الخصال / 475 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أبشروا ثم أبشروا ، ثلاث مرات ، إنما مثل أمتي كمثل غيث لا يدرى أوله خير أم آخره ، إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً ، ثم أطعم منها فوج عاماً ، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً وأحسنها جَناً ! وكيف تهلك أمة أنا أولها ، واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولي الألباب ، والمسيح عيسى بن مريم آخرها ؟ ولكن يهلك بين ذلك نَتَجُ الهَرَج ، ليسوا مني ولست منهم » .
6 . زعموا أن العرب لا يكونون من الأبدال !
زعم رواة السلطة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لا يصل العربي إلى درجة الأولياء الأبدال ! قال القرطبي في تفسيره : 3 / 259 : « واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل هم الأبدال ، وهم أربعون رجلاً كلما مات واحد بدَّل الله آخر » .
وقال أبو داود في سننه : 2 / 30 عن عنبسة بن عبد الواحد القرشي الأموي : « كنا نقول إنه من الأبدال ، قبل أن نسمع أن الأبدال من الموالي » !
وقال في سؤالات الآجري : 1 / 204 : « سئل أبو داود عن عنبسة بن عبد الواحد القرشي قال : سمعت محمد بن عيسى يقول : كنا نرى أنه من الأبدال حتى سمعنا أن الأبدال
--------------------------- 49 ---------------------------
من الموالي . . عن عطاء قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الأبدال من الموالي ، ولا يبغض الموالي إلا منافق » . وتاريخ بغداد : 12 / 279 وتهذيب الكمال : 22 / 421 .
وصححه المناوي : 3 / 220 وقال : « من علامتهم أيضاً أنه لا يولد لهم . . . وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعها ، لكن لايُنكر تقوي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهل بالصناعة الحديثية ، أو معاند متعصب » .
وفي تهذيب الكمال : 7 / 264 : « كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال ، وعلامة الأبدال أن لا يولد لهم ، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له » !
وعدوا أكثر من عشرين من أئمتهم من غير العرب من الأبدال !
وزعم ابن عربي أن أصحاب المهدي ( عليه السلام ) كلهم من العجم ! قال في الفتوحات : 3 / 328 : « وهم من الأعاجم ما فيهم عربي ، لكن لا يتكلمون إلا بالعربية » !
لكن أئمة أهل البيت « عليهم السلام » ساوَوْا بين العرب والعجم ، ونصوا على أن أصحاب المهدي ( عليه السلام ) فيهم العرب والعجم ، قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) كما في غيبة الطوسي / 284 : « يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاث مائة ونيف عدة أهل بدر . فيهم النجباء من أهل مصر ، والأبدال من أهل الشام ، والأخيار من أهل العراق » .
7 . أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بظلم قريش لأهل بيته ( ( عليهم السلام ) )
روى ابن حماد : 1 / 310 عن عبد الله بن مسعود قال : بينما نحن عند رسول الله إذ جاء فتية من بني هاشم فتغير لونه ! قلنا : يا رسول الله ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه ، فقال : « إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وإن أهل بيتي هؤلاء سيلقون بعدي بلاء وتطريداً وتشريداً حتى يأتي قوم من هاهنا من نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه ، مرتين أو ثلاثاً ، فيقاتلون فينصرون ، فيعطون ما سألوا فلا يقبلوه ، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي ، فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً ، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج ، فإنه المهدي » . « ورواه ابن أبي شيبة : 15 / 235 ، بنحوه . وابن ماجة : 2 / 1366 ، رواه
--------------------------- 50 ---------------------------
ابن المنادي / 44 ، الحاكم : 4 / 464 » ، وفيه : « أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به ، ولا سكتنا إلا ابتدأنا ، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه ، فقلنا : ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه ، قال : إنا أهل بيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا ، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد ، حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلايعطونه ، ثم يطلبونه فلايعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون . فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبواً على الثلج ، فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، فيملك الأرض فيملؤها قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلماً » . ورواه البزار : 4 / 310 ، 354 ، الداني / 92 ، كابن شيبة بتفاوت يسير ، نحوه جامع السيوطي : 3 / 101 ، وزوائد ابن ماجة / 527 ، المعجم الأوسط : 6 / 327 والسنن في الفتن : 5 / 1029 ، بروايتين وفيه :
« بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ قال : يجئ قوم من هاهنا وأشار بيده نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه ، مرتين أو ثلاثاً ، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه ، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً . فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج » .
وقال نقاد الحديث عن رواية زائدة التي فيها : واسم أبيه اسم أبي : إنها زيادة في الحديث زادها زائدة بن قدامة .
ورواه من مصادرنا : دلائل الإمامة / 233 و 235 ، بعدة روايات عن ابن مسعود ، كابن حماد بتفاوت يسير . ومناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان : 2 / 110 ، بنحوه عن ابن مسعود ، وملاحم ابن طاووس / 52 ، عن ابن حماد ، وفي / 161 ، عن فتن زكريا ، وكشف الغمة : 3 / 262 ، عن أربعين أبي نعيم . وفي / 268 ، عن البيان للشافعي . والعدد القوية / 90 ، كرواية دلائل الإمامة الثانية بتفاوت يسير ، والثالثة ، وإثبات الهداة : 3 / 595 ، عن كشف الغمة ، والبحار : 51 / 82 ، عن كشف الغمة ، و : 51 / 83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم . . الخ .
« لكن أدق نصوصه حديث الإمام الباقر ( عليه السلام ) الذي رواه النعماني / 273 ، عن أبي خالد
--------------------------- 51 ---------------------------
الكابلي ، عن الإام الباقر ( عليه السلام ) قال : كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه ، ثم يطلبونه فلا يعطونه ، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا ، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم . قتلاهم شهداء . أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر » .
والنتيجة : أن هذا الحديث المعروف بحديث الرايات السود ، متواتر بالمعنى ، لأنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة ، يعلم منها أن مضمونه صدر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخبر عن ظلامة أهل بيته « عليهم السلام » وأنها تستمر حتى يأتي قوم من المشرق يمهدون لمهديهم : فيظهر ويسلمونه رايتهم ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً .
8 . سينقذ الله العرب بيد أهل البيت ( عليها السلام )
أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن الله عز وجل سينقذ قريشاً والأمة بأهل بيته « عليهم السلام » ، ففي كمال الدين / 230 : « قال علي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله أَمِنَّا الهداة أم من غيرنا ؟ قال : بل منا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة ، بنا استنقذهم الله عز وجل من ضلالة الشرك ، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة ، وبنا يصحبون إخواناً بعد ضلالة الفتنة ، كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك . وبنا يختم الله كما بنا فتح الله » .
وفي أمالي المفيد / 288 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « لما نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، قال لي : يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، فإذا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَابًا . يا علي إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي ، فقلت : يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد ؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني !
فقلت : فعلامَ نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ فقال : على إحداثهم في دينهم ، وفراقهم لأمري ، واستحلالهم دماء عترتي ! قال فقلت : يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن
--------------------------- 52 ---------------------------
يعجلها لي ! فقال : أجل ، قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا ، وأومى إلى رأسي ولحيتي ؟ فقلت : يا رسول الله أما إذا بينت لي ما بينت فليس بموطن صبر ، ولكنه موطن بشرى وشكر . فقال : أجل فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصِم أمتي . قلت : يا رسول الله أرشدني الفلج ، قال : إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان .
يا علي إن الهدى هو اتباع أمر الله دون الهوى والرأي ! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن ، وأخذوا بالشبهات ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ، والبخس بالزكاة ، والسحت بالهدية ! قلت : يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك ، أهم أهل ردة أم أهل فتنة ؟ قال : هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل !
فقلت : يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا ؟ فقال : بل منا ، بنا يفتح الله وبنا يختم وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة ، فقلت :
الحمد لله على ما وهب لنا من فضله » .
ومنها : في كنز العمال : 16 / 196 ، من وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا علي إن القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم ، ويزكون أنفسهم ، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ويأمنون عقابه ، ويستحلون حرامه بالمشتبهات الكاذبة ، فيستحلون الخمر بالنبيد ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع . . . إلى أن ينقذهم الله بنا أهل البيت عند ظهورنا . . يا علي : بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه ، وبنا أهلك الأوثان ومن يعبدها ، وبنا يقصم كل جبار وكل منافق ، حتى إنا لنقتل في الحق مثل من قُتل في الباطل . يا علي : إنما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعمت فوجاً عاماً ، ثم فوجاً عاماً ، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً ، وأحسنها فرعاً ، وأحلاها جنىً ، وأكثرها خيراً وأوسعها عدلاً ، وأطولها ملكاً » .
وكان الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 266 » : « إذا ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : بأبي وأمي وقومي وعشيرتي ! عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها ، والله عز وجل يقول في كتابه : وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ! فبرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنقذوا » .
--------------------------- 53 ---------------------------
وفي المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 374 ، والاحتجاج للطبرسي : 1 / 93 والإمامة والسياسة : 1 / 18 ، من حديث طويل عن السقيفة : « أن أبا بكر دعا علياً إلى البيعة فامتنع وقال : إني لأخو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يقولها غيري إلا كذاب ، وأنا والله أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، إنكم أخذتم هذا الأمر من العرب بالحجة وتأخذونه منا أهل البيت غصباً وظلماً ! احتججتم على العرب بأنكم أولى الناس بهذا الأمر منهم بقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الأمر ، فأنا أحتج عليكم بما احتججتم به على العرب ، فنحن والله أولى بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) منكم ، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله ، واعرفوا لنا من هذا الأمر ما عرفته لكم العرب ، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون !
فقال أبو عبيدة بن الجراح : يا أبا الحسن أبو بكر أقوى على هذا الأمر ، وأشد احتمالاً ، فارض به وسلم له ، وأنت بهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك ! فقال لهم علي : أنا أحق بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي ! أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الإمارة . وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار ، أنا أولى برسول الله حياً وميتاً ، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه ، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم ، أول من آمن به وصدقه ، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين ، وأعرفكم بالكتاب والسنة ، وأفقهكم في الدين ، وأعلمكم بعواقب الأمور ، وأذربكم لساناً وأثبتكم جناناً ، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر !
أنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم ، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار ، وإلا فبوؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون .
فقال عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً ! فقال علي : إحلب حلباً لك شطره ، أشدد له اليوم ليرد عليك غداً ! إذاً والله لا أقبل قولك ، ولا
--------------------------- 54 ---------------------------
أحفل بمقامك ولا أبايع ! فقال أبو بكر : مهلاً يا أبا الحسن ، ما نشك فيك ولا نُكرهك !
فقام أبو عبيدة إلى علي فقال : يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك ، ولكنك حدث السن ، وكان لعلي يومئذ ثلاث وثلاثون سنة ، وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك وهو أحمل لثقل هذا الأمر ، وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له ، فإن عمَّرك الله يسلموا هذا الأمر إليك ، ولا يختلف فيك اثنان . فقال علي ( عليه السلام ) : يا معشر قريش ، الله الله ، لا تخرجوا سلطان محمد ( صلى الله عليه وآله ) من بيته إلى بيوتكم ، فإنكم إن تدفعونا أهل البيت عن مقامه في الناس وحقه تؤزروا ! والله إنه لفينا لا فيكم ، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً ، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم . . وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي ، ففسح المجلس وقال : إن الله يقلب القلوب ، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة ، فانصرفوا يومهم ذلك » .
9 . تحذيرات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للعرب من الطغيان
روى البخاري : 4 / 109 ، 176 ، 8 / 104 : « عن زينب ابنة جحش أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دخل عليها فزعاً يقول : لا إله إلا الله ، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها ! قالت زينب فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث » .
وفي البخاري : 8 / 88 : « قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : هلكة أمتي علي يدي غَلَمَةٍ من قريش . فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة ! فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت ! فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام ، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم ! قلنا أنت أعلم » .
وفي مسند أحمد : 2 / 390 ، عن أبي هريرة قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « وَيْلٌ للعرب من شر قد اقترب ! فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، يبيع قوم دينهم
--------------------------- 55 ---------------------------
بعرض من الدنيا قليل المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر » .
وفي مسند أحمد : 1 / 319 : « إذا رأيت الأمَة ولدت ربتها أو ربها ، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان ، ورأيت الحفاة الجياع العالة ، كانوا رؤوس الناس ، فذلك من معالم الساعة وأشراطها . قال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة ؟ قال : العرب » .
وفي الكافي : 8 / 103 : « سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ؟ قال : ما تقولون في ذلك ؟ قلت : نقول : هم الأفجران من قريش : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، قال : هي والله قريش قاطبة . إن الله تبارك وتعالى خاطب نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فقال إني فضلت قريشاً على العرب ، وأتممت عليهم نعمتي وبعثت إليهم رسولي ، فبدلوا نعمتي كفراً ، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ » .
10 . رفض الأئمة ( ( عليهم السلام ) ) تعصب العرب ضد الشعوب الأخرى
مَيَّزَ الحكام القرشيون العرب على غيرهم من الشعوب ، واصر أهل البيت « عليهم السلام » على المساواة بينهم وجوز تزويجهم من بعضهم . واشتكى الموالي إلى علي ( عليه السلام ) ، فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 5 / 318 » : « أتت الموالي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالوا : نشكو إليك هؤلاء العرب إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية ، وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً ، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا لا نفعل ! فذهب إليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكلمهم فيهم فصاح الأعاريب : أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك ! فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول : يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون ، فاتجروا بارك الله لكم ، فإني قد سمعت رسول الله يقول : الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة ، وواحدة في غيرها » .
وفي الكافي : 5 / 345 : « لقي هشام بن الحكم بعض الخوارج فقال : يا هشام ما تقول في العجم ، يجوز أن يتزوجوا في العرب ؟ قال : نعم . قال : فالعرب يتزوجوا
--------------------------- 56 ---------------------------
من قريش ؟ قال : نعم ، قال : فقريش يتزوجوا في بني هاشم ؟ قال : نعم . قال : عمن أخذت هذا ؟ قال : عن جعفر بن محمد ( عليه السلام ) سمعته يقول : أتتكافأ دماؤكم ، ولا تتكافأ فروجكم » ؟ !
وقال الكاظم ( عليه السلام ) كما في الخصال / 123 : « الناس ثلاثة : عربي ومولى وعلج ، فأما العرب فنحن ، وأما المولى فمن والانا ، وأما العلج فمن تبرأ منا وناصبنا » .
وفي الكافي : 8 / 226 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : « كان عند أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) رجل من قريش فجعل يذكر قريشاً والعرب ، فقال له أبو الحسن ( عليه السلام ) عند ذلك : دع هذا ، الناس ثلاثة : عربي ومولى وعلج ، فنحن العرب ، وشيعتنا الموالي ، ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج ! فقال القرشي : تقول هذا يا أبا الحسن ، فأين أفخاذ قريش والعرب ؟ ! فقال أبو الحسن : هو ما قلت لك » !
الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 166 » : « نحن بنو هاشم ، وشيعتنا العرب وسائر الناس الأعراب . . . نحن قريش ، وشيعتنا العرب ، وسائر الناس علوج الروم » .
وقال الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 316 » : « والله لا يحبنا من العرب والعجم إلا
أهل البيوتات والشرف والمعدن ، ولا يبغضنا من هؤلاء وهؤلاء إلا كل دَنِسٍ مُلْصَق » .
- *
--------------------------- 57 ---------------------------
الفصل الثالث
اليهود في الجزيرة العربية
1 . هاجر اليهود إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود
هاجر جماعات من اليهود مع أحبارهم بعد المسيح ( عليه السلام ) إلى الجزيرة العربية ، بانتظار النبي الأخير الذي وعدهم أنبياؤهم « عليهم السلام » بأنه سيظهر فيها .
قال إسحاق بن عمار « الكافي : 8 / 310 » : « سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله تبارك وتعالى : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ؟ قال : كانوا قوماً فيما بين محمد وعيسى صلى الله عليهما ، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ويقولون : ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم ، وليفعلن بكم وليفعلن ، فلما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كفروا به » .
وفي الكافي : 8 / 308 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد ( صلى الله عليه وآله ) ما بين عير وأحد ، فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يسمى حَداد فقالوا : حداد وأحد سواء ، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر ، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم ، فمرَّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم أمرُّ بكم ما بين عير وأحد ، فقال له : إذا مررت بهما فآذنَّا بهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم : ذاك عير وهذا أحد ، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا : قد أصبنا بغيتنا ، فلا حاجة لنا في إبلك فاذهب حيث شئت ! وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر : أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا ، فكتبوا إليهم : أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا الأموال وما أقربنا منكم ، فإذا كان ذلك
--------------------------- 58 ---------------------------
فما أسرعنا إليكم . فاتخذوا بأرض المدينة الأموال ، فلما كثرت أموالهم بلغ تُبَّعٌ فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ، وكانوا يَرِقُّونَ لضعفاء أصحاب تُبَّع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير ، فبلغ ذلك تُبَّع فرقَّ لهم وآمنهم ، فنزلوا إليه فقال لهم : إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيماً فيكم فقالوا له : إنه ليس ذاك لك ، إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم : إني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره ، فخلف حيين الأوس والخزرج ، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود وكانت اليهود تقول لهم : أما لو قد بعث محمد ليخرجنكم من ديارنا وأموالنا ، فلما بعث الله عز وجل محمداً ( صلى الله عليه وآله ) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قول الله عز وجل : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ » .
أقول : يدل هذا الحديث على أن اليهود كانوا في المدينة قبل الأوس والخزرج ، وقد تحالفوا ، لكن الأنصار صاروا أقوى منهم لمحيطهم العربي ، فاحتاج اليهود إلى أن يتحالفوا معهم ويكونوا في جوارهم .
وفي المحتضر / 276 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « إن الله تعالى أخبر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بما كان من إيمان الأمم السابقة . وإن اليهود قبل ظهوره كانوا يستفتحون على أعدائهم بذكره والصلاة عليه ، وكان الله عز وجل أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمرٌ ودهمتهم داهية أن يدعوا الله بمحمد وآله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانوا يفعلون ذلك ويستنصرون به ، حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور النبي ( صلى الله عليه وآله ) بسنين كثيرة يفعلون ذلك ، ويكفون البلاء والداهية الدهياء » .
وفي تفسير القمي : 1 / 32 : « فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مجئ النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ويكون هجرته بالمدينة ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة ، يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات ، ويركب الحمار عُرْيَةً ، وهو الضحوك القتال ، يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى . يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر ، وليقتلنكم الله به يا معشر العرب قتل
--------------------------- 59 ---------------------------
عاد ، فلما بعث الله نبيه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ » .
وفي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 393 : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وكانت اليهود قبل ظهورمحمد ( صلى الله عليه وآله ) بعشر سنين تعاديهم أسد وغطفان ويقصدون أذاهم ، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين ، حتى قصدتهم في بعض الأوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة ، فتلقاهم اليهود وهم ثلاث مائة فارس ، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين فهزموهم وقطعوهم . . . فلما ظهر محمد ( صلى الله عليه وآله ) حسدوه ، إذ كان من العرب ، فكذبوه » !
وفي الدر المنثور : 1 / 88 : « كانت يهود بني قريظة والنضير قبل أن يبعث محمد يستفتحون الله به يدعون على الذين كفروا ويقولون : اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم ، فينصرون » ! والإستفتاح على العدو : طلب النصر عليه ، ويشمل الاستعانة عليه بأحد ، أو شيء ، أو دعاء .
وجبل حَدَد « معجم البلدان : 2 / 229 » « مطل على تيماء . . قال النابغة : ساق الرفيدات من جَوْشٍ ومن حَدَدِ » واحتمل المجلسي تصحيفه عن حداد ، وقد يكون الشاعر خففه .
هذا ، وقول أهل البيت « عليهم السلام » إن هجرة اليهود إلى الجزيرة كانت بعد المسيح ( عليه السلام ) يرد ما زعمه بعض الكتاب الغربيين من أنه كان في الجزيرة مواطنون يهود كأبناء إسماعيل ( عليه السلام ) . كما أن تُبَّعاً ملك اليمن والعرب ، كان بعد عيسى ( عليه السلام ) وقد أسكن الأنصار في المدينة ، فكثروا فهابهم اليهود وتحالفوا معهم .
2 . أخبر اليهود العرب بولادة النبي الموعود ( ( صلى الله عليه وآله ) )
اشتهر خبر الحاخام يوسف اليهودي من مكة ، ففي كمال الدين / 196 ، عن علي بن إبراهيم عن رجاله : « كان بمكة يهودي يقال له يوسف ، فلما رأى النجوم يقذف بها وتتحرك قال : هذا نبي قد ولد في هذه الليلة ، وهو الذي نجده في كتبنا
--------------------------- 60 ---------------------------
أنه إذا ولد وهو آخر الأنبياء ، رُجمت الشياطين وحجبوا عن السماء .
فلما أصبح جاء إلى نادي قريش فقال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا : لا . قال : أخطأكم والتوراة ، ولد إذاً بفلسطين ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ! فتفرق القوم فلما رجعوا إلى منازلهم أخبر كل رجل منهم أهله بما قال اليهودي فقالوا : لقد ولد لعبد الله بن عبد المطلب ابنٌ في هذه الليلة ، فأخبروا بذلك يوسف اليهودي فقال لهم : قبل أن أسألكم أو بعده ؟ قالوا : قبل ذلك ، قال : فاعرضوه عليَّ ، فمشوا إلى باب آمنة فقالوا : أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي ، فأخرجته في قماطه فنظر في عينيه ، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء بين كتفيه وعليها شعرات ، فلما نظر إليه وقع على الأرض مغشياً عليه ، فتعجب منه قريش وضحكوا منه فقال : أتضحكون يا معشر قريش ، هذا نبي السيف ، ليبيرنكم ، وقد ذهبت النبوة من بني إسرائيل إلى آخر الأبد . . الخ . » .
كما انتشر بين العرب خبر بَحِيرا الراهب الآتي ، وإخباره بنبوة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) وتحذيره عمه أبا طالب « رحمه الله » من خطر اليهود عليه ! ومن جهة أخرى : ملأت آذان الأوس والخزرج بشائر حلفائهم اليهود بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فكان ذلك سبب إيمانهم به . وروت المصادر قصة أسعد بن زرارة ، أحد زعماء الأوس ، لما ذهب إلى مكة ليتحالف مع قريش ضد الخزرج ، فرأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسلم :
قال الطبرسي في إعلام الورى : 1 / 138 : « وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم النضير وقريظة وقينقاع ، أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنكم به يا معشر العرب . .
فلما سمع أسعد هذا قال له : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . . . والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ويبشروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلا لطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له » !
--------------------------- 61 ---------------------------
3 . سبب معاداة اليهود للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه من بني إسماعيل !
صرح اليهود بأن سبب عدائهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه من غيرهم وهم يريدونه منهم ! وقد أغمي على الحاخام يوسف لما ولد ( صلى الله عليه وآله ) لأن النبوة كما قال : ذهبت من
بني إسرائيل إلى الأبد ! « وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل » ! أسباب النزول / 17 .
وطلبوا منه ( صلى الله عليه وآله ) أن يعلن أنه رسولٌ خاص لهم ليؤمنوا به !
ففي أمالي الصدوق / 254 ، عن علي ( عليه السلام ) : « جاء نفر من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا محمد ، أنت الذي تزعم أنك رسول الله ، وأنك الذي يوحى إليك كما أوحي إلى موسى بن عمران ؟ فسكت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ساعة ، ثم قال : نعم ، أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين .
قالوا : إلى من ، إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية : قُلْ « يا محمد » يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » .
ونشط اليهود من أول بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تعليم قريش الخطط لعدائه ( صلى الله عليه وآله ) وقتله ! فكانوا يتبادلون معهم المشورة . ففي تفسير الطبري : 15 / 238 : « بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء » .
وتطور تعاونهم حتى وصل إلى تحشيد الأحزاب لغزو المدينة واستئصال محمد وبني عبد المطلب ، بزعمهم . ثم واصلوا عملهم مع قريش بعد هزيمة الأحزاب ، وكانوا يضعون الخطط لقتله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ خلافته ، وإبعاد عترته !
لذا يجب علينا في دراسة السيرة رصد نشاط اليهود في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتأثيرهم على قادة قريش ، ورصد مجموعة الصحابة الذين كانوا يدرسون عندهم ، ويتصلون بهم وقد ابتكر لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) اسم « المُتَهَوِّكِين » وحذر المسلمين منهم !
--------------------------- 62 ---------------------------
وقوله تعالى يكشف اتفاقية سرية بين قريش واليهود ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ .
محمّد : 25 - 26 .
وقد بقي اليهود في جزيرة العرب خمسة قرون ، وتكلموا العربية ، وكان العرب يحترمونهم ويرجعون إليهم في مسائل التنبؤ بالمستقبل ، واستمر ذلك في الصحابة حتى بعد بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
فقد كانت عائشة زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبوها معجبين بالثقافة اليهودية !
روى مالك في الموطأ : 2 / 943 : « أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها ! فقال أبو بكر : إرقيها بكتاب الله » . فهي تثق بدعاء العجوز اليهودية أكثر مما تثق بنفسها وما علمها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وسواء قصد أبوها : إرقيها بكتاب الله ، القرآن ، أو التوراة ، فهو يعلن أن اليهودية بمستوى أن ترقي زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وقد قلد فقهاء السلطة عائشة وأفتوا بأنه يجوز للمسلم أن يسترقي اليهودي !
والخلاصة : أن اليهود كانوا مقربين ولهم كلمتهم في « دار الخلافة » في المدينة ، وفي « بلاط الخلافة » بالشام . وكان حاخاماتهم مستشارين ثقافيين وسياسيين للخليفة ، فأثروا في سياسة الدولة وفي ثقافة الأمة تأثيراً كبيراً !
4 . كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهداً مع اليهود للتعايش
عندما هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة ، كتب مع فئات اليهود معاهدة تعايش :
أما بنو قينقاع الصاغة ، فنقضوا الصلح ، فسار إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد عشرين يوماً من وقعة بدر ، فتحصنوا فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكمه فأوثقهم كتافاً ، ووهبهم لحليفهم المنافق عبد الله بن سلول ، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، فخرجوا إلى أذرعات الشام ، وكانوا ست مئة مقاتل .
وأما بنو النضير ، فتآمروا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ونزلت فيهم سورة الحشر ، فبعث
--------------------------- 63 ---------------------------
إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي ،
أن لا تخرجوا من دياركم ، فإن معي ألفين يموتون دونكم وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان ، فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك ! فكبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكبر أصحابه !
وأمر علياً ( عليه السلام ) بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة فرسانهم ، ولم ينصرهم عبد الله بن أبيّ ، ولا بنو قريظة ، ولاحلفاؤهم من غطفان !
وبعد أيام من الحصار قالوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فخرجوا إلى وادي القرى والشام .
وأما بنو قريظة ، فبقوا على صلحهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى ذهب زعماؤهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب ، ثم تجولوا على قبائل نجد والجزيرة يحثونهم على حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويعدونهم بتمر خيبر .
وعندما حاصرالأحزاب المدينة مزق بنو قريظة عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنهم طلبوا من الأحزاب رهائن حتى لا يذهبوا ويتركوهم وحدهم مقابل النبي ، فلم يعطوهم ، ولما انهزم الأحزاب سار إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحاصرهم حتى نزلوا على حكم حليفهم سعد بن معاذ ، فحكم بقتل من حرض منهم وكانوا ثلاث مئة .
وأما يهود خيبر ، فكانوا أكبر قوة لليهود ، وقد شاركوا في مؤامراتهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقصدهم في السنة السابعة للهجرة ، وأخضعهم وانتصرعليهم .
- *
--------------------------- 64 ---------------------------
الفصل الرابع
مكانة الكعبة عند العرب
1 . بَوَّأَ الله الكعبة لإبراهيم وذريته ( ( عليهم السلام ) ) وسماهم الأمة المسلمة
فقد استجاب الله دعاء إبراهيم وإسماعيل ( صلى الله عليه وآله ) لما بنىا البيت فقالا : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
وهذه الأمة من ذرية إسماعيل ( عليه السلام ) لا تنطبق إلا على النبي والأئمة من آله ( صلى الله عليه وآله ) . وقد روى الثقفي في الغارات : 1 / 200 ، رسالة علي ( عليه السلام ) لمعاوية ، وفيها : « ولكل نبي دعوة في خاصة نفسه وذريته وأهله . قال إبراهيم وإسماعيل ( صلى الله عليه وآله ) وهما يرفعان القواعد من البيت : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، فنحن الأمة المسلمة . وقالا : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ . فنحن أهل هذه الدعوة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منا ونحن منه ، بعضنا من بعض وبعضنا أولى ببعض في الولاية والميراث : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » .
وفي الكافي : 5 / 14 أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حصرالأمة المأذون لها بالدعوة في قوله تعالى : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ . بالأمة المسلمة من ذرية إبراهيم ( عليه السلام ) فقال : « ثم أخبر عن هذه الأمة ومن هي وأنها من ذرية إبراهيم وذرية إسماعيل « عليهما السلام » من سكان الحرم ، ممن لم يعبدوا غير الله قط ! الذين وجبت لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس » .
--------------------------- 65 ---------------------------
وفي كتاب سليم / 406 : « إنا أهل بيت دعا الله لنا أبونا إبراهيم ( عليه السلام ) فقال : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، فإيانا عنى الله بذلك خاصة . ونحن الذين عنى الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . . إلى آخر السورة ، فرسول الله الشاهد علينا ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحججه
في أرضه » .
وفي الكافي : 1 / 392 أن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال : هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية ! إنما أمروا أن يطوفوا بها ، ثم ينفروا إلينا فيُعْلِمونا ولايتهم ومودتهم ، ويعرضوا علينا نصرتهم ! ثم قرأ هذه الآية : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ » . أي لم يقل : إليها !
وفي تفسير العياشي : 2 / 233 ، عنه ( عليه السلام ) قال : « ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه ، وأن يلقونا حيث كنا ، نحن الأدلاء على الله » .
وفي دعائم الإسلام : 1 / 31 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « لم يكن من الأمم السالفة والقرون الخالية والأسلاف الماضية ولا سمع به أحد أشد ظلماً من هذه الأمة ، فإنهم يزعمون أنه لافرق بينهم وبين أهل بيت نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ولا فضل لهم عليهم ، فمن زعم ذلك من الناس فقد أعظم على الله الفرية وارتكب بهتاناً عظيماً وإثماً مبيناً ! وهو بذلك القول برئ من محمد وآل محمد حتى يتوب ويرجع إلى الحق بالإقرار بالفضل لمن فضله الله عز وجل عليه . . . فأصحاب دعوة إبراهيم وإسماعيل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة « عليهم السلام » ، ومن كان متولياً لهؤلاء من ولد إبراهيم وإسماعيل فهو من أهل دعوتهما ، لأن جميع ولد إسماعيل قد عبدوا الأصنام ، غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وكانت دعوة إبراهيم وإسماعيل لهم » .
يقصد ( عليه السلام ) أصول هذا الفرع وهو فرع عبد المطلب إلى إسماعيل « عليهم السلام » .
--------------------------- 66 ---------------------------
2 . أولياء الكعبة هم إبراهيم وذريته المنصوص عليهم ( ( عليهم السلام ) )
قال الله تعالى : جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْىَ وَالقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ . إِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . المائدة : 97 - 98 .
إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ . آل عمران : 96 - 97 .
وَإِذْ بَوَأْنَا لآبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ . لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ . وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ . الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالمُقِيمِى الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلادِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ . الحج : 25 - 37 .
3 . الإمامة عهد الله لإبراهيم وإسماعيل وبعض ذريتهما ( ( عليهم السلام ) )
قال الله تعالى : وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ . وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا
--------------------------- 67 ---------------------------
العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . الأنفال : 34 - 35 .
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ . البقرة : 124 - 131 .
4 . نصوص التوراة عن إسكان إبراهيم ذريته في مكة
تقول التوراة الموجودة إن سارة حسدت ضرتها هاجر ، فطلبت من إبراهيم ( عليه السلام ) أن يطردها مع طفلها ! فطردهما إلى برية سيناء ، ثم سكنا في برية فاران ، أي مكة !
وتؤكد توراتهم أن عهد الله تعالى بالإمامة والخلافة في الأرض ، إنما كان لإبراهيم وابنه إسحاق وذريته ، ولا يشمل إسماعيل وذريته أبداً !
تقول الفقرات / 25 - 30 من العهد القديم : « قال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك . فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحاق ، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده . وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً . اثني عشر رئيساً يلد . وأجعله أمة كبيرة . ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية . . . ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح ، فقالت
--------------------------- 68 ---------------------------
لإبراهيم : أطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق . فقبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه ، فقال الله لإبراهيم : لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك . في كل ما تقول لك سارة إسمع لقولها ، لأنه بإسحق يدعى لك نسل ، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك .
فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر ، واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها ، فمضت وتاهت في برية بئر سبع ، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ومضت وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس ، لأنها قالت لا أنظر موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام ، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها : مالك يا هاجر لا تخافي ، لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو ، قومي إحملي الغلام وشدي يدك به ، لأني سأجعله أمة عظيمة . وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام ، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران ، وأخذت له أمةً زوجةً من أرض مصر » .
وفي نص آخر : « وبعد أن حملت سارة نظرت إلى سيدتها باحتقار ، لأنها كانت عاقراً ، فطردتها سيدتها ، ولاقاها ملاك الرب في الطريق وأمرها أن ترجع إلى سيدتها وإلى بيت إبراهيم ، ووعدها بأنها ستلد إبناً تسميه إسماعيل ، وأنه يكون أباً لجمهور من الناس وأنه سيسكن البرية كحمار وحشي » ! قاموس الكتاب المقدس / 74 تك : 16 5 - 14
وفي سفر التثنية / إصحاح : 33 : « وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته ، فقال : جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القدس ، وعن يمينه نار شريعة لهم » .
وفي سفر حيقوق / إصحاح : 3 : « الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبل فاران . سلاه . جلاله غطى السماوات . والأرض امتلأت من تسبيحه . وكان لمعان كالنور . له من يده شعاع . وهناك استتار قدرته » .
وسيناء : محل نزول الوحي على موسى . وسعير : محل بعثة عيسى . وفاران : جبال مكة
--------------------------- 69 ---------------------------
التي تلألأت بنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! وهي حجة واضحة لنبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي التوراة والإنجيل / 1140 موقع : arabicbible : « ستبيتين في صحاري بلاد العرب يا قوافل الددانيين . فاحملوا يا أهل تيماء الماء للعطشان واستقبلوا الهاربين بالخبز . لأنهم قد فروا من السيف المسلول والقوس المتوتر ومن وطيس المعركة . لأنه هذا ما قاله لي الرب : في غضون سنة مماثلة لسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار ، وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قلة . لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم » .
هذا كل ما أوردته توراتهم عن سكن إسماعيل ( عليه السلام ) في مكة ، وقد أهملت عن عمد تجديد إبراهيم وإسماعيل « عليهما السلام » بناء الكعبة ! لأنه يكشف التخطيط الرباني للأمة الآخرة من ذرية إسماعيل « عليهم السلام » ، وإخبار بأن الله سينقل النبوة إليهم .
5 . وفرة أحاديث أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) في الكعبة وإبراهيم وإسماعيل ( ( عليهم السلام ) )
أما أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » فبينت مكانة الكعبة ، وأن أصلها كان قبل آدم ( عليه السلام ) ، وأنها نزلت على آدم ( عليه السلام ) ياقوتة حمراء وكانت قواعدها زبرجدة خضراء ، ثم عفيت بعد نوح ، فأمر الله تعالى إبراهيم ( عليه السلام ) أن يسكن عندها طفله إسماعيل وأمه هاجر « عليهما السلام » ، وبعث جبرئيل ( عليه السلام ) فاحتفر بئراً لشرابهم وشراب الحاج .
ثم أمر الله إبراهيم ( عليه السلام ) أن يجدد بناءها مع ابنه إسماعيل ( عليه السلام ) عندما صار يافعاً فجدداها ، وأمره أن يدعو الناس إلى حجها ، ويريهم مناسكهم ، فدعا الناس واستجابوا له وحج بهم ، ثم أمره الله تعالى أن يذبح إسماعيل فأطاعه ، وفداه الله بكبش كما قَصَّ القرآن .
وتزوج إسماعيل ( عليه السلام ) من قبيلة جرهم العربية ، ثم توفيت أمه هاجر « عليهما السلام » فدفنها في المسجد عند الكعبة ، وأمره الله أن يجعل حول قبرها حِجْراً لئلا يدوسه الناس ، وأدخله في المطاف !
كما بينت الأحاديث تقديس العرب للكعبة ، والتزامهم بالعمرة في رجب وبالحج في ذي الحجة . . إلى عشرات العناوين والتفصيلات عن الكعبة ومكانتها ،
--------------------------- 70 ---------------------------
وعن آل إبراهيم « عليهم السلام » . الكافي : 4 / 201 ، علل الشرائع : 2 / 586 وتفسير القمي : 1 / 60 .
وروت شبيهاً بها مصادر السنة كالبخاري : 4 / 114 . لكنها تأثرت بالإسرائيليات .
6 . عقيدة العرب بالكعبة
يتعجب الإنسان كيف استطاع إبراهيم صلوات الله عليه أن يجمع العرب على تقديس الكعبة والحج إليها ، مع أنه لم يكن حاكماً عليهم ولا كان يعيش بينهم !
فلا بد من القول بوجود إعجاز رباني في الأمر ، وجه العرب إلى البيت الذي بناه هذا القديس البابلي ، الذي أحرقه نمرود فلم يحترق !
وقد نصت على ذلك أحاديث النبي وأهل بيته ( صلى الله عليه وآله ) ، في تفسير قوله تعالى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ .
وقد أسمع الله دعوة إبراهيم ( عليه السلام ) حتى لمن كانوا في أصلاب آبائهم : قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي 4 / 205 » : « فقال : أيها الناس إني إبراهيم خليل الله ، إن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه ، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة ، وكان أول من أجابه من أهل اليمن » .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) « علل الشرائع 2 / 420 » : « صار بإزاء أبي قبيس فنادى في الناس بالحج ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، إلى أن تقوم الساعة » .
وروى نحوه الحاكم وصححه : 2 / 389 : « يا أيها الناس كتب عليكم الحج حج البيت العتيق ، فسمعه من بين السماء والأرض » .
وسرعان ما تحققت المعجزة وصارت مكة موسماً في ذي الحجة وفي رجب ، ومجمعاً لقبائل العرب وسوقاً رأوا فيه المنافع التي قال الله عنها : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ . وكان إسماعيل وأبناؤه ، وأصهاره من قبيلة جرهم ، يخدمون الحجاج ويعلمونهم الحج والعمرة .
--------------------------- 71 ---------------------------
وكان ملوك التبابعة يحترمون الكعبة ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي 4 / 215 » :
« إن تُبَّعًا لما أن جاء من قبل العراق وجاء معه العلماء وأبناء الأنبياء ، فلما انتهى إلى هذا الوادي لهذيل أتاه أناس من بعض القبائل فقالوا : إنك تأتي أهل بلدة قد لعبوا بالناس زماناً طويلاً حتى اتخذوا بلادهم حرماً وبَنِيَّتَهم رباً أو ربةً ! فقال : إن كان كما تقولون قتلت مقاتليهم وسبيت ذريتهم وهدمت بنيتهم . قال : فسالت عيناه حتى وقعتا على خديه ! قال : فدعى العلماء وأبناء الأنبياء فقال : أنظروني وأخبروني لما أصابني هذا ؟ قال : فأبوا أن يخبروه حتى عزم عليهم قالوا : حدثنا بأي شئ حدثت نفسك ؟ قال : حدثت نفسي أن أقتل مقاتليهم وأسبي ذريتهم وأهدم بنيتهم ! فقالوا : إنا لا نرى الذي أصابك إلا لذلك ، قال : ولم هذا ؟ قالوا : لأن البلد حَرَم الله والبيت بيت الله ، وسكانه ذرية إبراهيم خليل الرحمن . فقال : صدقتم فما مَخرجي مما وقعت فيه ؟ قالوا : تُحدث نفسك بغير ذلك ، فعسى الله أن يرد عليك ، قال : فحدث نفسه بخير ، فرجعت حدقتاه حتى ثبتتا مكانهما قال : فدعى بالقوم الذين أشاروا عليه بهدمها فقتلهم ، ثم أتى البيت وكساه وأطعم الطعام ثلاثين يوماً ، كل يوم مائة جزور ، حتى حملت الجفان إلى السباع في رؤوس الجبال ، ونثرت الأعلاف في الأودية للوحوش ، ثم انصرف من مكة إلى المدينة فأنزل بها قوماً من أهل اليمن من غسان وهم الأنصار » .
وكانت بعض قبائل العرب لا تحج البيت وهم الغساسنة في الشام وغيرهم ممن تنصروا ، ونصارى نجران ، وقسم من طئ على مشارف الشام ، وكان القياصرة ومن والاهم يبذلون جهداً ليثنوا العرب عن الحج إلى الكعبة .
وكان من أهداف طليحة الأسدي الذي ادعى النبوة ، وهاجم المدينة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بستين يوماً ، بعشرين ألف مقاتل ، فنهض علي ( عليه السلام ) وتلاميذه وهاجموهم ليلاً ، وقتل قائدهم وهزمهم .
وقال ( عليه السلام ) عن تلك الفترة : « حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام تدعو إلى محق دين محمد ( صلى الله عليه وآله ) وملة إبراهيم ( عليه السلام ) » .
--------------------------- 72 ---------------------------
أي يريدون إزالة الإسلام ، وحتى الحج إلى الكعبة الذي بقي من ملة إبراهيم ( عليه السلام ) ! كشف المحجة / 176 ، راجع قراءة جديدة في حروب الردة للمؤلف .
وكان قيصر يؤيد ردة بني أسد ومن معهم من طئ ، لأنه كان يتهيأ لحرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويُحَضِّرُ دولة الغساسنة ، وأبا عامر الفاسق وجماعته في المدينة ، والأكيدر الكندي في دومة الجندل ، وقد وثَّق ملك الشام الغساني علاقته بطيئ حتى تنصرعدي بن حاتم ، وأهدى قيصر سيوفاً ثمينة لصنمي طيئ ، فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً وجاء بأسرى من طيئ ! فلا بد أن قيصراً شجع طليحة على حملته !
ومع ذلك ، فإن أكثرية قبائل العرب وجمهرتها كانت تؤمن بالكعبة وتحج إليها .
7 . أما الأكاسرة الفرس فكان بعضهم يقدسون الكعبة
ذكر المسعودي في مروج الذهب : 1 / 265 وغيره من المؤرخين ، أن ساسان بن بابك ملك الفرس حج إلى الكعبة وكان يعتقد بها ، وكان يدعي أنه من ذرية إبراهيم ( عليه السلام ) ، قال : « وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا في صدرالزمان وجواهر ، وقد كان ساسان بن بابك هذا ، أهدى غزالَيْن من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً » . حتى غلبت خزاعة جرهماً فرمى الحارث بن مضاض الغزالين في زمزم ، ودفنها فضاع أثرهما ، حتى استخرجهما عبد المطلب ( عليه السلام ) .
وقد يكون ساسان أهدى إلى الكعبة لكسب قلوب قبائل العرب ، لأن الأكاسرة المتأخرين كانوا لا يقدسونها .
- *
--------------------------- 73 ---------------------------
الفصل الخامس
آباء النبي « صلى الله عليه وآله » موحدون لكن السلطة كَفَّرتهم !
1 . لماذا أصر « الخلفاء » على تكفير آباء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
السبب : أنهم إذا اعترفوا بأن آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) مؤمنون ، فهم ورثة إسماعيل وإبراهيم « عليهما السلام » ، فيكون الوارث عبد المطلب ثم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم أبو طالب وعلي ( عليه السلام ) فلا يبقى لخلفاء قريش شئ ! لذلك اخترعوا أن يساووا بين آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآبائهم الذين قاوموه وكفروا به ، فقالوا إنهم جميعاً كفار ولا أحد أولى بوراثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فكل قرشي مثل كل هاشمي له الحق أن يرث سلطانه ( صلى الله عليه وآله ) !
وهم صادقون بحق آبائهم ، فتاريخهم غير مشرف وأكثرهم لعنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وقد وصل عدوانهم إلى أوْجِهِ فزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال إن آباءه كفار في النار ! وكذب عليه أنس فقال إن رجلاً سأله ، صحيح مسلم 1 / 133 : « يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : في النار . فلما قفى دعاه فقال : إن أبي وأباك في النار » !
وقال السهيلي في الروض الأنف : 1 / 194 : « وفي الصحيح أيضاً أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها ، فلم يأذن لي . وفي مسند البزار من حديث بريدة أنه حين أراد أن يستغفر لأمه ، ضرب جبريل في صدره وقال له : لا تستغفر لمن كان مشركاً ، فرجع وهو حزين » .
فانظر إلى هذه الخشونة التي وصفوا بها الله الرحمن الرحيم ، ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) !
--------------------------- 74 ---------------------------
والعجيب أن أكثرهم صحح أحاديث الطعن في آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يردَّها إلا قليل من علمائهم المتأخرين !
قال الصالحي في سبل الهدى : 1 / 260 : « قال السهيلي في الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم : وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم : لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات . وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وسئل القاضي أبو بكر بن العربي أحد الأئمة المالكية « رحمه الله » عن رجل قال : إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار ؟ فأجاب : بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . قال : ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار » !
وعلى قوله فمسلم صاحب الصحيح ملعون لأنه نسب ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ومن العجيب أن الطاعنين أنفسهم اعترفوا ببطلان قولهم ، حيث رووا أن الله تعالى اختار بني هاشم وميزهم على قريش ، ولا يمكن أن يختارهم وهم كفارٌ !
وقد عقد الهيثمي باباً في « مجمع الزوائد 8 / 215 » في كرامة أصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) روى فيه عن ابن عباس ووثقه أن معنى قوله تعالى : وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ : من صلب نبي إلى نبي حتى صرت نبياً . فدل ذلك على أن كل آبائه مؤمنون أنبياء ، ولو لأنفسهم ! ثم روى غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقول أحدهم : « إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن ! وقول أحدهم : إنما مثل محمد نخلة نبتت في الكَبا « المزبلة » ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أيها الناس من أنا ؟ قالوا أنت رسول الله ، قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب . ألا إن الله عز وجل خلق خلقه ، ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين ، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيرهم بيتاً
وخيرهم نفساً » .
وفي الدر المنثور : 3 / 294 والمستدرك : 4 / 73 والخصال / 36 : « قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما ، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة ، فكنت خير الثلاثة ، ثم اختار العرب من الناس ، ثم اختار قريشاً من العرب ، ثم اختار بني
--------------------------- 75 ---------------------------
هاشم من قريش ، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم ، ثم اختارني من بني عبد المطلب » .
ورد النبي ( صلى الله عليه وآله ) على حقد القرشيين رداً عنيفاً قاصماً ، فقال لهم وهو على المنبر : فليسألني الطاعن بأسرتي : إبنُ مَن هو ؟ ! فسأله صحابي عن أبيه ، فقال له : إن أباك فلان الراعي ! وكانت أول مرة يَجْبَهُ فيها أحداً بمثل هذا !
لكن القرشيين لا يرتدعون ولا تنكسر أعينهم ، فقد أصروا على الانتقاص من آبائه ( صلى الله عليه وآله ) لينفوا وراثتهم لإبراهيم ( عليه السلام ) ! راجع : العقائد الإسلامية : 3 / 275 .
2 . تفرد مذهبنا بعقيدة إيمان آباء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال المفيد في أوائل المقالات / 45 : « اتفقت الإمامية على أن آباء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب « عليهم السلام » مؤمنون بالله عز وجل موحدون له . واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار ، قال الله عز وجل : الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين ، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا . وأجمعوا على أن عمه أبا طالب مات مؤمناً ، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد ، وأنها تحشر في جملة المؤمنين » .
قال أبو حيان « البحر المحيط : 7 / 47 » : « ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي كانوا مؤمنين » .
وقد وافقنا غيره من علمائهم فصاروا رافضة في هذا الموضوع ، مثل الماوردي ، والرازي في كتابه أسرار التنزيل ، والسنوسي ، والقاضي عياض ، والتلمساني شارح الشفاء ، وألف السيوطي رسائل لإثبات إيمانهم . الصحيح : 2 / 186 .
والصحيح عندي أن آباءه ( صلى الله عليه وآله ) كانوا على دين إبراهيم ( عليه السلام ) ، وأن الله كلفهم بالحنيفية ولم يكلفهم باليهودية ولا المسيحية ، وقد ثبتوا على حنيفية إبراهيم ( عليه السلام ) ، بينما انحرفت عنها قبائل قريش الأخرى .
والأدلة على ذلك عديدة ، منها ما رواه الأصبغ بن نباتة « رحمه الله » قال : « سمعت
--------------------------- 76 ---------------------------
أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول : والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولاعبدمناف ، صنماً قط ! قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به » . كمال الدين / 174 .
ويؤيده ما رواه البخاري : 2 / 98 : « لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأبي طالب : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب !
فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب :
آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله تعالى فيه : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ » .
ومع أن رواية البخاري عندنا مكذوبة ، لكنا نستشهد باعترافها بأن أبا طالب قال إنه على ملة عبد المطلب ، أي ملة إبراهيم ( عليه السلام ) .
وفي تفسيرابن عطية : 4 / 293 : « أنا على ملة عبد المطلب والأشياخ » . « ونحوه تفسير الثعلبي : 5 / 100 وأسباب النزول / 178 » . ويبدو أن كلمة الأشياخ أضافها رواة السلطة وقصدهم بهم أشياخ قريش ، لا أشياخ أبي طالب بمعنى آبائه « عليهم السلام » .
وقد رووا أن أشياخ قريش سألوا أبا طالب : هل أسلم ؟ فكان يقول لهم : أنا على ملة عبد المطلب أو ملة إبراهيم ( عليه السلام ) ، ليخفف من عدائهم إذا قال لهم إنه أسلم .
ومما يدل على كذب رواية البخاري أن أبا جهل لم يحضروفاة أبي طالب ، وأن آية : مَا كَان لِلَّنِبيِّ . . لم تنزل يومها بل هي من سورة التوبة التي نزلت في رجوع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك في السنة التاسعة ، أي بعد وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) بأكثر من عشر سنين .
وفي كمال الدين / 171 : « كان عبد المطلب وأبو طالب « عليهما السلام » من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكانا يكتمان ذلك عن الجهال وأهل الكفر والضلال » .
وفي الكافي : 1 / 444 من خطبة للإمام الصادق ( عليه السلام ) : « تُبشر به كلُّ أمة مَن بعدها ،
--------------------------- 77 ---------------------------
ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر ، لم يخلطه في عنصره سفاح ، ولم ينجسه في ولادته نكاح ، من لدن آدم إلى أبيه عبد الله ، في خير فرقة ، وأكرم سبط ، وأمنع رهط ، وأكلأ حمل ، وأودع حِجْر » .
جَدَّا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هاشم وعبد المطلب
1 . تفوُّق هاشم جد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على قريش
فقد أسس هاشم ( عليه السلام ) رحلتي الشتاء والصيف . قال أبو نصر البخاري في كتابه سرّ السلسلة العلوية / 3 : « أول من رفع الله تعالى من قريش قبل النبوة أربعة : هاشم ، والمطلب ، وعبد شمس ، ونوفل . خرج هاشم في ألف من قريش إلى الشام ، فأخذ من قيصر ملك الروم عهداً لقريش ليتجروا في بلاده . وخرج المطلب إلى اليمن فأخذ من ملوك اليمن عهداً لهم ، وركب نوفل البحر فأخذ لهم من النجاشي عهداً » . « كان هاشم يُدعى القمر ، ويسمى زادُ الركب » . عمدة الطالب / 25 .
« وكان يقال لهاشم والمطلب : البدران لجمالهما » . الكامل لابن الأثير : 2 / 17 .
« وكان هاشم أول من سنَّ الرحلتين ، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن ، والى الحبشة فيكرمه النجاشي ، ويرحل في الصيف إلى الشام وبها مات ، وربما وصل إلى أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه . ومن خصال بني هاشم ما عبرعنها علي بن أبي طالب : خصصنا بخمس : فصاحة ، وصباحة ، وسماحة ، ونجدة ، وحظوة » . قبائل العرب لكحالة : 3 / 1207 ، في مصادره ابن خلدون : 2 / 328 والطبري : 5 / 23 و 9 / 48 .
وقد مَنَّ الله على قريش بفعل هاشم ( عليه السلام ) فقال : لإيلافِ قُرَيْشٍ . إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ .
لكن قريشاً لاتشكر نعم ربها ، ولذلك رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقرأ السورة فيقول : ويلُ أمكم قريش ، رحلةَ الشتاء والصيف ! في موضع : لإيلافِ قُريش » . تاريخ دمشق 23 / 228 ، الزوائد 7 / 143 ، كبير الطبراني 24 / 178 وأحمد 6 / 460 .
وأسس هاشم إطعام الحجيج : « إنما سمي هاشماً لهشمه الثريد للحاج ، وكانت
--------------------------- 78 ---------------------------
إليه الوفادة والرفادة ، وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي :
عمرو العلى هَشَم الثريد لقومه * ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عجافُ » .
« أصاب الناس سنة جدب شديد ، فخرج هاشم إلى الشام ، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام ، فاشترى دقيقاً وكعكاً ، وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر ، وجعله ثريداً وأطعم الناس حتى أشبعهم ، فسمى بذلك هاشماً ، وكان يقال له : أبو البطحاء وسيد البطحاء » . الطبري : 2 / 8 واليعقوبي : 1 / 245 .
وفي العدد القوية / 140 : « كان لهاشم خمسة بنين : عبد المطلب وأسد ونضلة وصيفي وأبوصيفي . وسُمِّيَ هاشماً لهشمه الثريد للناس في زمن المسغبة ، وكنيته أبو نضلة ، واسمه عمرو العلى . قال ابن الزِّبَعْرَى :
كانت قريشٌ بيضةً فتفلَّقَتْ * فالمخُّ خالصُها لعبد مُناف
الرايشون وليس يوجد رايشٌ * والقائلونَ هلمَّ للأضياف
والخالطونَ فقيرهم بغنيهم * حتى يكون فقيرهم كالكافي
عمرو العلى هشمَ الثريد لقومه * ورجالُ مكة مسنتون عجافِ
2 . أمية وهاشم يشبهان قابيل وهابيل
نصَّت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » على أن الله تعالى أمر آدم أن يوصي لابنه الأصغر هابيل « عليهما السلام » ، فأوصى له فحسده قابيل ، فتباهلا بالقربان فتقبل الله قربان هابيل دون قابيل ، فزاد حسد قابيل لأخيه حتى قتله !
ففي تفسير العياشي : 1 / 312 : « عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما ؟ فقال له : يا سليمان تقول هذا ! أما تستحيي أن تروى هذا على نبي الله آدم ! فقلت : جعلت فداك ففيمَ قتل قابيل هابيل ؟ فقال : في الوصية . ثم قال لي : يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل ، وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل فغضب فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية ! فأمرهما أن يقربا قرباناً
--------------------------- 79 ---------------------------
بوحيٍ من الله إليه ففعلا ، فقبل الله قربان هابيل ، فحسده قابيل فقتله !
فقلت : جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم ، هل كانت أنثى غير حواء ، وهل كان ذكر غير آدم ؟ فقال : يا سليمان إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل وكان بكر ولده ، ومن بعده هابيل ، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل ففعل ذلك آدم ، ورضي بها قابيل وقنع ، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء ، وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل ففعل ذلك .
فقُتل هابيل والحوراء حامل فولدت الحوراء غلاماً فسماه آدم هبة الله ، فأوحى الله إلى آدم أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم .
وولدت حواء غلاماً فسماه آدم شيث بن آدم ، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم أن يزوجها من شيث ابن آدم ، ففعل فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة ، فلما أدركت الجارية زوج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل فنسل آدم منهما . فمات هبة الله بن هابيل فأوحى الله إلى آدم أن ادفع الوصية واسم الله الأعظم ، وما أظهرتك عليه من علم النبوة ، وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم . فهذا حديثهم يا سليمان » .
أقول : إن حال هاشم وأخيه أمية شبيهة بحال قابيل وهابيل ، فقد اتفق المؤرخون على نُبل هاشم ( عليه السلام ) وتميزه ، وأن أباه عبد مناف أوصى له بمفتاح البيت ومواريث إسماعيل ( عليه السلام ) : « وكان مناف وصَّى إلى هاشم ، ودفع إليه مفتاح البيت وسقاية الحاج ، وقوس إسماعيل » . العدد القوية / 140 .
وقال الطبري : 2 / 13 : « ووليَ هاشم بعد أبيه عبد مناف ، السقاية والرفادة » . وروت المصادركلها أن أخاه أمية حسده وعاداه ، ودعاه إلى المنافرة ! ومعنى المنافرة أن يحتكم المتنافران إلى كاهن أو حكيم يقبلان بحكمه !
قال الطبري : 2 / 1 : « فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه ، فشمت به ناس من قريش ، فغضب
--------------------------- 80 ---------------------------
ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة ! فكره هاشم ذلك لسنه وقدره ، ولم تَدَعْهُ قريش وأحفظوه ، قال فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق ، تنحرها ببطن مكة ، والجلاء عن مكة عشر سنين . فرضي بذلك أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي ، فنفَّر هاشماً عليه « حكم لهاشم أنه أفضل » فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره ، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين ، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية . . وتوارث ذلك بنوهما » .
وروى الطبري : 2 / 13 ، أنهما تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة و « أن عبد شمس وهاشماً توأمان وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه ، فنحيت عنها فسال من ذلك دم ، فتطير من ذلك فقيل : تكون بينهما دماء » !
وروى ابن عساكر : 9 / 220 قصة المعمر اليماني مع معاوية : « قال معاوية : إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سن وقد رأى الناس ، يخبرنا عما رأى ، فقال بعض جلسائه : ذلك رجل بحضرموت ! فأرسل إليه فأتيَ به فقال له . . . فأخبرني هل رأيت هاشماً ؟ قال : نعم رأيته رجلاً طوالاً حسن الوجه ، بين عينيه غرة بركة . قال : فهل رأيت أمية ؟ قال : نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى ، يقال إن في وجهه لشراً أو شؤماً ! قال : فهل رأيت محمداً ؟ قال : من محمد ؟ قال : رسول الله ، قال : ويحك ألا فخَّمته كما فخمه الله فقلت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! قال : فأخبرني ما كانت صناعتك ؟ قال : كنت رجلاً تاجراً . قال : فما بلغت تجارتك ؟ قال : كنت لا أشتري عيباً ، ولا أرد ربحاً ! قال له : سلني ، قال : أسألك أن تدخلني الجنة » !
وقالوا : « مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة وذلك الثبت » . « معجم البلدان : 4 / 202 ، 3 / 40 » . وفي طبقات ابن سعد : 1 / 78 : « فاشتكى ، فأقاموا عليه حتى مات ، فدفنوه بغزة ، ورجعوا بتركته إلى وُلده » .
لكن الظاهر أن عمره « رحمه الله » كان في الستينات كما يشير قول الراوي : ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره . ويؤيد قولنا أنه أنشأ علاقات مع ملوك عصره ، وكانت له سفرات إلى الحبشة والشام واليمن ، ووصل إلى أنقرة فأكرمه قيصر .
--------------------------- 81 ---------------------------
والمرجح أن أعداءه سقوه السم لأنه أول رجل من أولاد إسماعيل ( عليه السلام ) كانت له زعامة مطلقة في العرب واحترام من ملوك عصره . وكان لحاسده أمية علاقات باليهود ، فقد يكون دبَّر سُمَّه على يد أصدقائه اليهود .
قال ابن قتيبة في المعارف / 319 : « كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين ، فوقع على أمَةٍ لِلَخْم يهودية من أهل صفورية يقال لها ترنا ، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي ، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستلحقه ، وكناه أبا عمرو ثم قدم به مكة ، فلذلك قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعقبة يوم أمر بقتله : إنما أنت يهودي من أهل صفورية » !
وفي رواية : « فقال عقبة : يا محمد ناشدتك بالله والرحم ! فقال له ( صلى الله عليه وآله ) : وهل أنت إلا علج من أهل صفورية ! لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له » .
وفي المنمق / 97 : « فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده ، فأولدها أبان ، وهو أبو معيط ! ويقال استحلق ذكوان أيضاً أبان » .
وروى ذلك ابن قتيبة في المعارف / 319 ، وقال : « ولَّاه عمر على صدقات بني تغلب . وولَّاه عثمان الكوفة ، بعد سعد بن أبي وقّاص ، فصلَّى بأهلها وهو سكران » ! راجع : الطبقات : 1 / 75 ، المنمق / 97 ، الطبري : 1 / 371 و 2 / 13 ، ابن الأثير : 2 / 16 ، النزاع والتخاصم / 49 ، إمتاع الأسماع : 10 / 6 ، سبل الهدى : 1 / 271 ، السيرة الحلبية : 1 / 7 ، المنتظم : 2 / 212 ، أعلام النبوة / 251 ، نهاية الإرب / 3253 ، أنساب الأشراف / 39 ، معجم ما استعجم : 3 / 837 ، العدد القوية / 140 وشيخ المضيرة / 159 .
3 . عبد المطلب عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء ( ( عليهم السلام ) )
تشهد سيرة آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) خاصةً عبد المطلب وأبي طالب ، بأنهم من كبار المؤمنين ، وأنهم الخط الوارث لإبراهيم وإسماعيل « عليهم السلام » ، فلم يعبدوا الأصنام ، بل كانوا يفتخرون بأنهم على ملة أبيهم إبراهيم وإسماعيل .
وقد ميزهم الله تعالى حتى في شكلهم فورَّثهم جمال إبراهيم ( عليه السلام ) ! ولما رأى
--------------------------- 82 ---------------------------
أبرهة عبد المطلب : « فجعل ينظر في وجهه ، فراقه حسنه وجماله وهيئته فقال له : هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال ؟ قال : نعم أيها الملك ، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء . فقال له أبرهة : لقد فقتم الملوك فخراً وشرفاً ، ويحق لك أن تكون سيد قومك . ثم أجلسه معه على سريره » . أمالي الطوسي / 80 .
وفي أمالي الطوسي / 682 : « سرير أبرهة لما دخل عليه عبد المطلب ، انحنى ومال » !
« أول من خضب بالسواد من العرب . وكان أبيض مديد القامة » . الأعلام : 4 / 154 .
4 . ورَّث عبد المطلب بهاءه إلى أولاده !
قال اليعقوبي : 2 / 11 : « كان لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد . وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال : رجال كأنهم جمالٌ جون « دُهْم » فقال : بهؤلاء تُمنع مكة !
وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة ، يلحفون الأرض بحبراتهم « جببهم الطويلة » ! فقال : يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء ، هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال » .
وفي المنمق / 34 : « لم يكن في العرب عدة بني عبد المطلب أشرف منهم ولا أجسم ليس منهم رجل إلا أشم العرنين ، يشرب أنفه قبل شفتيه ، ويأكل الجذع ويشرب الفرق » . « يأكل الخروف الصغير ، ويشرب سطل المخيض » .
5 . آيات عبد المطلب ( ( ع ) ) في زمزم
ظهر ماء زمزم لهاجر وإسماعيل « عليهما السلام » بمعجزة ، وكان نبعاً صغيراً ، ثم كثر الواردون عليه ، فشكى إسماعيل لأبيه « عليهما السلام » قلة الماء فأمره الله أن يحفر بئراً فحفره ، ونزل جبرئيل ( عليه السلام ) وأمره أن يسمي ويضرب في زوايا البئر الأربعة ، فضرب إبراهيم فانفجرت أربع عيون فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : « إشرب يا إبراهيم وادع لولدك فيها بالبركة ، وخرج إبراهيم وجبرئيل « عليهما السلام » جميعاً من البئر فقال له : أفض عليك يا إبراهيم وطف حول البيت ، فهذه سقيا سقاها الله ولد إسماعيل » . الكافي : 4 / 204 .
--------------------------- 83 ---------------------------
فزمزم سُقْيَا الله تعالى لبني إسماعيل ( عليه السلام ) خاصة ومنهم تصل إلى الناس .
وبعد قرون غاض ماء زمزم ، حتى أعاده الله تعالى على يد عبد المطلب ( عليه السلام ) ، فحسده زعماء قريش وأرادوا أن يأخذوه منه ! وأجبروه على الاحتكام إلى كاهنة في مشارف الشام فذهب معهم ، وفي الطريق نفد ماؤهم فأظهر الله له آية ونبع الماء من تحت خف ناقته ، فسلموا له لكن موقتاً ، كما سلم اليهود لمريم « عليها السلام » موقتاً !
قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 220 : « وأخرج الأزرقي والبيهقي في الدلائل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال إحفر طيبة . . . فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا : يا عبد المطلب إنها بئر إسماعيل ، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك فيها ، فقال : ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم . قالوا : فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك . قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم . قالوا : كاهنة من سعد هذيل . قال : نعم ، وكانت بأشراف الشام فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف ، وركب من كل ركب من قريش نفر ، والأرض إذ ذاك مفاوز ، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز ، بين الحجاز والشام فنيَ ماء عبد المطلب وأصحابه ، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة ، فاستسقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا : إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسنا مثل ما أصابكم ، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال : ماذا ترون ؟ قالوا : ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت . قال : فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه لما بكم الآن من القوة ، وكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه ، حتى يكون آخركم رجلاً ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً ! قالوا : سمعنا ما أردت . فقام كل رجل منهم يحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً ، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه : والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز ، ما نبتغي لأنفسنا حيلة ! عسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ، إرحلوا فارتحلوا حتى فرغوا ومن معهم من قريش ينظرون إليهم
--------------------------- 84 ---------------------------
وما هم فاعلون ، فقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها ، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب ! فكبَّرعبد المطلب وكبَّر أصحابه ثم نزل فشرب وشربوا واستقوا حتى ملؤوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل التي معه من قريش فقال : هلمَّ الماء ، قد سقانا الله تعالى ، فاشربوا واستقوا ! فقالت : القبائل التي نازعته : قد والله قضى الله لك يا عبد المطلب علينا ! والله لا نخاصمك في زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً ! فرجع ورجعوا معه ، ولم يمضوا إلى الكاهنة ، وخلوا بينه وبين زمزم » . روته عامة المصادر ، مثل ابن سعد : 1 / 83 ، اليعقوبي : 1 / 248 ، ابن إسحاق : 1 / 5 ، ابن هشام : 1 / 94 ، ابن كثير : 1 / 169 ، الحلبية : 1 / 55 وابن الأثير : 2 / 13 .
وقوله : فكبَّرعبد المطلب وكبَّر أصحابه . قد يكون بمعنى هتفوا تعجباً كالتكبير ، وقد يكون التكبير موجوداً من حنيفية إبراهيم ( عليه السلام ) فأظهره الإسلام .
6 . رؤيا عبد المطلب كرؤيا أشعيا النبي « عليهما السلام »
في الكافي : 4 / 219 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان في الكعبة غزالان من ذهب وخمسة أسياف ، فلما غَلبت خزاعةُ جِرْهَمَ على الحرم ألقت جرهمُ الأسياف والغزالين في بئر زمزم ، وألقوا فيها الحجارة وطموها وعَمَّوْا أثرها ، فلما غلب قصي على خزاعة لم يعرفوا موضع زمزم ، وعميَ عليهم موضعها ، فلما غلب عبد المطلب ( عليه السلام ) وكان يفرش له في فناء الكعبة ولم يكن يفرش لأحد هناك غيره ، فبينما هو نائم في ظل الكعبة فرأى في منامه أتاه آتٍ فقال له : إحفر بَرَّة ، قال : وما برة ؟ ثم أتاه في اليوم الثاني فقال : إحفر طيبة ، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال : إحفر المصونة ، قال : وما المصونة ؟ ثم أتاه في اليوم الرابع فقال : إحفر زمزم لا تُنزح ولا تُذم ، سَقْيُ الحجيج الأعظم ، عند الغراب الأعصم ، عند قرية النمل .
وكان عند زمزم حِجْرٌ يخرج منه النمل فيقع عليه الغراب الأعصم في كل يوم يلتقط النمل ، فلما رأى عبد المطلب هذا عرف موضع زمزم ، فقال لقريش : إني أمرت في أربع ليال في حفر زمزم ، وهي مأثرتنا وعزنا فهلموا نحفرها ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، فأقبل
--------------------------- 85 ---------------------------
يحفرها هو بنفسه ، وكان له ابن واحد وهو الحارث وكان يعينه على الحفر ، فلما صعب ذلك عليه تقدم إلى باب الكعبة ثم رفع يديه ودعا الله عز وجل ونذر له إن رزقه عشر بنين أن ينحر أحبهم إليه تقرباً إلى الله عز وجل ، فلما حفر وبلغ الطويَّ طويَّ إسماعيل ، وعلم أنه قد وقع على الماء ، كبَّر وكبرت قريش وقالوا : يا أبا الحارث هذه مأثرتنا ولنا فيها نصيب ، قال لهم : لم تعينوني على حفرها ، هي لي ولولدي إلى آخر الأبد » . ونحوه ابن إسحاق : 1 / 3 ، ابن هشام : 1 / 92 .
وفي الكافي : 4 / 220 عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « لما احتفر عبد المطلب زمزم وانتهى إلى قعرها ، خرجت عليه من إحدى جوانب البئر رائحة منتنة أفظعته ، فأبى أن ينثني ، وخرج ابنه الحارث عنه ، ثم حفر حتى أمعن فوجد في قعرها عيناً تخرج عليه برائحة المسك .
رؤيا عبد المطلب وهو في داخل زمزم :
ثم احتفر فلم يحفر إلا ذراعاً ، حتى تجلاه النوم فرأى رجلاً طويل الباع ، حسن الشعر ، جميل الوجه ، جيد الثوب ، طيب الرائحة ، وهو يقول : إحفر تغنم ، وجُدَّ تسلم ، ولا تدخرها للمقسم ، الأسياف لغيرك ، والبئر لك ، أنت أعظم العرب قدراً ، ومنك يخرج نبيها ووليها ، والأسباط النجباء الحكماء العلماء البصراء ، والسيوف لهم ، وليسوا اليوم منك ولا لك ، ولكن في القرن الثاني منك . بهم ينير الله الأرض ، ويخرج الشياطين من أقطارها ، ويذلها في عزها ويهلكها بعد قوتها ، ويذل الأوثان ، ويقتل عُبَّادها حيث كانوا ، ثم يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره ودونه في السن . . لا يعصيه حرفاً ، ولا يكتمه شيئاً ويشاوره في كل أمر هجم عليه .
وجد عبد المطلب أسيافاً بجنبه :
واستعيا عنها عبد المطلب « عن الحفر » فوجد ثلاثة عشر سيفاً مسندة إلى جنبه ، فأخذها وأراد أن يثب فقال : وكيف ولم أبلغ الماء ! ثم حفر فلم يحفر شبراً حتى بداله قرن الغزال ورأسه فاستخرجه ، وفيه طُبع : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله
--------------------------- 86 ---------------------------
علي ولي الله ، فلان خليفة الله « المهدي ( عليه السلام ) » .
فسأل الراوي الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : فلان متى كان قبله أو بعده ؟ قال : لم يجئ بعد ولا جاء شئ من أشراطه . فخرج عبد المطلب وقد استخرج الماء وأدرك وهو يصعد ، فإذا أسود له ذنب طويل يسبقه بِداراً إلى فوق ، فضربه فقطع أكثر ذنبه ثم طلبه ففاته ، وفلانٌ « المهدي ( عليه السلام ) » قاتله إن شاء الله .
تكملة الرؤيا في حجر الكعبة :
و [ كان ] من رأي عبد المطلب ( عليه السلام ) أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر ، ويضرب السيوف صفائح البيت ، فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة ، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول : يا شيبة الحمد أحمد ربك ، فإنه سيجعلك لسان الأرض وتتبعك قريش خوفاً ورهبة وطمعاً ، ضع السيوف في مواضعها .
ثم جاءه في منامه :
واستيقظ عبد المطلب فأجابه « الملاك » إنه يأتيني في النوم فإن يكن من ربي فهو أحب إليَّ ، وإن يكن من شيطان فأظنه مقطوع الذنب ، فلم ير شيئاً ولم يسمع كلاماً . فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان فقالوا له : نحن أتباع وَلدك ، ونحن من سكان السماء السادسة . السيوف ليست لك : تزوج في مخزوم تَقْوَ ، واضرب بعدُ في بطون العرب ، فإن لم يكن معك مال فلك حسب ، فادفع هذه الثلاثة عشرسيفاً إلى وُلْدِ المخزومية ولا يَبان لك أكثر من هذا ، وسيف لك منها واحد ، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً ، إلا أن يستجنه جبل كذا وكذا ، فيكون من أشراط قائم آل محمد .
فانتبه عبد المطلب وانطلق والسيوف على رقبته ، فأتى ناحية من نواحي مكة ، ففقد منها سيفاً كان أرقَّها عنده ، فيظهر من ثَمَّ .
ثم دخل معتمراً وطاف بها على رقبته والغزالين ، أحداً وعشرين طوافاً ، وقريش تنظر إليه وهو يقول : اللهم صدق وعدك فأثبت لي قولي ، وانشر ذكري وشد عضدي ، وكان هذا ترداد كلامه ، وما طاف حول البيت بعد رؤياه في البئر ببيت شعر حتى مات . ولكن قد ارتجز على بنيه يوم أراد نحر عبد الله ، فدفع الأسياف جميعها إلى بني
--------------------------- 87 ---------------------------
المخزومية إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبد الله ، فصارلأبي طالب من ذلك أربعة أسياف : سيف لأبي طالب ، وسيف لعلي ، وسيف لجعفر ، وسيف لطالب ، وكان للزبير سيفان ، وكان لعبد الله سيفان ، ثم عادت فصارت لعلي الأربعة الباقية : اثنين من فاطمة واثنين من أولادها ، فطاح سيف جعفر يوم أصيب فلم يُدْرَ في يد من وقع حتى الساعة . ونحن نقول : لا يقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا ، إلا صار فحماً .
قال : وإن منها لواحداً في ناحية يخرج كما تخرج الحية فيبين منه ذراع وما يشبهه فتبرق له الأرض مراراً ، ثم يغيب ، فإذا كان الليل فعل مثل ذلك ، فهذا دأبه حتى يجيئ صاحبه ، ولو شئت أن أسمي مكانه لسميته ، ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه ، فينسب إلى غير ما هو عليه » .
7 . شرح رؤيا عبد المطلب
قوله : وانتهى إلى قعرها : يدل على أن حفرها القديم كان معلوماً وقعرها واسعاً .
وخرج ابنه الحارث عنه : أي لم يتحمل الرائحة الكريهة ، فكأن الله أراد أن يبقى عبد المطلب وحده ، ليخصه بآياته . حتى تجلاه النوم : بعدما وجد عيناً برائحة المسك .
فرأى رجلاً طويل الباع : هو الملاك الذي رآه بعدها في حجر الكعبة ، وكأنه لا يأتي إلا في النوم : فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة ، فرأى ذلك الرجل بعينه .
ومنك يخرج نبيها ووليها والأسباط النجباء . . : هذه بشار ة لعبد المطلب
رضي الله عنه بالنبي والأئمة من ذريته ( صلى الله عليه وآله ) وقد سماه له محمداً ( صلى الله عليه وآله ) .
ومعنى : ليسوا اليوم منك ، أنهم ليسوا نفس أولادك الموجودين ، ولا أنهم يولدون لك مباشرة ، بل هم من ذريتك في القرن الثاني .
والسيوف لهم : رمز القوة والنصرة والتأييد الإلهي . وعددها ثلاثة عشر ، وهي رمز لأسهم هؤلاء من نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وسيف طالب يدل على إيمانه رضي الله
--------------------------- 88 ---------------------------
عنه ونصرته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وليس فيها سيف لعقيل « رحمه الله » .
يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره : هذه بشارة له بولده علي ( عليه السلام ) .
واستعيا عنها : أي تعب فأراد ترك الحفر ، لكنه عاود الحفر فوجد غزال الذهب . وفيه طُبع : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي ولي الله ، فلان خليفة الله : هذه بشارة له بالنبي بإسمه ( صلى الله عليه وآله ) وعلي باسمه ( عليه السلام ) ، والمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً باسمه ( عليه السلام ) . وهو يدل على أن عبد المطلب سماه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بإلهام ربه عز وجل .
فإذا أسود له ذنب طويل : كانت زمزم واسعة ومنحدرها متدرج ، تشبه عين المغراس في المدينة ، وقد نزلت إليها في درج . ورأى عبد المطلب وهو صاعد منها ثعباناً أسود فضربه فقطع أكثر ذنبه ولم يُقتل ، وهو يرمز إلى أعداء أولاده « عليهم السلام » .
وقوله : وفلانٌ « المهدي ( عليه السلام ) » قاتله إن شاء الله : يظهر أنه من كلام الإمام الكاظم ( عليه السلام ) .
أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر : أراد عبد المطلب أن لا يعمل برؤياه ، وأن يستعمل السيوف في صنع باب الكعبة .
فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان : أي أتاه نفس الرجل ومعه جماعة ، وهم ملائكة ، ومعنى أنهم من السماء السادسة ، ومن أتباع النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنهم أنصار خاصون له سيأتون في المستقبل لنصرته ( صلى الله عليه وآله ) .
فقالوا له : تزوج في مخزوم تَقْوَ : أي تكلم هؤلاء الملائكة من أتباع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمروه أن يتزوج فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، أم عبد الله والد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأم شقيقيه أبي طالب والزبير ، وهذا يدل على مكانتها عند الله تعالى .
واضرب بعد في بطون العرب : أي تزوج غيرها أيضاً من قبائل العرب الأخرى .
فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية : وهي سهمهم من نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وسيف لك منها واحد ، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً : هو سيف المهدي ( عليه السلام ) وكان أرق السيوف ، أي أمضاها ، وقد أمروه أن يحمل الأسياف ويخرج من مكة ، ففقد السيف في ناحية من مكة . وكأن خروج عبد المطلب من مكة رمز لهجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وفقدانه السيف ليجنه الجبل ويحفظه للمهدي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 89 ---------------------------
فيظهر من ثَمَّ : أي يظهر السيف من هناك لنصرة المهدي ( عليه السلام ) عند خروجه فيأخذه ، وهو رمز قوته التي يعطيه إياها الله تعالى ، وهو نفسه السيف الذي يخرج في جبل في مكة ويلمع ، ثم يغيب حتى يظهر صاحبه المهدي ( عليه السلام ) ، وقد ورد في علامة المهدي ( عليه السلام ) : « وخرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فقلت : ما تراث رسول الله ؟ قال : سيف رسول الله ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولأمته وسرجه ، حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمده ، ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة ويتناول القضيب بيده ، ويستأذن الله في ظهوره » . الكافي : 8 / 224 .
ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه ، فينسب إلى غير ما هو عليه : أي أخاف أسمي الذي عنده السيف الآن ، وهو الإمام الكاظم ( عليه السلام ) نفسه ، لئلا يقال ذلك ، فيتصور السلطان أنه يريد الخروج عليه .
لا يقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا إلا صار فحماً : هذا يؤكد أن السيوف بمعنى نصرتهم « عليهم السلام » وفي كل واحد منها سر ، فإذا وقع في يد مخالف لهم ، بطل سره وتحول إلى فحم .
أقول : هذه الآيات والكرامات ، وهذه الرؤيا ، كافية لأن يعتقد المنصف بأن عبد المطلب ( عليه السلام ) من كبار الأولياء . لكن حسد قريش منعهم من الإقرار !
وفي الكافي : 1 / 447 قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « يبعث عبد المطلب أمة وحده ، عليه بهاء الملوك ، وسيماء الأنبياء « عليهم السلام » ، وذلك أنه أول من قال بالبداء » .
ومعناه أنه على درجة عالية من الإيمان والتسليم المطلق لله تعالى فيما يفعله حتى لو كان بخلاف توقعنا . فقد أنبأه الله أنه سيدفع جيش أبرهة ، فأخبر أهل مكة وأبرهة بذلك ، وفي نفس الوقت دعا ربه أن يدفع عن بيته ، ثم خاطبه قائلاً :
إن كنت تاركهم وقب - - لتنا فأمرٌ ما بدا لك
أي إني مسلِّمٌ لأمرك ومؤمن بك ، حتى لو لم تفعل ما أخبرتني به !
--------------------------- 90 ---------------------------
8 . آية عبد المطلب مع ثقيف
روى المؤرخون جميعاً أنه كان لعبد المطلب بئر في الطائف يسمى ذا الهرم ، حفره بعد زمزم ، وكان مع بستانه بيد ثقيف ، فأخذوه وأنكروه ، ونافروه إلى سطيح الكاهن ، فظهرت له آية في الطريق كما ظهرت في مخاصمة قريش له في زمزم .
قال اليعقوبي : 1 / 248 : « وكان عبد المطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئراً يقال لها ذو الهرم ، فكان يأتي أحياناً فيقيم بذلك الماء ، فأتى مرة فوجد به حيين من قيس عيلان ، وهم بنو كلاب وبنو الرباب ، فقال عبد المطلب : الماء مائي وأنا أحق به ، وقال القيسيون : الماء ماؤنا ونحن أحق به . قال : فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم ، فنافروه إلى سطيح الغساني ، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه ، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبد المطلب فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبد المطلب ، وعشرون لسطيح ، وإن قضى سطيح بالماء للحيين ، فعلى عبد المطلب مائة من الإبل للقوم وعشرون لسطيح ، فانطلقوا وانطلق عبد المطلب بعشرة نفر من قريش فيهم حرب بن أمية فجعل عبد المطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزوراً وأطعم الناس ، فقال القيسيون : إن هذا الرجل عظيم الشأن جليل القدر شريف الفعل ، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا فيقضي له بالماء ، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبئ له خبأ ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه وإلا لم نرض به . فبينا عبد المطلب في بعض الطريق إذ فني ماؤه وماء أصحابه ، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم فأبوا أن يسقوهم ، وقالوا : أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا ، والله لا نسقيكم ! فقال عبد المطلب : أيهلك عشرة من قريش وأنا حي ! لأطلبن لهم الماء حتى ينقطع خيط عنقي وأُبلي عذراً ، فركب راحلته وأخذ الفلاة فبينا هو فيها ، إذ بركت راحلته وبصر به القوم ، فقالوا : هلك عبد المطلب ! فقال القرشيون : كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه وإنما مضى لصلة الرحم ، فانتهوا إليه وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب رويٍّ ، قد ساح على ظهر الأرض ، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم ، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء ، فقال القرشيون : كلا والله ،
--------------------------- 91 ---------------------------
ألستم الذين منعتمونا فضل ماءكم ؟ فقال عبد المطلب : خلوا القوم ، فإن الماء لا يمنع ! فقال القيسيون : هذا رجل شريف سيد ، وقد خشينا أن يقضى له علينا ، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا : إنا قد خبأنا لك خبأ ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال : فأخبرنا ما هو ؟ فقال : خبأتم لي ما طال فسمك ، ثم أينع فما هلك ، ألق التمرة من يدك . . قالوا : إقض بيننا ! قال : قد قضيت . اختصمتم أنتم وعبد المطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم ، فالماء ماء عبد المطلب ، ولا حق لكم فيه ، فأدوا إلى عبد المطلب مائة من الإبل وإلى سطيح عشرين ، ففعلوا .
وانطلق عبد المطلب ينحر ويطعم ، حتى دخل مكة ، فنادى مناديه : يا معشر أهل مكة إن عبد المطلب يسألكم بالرحم ، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم ، فأخذ مثل ما حدثته نفسه . فقاموا وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرئ منهم نفسه ، وفضلت بعد ذلك جزائر ، فقال عبد المطلب لابنه أبي طالب : أي بني ! قد أطعمت الناس ، فانطلق بهذه الجزائر ، فانحرها على أبي قبيس ، حتى يأكلها الطير والسباع ، ففعل أبو طالب ذلك ، فأصابها الطير والسباع . قال أبو طالب :
ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا * إذا جعلت أيدي المفيضين تَرْعُدُ » .
ورواه البلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 74 ، الميداني في مجمع الأمثال : 1 / 47 ، الحموي في معجم البلدان : 5 / 403 ، ابن حبيب في المنمق / 94 وابن سعد في الطبقات : 1 / 87 .
9 . آيات عبد المطلب ( ( ع ) ) في غزو أبرهة للكعبة
كعبة نجران بدل الكعبة
بنى نصارى نجران كنيسة ودعوا العرب إلى حجها . ففي معجم البلدان : 5 / 268 : « كعبة نجران هذه ، يقال بِيعَة بناها بنو عبد الملك بن الديان الحارثي على بناء الكعبة ، وعظموها مضاهاة للكعبة ، وسموها كعبة نجران ، وكان فيها أساقفة مقيمون ، وهم الذين جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ودعاهم إلى المباهلة » .
« كان لآل عبد المدان بن الديان سادة بني الحارث بن كعب ، وكان بناؤه مربعاً
--------------------------- 92 ---------------------------
مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعاً من الأرض ، يُصعد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة ، فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب ، ممن يحل الأشهر الحرم ، ولا يحجون الكعبة ، وتحجه خثعم قاطبة .
وكان أهل ثلاثة بيوتات يتبارون في البِيَع وزَيِّها : آل المنذر بالحيرة ، وغسان بالشام ، وبنو الحارث بن كعب بنجران ، ويعتمدون ببنائها المواضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه ، وكانوا يجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب . وكان على ذلك بنو الحارث إلى أن أتى الله بالإسلام ، فجاء النبيَّ ( صلى الله عليه وآله ) منهم العاقب والسيد وغيرهما للمباهلة ، فاستعفوا منها » . معجم ما استعجم : 2 / 603 .
وبنو عبد المدان كانوا حكام نجران وقساوستها ، وكانوا يهوداً فتنصروا .
كعبة صنعاء بدل الكعبة
وبنى أبرهة حاكم اليمن كعبةً بصنعاء ودعا الناس للحج إليها ، ثم قصد بجيشه الكعبة ليهدمها ! قال تعالى : ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ . !
قال في معجم البلدان : 3 / 427 و 494 : « بنى أبرهة بصنعاء القُلِّيْس وأخذ الناسَ بالحج إليه ، وبناه بناء عجيباً . . مدينة لم يَرَ الناس أحسن منها ، ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء ، وألوان الأصباغ ، وصنوف الجواهر ، وجعل فيها خشباً له رؤوس كرؤوس الناس ، ولكَّكَهَا بأنواع الأصباغ ، وجعل لخارج القبة بُرنساً ، فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها ، حتى تكاد تلمع البصر .
الصنعاني قال : رأيت مكتوباً على باب القُلَّيس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسْند : بنيتُ هذا لك من مالك ليذكر فيه اسمك ، وأنا عبدك .
ولما استتم أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب .
قال عبد الرحمن بن محمد : سميت القُلَّيس لارتفاع بنيانها وعلوها ، ومنه القلانس
--------------------------- 93 ---------------------------
لأنها في أعلى الرؤوس . . وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعاً من السخر ، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب ، من قصر بلقيس صاحبة سليمان ( عليه السلام ) ، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم ، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها ، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة ، ومنابر من العاج والآبنوس .
فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والآلات من الذهب والفضة ذات القيمة الوافرة والقناطير من المال ، لا يستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً ، إلى زمان
أبي العباس السفاح ، فذكر له أمرها فبعث إليها خاله الربيع بن زياد الحارثي عامله على اليمن ، وأصحبه رجالاً من أهل الحزم والجلَد ، حتى استخرج ما كان فيها من الآلات والأموال ، وخربها حتى عفى رسمها وانقطع خبرها ، وكان الذي يصيب من يريدها من الجن منسوباً إلى كَعِيتْ وامرأته ، صنمان كانا بتلك الكنيسة بنيت عليهما ! فلما كُسر كَعِيت وامرأته أصيب الذي كسرهما بجذام ، فافتتن بذلك رعاع اليمن وقالوا : أصابه كعيت » !
أقول : لعل قصر بلقيس كان في غير مأرب ، لأنهم قالوا إنه على بعد فراسخ من صنعاء أي قليلة ، ومأرب على فراسخ كثيرة ، كما يدل النص على طمع الدوانيقي وحرصه على جمع المال ، ولهذا سمي أبا الدوانيق .
وقد ذكروا أن رجلاً من العرب دخل كعبة أبرهة وأحدث فيها ، فغضب أبرهة وحلف أن يهدمَ الكعبة في مكة وخرج بجيشه إليها ، ولا يبعد أن تكون القصة مكذوبة من أبرهة لتبررغزوه للكعبة ليهدمها ويجبر العرب على حج قُلَّيْسِه ! راجع عن كعبة صنعاء : تاريخ الطبري : 1 / 550 ، تفسيره : 30 / 386 وابن خلدون : 2 ق : 1 / 61 .
10 . عبد المطلب وأصحاب الفيل
في الكافي : 4 / 216 عن هشام بن سالم ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما أقبل
--------------------------- 94 ---------------------------
صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة ، مروا بإبل لعبد المطلب فاستاقوها ، فتوجه عبد المطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه ، فاستأذن عليه فأذن له وقيل له : إن هذا شريف قريش أو عظيم قريش ، وهو رجل له عقل ومروة ، فأكرمه وأدناه ، ثم قال لترجمانه : سله ما حاجتك ؟ فقال له : إن أصحابك مروا بإبل لي فاستاقوها فأحببت أن تردها عليَّ ، قال : فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال : هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله ، يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي يعبده ! أما لو سألني أن أنصرف عن هَدِّه لانصرفت له عنه ! فأخبره الترجمان بمقالة الملك فقال له عبد المطلب : إن لذلك البيت رباً يمنعه ، وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها ،
فأمر بردها عليه .
ومضى عبد المطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم ، فقال له : محمود ! فحرك رأسه فقال له : أتدري لما جئ بك ؟ فقال برأسه : لا ، فقال : جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتفعل ؟ فقال برأسه : لا . قال : فانصرف عنه عبد المطلب .
وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم ، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع ، فأداروا به نواحي الحرم كلها ، كل ذلك يمتنع عليهم فلم يدخل ! وبعث الله عليهم الطيركالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها ، فكانت تحاذي برأس الرجل ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره ، حتى لم يبق منه أحد إلا رجل هرب ! فجعل يحدث الناس بما رأى إذا طلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال : هذا الطير منها ، وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها عليه فخرجت من دبره فمات » !
وفي الطبقات : 1 / 92 والطبري : 1 / 557 : « فأمر برد إبله عليه ، فلما قبضها قلدها النعال وأشعرها وجعلها هدياً وبثها في الحرم ، لكي يصاب منها شئ فيغضب رب الحرم ! وأوفى عبد المطلب على حراء ، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومطعم بن عدي ، وأبو مسعود الثقفي ، فقال عبد المطلب :
لاهُمَّ إن المرءَ يمنعُ * رحله فامنع حلالك
لا يغلبنَّ صليبهم * ومحالهم عدواً محالك
--------------------------- 95 ---------------------------
ونزل عبد المطلب من حراء ، فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له : أنت كنت أعلم » .
وفي كنز الفوائد / 81 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما ظهرت الحبشة باليمن وجَّه يكسوم ملك الحبشة بقائدين من قواده ، يقال لأحدهما أبرهة والآخر أرباط في عشرة من الفيلة كل فيل في عشرة آلاف ، لهدم بيت الله الحرام ، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم واختلفوا ، فقتل أبرهة أرباط واستولى على الحبش ، فلما قارب مكة طرد أصحابه عيراً لعبد المطلب بن هاشم ، فصار عبد المطلب إلى أبرهة ، وكان ترجمان أبرهة والمستولي عليه ابن داية لعبد المطلب ، فقال الترجمان لأبرهة : هذا سيد العرب وديَّانها فأجلَّه وأعظمه ، ثم قال لكاتبه : سله ما حاجته ؟ فسأله فقال : إن أصحاب الملك طردوا لي نعماً ! فأمر بردها ثم أقبل على الترجمان فقال : قل له عجباً لقوم سودوك ورأسوك عليهم حيث تسألني في عير لك ، وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك ، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت ! فقال : أيها الملك إن هذه العير لي وأنا ربها فسألتك إطلاقها ، وإن لهذه البَنِيَّة رباً يدفع عنها ! قال : فإني غاد لهدمها حتى أنظر ماذا يفعل ! فلما انصرف عبد المطلب حلَّ أبرهة بجيشه ، فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر : يا أهل مكة أتاكم أهل عكة بجحفل جرار يملأ الأندار ملء الجفار ، فعليهم لعنة الجبار ! فأنشأ عبد المطلب :
أيها الداعي لقد أسمعتني * كلَّمَا قُلْتَ وما بي من صَمَمْ
إن للبيت لرباً مانعاً * من يُرده بأثامٍ يصطلم
رامهُ تُبَّعُ في أجناده * حميرٌ والحيُّ من آل إرم
هلكت بالبغي فيه جرهمٌ * بعد طَسْمٍ وجَديسٍ وجُثَمْ
وكذاك الأمر فيمن كاده * ليس أمر الله بالأمر الأَمَم
نحن آلُ الله فيما قد خلا * لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
--------------------------- 96 ---------------------------
لم يزل لله فينا حجةٌ * يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينا شيمة * صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنا في كل دور كرة * نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدور إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته * فيه تبيان أحاديث الأمم
فلما أصبح عبد المطلب جمع بنيه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال : أنظر يا بني ماذا يأتيك من قبل البحر ؟ فرجع فلم ير شيئاً ، فأرسل واحداً بعد آخر من ولده ، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر . فدعا ولده عبد الله وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه ، فقال له : إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر ؟ فنزل مسرعاً فقال :
يا سيد النادي ، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً ، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى ! إن قلت غيماً قلته ، وإن قلت جهاماً خلته ، يرتفع تارةً ، وينحدر أخرى !
فنادى عبد المطلب : يا معشر قريش ، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده ، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر وفي رجليه حجران ، فكان الطائرالواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة ! كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره ! وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ » .
أقول : هذه الفقرة الوحيدة التي وصلت الينا من كلام عبد الله والد نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي تدل على أدبه وبلاغته سلام الله عليه ، فخطابه لأبيه عبد المطلب مميز بتعبيره واحترامه ، ثم وصف سرب طيور الأبابيل بأنها سحاب ، قد يكون غيماً فيه مطر ، أو جهاماً أي غيماً أفرغ مطره . العين : 3 / 397 .
ثم وصف سربها بأنه يسفل ثم يرتفع ، ثم وصفه بأنه يرتفع ثم ينحدر ، وهذا من أبلغ الوصف . وقد فهم عليه أبوه « عليهما السلام » ، وعرف أنها الطيور الموعودة له من ربه ، في منامه أو بهاتف من الملائكة هاتفه ، سلام الله عليهم .
--------------------------- 97 ---------------------------
وقالوا إنها أشبه بطائر السنونو ، قد تكون ملائكة عذاب على شكل طيور .
هذا ، وقد روى في البحار : 62 / 233 هلاك أبرهة فقال : « وأصيب أبرهة حتى تساقط أُنملةً أنملة ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ! حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزيره وطائرٌ يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي ، فقص عليه القصة ، فلما انتهى وقع عليه الحجر ، فخرَّ ميتاً بإذن الله بين يديه » !
ومعناه أن وزير أبرهة ذهب إلى أثيوبيا ليخبر النجاشي ، فتبعه طائر الأبابيل وصبر عليه حتى أكمل القصة للمك ، فرماه بالقنبلة الربانية ، وهي
حجر السِّجِّيل !
11 . تعاظم حسد قريش لعبد المطلب ( ( ع ) )
لما ظهرت آية الأبابيل بجيش أبرهة ، سطع اسم الكعبة وعبد المطلب في بلاد العرب وخارجها ، وتوافد العرب إلى الحج أكثر من السابق ، معتزين بحجهم إلى الكعبة ، متبركين بوارث إبراهيم ولي الله عبد المطلب « عليهما السلام » ، وتولى سقايتهم من زمزم التي وهبها له الله ، وضيافتهم بثريد أبيه هاشم المشهور . وصار عبد المطلب سيد العرب بلا منازع ، فزاد الحسد في صدور زعماء قريش !
وبعد سنتين من هلاك أبرهة حكم اليمن ابنه مسروق ، وبعد سنتين من حكمه نجح سيف بن ذي يزن باستقدام كتيبة من كسرى ، وقاتل مسروق بن أبرهة فقتله ، ودخل صنعاء فاتحاً ، وتَوَّجَ الجيش الفارسي ابن ذي يزن ملكاً على اليمن .
روى الصدوق « رحمه الله » في كمال الدين / 176 : « لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بسنتين ، أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة ، تمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه ،
فأتاه وفد من قريش ومعهم عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد الله بن جدعان ، وأسد بن خويلد بن عبد العزى ، ووهب بن عبد مناف ،
في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء » . في حديث طويل ، ذكر فيه
--------------------------- 98 ---------------------------
احترام سيف بن ذي يزن لعبد المطلب احتراماً خاصاً ، وإخباره بقرب عصر نبي في مكة وتمنى لو يدركه لينصره ، فقال له : « إذا ولد بتهامة ، غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الدعامة إلى يوم القيامة . فقال له عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبتُ بخبر ما آب بمثله وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته « جزيته » عن مَسَارِّه إياي ما ازدادَ به سروراً ، فقال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه ، اسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه ، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منا أنصاراً ليعز بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه . . فهل أحسست شيئاً مما ذكرته ؟ فقال : كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً ، فزوجته بكريمة من كرائم قومي اسمها آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام سميته محمداً ، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه . فقال ابن ذي يزن : إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك ، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً » . والمنمق / 426 . راجع : الأخبار الطوال / 63 ، اليعقوبي : 1 / 165 و 2 / 9 والطبقات : 5 / 533 .
12 . أسس حلف الفضول لمنع الاعتداء على الحجاج
أعداء النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) هم أعداء أجدادهم قبل الإسلام ! وقد قال ( صلى الله عليه وآله ) : « الناس معادن ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » . البخاري : 4 / 122 .
ورويناه عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) بلفظ أدق : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل » . الكافي : 8 / 177 .
وعندما تحسن وضع قريش الاقتصادي ، بفضل رحلتي الشتاء والصيف ، وتعاظم موسم الحج إلى الكعبة بعد آية أصحاب الفيل ، ازدحمت مكة في الموسم ، وكثرت تعديات القرشيين على الحجاج والتجار الوافدين إلى مكة !
وكانت المشكلة أمام عبد المطلب أنه إذا أراد منع الظلم وقفت قبيلة الظالم معه تناصره ! فرأى أن ينشئ حلفاً قبلياً ليمنع قبيلة الظالم أن تنصره ، فأسس حلف الفضول ، وكان أصل هذا الحلف لأخوال أبناء إسماعيل ( عليه السلام ) .
--------------------------- 99 ---------------------------
ففي أنساب الأشراف / 13 : « كان في جرهم رجال يردون المظالم ، يقال لهم فضيل وفضال ومفضل وفضل ، فتحالفوا على ذلك » .
وروى اليعقوبي أن قريشاً بدأت بتشكيل حلف ضد عبد المطلب ، وروى أن الحلفين عبد الطلب كان السابق ، مما يدل على أن الحلفين كانا متزامنين .
قال اليعقوبي : 1 / 248 : « ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر ، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم فقالوا : إمنعونا من بني
عبد مناف . . . فتطيَّب بنو عبد مناف وأسد وزهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر ، [ وخزاعة ] فسموا حلف المطيبين . فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم ، وبنو عبد الدار ، وبنو مخزوم ، وبنو جمح ، وبنو عدي ، فسموا اللعقة » .
قال ابن بكار : « كان بنو سهم وبنو جمح أهل بغي وعدوان ، فأكثروا من ذلك » . شرح النهج : 15 / 224 .
وكانت خزاعة هي ركن حلف عبد المطلب ، قال في المنمق / 87 : « وكتبوا كتاباً كتبه لهم أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة ، وكان بنو زهرة يكرمون عبد المطلب لصهره فكان الكتاب : هذا ما تحالف عليه عبد المطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك ، تحالفوا على التناصر والمؤاساة ، حلفاً جامعاً غير مفرق ، الأشياخ على الأشياخ ، والأصاغر على الأكابر ، والشاهد على الغائب ، تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت الشمس على ثبير ، وما حن بفلاة بعير . عقده عبد المطلب بن هاشم ، ورجال بني عمرو فصاروا يداً دون بني النضر ، فعلى عبد المطلب النصرة لهم على كل طالب وتر في بر أو بحر أو سهل أو وعر ، وعلى بني عمرو النصرة لعبد المطلب وولده على جميع العرب ، في الشرق أو الغرب أو الحزَن أو السهب ، وجعلوا الله على ذلك كفيلاً ، وكفى بالله حميلاً .
ثم علقوا الكتاب في الكعبة ، فقال عبد المطلب :
--------------------------- 100 ---------------------------
سأوصي زبيراً إن توافت منيتي * بإمساك ما بيني وبين بني عمرو
وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه * ولا يلحدن فيه بظلم ولاغدر
هم حفظوا الإلَّ القديم وحالفوا * أباك فكانوا دون قومك من فهر
وفي تصديق ذلك قول عمرو بن سالم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) حين أغارت عليهم بنو بكر فقتلوا من قتلوا من خزاعة :
لا هُمَّ إني ناشدٌ محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا » .
وجدَّد الزبير بن عبد الطلب حلف الفضول وحضره النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وروت ذلك عامة المصادر كمحمد بن حبيب في كتابه المنمق / 186 ، عن حكيم بن حزام قال : « كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وبينه وبين الفيل عشرون سنه ، ورسول الله صلى الله عليه يومئذ ابن عشرين سنة ، قالوا : وكان الفجار في شوال وكان الحلف في ذي القعدة ، وكان هذا الحلف أشرف حلف جرى ، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب ، وذلك أن الرجل من العرب أو غيرها من العجم ممن كان يقدم بالتجارة ربما ظُلم بمكة ، وكان الذي جرَّ ذلك أن رجلاً من بني زبيد قدم بسلعة فباعها من العاص بن وائل السهمي فظلمه ثمنها ، فناشده الزبيدي في حقه فلم يعطه ، فأتى الزبيدي الأحلاف : عبد الدار ومخزوماً وجمح وسهماً وعدياً ، فأبوا أن يعينوه وزبروه وزجروه ! فلما رأى الزبيدي الشر وافى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس ، وقريش في أنديتهم حول الكعبة وصاح :
يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرمٍ أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمَّتْ كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
قال فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال : ما لهذا مَتْرك ، فاجتمعت
بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان ، فصنع لهم طعاماً ، فتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام ، قياماً يتماسحون صعداً ، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله قائلين لنكونن
--------------------------- 101 ---------------------------
مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التأسي في المعاش . فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول ، وقال الزبير بن عبد المطلب فيه :
حلفتُ لنعقدنْ حلفاً عليهم * وإن كنا جميعاً أهلَ دار
نسميه الفضولَ إذا عقدنا * يعزُّ به الغريبُ لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار
« ذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً أو معتمراً ، ومعه ابنة له يقال لها القَتُول ، من أوضأ نساء العالمين ، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه ، فقال الخثعمي : من يعديني على هذا الرجل ؟ فقيل له عليك بحلف الفضول ، فوقف عند الكعبة ونادى : يالِ حلف الفضول ! فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون : جاءك الغوث فما لك ؟ ! فقال : إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً . فساروا معه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له : أخرج الجارية ويحك ، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه ! فقال : أفعل ولكن متعوني بها الليلة ! فقالوا :
قبحك الله ، ولا شخب لقحة ، فأخرجها إليهم » .
« وكان الزبير بن عبد المطلب شجاعاً أبياً ، وجميلاً بهياً ، وكان خطيباً شاعراً ، وسيداً جواداً . . وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته ، وكانت عند العاص بن وائل ، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي . وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء » . شرح النهج : 15 / 203 و 205 .
وقال اليعقوبي : 2 / 17 : « حضر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حلف الفضول وقد جاوز العشرين ، وقال بعد ما بعثه الله : حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما يسرني به حُمر النَّعم ، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت . وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة ، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر ، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بلَّ بحرٌ صوفة . وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب
--------------------------- 102 ---------------------------
طيباً فغمسوا أيديهم فيه . . . فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره ، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم » . وابن هشام : 1 / 85 والمنمق / 187 .
لقد أمضى النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا الحلف وتبناه ، ودعا به الإمام الحسين ( عليه السلام ) لما منعوا دفن أخيه عند جده ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم دعا به ما أراد معاوية أن يصادر أمواله . أنساب الأشراف / 13 .
13 . سن عبد المطلب سنناً فأجراها الله في الإسلام
روى في الخصال / 313 : « عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي إن عبد المطلب سَنَّ في الجاهلية خمس سُنن أجراها الله له في الاسلام ، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل : وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ . ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عز وجل : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ . الآية . . ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج ، فأنزل الله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ . الآية . وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عز وجل ذلك في الاسلام ، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط ، فأجرى الله ذلك في الاسلام .
يا علي إن عبد المطلب كان لايستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين أبي إبراهيم ( عليه السلام ) » .
وقال اليعقوبي « رحمه الله » : 2 / 10 : « وكان عبد المطلب جد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يكفله ، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع ، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً ، وسقاه زمزم وذا الهرم « بئر في الطائف » وحَكَّمته قريش في أموالها ، وأطعم في المَحْل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال . قال أبو طالب :
ونُطعمُ حتى تأكل الطيرُ فضلَنا * إذا جُعلت أيدي المفيضين ترعدُ
ورفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عز وجل ، ووفى بالنذر ، وسن سنناً نزل القرآن بأكثرها ، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي : الوفاء بالنذور ، ومائة من الإبل في الدية ، وألا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤودة ، والمباهلة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزناء ، والحد عليه ،
--------------------------- 103 ---------------------------
والقرعة ، وألا يطوف أحد بالبيت عرياناً ، وإضافة الضيف ، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحرم ، ونفي ذوات الرايات » .
14 . وهذا يكفي لمن كان له قلب !
لقد أغمضوا عيونهم عن كرامات عبد المطلب وآياته ، في حفر زمزم ، وفي هجوم أصحاب الفيل ، وإخباره بنبوة حفيده ( صلى الله عليه وآله ) ، وافتخار النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم حنين بنبوته وبجده عبد المطلب ! البخاري : 4 / 28 . وفي الواحدة منها كفاية لمن كان له قلب .
بل زعموا أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن أبيه ؟ فقال : إن أبي وأباك في النار . مسلم : 1 / 132 . وحاشا أباه من النار ، وحاشاه ( صلى الله عليه وآله ) من هذه الجلافة !
15 . عبد المطلب : إبراهيم الثاني
« وخرجوا هاربين يطلبون الشعاب ، ومنهم من طلب الجبال ، ومنهم من ركب البحر ، قال : فعند ذلك قالوا لعبد المطلب : ما يمنعك أن تهرب مع الناس ؟ قال : أستحيي من الله أن أهرب عن بيته وحرمه ، فوالله لا برحت من مكاني ولا نأيت عن بيت ربي ، حتى يحكم الله بما يشاء . . قال : فلما نظر عبد المطلب إلى الكعبة خالية قال : « اللهم أنت أنيس المستوحشين ولا وحشة معك ، فالبيت بيتك والحرم حرمك والدار دارك ، ونحن جيرانك ، تمنع عنه ما تشاء » . البحار : 15 / 66 .
ولما ظهرت آياته في حملة أصحاب الفيل ، سماه المنصفون من قريش إبراهيم الثاني : « فكانت قريش تقول : عبد المطلب إبراهيم الثاني » . تاريخ اليعقوبي : 1 / 10 .
16 . نَذَر عبد المطلب ( ( رحمه الله ) ) أحد أبنائه قرباناً للكعبة !
كان عرب الجزيرة وعرب العراق يقدسون صنم العُزَّى أكثر من غيره ، ويقدمون له القرابين : « وكان للعزى منحرٌ ينحرون فيه هداياهم ، يقال له الغبغب . . . قال الشاعر : والراقصات إلى منى بالغبغب » . معجم البلدان : 4 / 185 .
وفي أحُد : « نادى المشركون بشعارهم : يا لَلعزى يا لَهُبل ، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً ، وولَّى من ولَّى منهم يومئذ ، وثبت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . الطبقات : 2 / 42 .
--------------------------- 104 ---------------------------
وكانت حروبٌ بين المناذرة التابعين للفرس في العراق ، والغساسنة التابعين للروم في الشام ، وكان المنذر بن ماء السماء وثنياً ، فأسرَ ابن ملك الغساسنة الحارث بن شمر في حربه معه ، فذبحه قرباناً للعزى ! خطط الشام : 1 / 67 .
وفي المفصل في تاريخ العرب : 11 / 239 : « وقد كان آل لخم ملوك الحيرة ، ينحرون الأسرى قرباناً للعزى . وقد زعم بعض المؤرخين السريان أن المنذر بن ماء السماء ضحى بأربع مائة راهبة للعزى » !
في هذا الجو ، نذر عبد المطلب « رحمه الله » لله تعالى إذا رزقه عشرة أبناء ، أن يذبح أحدهم قرباناً له هدياً للكعبة ، فكان عمله مقابلةً لعَبَدَة الأصنام والنصارى ودعوة لهم أن يعبدوا رب بيت إبراهيم ( عليه السلام ) ، ويقدموا قرابينهم له وليس للعزى !
أما الإشكال الذي نراه في عمله فسببه عدم معرفتنا لمستنده الشرعي في نذره أن يذبح ابنه ، ثم مستنده في طريقة وفائه به بالقرعة بينه وبين الإبل . لكن ما ثبت عن شخصيته ( عليه السلام ) وإيمانه العميق وإلهام الله تعالى إياه بحفر زمزم ، وظهور المعجزة له لما أرادت قريش أخذها منه ، وإخباره بآية أصحاب الفيل ، وغير ذلك من آياته يدل على أنه ما نذر ولا تحلل من نذره ، إلا بحجة من ربه تعالى .
روى في دعائم الإسلام : 2 / 522 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه تجب القرعة فيما أشكل وذكر القرعة في قصة يونس ( عليه السلام ) ، وفي كفالة مريم ( عليه السلام ) ، وقصة عبد المطلب : « نذر ذبح من يولد له فولد له عبد الله أبو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فألقى الله عليه محبته ، فألقى عليه السهام وعلى إبل ينحرها يتقرب بها مكانه ، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتى بلغت مائة ، فوقع السهم على الإبل فأعاد السهام مراراً وهي تقع على الإبل ، فقال : الآن علمت أن ربي قد رضي ونحرها » .
17 . افتخر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجديه « عليهما السلام » فقال : أنا ابن الذبيحين
روى الصدوق في العيون : 2 / 189 عن علي بن فضال أنه سأل الإمام الرضا ( عليه السلام ) عن معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنا ابن الذبيحين فقال : « يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل ،
--------------------------- 105 ---------------------------
وعبد الله بن عبد المطلب . أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم : فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ، ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت . سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ .
فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح ، يأكل في سواد ويشرب في سواد وينظر في سواد ، ويمشي في سواد ، ويبول ويبعر في سواد ، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً ، وما خرج من رحم أنثى ، وإنما قال الله جل وعز له كن فكان ، ليفدي به إسماعيل ، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة . فهذا أحد الذبيحين .
وأما الآخر فإن عبد المطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة ، ودعا الله عز وجل أن يرزقه عشرة بنين ، ونذر لله عز وجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته فلما بلغوا عشرة قال : قد وفى الله لي فَلَأفِيَنَّ لله عز وجل ، فأدخل وُلده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبد الله أبي رسول الله وكان أحب ولده إليه ، ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبد الله ، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله ، فأخذه وحبسه وعزم على ذبحه ، فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك ، واجتمع نساء عبد المطلب يبكين ويصحن ، فقالت له ابنته عاتكة : يا أبتاه أعذر فيما بينك وبين الله عز وجل في قتل ابنك . قال : فكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة ؟ قالت : أعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم فاضرب بالقداح على ابنك وعلى الإبل وأعط ربك حتى يرضى . فبعث عبد المطلب إلى إبله فأحضرها وعزل منها عشراً وضرب السهام فخرج سهم عبد الله ، فما زال يزيد عشراً عشراً حتى بلغت مائة ، فضرب فخرج السهم على الإبل ، فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة ، فقال عبد المطلب : لا ، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات ، فضرب ثلاثاً كل ذلك يخرج السهم على الإبل ، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير وأبو طالب وإخوانه من تحت رجليه ، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض ، وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه ، ويمسحون عنه
--------------------------- 106 ---------------------------
التراب . وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل بالحزورة ، ولا يمنع أحد منها وكانت مائة » .
وأضاف الصدوق « رحمه الله » : « ولولا أن عبد المطلب كان حُجَّةً وأن عزمه على ذبح ابنه عبد الله شبيهُ بعزم إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل « عليهم السلام » ، لمَا افتخر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالانتساب إليهما ، لأجل أنهما الذبيحان في قوله ( عليه السلام ) : أنا ابن الذبيحين .
والعلة التي من أجلها رفع الله عز وجل الذبح عن إسماعيل هي العلة التي من أجلها رفع الذبح عن عبد الله وهي كون النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة « عليهم السلام » في صلبهما . فببركة النبي والأئمة ( صلى الله عليه وآله ) رفع الله الذبح عنهما ، فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم » .
وفي الفقيه : 4 / 368 : « يا علي أنا ابن الذبيحين . يا علي أنا دعوة أبي إبراهيم ( عليه السلام ) » .
وتدل الرواية عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) « الفقيه : 3 / 89 » على أن الله تعالى نهى عبد المطلب عن ذبح ولده وأمره بالقرعة ، وقد يكون ذلك بعد كلام عاتكة ، قال ( عليه السلام ) : « أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ، وهو قول الله عز وجل : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، والسهام ستة ، ثم استهموا في يونس ( عليه السلام ) لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة ، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال : فمضى يونس إلى صدر السفينة ، فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه .
ثم كان عند عبد المطلب تسعة بنين ، فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في صلبه ، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله ، فخرجت السهام على عبد الله فزاد عشراً ، فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشراً ، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبد المطلب : ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً ، فخرجت على الإبل فقال : الآن علمت أن ربي قد رضي ، فنحرها » .
ومعناه أن الله تعالى نهاه عن ذبحه بالإلهام ، وأمره أن يفديه بما استقرت عليه القرعة .
ونلاحظ في هذا الموضوع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ضحى في حجة الوداع بمئة ناقة ، وهي عدد فداء جده عبد الله ( عليه السلام ) ، وأشرك فيها علياً ( عليه السلام ) لشراكته في وراثة عبد المطلب « عليهم السلام » .
--------------------------- 107 ---------------------------
18 . الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق
زعم أهل الكتاب أن الذبيح إسحاق « عليهما السلام » ، وأن الله فداه وأرسل جبرئيل ( عليه السلام ) بكبش وأمره أن يذبحه بدله .
قال في تفسير الكاشف : 6 / 352 : « ولا مصدر لهذا القول إلا إسرائيليات كعب الأحبار ، وحسد اليهود لأبناء إسماعيل ، وليس هذا بكثير على بني إسرائيل » .
أقول : إن الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق « عليهما السلام » ، كثيرة :
الأول : أن توراتهم وتلمودهم ومصادرهم لم تذكر أن الذبيح إسحاق ( عليه السلام ) ، وإنما هو قول حاخاماتهم ، خاصة كعب الأحبار ، وقد نسبوه إلى عمر وعلي وابن عباس وغيرهم . وعدم ذكره في مصادرهم دليل على أن الذبيح ليس إسحاق ( عليه السلام ) وإلا لذكرته مصادرهم بشكل واسع ، وجعلوا مكانه مزاراً وافتخروا به . فالصحيح أنهم ادعوه بعد بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونزول القرآن بقصة ذبح إسماعيل « عليهما السلام » .
الثاني : صحح العلماء حديث : أنا ابن الذبيحين . رواه الحاكم : 2 / 554 ، صححه الذهبي ، السرخسي : 8 / 141 ، بدائع الصنائع : 5 / 85 ، تخريج الأحاديث : 3 / 177 . وفيض القدير : 3 / 762 .
الثالث : قال جمهور علماء المسلمين إن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق « عليهما السلام » .
قال العجلوني في كشف الخفاء : 1 / 199 : « إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب
عند علماء الصحابة والتابعين » .
وقال الطوسي في أماليه / 457 : « قال أبو المفضل « الشيباني » : اختلف الناس في الذبيح وقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنا ابن الذبيحين ، يعني إسماعيل وعبد الله أباه « عليهما السلام » . والعرب مجمعة أن الذبيح هو إسماعيل . وأنا أقول : اختلفت روايات العامة والخاصة في الذبيح من هو ؟ والصحيح أنه إسماعيل لمكان الخبر ، ولإجماع علماء أهل البيت « عليهم السلام » على أنه إسماعيل » .
الرابع : صحح الصدوق في معاني الأخبار / 391 : « عن داود بن كثير الرقي قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أيهما كان أكبر إسماعيل أو إسحاق ، وأيهما كان الذبيح ؟
--------------------------- 108 ---------------------------
فقال : كان إسماعيل أكبر من إسحاق بخمس سنين ، وكان الذبيح إسماعيل ، وكانت مكة منزل إسماعيل ، وإنما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل أيام الموسم بمنى . قال : وكان بين بشارة الله لإبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق « عليهم السلام » خمس سنين ، أما تسمع لقول إبراهيم ( عليه السلام ) حيث يقول : رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . إنما سأل الله عز وجل أن يرزقه غلاماً من الصالحين ، وقال في سورة الصافات : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، يعني إسماعيل من هاجر . فقال : ففدى إسماعيل بكبش عظيم . فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ثم قال : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ، يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق . فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل وأن الذبيح إسحاق ، فقد كذب بما أنزل الله عز وجل في القرآن من نبئهما » .
فقد استدل الإمام ( عليه السلام ) بنص الآيات وسياقها ، وأن الذبيح الغلام الذي دعا إبراهيم ( عليه السلام ) ربه أن يهبه له فوهبه وهو إسماعيل ، ثم رزقه بعده إسحاق فقال : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ، فكيف يبشره بأنه نبي ، ثم يأمره بذبحه !
وهذه آياته في سياقها : وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للَّجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَالْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ . الصافات : 99 - 113 .
وفي الكاشف : 6 / 352 : فإنه يدل بصراحة على أن المبشر به والساعي والذبيح صفات لموصوف واحد ، وهو الولد البكر لإبراهيم ، وبكر إبراهيم هو إسماعيل باتفاق المسلمين والنصارى واليهود ، فلقد جاء في التوراة الإصحاح 16 الآية 15
من سفر التكوين ما نصه بالحرف : « وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام » . أي إبراهيم .
وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور الإصحاح 17 الآية 17
--------------------------- 109 ---------------------------
وما بعدها : إن الله لما بشر إبراهيم بإسحاق من سارة سقط على وجهه ، وقال في قلبه : هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين ؟ إذا جمعنا بين الآيتين تكون حصيلتهما أن إسماعيل هوالولد البكر ، وأنه يكبر اسحق بأربعة عشر عاماً ، وبينا أن البكر هو الذبيح » .
الخامس : في كتاب أضواء على المسيحية للدكتور شلبي / 66 : « يقول برنابا : فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً : خذ ابنك البكر واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة . والبكر هو إسماعيل ( عليه السلام ) ، وقد ولد إسحاق ( عليه السلام ) بعده بسبع سنين » .
السادس : قوله تعالى : « وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاءً له على طاعته لله في ذبح ولده البكر ، فلا بد وهذه هي الحال ، أن يكون زمن إسحاق متأخراً عن زمن الذبيح » . تفسير الكاشف 6 / 352 .
السابع : قوله تعالى في الآية 71 من سورة هود : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ومِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ، فإن اللَّه بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد ، فكيف يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله ؟ وما ذا تقول سارة عندما تسمع الأمر بذبح وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده !
الثامن : نسبوا إلى علي ( عليه السلام ) من أن الذبيح هو إسحاق ، والصحيح أنه إسماعيل « عليهما السلام » . ففي أمالي الطوسي / 338 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، عن آبائه عن علي ( عليه السلام ) قال : الذبيح إسماعيل .
وبذلك يتضح أن القول بأن الذبيح إسحاق مكذوب ، أو تصحيف في الاسم .
19 . النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وارث عبد المطلب
اختار الله بني عبد المطلب من العالم :
كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجهر بأن الله تعالى اختار من العالم بني عبد المطلب فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما ، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة فكنت خير الثلاثة ، ثم اختار العرب من الناس ،
--------------------------- 110 ---------------------------
ثم اختار قريشاً من العرب ، ثم اختار بني هاشم من قريش ، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم ، ثم اختارني من بني عبد المطلب » . الخصال / 36 وغيره .
وكان ( صلى الله عليه وآله ) يفتخر بنبوته وجده عبد المطلب ( عليه السلام ) !
ففي حنين هرب المسلمون مع أنهم كانوا اثني عشر ألفاً ! وثبت النبي ( صلى الله عليه وآله )
وبنو هاشم ، وافتخر بنبوته وبجده عبد المطلب : « كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضايقه فما راعنا إلا كتائب الرجال ، فانهزم بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم مَن وراءهم ، وبقي علٌّي ( عليه السلام ) ومعه الراية ، فقال مالك بن عوف : أروني محمداً ، فأروه إياه فحمل عليه فلقيه أيمن بن عبيدة وهو ابن أم أيمن فالتقيا فقتله مالك . . فقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) في ركاب سرجه حتى أشرف عليهم وقال : الآن حمى الوطيس : أنا النبي لا كذبْ أنا ابن عبد المطلبْ » .
وفي صحيح بخاري : 4 / 28 : « نزل فجعل يقول : أنا النبي لاكذب أنا ابن عبد المطلب . قال فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه » .
وبنو عبد المطلب لا يفرون أبداً !
وعليهم قامت معارك الإسلام ! فقد كانوا أبطال بدر ، وثبتوا في أحُد وخيبر وغيرها ، في حين فرَّ الجميع . وفي حنين : « انهزموا بأجمعهم فلم يبق منهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا عشرة أنفس ، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن وثبت تسعة النفر الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كان انهزم ، فرجعوا أولاً فأولاً » . الإرشاد : 1 / 140 .
بعثه الله لبني عبد المطلب خاصة وللناس عامة :
قال لهم : « يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة ، فقال عز وجل : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمرويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن
--------------------------- 111 ---------------------------
أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » . الإرشاد : 1 / 49
ومسند الشاميين : 2 / 66 .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) مخولاً من بني عبد المطلب :
فعندما طلب أسرى خيبرمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يُطلق سراحهم ، قال لهم : « أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم . وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لله ولرسوله فردت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال » .
أمالي الصدوق / 591 .
وَعَدَهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) الشفاعة وكان يميزهم عن غيرهم :
قال ( صلى الله عليه وآله ) : « يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكني قد وعدت الشفاعة « قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : اشهدوا لقد وعدها » فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة ، أتروني مؤثراً عليكم غيركم » . التهذيب : 4 / 58 .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين ! كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء ، وضع كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين ، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فيقول : من مات من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) » . الكافي : 3 / 200 والتهذيب : 1 / 460 .
وأكرم الله بني هاشم فشرَّع لهم ميزانية خاصة :
وهي الخمس فقال تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ . ومع ذلك حرموهم منه !
قال ابن قدامة : 2 / 519 : « لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس . وعن أبي هريرة قال : أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : كِخْ كِخْ ، ليطرحها ! وقال : أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ! متفق عليه » .
--------------------------- 112 ---------------------------
وفي الكافي : 1 / 540 عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم ، عوضاً لهم من صدقات الناس ، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكرامةً من الله لهم عن أوساخ الناس ، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة . .
وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين ذكرهم الله فقال : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وهم بنو عبد المطلب الذكر منهم والأنثى ، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد » .
وحذرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يغتروا بنسبهم ويتركوا العمل :
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الصفا فقال : يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب إني رسول الله إليكم وإني شفيق عليكم ، وإن لي عملي ولكل رجل منكم عمله ، لا تقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله ، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبد المطلب إلا المتقون . ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ويأتون الناس يحملون الآخرة ، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم ، وفيما بيني وبين الله عز وجل فيكم » . الكافي : 8 / 182 .
وأتمَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) الحجة عليهم فأوصاهم بطاعة علي ( عليه السلام ) :
فعن الإمام زين العابدين ، في حديث وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « قال علي ( عليه السلام ) : فلقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإن رأسه ليثقل ضعفاً وهو يقول ويسمع أقصى أهل البيت وأدناهم : إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضي ديني وينجز موعدي . يا بني هاشم يا بني عبد المطلب ، لاتبغضوا علياً ، ولا تخالفوا أمره فتضلوا ، ولاتحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا » . أمالي الطوسي / 600 .
وكان حقد اليهود وقريش على كل بني عبد المطلب « عليهم السلام » :
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لحاخام يهودي : « وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً ، لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى
--------------------------- 113 ---------------------------
أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له » . الخصال / 368 .
وصححوا حديث أبناء عبد المطلب سادة أهل الجنة :
فقد رواه ابن ماجة 2 / 1368 عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي » . والحاكم : 3 / 211 ، وصححه على شرط مسلم ، وتاريخ بغداد : 9 / 434 وفيه : نحن سبعة بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة ، أنا وعلي أخي وعمي حمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي » . وتلخيص المتشابه : 1 / 197 ، الفردوس : 1 / 53 ، البيان للشافعي / 488 وغيرها .
وفي كتاب سُلَيْم بن قيس « رحمه الله » / 245 : « كانت قريش إذا جلست في مجالسها فرأت رجلاً من أهل البيت « عليهم السلام » قطعت حديثها ، فبينما هي جالسة إذ قال رجل منهم ما مثل محمد في أهل البيت إلا كمثل نخلة نبتت في كُناسة ! فبلغ ذلك رسول الله فغضب ثم خرج فأتى المنبر فجلس عليه حتى اجتمع الناس ، ثم قام
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال . . » . وأورد خطبة طويلة في فضله وفضل أهل بيته « عليهم السلام » جاء فيها : « ألا ونحن بنو عبد المطلب سادة أهل الجنة ، أنا وعلي وجعفر وحمزة والحسن والحسين وفاطمة والمهدي » . ورواه أمالي الصدوق / 384 ، غيبة الطوسي / 113 ، العمدة / 52 و 430 والطرائف : 1 / 176 .
وفي دلائل الإمامة / 256 ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : « كنا مع علي بالبصرة وهو على بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد اجتمع هو وأصحاب محمد فقال : ألا أخبركم بأفضل خلق الله عند الله يوم يجمع الرسل ؟ قلنا : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : أفضل الرسل محمد وإن أفضل الخلق بعدهم الأوصياء ، وأفضل الأوصياء أنا ، وأفضل الناس بعد الرسل والأوصياء الأسباط ، وإن خيرالأسباط سبطا نبيكم ، يعني الحسن والحسين . وإن أفضل الخلق بعد الأسباط الشهداء ، وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، قال ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين مخضبان بكرامةٍ خص الله عز وجل بها نبيكم ، والمهدي منا في آخر الزمان ، لم يكن في أمة من الأمم مهدي ينتظر غيره » .
--------------------------- 114 ---------------------------
أقول : كفى بهذا الحديث الشريف حجة ودليلاً على مكانة هؤلاء العظماء من أبناء عبد المطلب « عليهم السلام » ، فهو يفضح كل ما رووه من تفضيل زيد وعمرو عليهم !
20 . وكان عبد المطلب شاعراً ، وكذا أبو طالب ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وتقدمت له أبيات في غزو أبرهة للكعبة ، وكلها إيمان ويقين بالنصر ، وفيها نبوءة بنبوة حفيده ( صلى الله عليه وآله ) وبدولة العدل الإلهي على يد ولده المهدي ( عليه السلام ) ! قال :
نحن آلُ الله فيما قد خلا * لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
لم يزل لله فينا حجةٌ * يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينا شيمةٌ * صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنا في كل دور كَرَّةٌ * نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدورُ إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته * فيه تبيان أحاديث الأمم
وطير القدم مثلٌ ضربه عبد المطلب « رحمه الله » لأصحاب ولده الإمام المهدي ( عليه السلام ) الذين يجمعهم الله له في ليلة من أقاصي العالم ، ليكونوا وزراءه .
فقد روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله ، وتولى ما استطاع نصيحته ، أولئك يتقلبون في رحمة الله ، ومثلهم مثل طير يأتي بأرض الحبشة في كل صيفة يقال له « القَدَم » فيبيض ويفرخ بها ، فإذا كان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إليه وخرجوا معه من أرض الحبشة ، فإذا قام قائمنا اجتمع أولياؤنا من كل أوب ! ثم تمثل بقول عبد المطلب :
فإذا ما بلغ الدور إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته * فيه تبيان أحاديث الأمم
مستدرك الوسائل : 13 / 137 وجامع أحاديث الشيعة : 17 / 297 .
وفي أمالي الصدوق / 243 : « قال الريان بن الصلت : أنشدني الرضا ( عليه السلام ) لعبد المطلب :
--------------------------- 115 ---------------------------
يعيب الناس كلهم زماناً * وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا * ولو نطق الزمان بنا هجانا
وأن الذئب يترك لحم ذئب * ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
لبسنا للخداع مسوك طيب * وويلٌ للغريب إذا أتانا »
وعيون أخبار الرضا 2 / 190 .
21 . أولاد عبد المطلب عشرة ، والعباس
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) كما في الخصال / 452 : « سئل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن ولد عبد المطلب فقال : عشرة والعباس » ! وخيرهم : عبد الله ، وأبو طالب ، والزبير ، وحمزة . وذرية عبد الله وأبي طالب خير البشر ، وشذ من أبناء عبد المطلب أبو لهب إلى النار .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 11 : « وكان لعبد المطلب من الولد الذكور عشرة ، ومن الإناث أربع : عبد الله أبو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وأبو طالب وهو عبد مناف . والزبير وهو أبو الطاهر . وعبد الكعبة وهو المقوم . وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وهي أم أم حكيم البيضاء . وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبد المطلب . والحارث وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى . وقثم . وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة . وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله ، وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وهي أم صفية بنت عبد المطلب . والعباس ، وضرار ، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط . وأبو لهب وهو عبد العزى ، وأمه لُبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي . والغيداق وهو حجل وإنما سمى الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام ، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي . فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته » .
والسؤال هنا : ما معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : عشرة والعباس ؟
--------------------------- 116 ---------------------------
والجواب : أن العباس عبدٌ لثلاثة من إخوته من بني عبد المطلب ،
ولذا عدَّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحده ، لأنه عبد لإخوته ، لأن أمه أمةً لهم أحَلّواها لأبيهما عبد المطلب لتخدمه ، فحملت منه بالعباس .
ففي « الكافي : 8 / 259 » : « توفي مولى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أبا عبد الله ( عليه السلام ) وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك السنة ، فجلس لهم فقال داود بن علي : الولاء لنا . وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : بل الولاء لي . فقال داود بن علي : إن أباك قاتل معاوية . فقال : إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته . وقال : والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة ، فقال له داود بن علي : كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق ، فقال : أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق !
قال فقال هشام : إذا كان غداً جلست لكم ، فلما أن كان من الغد خرج
أبو عبد الله ومعه كتاب في كرباسة ، وجلس لهم هشام ، فوضع أبو عبد الله ( عليه السلام ) الكتاب بين يديه ، فلما أن قرأه قال : أعدوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري ، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية ، فرمى بالكتاب إليهما فقال : تعرفان هذه الخطوط ؟ قالا : نعم ، هذا خط العاص بن أمية ، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش . وهذا خط حرب بن أمية ، فقال هشام : يا أبا عبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم ؟ فقال : نعم ، قال : فقد قضيت بالولاء لك ، قال : فخرج وهو يقول :
إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرهْ
قال فقلت : ما هذا الكتاب جعلت فداك ؟ قال : فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبد الله ، فأخذها عبد المطلب فأولدها فلاناً ، فقال له الزبير : هذه الجارية ورثناها من أمنا ، وابنك هذا عبد لنا ، فتحمل عليه ببطون قريش ، قال فقال : قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس ، ولايضرب معنا بسهم . فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه ، فهو هذا الكتاب » .
أقول : معنى ذلك أن العباس وأولاده مضافاً إلى أنهم من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ، فهم عبيد لأبناء عبد المطلب : الزبير ، وأبي طالب ، وعبد الله ، الذين كانت أم
--------------------------- 117 ---------------------------
العباس أمةً لأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم « دلائل النبوة / 99 » وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها ، فَوُلْدُها تبعاً لها ملكٌ لهم ، لأنهم أحلوها لأبيهم ولم يبيعوها .
ونلاحظ أن المؤرخين « تاريخ دمشق 26 / 276 » قالوا إن أم العباس نتيلة بنت جناب ، ثم قالوا : وقيل أو يقال : ابنة مالك بن خباب بن كليب ، من بني النمر بن قاسط . وزعموا أن ابنها ضاع فنذرت أن تكسوا الكعبة حريراً . لكن هذه القصة لأم ضرار بن عبد المطلب ، سرقوها وجعلوها لأم العباس !
وقد رواها ابن حبيب في المنمق / 36 ، والبلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 90 ، قالا : « كان ضرار بن عبد المطلب من فتيان قريش ، جمالاً ، وعقلاً ، وهيبة ، وسخاء ، وإن أمه نتيلة أضلته فكاد عقلها يذهب جزعاً عليه ، وكانت كثيرة المال ، فجعلت تنشد في المواسم وتقول :
أضللت أبيض كالخصاف * للفتية الغرِّ بني مناف
ثم لعمري منتهى الأضياف * سنَّ لفهر سُنَّةَ الإيلاف
في القرِّ حين القر والأصياف
فجعلت لمن جاء به هنيدة ، ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها . فمر بها حسان بن ثابت حاجاً في نفر من قومه ، فرأى جزعها عليه فقال :
وأمّ ضرار تنشد الناس والهاً * فيالبني النجَّار ما ذا أضلَّتِ
ولو أن ما تلقى نتيلة غدوة * بأركان رضوى مثله ما استقلَّتِ
فأتاها به رجل من جذام فوفت له بجعلها وكست البيت ثياباً بيضاً وقالت :
الحمد لله وليِّ الحمدِ * قد ردَّ ذو العرش عليَّ وُلدي
من بعد أن جوَّلتُ في مَعَدِّ * أشكره ثم أفي بعهدي .
فقد أخذوا قصة أم ضرار بن عبد المطلب ونسبوها إلى أم العباس » !
- *
--------------------------- 118 ---------------------------
الفصل السادس
والده عبد الله ووالدته آمنة « عليهما السلام »
ومولده المبارك
1 . قلة الروايات عن والدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وسببه أن حكومات قريش قررت أن تنشر في المسلمين أن آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسرته كلهم كفار ، ومنعت أن يروي المسلمون سيرتهم ومناقبهم .
وقد بينا في مقدمة هذه السيرة ، أن الحكومات تبنت سياسة إبادة كنوز السيرة وعلوم الإسلام ، وإحراق كتب شيعة أهل البيت « عليهم السلام » ، ويكفي مثالاً على ذلك : كُتب جابر بن يزيد الجعفي ، وكُتب أحمد ابن عقدة ، وكُتب سليمان الأعمش ، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم ! فقد أحرقوها أو فقدت في أيام تشريدهم وتلاميذهم ! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث ، أي مئتي مجلداً !
قال مسلم في مقدمة صحيحه : 1 / 15 : « الجراح بن مليح يقول : سمعت جابراً يقول : عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر « الباقر ( عليه السلام ) » عن النبي صلى عليه وسلم كلها » !
2 . تكريم خاص لوالدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسرته
في الكافي : 1 / 446 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « نزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إني قد حرمت النار على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك ، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب ، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب ، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب . وفي رواية ابن فضال : وفاطمة بنت أسد » .
--------------------------- 119 ---------------------------
وأضافت رواية الخصال / 293 : « وفي بيت آواك وهو عبد مناف بن عبد المطلب أبو طالب ، وفي أخ كان لك في الجاهلية . قيل : يا رسول الله من هذا الأخ ؟ فقال : كان أنسي وكنت أنسه ، وكان سخياً يطعم الطعام .
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : اسم هذا الأخ الجلاس بن علقمة » .
أقول : هؤلاء كلهم من أهل الجنة « عليهم السلام » ، وهذه الشفاعة كرامة خاصة أهداها الله إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بتكريمهم من أجله ورفع درجتهم في الجنة . وليس معناها كما تخيل البعض أنهم بدونها من أهل النار .
3 . افتخر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأمه وجداته ( ( عليهم السلام ) )
وقد روى في الكافي : 5 / 50 افتخار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمه وجداته ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناد : يا سوء صباحاه ! فسمعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الخيل ، فركب فرسه في طلب العدو ، وكان أول أصحابه لحقه :
أبو قتادة على فرس له ، كان تحت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر ، فطلب العدو فلم يلقوا أحداً ، وتتابعت الخيل فقال أبو قتادة : يا رسول الله إن العدو قد انصرف ، فإن رأيت أن نستبق ؟ فقال : نعم ، فاستبقوا فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سابقاً عليهم ، ثم أقبل عليهم فقال : أنا ابن العواتك من قريش ، إنه لهوَ الجواد البحر ، يعني فرسه » .
وقد افتخر بأمهاته ( صلى الله عليه وآله ) كما افتخر بجده عبد المطلب ( عليه السلام ) ، ولا يمكن أن يفتخر بمشركين أو مشركات من أهل النار .
وفسرالمحقق البحراني العواتك فقال في الحدائق : 22 / 356 : « جَمْعُ عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب ، وكان هذا الاسم لثلاث نسوة من أمهاته ( صلى الله عليه وآله ) : إحداهن عاتكة بنت هلال ، أم عبد مناف بن قصي ، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال ، أم هاشم بن عبد مناف ، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال ،
أم وهب أبي آمنة أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فالأولى من العواتك عمة الثانية ، والثانية عمة الثالثة . قيل : وبنو سليم كانوا يفتخرون بهذه الولادة . وقيل : العواتك في جدات
--------------------------- 120 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) تسع ، ثلاث من بني سليم وهن المذكورات ، والبواقي من غيرهم » .
4 . عبد الله والد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كبار أولياء الله
قال الفتال النيسابوي / 138 : « إعلم أن الطائفة المحقة قد اجتمعت على أن أبا طالب وعبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب « عليهم السلام » ، كانوا مؤمنين » .
وقد ركزالأئمة « عليهم السلام » المكانة الدينية لعبد الله وآمنة وعبد المطلب رضي الله عنهم . قال داود الرقي وهو من كبار أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 4 / 544 » : « دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ولي على رجل مال قد خفت تَوَاهُ « ذهابه » فشكوت إليه ذلك ، فقال لي : إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافاً وصل ركعتين عنه ، وطُف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن عبد الله طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين ، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين ، ثم ادع أن يرد عليك مالك .
قال ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا ، وإذا غريمي واقف يقول : يا داود حبستني ! تعال إقبض مالك » .
5 . تزوج والد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في سنّ السابعة عشرة
« قال محمد بن مسعود الكازروني في كتاب المنتقى : ولد عبد الله لأربع وعشرين سنة مضت من ملك كسرى أنوشروان ، فبلغ سبع عشرة سنة ثم تزوج آمنة ، فلما حملت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) توفي ، وذلك أن عبد الله بن عبد المطلب خرج إلى الشام في عير من عيرات قريش يحملون تجارات ، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا ، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض ، فقال : أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار ، فأقام عندهم مريضاً شهراً ، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله ، فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض ، فبعث إليه عبد المطلب أعظم ولده الحارث فوجده قد توفي في دار النابغة ، فرجع إلى أبيه فأخبره ، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً
--------------------------- 121 ---------------------------
شديداً ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ حمل ، ولعبد الله يوم توفي خمس وعشرون سنة » .
بحار الأنوار : 15 / 124 .
ويؤيده ما تقدم عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في أصحاب الفيل : « فدعا ولده عبد الله وإنه لغلام حين أيفع ، وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه ، فقال له : اذهب فداك أبي وأمي فَاعْلُ أبا قبيس ، وانظر ماذا ترى يجئ من البحر » .
وعام الفيل هو عام ولادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهذا يعني أن أباه كان شاباً في أول شبابه ، فلا تصح رواية أنه كان ابن خمس وعشرين سنة أو ثلاثين . « فقال له : إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر ؟ فنزل مسرعاً فقال : يا سيد النادي ، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً ، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى ! إن قلت غيماً قلته وإن قلت جهاماً خلته ، يرتفع تارةً ، وينحدر أخرى !
فنادى عبد المطلب : يا معشر قريش ، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر » .
وقد كانت عادتهم التزويج المبكر ، ففي إكمال الدين / 196 : « لما بلغ عبد الله بن عبد المطلب زوجه عبد المطلب آمنة بنت وهب الزهري ، فلما تزوج بها حملت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وقال اليعقوبي : 2 / 9 : « وكان تزويج عبد الله بن عبد المطلب لآمنة بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين ، وقيل بضع عشرة سنة . وبين فداء عبد المطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة . . وكان بين تزويج أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر ، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر » .
6 . خطب عبد المطلب لابنه عبد الله ، وخطب لنفسه
روى المؤرخون أن عبد المطلب رضي الله عنه خطب في مجلس واحد آمنة بنت وهب لابنه عبد الله رضي الله عنه ، وخطب لنفسه بنت عمها هالة بنت أهيب .
ففي تاريخ دمشق : 3 / 418 : « أن عبد المطلب خرج إلى اليمن فلقيه رجل من
--------------------------- 122 ---------------------------
اليهود له علم ، فنظر إلى عبد المطلب فقال : أرني منك شيئين ، فقال عبد المطلب : وإني أريك ما لم يكن عورة ، فقال لا أريد العورة ، أريد أن أنظر إلى أنفك وإلى كفيك فقال : أنظر ، فقال له : أبسط كفيك فبسطهما فقال : أما في أحد كفيك ملك ، وأما أنفك فإن فيه النبوة ، ولا يتم ذلك إلا في بني زهرة ، هل لك في شاعة ؟ قال : لا . قال فتزوج في بني زهرة . قال : فلما رجع عبد المطلب تزوج هالة بنت وهيب ، وزوج عبد الله آمنة بنت وهب » .
قال الحاكم : 3 / 192 : « كانت في حجر عمها أهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وإن عبد المطلب بن هاشم جاء بابنه عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتزوج عبد الله آمنة بنت وهب ، وتزوج عبد المطلب هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وهي أم حمزة بن عبد المطلب في مجلس واحد ، وكان » حمزة « قريب السن من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخاه من الرضاعة » .
وروى ابن شاذان في الفضائل / 6 ، عن الواقدي أن عقيل بن أبي وقاص أجرى عقد قران عبد الله بآمنة « عليهما السلام » فقال لوهب : « يا أبا الوداح زوجتَ كريمتك آمنة من ابن سيدنا عبد المطلب على صداق أربعة آلاف درهم بيض هجرية جياد وخمس مائة مثقال ذهب أحمر ؟ قال : نعم . ثم قال : يا عبد الله قبلت بهذا الصداق يا أيها السيد الخاطب ، قال : نعم . ثم دعا لهما بالخير والكرامة ، ثم أمر وهب أن تقدم المائدة فقدمت مائدة خضرة ، فأتى من الطعام الحار والبارد والحلو والحامض فأكلوا وشربوا . قال ونثر عبد المطلب على ولده قيمة ألف درهم من النثار ، وكان متخذاً من مسك بنادق ، ومن عنبر ، ومن سكر ومن كافور . ونثر ذهب بقيمة ألف درهم عنبر » .
أقول : والرواية طويلة ، ذكرت أن عبد الله دخل بعروسه في ذلك اليوم ، ولا بد أن يكون المخاطب عم آمنة أهيب أخ وهب لأنه كان وليها ، وكان أبوها وهب توفي ، كما تقدم . على أن هذه الرواية ربما كانت موضوعة .
--------------------------- 123 ---------------------------
7 . حملت به أمه في منى في بيت أبيه عبد المطلب
في الكافي : 1 / 439 : « حملت به أمه في أيام التشريق ، عند الجمرة الوسطى ، وكانت في منزل عبد الله بن عبد المطلب » .
وقال السهيلي : 1 / 183 : « قال الزبير » بن بكار : « كان مولده في رمضان . وهذا القول موافق لقول من قال إن أمه حملت به في أيام التشريق . وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم ، وأنه ولد بعد مجئ الفيل بخمسين يوماً . وهو الأكثر والأشهر » .
والمتفق عليه أن ولادته ( صلى الله عليه وآله ) في ربيع الأول ، فلا يمكن أن يكون حمله في أيام التشريق في ذي الحجة . ولعل سبب الاشتباه أن عرس عبد الله كان في بيت أبيه عبد المطلب في منى عند الجمرة ، وهو البيت الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة ، فاشتبه الراوي وأضاف اليه الزمان ، وتصور أنه كان في أيام التشريق .
ويؤيد ما قلناه الرواياتُ التي ذكرت مكان الحمل به دون زمانه ، كقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) « الكافي 4 / 209 » : « أراد أن يذبحه ، أي إسماعيل في الموضع الذي حملت أم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند الجمرة الوسطى ، فلم يزل مضربهم يتوارثون به كابر عن كابر ، حتى كان آخر من ارتحل منه علي بن الحسين ( عليه السلام ) في شئ كان بين بني هاشم وبين بني أمية ، فارتحل فضرب بالعرين » .
8 . المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله
رووا أن كاهنةً رأت النور في غرة والد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فطلبت منه أن يتزوجها لتحمل منه ، ولعله خبر صحيح لأن توقع ولادة النبي الموعود كان منتشراً .
قال الطبري : 2 / 6 : « خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه ومر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مُر ، متهودة من أهل تُبالة ، قد قرأت الكتب ، فرأت في وجهه نوراً ، فقالت له : يا فتى هل لك أن تقع عليَّ الآن وأعطيك مائة من الإبل . . فمضى به فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة » .
--------------------------- 124 ---------------------------
وقال ابن سعد : 1 / 95 : « المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب : وقد اختلف علينا فيها ، فمنهم من يقول كانت قتيلة بنت نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي أخت ورقة بن نوفل . . وكانت تنظر وتعتاف » تتفرس « فمر بها عبد الله بن عبد المطلب فدعته يستبضع منها ، ولزمت طرف ثوبه ، فأبى . . ومنهم من يقول كانت فاطمة بنت مُرّ الخثعمية » .
وقال في الروض الأنف : 1 / 178 : « وفي غريب ابن قتيبة : أن التي عرضت نفسها عليه هي : ليلى العدوية » .
9 . توفي عبد الله في المدينة وهو شاب
قال ابن سعد : 1 / 99 : « خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة ، في عير من عيرات قريش يحملون تجارات ، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا ، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض ، فقال : أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار ، فأقام عندهم مريضاً شهراً ، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله فقالوا : خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ، ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن النجار في الدار التي إذا دخلتها فالدويرة عن يسارك ، وأخبره أخواله بمرضه وبقيامهم عليه وما ولوا من أمره ، وأنهم قبروه . فرجع إلى أبيه فأخبره فَوَجَدَ عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وَجْداً شديداً » . وفي رواية أن أباه عبد المطلب أرسله إلى المدينة ليمتار لهم تمراً .
10 . ما ورثه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبيه وأمه « عليهما السلام »
قال البلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 96 : « ورث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أبيه أم أيمن واسمها بركة فأعتقها ، وخمسة أجمال أوارك « تأكل الأراك » وقطعة غنم ، وسيفاً مأثوراً وورقاً « سيفاً قديماً ونقداً » فكانت أم أيمن تحضنه ويسميها أمي . وقال بعض الرواة : ورث أم أيمن من أمه ، فأعتقها » .
--------------------------- 125 ---------------------------
وورث النبي عن أبيه غلامه شَقْران الذي شارك في تجهيزه . تاريخ دمشق : 4 / 271 .
11 . آمنة بنت وهب من كرائم العرب
قال الطبري : 2 / 5 : « فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة ، ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً ، فزوجه آمنة بنت وهب ، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً ، وهي لِبَرَّة بنت عبد العزى » .
وتقدم في رواية الصدوق « رحمه الله » « كمال الدين / 176 » أن سيف بن ذي يزن كان يتوقع ظهور النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه قال لعبد المطلب : « هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه ، اسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه ، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منا أنصاراً ، ليعز بهم أولياؤه ، ويذل بهم أعداءه . . فهل أحسست شيئاً مما ذكرته ؟ فقال : كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً ، فزوجته بكريمة من كرائم قومي ، اسمها آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام سميته محمداً ، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه . فقال ابن ذي يزن : إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك ، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء » . والمنمق / 426 . راجع : الأخبار الطوال / 63 ، اليعقوبي : 1 / 165 و 2 / 9 ، الطبقات : 5 / 533 .
12 . تحدثت آمنة عن حملها برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال الصدوق في كمال الدين / 196 : « لما بلغ عبد الله بن عبد المطلب زوجه عبد المطلب آمنة بنت وهب الزهري ، فلما تزوج بها حملت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فروي عنها أنها قالت : لما حملت به لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل ، فرأيت في نومي كأن آت أتاني فقال لي : قد حملت بخير الأنام ، فلما حان وقت الولادة خف علي ذلك حتى وضعته ، وهو يتقي الأرض بيده وركبتيه ، وسمعت قائلاً يقول : وضعت خير البشرفعوذيه بالواحد الصمد من شر كل باغ وحاسد . فولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول يوم الاثنين . فقالت آمنة : لما سقط إلى الأرض اتقى الأرض بيديه
--------------------------- 126 ---------------------------
وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء ، وخرج مني نور أضاء ما بين السماء والأرض .
ورُميت الشياطين بالنجوم وحجبوا عن السماء ، ورأت قريش الشهب والنجوم تسير في السماء ففزعوا لذلك وقالوا : هذا قيام الساعة ، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة فأخبروه بذلك ، وكان شيخاً كبيراً مجرباً فقال : أنظروا إلى هذه النجوم التي تهتدوا بها في البر والبحر ، فإن كانت قد زالت فهو قيام الساعة وإن كانت هذه ثابته فهو لأمر قد حدث .
وأبصرت الشياطين ذلك فاجتمعوا إلى إبليس فأخبروه أنهم قد منعوا من السماء ورموا بالشهب ، فقال : أطلبوا فإن أمراً قد حدث ، فجالوا في الدنيا ورجعوا وقالوا : لم نر شيئاً ، فقال : أنا لهذا ، فخرق ما بين المشرق والمغرب فلما انتهى إلى الحرم وجد الحرم محفوفاً بالملائكة ، فلما أراد أن يدخل صاح به جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : إخسأ يا ملعون ، فجاء من قبل حراء فصار مثل الصَُّرد [ العصفور ] قال : يا جبرئيل ما هذا ؟ قال : هذا نبي قد ولد وهو خير الأنبياء ، قال : هل لي فيه نصيب ؟ قال : لا ، قال : ففي أمته ؟ قال : بلى ، قال : قد رضيت » .
وفي الكافي : 1 / 454 و 8 / 302 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان حيث طَلَقَتْ آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل معها حتى وضعت . لما ولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فُتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام ، فقالت إحداهما للأخرى : هل ترين ما أرى ؟ فقالت : وما ترين ؟ قالت : هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب ! فبينما هما كذلك إذا دخل عليهما أبو طالب فقال لهما : ما لكما من أي شئ تعجبان ؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت ، فقال لها أبو طالب : ألا أبشرك ؟ فقالت : بلى ، فقال : أما إنك ستلدين غلاماً يكون وصي هذا المولود » .
وفي الكافي : 1 / 452 : « إصبري سبتاً أبشرك بمثله إلا النبوة ، وقال : السبت ثلاثون سنة . وكان بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ثلاثون سنة » .
يدل هذا على أن أبا طالب وعبد المطلب يعلمان بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإمامة علي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 127 ---------------------------
13 . وُلِد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الجمعة
قال رواة السلطة إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولد يوم الاثنين ، وقال أهل البيت « عليهم السلام » : وُلِد يوم الجمعة فجراً ، ففي قرب الإسناد / 299 ، عن علي بن جعفر قال : « جاء رجل إلى أخي « موسى بن جعفر ( عليه السلام ) » فقال له : جعلت فداك ، إني أريد الخروج فادع لي . قال : ومتى تخرج ؟ قال : يوم الاثنين . فقال له : ولمَ تخرج يوم الاثنين ؟ قال : أطلب فيه البركة ، لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وُلد يوم الاثنين . فقال : كذبوا ! وُلد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم الجمعة ، وما من يوم أعظم شؤماً من يوم الاثنين ، يوم مات فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانقطع فيه وحي السماء ، وظُلمنا فيه حقنا !
ألا أدلك على يوم سَهْلٍ ألانَ الله تبارك وتعالى لداود فيه الحديد ؟ فقال الرجل : بلى جعلت فداك . قال : أخرج يوم الثلاثاء » .
وفي الحدائق الناضرة : 17 / 423 ملخصاً : « كان مولده بمكة في شعب أبي طالب يوم الجمعة بعد طلوع الفجر ، سابع عشر شهر ربيع الأول عام الفيل ، وهذا هو المشهور بين أصحابنا رضوان الله عليهم . وقيل لاثنتي عشرة مضت من الشهر ، وقيل اليوم العاشر منه ، وقيل الثاني . وبُعث ( صلى الله عليه وآله ) في اليوم السابع والعشرين من رجب ، وله أربعون سنة . وقُبض بالمدينة يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة . ونقل في الدروس قولاً بأنه قبض لاثنتي عشرة من شهر ربيع الأول ، واختاره الكليني . . وذكر جمع من أصحابنا منهم الشيخ في التهذيب والعلامة في المنتهى أنه قبض مسموماً » .
وقال الكليني في الكافي : 1 / 439 : « ولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف ، في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار ، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلي الناس فيه . . .
وتوفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين ، وماتت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو ابن أربع سنين ، ومات عبد المطلب وللنبي ( صلى الله عليه وآله ) نحو ثمان
--------------------------- 128 ---------------------------
سنين ، وتزوج خديجة ، وهو ابن بضع وعشرين سنة » .
« الدار التي اشتراها محمد بن يوسف أخو الحجاج من ورثة عقيل بن أبي طالب بمائة ألف دينار ، ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجداً يصلي فيه الناس ويزورونه ويتبركون به ، وبقي على حالته تلك ، فلما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ومنعوا من زيارته ! على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، وجعلوه مربطاً للدواب » . أعيان الشيعة : 1 / 219 والصحيح : 2 / 68 .
أقول : اسم المكان شعب أبي طالب « رحمه الله » ، أو شعب بني هاشم ، ويسمونه الآن شِعب علي ( عليه السلام ) ، وقد رأيتُه سنة 1961 ميلادية وكان واضح المعالم ، وفي يسار مدخله بيت عبد الله والد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو مكان مولده الشريف ، وكان يومها مكتبة باسم : مكتبة مكة ، ثم أراد مشايخهم هدمه فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين ، فأبقوخالياً إلى يومنا هذا سنة 1438 ، ينتظرون فرصة لهدمه !
ورأيت يومها بيت أبي طالب « رحمه الله » داخل الشعب إلى اليمين ، في مكان مرتفع ، وقد جعلوه مدرسة باسم : مدرسة النجاح ، ثم أزالوه مع البيوت ، وأزالوا أكثر الجبلين اللذين يقع الشعب بينهما .
وفي الجهة الغربية مقابل شعب أبي طالب ، بيت خديجة « عليها السلام » وكان في سوق الليل أو سوق الذهب ، ويسمى : مولد فاطمة الزهراء « عليها السلام » ، وجعلوه مدرسة للبنات ، ثم أزالوه فيما أزالوا ، بل أمعنوا في أذاهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فجعلوه مرافق !
فكأن لهؤلاء الوهابية عداوةً مع آثار النبي وآله الأطهار ( صلى الله عليه وآله ) فهم يبادرون إلى إزالتها حتى لو كانت مساجد أو مملوكة للناس ! لكنهم حافظوا على حصن عدو الإسلام اليهودي كعب بن الأشرف ، الذي حاول اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبقوه بسوره وساحته وبئره ، وغرفه العشرة ، بعهدة بلدية المدينة المنورة ، جنب حديقة البلدية العامة ! وتجد صورته في شبكة النت !
--------------------------- 129 ---------------------------
14 . بعض الآيات الربانية عند ولادته ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 300 » : « لما ولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) جاء رجل من أهل الكتاب « الحاخام يوسف » إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن هشام ، وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية ، وعتبة بن ربيعة ، فقال : أوُلدَ فيكم مولودٌ الليلة ؟ فقالوا : لا ، قال : فولد إذاً بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخزِّ الأدكن ، ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه ، قد أخطاكم والله يا معشر قريش ! فتفرقوا وسألوا فأخبروا أنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام ، فطلبوا الرجل فلقوه فقالوا : إنه قد ولد فينا والله غلام ! قال : قبل أن أقول لكم أو بعدما قلت لكم ؟ قالوا : قبل أن تقول لنا ، قال : فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه ، فانطلقوا حتى أتوا أمه فقالوا : أخرجي ابنك حتى ننظر إليه ، فقالت : إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان ، لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ، ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى ، وسمعت هاتفاً في الجو يقول : لقد ولدته سيد الأمة ، فإذا وضعته فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ، وسميه محمداً ، قال : فأخرجيه ، فأخرجته فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه فخرَّ مغشياً عليه ! فأخذوا الغلام فأدخلوه إلى أمه وقالوا : بارك الله لك فيه . فلما خرجوا أفاق فقالوا له : ما لك ويلك ؟ قال : ذهبت نبوة بني إسرائيل إلى يوم القيامة ، هذا والله من يُبيرهم ! ففرحت قريش بذلك ، فلما رآهم قد فرحوا قال : قد فرحتم ! أما والله ليسطون بكم سطوةً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب » .
وفي أمالي الصدوق / 360 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع ، فلما ولد عيسى ( عليه السلام ) حجب عن ثلاث سماوات . وكان يخترق أربع سماوات ، فلما ولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حجب عن السبع كلها ، ورميت الشياطين بالنجوم ، وقالت قريش : هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه ! وقال عمرو بن أمية ، وكان من أزجر أهل الجاهلية : أنظروا
--------------------------- 130 ---------------------------
هذه النجوم التي يهتدى بها ، ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف ، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شئ ، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها ، فهو أمرحدث !
وأصبحت الأصنام كلها صبيحة مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليس منها صنم إلاوهو منكبٌّ على وجهه ، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى ، وسقطت منه أربعة عشر شرفة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وفاض وادي السماوة ، وخمدت نيران فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ورأى المؤبذان « عالم المجوس » في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً ، قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم ، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه ، وانخرقت عليه دجلة العوراء ، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ، ثم استطار حتى بلغ المشرق ، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح مُنكَّساً ، والملك مُخْرَسّاً لا يتكلم يومه ذلك .
وانتزع عِلْمُ الكهنة وبطل سحر السحرة ، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها ، وعظمت قريش في العرب ، وسموا آل الله عز وجل . قال أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : إنما سموا آل الله عز وجل ، لأنهم في بيت الله الحرام . وقالت آمنة : إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده ، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ، ثم خرج مني نور أضاء له كل شئ ، وسمعت في الضوء قائلاً يقول : إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً ، وأتيَ به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه ، فأخذ فوضعه في حجره ، ثم قال :
الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الأردانِ
قد ساد في المهد على الغلمانِ
ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً .
قال : وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا : ما الذي أفزعك يا سيدنا ؟ فقال لهم : ويلكم ، لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة ، لقد حدث في الأرض حدث عظيمٌ ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم ، فأخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث ، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا : ما وجدنا شيئاً !
--------------------------- 131 ---------------------------
فقال إبليس : أنا لهذا الأمر . ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوفاً بالملائكة ، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع ، ثم صار مثل الصِّر وهو العصفور فدخل من قبل حراء فقال له جبرئيل : وراءك لعنك الله . فقال له : حرف أسألك عنه يا جبرئيل ، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض ؟ فقال له : ولد محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له : هل لي فيه نصيب ؟ قال : لا . قال : ففي أمته ؟ قال : نعم . قال : رضيت » .
وفي دعائم الإسلام : 2 / 142 في قوله تعالى في سورة الجن : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا : « عن علي ( عليه السلام ) قال : كنا مع رسول الله ذات ليلة إذ رمي نجم فاستضاء ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للقوم : ما كنتم تقولون في وقت الجاهلية إذا رأيتم مثل هذا ؟ قالوا : كنا نقول : مات عظيم وولد عظيم ، فقال : فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياة أحد ، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبَّح حملة العرش فقالوا : قضى ربنا بكذا ، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم فيقولون ذلك حتى يبلغ ذلك أهل السماء الدنيا . فتسترق الشياطين السمع ، فربما اعتقلوا شيئاً فأتوا به الكهنة ، فيزيدون وينقصون ، فتخطئ الكهنة وتصيب .
ثم إن الله منع السماء بهذه النجوم فانقطعت الكهانة فلا كهانة ، وتلا قول الله عز وجل : إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ . وقوله جل ثناؤه : وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَداً » .
15 . نَسَبٌ طاهرٌ شامخٌ إلى إبراهيم وآدم ( ( عليهم السلام ) )
في الصحيح : 2 / 63 : « هو أبو القاسم محمد ( صلى الله عليه وآله ) بن عبد الله ، بن عبد المطلب شيبة الحمد ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصي ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن نضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان .
قالوا : إن هذا هو المتفق عليه من نسبه الشريف ، أما ما فوقه ففيه اختلاف
--------------------------- 132 ---------------------------
كثير ، غير أن مما لا شك فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل ( عليه السلام ) .
وروي أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا » .
وفي نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب : 1 / 10 : « أما عمود نسب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فعلى ما ذكره ابن إسحاق في السيرة وتبعه عليه ابن هشام . . . ثم أكمل النسب فقال : بن عدنان ، بن أدد ، بن مقوم ، بن ناحور ، بن تارخ ، بن يعرب ، بن يشجب ، بن نابت ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن تارخ وهو آزر ، بن تاخور بن شارخ ، بن أرغو ، بن فالغ ، بن عابر ، بن شالخ ، بن أرفخشد ، بن سام ، بن نوح ، بن لامك ، بن متوشلخ ، بن أخنوخ وهو إدريس ، بن يرد ، بن مهلائيل ، بن قنين ، بن يافت بن شيث ، بن آدم ( عليه السلام ) . والاتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنان . وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل فيه خلاف كثير » .
وفي شعب الإيمان للبيهقي : 2 / 137 : « نسبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صحيحة إلى عدنان ، وما وراء ذلك فليس فيه شئ يعتمد . . وذلك لاختلاف النسابين في ذلك ، منهم من يزيد ومنهم من ينقص ، ومنهم من يُغَيِّر » .
أقول : اتفق المؤرخون على أسماء أجداد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عدنان ، وهم واحد وعشرون جداً ، ثم ذكروا ثمانية أجداد إلى إبراهيم ( عليه السلام ) ، وسبعاً وعشرين جداً إلى آدم ( عليه السلام ) ، لكن هذا لا يتفق مع المدة التي رووها ، وهي 600 سنة إلى عيسى ( عليه السلام ) ، ثم 1270 سنة إلى موسى ( عليه السلام ) ، ثم 500 سنة إلى إبراهيم ( عليه السلام ) ، خاصة إذا افترضنا لكل ثلاثة آباء قرناً .
وقد بنوا كلامهم وكتبهم على رواية اليهود بأن عمر الأرض سبعة آلاف سنة ! وروى العياشي : 1 / 31 عن الصادق ( عليه السلام ) أن الله أسكن في الأرض الملائكة والجن قبل آدم ، وأنه قدر لآدم عشرة آلاف عام . لكنها ضعيفة لا يعتمد عليها .
وروي عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنه قال لأبي حمزة الثمالي : « أتظن أن الله لم يخلق خلقاً سواكم ؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف آدم ، وألف ألف عالم ، وأنت والله في آخر تلك العوالم » . مشارق أنوار اليقين / 60 .
وأقوال المؤرخين في عمرالإنسان على الأرض كلها ظنونٌ ليس فيها علم ولا اطمئنان ، وكذا قول علماء الطبيعة إن عمرالإنسان على الأرض ملايين السنين .
--------------------------- 133 ---------------------------
ومعنى قوله ( صلى الله عليه وآله ) : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا ، أن ما بأيديكم بعد عدنان غيردقيق ، ولعل معناه أن معلوماتكم عن التاريخ خطأ ، وتصحيحها متشعب ولم يؤمر به النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! راجع الإختصاص / 50 ، البحار : 54 / 86 ، ابن خلدون : 2 ق : 1 / 3 و 298 ، الحاكم : 2 / 598 ، كشف الخفاء : 2 / 314 ، تفسير الرازي : 19 / 179
وقصة الحضارة مجلد : 34 .
16 . رضاع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أمه آمنة ( عليها السلام )
أكثر المؤرخون والمحدثون من الرواية في رضاع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وضاعت الحقيقة لتفاوت مروياتهم ووجود المكذوب فيها . فقالوا : إن أمه لم ترضعه لأنها كانت قليلة اللبن ، أو أرضعته أياماً قليلة ، ثم أرضعته ثويبة أمة أبي لهب أياماً ، ثم جاءت حليمة ! وقصدهم بذلك مدح أبي لهب والطعن في أسرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولذا قالوا : إن المرضعات زهدن فيه لأنه يتيم ، مع أنه جده عبد المطلب رئيس قريش والعرب ، ومطعم الحجيج ، والناس تتنافس للتعامل معه !
والصحيح أن أمه « عليها السلام » أرضعته مدة سنة أو أكثر ، ثم أعطته إلى حليمة لينشأ في باديتهم قرب الطائف ، كما كانت عادة أهل مكة .
قال الشهيد الثاني « رحمه الله » في شرح اللمعة : 5 / 165 والمسالك : 1 / 376 : « قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد ، وارتضعت من بني زهرة » . فافتخر بالرضاع كما افتخر بالنسب ، وهذه القبائل أفصح العرب .
وفي الإختصاص / 187 ، أن أعرابياً سأله : « يا رسول الله من أَدَّبَكَ ؟ قال : الله أدبني وأنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، وربيت في حجرٍ من هوازن » .
ورواه من السنيين : النووي في المجموع : 18 / 227 ، ابن حجر في تلخيص الحبير : 4 / 13 والمهذب في فقه الشافعي للشيرازي : 3 / 145 .
فرضاعه الأول ( صلى الله عليه وآله ) من أمه آمنة بنت وهب « عليها السلام » هو الأصل والمؤثر في شخصيته . ورضاعه الثاني من حليمة تكميلٌ أو إضافة ! فقوله ( صلى الله عليه وآله ) : ارتضعت
--------------------------- 134 ---------------------------
من بني زهرة ، معناه رضاعاً كاملاً عرفاً ، لمدة سنة ونحوها .
وتتعجب من كثرة روايتهم : « أنا أفصح من نطق بالضاد ، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد » . وقلة روايتهم حديث رضاعه من أمه ( صلى الله عليه وآله ) ، وكذلك كثرة روايتهم افتخاره بنشأته في بني سعد ، كالذي رواه الطبراني في الكبير : 6 / 36 : « عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنا النبي لا كذب ، أنا بن عبد المطلب ، أنا أعرب العرب ، ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر ، فأنى يأتيني اللحن » . والسيوطي في الصغير : 1 / 411 والخصائص : 1 / 63 والعجلوني : 1 / 206 وابن قتيبة في المعارف / 132 ، ابن منظور : 3 / 99 والفائق : 1 / 9 و 126 .
والظاهر أنه ( صلى الله عليه وآله ) كرر ذلك في مناسبات عديدة ، ليذعن العرب لنبوته ، ففي معاني الأخبار / 320 : « عن محمد بن إبراهيم التميمي قال : كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنشأت سحابة فقالوا : يا رسول الله هذه سحابة ناشئة . فقال : كيف ترون قواعدها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنها وأشد تمكنها ، قال : كيف ترون بواسقها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنها وأشد تراكمها . قال : كيف ترون جونها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنه وأشد سواده . قال : فكيف ترون رحاها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنها وأشد استدارتها . قال : فكيف ترون برقها أخفواً أم وميضاً أم يشق شقاً ؟ قالوا : يا رسول الله بل يشق شقاً ، فقال رسول الله : الحيا . فقالوا : يا رسول الله ما أفصحك ، وما رأينا الذي هو أفصح منك ! فقال : وما يمنعني من ذلك ، وبلساني نزل القرآن بلسان عربي مبين .
ثم روى الصدوق « رحمه الله » تفسيره عن أبي عبيد قال : « القواعد : هي أصولها المعترضة في آفاق السماء ، وأحسبها تشبه بقواعد البيت وهي حيطانه ، والواحدة قاعدة ، قال الله عز وجل : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ . وأما البواسق ففروعها المستطيلة إلى وسط السماء إلى الأفق الآخر ، وكذلك كل طويل فهو باسق ، قال الله عز وجل : وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ . والجُون هو الأسود اليحمومي وجمعه جُوَن . وأما قوله : فكيف ترون رحاها ، فإن رحاها استدارة السحابة في السماء ولهذا قيل : رحا الحرب ، وهو الموضع الذي يستدار فيه لها ، والخَفْوُ الاعتراض من البرق في نواحي الغيم وفيه لغتان ، ويقال : خفا البرق يخفو خفواً ويخفى خفياً . والوميض : أن يلمع قليلاً
--------------------------- 135 ---------------------------
ثم يسكن ، وليس له اعتراض ، وأما الذي يشق شقاً فاستطالته في الجو إلى وسط السماء ، من غير أن يأخذ يميناً ولا شمالاً . قال مصنف هذا الكتاب : والحيا : المطر » .
17 . نشأته في البادية ورضاعه من حليمة
تناقضت روايتهم في كيفية أخذ حليمة له ومدة إرضاعها إياه ! ولم أجد ما يطمأن اليه في ذلك عن أئمة أهل البيت « عليهم السلام » ، والمؤكد أن عبد المطلب « رحمه الله » سلمه إلى زوجها الحارث السعدي ، فأخذه إلى منازلهم في بادية الطائف ، وأرضعته حليمة مدة من الزمن ، وأعادته إلى جده فأكرمهم .
ومن المقولات الكاذبة قولهم إنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يتيماً فزهدت فيه المرضعات ، مع أنه حفيد عبد المطلب زعيم العرب ! وكذلك قولهم إن ثويبة أو ثويبية مولاة أبي لهب أرضعته ( صلى الله عليه وآله ) ! وغرضهم تخفيف العذاب عن أبي لهب « البخاري : 6 / 125 » لأنه حليف أعداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين حكموا من بعده !
وقال الكراجكي « رحمه الله » في كنز الفوائد / 72 : « وشرف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعه وخصها بتربيته ، وكانت ذات عقل وفضل ، فروت من آياته ما يبهر عقول السامعين ، وأغناها الله ببركته في الدنيا والدين ، وكان لا يرضع إلا من ثديها اليمين . قال ابن عباس : ألهم العدل حتى في رضاعه ، لأنه علم أن له شريكاً ، فناصفه عدلاً منه ( صلى الله عليه وآله ) ! قالت حليمة : ولم أر قط ما يُرى للأطفال ، طهارةً ونظافةً ، وإنما كان له وقت واحد ثم لا يعود إلى وقته من الغد ، وما كان شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً ، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه . . وكان بنوسعيد يرون البركات بمقامه معهم وسكناه بينهم ، حتى أنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ليمسها بيده ، فيزول ما بها وتعود إلى أحسن حالها ! ولم يزل كذلك إلى أن ردته حليمة إلى أهله ، فاشتمل عليه جده عبد المطلب يحبوه التُّحف ويمنحه الطُّرف ، ويعد قريشاً به ويخبرهم بما يكون من حاله ، إلى أن دنت وفاته فوضعه في حجر أبي طالب وأوصاه به ،
--------------------------- 136 ---------------------------
وأمره بحياطته ورعايته ، وعرفه ما يكون من أمره » .
وفي المناقب : 1 / 32 : « وروي عن حليمة أنه جلس محمد وهو ابن ثلاثة أشهر ، ولعب مع الصبيان وهو ابن تسعة ، وطلب مني أن يسير مع الغنم يرعى وهو ابن عشرة ، وناضل الغلمان بالنبل وهو ابن خمسة عشر ، وصارع الغلمان وهو ابن ثلاثين « شهراً » ثم رددته إلى جده » .
وحديث المناقب الآنف إنها أعادته وعمره ثلاثون شهراً أي سنتين ونصفاً . قريب من قول ابن الجوزي في عيون التاريخ : 1 / 18 : « ثم أرضعته حليمة بنت عبد الله السعدية ، وردته إلى أمه بعد سنتين وشهرين » .
لكن في رواية العدد القوية / 122 والمناقب : 1 / 149 عن كتاب العروس وتاريخ الطبري : « ثم أرضعته حليمة السعدية ، فلبث فيهم خمس سنين » .
وفي صفوة الصفوة / 27 : « وقال ابن قتيبة : لبث فيهم خمس سنين . . فكان عند أمه آمنة إلى أن بلغ ست سنين ، ثم خرجت به إلى المدينة إلى أخواله بني عدي بن النجار تزورهم به ومعها أم أيمن تحضنه فأقامت به عندهم شهراً ، ثم رجعت به إلى مكة ، فتوفيت بالأبواء ، فقبرها هنالك » .
وفي تاريخ الذهبي : 1 / 46 : « ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وأخذته معها إلى أرضها ، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين ، ثم ردته إلى أمه » .
وروى ابن سعد أنها جاءت به بعد أربع سنين لما جاء الملكان وشقا صدره ، ثم عادت به فبقي سنة ! لكن خبر شق الصدر عندنا مكذوب . والمرجح عندنا : أن أمه ( صلى الله عليه وآله ) أرضعته سنة أو نحوها ، ثم أخذته حليمة السعدية فبقي عندها في بني سعد نحو أربع سنين . ويحتمل أن تكون حليمة في مدة وجوده عندها ، تأتي به إلى أمه فيبقى أياماً أو شهراً ، ثم تأخذه ، لأن مكان حليمة قرب الطائف وهو على بعد يومين أو أقل من مكة ، وهذه مسافة قريبة يومها .
--------------------------- 137 ---------------------------
18 . وفاؤه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لحليمة وأولادها
رويَ أن حليمة السعدية توفيت قبل هجرته ( صلى الله عليه وآله ) فبكى لها .
وفي الكافي : 2 / 161 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتته أخت له من الرضاعة ، فلما نظر إليها سُرَّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها ، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها ، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها ، فقيل له يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل ؟ فقال : لأنها كانت أبرُّ بوالديها منه » .
وفي جواهر العقود : 2 / 161 : « روي أن وفد هوازن قدموا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكلموه في سبي أوطاس : فقال رجل من بني سعد : يا محمد ، إنا لو كنا ملَّحْنَا للحارث بن
أبي شمر « أي أرضعنا لملك الشام » أو للنعمان بن المنذر « ملك الحيرة » ثم نزل منزلك هذا منا لحفظ ذلك لنا ، وأنت خير المكفولين فاحفظ ذلك . وإنما قالوا له ذلك لأن حليمة التي أرضعت النبي كانت من بني سعد » .
وفي البحار : 22 / 262 : « لم يكن لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قرابة من جهة أمه إلا من الرضاعة فإن أمه آمنة بنت وهب لم يكن لها أخ ولا أخت . إلا أن بني زهرة يقولون : نحن أخواله لأن آمنة منهم ، ولم يكن لأبويه عبد الله وآمنة ولد غيره . . وكان له خالةٌ من الرضاعة يقال لها سلمى ، وهي أخت حليمة بنت أبي ذؤيب ، وله أخوان من الرضاعة عبد الله بن الحارث وأنيسة بن الحارث ، أبوهما الحارث بن عبد العزى بن سعد بن بكر بن هوزان » .
وسمتها الرواية الشيماء ، وسماها في الفضائل / 87 : حُرَّة ، وروى قصتها مع الحجاج ، قال : « لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي فمثلت بين يديه قال لها : الله جاء بك ، فقد قيل عنك إنك تفضلين علياً على أبي بكر وعمر وعثمان ؟ ! فقالت : لقد كذب الذي قال إني أفضله على هؤلاء خاصة ؟ قال : وعلى من غير هؤلاء ؟ قالت : أفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وعلى موسى وداود وسليمان وعيسى بن مريم ! فقال لها : ويلك أقول
--------------------------- 138 ---------------------------
لك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة من الأنبياء من أولي العزم من الرسل ؟ إن لم تأت ببيان ما قلت وإلا ضربت عنقك ! فقالت : ما أنا مفضلته على هؤلاء الأنبياء ، ولكن الله عز وجل فضله عليهم في القرآن . . الخ . » .
أقول : لعل هذه ابنة الشيماء أخت النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الرضاعة ، فلو كانت نفسها لكان عمرها في زمن الحجاج أكثر من مئة سنة !
هذا ، وقد رووا كثيراً من معجزاته ( صلى الله عليه وآله ) في رضاعه ونشأته في بني سعد ، وبعضها مقبول ، وأكثرها مرسل ، وبعضها مردود ، كحديث شق الصدر .
19 . زيارة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبري والديه عبد الله وآمنة ( ( صلى الله عليه وآله ) )
كان قبر عبد الله والد نبينا ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة المنورة مزاراً إلى الأمس ، بناه المسلمون من قديم وآخرهم سلاطين مصر والدولة العثمانية ، وقد زرته في سنة 1964 وسنة 1965 ميلادية ، وكان بيتاً داخل سوق المدينة غربي المسجد ، وكانت واجهة بابه الخارجي وعتبته أحجاراً ، نقشت عليها كتيبة بالعربية والتركية . وقد أقفله مشايخ الوهابية يومها مقدمة لهدمه !
أما الآن فأزالوه ودخل مكانه في توسعة ساحة المسجد النبوي ، ولم يبق له أثر !
كما أن قبر والدته آمنة « عليها السلام » في الأبواء في طريق مكة ، كان مزاراً للأوفياء لنبيهم وأسرته ( صلى الله عليه وآله ) ، ويعرف مكانه اليوم باسم « الخريبة » في منطقة الفرع .
قال في مراصد الاطلاع : 1 / 19 : « الأبواء : قرية من أعمال الفرع من المدينة ، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً . وبالأبواء قبر آمنة أم النبي » .
وقد أفتى فقهاؤنا باستحباب زيارة قبروالديه ( صلى الله عليه وآله ) وهذا نص زيارة أمه آمنة « عليها السلام » :
« السلام عليك أيتها الطاهرة المطهرة ، السلام عليك يا من خصها الله بأعلى الشرف ، السلام عليك يا من سطع من جبينها نور سيد الأنبياء فأضاءت به الأرض والسماء . السلام عليك يا من نزلت لأجلها الملائكة وضربت لها حجب الجنة .
السلام عليك يا من نزلت لخدمتها الحور العين وسقنها من شراب الجنة وبشرنها
--------------------------- 139 ---------------------------
بولادة خير الأنبياء . السلام عليك يا أم رسول الله ، السلام عليك يا أم حبيب الله . فهنيئاً لك بما آتاك الله من فضله ، والسلام عليك وعلى رسول الله
ورحمة الله وبركاته » .
وشذ الوهابية عن كافة المسلمين فحرموا زيارة قبر أم النبي « عليها السلام » وعاقبوا من زاره !
ثم طغوا وفجَّروا القبر بالديناميت !
وكتب عبد الحسين البصري في شبكة الموسوعة الشيعية : 28 / 3 / 2000 موضوعاً بعنوان « ديناميت السلفية » ! قال فيه :
« للتاريخ فقط ، ولتبقى صفحة سوداء في وجة خوارج العصر ، نؤرخ لحدث وقع أصاب كبد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ألا وهو تفجير قبر آمنه بنت وهب أم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، الواقع في الأبواء وذلك في الثامن من مارس سنة 2000 ميلادي !
ألا لعنة الله على القوم الظالمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » .
ثم كتب في رد مزاعم الوهابيين بأن زيارة قبر آمنة « عليها السلام » شرك بالله تعالى !
20 . ظلم المسلمين لنبيهم في والديه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال الحموي في معجم البلدان : 1 / 79 : « وبالأبواء قبر آمنة بنت وهب أم النبي وكان السبب في دفنها هناك أن عبد الله والد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمراً فمات بالمدينة ، فكانت زوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره ، فلما أتى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما صارت بالأبواء منصرفةً إلى مكة ماتت بها ، ويقال إن أبا طالب زار أخواله بني النجار بالمدينة ، وحمل معه آمنة أم رسول الله ، فلما رجع منصرفاً إلى مكة ، ماتت آمنة بالأبواء » .
وقال ابن سعد : 1 / 116 : « فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً . فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك : لما نظر إلى أطَمِ بني عدي
--------------------------- 140 ---------------------------
بن النجار عرفه وقال : كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم ، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه . ونظر إلى الدار فقال : هاهنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب ، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار .
وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه ، فقالت أم أيمن : فسمعت أحدهم يقول هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته ، فوعيت ذلك كله من كلامه ،
ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك ، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة ، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت . فلما مرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عمرة الحديبية بالأبواء قال : إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ، فأتاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأصلحه وبكى عنده ، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
أقول : زعم أتباع مذاهب الخلافة أن والدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) كافرة وأنها في جهنم ! وزعموا أنه استأذن ربه في زيارة قبرها وهو في طريقه إلى الحديبية فأذن له ، فبكى وأجهش بالبكاء طويلاً وأبكى المسلمين معه ، لكنه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له ، وأبقاها في نار جهنم والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يرى عذابها !
ففي شرح مسند أبي حنيفة للقاري / 335 : « فمكث طويلاً ثم اشتد بكاؤه حتى ظننا أنه لا يسكن . . قال : استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، فاستأذنته في الشفاعة فأبى ! فبكيت رحمة لها » !
وفي تفسير الطبري : 11 / 58 : « وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ » !
وفي السيرة الحلبية : 1 / 173 : « وفي رواية إن جبريل ضرب في صدره قال :
لا تستغفر لمن مات مشركاً ، فما رؤى باكياً أكثر منه يومئذ » !
وقال محمد ناصر الألباني في أحكام الجنائز / 187 : « عن أبي هريرة قال :
--------------------------- 141 ---------------------------
زار النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي » ! وصحيح مسلم : 3 / 65 وأبو داود : 2 / 72 .
وهكذا صوروا الرحمن الرحيم عز وجل خشناً قاسياً ، لا يرحم عواطف نبيه الإنسانية تجاه والدته ، ولا يعبأ ببكائه وحرقته عليها ، ولايسمح له أن يقول : اللهم اغفر لها ! فالمهم عندهم أن يكون آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأمهاته في النار ! حتى لا يكونوا مؤمنين فيرثوا إسماعيل ( عليه السلام ) وتكون الخلافة في عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ومن تناقضهم أنهم كذبوا أنفسهم ، فرووا أن هذه الآية نزلت قبل الحديبية وأن سبب نزولها غير هذا ! ثم كذبوا أنفسهم في موضع آخر فرووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) شفع لعمه أبي طالب فنقله من قعر جهنم إلى ضحضاحها ! صحيح بخاري : 4 / 247 !
ثم كذبوا أنفسهم فرووا في قوله تعالى : فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ « قال ( صلى الله عليه وآله ) : أجورهم : يدخلهم الجنة ، ويزيدهم من فضله : الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ، ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا » . الدر المنثور : 2 / 249 .
وروى ابن ماجة : 2 / 1215 : « يُصَفُّ الناس يوم القيامة صفوفاً فَيَمُرُّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول : يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة ؟ قال : فيشفع له . ويمر الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهوراً ؟ فيشفع له » !
فتراهم عندما يصلون إلى والدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأجداده وعمه أبي طالب « عليهم السلام » يضيقون رحمة الله وشفاعة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) حتى لا تشملهم ، ويقلدون اليهود فينسبون إلى الله تعالى الشدة والقسوة على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) !
والسبب : أنهم بحاجة إلى تكفير أسرته ، ليرثوا سلطانه ، ويبعدوا عترته « عليهم السلام » !
21 . أم أيمن حاضنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخادمة فاطمة ( عليها السلام )
1 . كانت أم أيمن حاضنة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ورثها من أبيه فأعتقها : « وورث خمسة أجمال أوارك « يرعون الأراك » وقطيعة غنم ، وسيفاً مأثوراً « تاريخياً » وورِقاً « نقداً » . « المناقب : 1 / 147 والطبقات : 1 / 100 » . « كان اسمها بركة ، فأعتقها وزَوَّجها
--------------------------- 142 ---------------------------
عبيد الخزرجي بمكة ، فولدت له أيمن فمات زوجها فزوجها النبي ( صلى الله عليه وآله ) من زيد ، فولدت له أسامة ، أسود يشبهها ، فأسامة وأيمن أخَوَان لأم » . البحار : 22 / 263 .
كانت جارية سوداء نوبية « كتاب سليم / 389 » « فلما ولدت آمنة النبي بعدما توفي أبوه ، حضنته أم أيمن حتى كبر ، ثم أعتقها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم أنكحها زيد بن حارثة . توفيت بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخمسة أشهر » . قاموس الرجال : 12 / 193 .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة ، فليتزوج أم أيمن ، فتزوجها زيد بن حارثة ، فولدت له أسامة بن زيد » . الطبقات : 8 / 224 .
وكانت أم أيمن تخطئ في العربية : « قالت يوم حنين : سبت الله أقدامكم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان » . الطبقات : 8 / 225 .
2 . لما توفيت آمنة والدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعها من المدينة : « فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة ، وكانت تحضنه مع أمه ، ثم بعد أن ماتت » . الطبقات : 1 / 116 .
3 . في الطبقات : 1 / 117 وتاريخ دمشق : 3 / 85 : « قال عبد المطلب لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله : يا بركة لا تغفلي عن ابني ، فإني وجدته مع غلمان قريباً من السدرة ، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة .
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا قال : عليَّ بابني فيؤتى به إليه ، فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحياطته » .
4 . قالت أم أيمن عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ما رأيته شكى ، صغيراً ولا كبيراً ، جوعاً ولا عطشاً ! كان يغدو فيشرب من زمزم ، فأعرض عليه الغداء فيقول : لا أريده أنا شبعان » . « الطبقات : 1 / 168 » . وقالت : « رأيته وهو ابن ثمان سنين يبكي خلف سرير عبد المطلب ، حتى دفن بالحجون » . الطبقات : 1 / 119 والبحار : 15 / 162 .
5 . كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول لها : يا أُمَّهْ ، ويزورها في بيتها . « الطبقات : 8 / 223 » . ويثق بها ، فقد وضع عندها أمانات الناس : « فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن ، وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يردها » . الحدائق الناضرة : 21 / 433 .
--------------------------- 143 ---------------------------
6 . وكذبوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه كان يبول في إناء فشربت أم أيمن بوله ، قالوا أنه بال ذات مرة في قدح وكان تحت سريره ، قالت أم أيمن : « فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر ، فلما أصبح النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة . قلت : قد والله شربت ما فيها ! قال فضحك النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : لن تشتكي بطنك » . نيل الأوطار : 1 / 106 والمناقب : 1 / 108 .
وضعفه في مجمع الزوائد لكنه صحح مثله : 8 / 270 : « كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره فقام فطلبه فلم يجده فسأل فقال أين القدح قالوا شربته سُرَّة خادم أم سلمة ، التي قدمت معها من أرض الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد احتظرت من النار بحظار » .
وجوَّز ذلك الشافعي وغيره وحكموا بطهارة بول النبي ( صلى الله عليه وآله ) . المعتبر : 1 / 410 .
وروي أن أم أيمن : « ما مرضت حتى كان مرضها الذي ماتت فيه » . نيل الأوطار : 1 / 106 .
لكنها رواية مكذوبة ولعلها من أجل تبرير عمل بعضهم ! « راجع مسند الجعد / 41 » . لأن بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان فيه كنيف ، وفيه بيت للنار وللتنور ، أي مطبخ . وفيه غرفة كبيرة يستقبل فيها الناس تفتح على المسجد ، وفيه غرفة لابنته فاطمة « عليها السلام » ، وغرفة للخادم . قال علي ( عليه السلام ) « النوادر / 200 و 227 » : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا أراد أن يتنخع وبين يديه ناس ، غطى رأسه ثم دفنه ، وإذا أراد أن يبزق فعل مثل ذلك ، وكان إذا أراد الكنيف غطى رأسه » .
وقال ( عليه السلام ) : « علمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا دخلت الكنيف أن أقول : اللهم إني أعوذ بك من الخبيث والخبائث المخبث ، النجس الرجس الشيطان الرجيم » .
فقد كانت الكُنف منشرة ، ولهذا نردُّ حديث أنه كان يبول في إناء من فخار أو عيدان ، وأن فلانة أو فلانة شربت بوله ( صلى الله عليه وآله ) .
وكذا نردُّ حديث عائشة الذي يزعم أن بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان مدة بلا كنيف ! قالت : « البخاري : 3 / 155 » : « فخرجت أنا وأم مسطح قِبَل المناصع متبرزنا ، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر
--------------------------- 144 ---------------------------
العرب الأول في البرية » . فهذا يصح في بيت أبيها ، وليس في بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
روى البيهقي : 1 / 93 : « عن ابن عمر : دخلت بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مستقبل القبلة » . وقد توهم عبد الله في جهته .
ولهذا لا يصح ما رواه البخاري : 1 / 45 : « إن أزواج النبي كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح ، فكان عمر يقول للنبي أجب نساءك ، فلم يكن رسول الله يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة ، حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب » .
فهو موضوع لإثبات أن آية حجب نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) نزلت بطلب عمر : « وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ » .
7 . وهاجرت أم أيمن مع ابنها أيمن وصغيرها أسامة ، فقد واعدهم عليٌّ ( عليه السلام ) : « أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد ، إلى ذي طوى » فوافوه هناك ، ومعهم عدد من مستضعفي المسلمين . أمالي الطوسي / 469 وسبل الهدى : 3 / 267 .
8 . وكانت تعيش في المدينة مع زوجها زيد وتساعد الزهراء « عليها السلام » في عمل البيت ، ففي أمالي الطوسي / 669 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « زارنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد أهدت لنا أم أيمن لبناً وزبداً وتمراً ، فقدمناه فأكل منه ثم قام النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى زاوية البيت فصلى ركعات ، فلما كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً ، فلم يسأله أحد منا إجلالاً له ، فقام الحسين ( عليه السلام ) فقعد في حجره وقال له : يا أبت لقد دخلت بيتنا فما سررنا بشئ كسرورنا بدخولك ، ثم بكيت بكاء غمنا فلمَ بكيت ؟ فقال : يا بني أتاني جبرئيل آنفاً فأخبرني أنكم قتلى ، وأن مصارعكم شتى ! فقال : يا أبت فما لمن يزور قبورنا على تشتتها ؟ فقال : يا بني ، أولئك طوائف من أمتي يزورونكم يلتمسون بذلك البركة ، وحقيق عليَّ أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم ، ويسكنهم الله الجنة » .
9 . لما تزوجت فاطمة « عليها السلام » أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم أيمن فكانت تساعدها ، وروت عدة أحاديث في سيرتها ، وسيرة العترة الطاهرة « عليهم السلام » .
--------------------------- 145 ---------------------------
منها : عن ولادة الحسين ( عليه السلام ) وفضل تربته وأنها من بطحاء الجنة ، وأنها أطهر بقاع الأرض ، وأعظمها حرمة . السجود على الأرض للأحمدي / 140 والبحار : 98 / 114 .
ومنها : معجزة الرحى : وقد رواها الجميع وأن الزهراء « عليها السلام » شكت إلى أبيها ( صلى الله عليه وآله ) ما تلقى من الرحى . « المجموع 19 / 374 وشرح مغني ابن قدامة 8 / 146 » . وقالت : « مضيت ذات يوم إلى منزل سيدتي ومولاتي فاطمة لأزورها في منزلها وكان يوما حاراً من أيام الصيف ، فأتيت إلى باب دارها وإذا أنا بالباب مغلق ، فنظرت من شق الباب وإذا بفاطمة نائمة عند الرحى ورأيت الرحى تدور وتطحن البر ، وهي تدور من غير يد تديرها ، والمهد أيضاً إلى جنبها والحسين نائم فيه والمهد يهتز ولم أر من يهزه ! ورأيت كفاً تسبح لله قريباً من كف فاطمة . قالت أم أيمن : فتعجبت من ذلك فتركتها ومضيت إلى سيدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقلت : يا رسول الله إني رأيت اليوم عجباً ما رأيت مثله أبداً . فقال لي : ما رأيت يا أم أيمن ؟ فقلت : إني قصدت منزل فاطمة فلقيت الباب مغلقاً فإذا أنا بالرحى تطحن البر وهي تدور من غير يد ، ورأيت مهد الحسين يهتز من غير يد تهزه ورأيت كفاً يسبح لله قريباً من كف فاطمة ! فقال : يا أم أيمن اعلمي أن فاطمة صائمة ، وهي متعبة والزمان قيض ، فألقى الله عليها النعاس فنامت ، فسبحان من لا ينام ، فوكل الله ملكاً يطحن عنها قوت عيالها وأرسل ملكاً آخر ، يهز مهد ولدها الحسين لئلا يزعجها عن نومها ، ووكل الله تعالى ملكا آخر يسبح الله عز وجل قريباً من كف فاطمة ثواب تسبيحه لها ، لأن فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عز وجل فإذا نامت جعل الله ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة » . مدينة المعاجز : 4 / 47 .
10 . أكرم الله أم أيمن ببركة الزهراء « عليها السلام » : « خرجت إلى مكة لما توفيت فاطمة قالت : لا أرى المدينة بعدها ! فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها ، فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت : يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك ؟ قال : فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت » . المناقب : 1 / 116 .
11 . كانت طيبة بسيطة وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنها من أهل الجنة ، وكانت تعرف
--------------------------- 146 ---------------------------
إمامة علي ( عليه السلام ) ولا تعرف إمامة بقية الأئمة « عليهم السلام » .
وقد سألها النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوماً عن علي ( عليه السلام ) : « أثَم أخي ؟ قالت : وكيف يكون أخوك وقد أنكحته ابنتك ؟ قال : فإنه كذلك » . الطبقات : 8 / 23 .
وفي الكافي : 2 / 405 : « عن إسماعيل الجعفي قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله ؟ فقال : الدين واسع ، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم ! قلت : جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه ؟ فقال : بلى ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ، ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم . فقال : ما جهلت شيئاً ، هو والله الذي نحن عليه . قلت : فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر ؟ فقال : لا إلا المستضعفين . قلت : من هم ؟ قال : نساؤكم وأولادكم ، ثم قال : أرأيت أم أيمن ، فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه » .
يعني كانت قاصرة الذهن أو شبه قاصرة عن إدراك منظومة الأئمة « عليهم السلام » بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومع ذلك فهي من أهل الجنة لأن الله تعالى يطلب من الشخص قدر ما آتاه من الإدراك والتعقل : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا .
12 . أمَّرَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مرض وفاته أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم الذين قتلوا أباه زيداً . وكان أسامة في السابعة عشرة من عمره « الفصول للجصاص 1 / 159 » وأمره النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمسير ولعن من تخلف عنه ، وكان ذلك : « لأربع ليال بقين من صفر سنة 11 من الهجرة وعسكر بالجرف . فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين والأنصار إلا اشتد لذلك وتهيأ للخروج ، منهم أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص » . المراجعات / 368 مستدرك سفينة البحار : 5 / 36 و 209 .
وقال ابن حجر في فتح الباري : 8 / 115 ، وهو من كبار أئمة السلطة : « وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبو بكر وعمر في بعث أسامة ، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي ، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد ، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه : بدأ برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجعه
--------------------------- 147 ---------------------------
يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال : أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك ، فقد وليتك هذا الجيش . فذكر القصة وفيها : لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر . . وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش » .
وكان هدف النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يخلي المدينة لعلي ( عليه السلام ) ويبعد عنها الطامعين في خلافته وقد عملوا للتأثير على أم أيمن ، فطلبت من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يؤخر إرسال أسامة لأنه قلق عليه فلم يقبل ( صلى الله عليه وآله ) وأكد أمره له بالمسير بالجيش .
ثم أشاعوا اعتراضهم على تأمير أسامة على شيوخ قريش والأنصار ، وهو شاب أسود ابن سبع عشرة سنة ! فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وخرج وهو مريض وصعد المنبر ومدح أسامة وأمره بالحركة ، ولعن من تخلف عنه !
فتحرك أسامة فعاد القرشيون إلى أم أيمن ، فأرسلت إلى ولدها أن لا يتحرك بجيشه لأن حال النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد ثقلت ! فاستغلوا بساطتها رحمها الله .
13 . لكنها عندما توفي النبي ( صلى الله عليه وآله ) استنكرت مسارعتهم إلى السقيفة وبيعتهم أبا بكر ، فجاءت إليهم وقالت : « يا أبا بكر ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد ! فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد » . كتاب سُليم / 157 و 389 .
14 . عندما صادروا تركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، واحتجت الزهراء « عليها السلام » على أبي بكر ، طلب منها شهوداً . قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « فجاءت فاطمة « عليها السلام » إلى أبي بكر ، فقالت يا أبا بكر منعتني عن ميراثي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأمر الله . فقال لها هاتي على ذلك شهوداً ، فجاءت بأم أيمن فقالت : لا أشهد حتى أحتج يا أبا بكر عليك بما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالت : أنشدك الله ألست تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن أم أيمن من أهل الجنة ؟ قال بلى . قالت : فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وَآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه ، فجعل فدك لفاطمة بأمر الله . وجاء علي ( عليه السلام ) فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتاباً بفدك ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟
--------------------------- 148 ---------------------------
فقال أبو بكر : إن فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبت لها بفدك ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه » . تفسير القمي : 2 / 155 ونحوه العياشي : 2 / 278 .
15 . كانت أم أيمن ثقة الزهراء « عليها السلام » قال الصادق ( عليه السلام ) : « لما نعي إلى فاطمة نفسها أرسلت إلى أم أيمن وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها » . علل الشرائع : 1 / 187 .
16 . « اشترى عبد المطلب أم أيمن من جيش أبرهة ، وتوفيت بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشهورقليلة فتح الباري : 7 / 70 وكانت في السبعينات . لكن رواة الخلافة أخروا وفاتها عشر سنين ليقولوا إنها رضيت على أبي بكر وعمر ومدحته وقالت يوم قتل : اليوم وَهَى الإسلام » . تاريخ البخاري الصغير : 1 / 88 وتاريخ دمشق : 4 / 302 .
17 . أيمن بن عبيد أفضل من أخيه أسامة بن زيد ، فقد استشهد أيمن دفاعاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حنين لما فرَّ عنه المسلمون ، وهاجمه عوف بن مالك زعيم هوازن ليقتله : فاعترضه أيمن : « فالتقيا فقتله مالك » . ولم يصل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . المناقب : 1 / 181 ، تاريخ دمشق : 4 / 257 ، ذخائر العقبى / 198 وكبير الطبراني : 1 / 288 .
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 140 ونحوه الإستيعاب : 2 / 813 : « فلم يبق منهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا عشرة أنفس ، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن « رحمه الله » وثبت تسعة النفر الهاشميون ، حتى ثاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كان انهزم . وقال العباس بن عبد المطلب في هذا المقام :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة * وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه * على القوم أخرى يا بني ليرجعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه * لما ناله في الله لا يتوجع
يعني به أيمن بن أم أيمن » .
18 . أما أسامة بن زيد ابن أم أيمن فعاش في كنف النبي وعترته ( صلى الله عليه وآله ) . وكان أسود قوي البنية وقد أمَّرَه النبي ( صلى الله عليه وآله ) على سرية ، ثم أمَّره في مرض وفاته على جيش من ثلاثة آلاف مقاتل ، وكان في الثامنة عشرة أو السابعة عشرة . وعاد من معسكره في الجرف بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يبايع أبا بكر حتى بايع علي ( عليه السلام ) . وتوفي أسامة زمن معاوية سنة 54 هجرية .
- *
--------------------------- 149 ---------------------------
الفصل السابع
في كفالة جده الحنون ، وبيت عمه الحنون « عليهم السلام »
1 . في كفالة جده الحنون عبد المطلب
في الكافي : 1 / 448 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كان عبد المطلب يُفرش له بفناء الكعبة ، لا يُفرش لأحد غيره ، وكان له وُلْدٌ يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه ، فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه ، فقال له عبد المطلب : دع ابني فإن المُلك قد أتاه » !
وفي رواية كمال الدين / 171 ، عن ابن عباس ، قال : « دعوا ابني فوالله إن له لشأناً عظيماً ، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم ، إني أرى غرته غرة تسود الناس ، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول : ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط ، ولا جسداً ألين منه ، ولا أطيب منه . ثم يلتفت إلى أبي طالب وذلك أن عبد الله وأبا طالب لأم واحدة ، فيقول : يا أبا طالب إن لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به ، فإنه فردٌ وحيدٌ ، وكن له كالأم ، لا يوصل إليه بشئ يكرهه ، ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعاً .
وكانت هذه حاله حتى أدركت عبد المطلب الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب ، ومحمد على صدره وهو في غمرات الموت ، وهو يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب أنظر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ، ولا ذاق شفقة أمه ، أنظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك ، فإني قد تركت بنيَّ كلهم وأوصيتك به ، لأنك من أم
--------------------------- 150 ---------------------------
أبيه . يا أبا طالب إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس وأعلم الناس به ، فإن استطعت أن تتبعه فافعل ، وانصره بلسانك ويدك ومالك ، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي . يا أبا طالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ، ولا أمه على حال أمه ، فاحفظه لوحدته ، هل قبلت وصيتي فيه ؟
فقال : نعم قد قبلت واللهُ عليَّ بذلك شهيد ، فقال عبد المطلب : فمدَّ يدك إليَّ فمد يده إليه فضرب يده على يده ثم قال عبد المطلب : الآن خفَّ عليَّ الموت !
ثم لم يزل يقبله ويقول : أشهد أني لم أقبل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ، ولا أحس وجهاً منك ، ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه !
فمات عبد المطلب وهو ( صلى الله عليه وآله ) ابن ثمان سنين ، فضمه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه لا يأتمن عليه أحداً » !
قال اليعقوبي : 2 / 12 ، « أوصى لأبي طالب برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبزمزم ، وقال له :
وصيك يا عبد مناف بعدي * بمفرد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد * فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد * فأنت من أرجى بَنِيَّ عندي
لدفع ضيم أو لشد عقد
وتوفي عبد المطلب ولرسول الله ثماني سنين ، ولعبد المطلب مائة وعشرون سنة وقيل مائة وأربعون سنة ، وأعظمت قريش موته ، وغُسل بالماء والسدر ، وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر ، ولُفَّ في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب ، وطرح عليه المسك حتى سترهُ ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام ، إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب !
واحتبى « جلس » ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبد المطلب ، واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية ، والوليد بن ربيعة المخزومي ، فادعى كل واحد الرئاسة » .
--------------------------- 151 ---------------------------
2 . استسقى به جده عبد المطلب فسقاهم الله تعالى
قال اليعقوبي : 2 / 12 : « كان أصحاب الكتاب لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد ، فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب ، فقال : أما والله لئن نَفَستني قريش الماء ، يعني ماءً سقاه الله من زمزم ، وذي الهرم « بئر » لتنفسني غداً الشرف العظيم ، والبناء الكريم ، والعز الباقي ، والسناء العالي ، إلى آخر الدهر ويوم الحشر ! وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع ففزعوا وقالوا : قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى ، فادع الله أن يسقينا ، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة : معشر قريش إن النبي الأمي منكم ، وهذا أوان تَوَكُّفه ، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سنٌّ يدعو إليه وشرفٌ يعظم عليه ، فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن ، وليدع الرجل وليؤمِّن القوم ، فخصبتم ما شئتم إذن وغُثتم !
فلم يبق أحد بمكة إلا قال : هذا شيبة الحمد ، هذا شيبة الحمد ! فخرج عبد المطلب ومعه رسول الله وهو يومئذ مشدود الإزار ، فقال عبد المطلب : اللهم سادَّ الخَلة ، وكاشف الكُربة ، أنت عالمٌ غير مُعلم ، مسؤولٌ غير مُبَخَّل ، وهؤلاء عُبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك ، يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع ، وأذهبت الزرع ، فاسمعنَّ اللهم ، وأمطرنَّ غيثاً مَريعاً مغدقاً . فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها ، وكظ الوادي بثجه » ، وفي ذلك يقول بعض قريش :
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا * وقد فقدنا الكرى واجلوَّذَ المطر
مناً من الله بالميمون طائرُهُ * وخيرِ من بُشرت يوماً به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به * ما في الأنام له عدلٌ ولا خَطَر
وقد اشتهرت رواية رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم ، وفيها : « قام فاعتضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه ، وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب ، ثم قال . . . فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء
--------------------------- 152 ---------------------------
بمائها . . . فسمعت شِيخان قريش وجلتها : عبد الله بن جدعان ، وحرب بن أمية ، وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب : هنيئاً لك سيد البطحاء » ! الدعاء للطبراني / 606 ، معجمه الكبير : 24 / 260 ، مجمع الزوائد : 2 / 214 ، شرح النهج : 7 / 271 وغيرها .
ومعنى : قد أيفع أو كرب : أنه كان صبياً يافعاً قارب البلوغ ، فكان يبدو كبير السن للناظر ، وإن كان سنه أصغر من ذلك ( صلى الله عليه وآله ) .
وكان جده يعتمد عليه في المهمات ! ففي الكافي : 1 / 447 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان عبد المطلب أرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رعاته في إبل قد ندَّت له ليجمعها فأبطأ عليه ، فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول : يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمرٌ ما بدا لك ! فجاء رسول الله بالإبل ، وقد وجه عبد المطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه . . ولما رأى رسول الله أخذه فقبله وقال : يا بني لاوجهتك بعد هذا في شئ ، فإني أخاف أن تُغتال فتقتل » .
وقال اليعقوبي : 2 / 10 : « رجع من بني سعد ابن أربع سنين أو خمس وهو في خلق ابن عشر وقوته » .
3 . عاش صباه وشبابه في بيت عمه الحنون أبي طالب ( ( ع ) )
« توفي عبد المطلب في شهر ربيع الأول وللنبي ( صلى الله عليه وآله ) ثماني سنين من عمره ، فكفله أبو طالب أحسن كفالة » . كنز الفوائد / 72 .
« فكان خير كافل ، وكان أبو طالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً . . وخرج به إلى بُصْرَى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين ، وقال : والله لا أكلك إلى غيري !
وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً ، يروى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما توفيت وكانت مسلمة فاضلة أنه قال : اليوم ماتت أمي ! وكفنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع في لحدها ، فقيل له : يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة ! قال : إنها كانت أمي ، إنْ كانت لتُجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعثهم وتدهنني ، وكانت أمي » . تاريخ اليعقوبي : 2 / 13 .
وفي أمالي الصدوق / 390 ، عن ابن عباس : « قال : يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا
--------------------------- 153 ---------------------------
فخر ، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك : من ربك ؟ فقولي : الله ربي ومحمد نبيي ، والإسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وابني إمامي ووليي . ثم قال : اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت . ورويَ أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي أدخل ، يا حسن أدخل ، فدخلا القبر ، فلما فرغ مما احتاج إليه قال له : يا علي أخرج ، يا حسن أخرج فخرجا ، ثم زحف النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى صار عند رأسها ، ثم قال : يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر ، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك : من ربك ؟ فقولي : الله ربي ومحمد نبيي ، والإسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وابني إمامي ووليي » .
أقول : توفيت فاطمة بنت أسد « عليها السلام » في شوال في السنة الرابعة أو الخامسة ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) سبطه الحسن وعمره نحو سنتين ، لينزل في قبرها إيذاناً بمكانته ، ولعله إشارة إلى أن هذه بقعته ( عليه السلام ) . مستدرك سفينة البحار : 5 / 207 و 8 / 256 .
وفي الحدائق الناضرة : 22 / 634 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى المدينة على قدميها » !
وروى الحاكم : 3 / 108 : « لما ماتت فاطمة بنت أسد كفنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قميصه وصلى عليها وكبر عليها سبعين تكبيرة ، ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها ، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان وحثى في قبرها . فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد ! فقال : يا عمر إن هذه المرأة كانت أمي التي ولدتني ! إن أبا طالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة ، وكان يجمعنا على طعامه ، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيبنا فأعود فيه . وإن جبريل أخبرني عن ربي عز وجل أنها من أهل الجنة ، وأخبرني جبريل أن الله تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلون عليها » !
وعقد في مجمع الزوائد : 9 / 256 بابا : مناقب فاطمة بنت أسد رضي الله عنها .
--------------------------- 154 ---------------------------
4 . واستسقى به عمه أبو طالب فسقاهم الله تعالى
اشتهر قول أبي طالب « رحمه الله » في مدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قصيدته اللامية العصماء :
وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) طلب أن يُنشدوه القصيدة ، كما في بدائع الصنائع : 1 / 283 ، البخاري : 2 / 15 ، أحمد : 2 / 93 وأمالي المفيد / 301 ، قال : « جاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : والله يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط ، ولا غنم يغط ، ثم أنشأ يقول :
أتيناك يا خير البرية كلها * لترحمنا مما لقينا من الأزْلِ
أتيناك والعذراءُ يُدمى لُبانها * وقد شُغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الفتيُّ استكانةً * من الجوع ضعفاً ما يُمِرُّ وما يُحلي
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العاميِّ والعلهز الفَسْل
وليس لنا إلا إليك فرارن * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقال رسول الله لأصحابه : إن هذا الأعرابي يشكو قلة المطر وقحطاً شديداً !
ثم قام يجر رداءه حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وكان مما حمد ربه أن قال : الحمد لله الذي علا في السماء فكان عالياً ، وفي الأرض قريباً دانياً ، أقرب إلينا من حبل الوريد . ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ، مريئاً مريعاً ، غدقاً طبقاً ، عاجلاً غير رائث ، نافعاً غير ضائر ، تملأ به الضرع ، وتنبت به الزرع ، وتحيي به الأرض بعد موتها . فما رد يديه إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل والتفت السماء بأردافها ، وجاء أهل البطاح يضجون يا رسول الله : الغرق الغرق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم حوالينا ولا علينا ، فانجاب السحاب عن السماء ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : لله در أبي طالب ، لو كان حياً لقرَّت عيناه ، من ينشدنا قوله ؟ فقام عمر فقال : عسى أردت يا رسول الله :
وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبرُّ وأوفى ذمةً من محمد
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ليس هذا من قول أبي طالب ، بل من قول حسان بن ثابت ، فقام علي بن أبي طالب فقال : كأنك أردت يا رسول الله قوله :
--------------------------- 155 ---------------------------
وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه * ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ
يلوذُ به الهُلاَّكُ من آل هاشمٍ * فهم عنده في نعمةٍ وفواضل
كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً * ولما نطاعنْ دونه ونقاتل
ونُسلمه حتى نُصَرَّع حوله * ونَذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أجل . فقام رجل من بني كنانة فقال :
لك الحمد والحمد ممن شكرْ * سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوةً * وأشخص منه إليه البصر
ولم يك إلا كقلب الرداء * وأسرع حتى أتانا المطر
دفاق العزائل جم البعاق * أغاث به الله عَلْيَا مُضر
فكان كما قاله عمه * أبو طالب ذا رواء غزر
به الله يسقي صيوبَ الغمام * فهذا العيان وذاك الخبر
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بوأك الله يا كناني بكل بيت قلته بيتاً في الجنة » .
وستأتي لامية أبي طالب ، وقول ابن كثير إنها أبلغ من المعلقات السبع !
وقال ابن حجر في فتح الباري : 2 / 412 : « قال السهيلي : فإن قيل : كيف قال أبو طالب يستسقى الغمام بوجهه ، ولم يره قط استسقى ، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة ؟ وأجاب بما حاصله : أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي ( صلى الله عليه وآله ) معه غلام . . . وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها ، وهي أكثر من ثمانين بيتاً ، قالها لما تمالأت قريش على النبي ، ونَفَّروا عنه من يريد الإسلام » .
وفي خزانة الأدب : 2 / 61 : « قال السهيلي في الروض الأنف : إن أبا طالب قد شاهد من ذلك في حياة عبد المطلب ، ما دله على ما قال » .
وقول السهيلي والبغدادي صحيح ، فقد أجدبت قريش فشكت إلى عبد المطلب فاستسقى بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم أجدبت فشكت إلى أبي طالب فاستسقى بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ،
--------------------------- 156 ---------------------------
وإنما حذفوه من السيرة حسداً لأبي طالب « رحمه الله » وأولاده !
وقال عنها في المناقب : 1 / 119 : « والسبب في ذلك أنه كان قحط في زمن أبي طالب فقالت قريش : اعتمدوا اللات والعزى ، وقال آخرون اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى ، فقال ورقة بن نوفل : أنى تؤفكون وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل أبو طالب فاستسقوه ، فخرج أبو طالب وحوله أغيلمة من بني عبد المطلب ، وسطهم غلام كأنه شمس دِجَنَّة « مشرقة » تجلت عنها غمامة ، فأسند ظهره إلى الكعبة ولاذ بإصبعه ، وبصبصت الأغيلمة حوله ، فأقبل السحاب في الحال . فأنشأ أبو طالب اللامية » !
وروى آخرون هذه المعجزة بتفصيل ، كفخار بن معد في كتابه : الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب / 311 ، والصالحي في سبل الهدى : 2 / 137 ، والذهبي في تاريخه : 1 / 52 ، بسند صحيح عندهم ، عن أبان بن تغلب ، عن جلهمة بن عرفطة قال :
« إني لبالقاع من نِمْرة ، إذ أقبلت عيرٌ من أعلى نجد ، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير ، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة ، ثم نادى يا رب البنية أجرني ! وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء ، فقال : ما شأنك يا غلام فأنا من آل الله وأجير من استجار به ؟ قال : إن أبي مات وأنا صغير وإن هذا استعبدني وقد كنت أسمع أن لله بيتاً يمنع من الظلم ، فلما رأيته استجرت به . فقال له القرشي : قد أجرتك يا غلام قال : وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه . قال جلهمة : فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قِعْدَد الحي ، فقال : إن لهذا الشيخ ابناً يعني أبا طالب . قال : فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الحدود وأعلوا بها الكدان حتى انتهيت إلى المسجد الحرام ، وإذا قريش عزين ، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون فقائل منهم يقول : اعتمدوا اللات والعزى ! وقائل يقول : اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى . وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي : أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل ؟ قالوا له : كأنك عنيت أبا طالب ! قال : إيهاً . فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر ، عليه إزار قد اتشح به ، فثاروا إليه فقالوا : يا أبا طالب قحط الوادي وأجدب العباد ، فهلم فاستسق ، فقال : رويدكم
--------------------------- 157 ---------------------------
زوال الشمس وهبوب الريح ، فلما زاغت الشمس أو كادت ، خرج أبو طالب معه غلام كأنه دِجَنٌّ « سماءٌ لحسنه » تجلت عنه سحابة قتماء ، وحوله أغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بإصبعه الغلام ، وبصبصت الأغيلمة حوله ، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا ، وأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي والبادي ! وفي ذلك يقول أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ربيع اليتامى عصمة للأرامل
تطيف به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة * ووزان صدق وزنه غير عائل
أقول : كفى بهذا الحديث وهذه القصيدة دليلاً على إيمان أبي طالب ( عليه السلام ) بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من صغره ! ولكن الذهبي وأمثاله من أتباع القرشيين والأمويين أشربوا في قلوبهم الإعراض عن عترة نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ، بل كرههم » !
5 . حديث بَحِيَرا الراهب مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمه في الشام
قال علي بن يوسف الحلي « رحمه الله » في العدد القوية / 118 : « وخرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام وله تسع سنين ، وقيل اثنتا عشرة سنة » . وفي الخرائج : 1 / 71 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فلما انتهى به إلى بصرى وفيها راهب لم يكن يكلم أهل مكة إذا مروا به ، ورأى علامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الركب ، رأى غمامة تظله في مسيره ، ونزل تحت شجرة قريبة من صومعته فتثنت أغصان الشجرة عليه والغمامة على رأسه بحالها ، فصنع لهم طعاماً فاجتمعوا عليه وتخلف محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما نظر بحيرا إليهم ولم ير الصفة التي يعرف قال : فهل تخلف منكم أحد ؟ قالوا : لا واللات والعزى إلا صبي ، فاستحضره فلما لحظ إليه نظر إلى أشياء من جسده قد كان يعرفها من صفته فلما تفرقوا قال : يا غلام أتخبرني عن أشياء أسألك عنها ؟ قال : سل . قال : أنشدك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه ! وإنما أراد أن يعرف لأنه سمعهم يحلفون بهما ، فذكروا أن
--------------------------- 158 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال له : لا تسألني باللات والعزى ، فإني والله لم أبغض بغضهما شيئاً قط !
قال : فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه ؟ قال : فجعل يسأله عن حاله في نومه وهيئته وأموره ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخبره ، فكان يجدها موافقة لما عنده .
فقال له : إكشف عن ظهرك فكشف عن ظهره ، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الموضع الذي يجده عنده ، فأخذه الإفكل وهو الرعدة ، واهتز الديراني فقال : من أبو هذا الغلام ؟ قال أبو طالب : هو ابني . قال : لا والله لا يكون أبوه حياً . قال أبو طالب : إنه ابن أخي . قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وهو ابن شهرين . قال : صدقت . قال : فارجع بابن أخيك إلى بلادك واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأته وعرفوا منه الذي عرفت ليبغينه شراً ! فخرج أبو طالب فرده إلى مكة » .
وفي رواية كمال الدين / 187 : « لما بلغَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أراد أبو طالب أن يخرج إلى الشام في عير قريش ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتشبث بالزمام وقال : يا عم على من تخلفني لا على أمٍّ ولا على أب ؟ ! وقد كانت أمه توفيت فرقَّ له أبو طالب ورحمه وأخرجه معه . . . فلما نظر إليه بحيرى قال : من هذا الغلام ؟ قالوا : ابن هذا وأشاروا إلى أبي طالب . . فقال بحيرى : رُدَّ هذا الغلام إلى بلاده ، فإنه إن علمت به اليهود ما أعلم منه قتلوه ! فإن لهذا شأناً من الشأن ، هذا نبي هذه الأمة ، هذا نبي السيف » .
وفي قرب الإسناد / 213 ، من حديث للإمام الكاظم ( عليه السلام ) مع حاخامات اليهود : « قالوا : إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة وجعل لهم الملك والإمامة ، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا تتعداهم النبوة والخلافة والوصية ، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم ، ونلقاكم مستضعفين مقهورين لا تُرقب فيكم ذمة نبيكم ؟ ! فدمعت عينا أبي عبد الله ( عليه السلام ) ثم قال : نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق ، والظلمة غالبة ، وقليل من عباد الله الشكور ! قالوا : صدقت ، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليهم ؟ قلت : آيات كثيرة أعدها إن شاء الله . . .
ومن ذلك : أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش ، فلما كان بحيال بحيراء
--------------------------- 159 ---------------------------
الراهب نزلوا بفناء ديره ، وكان عالماً بالكتب وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي ( صلى الله عليه وآله ) به وعرف أوان ذلك ، فأمر فدعى إلى طعامه ، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها ، فقال : هل بقي في رحالكم أحد ؟ فقالوا : غلامٌ يتيم . فقام بحيراء الراهب فاطَّلع فإذا هو برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نائم وقد أظلته سحابة ! فقال للقوم : ادعوا هذا اليتيم ، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه ، وهو يسير والسحابة قد أظلته فأخبر القوم بشأنه ، وأنه سيبعث فيهم رسولاً ، وما يكون من حاله وأمره ! فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه ، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك ، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش » .
وفي كمال الدين / 182 : « لما فارقه بحيرى بكى بكاء شديداً وأخذ يقول : يا ابن آمنة كأني بك وقد رمتك العرب بوترها ، وقد قطعك الأقارب ! ولو علموا لكنت لهم بمنزلة الأولاد ، ثم التفت إليَّ وقال : أما أنت يا عم فارع فيه قرابتك الموصولة . . » .
وفي العدد القوية / 132 ، أن بحيرا قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا من بذكره تعمر المساجد ، كأني بك قد قدمت الأجناد والخيل الجياد ، وتبعك العرب والعجم طوعاً وكرهاً ، وكأني باللات والعزى قد كسرتهما ، وقد صار البيت العتيق لا يملكه غيرك ، تضع مفاتيحه حيث تريد ، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه ، معك مفاتيح الجنان والنيران ، ومعك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام ! أنت الذي لا تقوم الساعة حتى يدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قمئة ! فلم يزل يقبل رجليه مرة ويديه مرة ويقول : لئن أدركت زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند . أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين . والله لقد بكت له البيع والأصنام والشياطين ، فهي باكية إلى يوم القيامة ! وأنت دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية » !
أقول : روى ابن هشام قصة بحيرا : 1 / 116 وحذف منها ما يتعلق بإيمان أبي طالب ( عليه السلام ) !
وفي رواية ابن إسحاق : 2 / 55 : « فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن ، فأسرعْ به إلى
--------------------------- 160 ---------------------------
بلاده . فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام . فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيراً وتماماً ودريساً ، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء فأرادوه ، فردهم عنه بحيرا ، وذكرهم الله عز وجل وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته ، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه ، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال ، فتركوه وانصرفوا ! فقال أبو طالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما أرادوا منه أولئك النفر ، وما قال بحيرا :
إن ابن آمنة النبي محمداً * عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته * والعيس قد قلَّصن بالأزواد
فارفضَّ من عَيْنَيَّ دمعٌ ذارفٌ * مثلُ الجمان مفرَّقُ الأفراد
راعيت فيه قرابةً موصولة * وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومةٍ * بيض الوجوه مصالت الأنجاد
ساروا لأبعد طيةٍ معلومة * فلقد تباعدَ طيةُ المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا * لاقوا على شرفٍ من المرصاد
حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً * عنه وردَّ معاشر الحساد
قوماً يهوداً قد رأوا ما قد رأى * ظِل الغمام وعزَّ ذي الأكباد
ساروا لقتل محمد فنهاهم * عنه وأجهد أحسن الإجهاد
فثنى زبيرٌ بَحِيراً فانثنى * في القوم بعد تجادل وبعاد
ونهى دريساً فانتهى عن قوله * حبر يوافق أمره برشاد
وقال أبو طالب أيضاً :
ألم ترني من بعد همٍّ هممته * كأن لا يراني راجعاً لمعاد
بأحمد لما أن شددت مطيتي * برحلي وقد ودعته بسلام
بكى حَزَناً والعيس قد فصلت بنا * وأخذتُ بالكفين فضلَ زمام
--------------------------- 161 ---------------------------
ذكرتُ أباه ثم رقرقتُ عبرة * تجود من العينين ذات سجام
فقلت تروح راشداً في عمومة * مواسين في البأساء غير لئام
فرحنا مع العير التي راح أهلها * شآمي الهوى والأصل غير شآمي
فلما هبطنا أرض بصرى تشوفوا * لنا فوق دور ينظرون بسام
فجاد بحيرا عند ذلك حاشداً * لنا بشراب طيب وطعام
فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا * فقلنا جمعنا القوم غير غلام
يتيم ، فقال ادعوه إن طعامنا * كثير عليه اليوم غير حرام
فلما رآه مقبلاً نحو داره * يوقيه حر الشمس ظل غمام
حنا رأسه شبه السجود وضمه * إلى نحره والصدر أي ضمام
وأقبل ركب يطلبون الذي رأى * بحيرا من الأعلام وسط خيام
فثار إليهم خشية لعرامهم * وكانوا ذوي دهى معا وعرام
دريساً وتمَّاماً وقد كان فيهم * زبيراً وكل القوم غير نيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد * فردهم عنه بحسن خصام
بتأويله التوراة حتى تفرقوا * وقال لهم : ما أنتم بطغام
فذلك من أعلامه وبيانه * وليس نهار واضحٌ كظلام
وقال أبو طالب أيضاً :
بكى طرباً لما رآنا محمد * كأن لا يراني راجعاً لمعاد
فبتُّ يجافيني تهللُ دمعه * وقربته من مضجعي ووسادي
فقلت له قرب قعودك وارتحل * ولا تخشى مني جفوةً ببلادي
وخل زمام العيسى وارتحل بنا * على عزمة من أمرنا ورشاد
ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً * لذي رحم في القوم غير معاد
فرحنا مع العير التي راح ركبها * يؤمون من غوري أرض إباد
--------------------------- 162 ---------------------------
فما رجعوا حتى رأوا من محمد * أحاديث تجلو غم كل فؤاد
وحتى رأوا حبار كل مدينة * سجوداً له من عصبة وفراد
زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً * دريساً وهموا كلهم بفساد
فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا * له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا * وجاهدهم في الله كل جهاد
فقال ولم يملك له النصح رده * فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه * أخو الكتب مكتوب بكل مداد »
وابن عساكر : 3 / 10 ، سبل الهدى : 2 / 142 ودلائل النبوة : 2 / 29 وغيرها .
6 . شاعت نبوءة بحيرا عند العرب
قال الله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأنْجِيلِ . . « الأعراف : 157 » وقال : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الأنعام : 20 .
وقال : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يدي مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ . . الصف : 6 .
وقال : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ . . . ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخرج شَطْأَهُ . . . « آخر سورة الفتح » . وغيرها من الآيات .
وقد شاعت وذاعت قصص علماء النصارى واليهود في مكة والجزيرة ، واتفقت الرواية على أن بحيراء الراهب النصراني واسمه نسطور « تاريخ دمشق : 3 / 10 » قد آمن بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما رآه وكلمه وكان في الثانية عشرة من عمره أو دونها ، وأن أحبار اليهود أرادوا قتله ( صلى الله عليه وآله ) فنهاهم بحيراء كما ذكر أبو طالب في شعره ، وأقنعهم بأنهم إن أرادوا فسيمنعهم الله تعالى لأنه قضى أن يكون النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي الخرائج : 1 / 71 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فنشأ رسول الله في حجر أبي طالب ، فبينا هو غلام يجئ بين الصفا والمروة إذ نظر إليه رجل من
أهل الكتاب فقال : ما اسمك ؟ قال : اسمي محمد . قال : ابن من ؟ قال : ابن عبد الله .
--------------------------- 163 ---------------------------
قال : ابن من ؟ قال : ابن عبد المطلب . قال : فما اسم هذه وأشار إلى السماء ؟ قال السماء . قال : فما اسم هذه وأشار إلى الأرض ؟ قال : الأرض . قال فمن ربهما ؟ قال : الله . قال : فهل لهما رب غير الله ؟ قال : لا » .
أقول : إحفظ عندك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما نصت الآيات وتواترت الأحاديث والأخبار ، وأنهم بشروا به قبل ولادته ، وعرفوا يوم ولادته من علامات النجوم ، ثم عرفوه بصفته لما رأوه ، وأخبروا عمه أبا طالب وغيره ، وشاع ذلك وذاع في مكة وبين العرب !
يضاف إلى ذلك ما دل على أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً يرافقه ملك من طفولته ، وأن جده عبد المطلب وعمه أبا طالب « عليهما السلام » كان يعرفان أن سيبعث نبياً ، وسيكذبه قومه ويحاولون قتله فيهاجر ، ويحاربونه فينصره الله ويخضع له العرب .
إحفظ هذه الحقائق ، لأنك سترى أن رواة الحكومات يظهرونها أحياناً ، ويطمسونها أحياناً ! فقد طمسوها عند حديث عائشة في كيفية بدء الوحي ! وطمسوها لينفواوجود صحابة قرشيين منافقين ، بحجة أنه لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وآله ) دولة تجذب أحداً ليسلم طمعاً ، مع أن خبر نبوته ( صلى الله عليه وآله ) كان يستهوي مغمورين في قبائلهم لاتباعه طمعاً بموقع في دولته ! فهو ابن عبد المطلب زعيم العرب ، وقد شهد له علماء اليهود والنصارى بأنه سيحكم العرب ، وهو يعد الناس بأنه سيملك كنوز كسرى وقيصر ! فمن الطبيعي أن يطمع عديدون في موقع في دولته ليخرج من فقره ومهانته !
وهؤلاء الأشخاص أخطر على الإسلام من المنافقين العاديين ، لأنهم أصحاب طموح سياسي ، ولذلك سماهم الله تعالى « مرضى القلوب » وذكرهم في أوائل سور القرآن فقال في المدثر : وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً . . وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً . . « المدثر 31 » . ثم تحدث عنهم في اثنتي عشرة آية ! ووصفهم بأنهم وقحون ، يفرون في الحرب ، ويحملون النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولية الهزيمة ، لأنه لم يشركهم في القيادة !
--------------------------- 164 ---------------------------
قال عنهم في آيات أحُد : وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ! آل عمران : 154 .
وكاد القرآن أن يسميهم لما وصفهم بأنهم كانوا في مكة مستعجلين ليقاتل النبي قريشاً ببني هاشم الشجعان ليقطفوا هم الثمار ، لكنهم لما كتب القتال في بدر نكصوا وخوفوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) من قريش ! فذكَّرهم الله بنفاقهم في مكة وقال : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً . . النساء : 77 .
قال الطبري : 5 / 233 : « نزلت في قوم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد . . فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم » !
وفي برهان الزركشي : 1 / 422 : « فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ! هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا ، من القوم الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ » .
وقال ابن حجر : « نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص وهما من بني زهرة ، وقدامة بن مظعون ، والمقداد بن الأسود ، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال : لم أؤمر بالقتال ، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال ، كره بعضهم ذلك » ! أسباب النزول : 2 / 918 . والحاكم : 2 / 66 ، وصححه بشرط بخاري . ، وفسرها النسائي : 6 / 3 والبيهقي : 9 / 11 ، بابن عوف وأصحابه .
وكذبوا على المقداد « رحمه الله » فجعلوه منهم ، مع أنهم رووا قوله للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، ولكن إمض ونحن معك ! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله » . البخاري : 5 / 187 .
ومعناه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) غضب من أهل آية : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وليس من المقداد « رحمه الله » !
قال الرازي : 10 / 184 : « والأولى حمل الآية على المنافقين ، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله : وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين . . . فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً » .
--------------------------- 165 ---------------------------
الفصل الثامن
زواجه « صلى الله عليه وآله » بخديجة « عليها السلام »
سبب زواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بخديجة ( عليها السلام )
1 . سمعت خديجة بكراماته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطبته
ففي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 155 : « كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد ، وكان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر ، فكانوا في حَمَارَّة القيظ يصيبهم حرتلك البوادي ، وربما عصفت عليهم فيها الرياح ، وسفت عليهم الرمال والتراب ، وكان الله تعالى في تلك الأحوال يبعث لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غمامة تظله فوق رأسه ، تقف بوقوفه وتزول بزواله ، إن تقدم تقدمت وإن تأخر تأخرت ، وإن تيامن تيامنت وإن تياسر تياسرت ، فكانت تكفُّ عنه حر الشمس من فوقه ، وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب ، تُسفيها في وجوه قريش ووجوه رواحلهم ، حتى إذا دنت من محمد ( صلى الله عليه وآله ) هدأت وسكنت ، ولم تحمل شيئاً من رمل ولا تراب ، وهبَّت عليه ريحٌ باردة لينة ، حتى كانت قوافل قريش يقول قائلها : جوار محمد أفضل من خيمة ! فكانوا يلوذون به ويتقربون إليه ، فكان الرَّوْح يصيبهم بقربه ، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه . وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء ، فإذا الغمامة تسير في موضع بعيد منهم » .
وفي شرح الأخبار : 1 / 183 : « ولما انتهى إليها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما قد فشا واستفاض عنه من الخبر ، أرسلت إليه في أن تعطيه مالاً يتجر لها به إلى الشام ، ففعل . . وربح في تلك التجارة ما لم
--------------------------- 166 ---------------------------
يربح أحد مثله ، فلما قدم بذلك على خديجة قالت لغلامها ميسرة : ما أعظم أمانة محمد وبركته ، ما ربحت في تجارة قط كربحي فيما أبضعته معه . فقال لها ميسرة : وأعظم من ذلك ما سمعته فيه ورأيته منه ! قالت : وما هو ؟ فأخبرها بخبر الراهب وخبر الغمامة » .
وفي سيرة ابن إسحاق : 2 / 59 وابن هشام : 1 / 121 : « فلما أخبرها ميسرة عما أخبرها به بعثت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك ، وسطتك فيهم ، وأمانتك عندهم ، وحسن خلقك ، وصدق حديثك » .
وفي مسارِّ الشيعة للمفيد / 49 : « وفي اليوم العاشر منه « ربيع الأول » تزوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخديجة بنت خويلد أم المؤمنين ، لخمس وعشرين سنة من مولده » .
2 . خطب أبو طالب خديجة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في الكافي : 5 / 374 والفقيه : 3 / 397 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يتزوج خديجة بنت خويلد ، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش ، حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة ، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال : الحمد لرب هذا البيت ، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل ، وأنزلنا حرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه . ثم إن ابن أخي هذا يعني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به ، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه ، ولا عِدل له في الخلق ، وإن كان مقلاً في المال فإن المال رفدٌ جارٍ وظلٌّ زائل ، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها ، والمهر عليَّ في مالي ، الذي سألتموه عاجله وآجله . وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل .
ثم سكت أبو طالب ، وتكلم عمها وتلجلج وقَصُر عن جواب أبي طالب ، وأدركه القطع والبهر ! وكان رجلاً من القسيسين ، فقالت خديجة مبتدئة : يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود ، فلست أولى بي من نفسي ، قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر عليَّ في مالي ، فأمر عمك فلينحر ناقة فَلْيُولِمْ بها وادخل على أهلك ! قال
--------------------------- 167 ---------------------------
أبو طالب : اشهدوا عليها بقبولها محمداً ، وضمانها المهر في مالها ! فقال بعض قريش : يا عجباه ، المهر على النساء للرجال !
فغضب أبو طالب غضباً شديداً وقام على قدميه ، وكان ممن يهابه الرجال ويُكره غضبه ، فقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر ، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي ! ونحرأبوطالب ناقة ، ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأهله . وقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم :
هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت * لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجته خير البرية كلها * ومن ذا الذي في الناس مثل محمد
به بشر البران عيسى بن مريمٍ * وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرت به الكتاب قدماً بأنه * رسول من البطحاء هاد ومهتد »
أقول : نص الحديث على أن الشاعر قرشي ، لكن علماء الرجال ترجموا لعبد الله بن غنم الأشعري أو الأزدي ، ويظهر أنه صحابي وقد قال شعره بعد الإسلام .
3 . وهبت خديجة كل أموالها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وذلك كما وهبت سارة كل أموالها لإبراهيم « عليهما السلام » ، فقد فسر ابن عباس قوله تعالى : وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى : « فأغناك بمال خديجة ، ثم زادك من فضله فجعل دعائك مستجاباً ، حتى لودعوت على حجرأن يجعله الله لك ذهباً لنقل عينه إلى مرادك ، وأتاك بالطعام حيث لا طعام ، وأتاك بالماء حيث لاماء ، وأغاثك بالملائكة حيث لامغيث ، فأظفرك بهم على أعدائك » . معاني الأخبار / 53 . وعمدة القاري : 19 / 299 .
وفي البحار : 16 / 71 : « يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها ، وعبيدها ، وخدمها ، وجميع ما ملكت يمينها ، والمواشي ، والصداق ، والهدايا ، لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفسرالإمام الرضا ( عليه السلام ) آية : وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى « العيون : 2 / 177 » بأنه جعله مستجاب الدعوة ، والآية مطلقة تشمل مال خديجة والغنائم التي أحلها الله له ، وغيرها .
--------------------------- 168 ---------------------------
4 . وصار بيت خديجة ( عليها السلام ) بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ويقع في الجهة المقابلة لشعب بني هاشم ، وهو في سوق الليل معروفٌ بمولد فاطمة « عليها السلام » ، وقد زرته في السبعينات ميلادية حتى هدمه الوهابية وأزالوه ، في حملتهم على آثار النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآثار الإسلام !
ولما كتبت قريش صحيفة مقاطعة بني هاشم ليسلموهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه اضطر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يترك بيته ويدخل مع بني هاشم في شعب أبي طالب ، وتحملت خديجة « عليها السلام » معه سنوات المحاصرة ، فأرسل الله جبرئيل ليقرئها السلام ويسليها عن فقدان بيتها ، ويبشرها بأن الله تعالى بني لها بيتاً في الجنة .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يذكرها كل عمره ويمدحها ، ولما فتح مكة نصب خيمته على قبرها ، فكانت عائشة تحسدها وتغار منها : « قالت : ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة » ! صحيح بخاري : 8 / 195 .
وفي فتح الباري : 7 / 102 : « عن هشام بن عروة : ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة ، حين بشرها النبي ببيت » .
وهذا ينسجم مع طبيعة المرأة واهتمامها ببيتها ، وحسدها لضرتها إذا كان بيتها أحسن ، فكيف إذا بناه الله تعالى لخديجة « عليها السلام » وأرسل جبرئيل ( عليه السلام ) يبشرها به ! فهو يستحق من عائشة أعلى درجات الحسد ، كما قالت !
ولم تذكر عائشة هنا صفة بيت خديجة ، لكنها بعد ذلك هونت من شأنه وقالت إنه بيت من قصب وسعف نخل ! فنسب بعض الرواة وصفه بأنه بيت من قصب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! لكن بعضهم أبقاه على النص النبوي بأنه من لؤلؤة ولا صخب فيه ولا نصب . فقد قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة « عليها السلام » : إن جبرئيل ( عليه السلام ) عهد إليَّ أن بيت أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون ، من لؤلؤة جوفاء لاصخب فيه ولا نصب » . شرح الأخبار : 3 / 17 .
وكذلك هي بيوت كبار الأولياء من ياقوت ومرجان ، ففي نظم درر السمطين للحنفي / 183 ، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : 1 / 666 عن أبي سعيد الخدري أن
--------------------------- 169 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « مر في السماء السابعة ، قال : فرأيت فيها لمريم ولأم موسى ، ولآسية امرأة فرعون ، ولخديجة بنت خويلد ، قصوراً من الياقوت ، ولفاطمة بنت محمد سبعين قصراً من مرجان أحمر ، مكللةً باللؤلؤ » .
وروى عددٌ من مصادرهم حديث بيت خديجة « عليها السلام » بدون قصب كما رويناه ! ففي فضائل الصحابة للنسائي / 75 : « بشر رسول الله خديجة ببيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب » . وسنن النسائي : 5 / 94 ، الجامع الصغير : 2 / 247
وتاريخ الذهبي : 1 / 238 .
لكن عائشة جعلت بيت خديجة كوخاً من قصب ! « بشر خديجة ببيت من الجنة من قصب ، لاصخب فيه ولا نصب » ! صحيح بخاري : 2 / 203 .
وبينت سبب القصب « فتح الباري : 1 / 27 » فقالت : « ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة ، فقال النبي : رأيت لخديجة بيتاً من قصب ، لاصخب فيه ولا نصب » .
وفي مسند أبي يعلى : 4 / 41 من حديث المعراج ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « سئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن ؟ فقال : أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب » !
وصحح في مجمع الزوائد : 9 / 416 : « ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن » !
فبيت خديجة « عليها السلام » من قصب لأنها لم تصلِّ ، وبيت عائشة من لؤلؤ لأنها صلَّت ! لكن الصلاة يا أمنا عائشة فرضت في أول البعثة ، وروى الجميع أن خديجة « عليها السلام » كانت تصلي مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أن توفيت قبيل هجرته ! فكيف قلت : لم تُصَلِّ !
إنها فضيحة حسد عائشة لخديجة « عليها السلام » على بيتها في الجنة ، فجعلته من قصب ، وأنكرت صلاة خديجة ، وأخرت تشريع الصلاة إلى ما بعد موت خديجة !
وجاء المعذرون ومنهم البخاري « فتح الباري : 7 / 104 » ليغطوا حسد عائشة ، فجعلوا معنى بيت القصب : قضبان الذهب ! لكن اللغة العربية تأبى ذلك ، فالقصب نبات ، ولم يرد وصفاً لقصور الجنة في أي حديث صحيح !
--------------------------- 170 ---------------------------
5 . كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يمدح خديجة ( عليها السلام )
وهدفه أن يعرِّف المسلمين قدرها ، وكانت عائشة تعلن حسدها لها ، فيغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليها ! ففي السيرة الحلبية : 3 / 401 : « قالت له وقد مدح خديجة : ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين ، قد أبدلك الله خيراً منها ! فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : والله ما أبدلني الله خيراً منها » !
وقال ابن إسحاق : 5 / 228 : « أهدي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جزور أو لحم ، فأخذ عظماً منها فتناوله بيده فقال له : إذهب به إلى فلانة » صديقة خديجة « فقالت له عائشة : لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة ! فقام رسول الله مغضباً فلبث ما شاء الله ، ثم رجع فإذا أم رومان فقالت : يا رسول الله ما لك ولعائشة إنها حَدَث وأنت أحق من تجاوز عنها ، فأخذ بشدق عائشة وقال : ألست القائلة : كأنما ليس على الأرض امرأة إلا خديجة ! والله لقد آمنت بي إذ كفر قومك ورزقت مني الولد وحرمتموه » !
وفي العمدة / 394 ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) طرد عائشة ! « فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قومي عني فقامت إلى ناحية من البيت » . ولعلها تكلمت بعد قيامها فأخذ بشدقها ! ولم تبين الرواية كيف أخذ بشدقها ، هل سدَّه ليسكتها ، أم ضغط عليه تأديباً لها !
وفي الخصال / 405 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول : والله يا بنت خديجة ما ترينَ إلا أن لأمك علينا فضلاً ، وأي فضل كان لها علينا ، ما هي إلا كبعضنا ! فسمع مقالتها لفاطمة ، فلما رأت فاطمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكت فقال : ما يبكيك يا بنت محمد ؟ قالت : ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت ! فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : مه يا حميراء فإن الله تبارك وتعالى بارك في الودود الولود ، وإن خديجة رحمها الله ولدت مني طاهراً وهو عبد الله وهو المطهر ، وولدت مني القاسم وفاطمة [ وأم كلثوم ورقية وزينب ] وأنت ممن أعقم الله رحمها ، فلم تلدي شيئاً » !
أقول : وضعنا أسماء البنات الثلاث بين معقوفين ، لأنه يوجد خلاف في أنهن بناته ( صلى الله عليه وآله ) أو ربائبه ، وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : أعقم الله رحمها ، يدل على أن الله تعالى حصر ذريته بفاطمة « عليها السلام » . لكن رغم توبيخ النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعائشة ونهيها واصلت حسدها لخديجة ! ولها
--------------------------- 171 ---------------------------
قصص في حساسيتها منها مع فاطمة « عليها السلام » ، لكن سلوك فاطمة الرباني فرض على عائشة احترامها فكانت تقول : « ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها » . الإستيعاب : 4 / 1896 ، الزوائد : 9 / 201 وصححه . « كان بينهما شئ فقالت عائشة : يا رسول الله سلها فإنها لا تكذب » . أبو يعلى : 8 / 153 .
6 . عائشة متهمة ولا تُقبل شهادة المتَّهَم
فلا يجوز قبول روايات عائشة في خديجة « عليها السلام » ، بعد اعترافها بحسدها المفرط لها ، ولا قول حكيم بن حزام المتعصب لعائشة ، قال : « كان عمر رسول الله يوم تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة ، وعمرها أربعون سنة . بينما قال ابن عباس : كان عمرها ثمانياً وعشرين سنة ، رواهما ابن عساكر ! وقال ابن جرير : كان ابن سبع وثلاثين سنة ، وكذا نقل البيهقي عن الحاكم ، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين ، وقيل خمساً وعشرين سنة » . سيرة ابن كثير : 1 / 265 .
7 . أحل الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من النساء ما شاء
لكنه لم يتزوج إلا لمصلحة الإسلام ولا تزوج على خديجة . ففي الكافي : 5 / 389 أن أبا بكر الحضرمي سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « عن قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ؟ كم أحل له من النساء ؟ قال : ما شاء من شئ . قلت : قوله عز وجل : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ؟ فقال : لا تحل الهبة إلا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأما لغير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلا يصلح نكاح إلا بمهر . قلت : أرأيت قول الله عز وجل : لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ؟ فقال : إنما عنى به لا يحل لك النساء التي حرم الله في هذه الآية : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ . . إلى آخرها ، ولو كان الأمر كما تقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له ، لأن أحدكم يستبدل كلما أراد ولكن ليس الأمر كما يقولون . إن الله عز وجل أحل لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم عليه في هذه الآية » .
--------------------------- 172 ---------------------------
ثم روى تسمية نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : « عائشة ، وحفصة ، وأم حبيب بنت أبي سفيان بن حرب ، وزينب بنت جحش ، وسودة بنت زمعة ، وميمونة بنت الحارث ، وصفية بنت حي بن أخطب ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وجويرية بنت الحارث . وكانت عائشة من تيم ، وحفصة من عدي ، وأم سلمة من بني مخزوم ، وسودة من بني أسد بن عبد العزى ، وزينب بنت جحش من بني أسد وعدادها من بني أمية ، وأم حبيب بنت أبي سفيان من بني أمية ، وميمونة بنت الحارث من بني هلال ، وصفية بنت حي بن أخطب .
ومات ( صلى الله عليه وآله ) عن تسع نساء وكان له سواهن التي وهبت نفسها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وخديجة بنت خويلد أم ولده ، وزينب بنت أبي الجون التي خدعت ، والكندية » .
8 . اشتهر وفاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لخديجة ( عليها السلام )
ونشرت ذلك عائشة وهي تتحدث عن غيرتها منها ، قال ابن البطريق في العمدة / 394 : « عن أم رومان « أم عائشة » قالت : كان لرسول الله جارة قد أوصته خديجة أن يتعاهدها ، فحضرعنده شئ من المأكل فأمر بإعطائها وقال : هذه أمرتني خديجة بأن أتعاهدها فقالت عائشة : وكنت أحسدها لكثرة ذكره لها » .
وعندما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أموال بني النضير ومنها فدك ، أمره الله أن يفي لخديجة فيعطي فدكاً لابنتها فاطمة « عليها السلام » . ونزل قوله تعالى : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ . « إن الله يأمرك أن تؤتى ذا القربى حقه . قال : يا جبرئيل ومن قرباي ، وما حقهم ؟ قال : أعط فاطمة حوائط فدك ، واكتب لها كتاباً . وهي من ميراثها من أمها خديجة » . قصص الأنبياء / 345 والمناقب : 1 / 122 .
وقد أجمع المسلمون على أن أموال بني النضير كانت خالصة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وفيها نزل قوله تعالى : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ . الكافي : 1 / 539 ، المعتبر : 2 / 633 والبخاري : 3 / 227 و 4 / 209 .
--------------------------- 173 ---------------------------
9 . وكانت خديجة أماً لعلي ( ( ع ) )
فقد ربته وأحبته كما أحبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووفت بذلك لفاطمة بنت أسد في تربيتها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أرسله النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوماً في مهمة فتأخر فتخوف عليه فذهبت خديجة تبحث عنه ! « وافتقد علياً ( عليه السلام ) ذات يوم فلم يعلم مكانه حتى أمسى فاشتد غمه به ، فرأت أثر الغم عليه خديجة رضوان الله عليها ، فقالت : يا رسول الله ما هذا الغم الذي أراه عليك ؟ قال : غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صُنِع به . .
فخرجت خديجة في الليل تلتمس خبر علي ، فوافقته فأعلمته باغتمام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بغيبته ، وألفته مقبلاً إليه ، فسبقته تبشره فقام قائماً فحمد الله تعالى رافعاً يديه » . شرح الأخبار : 2 / 205 وتفسير فرات / 547 .
وفي مناقب ابن سليمان : 1 / 304 : « قالت خديجة : فمضيت فأخبرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإذا هو قائم يقول : اللهم فرج غمي بأخي علي ، فإذا بعلي قد جاء فتعانقا » .
10 . عظموا أمر عائشة على باقي نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة / 75 : « وعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه ، مع أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد ، وقالت له عائشة : إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها . وأذاعت سر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وقال لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة . ثم إنها خالفت أمر الله تعالى في قوله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ، وخرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً ( عليه السلام ) على غير ذنب ، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي كل وقت تأمر بقتله وتقول : أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ! فلما بلغها قتله فرحت بذلك ، ثم سألت : من تولى الخلافة ؟ فقالوا : علي ، فخرجت لقتاله على دم عثمان . فأي ذنب كان لعلي ( عليه السلام ) على ذلك ؟ وكيف استجاز طلحة والزبير مطاوعتها على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة » !
--------------------------- 174 ---------------------------
11 . أنفق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المؤمنين من أموال خديجة ( عليها السلام )
ففي أمالي الطوسي / 463 : « إن رسول الله قال : ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال خديجة ، وكان رسول الله يفك من مالها الغارم والعاني ، ويحَمل الكَلَّ ، ويعطي في النائبة ، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة ، ويحمل من أراد منهم الهجرة .
وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف ، كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قريش مالاً ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) ينفق منه ما شاء في حياتها ، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها » .
وروى البخاري : 5 / 80 قول عمر لأسماء بنت عميس : « سبقناكم بالهجرة ، فنحن أحق برسول الله منكم ! فغضبت وقالت : كلا والله كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ! وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن كنا نُؤذى ونُخاف . قال لها ( صلى الله عليه وآله ) : ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان » .
12 . كانت خديجة ( عليها السلام ) أجمل زوجات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وقد ورَّثت حسنها لابنتها وأحفادها ، ففي المناقب : 3 / 170 عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) قال : « صوَّر الله عز وجل علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد ، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة « عليها السلام » ، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى « عليها السلام » » .
13 . بنات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أم ربائبه ؟
المشهور أن زينب وأم كلثوم بنات النبي ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة « عليها السلام » ويوجد قول قوي بأنهن بنات أخت خديجة ، وقد توفيت أمهن فربتهن خالتهن خديجة ، فعُرفن ببنات محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! وأن خديجة لم تتزوج قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن عمرها عند زواجها كان بضعاً وعشرين ، وكان عمرها لما ماتت خمسين سنة ، حسب رواية البيهقي .
--------------------------- 175 ---------------------------
وقد تبنى هذا الرأي بعض كتاب السيرة القدماء والمعاصرين فقال إنهن ربائب . قال في المناقب : 1 / 138 : « وروى أحمد البلاذري ، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في الشافي ، وأبو جعفر في التلخيص : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بها وكانت عذراء ، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع ، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة » .
وقد ألف الباحث السيد جعفر مرتضى كتاب : « بنات النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم ربائبه ؟ » تجده في : http : / / www . aqaed . com / shialib / books / all / banat / index . html
وذكر فيه تناقض روايتهم في تاريخ زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفي ولادة أولاده ، وزواج بناته ، فبعضها ذكر أنه ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بها قبل البعثة بثلاث سنين ، وبعضها قال إن أولاده منها ولدوا جميعاً بعد البعثة ، إلا ولده عبد المطلب ، وبعضها ذكر أن آية : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ، نزلت بعد موت ابنه القاسم ، الذي كان أكبر أولاده .
كما استدل بنصوص على أن زينب هي بنت أخت خديجة « عليها السلام » من زوجها أبي هند المخزومي ، ومنها نص كتاب الاستغاثة ، ونص المناقب المتقدم .
واستدل بقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : « يا علي ، أوتيتَ ثلاثاً لم يؤتهن أحدٌ ولا أنا : أوتيت صهراً مثلي ، ولم أوت أنا مثلي » ! فدل على أن علياً صهره الوحيد .
وقول ابن عمر في صحيح بخاري : 5 / 157 : « أما عثمان فكان الله عفا عنه ، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه ! وأما علي فابن عم رسول الله وختنه ، وأشار بيده فقال : هذا بيته حيث ترون » . فذكر الصهر لعلي ولم يذكره لعثمان !
ويؤيد هذا الرأي ما رواه الحاكم : 2 / 200 وصححه على شرط الشيخين : عن عروة ، عن خالته عائشة في زينب بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان زوجها الربيع بن العاص الأموي أسيراً في بدر ، فأرسلت فداءه فأطلقه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووعده الربيع أن يأذن لها بالهجرة ، فأذن لها وخرج بها من مكة زيد بن حارثة وأبو رافع وأخ زوجها فمنعته قريش ، وضرب ناقتها هبَّار بن الأسود ، فوقعت زينب وأسقطت جنينها ثم سمحت لها قريش فهاجرت . قال عروة إن عائشة روت القصة وقالت : « فكان
--------------------------- 176 ---------------------------
رسول الله يقول : هي أفضل بناتي ، أصيبت فيَّ . فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال : ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة « عليها السلام » ! فقال : والله ما أحب أنَّ لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها ! وأما بعدُ فلك أن لا أحدث به أبداً ! قال عروة : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ » .
ومعناه أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وبَّخ عروة على روايته أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال إن زينب أفضل بناته ، فتنصل عروة ووعد أن لايرويه ، مع أنه قول خالته عائشة ! ثم قال معتذراً عنها : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ . ومعناه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عبَّرعن زينب بابنته قبل أن تنزل آية تحريم تسمية المتبنى إبناً وقد نزل ذلك في سورة الأحزاب سنة خمس للهجرة ، أما بعدها فلم يقل عن زينب : بنتي لأنها كانت متبناة ! فهذا حديث صحيح بشرط الشيخين يشهد بأن زينب ربيبة ! فالقول بأنهن ربائب قوي علمياً ، لكنه يحتاج إلى مؤيدات أخرى لينهض في مقابل النصوص على أنهن بنات النبي ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة .
قال أبو الفتح الكراجكي في كتابه : التعجب من أغلاط العامة / 101 : « ومن عجيب أمرهم مثل هذا : قولهم : إن عثمان بن عفان ذو النورين ، واعتقادهم من نحلته هذا بأنه تزوج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول الله من خديجة بنت خويلد ، وقد اختلفت الأقوال فيهما ، فمن قائل : أنهما ربيبتاه وأنهما ابنتا خديجة من سواه . ومن قائل : إنهما ابنتا أخت خديجة من أمها ، وإن خديجة ربتهما لما ماتت أختها في حياتها ، وقال إن اسم أبيهما هالة . ومن قال إنهما ابنتا النبي يعلم أنهما ليستا كفاطمة البتول « عليها السلام » في منزلتها ، ولا يدانيانها في مرتبتها ، فيسمون عثمان لأجل تزويجه بهما ، ( مع ما روي من أنه قتل إحداهما ) : ذا النورين ، ولا يقولون : إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ذو النورين ، وهو أبو السبطين السيدين الإمامين الشهيدين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وشنفي العرش ، وريحانتي نبي الرحمة ، وولدي ابنته فاطمة البتول سيدة نساء العالمين ، والأئمة الهادين ، صلوات الله عليهم أجمعين » .
--------------------------- 177 ---------------------------
الفصل التاسع
ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب « عليه السلام »
1 . قالوا إن ولادة علي ( ( ع ) ) في الكعبة متواترة عندهم ، ثم أنكروها !
قال الحاكم في المستدرك : 3 / 483 ه : « تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، في جوف الكعبة » .
وقال في أعيان الشيعة : 1 / 323 : « ورد أنه ( عليه السلام ) ولد في جوف الكعبة أعزها الله ، في يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب ، وأن هذه فضيلة اختصه الله بها ، لم تكن لأحد قبله ولا بعده . وقد صرح بذلك عدد كبير من العلماء ورواة الأثر ، ونظمها الشعراء والأدباء ، وذلك مستفيض عند شيعة أهل البيت « عليهم السلام » ، كما أنه كذلك في كتب غيرهم ، حتى لقد قال الحاكم وغيره : تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد . الخ . » . قال السيد الحميري المتوفى سنة 173 :
ولدته في حرم الإله وأمنه * والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ
بيضاءُ طاهرة الثياب كريمةٌ * طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غابت نحوس نجومها * وبدا مع القمر المنير الأسعد
ما لفَّ في خرق القوابل مثله * إلا ابنُ آمنةَ النبيُّ محمدُ
وقال في الصحيح من سيرة الإمام علي ( عليه السلام ) : 1 / 98 : « لكن نفوس شانئي علي ( عليه السلام ) قد نفست عليه هذه الفضيلة التي اختصه الله بها ، فحاولت تجاهل كل أقوال العلماء والمؤرخين ورواة الحديث والأثر ، والضرب بها عرض الجدار ! حيث نجدهم وبكل جرأة ولا مبالاة ، يثبتون
--------------------------- 178 ---------------------------
ذلك لرجل آخر غير علي ( عليه السلام ) ، بل ويحاولون التشكيك في ما ثبت لعلي أيضاً ، حتى لقد قال في كتاب النور : حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة ، ولا يعرف ذلك لغيره ! وأما ما روي من أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء » !
وقال المعتزلي في شرح النهج : 1 / 14 : « كثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة والمحدثون لا يعترفون بذلك ، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام » .
أقول : أول من ادعى ولادة حكيم في الكعبة ابن عمه الزبير بن بكار ، في كتابه : جمهرة نسب قريش : 1 / 353 ، قال : « دخلت أم حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل متمٌّ بحكيم بن حزام ، فضربها المخاض في الكعبة ، فأُتيت بنطع حيت أعجلتها الولادة ، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع » .
ويكفي لرده أنه لم يروه إلا الزبيريون ، وبغضهم لعلي ( عليه السلام ) مشهور للعام والخاص . قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 315 ، عن عبد الله بن الزبير : « وهو الذي بقي أربعين جمعة لا يصلي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في خطبته ، حتى التاث عليه الناس ، فقال : إن له أهل بيت سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك ، فلا أحب أن أقر عينهم بذكره » ! وهذا من غرائب النصب والحقد !
2 . رواية يزيد بن قعنب
وتدل شهادة الحاكم : 3 / 483 بأن ولادة علي ( عليه السلام ) في الكعبة متواترةٌ عند الجميع ، على أن السلطة غيبت نصوصها ، ونشرت بدلها كذبة ابن بكار الزبيري لمصلحة ابن عمه حكيم بن حزام ، وكلاهما من النواصب !
وقد ذكرنا في المقدمة أن السلطة أبادت أحاديث جابر بن يزيد الجعفي وكانت سبعين ألف حديث ، وأحاديث ابن عقدة وكانت أكثر من ثلاث مائة ألف حديث !
هذا ، وقد رويت كيفيات لولادته ( عليه السلام ) في الكعبة ، ولعل أصحها رواية يزيد بن قعنب ، التي رواها سعيد بن جبير عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن آبائه « عليهم السلام » ، قال ابن قعنب « أمالي الصدوق / 194 » : « كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى
--------------------------- 179 ---------------------------
بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق ، فقالت : رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) وأنه بني البيت العتيق ، فبحق الذي بنى هذا البيت ، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي . قال يزيد بن قعنب : فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه ، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط ، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عز وجل .
ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم قالت : إني فضلت على من تقدمني من النساء ، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عز وجل سراً في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطراراً ، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً ، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف : يا فاطمة سمه علياً فهو علي والله العلي الأعلى ، يقول : إني شققت اسمه من اسمي ، وأدبته بأدبي ، ووقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ، ويقدسني ويمجدني ، فطوبى لمن أحبه وأطاعه ، وويل لمن أبغضه وعصاه » !
ورُويت لولادته ( عليه السلام ) كيفية أخرى عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) عن زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة « مناقب ابن المغازلي / 25 » قال ( عليه السلام ) : « كنت جالساً مع أبي ونحن زائران قبرَ جدنا ( عليه السلام ) وهناك نسوان كثيرة ، إذ أقبلت امرأة منهن فقلت لها : من أنت يرحمك الله ؟ قالت : أنا زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة ، فقلت لها : فهل عندك شئ تُحدثينا ؟ فقالت : إي والله حدثتني أُمي أُم عمارة بنت عُبادة بن نَضْلَة بن مالك بن العَجلان الساعدي ، أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيباً حزيناً فقلت له : ما شأنك يا أبا طالب ؟ قال : إن فاطمة بنت أسد في شدة المخاض ، ثم وضع يديه على وجهه ، فبينا هو كذلك إذ أقبل محمد ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : ما شأنك يا عمِّ ؟ فقال : إن فاطمة بنت أسد تشتكي
--------------------------- 180 ---------------------------
المَخاضَ ، فأخذ بيده وجاء وهي معه فجاء بها إلى الكعبة فأجلسها في الكعبة ، ثم قال أجلسي على اسم الله ! قال فَطُلِقَت طَلقةً فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منُظّفاً لم أر كَحُسنِ وجهه ، فسماه أبو طالب علياً وحَمله النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أداه إلى منزلها ! قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) : فوالله ما سمعتُ بشئ قطُّ إلاّ وهذا أحسنُ منه » .
فرواية ابن قعنب تذكر أن فاطمة بنت أسد « عليها السلام » جاءت وحدها إلى الكعبة ، ودعت الله تعالى ، فانشق لها الجدار ودخلت .
وهذه الرواية تذكر أن أبا طالب جاء إلى المسجد الحرام فرآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فشكا له أن زوجته تشتكي المخاض ، فجاء بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الكعبة ، وولدت فيها .
ويمكن الجمع بينهما بأن دعاءها عند الكعبة عندما أتى بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وتوجد رواية بكيفية ثالثة ، وإذا لم يمكن الجمع بينها ، فالمرجح رواية ابن قعنب بن عتاب التميمي ، وقد وثقوه وذكروا أنه كان فارساً ، ويظهر أنه ابن عم الحر بن يزيد الرياحي ، الذي استشهد مع الحسين ( عليه السلام ) . أنساب الأشراف : 12 / 159 .
وفي المناقب : 3 / 59 : « عليٌّ ( عليه السلام ) أول هاشمي ولد من هاشميين ، وأول من ولد في الكعبة ، وأول من آمن ، وأول من صلى ، وأول من بايع ، وأول من جاهد ، وأول من تعلم من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأول من صنف » .
3 . دلالة ولادة علي في الكعبة
في ولادته ( عليه السلام ) في الكعبة إشارة ربانية مهمة إلى مكانته عند الله تعالى ، وإن كان هو ( عليه السلام ) أفضل من الكعبة الشريفة ، كما قال الشهيد نور الله التستري في إحقاق الحق / 198 : « على أن الكلام في تشرف الكعبة بولادته فيها ، لا في تشرفه بولادته في الكعبة ، فإنه ( عليه السلام ) هو الكعبة الحقيقية لأهل الانتباه ، وقبلة إقبال المقبلين إلى الله ، كما روى عنه ( عليه السلام ) أنه قال : نحن كعبة الله ، ونحن قبلة الله » . نهج الإيمان / 569 .
4 . اسم علي واسم حيدرة
في أمالي الطوسي / 3 : « عن مكحول قال : لما كان يوم خيبر خرج رجل من اليهود يقال له مرحب ، وكان طويل القامة عظيم الهامة ، وكانت اليهود تقدمه لشجاعته ويساره .
--------------------------- 181 ---------------------------
قال : فخرج في ذلك اليوم إلى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فما واقفه قرن إلا قال : أنا مرحب ، ثم حمل عليه فلم يثبت له . قال : وكانت له ظئر وكانت كاهنة ، وكانت تعجب بشبابه وعظم خلقته ، وكانت تقول له : قاتل كل من قاتلك وغالب كل من غالبك ، إلا من تسمى عليك بحيدرة ، فإنك إن وقفت له هلكت . قال : فلما كثر مناوشته ، وبَعُل الناس بمقامه شكوا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) سألوه أن يُخرج إليه علياً فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : يا علي إكفني مرحباً ، فخرج إليه أمير المؤمنين ، فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به ، فأنكر ذلك وأحجم عنه ، ثم أقدم وهو يقول : أنا الذي سمتني أمي مرحبا .
فأقبل علي ( عليه السلام ) بالسيف ، وهو يقول : أنا الذي سمتني أمي حيدره .
فلما سمعها منه مرحب هرب ولم يقف خوفاً مما حذرته منه ظئره ، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود ، فقال : إلى أين يا مرحب ؟ فقال : قد تسمى عليَّ هذا القرن بحيدرة ! فقال له إبليس : فما حيدرة ؟ فقال : إن فلانة ظئري كانت تحذرني من مبارزة رجل اسمه حيدرة وتقول : إنه قاتلك .
فقال له إبليس : شوهاً لك ، لو لم يكن حيدرة إلا هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله ، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أكثر مما يصبن ، وحيدرة في الدنيا كثير ، فارجع فلعلك تقتله ، فإن قتلته سدت قومك ، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك . فرده فوالله ما كان إلا كفَوَاق ناقة حتى ضربه علي ( عليه السلام ) ضربة سقط منها لوجهه وانهزم اليهود وهم يقولون : قتل مرحب ، قتل مرحب ! » .
أقول : يظهر أن أمه سمته حيدرة وسماه أبوه علياً بتوجيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وحيدرة بالعربية الأسد ، وورد أن اسمه ( عليه السلام ) عند اليهود هيدار ، ففي الروضة لابن شاذان / 222 ، أن اسم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « في التوراة : ميد ميد ، واسم وصيه : إليا ، واسمه في الإنجيل : حمياطا ، واسم وصيه فيها : هيدار »
وفي معاني الأخبار / 58 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خطبة له : « اسمي في الإنجيل إليا ، وفي التوراة برئ ، وفي الزبور أري ، وعند الهند كبكر ،
--------------------------- 182 ---------------------------
وعند الروم بطريسا ، وعند الفرس جبتر ، وعند الترك بثير ، وعند الزنج حيتر ، وعند الكهنة بويئ ، وعند الحبشة بثريك ، وعند أمي حيدرة ، وعند ظئري ميمون ، وعند العرب علي ، وعند الأرمن فريق ، وعند أبي ظهير » .
وفي الفضائل لابن شاذان / 175 : « وقد رويَ عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : لعلي سبعة عشر إسماً . فقال ابن عباس أخبرنا ما هي يا رسول الله ؟ فقال : اسمه عند العرب علي ، وعند أمه حيدرة ، وفي التوراة إليا ، وفي الإنجيل بريا ، وفي الزبور قريا ، وعند الروم بطرسيا ، وعند الفرس نيروز ، وعند العجم شميا ، وعند الديلم فريقيا ، وعند الكرور شيعيا ، وعند الزبح حيم ، وعند الحبشة تبير ، وعند الترك حميرا ، وعند الأرمن كركر ، وعند المؤمنين السحاب ، وعند الكافرين الموت الأحمر ، وعند المسلمين وعد ، وعند المنافقين وعيد ، وعندي طاهر مطهر ، وهو جنب الله ، ونفس الله ، ويمين الله عز وجل » .
وربما وجد ارتباط بين هيدار وقيدار ، ففي قاموس الكتاب المقدس / 751 : « قيدار : اسم سامي ، معناه قدير أو أسود ، وهو ابن إسماعيل الثاني « تك 25 : 13 » وهو أب لأشهر قبائل العرب ، وتسمى بلادهم أيضاً : قيدار » .
5 . ولد علي ( ( ع ) ) قبل البعثة بعشر سنين
كان عمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمَّا بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) عشر سنين ، لكنه كان جسمه ببنية الخمسة عشر ، ووعقل أكبر من سنه بكثير ، ويكفي دليلاً عليه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كلفه بدعوة بني هاشم وإعداد الطعام لهم .
قال العلامة في تذكرة الفقهاء : 6 / 196 : « يوم الثالث عشر منه ، ولد مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الكعبة قبل النبوة باثنتي عشرة سنة » . والصحيح عشرة سنين .
وقال في الكافي : 1 / 452 : « ولد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقتل ( عليه السلام ) في شهر رمضان لتسع بقين منه ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة ، وهو ابن ثلاث وستين سنة ، بقي بعد قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثين سنة » .
وتواترت في مصادر السنيين رواية ابن عفيف الكندي ، قال : « أول شئ علمتُ
--------------------------- 183 ---------------------------
من أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قدمت مكة في عمومة لي ، فأرشدنا على العباس بن عبد المطلب ، فانتهينا إليه وهو جالس في زمزم فجلسنا إليه فبينا نحن عنده ، أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة ، له وفرة جعدة إلى أطراف أذنيه ، أشم أقنى الأنف براق الثنايا أدعج العينين ، كث اللحية دقيق المسربة ، شثن الكفين والقدمين ، عليه ثوبان أبيضان ، كأنه القمر ليلة البدر ، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه ، مراهق أو محتلم ، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها ، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه ، ثم استلمه الغلام ، واستلمت المرأة ، ثم طاف بالبيت سبعاً ، والغلام والمرأة يطوفون معه ، ثم استلم الركن ورفع يديه وكبر ، وقام الغلام عن يمينه ورفع يديه وكبر ، وقامت المرأة خلفهما ورفعت يديها وكبرت ، وأطال القنوت ثم ركع فأطال الركوع ، ثم رفع رأسه من الركوع فقنت وهو قائم ، ثم سجد وسجد الغلام والمرأة معه ، يصنعان مثلما يصنع يتبعانه . قال : فرأينا شيئاً لم نكن نعرفه بمكة فأنكرنا ، فأقبلنا على العباس فقلنا : يا أبا الفضل إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم ، أشئ حدث ؟ قال : أجل والله ، أما تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله ، والغلام علي بن أبي طالب ، والمرأة خديجة بنت خويلد . أما والله ما على ظهر الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة » . والطبراني الكبير : 10 / 183 ، شرح النهج : 13 / 225 ، شواهد التنزيل : 2 / 302 ، تاريخ دمشق : 3 / 265 ، سير الذهبي : 1 / 463 ، ما نزل من القرآن في علي لابن مردويه / 49 ، الحاكم : 3 / 183 ، الإستيعاب : 3 / 1096 ، الفصول المختارة / 273 .
وفي رواية أحمد : 1 / 209 أنه رآهم في موسم الحج في منى خرجوا من خيمة وصلَّوْا . وفي رواية : « وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر » .
6 . أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( ( ع ) ) وهو طفلٌ فرباه ليكون له عضداً
في المناقب : 2 / 29 : « ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب : إني أحب أن تدفع إليَّ بعض
--------------------------- 184 ---------------------------
ولدك يعينني على أمري ويكفيني ، وأشكر لك بلاك عندي .
فقال أبو طالب : خذ أيهم شئت ، فأخذ علياً ( عليه السلام ) » .
وقال علي ( عليه السلام ) : « وقد علمتم موضعي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة . وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ، ويمسني جسده ويشمني عرفه . وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه . وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل . ولقد قرن الله به ( صلى الله عليه وآله ) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ويعلمه محاسن أخلاق العالم ليله ونهاره . ولقد كنت أتبعه اتِّبَاع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به . ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة .
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير ، وإنك لعلى خير » . نهج البلاغة : 2 / 158 .
وهذا النص الصحيح يبطل قولهم إن أبا طالب « رحمه الله » كان فقيراً لا يملك قوت أولاده فأشفق عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) والعباس ، فأخذا بعض أولاده ليخففوا عائلته ! فأخذ محمد ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) وأخذ العباس جعفراً ! وقد أفاض رواة السلطة العباسية في ذلك ، وأخذته منهم بعض مصادرنا لأن ظاهره المديح !
وأصله رواية ابن هشام : 1 / 162 ، عن ابن إسحاق ، عن مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 ، قال : « كان من نعم الله على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما صنع الله له وأراده به من الخير ، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب في عيال كثير فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم : يا أبا الفضل إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه . فقال
--------------------------- 185 ---------------------------
العباس : نعم ، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ماشئتما . فأخذ رسول الله علياً فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه ، فلم يزل علي مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى بعثه الله نبياً فاتبعه وصدقه ، وأخذ العباس جعفراً ، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه » . والطبري : 2 / 57 ، الحاكم : 3 / 576 ، مجمع الزوائد : 8 / 153 ، الإستيعاب : 1 / 37 ، تفسير الثعلبي : 5 / 84 ، مجالس ثعلب / 15 ، تاريخ دمشق : 26 / 283 . وشرح النهج 13 / 198 . ومن مصادرنا : علل الشرائع : 1 / 169 ، كشف الغمة : 1 / 77 ، روضة الواعظين / 86 ، المناقب : 2 / 27 ، العمدة / 63 ، ذخائر العقبى / 58 ، عمدة الطالب / 59 وبحار الأنوار : 35 / 24 . . الخ .
فالرواية إنما هي قولُ مجاهد بن جبر ، مولى بني مخزوم ، وعنه أخذها الجميع ، وظاهرها مدح لعلي ( عليه السلام ) بأن فقر أبيه كان السبب في أن يربيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
بل رووا عنه ( عليه السلام ) أنه قال : « أبي ساد فقيراً ، وما ساد فقير قبله » . اليعقوبي : 2 / 14 .
لكن كيف كان أبو طالب فقيراً ، وهو يطعم الحجيج ويسقيهم ! وهو ابن عبد المطلب الذي وَرَّثَه سقاية الحجيج ورفادتهم ؟ !
وقد روى مادحوا العباس أن أبا طالب اقترض منه عشرة آلاف درهم ، وأنفقها على الحجيج ، وفي السنة الثانية اقترض أربعة عشر ألفاً . تاريخ دمشق : 26 / 283 . فالذي ينفق الألوف لايعجز عن نفقة بيته وهي لا تزيد عن 500 درهم في السنة !
ومما يردُّ كلامهم أيضاً أنَّا لم نسمع شيئاً عن طالب عند حمزة ، ولا عن جعفر
عند العباس ! ولا سمعنا شيئاً عن هذه الأزمة الشديدة على قريش ، التي تفرد بذكرها مجاهد ، الذي هو صاحب ابن عباس ، وهو عباسي الهوى !
إن غرضهم إثبات فقر أبي طالب « رحمه الله » وغنى العباس ، وإنفاقه عليه وعلى أولاده ، وأن يقولوا إن أبا طالب عجز عن نفقات الرفادة والسقاية التي ورثه إياها عبد المطلب ، فاشتراها منه العباس . وأن يجعلوا نشأة علي ( عليه السلام ) عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) مصادفة ! راجع : تاريخ دمشق : 26 / 283 ، المستطرف : 1 / 289 ، أخبار مكة :
--------------------------- 186 ---------------------------
2 / 106 ، ومجالس ثعلب / 15 .
والراوي الثاني لهذه القصة فهو ابن سلام ، قال : « لما أمْعَرَ أبو طالب قالت له بنو هاشم : دعنا فليأخذ كل رجل منا رجلاً من ولدك . قال : اصنعوا ما أحببتم إذا خليتم لي عقيلاً ، فأخذ النبي علياً . . فكان أبو طالب يُدان لسقاية الحاج حتى أعوزه ذلك ، فقال لأخيه العباس بن عبد المطلب وكان أكثر بني هاشم مالاً في الجاهلية : يا أخي قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولا بد لهذه السقاية من أن تقام للحاج ، فأسلفني عشرة آلاف درهم فأسلفه العباس إياها ، فأقام أبو طالب تلك السنة بها وبما احتال « هيأ » فلما كانت السنة الثانية وأفِد الموسم « قرب » قال لأخيه العباس : يا أخي إن الموسم قد حضر ولا بد للسقاية من أن تقام ، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم ، فقال : إني قد أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم ، ورجوتُ ألا يأتي عليك هذا الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها ، وأنت تطلب العام أكثر منها ، وترجو زعمت ألا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها ، فأنت عنها أعجز اليوم ! هاهنا أمرٌ لك فيه فرج : أدفع إليك هذه الأربعة العشر ألف ، فإن جاء موسم قابل ولم توف حقي الأول وهذا ، فولاية السقاية إليَّ ، فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذْ عجزت عنها ! فأنعم له أبو طالب بذلك فقال : ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة ولا أريد سائر بني هاشم ، ففعل أبو طالب وأعاره العباس الأربعة عشرالألف بمحضر منهم ورضاً ، فلما كان الموسم العام المقبل لم يكن بد من إقامة السقاية ، فقال العباس لأبي طالب : قد أفد الحج وليس لدفع حقي إلي وجه ، وأنت لا تقدر أن تقيم السقاية فدعني وولايتها أكفكها وأبريك من حقي ففعل ، فكان العباس بن عبد المطلب يليها وأبو طالب حيٌّ ثم تم لهم ذلك إلى اليوم » .
أقول : صاحب هذا الكلام محمد بن سلام الجمحي ، وهو من أتباع المتوكل ، توفي سنة 231 ، ولم يسنده إلى أحد حتى إلى مجاهد تلميذ ابن عباس ! والرواية موظفة لإثبات أن العباسيين اشتروا السقاية من أبي طالب ، بعد أن أوصى له بها عبد المطلب ! والصحيح : أنه لما توفي أبو طالب وهاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحمزة وعلي وجعفر ، بقي العباس في مكة فتصدى للسقاية ، ولما فتح النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة سكت عن السقاية !
--------------------------- 187 ---------------------------
بل رووا أنه ( صلى الله عليه وآله ) كره أن يشرب من سقاية العباس ، لأنه كان يضع في الماء عنباً أو زبيباً : « عطش النبي ( صلى الله عليه وآله ) حول الكعبة فاستسقى ، فأتي بنبيذ من السقاية فشمَّه فَقَطَّب ! فقال عليَّ بذَنوبٍ من زمزم ، فصب عليه ثم شرب » . فتح الباري : 10 / 34 .
ولما افتخر العباس بالسقاية ، نزل قوله تعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ » . الكافي : 8 / 203 .
والنتيجة : أن علياً ( عليه السلام ) ولد قبل زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنحو سنتين حسب رواية أبي رافع « المناقب 2 / 29 » : « ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب : إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني ، وأشكر لك بلاك عندي . فقال أبو طالب : خذ أيهم شئت ، فأخذ علياً ( عليه السلام ) » .
ويدل قوله ( عليه السلام ) : « وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ، ويمسني جسده ويشمني عرفه . وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه » . على أنه كان في السنة الثالثة أو نحوها .
وقالت أمه فاطمة رضي الله عنها كما في رواية ابن قعنب كشف اليقين / 23 : « فولدت علياً ولرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثون سنة ، فأحبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حباً شديداً وقال لي : إجعلي مهده بقرب فراشي . وكان ( صلى الله عليه وآله ) يلي أكثر تربيته ، وكان يطهرعلياً في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ويقول : هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي . وكان يحمله دائماً ، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها » .
ومعناه أنه ( صلى الله عليه وآله ) اهتم بعلي ( عليه السلام ) من أول ولادته ، فكان يربيه ويطعمه وهو مع أمه في بيت أبي طالب ، ثم طلبه من عمه أبي طالب ( عليه السلام ) وكان في نحو السنتين . ويكون عمره ( عليه السلام ) عند البعثة عشر سنين « فولدت علياً ولرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثون سنة » وعاش معه ثلاثاً وثلاثين ، وبعده ثلاثين سنة .
--------------------------- 188 ---------------------------
الفصل العاشر
مقدمات بعثة النبي « صلى الله عليه وآله »
1 . حكَّمَتْه قريش في وضع الحجر قبل بعثته ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في الكافي : 4 / 217 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن قريشاً في الجاهلية هدموا البيت فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه وألقيَ في روعهم الرعب ، حتى قال قائل منهم : ليأتِ كل رجل منكم بأطيب ماله ، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام ، ففعلوا فَخُلِّيَ بينهم وبين بنائه ، فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه حتى كاد أن يكون بينهم شر ، فحكَّموا أول من يدخل من باب المسجد ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما أتاهم أمَرَ بثوب فبُسط ثم وضع الحجر في وسطه ، ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه ، ثم تناوله ( صلى الله عليه وآله ) فوضعه في موضعه ، فخصه الله به » .
وفي الكافي : 4 / 217 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أيضاً قال : « إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت ، وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه من جوهر ، وكان حائطها قصيراً ، وكان ذلك قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاثين سنة . . . فلما بلغ البناء إلى موضع الحجرالأسود تشاجرت قريش في موضعه ، فقال كل قبيلة : نحن أولى به نحن نضعه فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة ، فطلع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : هذا الأمين قد جاء ! فحكموه فبسط رداءه وقال بعضهم كساء طاروني كان له ، ووضع الحجر فيه ثم قال : يأتي من كل ربع من قريش رجل ، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ،
--------------------------- 189 ---------------------------
والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى ، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم ، وقيس بن عدي من بني سهم ، فرفعوه ووضعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في موضعه » . والبيهقي : 5 / 72 ، فتح الباري : 3 / 351 ، الطيالسي / 18 ، أوائل ابن أبي عاصم / 44 ، الإستيعاب : 1 / 35 ، التنبيه والإشراف / 197 ، تاريخ الذهبي : 1 / 66 ، النهاية : 5 / 171 والشفا : 1 / 134 .
وذكر اليعقوبي : 2 / 19 أن عمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان خمساً وعشرين سنة . « كانت قريش تسمى رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين » . ابن هشام : 1 / 124 .
2 . قبل الأربعين كان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نبياً وكان يصلي معه علي وخديجة « عليهما السلام »
بحث العلماء عبادة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) قبل بعثته ، وهل كان يعبد الله تعالى حسب شريعة عيسى ( عليه السلام ) أم لا ؟ « البحار 18 / 272 » والصحيح أنه ( صلى الله عليه وآله ) وأجداده « عليهم السلام » كانوا فرعاً مستقلاً ، مكلفين بحنيفية إبراهيم ( عليه السلام ) دون غيره من الأنبياء « عليهم السلام » ، وأن قريشاً انحرفت عن ملة إبراهيم ( عليه السلام ) وثبت عليها آباؤه وأخيار أسرته ( صلى الله عليه وآله ) ، ويدل عليه :
1 - قول الفتال النيسابوري في روضة الواعظين / 52 : « إعلم أن الطائفة قد اجتمعت على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان رسولاً نبياً مستخفياً ، يصوم ويصلي على خلاف ما كانت قريش تفعله ، مذ كلفه الله تعالى . فإذا أتت أربعون سنة أمرالله عز وجل جبرئيل ( عليه السلام ) أن يهبط إليه بإظهار الرسالة وذلك في يوم السابع والعشرين من شهر الله الأصم . فاجتاز بميكائيل ( عليه السلام ) فقال : أين تريد ؟ فقال له : قد بعث الله جل وعز نبياً نبي الرحمة وأمرني أن أهبط إليه بالرسالة فقال له ميكائيل : فأجئ معك قال له : نعم ، فنزلا ووجد رسول الله نائماً بالأبطح بين أمير المؤمنين وجعفر بن أبي طالب « عليهم السلام » فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، ولم ينبهه جبرئيل إعظاماً له ، فقال ميكائيل لجبرئيل : إلى أيهم بعثت ؟ قال : إلى الأوسط ، فأراد أن ينبهه فمنعه جبرئيل ثم انتبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأدى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى . فلما نهض جبرئيل ليقوم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بثوبه . ثم قال : ما اسمك ؟ قال له جبرئيل . ثم نهض رسول الله ليلحق بغنمه ، فما مر
--------------------------- 190 ---------------------------
بشجرة ولامدرة إلا سلمت عليه وهنأته . ثم كان جبرئيل ( عليه السلام ) يأتيه فلا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه ، فأتاه يوماً وهو بأعلى مكة فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجرت عين ، فتوضأ جبرئيل وتوضأ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم صلى الظهر وهي أول صلاة فرضها الله عز وجل ، وصلى أمير المؤمنين تلك الصلاة مع رسول الله ، ورجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في يومه إلى خديجة فأخبرها ، فتوضأت وصلت صلاة العصر من ذلك اليوم » .
2 - قال الأصبغ بن نباتة : « سمعت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولاهاشم ولا عبد مناف صنماً قط ! قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به » . كمال الدين / 174 .
3 - تدل آيات تجديد إبراهيم ( عليه السلام ) للكعبة وإسكانه إسماعيل وذريته « عليهم السلام » فيها ، على أنهم فرع مستقل عن بني إسرائيل ونبواتهم ، وامتداد مباشر لإبراهيم ليهدوا الناس إلى حج البيت والطواف به والصلاة عنده ، بانتظار النبي الموعود منهم : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . إبراهيم : 37 .
وقال تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . البقرة : 127 - 129 .
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .
البقرة : 135 - 136 . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا . . آل عمران : 68 .
4 - تقدم في الفصل الأول أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً قبل آدم ، فوضع الله نوره في صلب آدم ، ثم ما زال ينقله من صلب طاهر إلى رحم مطهر ، حتى أولده من أبويه المؤمنين الطاهرين عبد الله وآمنة « عليها السلام » .
--------------------------- 191 ---------------------------
5 - تقدم قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يصف النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ولقد قرن الله به ( صلى الله عليه وآله ) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ويعلمه محاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره » . فهو نص على أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً من فطامه على الأقل ، وأن كبيراً من الملائكة كان معه ينبؤه ويعلمه ، ثم بعث في الأربعين رسولاً .
6 - قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) في الرسول والنبي والمحدث « الكافي : 1 / 176 » : « الرسول الذي يأتيه جبرئيل قُبَلاً « مواجهةً » فيراه ويكلمه فهذا الرسول ، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ( عليه السلام ) ونحو ما كان رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أسباب النبوة قبل الوحي ، حتى أتاه جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله بالرسالة .
وكان محمد ( صلى الله عليه وآله ) حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيؤه بها جبرئيل ويكلمه بها قُبَلاً . ومن الأنبياء « عليهم السلام » من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه ، من غير أن يكون يرى في اليقظة . وأما المحدَّث فهو الذي يُحَدَّث فيسمع ، ولا يُعاين ، ولا يرى في منامه » .
7 - نصت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » على أن جبرئيل جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما كان في سن السابعة والثلاثين ، وأخبره أنه سيكون رسولاً ، وعلمه الوضوء والصلاة وأن خديجة وعلياً ( صلى الله عليه وآله ) صدقاه ، وكانا يصليان معه .
ففي إعلام الورى : 1 / 102 : « ذكر مبدأ المبعث : ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم ، وهو من أجلِّ رواة أصحابنا في كتابه : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتياً أتاه فيقول : يا رسول الله ، فينكر ذلك ، فلما طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب ، فنظر إلى شخص يقول له : يا رسول الله . فقال له : من أنت ؟ قال : جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً ، فأخبر رسول الله خديجة بذلك ، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبراليهودي ، وخبر بحيراء ، وما حدثت به آمنة أمه ، فقالت : يا محمد إني لأرجو أن تكون كذلك .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يكتم ذلك ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) وأنزل عليه ماء من السماء فقال : يا محمد قم توضأ للصلاة ، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه
--------------------------- 192 ---------------------------
واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين ، وعلمه السجود والركوع . فلما تم له أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها ، ولم ينزل عليه أوقاتها ، فكان رسول الله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت .
وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه ، فدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلي ، فلما نظر إليه يصلي قال : يا أبا القاسم ما هذا ؟ قال : هذه الصلاة التي أمرني الله بها ، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وصلى معه وأسلمت خديجة ، فكان لا يصلي إلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وخديجة خلفه .
فلما أتى لذلك أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله ومعه جعفر ، فنظر إلى رسول الله وعلي بجنبه يصليان ، فقال لجعفر : ياجعفرصل جناح ابن عمك فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر ، فلما وقف جعفر على يساره بدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من بينهما وتقدم » . وفي المناقب : 1 / 41 : « وأنشأ أبو طالب في ذلك يقول :
إن علياً وجعفراً ثقتي * عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ
والله لا أخذل النبيَّ ولا * يخذله من بَنِيَّ ذو حسب
لاتخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي »
وفي فوائد أبي الفتح الكراجكي « رحمه الله » / 116 : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف ، أو سمع من حوله رجفة راجف ، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً ، يخبر بذلك خديجة وعلياً ( صلى الله عليه وآله ) ويستسرهما هذه الحال ، فكانت خديجة تثبته وتصبره ، وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له : والله يا ابن العم ما كذب عبد المطلب فيك ، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك .
ولم يزل كذلك إلى أن أُمِرَ بالتبليغ ، فكان أول من آمن به من النساء خديجة « عليها السلام » ، ومن الذكور أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) » .
8 - وفي أمالي الطوسي / 260 : « عبد الله بن نجي قال : سمعت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يقول : صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يصلي معه أحد من الناس ثلاث سنين » . ورواه الشريف المرتضى في الفصول المختارة / 261 ، وروى عن معاذة العدوية قالت : « سمعت
--------------------------- 193 ---------------------------
علياً ( عليه السلام ) يخطب على منبر البصرة ، فسمعته يقول : أنا الصديق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم . وعن أبي البختري قال ( عليه السلام ) : صليت قبل الناس سبع سنين » .
3 . وروى الجميع أنه صلى وعلياً سبعاً قبل الناس
روت مصادر الشيعة والسنة بسند صحيح ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلى هو وخديجة وعلي سبع سنين قبل الناس . والظاهر أنه يقصد أربع سنوات قبل الرسالة ، وثلاث سنوات بعدها ، حتى أمره الله بالدعوة العامة .
روى الخطيب في المتفق : 3 / 141 عن أبي أيوب : « قال ( صلى الله عليه وآله ) : صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين ، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله » . وفي تاريخ دمشق : 42 / 39 : « ولم ترفع شهادة أن لا إله إلا الله من الأرض إلى السماء ، إلا مني ومن علي » .
كما رووا قول علي ( عليه السلام ) صليت قبل الناس بسبع سنين ، وطرقه تصل إلى حد التواتر فمن مصادرنا : رواه في الخصال / 401 : « أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ، صليت قبل الناس بسبع سنين » .
وفي روضة الواعظين / 85 : « اللهم إني لا أعلم أحداً أسلم قبلي من هذه الأمة غير نبيها ، صليت قبل أن يصلي أحد سبعاً . . . بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء . عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين ، إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، قلت يا رسول الله : ما هذا ؟ قال : أمرت به » .
وفي أمالي الطوسي / 341 ، عن الإمام الرضا عن آبائه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ بمكة قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن » .
وفي كشف اليقين / 167 : « ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل ، عن عبد الله بن عباس قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها غيري إلا كاذب مفتر ، ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين .
ومن مسند أحمد : عن ابن أبي ليلى قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الصديقون ثلاثة :
--------------------------- 194 ---------------------------
حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال : يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ . وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : أَتَقْتُلُونَ رجلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ . وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم » . والفصول المختارة / 260 ، الغدير : 2 / 314 و 3 / 121 والصحيح من السيرة : 4 / 45 . ومن مصادرغيرنا : ابن ماجة : 1 / 44 ، الحاكم : 3 / 111 وصححاه . ومجمع الزوائد : 9 / 102 ، بعدة روايات ، ابن أبي شيبة : 7 / 498 ، الضحاك في الآحاد والمثاني : 1 / 148 ، النسائي : 5 / 106 ، الثعلبي في تفسيره : 5 / 85 ، الطبري في الرياض النضرة : 2 / 209 وابن أبي عاصم في السنة / 584 .
وفي سنن النسائي : 5 / 107 : « ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَد الله بعد نبيها - مباشرة - غيري ، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بسبع سنين » .
وقال في شرح النهج : 13 / 200 : « أنا الصديق الأكبر ، وأنا الفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبي بكر ، وصليت قبل صلاته بسبع سنين . كأنه ( عليه السلام ) لم يرتض أن يذكر عمر ، ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه ، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً » !
أقول : كان نزول جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متعدداً قبل الأربعين ، إلى أن نزل بالقرآن في الأربعين ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يخبر علياً وخديجة « عليهما السلام » ويدعوهما إلى الإيمان بعد نزول جبرئيل ( عليه السلام ) . وفي المرة الأخيرة في غار حراء كان علي وخديجة معه ( صلى الله عليه وآله ) كما روى ذلك السنة والشيعة ، ودعاهما أيضاً بعده فآمنا .
4 . وروى الجميع ما يدل على نبوته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل رسالته !
ففي دلائل النبوة للبيهقي : 2 / 17 و 424 ومسلم : 7 / 58 : « عن علي رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة فخرج في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال له : السلام عليك يا رسول الله . . . قال رسول الله : إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن » .
وفي فيض القدير : 3 / 25 : « قيل هو الحجر الأسود ، وقيل البارز بزقاق المرفق ، وعليه أهل مكة سلفاً وخلفاً » . وأضافت رواية الترمذي : 5 / 253 وغيره : كان يسلم عليَّ ليالي بعثت . ويبدو أنها زياة من الراوي .
--------------------------- 195 ---------------------------
5 . زعموا أن إسرافيل نزل عليه قبل جبرئيل
اهتم رواة السلطة بأمرين جعلوهما أصلين في البعثة ، وأخضعوا لهما ما روي !
الأول : أن نبوته ورسالته ( صلى الله عليه وآله ) كانتا معاً ، وأنه قبل الأربعين كان شخصاً عادياً ! وافتروا عليه بأنه كان يذبح للأصنام ، ويأكل مما ذُبح لها !
وغاية ما رووه أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يتعبد قبيل البعثة في حراء ، ويرى الرؤيا الصادقة !
والثاني : جعلوا حديث عائشة في البخاري عن بدء الوحي ، وَحْياً منزلاً ، بكل ما فيه من عنف جبرئيل ( عليه السلام ) وعدم منطقيته ، وغطه وعكه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أي ضربه إياه حتى كاد يخنقه ، ثم تركه مذعوراً خائفاً شاكاً في نبوته ! فعاد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيته وهو يرتجف وشكى إلى زوجته فأخذته إلى قسيس من أقاربها ، فامتحنه وطمأنه بأنه نبي ! ثم زعمت الرواية أن الوحي انقطع عنه فعاد اليه الشك ، وحاول أن ينتحر مراراً من خوف الفضيحة ، لكن جبرئيل منعه !
وقد أعرضوا عن آيات القرآن وأنه رآه في أفق مبين ، لأنها تخالف حديث عائشة ، وأعرضوا عن أحاديث صلاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) قبل الناس سبع سنين وثلاث سنين ، مع أنها عندهم صحيحة ، لأنها تعارض رواية عائشة !
ثم اخترعوا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في الأربعين ، وكان ينزل عليه إسرافيل ( عليه السلام ) ثلاث سنين ، قبل أن ينزل جبرئيل ( عليه السلام ) !
قال ابن كثير في سيرته : 1 / 388 : « قال الإمام أحمد . . عن عامر الشعبي ، أن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلمه الكلمة والشئ ولم ينزل القرآن ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة ، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة .
فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي . . . وحديث عائشة لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا ، ثم وكل به إسرافيل فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل ، اختصاراً للحديث ، أو لم تكن وقفت
--------------------------- 196 ---------------------------
على قصة إسرافيل » . والإتقان : 1 / 128 ، الإستيعاب : 1 / 36 ، الدر المنثور 3 / 302 وعمدة القاري : 1 / 40 وغيرها .
فقبلوا كلام عامر الشعبي غير المسند لأنه ينسجم مع رواية عائشة !
وافترض الماوردي من عند نفسه : « ستة أحوال نُقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها » فعقد في أعلام النبوة / 308 ، فصلاً بعنوان : « تَدَرُّجُه ( صلى الله عليه وآله ) في أحوال النبوة » لكنه جعلها كلها مراحل للخروج من شكه بنبوته إلى اليقين !
قال : « تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ » ! وهو ككلام الشعبي تخيلٌ بلا دليل !
أما سبب اختيارهم لإسرافيل وميكائيل بدل جبرئيل « عليهم السلام » « عبد الرزاق : 3 / 599 » فمن أجل إرضاء اليهود الذين يعادون جبرئيل ( عليه السلام ) ، لأنه نزل بعذابهم !
روى ابن حجر في العجاب : 1 / 292 عن عمر ، أن اليهود قالوا له : « يا ابن الخطاب ما أحد أحب إلينا منك إنك تأتينا وتغشانا . . قالوا عدونا جبريل وسِلْمُنَا ميكائيل » !
ثم روى أن اليهود قالوا : « لو أن ميكائيل الذي ينزل عليكم اتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالنقمة والعذاب ، وهو لنا عدو » !
- *
--------------------------- 197 ---------------------------
الفصل الحادي عشر
كيف بدأت بعثة النبي « صلى الله عليه وآله »
1 . رواية أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) عن البعثة وابتداء الوحي
كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعتكف لعبادة ربه عز وجل في جبل حراء في ضاحية مكة ، وهو محل اعتكاف أجداده الطاهرين « عليهم السلام » ، وله قمتان متصلتان بقمته الدنيا وفيها غار حراء ، والعليا لا يمكن صعودها مشياً ، وفيها لون أبيض يميز الجبل .
ويمتاز غار حراء بأن المصلي فيه يرى الكعبة ، مع أنها في وادٍ بين جبال ، لأنه أعلى من الجبال التي حولها ، فكأنه مخلوقٌ للعبادة مع استقبال الكعبة ومشاهدتها !
ويسمى المُعْتَكِفُ في جبل حراء مُتَحَنِّفاً أي عابداً لله على ملة إبراهيم الحنيفية ، والحنيف المائل إلى الخير ، ويقابله الجنيف المائل إلى الشر .
وقال بعضهم يتحنث بالثاء ، لكن اللغويين قالوا : « لا أعرف يتحنث إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم ( عليه السلام ) » . عمدة القاري : 1 / 49 .
ويعتزل المعتكف الناس شهراً أو أياماً ، يعبد الله تعالى ويتأمل في آلائه . وكان عبد المطلب ( عليه السلام ) يعتكف بحراء ، وكان نبينا ( صلى الله عليه وآله ) يعتكف شهراً في السنة ، ويعود إلى مكة فلا يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة .
قال في فتح الباري : 12 / 213 : « مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الإعتكاف . . إنما لم ينازعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره ، لأن جده عبد المطلب أول من
--------------------------- 198 ---------------------------
كان يخلو فيه من قريش ، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه ، فتبعه على ذلك من كان يتأله ، فكان ( صلى الله عليه وآله ) يخلو بمكان جده وسلَّمَ له ذلك أعمامه » .
وروي أن إبراهيم ( عليه السلام ) بنى الكعبة من أربعة جبال ، ففي تاريخ دمشق : 2 / 348 : « فلما كان إبراهيم أراه الله تعالى مكانة البيت ، فاتَّبع منه أثراً قديماً ، فبناه من طور زيتا ، وطور سينا ، ومن جبل لبنان ، ومن أحد ، وجعل قواعده من حراء » .
وأقسم أبو طالب « رحمه الله » بالمتعبدين بحراء والزائرين له ، فقال في لاميته :
ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
أعوذ برب الناس من كل * طاعن علينا بسوء أو مُلِحٍّ بباطل
وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكةٍ * وبالله إن الله ليس بغافل
سيرة ابن هشام : 1 / 154 و 176
وأوضح نص في بدء بعثته ( صلى الله عليه وآله ) ما قاله علي ( عليه السلام ) في أطول خطبه التي تسمى القاصعة : « ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة . ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وإنك لعلى خير » . نهج البلاغة : 2 / 157 ومصادر نهج البلاغة : 3 / 23 .
وقوله ( عليه السلام ) : ولقد سمعت رنة الشيطان . . يظهر أن ذلك في أول بعثته ( صلى الله عليه وآله ) أيام اعتكافه وأن علياً ( عليه السلام ) كان حاضراً معه كما روي ، وقد يكون ذلك في مرة أخرى بعدها .
قال الجاحظ في العثمانية / 305 : « فجاور في حراء في شهر رمضان ، ومعه أهله خديجة ، وعلي بن أبي طالب ، وخادم » .
وفي السيرة الحلبية : 1 / 383 : « كان يخرج لجواره ومعه أهله ، أي عياله التي هي خديجة ، إما مع أولادها أو بدونهم » .
وفي دلائل البيهقي : 2 / 14 وإمتاع الأسماع : 3 / 24 : « وخرج معه بأهله » .
--------------------------- 199 ---------------------------
لكن بعضهم تعمد تغييب علي ( عليه السلام ) حتى عن أخذ الزاد له ! قال البخاري : 8 / 67 : « ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها » .
ومعنى رنة إبليس : صوت حزنه ورعبه . وروي أنه : « رنَّ أربع رنات : يوم لعن ويوم أهبط إلى الأرض ، ويوم بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويوم الغدير » . قرب الإسناد / 9 .
وأضاف لها في الخصال / 263 : « وحين أنزلت أم الكتاب » .
وفي الطبراني الكبير : 12 / 9 : « لما افتتح النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة رنَّ إبليس » .
وفي شرح النهج : 13 / 209 عن علي ( عليه السلام ) ، أن الشيطان رنَّ : « صبيحة الليلة التي أسري فيها بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو بالحجر ، ولما بايعه الأنصار ليلة العقبة » .
وقال أهل البيت ( عليهم السلام ) إن الوحي بدأ في أفق مبين ، لا لبس فيه ولاخوف ، واستمر كذلك تصديقاً لقوله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ . وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ .
ففي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 155 : « وأما تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما ترك التجارة إلى الشام ، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات ، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده ، وينظر من قُلله إلى آثار رحمة الله عز وجل ، وأنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته ، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض ، والبحار والمفاوز والفيافي ، فيعتبر بتلك الآثار ، ويتذكر بتلك الآيات ويعبدالله حق عبادته .
فلما استكمل أربعين سنة ، نظر الله عز وجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب ، وأجلها وأطوعها وأخشعها وأخضعها ، فأذن لأبواب السماء ففتحت ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) ينظر إليها ، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) ينظر إليهم ، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد ( صلى الله عليه وآله ) وغمرته ، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور ، طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه ، وقال : يا محمد إقرأ . قال : وما أقرأ ؟ قال : يا محمد : إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ . إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ . عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ .
ثم أوحى إليه ربه عز وجل ما أوحى إليه ، ثم صعد جبرئيل إلى العلو .
--------------------------- 200 ---------------------------
ونزل محمد ( صلى الله عليه وآله ) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله ، وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض ، وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ، ونسبتهم إياه إلى الجنون ، وأنه يعتريه شيطان ، وكان من أول أمره أعقل خليقة الله وأكرم براياه ، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم .
فأراد الله عز وجل أن يشرح صدره ويشجع قلبه ، فأنطق الجبال والصخور والمدر ، وكلما وصل إلى شئ منها ناداه : السلام عليك يا محمد ، السلام عليك يا ولي الله ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، أبشر فإن الله عز وجل قد فضلك وجمَّلك وزيَّنك وأكرمك ، فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين . لا يحزنك قول قريش : إنك مجنون وعن الدين مفتون ، فإن الفاضل من فضَّله رب العالمين ، والكريم من كرَّمه خالق الخلق أجمعين ، فلا يضيقن صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك ، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات ، ويرفعك إلى أرفع الدرجات » .
وهذا وأمثاله أحاديث صريحة في أن بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت في أفق مبين ، وبصيرة ويقين ، فلا رعب فيها ولا غط ، ولا ريب ولا شك ، ولا ورقة بن نوفل ، ولا عدَّاساً ، ولا نسطوراً ، ولا شكاً في النبوة وذهاباً إلى الجبل للانتحار ! فكل ذلك مكذوبات من المشركين ، وإن قبلتها عائشة ومن صدقها !
فانظر إلى هذه الصورة الرائعة المنسجمة مع القرآن والعقل وأفعال الله تعالى الحكيمة ، وقارنها بالأساطير التي سطرتها الكتب ، التي عظموها وعصموها !
كما تدل على أن الصلاة كانت قياماً وسجوداً بلا ركوع ، ثم أمر الله بالركوع ، ثم فرضت على المسلمين بصيغتها الفعلية في المعراج ، في السنة الثانية .
2 . طامات عائشة التي تبنتها السلطة
قالت عائشة : إن الوحي بدأ في جَوٍّ عنيف مبهم ، بعكس قول أهل البيت « عليهم السلام » ! وقد افتتح البخاري صحيحه بروايتها وكررها في كتابه أربع مرات ! ولا يمكننا قبولها لأنها
--------------------------- 201 ---------------------------
تخالف القرآن والعقل ، وتقول إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان شاكاً في نبوته ! وأنه أمره بأمر غير معقول ، ثم اعتدى عليه الملاك وغطه بعنف وخنقه وكاد أن يقتله !
قال بخاري في صحيحه : 8 / 67 : « عن عائشة أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح ، فكان يأتي حِرَاء فيتحنَّث فيه ، وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها ، حتى فَجَأَه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : إقرأ ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا بقارئ ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ! ثم أرسلني فقال : إقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجَهد ! ثم أرسلني فقال : إقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ! فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد ! ثم أرسلني فقال : إقرأ باسم ربك ! ثم أرسلني فقال : إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . . حتى بلغ مَا لَمْ يَعْلَمْ .
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمِّلوني زمِّلوني ، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال يا خديجة مالي ؟ ! وأخبرها الخبروقال : قد خشيت على نفسي ! فقالت له : كلا ، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكَل ، وتُقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها ، وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة : أي ابن عم إسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : ابنَ أخي ماذا ترى ؟ فأخبره النبي ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك ؟ فقال رسول الله : أومُخْرِجِيَّ هم ؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقه أن توفي !
وفَتَر الوحي فترةً حتى حزن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي
--------------------------- 202 ---------------------------
يتردى من رؤس شواهق الجبال ! فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه ! تبدَّى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاًفيسكن لذلك جأشه وتقرُّ نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ! فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له مثل ذلك » !
قال النووي : 3 / 199 والعيني : 1 / 50 : « غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه وغمزه ، كله بمعنى واحد » ! راجع كتابنا : ألف سؤال وإشكال : 2 / 180 - مسألة : 140 .
3 . الموقف الشرعي من رواية عائشة
1 - أيهما نصدق : قول الله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ ، أم قول عائشة إنه رآه في أفق مرعب وشك مريب ، فاحتاج إلى نصراني ليهدئ من رعبه وشكه ؟ !
2 - وكيف نصدق الغط والخنق ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يعرف جبرئيل ولا فهم كلامه ! فعاد إلى مكة مرعوباً شاكياً إلى زوجته « عليها السلام » ، فطمأنته ، لكنه بقي شاكاً فأخذته إلى طبيب هوالقسيس ورقة بن نوفل وعرضته عليه ، كما تأخذ المرأة زوجها إلى فوال ، فطمأنها بأنه نبي فاطمأنت !
لكن الوحي انقطع عنه فعاد اليه شكه وإحباطه ، فقرر أن ينتحر ، وذهب مراراً لينفذ قراره من فوق الجبل ! لكن جبرئيل جاءه من بعيد ، ومنعه من الانتحار ، لكنه عاود محاولات الانتحار مراراً !
فأين هذا من قوله تعالى : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدعو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي . وقوله تعالى : إِنِّي لايَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ . وما هذا الرعب ، والشك ، وقرار الانتحار !
3 - بشرت الأنبياء « عليهم السلام » بنبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، وتواترت الأخبار بأن اليهود والنصارى وأسرته عرفوا نبوته ! فكيف لم يعرفها هو حتى بعد نزول الوحي عليه ؟ !
4 - روينا « الكافي 5 / 374 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن أبا طالب تكلم في خِطبة خديجة « عليهما السلام » ولما أراد ورقة أن يتكلم : « تلجلج وقَصُرعن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر » ! فأين شخصية ورقة الضعيفة مما زعمته له رواية عائشة .
--------------------------- 203 ---------------------------
5 - ألا يكفي لرد هذه الرواية ما صححوه من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عبَدَ الله مع عليٍّ سبع سنين قبل بعثته ، وأنه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد ! مجمع الزوائد : 8 / 223 ، أحمد : 4 / 66 و 5 / 59 و 379 ، الحاكم : 2 / 609 ، ابن شيبة : 8 / 438 ، الطبراني الأوسط : 4 / 2727 ، الكبير : 12 / 73 ، آحاد الضحاك : 5 / 347 ، الدر المنثور : 5 / 184 ، العجلوني : 2 / 129 و 132 ، الأحوذي : 10 / 56 ، المغني : 3 / 124 فتح القدير : 4 / 267 والباقلاني / 58 .
6 - الوضع المنطقي لجبرئيل ( عليه السلام ) لما نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أن يسلم عليه ويعرفه أنه رسول ربه عز وجل إليه ، وأنه اختاره رسولاً وأنه سينزِّل عليه قرآناً ، ثم يشرح له مهمته . وأن يكون ذلك في جو اطمئنان ويقين وخشوع ، كما نصت رواية أهل البيت « عليهم السلام » ، وليس بالتعامل الخشن الذي نسبوه إلى الله تعالى ، والذي يشبه أكاذيب اليهود عن عنف ربهم مع أنبيائه « عليهم السلام » ! العنف الذي يشبه روايات كهَّان العرب المصابين بالعُصاب عندما يأتيهم جِنِّيُّهُم !
7 - كيف يأمره جبرئيل ( عليه السلام ) بأن يقرأ ولا يفسر له ما يقرأ ؟ وهل رأيت عاقلاً يأمر أحداً بأمر لا يفهمه ولا يفسره له ، بل يضربه ويخنقه إن لم يفعل ؟ !
8 - وكل هذه الطامات في كفة ، وعزم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن ينتحر في كفة ! فكيف يقبلون هذه الفرية على النبي ( صلى الله عليه وآله ) كقوله وحاشاه : « لا تتحدث بهذا قريش عني أبداً ! فلأعمدنَّ إلى حالق من الجبل ، ولأطرحن نفسي منه فلأقتلنها ولأستريحن ! فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عني فانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها فقالت : يا أبا القاسم أين كنت ، فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي » . إلى آخر هذه الخرافة التي تبنتها عائشة فحيرت فيها أتباعها !
9 - كان تبنيهم لهذه الرواية سبباً لافتراء أعداء الإسلام على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه كان يشك في نبوته ، وإن القسيس ورقة بعثه نبياً ، وليس الله تعالى !
--------------------------- 204 ---------------------------
10 - حاولوا أن ينفوا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قرر الانتحار ، فوجدوا في حديث البخاري عبارة : « حتى حزن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى » فقالوا إن قوله : فيما بلغنا ، قول الزهري وليس قول عائشة ! فتح الباري : 12 / 316 .
فجعلوه في رقبة إمامهم الزهري ، لينقذوا إمامتهم عائشة ! لكن ابن مردويه رواه قطعة واحدة عن عائشة بدون « فيما بلغنا » كما شهد ابن حجر ! ثم ذكر ابن حجر / 118 ، روايات أخرى في أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذهب لينتحر ! راجع الطبقات : 1 / 196 ، الطبري : 2 / 47 ، تفسيره : 30 / 317 ، تفسير الصنعاني : 3 / 327 وابن كثير : 4 / 265 .
لقد افتضحوا فنسبوا إلى نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) مالايقبلون نسبته إلى أنفسهم وأئمتهم ! ونسبوا إلى ربهم أنه ظالمٌ يبعث إلى نبيه بأسلوب مبهم مرعب ! فتعالى عما يصفون !
وأخيراً يتضح لك خطأ قولها : « وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب » . والإنجيل لم يكن بالعبرية ، بل بالسريانية .
4 . رووا نحو ما روينا ، وأعرضوا عنه لأجل عائشة !
ففي دلائل البيهقي : 2 / 160 عن محمد بن إسحاق ، قال : « وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء به ، ثم إن جبريل أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء مزن ، فتوضأ جبريل ومحمد ، ثم صليا ركعتين وسجدا أربع سجدات ، ثم رجع النبي قد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من الله ، فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة ، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً .
قال ابن إسحاق : ثم إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي : ما هذا يا محمد ؟ فقال رسول الله : دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله ، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وكفر باللات والعزى ! فقال علي : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم ، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أبا طالب . وكره
--------------------------- 205 ---------------------------
رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره ، فقال له : يا علي إذا لم تُسلم فاكتم ، فمكث علي تلك الليلة .
ثم إن الله تبارك وتعالى أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غادياً إلى رسول الله حتى جاءه فقال : ماذا عرضت عليَّ يا محمد ؟ فقال له رسول الله : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد ، ففعل عليٌّ وأسلم . فمكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب ، وكتم علي إسلامه ولم يظهره .
وأسلم ابن حارثة ، فمكثا قريباً من شهر يختلف علي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله قبل الإسلام » . وتاريخ الذهبي : 1 / 135 ، أسد الغابة : 4 / 16 ، سيرة ابن كثير : 1 / 428 ، وسبل الهدى : 2 / 300 .
وهذه تؤيد رواية أهل البيت « عليهم السلام » ، وتبطل رواية عائشة ! وروى شبيهاً بها القرطبي : 17 / 87 ، وتنوير الحوالك : 16 / 17 وفيه : « فرفعت رأسي فإذا جبريل صافٌّ قدميه بين السماء والأرض يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ، فجعلت لا أصرف بصري إلى ناحية إلا رأيته كذلك » !
لكنهم لا يحبون هذه الأحاديث ، لأنها تكذب العنف والغط والخنق ! فقد أشربوا في قلوبهم تصديق هذه التخيلات الإسرائيلية وعُصَاب الكُهَّان !
ثم ضخموا فترة انقطاع الوحي ، لتتوافق مع هذه التخيلات !
- *
--------------------------- 206 ---------------------------
الفصل الثاني عشر
المرحلة الأولى دعوة بني هاشم خاصة
1 . نزل خبر بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كالصاعقة على زعماء قريش !
انتشر في مكة خبر أن محمداً أعلن نبوته ، فكان كالصاعقة على زعماء قريش لأن برأيهم حركة من بني هاشم لفرض رئاستهم على قريش والعرب ، وانقلابٌ على صيغة التوافق في تقسيم مناصب الشرف ، وهي : رئاسة قريش ، ورايتها ، وسقاية الحجاج ورفادتهم ! وتركزت أنظارهم على أبي طالب شيخ بني هاشم ، لمعرفة موقفه ، وهو صاحب شخصية قوية ، وكان يومها في نحو الخامسة والسبعين ، لأنه توفي قبيل الهجرة وعمره سبع وثمانون . الطبقات : 1 / 124 .
وزاد من تخوفهم أنهم سمعوا من اليهود ومن عبد المطلب أن نبياً سيبعث من ذريته ، وكان يتوقع أن يكون حفيده محمداً ، وأوصى به إلى أبي طالب وشدد عليه الوصية بحفظه وإكرامه ، فرباه أبو طالب وآثره على أولاده . وقد اشتهر حب أبي طالب له ، وتغنى في شعره بفضله وآياته ، وشهادة بحيرا الراهب بأنه نبي .
ويبدو أن علياً ( عليه السلام ) أخبر أباه بأن الملاك نزل على محمد ( صلى الله عليه وآله ) فذهب أبو طالب إلى بيت النبي وسأله : « يا ابن أخي ، آللهُ أرسلك ؟ قال : نعم . قال : فأرني آية . قال : أدع لي تلك الشجرة ، فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم انصرفت . فقال أبو طالب : أشهد أنك صادق ، يا علي صِلْ جناح ابن عمك » . أمالي الصدوق / 711 .
--------------------------- 207 ---------------------------
وحرص زعماء قريش على معرفة حقيقة موقف أبي طالب ، وتخوفوا لما بلغهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمره ربه أن يدعو عشيرته الأقربين فدعا بني هاشم ، وأخبرهم أن الله بعثه إليهم خاصة ثم إلى الناس عامة ، وأمره أن يتخذ منهم من يبايعه على نصرته أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة ، فاستجاب له الفتى علي ( عليه السلام ) ، فأعلنه أخاه ووزيره وخليفته ، وأمر بني هاشم بطاعته ! وكان ذلك نبأ عظيماً على زعماء قريش كما وصفه الله تعالى في سورة النبأ ، حيث اعتبروا أن بني هاشم أعلنوا مشروعهم في النبوة ، وقرروا حماية محمد ، وقد اتخذ وزيراً ووصياً له منهم .
لقد قرر زعماء قريش بالإجماع قتل محمد لأن عمله خيانة عظمى ، فيجب على عمه أن يسلمه إليهم ليقتلوه !
ولم يتضمن قرارهم أن يسألوه عن دليله أو معجزته ! فلا يهمهم أن يكون عنده ذلك أو لا يكون ! لأن مجرد ادعائه النبوة مؤامرة على بقية القبائل !
وكان قرارهم غريباً فيه جلافة البداوة وخباثة اليهود ! لكن الشيطان زينه لهم فذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه تسليم ابن أخيه لهم ليقتلوه !
فغضب أبو طالب وأعلن حمايته له وحذرهم إن مَسُّوا منه شعرةً ! فسكتوا لأنهم يعرفون شجاعة بني هاشم ، وأنهم لايُسَلِّمونهم محمداً إلا بحرب !
لكنهم لم يتراجعوا فقاموا بشن حملات افتراء وسخرية من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقرآنه ووصيه الذي اختاره ، فكانوا يقولون : « هذا صفي محمد من بين أهله ، ويتغامزون بعلي ( عليه السلام ) » . « المناقب : 3 / 8 » . وأخذوا يعملون لاغتياله ( صلى الله عليه وآله ) ويرصدون من يستجيب لدعوته ! وفي المقابل قام أبو طالب « رحمه الله » بتوحيد بني هاشم لحمايته ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعل حول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث حلقات أمنية كما يدل حديث إسلام أبي ذر « رحمه الله » ، فعندما طلب اللقاء بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) حقق معه أبو طالب ( عليه السلام ) وواعده اليوم الثاني ، وفي اليوم الثاني أخذه إلى حمزة ، فحقق معه وسلمه إلى جعفر « عليهما السلام » ، فحقق معه جعفر وسلمه إلى علي ( عليه السلام ) ، فحقق معه ، ثم أدخله على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
--------------------------- 208 ---------------------------
2 . استمرت العاصفة ثلاث سنين حتى أهلك الله المستهزئين
استمرت هذه المرحلة الصعبة الخطرة ثلاث سنين ، حتى أزاح الله من طريق رسوله ( صلى الله عليه وآله ) عتاة المستهزئين في يوم واحد ، وأمره أن يصدع بالدعوة .
فقد قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) كمال الدين / 328 : « ما أجاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحدٌ قبل علي بن أبي طالب وخديجة « عليها السلام » ، ولقد مكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة ثلاث سنين مختفياً خائفاً يترقب ، ويخاف قومه والناس » .
وفي تفسير القمي : 1 / 377 : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ « الحجر : 94 - 95 » فإنها نزلت بمكة بعد أن نُبِّئ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بثلاث سنين . . . أنزل الله عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ . . . دخل أبو طالب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلي وعليٌّ ( عليه السلام ) بجنبه وكان مع أبي طالب جعفر ، فقال له أبو طالب : صِلْ جناح ابن عمك ، فوقف جعفر على يسار رسول الله فبدر رسول الله من بينهما ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلي وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به . فلما أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ . والمستهزؤون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن طلاطلة الخزاعي » .
وفي تفسير العياشي : 2 / 253 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إكتتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة سنين ليس يظهر ، وعلي معه وخديجة . ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب » .
وفي سيرة ابن إسحاق : 2 / 126 : « ثم إن الله تعالى أمر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أن يصدع بما جاء به ، وأن ينادي الناس بأمره ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وكان ربما أخفى الشئ واستسر به ، إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه » .
وفي سيرة ابن هشام : 1 / 169 : « وكان بين ما أخفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه ، ثم قال الله تعالى له : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ » .
--------------------------- 209 ---------------------------
وفي الإستيعاب لابن عبد البر : 1 / 34 : « ثم نبأه الله تعالى وهو ابن أربعين سنة ، وكان أول يوم أوحى الله تعالى إليه فيه يوم الاثنين ، فأسر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمره ثلاث سنين أو نحوها ، ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه ، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه » .
وروى الصدوق وغيره أن هذه المرحلة كانت خمس سنين ، ففي كمال الدين / 344 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اكتتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة مختفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر أمره ، وعلي ( عليه السلام ) معه وخديجة ، ثم أمره الله عز وجل أن يصدع بما أمر به ، فظهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأظهر أمره » . والمناقب : 1 / 150 ونحوه غيبة الطوسي / 332 .
وقد يكون المعنى أن اختفاءه ( صلى الله عليه وآله ) انتهى بعد ثلاث وصدع بدعوته علناً ، ثم استمر الخوف عليه من الإغتيال خمس سنين .
فالمجمع عليه أنه ( صلى الله عليه وآله ) في السنين الثلاث الأولى لم يدع غير بني هاشم . ولم أجد نصاً يذكر أنه جلس في المسجد في هذه المدة ، فقد هدده عتاة المستهزئين بأنه إن دعا الناس فسيقتلونه ، وأخيراً أنذروه إلى يوم معين ليعلن تراجعه عن نبوته ( صلى الله عليه وآله ) وإلا قتلوه ، فكفاه الله شرهم وقتلهم ، وأنزل عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ !
وبسبب ما تقدم قالت بعض الأحاديث السنية والشيعية إن سنوات البعثة في مكة عشر سنوات ، فاستثنت الثلاث الأولى ، لأنها خاصة ببني هاشم .
ففي الكافي : 5 / 7 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن الله عز وجل بعث رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بالإسلام إلى الناس عشر سنين ، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال . فالخير في السيف وتحت السيف . والأمر يعود كما بدأ » . يقصد ظهور المهدي ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) .
3 . الإنجازات الرسولية في هذه المرحلة
1 . توالى نزول القرآن ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتلوه على المسلمين ، ويوصله إلى المشركين فيستهزئون به ، وكانت بعض الآيات تنزل جواباً لهم .
2 . آمن له علي وخديجة « عليهما السلام » وعمه أبو طالب وابنه جعفر وعمه حمزة ومولاه
--------------------------- 210 ---------------------------
زيد رضي الله عنهم ، وأمره الله أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وصياً ، ففعل .
3 . أخبرعن نبوته فشاع خبرها ، واستنفرت قريش ضده ، وبدأت حملتها .
4 . نهض أبو طالب ( عليه السلام ) لنصرته ، وحشد معه كل بني هاشم ، وشذ منهم أبو لهب ، واستخفى النبي ( صلى الله عليه وآله ) من فراعنة قريش وشياطينهم .
5 . آمن له أفراد من قبائل قريش وغفار والحلفاء والعبيد ، سراً على تخوف .
6 . كان للنبي ( صلى الله عليه وآله ) لقاءات بزعماء قريش لإقامة الحجة عليهم ، لكنها قليلة .
4 . معنى السرية في المرحلة الأولى للدعوة
السرية التي يضخمونها في هذه المرحلة ، إنما كانت في أسماء المسلمين الجدد الذين لا يستطيعون إعلان إسلامهم خوفاً من قريش ، أو الذين أمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإخفاء إسلامهم لمصلحة الدعوة ، كأبي طالب وحمزة .
أما النبوة فلم تبق سرية لأنه خبرها انتشر من أول يوم ، ومكة صغيرة : 40 ألفاً . كما أن نزول القرآن كان متواصلاً والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يتلوه ويوصل آياته إلى قريش وغيرها . وقد نزلت في هذه السنوات سور عديدة .
قال ابن النديم في الفهرست / 28 ، والزركشي في البرهان : 1 / 193 : « أول ما نزل من القرآن بمكة : إِقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ ، ثم نون ، ثم والقلم ، ثم يا أيها المزمل ، ثم المدثر ، ثم تبت يدا أبي لهب ، ثم إذا الشمس كورت ، ثم سبح اسم ربك الأعلى ، ثم والليل إذا يغشى ، ثم والفجر ، ثم والضحى ، ثم ألم نشرح ، ثم والعشر ، ثم والعاديات ، ثم إنا أعطيناك الكوثر ، ثم ألهاكم التكاثر ، ثم أرأيت الذي ، ثم قل يا أيها الكافرون ، ثم سورة الفيل ، ثم الفلق ، ثم الناس ، ثم قل هو الله أحد ، ثم والنجم إذا هوى ، ثم عبس » .
وردَّت بعض السور مقولات المشركين ، ووصفت عاصفتهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما بلغهم خبر نبوته ! ففي سورة القلم نقرأ قوله تعالى : فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ . وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . . .
وفي سورة المزمل نقرأ : وَاصْبِرْ عَلَى مَايَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً . وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
--------------------------- 211 ---------------------------
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً . . .
وفي سورة المدثر : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً . سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا . .
وفي سورة التكوير جواب الذين قالوا إنه ( صلى الله عليه وآله ) مجنون : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ . وَمَاصَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ . وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ . وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ . وَمَاهُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ .
وفي المرسلات جواب من سخروا من الصلاة : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ . فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ .
وفي سورة قاف جواب تكذيبهم للنبوة : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَئٌ عَجِيبٌ . فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ .
5 . آية المستهزئين تكشف تخبط رواة السلطة وكذبهم !
اتفق المفسرون والمحدثون على أن آيات : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ . نزلت بعد ثلاث سنين من البعثة ، فبدأ النبي ( صلى الله عليه وآله ) مرحلة جديدة هي مرحلة الإعلان والصدع بالدعوة لكل الناس ، بعد أن أزال الله من طريقه العقبة الأساسية وأهلك المستهزئين الخمسة في يوم واحد !
فكل نص مبني على وجود أحد منهم بعد ذلك التاريخ خطأ أو مكذوب ! وبه يظهر عوار عدد من نصوص رواة السلطة :
فمنها : روايتهم التي تتنافى مع الخطر الشديد والحيطة التي كان فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تلك الفترة ، مثل إيمان أبي بكر وغيره ، لأنه لو صح ذلك لرووا ردة فعل قريش كردة فعلها على إسلام أبي ذر ، وخالد بن سعيد ، وعمار بن ياسر ووالديه ، وخباب بن الأرت ، وغيرهم ممن أسلم في تلك الفترة !
ومنها : زعمهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صدع بدعوته العامة من السنة الأولى ، وأنه عندما أمره الله في سورة الشعراء : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . . صعد على الصفا ونادى
--------------------------- 212 ---------------------------
كل قريش يا آل فلان ويا آل فلان . . الخ . والصحيح أنه دعا بني هاشم فقط ، وأن دعوته العامة بدأت بعد ثلاث سنين ، بعد هلاك المستهزئين .
ومنها : تضخيم دار الأرقم ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يلتقي فيها بالمسلمين قبل السنة الثالثة ، وقد جعلوا أحداثاً وقعت بعد السنة الثالثة في دار الأرقم ، ومنها سورة عبس التي ربطوها بابن أم مكتوم مع أنها نزلت قبل إسلامه !
ومنها أن عمر جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في دار الأرقم وأعز الله به الإسلام بعد ذلته ، وتكاملوا أربعين رجلاً فخرجوا يتحدون قريشاً ، فخافت قريش وسكتت !
ومنها : خطأ ما رواه بخاري : 4 / 242 من حماية العاص بن وائل لعمرعندما أسلم لأن العاص أحد المستهزئين الستة الذين هلكوا في السنة الثالثة ، وعمر أسلم في السنة السادسة بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة ، كما نص عليه ابن هشام : 1 / 229 وغيره ، قال : « كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الحبشة » . وكان هلاك المستهزئين ومنهم العاص بن وائل ، قبل ذلك بسنوات !
ومنها : أن من المتفق عليه أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، كان أحد المستهزئين وهلك في السنة الثالثة ، لكنهم رووا أنه بكى على أولاده الذين قتلوا في بدر ! قال ابن هشام : 2 / 474 : « وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده : زمعة بن الأسود ، وعقيل بن الأسود ، والحارث بن زمعة وكان يحب أن يبكى على بنيه . . . الخ . » . والطبري : 2 / 161 ، ابن كثير : 2 / 480 . راجع : الصحيح : 3 / 171 .
ومنها : تخليطهم أو كذبهم في سبب نزول السور والآيات ، فتراهم يذكرون اسم أحد المستهزئين الخمسة في سورة نزلت بعد سورة الحجرمع أنه هلك عند نزولها ! بل ذكروا بعضهم في معركة بدر وبعدها !
لذلك وجب أن نرد روايات أسباب النزول إلا قليلاً منها كآية : واصْدَعْ بمَا تُؤمر المتقدمة . . فقد أجمعوا على أنها نزلت في السنة الثالثة ، وأن سورة صاد نزلت بعد أن صدع ( صلى الله عليه وآله ) بدعوته ، وجاء زعماء قريش إلى أبي طالب « رحمه الله » فدعاهم إلى الإسلام !
ففي الكافي : 2 / 649 بسند صحيح عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « أقبل أبو جهل بن هشام
--------------------------- 213 ---------------------------
ومعه قوم من قريش ، فدخلوا على أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا ، فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن إلهه ، قال فبعث أبو طالب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدعاه ، فلما دخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم ير في البيت إلا مشركاً فقال : السلام على من اتبع الهدى ، ثم جلس ، فخبَّره أبو طالب بما جاؤوا له ، فقال : أوَهَل لهم في كلمة خير لهم من هذا ، يسودون بها العرب ويطؤون أعناقهم ؟ فقال أبو جهل : نعم ، وما هذه الكلمة ؟ فقال : تقولون لا إله إلا الله . قال : فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هُرَّاباً ، وهم يقولون : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ! فأنزل الله تعالى في قولهم : صاد . وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ . . » .
فالذي جاء إلى أبي طالب هو أبو جهل الذي ورث زعامة بني مخزوم بعد هلاك الوليد بن المغيرة ، وبعد مجيئه نزلت سورة صاد جواباً على كلامه ، فلا تصح الروايات التي تذكر أن الوليد كان حياً عند نزولها .
ومنها : خلطهم في الروايات التي تذكر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يذهب إلى أفنية قريش ويدعوهم إلى الإسلام قبل هلاك المستهزئين ، كالذي رواه الحاكم : 3 / 577 وأبو يعلى : 12 / 176 ومجمع الزوائد : 6 / 14 وصححه : « جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به ، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل . . . فقال له أبو طالب : يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم ، فإن رأيت أن تكف عنهم ؟ فحلق ببصره إلى السماء فقال : والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار . فقال أبو طالب : والله ما كذب ابن أخي قط ، إرجعوا راشدين » .
فالحديث مسوق لتعذير قريش في شكايتها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والوقت المزعوم لهذا الحديث قبل انتهاء الثلاث سنوات ، وهذا لا يصح ، لأنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يذهب إلى نواديهم قبل ذلك أبداً ، بل نشك في ذهابه إليهم بعدها ، لأنه كان يدعو إلى ربه في
--------------------------- 214 ---------------------------
المسجد وحوله ، وكان يقصد القبائل في موسم الحج ، ويطلب منهم النصرة .
وأخيراً ، فإن سبب جعلهم بعض هؤلاء الخمسة أحياء بعد هلاكهم أن أولادهم وأقاربهم صاروا حكاماً وشركاء في دولة « الخلافة » كعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وزمعة بن الأسود من أسد عبد العزى ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأقارب الحارث بن طلاطلة الخزاعي ، فأراد الرواة إظهار مكانة آبائهم حتى في كفرهم ، فكذبوا ، ولا حافظة لكذوب !
6 . تخبط الكتَّاب المعاصرين في مراحل الدعوة تبعاً لرواة السلطة
اشتهر عند الكتَّاب المعاصرين تقسيم مراحل دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة إلى المرحلة السرية ، ثم مرحلة دار أبي الأرقم ، ثم مراحل الاضطهاد والهجرة إلى الحبشة والمدينة . فقلدوا الحكومات التي غيبت مراحل هامة من السيرة لتحذف أدوار بني هاشم والعترة النبوية « عليهم السلام » ! غيبوا المرحلة الأولى حيث بعثه الله تعالى إلى بني هاشم خاصة ، مع أنهم أنفسهم رووا قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة » . تفسير ابن كثير : 3 / 363 وتفسير مقاتل : 2 / 466 .
وروينا : « مكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاثة عشر سنة ، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لا يظهر حتى أمره الله أن يصدع بما أمر به ، فأظهر حينئذ الدعوة » . غيبة الطوسي / 333 .
كما أهمل كتَّاب السيرة مرحلة ما قبل محاصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم في شعب أبي طالب وما بعدها ، وكان الحصار في السنة الخامسة ، واستمر بضع سنوات !
كما أهملوا مرحلتين تقدمتا في حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) من مصادرهم : « صَلَّتْ الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبع سنين ، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله » .
وقول علي ( عليه السلام ) : « صليت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل الناس ثلاث سنين ، وسبع سنين » .
وكذا مرحلة ما قبل الإسراء والمعراج في السنة الثانية للبعثة ، وما بعدها .
ومرحلة ما قبل وفاة أبي طالب « رحمه الله » وما بعدها ، حيث فقد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ناصره وحاميه
--------------------------- 215 ---------------------------
القوي ، اضطر أن يذهب إلى الطائف ليطلب من ثقيف حمايته من قريش ، ثم كان أحياناً يختبئ مع علي ( عليه السلام ) من قريش في الحجون .
ومرحلة ما قبل بيعة الأنصار سراً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في موسم الحج ، وما بعدها . . .
وكذا مرحلة الثلاث سنين التي زعموا أن الله بعث فيها إسرافيل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعلمه ويوجهه ، ولم ينزل عليه قرآناً حتى أنزله مع جبرئيل ( عليه السلام ) .
أهملوا كل ذلك وغيبوه ، وركزوا على مرحلة السرية بمفهوم خاطئ ، ومرحلة دار أبي الأرقم بتضخيم خيالي ! كما كذبوا في انتعاش النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإسلام أبي بكر وإنفاقه عليه عند فقره ! وقوة الإسلام بعمر وإعزازه بعد ذلته ! مع أن راوياً واحداً لم يرو أن أبا بكر أوصل صاع طحين إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سنوات الحصار يوم وصل بهم الأمر إلى أن أكلوا ورق الشجر من الجوع ، ومص أطفالهم الرمل من العطش ! ولا رووا أين كان عمر عند تهديد قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) واستنفارها بعد أبي طالب لقتله ، حتى اضطر لطلب حماية ثقيف ، واضطر لأن يختبئ في الحجون !
إن إهمالهم لهذه المراحل ، خاصة مرحلة دعوة الأقربين ، واختراعهم أدواراً افترضوها لزيد وعمرو . . يضع يدك على غرضهم من التحريف ، ويجعلك تشك فيما يروونه من أدوار مناقبية لمن صاروا حكاماً فيما بعد ، ويجعلك تدقق في النصوص لتكشف الأدوار التي غيبوها لعلي وحمزة وجعفر وغيرهم من بني هاشم ، ومعهم كبار الصحابة السابقون الأولون : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وأبو سلمة ، وخالد بن سعيد ، وخباب ، ومصعب ، وسلمان ، رضوان الله عليهم !
- *
--------------------------- 216 ---------------------------
الفصل الثالث عشر
دعوة النبي « صلى الله عليه وآله » عشيرته واستنفار قريش ضدهم
1 . بعد بعثته أمره الله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ
بعد بعثت مباشرة أمره الله بدعوة بني هاشم ، وأنزل عليه من سورة الشعراء : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ . . . وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ . وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ أَلشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ أَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ . فَلاتَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ . وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَأَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِئٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ .
فجمعهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكانوا أربعين رجلاً ، ودعاهم إلى الإسلام واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته ، كما أمره ربه . وفي هذه المدة دوَّى خبر البعثة في أندية قريش حتى جاءهم خبر اجتماع بني هاشم وأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) طلب منهم وزيراً يبايعه على نصرته ، فاستجاب له ابن عمه علي فاتخذه وزيراً ووصياً وخليفة ! فرأوا ذلك نبأً عظيماً يؤكد أن نبوة بني هاشم مشروع هاشمي لحكم العرب ، فقرروا بالإجماع العمل لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وقد عبَّر صاحب الصحيح : 3 / 59 بتعبير يوهم أن دعوة العشيرة الأقربين كان في المرحلة العلنية ، قال : « بعد السنوات الثلاث الأولى بدأت مرحلة جديدة وخطيرة وصعبة هي مرحلة الدعوة العلنية إلى الله تعالى . وقد بدأت أولاً على نطاق ضيق نسبياً حيث نزل عليه
--------------------------- 217 ---------------------------
قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ » . انتهى .
لكن آية إنذار العشيرة نزلت في أول البعثة ، وأثارهم اختياره وصياً منهم ! وكفى بحديث إسلام أبي ذر دليلاً على خطورة السنوات الأولى على حياته ( صلى الله عليه وآله ) . أما آية المستهزئين فنزلت بعد ثلاث سنين .
2 . غَيَّبَتْ الحكومات حديث الدار
وقد روته المصادر الأصلية ، وصححه علماء الجرح والتعديل ، وألفوا فيه كتباً وفصولاً ، وعرف باسم حديث الدار ، وحديث الوصية ، لكن أتباع الحكومات أفتوا بأنه : يجب إنكاره ، ومنعه من التداول تحت طائلة العقوبة القصوى !
قال المفيد « رحمه الله » في الإرشاد : 1 / 49 : « أجمع على صحته نُقاد الآثار ، حين جمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة ، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر ، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن ، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة « الذبيحة » في مقام واحد ، وشرب الفرق « السطل » من الشراب في ذلك المقام .
وأراد ( صلى الله عليه وآله ) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهارالآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه . ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوا منه ، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك ، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه .
ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب : يا بني عبد المطلب ، إن الله بعثني إلى الخلق كافة ، وبعثني إليكم خاصة ، فقال عز وجل : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار ، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي
--------------------------- 218 ---------------------------
من بعدي . فلم يجب أحد منهم ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأرمصهم عيناً ، فقلت : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : أجلس ، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا ، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى ، فقال : أجلس . ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر ، فقال : أجلس ، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يا أبا طالب ، ليهنك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميراً عليك !
وهذه منقبة جليلة اختص بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار ، ولا أحد من أهل الإسلام ، وليس لغيره عِدْلٌ لها من الفضل ولامقارب على حال » .
وفي رواية روضة الواعظين / 52 : « قال لهم : إني بعثت إلى الأسود والأبيض والأحمر ، وإن الله عز وجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وإني لا أملك لكم من الله حظاً إلا أن تقولوا : لا إله إلا الله . فقال أبو لهب لعنه الله : لهذا دعوتنا ؟ !
ثم تفرقوا عنه ، فأنزل الله تعالى : تبَّتْ يَدَا أبي لهبَ وتَبْ . . الخ . ثم دعاهم دفعة ثانية فأطعمهم وسقاهم كالدفعة الأولى ، ثم قال لهم : يا بني عبد المطلب : أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها ، وما بعث الله نبياً إلا جعل له وصياً وأخاً ووزيراً فأيكم يكون أخي ووزيري ووصي ووارثي وقاضي ديني ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو أصغر القوم سناً : أنا يا رسول الله ، فلذلك كان وصيه .
ورويَ أنه جمعهم خمسة وأربعون رجلاً منهم أبو لهب ، فظن أبو لهب أنه يريد أن ينزع عما دعاهم إليه فقام إليه ، فقال له : يا محمد ، هؤلاء عمومتك وبنوعمك قد اجتمعوا فتكلم واعلم أن قومك ليست لهم بالعرب طاقة ، فقام ( صلى الله عليه وآله ) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الرائد لا يكذب أهله . والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم حقاً خاصة والى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن كما تعلمون ، ولتجزون بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءً ، وإنها الجنة أبداً
--------------------------- 219 ---------------------------
والنار أبداً . إنكم أول من أُنذرتم » .
فقد طلب منهم أن يؤمنوا به ، وأن يبايعه رجل على نصرته ويتفرغ معه للدعوة ، فيتخذه وزيراً وأخاً ووصياً وخليفةً . وكان أبو طالب وحمزة يومها مسلمين لكنهما سكتا لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرهما أن يكتما إيمانهما ، فلو أعلنا لأعلنت قريش الحرب عليهم .
أما جعفر فكان مسلماً ، ولعله سكت ليجيب علي ( عليه السلام ) لأنه يعلم ميل النبي ( صلى الله عليه وآله ) اليه ، فلما أعلن عليٌّ قبوله أعلنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزيراً وخليفة ، فأخبربذلك أنه
يعيش بعده !
لكن المخالفين للنبي في أهل بيته ، لا يحبون رؤية وجه الحديث ولا سماع صوته !
لأنه نصٌّ على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) اتخذ علياً ( عليه السلام ) بأمر ربه وصياً وخليفة ! وهو ينقض ما بنوا عليه أمرهم بعد وفاته من أنه لم يوص إلى أحد وتَرَكَ الأمر لهم !
لذا منعوا رواية هذا حديث الدار أو حرفوه ، كالطبري حيث رواه في تاريخه : 2 / 217 بنص المفيد المتقدم ، ثم كتمه في تفسيره : 19 / 148 فقال : « فأيكم يؤازرني على هذا الأمرعلى أن يكون أخي وكذا وكذا ! قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً ، وأخمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك . فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع » !
وتبعه ابن كثير في تفسيره : 3 / 364 والنهاية : 3 / 53 فلم ينقل من تاريخ الطبري كما هي عادته ، واختار تفسيره لأن الحديث فيه محرف !
أما ابن تيمية فقال في منهاج السنة / 299 : « فإن هذا الحديث ليس في شئ من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل : لا في الصحاح ولا في المسانيد . والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به ، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف ، مثل تفسيرالثعلبي والواحدي والبغوي ، بل وابن جرير وابن أبي حاتم ، لم يكن مجرد رواية واحد
--------------------------- 220 ---------------------------
من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم ، فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف ، فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف . وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والسمين ، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة » .
لكن ابن تيمية معروف بأنه ينفي الواضحات ويرد الأحاديث الصحيحة ، ويكفي في هذا الحديث أنه رواه عدد وفير من أئمة الحديث مثل : ابن إسحاق ، والنسائي ، والبزار ، وسعيد بن منصور ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في المستدرك ، وابن حنبل ، وابن مردويه ، وأبي حاتم ، والطحاوي ، وأبي نعيم ، والبغوي ، والمقدسي ، وابن عساكر ، والبيهقي في الدلائل . . الخ .
وقد أشكل بعضهم بوجود الراوي أبي مريم الأنصاري فيه ، وهوعن عبد الغفار بن القاسم ، وهو شيخ شعبة بن الحجاج الذي يلقبونه بأمير المؤمنين في الحديث وكان يوثقه ويمدحه .
وأشكل بعضهم بربيعة بن ناجذ الأزدي في طريق له ، لكن وثقه الألباني في صحيحته : 4 / 582 . راجع تناقضات الألباني : 2 / 212 وحديث الدار للميلاني والصحيح : 3 / 158 .
وأما محمد حسنين هيكل فأورده سليماً في كتابه : حياة محمد ، في الطبعة الأولى في صفحة 104 ، ثم حرفه في الطبعة الثانية صفحة 139 ، لقاء شراء الوهابية ألف نسخة من كتابه بخمس مائة جنيه ! راجع : فلسفة التوحيد والولاية / 179 للشيخ مغنية .
3 . خلافة علي ( ( ع ) ) كانت محسومة من أول البعثة
وقد اتضح ذلك من آية : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، ومن حديث الدار .
وكانت محسومة من يوم كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرض نفسه على قبائل العرب ، ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه ، فيطلبون منه أن تكون لهم خلافته ، فيجيبهم إن الأمر لله وقد اختار له أهلاً ، وعليهم أن لا ينازعوا الأمر أهله !
قال ابن هشام : 2 / 289 : « أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل ،
--------------------------- 221 ---------------------------
وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء . قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه » .
وكانت الخلافة محسومة بعشرات الأحاديث النبوية ، التي صرح فيها بمكانة علي ( عليه السلام ) وأوصى به الأمة بعده .
وكانت محسومة برفعه بيده في حجة الوداع وقوله : من كنت مولاه فعلي مولاه !
وكانت محسومة بأعماله وأقواله العديدة ، في مرض وفاته . لكن قريشاً لا تريد أن تَقنع ، ثم أتباعها الذين عاندوا مثلها ، أو أحسنوا فيها الظن .
4 . النبأ العظيم وصية محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لابن عمه
اتفق الرواة على أن سورة النبأ نزلت في الثلاث سنوات الأولى ، ويؤيد ذلك أنها لاتتضمن إلّا عن التساؤل عن النبأ العظيم الذي حيرهم ! قال تعالى : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . كَلا سَيَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ . أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا . وَالجِبَالَ أَوْتَادًا . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً . وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا . . الخ . « النبأ : 1 - 9 » فقد كانت البعثة عند نزولها في أولها ، وكان زعماء قريش يتساءلون عن النبأ العظيم ، وهو عندهم أن بني هاشم انشقوا على قريش ، وادعى ابنهم النبوة واختار ابن عمه خليفةً له ، ولم يحسب لهم حساباً ، وكأن غير بني هاشم لا وجود لهم !
فزعماء بطون قريش لا يهمهم مضمون دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولامعجزاته ، لأنهم لا يفهمون من النبوة إلا أنها انشقاق بني هاشم على قريش !
كما أنهم حساسون فيمن يستخلفه للنبوة ، هل هو من بني هاشم أو من غيرهم ؟ وقد أرادوا التأكد ، فكلفوا أبا سفيان بأن يستطلع الأمر ، كما روى في المناقب 2 / 276 عن تفسيرالقطان ، بسند صحيح عندهم ، عن وكيع ، عن سفيان ،
--------------------------- 222 ---------------------------
عن السدي ، عن عبد خير ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ ؟ قال : يا صخر ، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى ! قال : فأنزل الله تعالى : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما ! ثم قال : كَلَّا . وردَّ عليهم : سَيَعْلَمُون : خلافته بعدك أنها حق . ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُون : يقول : يعرفون ولايته وخلافته إذ يُسألون عنها في قبورهم فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا ومنكر ونكير يسألانه عن الولاية لأمير المؤمنين بعد الموت يقولان للميت : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك ، ومن إمامك ؟ » !
وفي الكافي : 1 / 207 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال له الثمالي : « جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . قال فقال : هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، كان أمير المؤمنين يقول : ما لله عز وجل آيةٌ هي أكبر مني ، ولا لله من نبأٌ أعظم مني » .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 9 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : يا علي أنت حجة الله ، وأنت باب الله ، وأنت الطريق إلى الله ، وأنت النبأ العظيم ، وأنت الصراط المستقيم » .
وفي المناقب : 2 / 277 : « قال السوسي :
إذا نادت صوارمه سيوفاً * فليس لها سوى نعمٍ جواب
طعام سيوفه مهج الأعادي * وفيض دم الرقاب لها شراب
وبين سنانه والدرع صلحٌ * وبين البيض والبيض اصطحاب
هو النبأ العظيم وفلك نوح * وباب الله وانقطع الخطاب
وفي المزار للمفيد / 78 : « السلام عليك يا سيد الوصيين ، السلام عليك يا حجة الله على الخلق أجمعين ، السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعنه مسؤولون » . وفي عيون المعجزات / 136 : « من ألقابه ( عليه السلام ) : النبأ العظيم » .
وورد عن أهل البيت « عليهم السلام » أن معنى : كَلا سَيَعْلَمُونَ . أنهم سيعلمون عند ظهور الإمام المهدي ( عليه السلام ) ، ثم يعلمون يوم القيامة أن الإسلام حق بإمامة العترة « عليهم السلام » .
--------------------------- 223 ---------------------------
راجع : معجم أحاديث الإمام المهدي ( ( ع ) ) : 5 / 377 وتفسير القمي : 2 / 401 .
أقول : هذا هو التفسير الصحيح للنبأ العظيم ، وهذا الذي أرَّق القرشيين وتساءلوا عنه واختلفوا فيه ، وتداولوا الموقف منه . وليس النبأ العظيم الآخرة ، كما زعم بعضهم فإن لسان حال المشركين : فليقل محمد إنه يوجد خمسون آخرة ! ولا هو القرآن ، فلينزل عليه خمسون قرآناً ! ولا هو سب أصنامهم ، فإنما هي أحجار نصبوها ، وهم مستعدون أن يبيعوها بثمن جيد !
بل ليس النبأ العظيم النبوة بنفسها ، فهم مستعدون لأن « يقبلوا » النبوة على صعوبتها عليهم ، لكن بشرط أن يعطيهم القيادة بعده !
أما قيادة بني هاشم بعده ، فهي الكفر العظيم والنبأ العظيم !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « النَّبَأ العَظِيم : الولاية » . الكافي : 1 / 418 .
وقد فسرأتباع الخلافة النبأ العظيم بالقيامة أو القرآن ، بدون مستند إلا أقوال مفسري الدولة الأموية ! فقال مجاهد هو القيامة وروي عن قتادة ، وقال قتادة هو القرآن ، وروي عن ابن زيد ، والحسن البصري ! « عبد الرزاق : 3 / 342 والطبري : 30 / 4 » . فتراهم أبعدوا تساؤل قريش واختلافهم عن أحداث البعثة !
ونلاحظ أنهم رووا ربطها بالبعثة ، لكنهم أعرضوا عنها ! قال الطبري : 30 / 3 : « عن الحسن قال : لما بعث النبي جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ ، يعني الخبر العظيم » !
والعجيب أن بعض مفسرينا ترددوا بين التفسيرين ! قال في جوامع الجامع : 3 / 710 : « وهو نبأ يوم القيامة والبعث ، أو أمر الرسالة ولوازمها » .
ووافق بعضهم مفسري الحكومات ، ففي الميزان : 17 / 223 النبأ العظيم في سورة صاد بالقرآن ، قال : « وهو أوفق بسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن » ثم فسره في سورة النبأ : 20 / 163 بالقيامة وقال : « في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي ( عليه السلام )
وهو من البطن » .
وتبعه صاحب تفسير الأمثل : 14 / 555 و 19 / 317 وعقد عنواناً : « الولاية والنبأ
--------------------------- 224 ---------------------------
العظيم » ذكر فيه أن تفسير النبأ العظيم بالولاية من الباطن ، وأورد بعض رواياته وحاول أن يجمع بينه وبين تفسير النبأ العظيم بالمعاد !
وقد فاتهم أن الذي كان يؤرق زعماء قريش ويتساءلون عنه إنما هو نبأ بعثة النبي واتخاذه وصياً من بني هاشم ، فهذا هو الظاهر الأنسب بالسياق ، وليس من الباطن ! أما القرآن والقيامة وكل عقائد الإسلام ، فكانت أقل وقعاً عليهم من النبوة والوصاية ، فكيف تصير ظاهراً ، وتصير النبوة والإمامة بعدها باطناً .
بل كيف تكون أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » الصريحة المستفيضة تفسيراً بالباطن ؟ !
- *
--------------------------- 225 ---------------------------
الفصل الرابع عشر
أبو طالب « عليه السلام » يوحد بني هاشم لحماية النبي « صلى الله عليه وآله »
1 . أبو طالب يقف في وجه قريش بقوة
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي 1 / 449 » : « إن مَثَلَ أبي طالب مثلُ أصحاب الكهف ، أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين . قيل له : إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافراً ؟ فقال : كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب » !
أقول : تواترت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » بإسلام أبي طالب رضي الله عنه ، وشعره صريح بإسلامه ، وقد صنف العلماء في إيمانه رسائل وكتباً مفردة . وتقدم أنه كان يؤمن بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل بعثته وينتظر ذلك ، وعندما بعثه الله تعالى آمن به ، وواجه عاصفة قريش ضده ، فقد جاء زعماء قريش اليه يطلبون منه أن يتراجع محمد ( صلى الله عليه وآله ) عن نبوته ، أو يسلمه إليهم ليقتلوه !
فردهم أبو طالب وهددهم ، وأقنع بني هاشم بحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) من قريش ، مستفيداً من نفوذه وشجاعة بني هاشم ومجدهم ، وقد استخدم شاعريته في بعث حميتهم ، ولعل أول شعر قاله في ذلك :
« حتى متى نحن على فترةٍ * يا هاشماً والقومُ في جَحْفَلِ
تدعونَ بالخيل على رقبة * منَّا لدى خوفٍ وفي معزل
--------------------------- 226 ---------------------------
كالحرة السوداء تغلو بها * سرعانها في سبسبٍ مَجهل
عليهم الترك على رعلةٍ * مثل القطا الساري للمنهل
يا قوم ذودوا عن جماهيركم * بكل مفضال على مسبل
حديد خمس لهزٌ خده * مآرثُ الأفضل فالأفضل
عريض ستٍّ لهبٌ خصرُهُ * يصان بالتذليق في مجدل
فكم قد شهدت الحرب في فتية * عند الوغى في عَثْيَر القسطل
لا متنحينَ إذا جئتهم * وفي هياج الحرب كالأشبل
فلما استجاب لأبي طالب بنو هاشم وبنو المطلب ، وثق بأمره في نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجهر في مقاومة بطون قريش ، وقال :
منعنا الرسول رسول المليكْ * ببيض تلألا كلمع البروقْ
بضرب يذيب بدون النهاب * حذار الوتائر والخنفقيق
أذب وأحمي رسول المليك * حماية عم عليه شفيق
وما إن أدب لأعدائه * دبيب البكار حذار الفنيق
ولكن أزير لهم سامياً * كما زار ليث بغيل مضيق
ولما رأى من قومه ما سره من حدبهم معه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيهم ليشتد لهم رأيهم فيه ، فقال :
إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخر * فعبدمنافٍ سِرُّها وصَمِيمُها
وإن حصلت أشرافُ عبدمنافها * ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً * هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثُّها وسمينُها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامة * إذا ما ثنوا صَعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يومِ كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها
--------------------------- 227 ---------------------------
المناقب والمثالب للقاضي النعمان المغربي / 86 ، سيرة ابن إسحاق : 2 / 129 وغيره .
2 . وشذ أبو لهب فحاول أبو طالب تحريك شهامته فقال :
« عجبت لحلمٍ يا ابن شيبةحادثٍ * وأحلام أقوامٍ لديك سخافِ
يقولون شايعْ من أراد محمداً * بسوء وقم في أمره بخلاف
أصاميم إمَّا حاسدٌ ذو خيانة * وإمّا قريب منك غير مُصاف
فلا تتركن الدهر منه ذمامه * وأنت امرؤٌ من خير عبد مناف
ولا تتركنه ما حييت وأطعمن * وكن رجلاً ذا نجدة وعفاف
تذود العدى من ذروة هاشمية * ألا فهمُ في الناس خير إلاف
فإن له قربى لديك قريبة * وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم من صميمها * إلى أبحر فوق البحور طواف
وزاحم جميع الناس عنه وكن له * وزيراً على الأعداء غير مخاف
فإن غضبت منه قريش فقل لها * بني عمنا هل قومكم بضعاف
فما بالنا تعشون منا ظلامة * وما بال أرحام هناك جوافي
وما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا * ولا نحن فيما ساءهم بخفاف
ولكننا أهل الحفائظ والنهى * وعز ببطحاء الحطائم واف »
ابن إسحاق : 4 / 189 .
لكن أبا لهب ساء توفيقه فانضم إلى أعداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فذمه أبو طالب !
قال ابن إسحاق : 2 / 131 : « أقبل أبو طالب على أبي لهب حين ظافر عليه قومه ونصب العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع من نصب له ، وكان أبو لهب للخزاعية ، وكان أبو طالب وعبد الله أبو رسول الله والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، فغمزه أبو طالب بأم له يقال لها سماحيج ، وأغلظ له في القول :
مستعرضُ الأقوام يخبرْهم * عذري وما أن جئت من عذر
--------------------------- 228 ---------------------------
فاجعل فلانة وابنها عوضاً * لكرائم الأكفاء والصهر
واسمع نوادرمن حديث صادق * تهوين مثل جنادل الصخر
إنا بنو أم الزبير وفحلها * حملت بنا للطيب والطُّهر
حرَّمت منا صاحباً ومؤازراً * وأخاً على السراء والضر »
« ثم قال أبو طالب في شعر قاله حين أجمع لذلك من نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والدفاع عنه ، على ما كان من عداوة قومه وفراقهم له :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوَسَّدَ في التراب دفينا
فاجهد لأمرك ما عليك غضاضة * أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح * فلقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه * من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةَ أو حذاري سبةً * لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فلما قالت قريش لقد سفه أحلامنا وعاب ديننا وسب آباءنا ، فوالله لا نُقِرُّ بهذا أبداً ! وقام أبو طالب دون رسول الله وكان أحب الناس إليه ، فشمر في شأنه ونادى قومه قال قصيدة يعوِّر فيها منهم . ويقصد لاميته . ابن إسحاق : 2 / 136 .
أبو لهب يحاول اغتيال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
« قالت قريش لأبي لهب : إن أبا طالب هو الحائل بيننا وبين محمد ، ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ، وأنت برئ من دمه ونحن نؤدي الدية وتسود قومك ، قال : فإني أكفيكموه ، فنزل أبو لهب إليه وتسلقت امرأته الحائط حتى وقفت على رسول الله فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه وكانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شئ حتى انفجر الصبح وفرغ النبي من الصلاة ! فقال أبو لهب : يا محمد أطلقنا ، قال : لا أطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني ، قالا : قد فعلنا ، فدعا ربه فرجعا » . المناقب لابن شهرآشوب : 1 / 115 .
--------------------------- 229 ---------------------------
هلك أبو لهب بعد هزيمة قريش في بدر
قال أبو رافع : « أقبل أبو لهب بعد بدر يجر رجليه ، فقال الناس هذا أبو سفيان بن حرب قد قدم ، فاجتمع عليه الناس فقال له أبو لهب : هلم إلي يا ابن أخي فعندك لعمري الخبر ، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له : يا ابن أخي خبرني خبر الناس قال : نعم والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يضعون السلاح فينا حيث شاؤوا ! ووالله مع ذلك ما لمت الناس لقيَنا رجالٌ بيضٌ على خيل بلق لا والله ما تليق شيئاً يقول ما تبقي شيئاً . .
فوالله ما مكث إلا سبعاً حتى مات ، ولقد تركه إبناه في بيته ثلاثاً ما كيد فناؤه حتى أنتن ، وكانت قريش تتقي هذه القرحة يعني العدسة كما تتقي الطاعون ، حتى قال لهما رجل من قريش : ويحكما ألا تستحيان إن أباكما في بيته قد أنتن لا تدفنانه ! فقالا : إنا نخشى عدوى هذه القرحة ! فقال انطلقا فأنا أعينكما عليه ، فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه ، ثم إنهم احتملوه إلى أعلى مكة فأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة » ! تاريخ دمشق : 67 / 171 .
3 - عرضوا على أبي طالب أن يأخذ شاباً بدل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال ابن إسحاق : 2 / 133 : « ثم إن قريشاً حين عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعدواتهم ، مشوا اليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغنا : يا أبا طالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد ، جمالاً وشباباً ونهادة ، فهو لك نصره وعقله ، فاتخذه ولداً لا تنازع فيه ، وخل بيننا وبين ابن أخيك ، هذا الذي فارق دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومه وسفه أحلامهم ، فإنما رجل كرجل ، لنقتله ، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مغبة . فقال لهم أبو طالب : والله ما أنصفتموني ! تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه ! هذا والله لا يكون أبداً ، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره !
--------------------------- 230 ---------------------------
فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف : لقد أنصفك قومك يا أبا طالب ، وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم ! فقال أبو طالب للمطعم بن عدي : والله ما أنصفتموني ، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ ، فاصنع ما بدا لك ، أو كما قال أبو طالب !
فحقب الأمر عند ذلك وجمعت للحرب ، وتنادى القوم ونادى بعضهم بعضاً فقال أبو طالب عند ذلك ، وإنه يعرض بالمطعم ويعم من خذله من بني عبد مناف ، ومن عاداه من قبائل قريش ، ويذكر ما سألوه فيما طلبوا منه :
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظي من حياطتكم بكر
من الخور حبحابٌ كثير رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر
تخلف خلف الورد ليس بلاحقٍ * إذا ما على الفيفاء تحسبه وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
يلي لهما أمر ولكن تجرجما * كما جرجمت من رأس ذي العلق الصخر
هما أغمزا للقوم في أخويهما * وقد أصبحا منهم أكفهما صفر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً * هما نبذانا مثلما نبذ الجمر
فأقسمت لا ينفك منهم مجاور * يجاورنا ما دام من نسلنا شفر
هما اشتركا في المجد من لا أخاله * من الناس إلا أن يرس له ذكر
وليداً أبوه كان عبداً لجدنا * إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيمٌ ومخزومٌ وزهرةُ منهمُ * وكانوا لنا مولى إذا ابتغيَ النصر
فقد سفهت أحلامهم وعقولهم * وكانوا كجفر شرما جهلت جفر » .
ورواها ابن هشام : 1 / 173 وقال : « تركنا منها بيتين أقذع فيهما » . والمناقب والمثالب للقاضي المغربي / 87 . وذكر في الغدير : 7 / 361 الأبيات الثلاثة التي حذفها ابن هشام :
وما ذاك إلا سؤدد خصنا به
إلهُ العباد واصطفانا له الفخر
رجال تمالوا حاسدين وبغضةً
لأهل العلى فبينهم أبداً وتر
وليد أبوه كان عبداً لجدنا
إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
--------------------------- 231 ---------------------------
يقصد أن الوليد بن المغيرة كان عبداً لهاشم ، وأمه رومية وأبوه ليس المغيرة ! وقد صدقه القرآن فقال عن الوليد : وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ .
وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت في الوليد ، ففي تفسير الجلالين / 758 ، وابن إسحاق : 2 / 140 : « دعيٌّ في قريش وهو الوليد بن المغيرة ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة » . وفي رواية أنه أكبر من أبيه بثمانية عشرة سنة .
وفي المناقب : 1 / 52 : روى ابن بابويه في كتاب النبوة عن زين العابدين ( عليه السلام ) : « أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنده فقالوا : نسألك من ابن أخيك النَّصَف ، قال : وما النصف منه ؟ قالوا : يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه ، ولا يقاتلنا ولا نقاتله . ألا إن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء ! فقال : يا ابن أخي ، أسمعت ؟ قال : يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي ! إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم ، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان ، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .
فقالوا : قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء . فنزل « فيما بعد » : قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ . فقالوا : قل له أرسله الله إلينا خاصة أم إلى الناس كافة ؟ قال : بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود ، ومن على رؤس الجبال ، ومن في لجج البحار ولأدعون فارس والروم : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا . فتجبرت قريش واستكبرت وقالت : والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ، ولقلعت الكعبة حجراً حجراً ! فنزل « فيما بعد » وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَئْ . وقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيل » .
--------------------------- 232 ---------------------------
4 . من هو عمارة الذي أرادوا أن يعطوه بدل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟
هو عمارة بن الوليد بن المغيرة ، فأبوه الوليد رئيس المستهزئين بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ورئيس قبيلة مخزوم ، والوحيد الذي وصفه الله تعالى في القرآن بالزنيم !
فقد بلغ من كيده أنه أخذ ابنه عمارة إلى أبي طالب ليعطيه إياه بدل محمد ، ويعطيهم محمداً ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلونه ! وكان عمارة يومها متزوجاً وله أولاد !
وتصور ابن عبد البر أنه ابن الوليد بن الوليد فيكون ابن أخ خالد « الإستيعاب : 4 / 1557 » لكنه ابن الوليد الأب ، وأخ خالد ، كما نص عليه في شرح النهج : 6 / 304 . وكان عمارة جميلاً فاتكاً ماجناً ، وذكر ابن حبيب في المنمق / 130 ، أن عمر بن الخطاب كان يخدمه في سفره فأراد أن يقتله فهرب عمر منه . وكان عمارة يشبه عمرو بن العاص في دهائه ومجونه ، وقد أرسلتهما قريش إلى النجاشي يطلبان منه إرجاع المسلمين المهاجرين إليهم !
قال ابن أبي شيبة : 8 / 465 : « وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً ، وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً » . وذكر قصتهما لما سافرا في البحر فشربا خمراً ، وأراد عمارة زوجة عمرو وألقاه في البحر ليغرقه ، فنجا عمرو وعاد إلى السفينة ، وأخذ يخطط لقتل عمارة ، فأرسل إلى أبيه العاص : « أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم ، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته ، فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل ، مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال : إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم ، وكلاهما فاتك صاحب شر ، غير مأمونين على أنفسهما ، ولا أدري ما يكون منهما ، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته ، فقد خلعته .
فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم : وأنت تخاف عمراً على عمارة ! ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين ، قال قد فعلت ! فخلعوهما وبرئ كل قوم من صاحبهم وما يجرى منه » . شرح النهج : 6 / 304 .
ثم أوقع ابن العاص بعمارة عند النجاشي ، وأثبت للنجاشي أنه يخونه في جاريته فعاقبوه وقيل سحروه ، فهام على وجهه مع الوحوش حتى مات !
قال العلامة في تحرير الأحكام : 5 / 397 : « والسحر الذي يجب به القتل هو ما يعدُّ في
--------------------------- 233 ---------------------------
العرف سحراً ، كما نقل الأموي في مغازيه أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في إحليل عمارة بن الوليد ، فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى إمارة عمر بن الخطاب فأمسكه إنسان فقال : خَلِّنِي وإلا مِتُّ ! فلم يُخله فمات من ساعته » !
والأموي : المؤرخ صاحب الأوزاعي الوليد بن مسلم مولى الأمويين توفي سنة 195 ، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي . الديباج : 1 / 34
وهدية العارفين : 2 / 500 .
5 - سورة المدثر تَفضح رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة !
أبرز من تصدى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) من قريش خمسة فراعنة سماهم الله تعالى « المستهزئين » رئيسهم وعقلهم الوليد بن المغيرة المخزومي ، كان يجمعهم ويضع لهم الخطط ، وقد ناقشواالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فأقام لهم الأدلة على نبوته وأراهم المعجزات التي طلبوها ، فلم يزدهم ذلك إلا كفراً وعتواً ! وكثرمجيؤهم إلى أبي طالب ليسلمهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ! فرفض كلامهم بشدة ، وحشَد بني هاشم لحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وتوالى نزول القرآن فاعتبروه تحدياً لهم وسبّاً لآلهتهم . ولما قرب موسم الحج للسنة الثانية من البعثة قام الوليد بتوحيد موقفهم أمام العرب الوافدين !
« ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً . قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول فيه . قال : بل أنتم فقولوا ، أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا : فنقول مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تَخَالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر .
--------------------------- 234 ---------------------------
قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، قد رأينا السُّحَّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لَعَذِقٌ وإن فرعه لجُناه ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته .
فلما أقبلت العرب خرجوا يجلسون على طرقها يحذرون منه كل من قدم ويقولون : حدث عندنا ساحر ، فإياكم أن يهلككم بسحره ! وأنزل الله عز وجل في ذلك في الوليد بن المغيرة : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لاتُبْقي وَلاتَذَرُ . لَوَاحَةٌ لِلْبَشَرِ . عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ . « المدثر 11 - 30 » . فلم يزالوا يقولون ذلك لكل من جاء من ناحية من نواحي بلاد العرب ، حتى صدروا عن الحج وأغروهم به واستنصروهم عليه ، فوعدهم كثير منهم النصرة ، وانتشر ذلك من أمرهم في العرب . وخاف أبو طالب دهماءها واجتماعها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للحمية في دينها ، وتحريض قريش عليه واستنفارهم إليه ، وأشفق من ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إشفاقاً شديداً ، فلم يرَ في دفع ذلك عنه إلا إصلاح جانب العرب له .
وكان إظهار أبي طالب ما يظهره من التمسك بدين العرب تقيّة عليه وذباً عنه ، لأنه لو أظهر الإسلام كما أظهره حمزة لرفضته العرب ولم تلتفت إليه . . . وكان أبو طالب سيداً من سادات العرب ، تعرف له حقه ولا تكاد تدخل فيما يسوءه ، ولا تظاهره إلاّ بالمعروف وهو على دينها ، فقال شعره الذي استعطف العرب به وتودد إلى أشرافها فيه ، ليصرفهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبرهم أنه على دينهم لم يبدّله » . المناقب والمثالب / 92 ، لأبي حنيفة النعمان المغربي المتوفى : 363 ، الاكتفاء : 1 / 218 ، للكلاعي الأندلسي المتوفى : 634 . وابن إسحاق : 2 / 131 وكلها تصرح بأن أبا طالب كان مسلماً .
--------------------------- 235 ---------------------------
6 - أبو طالب يطلق لاميته في بلاد العرب
قال ابن كثير في النهاية : 3 / 70 : « قال ابن إسحاق : ولما خشي أبو طالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله ، ولا تاركه لشئ أبداً ، حتى يهلك دونه » .
ثم أورد ابن كثير القصيدة برواية ابن هشام ، ورد على تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب ، قال : « قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها . قلتُ : هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً ، لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلقات السبع ، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً ، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر » .
أقول : يظهر أن أبا طالب « رحمه الله » أطلق لاميته في السنة الثانية للهجرة قبل موسم الحج رداً على إعلام قريش الكاذب وتحريضهم العرب على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد جعل بعض كتَّاب السيرة وقتها بعد محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب ، أو عندما عرضت قريش عليه شاباً بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يصح ذلك .
قال ابن حجر في فتح الباري : 3 / 442 : « وأبيض يستسقى الغمام بوجهه . . . وهذا البيت من قصيدة لأبي طالب ، ذكرها ابن إسحاق بطولها ، وهي أكثر من ثمانين بيتاً ، قالها لما تمالأت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونفَّروا عنه من يريد الإسلام » .
وقال العصامي في سمط النجوم / 231 : « قلت : لم أظفر من هذه القصيدة إلا بنحو السبعة والثمانية الأبيات في غالب كتب السير ، ولم أزل أطلبها حتى ظفرت بغالبها من تاريخ العلامة الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المسمى دول الإسلام ، فنقلتها منه ولله الحمد » .
وقوله عجيب ، لأن الذهبي أورد منها في تاريخه : 1 / 162 تسعة عشر بيتاً فقط ! فلا بد أنهم حذفوا بقيتها من نسخته المطبوعة !
وقال ابن أبي الحديد : 2 / 315 بعد أن أورد جملة من شعر أبي طالب : « فكل هذه
--------------------------- 236 ---------------------------
الأشعار قد جاءت مجئ التواتر ، لأنه إن لم يكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك ، وهو تصديق محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ومجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي ( عليه السلام ) الفرسان منقولة آحاداً ، ومجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته ، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم وحلم الأحنف . قالوا : واتركوا هذا كله جانباً : ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قِفَا نَبْكِ . فإن جاز الشك فيها أو في شئ من أبياتها ، جاز الشك في : قفا نبك » .
وقال الأميني في الغدير : 7 / 340 : « هذه القصيدة ذكر منها ابن هشام في سيرته : 1 / 286 أربعة وتسعين بيتاً وقال : هذا ما صح لي من هذه القصيدة . وذكر ابن كثير اثنين وتسعين بيتاً في تاريخه : 3 / 53 وفي رواية ابن هشام ثلاثة أبيات لم توجد في تاريخ ابن كثير . وأضاف الأميني : وذكرها أبو هفان العبدي في ديوان أبي طالب ، في مائة وأحد عشر بيتاً ، ولعلها تمام القصيدة » .
وفي إرشاد الساري : 2 / 227 : « قصيدة جليلة بليغة من بحر الطويل ، وعدة أبياتها مائة وعشرة أبيات ، قالها لما تمالأ قريش على النبي ونفروا عنه من يريد الإسلام » .
وفي عمدة القاري : 3 / 434 : « قصيدة طنانة ، وهي مائة بيت وعشرة أبيات أولها :
خليلي ما أُذْني لأول عاذلِ بصغواءَ في حق ولا عند باطل
وذكر منها البغدادي في خزانة الأدب : 1 / 252 اثنين وأربعين بيتاً مع شرحها . . . وذكر الآلوسي بعضها في بلوغ الإرب في أحوال العرب : 1 / 237 وذكر كلمة ابن كثير المتقدمة ، وقال : هي مذكورة مع شرحها في كتاب : لب لباب لسان العرب .
وذكر منها السيد زيني دحلان أبياتاً في السيرة النبوية « هامش الحلبية : 1 / 88 » وقال : قال الإمام عبد الواحد السفاقسي في شرح البخاري : إن في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنه كان يعرف نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا الراهب وغيره من شأنه ، مع ما شاهده من أحواله ، ومنها الاستسقاء به في صغره ومعرفة أبي طالب بنبوته ( صلى الله عليه وآله ) جاءت في كثير من الأخبار ، زيادة على أخذها من شعره .
قال الأميني : أنا لا أدري كيف تكون الشهادة والاعتراف بالنبوة ، إن لم يكن منها
--------------------------- 237 ---------------------------
هذه الأساليب المتنوعة المذكورة في هذه الأشعار ! ولو وجد واحد منها في شعر أي أحد أو نثره ، لأصفق الكل على إسلامه ، لكن جميعها لا يدل على إسلام أبي طالب ! فاعجب واعتبر » . انتهى .
وقال العسكري في كتابه : أبو طالب حامي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) / 108 : « وخرجها أبو هفان العبدي توفي : 257 فيما جمعه من شعر أبي طالب ، وهو معروف بديوان أبي طالب ( عليه السلام ) من / 2 إلى / 12 ، طبع النجف الأشرف في مائة واحد عشر بيتاً ، وخرجناها في كتابنا : الشهاب الثاقب لرجم مكفر أبي طالب ( عليه السلام ) ، نقلاً من كتب عديدة وفيها زيادة على جميع من ذكر القصيدة ، وما ذكرناه مائة وستة عشرة بيتاً » .
وقال صاحب الصحيح من السيرة : 15 / 52 : « وما دام أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحب لهذه القصيدة أن تذكر في محافل أهل الإيمان ، فإنني أحب أن أثبتها هنا ليرغم بها أنف الشانئ والناصب ، ولتقر بها عين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعين أبي طالب ، وعين ابنه أسد الله الغالب ، وعين من هو لشفاعته طالب » . وأوردها بمئة وثمانية عشر بيتاً .
ونحن نوردها برواية ابن هشام : 1 / 176 : لأنها الرواية الرسمية ، ونثبت أهم ما لم يورده من نسخة الصحيح بين معقوفين .
قال : « فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسَلِّمٍ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا تاركه لشئ أبداً ، حتى يهلك دونه ، فقال :
[ خليليَّ ما أُذني لأول عاذلِ * بصغواء في حقٍ ولا عند باطلِ ]
[ خليليَّ إن الرأيَ ليس بشركة * ولا نهنهٍ عند الأمور التلاتل ]
وَلَمّا رَأَيْت القَوْمَ لا وُدّ فِيهِمْ * وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ العُرَى وَالوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالعَدَاوَةِ وَالأَذَى * وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ العَدُوّ المُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً * يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ
--------------------------- 238 ---------------------------
صَبَرْت لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ * وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْت عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي * وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابِهِ بِالوَصَائِل
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ * لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ * بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا * مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِل
تَرَى الوَدْعَ فِيهَا ، وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً * بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالعَثَاكِلِ
أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ * عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةِجج * وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ * وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ
وَبِالبَيْتِ حَقّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ * وَبِاَللهِ إنّ اللهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالحَجَرِ المُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ * إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالأَصَائِلِ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً * عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وَأَشْوَاطِ بَيْنَ المَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا * وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثِلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ * وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ
وَبِالمَشْعَرِ الأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ * إلالٍ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ القَوَابِل
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الجِبَالِ عَشِيّةً * يُقِيمُونَ بِالأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالمَنَازِلِ مِنْ مِنًى * وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ
وَجَمْعٍ إذَا مَا المُقْرَبَاتُ أَجَزْنه * سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ
وَبِالجَمْرَةِ الكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا * يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالجَنَادِلِ
وَكِنْدَةَ إذْ هُمْ بِالحِصَابِ عَشِيّةً * تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائل
حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا اخْتَلَفَا لَهُ * وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الوَسَائِلِ
وَخَطْمِهِمُ سُمْرَ الرّمَاحِ وَشَرْحَهُ * وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النّعَامِ الحَوَامِلِ
--------------------------- 239 ---------------------------
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مَعَاذٍ لِعَائِذِ * وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللهَ عَاذِلِ
يُطَاعُ بِنَا أَمْرُ العِدَا وَدّ أَنّنَا * تُسَدّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةَ * وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا * وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصرَّع حَوْلَهُ * وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمْ * نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ * مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الأَنْكَبِ المُتَحَامِلِ
[ أبيت بحمد الله ترك محمد * بمكة أسلمه لشر القبائل ]
[ وقال لي الأعداء قاتل عصابة * أطاعوه ، وابغه من جميع الغوائل ]
[ نقيم على نصر النبي محمد * نقاتل عنه بالظبى والعواسل ]
وَإِنّا لَعَمْرُ اللهِ إنْ جَدّ مَا أَرَى * لَتَلْتَبِسَن أَسْيَافُنَا بِالأَمَاثِلِ
بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعٍ * أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلاً مُجَرّماً * عَلَيْنَا وَتَأْتِي حِجّةٌ بَعْدَ قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لا أَبَا لَك سَيّدًا * يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
[ وما ترك قوم لا أباً لك سيداً * يحوط الذمار غير ذرب مواكل ]
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ * ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ * فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ * إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ
[ جزت رحم عنا أسيداً * وخالداً جزاء مسيء لا يؤخر عاجل ]
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ * وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا ، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ * وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ * وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
--------------------------- 240 ---------------------------
فَإِنْ يُلْفَيَا ، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا * نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبى غَيْرَ بُغْضِنَا * لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ * فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا * بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ * مِنْ الأرض بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمَجَادِلِ
وَسَائِلْ أَبَا الوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتنَا * بِسَعْيِك فِينَا مُعْرِضًا كَالمُخَاتِلِ
وَكُنْت امْرِئِ مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ * وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْت بِجَاهِلِ
[ فلست أباليه على ذات نفسه * فعش يا ابن عمي ناعماً غير ماحل ]
فَعُتْبَةُ لا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ * حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ
[ وقد خفت إن لم تزدجرهم وترعووا * تلاقي ونلقى منك إحدى البلابل ]
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا * كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ * وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ * شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
[ وأعلم أن لا غافل عن مساءة * كذاك العدو عند حق وباطل ]
[ فميلوا علينا كلكم إن ميلكم * سواء علينا والرياح بهاطل ]
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَةٍ * وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ
وَلا يَوْمَ خَصْمٍ إذْ أَتَوْك أَلِدّةً * أُولِي جَدَلٍ مِنْ الخُصُومِ المَسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً * وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً * عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً * لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا * بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ * وَآلِ قُصَيّ فِي الخُطُوبِ الأَوَائِلِ
--------------------------- 241 ---------------------------
[ وكان لنا حوض السقاية فيهم * ونحن الذرى منهم وفوق الكواهل ]
[ فما أدركوا زحلاً ولا سفكوا دماً * وما خالفوا إلا شرار القبائل ]
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا * عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
[ وحث بنو سهم علينا عديَّهم * عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل ]
[ يعضُّون من غيظ علينا أكفهم * بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل ]
[ وشأيظ كانت في لؤي بن غالب * نفاهم إلينا كل صقر حلاحل ]
فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمُ خَيْرُ قَوْمِكُمْ * فَلا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُم * وَجِئْتُمْ بِأَمْرِ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثاً حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ * أَلانَ حِطَابٌ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ
لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا * وَخِذْلانُنَا ، أوَ تَرْكُنَا فِي المَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْماً نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ * وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ * نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ حُلاحِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى * وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا * وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا بِالتّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلاً قُصَيّا عَظِيمَةٌ * إذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي المَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْباً خِلالَ بُيُوتِهِمْ * لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ المَطَافِلِ
[ فإنْ تكُ كعبٌ من لؤيٍّ تجمعت * فلا بد يوماً مرة من تزايل ]
[ وإن تكُ كعبٌ من كعوبٍ كبيرة * فلابد يوماً أنها في مجاهل ]
[ وكنا بخير قبل تسويد معشر * هم ذبحونا بالمدى والمقاول ]
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا * بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ * لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ
سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلابِ بْنِ مُرّةَ * بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ خَاذِلِ
--------------------------- 242 ---------------------------
[ بني أسد لا تُطْرِقَنَّ على القذى * إذا لم يقل بالحق مقول قائل ]
[ ونعم ابن أخت القوم غير مكذب * زهير حساماً مفرداً من حمائل ]
وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ * وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهُمُ * وَنَحْنُ الكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالكَوَاهِلِ
شَبَابٌ مِنْ المُطَّيّبِينَ وَهَاشِمِ * كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلاً وَلا سَفَكُوا دَمًا * وَلا حَالَفُوا إلا أشَرّ القَبَائِلِ
بِضَرْبِ تَرَى الفِتْيَانَ فِيهِ * كَأَنّهُمْ ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ
بَنِي أُمّةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكيّة * بَنِي جمَحَ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ
وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةِ * بِهِمْ نُعِيَ الأَقْوَامُ عِنْدَ البَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ * زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمّ مِنْ الشّمّ البَهَالِيلِ يَنْتَمِي * إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ المَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْت وَجْدًا بِأَحْمَدَ * وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبّ المُوَاصِلِ
فَلا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالاً لأهْلِهَا * وَزَيْنًا لِمَنْ وَالاهُ رَبّ المَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاسِ أَيّ مُؤَمّلٍ * إذَا قَاسَهُ الحُكّامُ عِنْدَ التّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشِ * يُوَالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
فَوَاَللهِ لَوْلا أَنْ أَجِئَ بِسُبّةِ * تُجَرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي المَحَافِلِ
لَكُنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ * مِنْ الدّهْرِ جِدّاً غَيْرَ قَوْلِ التّهَازُلِ
[ وداستكم منا رجال أعزةٌ * إذا جردوا أيمانهم بالمناصل ]
[ رجال كرام غير مِيلٍ نماهمُ * إلى العز آباء كرام المخاصل ] »
[ وقفنا لهم حتى تبدد جمعهم * وحُسِرَ عنا كل باغ وجاهل ]
[ شباب من المطَّلِّبين وهاشم * كبيض السيوف بين أيدي الصياقل ]
[ بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم * ضواري أسود فوق لحم خرادل ]
--------------------------- 243 ---------------------------
[ ولكننا نسلٌ كرام لسادة بهم * يعتلي الأقوام عند التطاول ]
[ سيعلم أهل الضغن أيِّي وأيهم * يفوز ويعلو في ليال قلائل ]
[ وأيهم مني ومنهم بسيفه يلاقي * إذا ما حان وقت التنازل ]
[ ومن ذا يمل الحرب مني ومنهمُ * ويحمد في الآفاق في قول قائل ]
لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لا مُكَذّبٌ * لَدَيْنَا ، وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ * تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ ]
[ كأني به فوق الجياد يقودها * إلى معشر زاغوا إلى كل باطل ]
حَدِبْت بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْته * وَدَافَعْت عَنْهُ بِالذّرَى وَالكَلاكِلِ
فَأَيّدَهُ رَبّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ * وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ بَاطِلِ
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ * إلَى الخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ المَحَاصِلِ
فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبةً * فَلا بُدّ يَوْماً مَرّةً مِنْ تَزَايُلِ »
[ وجُدْتُ بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ] » ج
ورواها القاضي النعمان المغربي في المناقب والمثالب / 92 ، بمئة وسبعة أبيات ، وقال : « وفشا شعر أبي طالب هذا في العرب وأمْرُ رسول الله وقيام بني عبد شمس ومن أطاعها عليه ، وانتصاب بني هاشم ومن تولاها دونه ، وعلموا قديماً ما بين الفئتين من البغضاء وحسد بني عبد شمس بني هاشم . . . فتوقف من كانوا أغروه من قبائل العرب برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكذب أكثرهم مقالهم فيه ، وذكر أهل يثرب ما كانت اليهود خبَّرتهم وحدَّثتهم به من ظهور نبي فيهم ، قد أزف وقت ظهوره وإخبارهم عن شأنه وأموره ، فلما بلغهم أمر رسول الله تطلعت أعينهم إليه » .
وقال في شرح الأخبار : 3 / 225 : « وكان إظهار أبي طالب ما أظهر من التمسك بدين العرب والرغبة فيه ، مع تصديقه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإقراره بنبوته ، مما أيد الله به أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) لأنه لو أظهر الإسلام لرفضته العرب ، ولم يعضده من عضده منهم على نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
--------------------------- 244 ---------------------------
وقد شرح قصيدة أبي طالب بعض العلماء شرحاً موجزاً ، كالسهيلي في الروض الأنف : 2 / 16 ، وهو من حفاظ القرن السادس . تذكرة الحفاظ للذهبي : 4 / 1348 .
وشرحها صاحب خزانة الأدب : 2 / 53 ، عبد القادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة 1093 وأورد منها أربعين بيتاً ، وقال : « وقد أحببت أن أوردها هنا منتخبة مشروحة بشرح يوفي المعنى ، محبة في النبي صلى الله عليه » .
وشرح ابن إسحاق بعض مفرداتها كما نقل ابن هشام : 1 / 181 قال : « والغياطل : من بني سهم بن عمرو بن هصيص ، وأبو سفيان : ابن حرب بن أمية . ومطعم : ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف . وزهير : ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب . قال ابن إسحاق : وأسيد ، وبكره : عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي . وعثمان : ابن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله التيمي . وقنفذ : ابن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة . وأبو الوليد : عتبة بن ربيعة . وأبيّ : الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة بن كلاب . قال ابن هشام : وإنما سمى الأخنس لأنه خنس بالقوم يوم بدر ، وإنما اسمه أبيّ . وهو من بني علاج وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقدة . والأسود : ابن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب . وسبيع : ابن خالد ، أخو بلحارث بن فهر . ونوفل : ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي وهو ابن العدوية ، وكان من شياطين قريش ، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله في حبل حين أسلما ، فبذلك كانا يسميان القرينين ، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر . وأبو عمرو : قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف . وقوله : وقوم علينا أظنة ، بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة . فهؤلاء الذين عدد أبو طالب في شعره من العرب » !
لكن أبا طالب « رحمه الله » ذكر غيرهم أشخاصاً وقبائل !
ثم روى ابن هشام قوله ( صلى الله عليه وآله ) عندما استسقى في المدينة : « لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره ، فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول الله أردت قوله :
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ . . . ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ ؟ قال أَجل » .
وفي عمدة القاري : 7 / 31 : « لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه » .
--------------------------- 245 ---------------------------
7 - ملاحظات حول لامية أبي طالب ( ( رحمه الله ) ) وشعره
أ . يبلغ شعر أبي طالب « رحمه الله » الذي وصل إلينا نحو ألف بيت ، وهو ثروة مهمة لم يعطه العلماء حقه في تدوين السيرة وتوثيقها ! وقد رأيت قول الناصبي ابن كثير : « هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً ، لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً » !
فلماذا لم يدرسوها ويعتمدوها ؟ ! ولا يذكرون شعر أبي طالب ( عليه السلام ) إلا عند الضرورة وباختصار ، تقرباً وخوفاً من الحكومات ! ثم زعموا أنه مات كافراً لينفوا وراثته لعبد المطلب ، فنفيُ الوراثة وتكفير آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسرته أمرٌ مهم عندهم ، لأنها تنقض أساس خلافة السقيفة !
ب . يكشف شعر أبي طالب « رحمه الله » عن أمور وأحداث في السيرة النبوية لم يسجلها الرواة والمؤلفون ، أو عتَّموا عليها ، فمنها أن قريشاً قررت إجلاء بني هاشم من مكة إن لم يسلموهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ! وعملوا لتنفيذ ذلك فأحبطه أبو طالب :
كذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا * وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلٍ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ * وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةً * وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِل
وذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبى غَيْرَ بُغْضِنَا * لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ * فَنَاجَ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا * بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
وأبو عمرو المنافق هو : قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، وهذا يدل على أن حساد بني هاشم من أقربائهم كبني نوفل وأمية ، كانوا مع قرار نفيهم !
ج . ومن ذلك أن أبا طالب « رحمه الله » أشار في شعره إلى أعمال عدائية قامت بها قبائل أو شخصيات معينة ، لم يكشفها الرواة ! لاحظ قوله « رحمه الله » :
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ * إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ
--------------------------- 246 ---------------------------
[ جزت رحم عنا أسيداً وخالداً * جزاء مسئ لا يؤخرعاجل ]
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ * وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا ، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ * وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ * وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
فَإِنْ يُلْفَيَا ، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا * نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا * كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ * وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ * شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
[ وأعلم أن لا غافلٌ عن مساءة * كذاك العدو عند حق وباطل ]
[ فميلوا علينا كلكم إن ميلكم * سواء علينا والرياح بهاطل ]
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَة * وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً * وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً * عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً * لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُو * بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا * عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
[ وحث بنو سهم علينا عديَّهم * عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل ]
[ يعضُّون من غيظ علينا أكفهم * بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل ]
[ وشأيظ كانت في لؤي بن غالب * نفاهم إلينا كل صقر حلاحل ]
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى * وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ
ولم أجد تعبير « شر من وطأ الحصى » قبل وصف أبي طالب به لعدي ، وهم قبيلة عمر ، وكانوا قلة لكن لهم دور في عداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
--------------------------- 247 ---------------------------
ولاحظ قوله « رحمه الله » في قصيدة أخرى :
وليد أبوه كان عبداً لجدنا * إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم * فكانوا لنا مولى إذا بغي النصر
فقد سفهت أحلامهم وعقولهم * فكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
والوليد هو أبو خالد بن الوليد ، أحد المستهزئين الخمسة سنن البيهقي 9 / 8 وقد أخبر أبو طالب أن أمه رومية ، كانت أمَةً لهاشم !
د . ولاحظ قوله « رحمه الله » في المعجزة التي ظهرت في أبي جهل : « لما جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو ساجد ، وبيده حجر يريد أن يرميه به ، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه » !
أفيقوا بني غالب وانتهوا * عن الغي من بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذن خائفٌ * بوائقَ في داركم تلتقي
تكون لغيركم عبرةً * ورب المغارب والمشرق
كما ذاق من كان من قبلكم * ثمودٌ وعادٌ فمن ذا بقي
غداة أتاهم بها صرصرٌ * وناقة ذي العرش قد تستقي
فحل عليهم بها سخطةٌ * من الله في ضربة الأزرق
غداة يعض بعرقوبها * حساماً من الهند ذا رونق
وأعجب من ذاك في أمركم * عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من خبثه * إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه * على رغمة الجائر الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى * لغي الغواة ولم يَصدق »
كنز الفوائد / 75 ، أبو طالب حامي الرسول / 21 ، ابن إسحاق : 4 / 192 ولم يجزم بنسبتها إلى أبي طالب !
فلا بد من تتبع الأحداث التي أرخها أبو طالب رضي الله عنه ، أو أشار إليها ، وفيها مفردات جديدة في السيرة ، أهملها الرواة أو جهلوها ، فينبغي بحث نصوصها ومؤيداتها ، أو ما يعارضها في السيرة الحكومية الرسمية .
--------------------------- 248 ---------------------------
الفصل الخامس عشر
الإسراء والمعراج
1 - آيات الإسراء والمعراج
قال الله تعالى : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ . الإسراء 1 .
وقال تعالى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالآفُقِ الأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى . النجم 1 - 18 .
فمطلع سورة الإسراء في الإسراء ، أما المعراج فآياته في سورة النجم .
وقال المفسرون واللغويون : السُّرى هو السير بالليل فقط « لسان العرب 4 / 389 » لكن قوله تعالى : أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ، يدل على أن الإسراء مطلق السير ، ولذا قال : لَيْلاً .
وتبلغ أحاديث الإسراء والمعراج في مصادر الطرفين مئات الصفحات ، وغرضنا هنا إيراد مختارٍ منها ، يعطي تصوراً شاملاً عن المعراج ، ثم نشير إلى بعض الروايات المكذوبة فيه .
2 - كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح
مذهب عامة الشيعة أن معراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان بروحه وجسده . قال المجلسي في روضة المتقين : 2 / 218 : « وأما المعراج فأخباره أكثر من أن تحصى ، وإنكاره كفر . . ثم حمل على عائشة
--------------------------- 249 ---------------------------
ومعاوية ، لأنهما أنكرا المعراج بالجسم وجعلاه بالروح » !
وقال النويري في نهاية الأرب : 16 / 293 : « اختلف العلماء على ثلاث مقالات ، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح وأنه رؤيا منام . وذهبت طائفة إلى أن الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح . والذي عليه الأكثرون وقال به معظم السلف أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة . قال القاضي عياض بن موسى بن عياض : وهذا هو الحق ، وهو قول ابن عبّاس وجابر وأنس وحذيفة . . وهو قول الطبري ، وابن حنبل ، وغيرهما ، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلَّة يطول علينا شرحها . قال القاضي عياض : وعليه تدل الآية ، إذ لو كان مناماً لقال : بروح عبده ، ولم يقل : بِعَبْدِه . وقوله : ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغى . ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة » .
3 - برنامجٌ رباني لإعداد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
الإسراء : سَفَر النبي ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى الكوفة ، ثم إلى جبل الطور وبيت المقدس ، إشارةً إلى أنه وارث آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى « عليهم السلام » .
والمعراج : عروجه ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء ، وكان ذلك في أوائل البعثة ، وكأنه برنامج إعداد للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن يريه ربه ما شاء من ملكوته وآياته الكبرى .
ففي أمالي الصدوق / 213 : « عن ثابت بن دينار قال : سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال : تعالى الله عن ذلك . قلت : فلمَ أسرى بنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء ؟ قال : ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه . قلت : فقول الله عز وجل : ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ؟ قال : ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دنا من حجب النور ، فرأى ملكوت السماوات ، ثم تدلى ( صلى الله عليه وآله ) فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى » .
وفي الإحتجاج : 1 / 327 أن حَبْراً قال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « هذا سليمان قد
--------------------------- 250 ---------------------------
سخرت له الرياح فسارت به في بلاده ، غُدُوُّها شهر ورواحها شهر ؟ قال له ( عليه السلام ) : لقد كان ذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) أعطي ما هو أفضل من هذا ، إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام ، في أقل من ثلث ليلة ، حتى انتهى إلى ساق العرش فدنى بالعلم فتدلى من الجنة على رفرف أخضر ، وغشيَ النور بصره ، فرأى عظمة ربه عز وجل بفؤاده ، ولم يرها بعينه ، فكان كقاب قوسين بينه وبينها ، أو أدنى » .
أقول : هذا يدل على أن التدلي كان مرات ، ومن عدة أمكنة ، لمشاهدة ملكوت الأرض ، ولمشاهدة آيات الله وعظمته فيها .
4 - عُرِج بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مئة وعشرين مرة !
قال العيني في عمدة القاري : 4 / 39 : « قيل إن الإسراء كان مرتين ، مرة بروحه مناماً ، ومرة بروحه وبدنه يقظة . ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً ، حتى قال إنه أربع إسرا آت . وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة ، ووفَّق أبو شامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد ، فجعله ثلاث إسرا آت ، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق ، ومرة من مكة إلى السماوات على البراق أيضاً . ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات » .
وقال ابن عباس : « كان المعراج مرتين ، بعد النبوة بسنتين ، فالأول معراج العجائب والثاني معراج الكرامة » . المناقب : 1 / 153 .
ورجح في الصحيح من السيرة : 3 / 25 أنه مرتان ، طبق رواية الكافي : 1 / 443 لكن سندها غير تام ، بينما صح عن أهل البيت « عليهم السلام » أنه مرات ، فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « عرج بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء مائة وعشرين مرة . ما من مرة إلا وقد أوصى الله النبي ( صلى الله عليه وآله ) بولاية علي والأئمة « عليهم السلام » من بعده ، أكثر مما أوصاه بالفرايض » .
بصائر الدرجات / 99 ، الخصال / 600 ، المحتضر / 44 والفوائد الطوسية / 140 .
ومما يدل على أن المعراج وقع أيضاً في أواخر نبوته ( صلى الله عليه وآله ) ، ما رواه الصدوق في الأمالي / 696 ،
--------------------------- 251 ---------------------------
عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث أسري به إلى السماء ، لم يمر بخلق من خلق الله إلا رأى منه ما يحب ، من البِشْر واللطف والسرور به ، حتى مر بخلق من خلق الله فلم يلتفت إليه ولم يقل له شيئاً ، فوجده قاطباً عابساً فقال : يا جبرئيل ، ما مررت بخلق من خلق الله إلا رأيت البشر واللطف والسرور منه إلا هذا ، فمن هذا ؟ قال : هذا مالك خازن النار ، وهكذا خلقه ربه ! قال : فإني أحب أن تطلب إليه أن يريني النار . فقال له جبرئيل : إن هذا محمداً رسول الله ، وقد سألني أن أطلب إليك أن تريه النار . قال : فأخرج له عنقاً منها فرآها ، فما افترَّ ضاحكاً حتى قبضه الله عز وجل » .
ونحوه في كتاب الحسين بن سعيد / 99 وفيه : « فكشف له طبقاً من أطباقها » .
فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه لم يضحك بعده حتى توفي فهو في أواخر حياته الشريفة ، ومعراجه الأول كان في أوائل بعثته ، وقد ضحك بعده في مناسبات عديدة .
5 - الإسراء والمعراج من عقائد الإسلام
في أمالي الصدوق / 738 : « دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد الله تعالى ذكره ، ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق به ، والإقرار بأنبياء الله ورسله وحججه وملائكته وكتبه ، والإقرار بأن محمداً هو سيد الأنبياء والمرسلين . . وبمعراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء السابعة ، ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وبمناجاة الله عز وجل إياه ، وأنه عرج به بجسمه وروحه على الصحة والحقيقة لا على الرؤيا في المنام ، وأن ذلك لم يكن لأن الله عز وجل في مكان هناك ، لأنه متعال عن المكان ، ولكنه عز وجل عرج به تشريفاً له وتعظيماً لمنزلته ، وليريه ملكوت السماوات كما أراه ملكوت الأرض ، ويشاهد ما فيها من عظمة الله عز وجل وليخبر أمته بما شاهد في العلو من الآيات والعلامات » .
وفي رسالة الإعتقادات للصدوق « رحمه الله » / 79 : « واعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان
--------------------------- 252 ---------------------------
وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد دخل الجنة ، ورأى النار ، حين عرج به » .
إن المعراج حدثٌ ضخمٌ ، ومفرداته كثيرة ، وقد تبلغ موضوعاته مائتي عنوان ، وهذا طبيعي ، لأنه جولة في الأرض على ربوع الأنبياء السابقين « عليهم السلام » ، وجولاتٌ في السماوات السبع ، أرى الله فيها رسوله ( صلى الله عليه وآله ) آيات ملكوته الكبرى . أراه جميع الأنبياء « عليهم السلام » ، والجنة بأعلى نعيمها ، وطرفاً من النار والمعذبين فيها .
وأراه مشاهد ستحدث من مستقبل أمته ، وأراه الأئمة من ذريته « عليهم السلام » ، وعلمه علم ما يكون . وفي كل واحد من هذه المواضيع : عناوين ، وفروع ، وتفاصيل .
وقد أفاضت مصادرنا في رواية أحاديث المعراج التي بينت مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة من عترته « عليهم السلام » ، ومقام شيعتهم وما يجري عليهم من اضطهاد ، وما أعد الله لهم من نصر في نهاية المطاف ، ودرجات عالية في الآخرة .
6 - هل المسجد الأقصى مسجد القدس أو البيت المعمور ؟
يوجد رأي نادر للباحث السيد جعفر مرتضى ، ذكره في رسالة عن البيت المعمور ، وفي كتابه الصحيح من السيرة : 3 / 147 مفاده : أن المقصود بالمسجد الأقصى في آية الإسراء هو البيت المعمور في السماء وليس مسجد بيت المقدس ، وأن المسجد الذي يدخله المؤمنون مرتين هو المسجد الحرام ، قال :
« الظاهر أن المراد به هو المسجد الحرام ، أما المسجد الأقصى الذي حصل الإسراء إليه ، والذي بارك الله حوله ، فهو في السماء » .
واستدل على ذلك برواية أن النبي صلى بالأنبياء « عليهم السلام » في المسجد الأقصى ، وهو البيت المعمور : « انتهى جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الأقصى ، فلما دنا منه أتى جبرئيل عيناً فتوضأ منها ثم قال يا محمد توضأ » . اليقين لابن طاووس / 294 .
وفي تفسير القمي : 2 / 243 ونوادر المعجزات / 66 : « عن إسماعيل الجعفي قال : كنت في المسجد الحرام قاعداً وأبو جعفر ( عليه السلام ) في ناحية ، فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ، ثم قال : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى . .
--------------------------- 253 ---------------------------
وكرر ذلك ثلاث مرات ، ثم التفت إليَّ فقال : أي شئ يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي ؟ قلت : يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس ، فقال : لا ، ليس كما يقولون ، ولكنه أسريَ به من هذه وأشار بيده إلى الأرض ، إلى هذه وأشار بيده إلى السماء ، وقال : ما بينهما حرم . قال : فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جبرئيل في هذا الموضع تخذلني ؟ فقال : تقدم أمامك ، فوالله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك . فرأيت من نور ربي وحال بيني وبينه السبحة . قلت : وما السبحة
جعلت فداك ؟ فأومئ بوجهه إلى الأرض وأومى بيده إلى السماء وهو يقول جلال
ربي ثلاث مرات . قال يا محمد ! قلت : لبيك يا رب قال : فيم اختصم الملأ الأعلى ؟ قال : قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني .
قال فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي . قال : فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته . قال : يا محمد فيمَ اختصم الملأ الأعلى ؟ قال قلت : يا رب في الدرجات والكفارات والحسنات .
فقال : يا محمد قد انقضت نبوتك وانقطع أُكلك ، فمن وصيك ؟ فقلت : يا رب قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أطوع لي من علي ؟ فقال : ولي يا محمد . فقلت : يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر في خلقك أحداً أشد حباً لي من علي بن
أبي طالب . قال : ولي يا محمد ، فبشره بأنه راية الهدى وإمام أوليائي ونورٌ لمن أطاعني ، والكلمة التي ألزمتها المتقين ، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني ، مع ما أني أخصه بما لم أخص به أحداً . فقلت : يا رب أخي وصاحبي ووزيري ووارثي ، فقال إنه أمر قد سبق أنه مبتلى ومبتلى به ، مع ما أني قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته ، أربعة أشياء عقدها بيده ولا يفصح بها عقدها » .
أقول : في هذا الحديث عناصر قوة ، لكن فيه عناصر خلل توجب التوقف فيه ، أهمها ما يوافق المخالفين في التجسيم ، أو ما يوهم التجسيم .
ومنها وجود روايات تعارضه وتدل على أن المسجد الأقصى مسجد
--------------------------- 254 ---------------------------
بيت المقدس ، منها ما رواه في الكافي : 3 / 491 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « جاء رجل إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو في مسجد الكوفة فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فرد عليه ، فقال : جعلت فداك إني أردت المسجد الأقصى ، فأردت أن أسلم عليك وأودعك ، فقال له : وأي شئ أردت بذلك ؟ فقال : الفضل جعلت فداك ، قال : فبع راحلتك وكل زادك ، وصلِّ في هذا المسجد فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة ، والنافلة عمرة مبرورة ، والبركة فيه على اثني عشر ميلاً ، يمينه يمن ويساره مكر ، وفي وسطه عين من دهن ، وعين من لبن ، وعين من ماء شراب للمؤمنين ، وعين من ماء طهر للمؤمنين . منه سارت سفينة نوح ، وكان فيه نسر ويغوث ويعوق ، وصلى فيه سبعون نبياً وسبعون وصياً ، أنا أحدهم . وقال بيده في صدره : ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج ، إلا أجابه الله
وفرج عنه كربته » .
فلو صحت الرواية التي تسمي البيت المعمور في السماء المسجد الأقصى أوبيت المقدس ، فدلالتها على تعدد المسجد الأقصى أولى من دلالتها على البدلية .
لذلك نستقرب أن يكون المسجد الأقصى اسماً للبيت المعمور وبيت المقدس معاً .
7 - علَّمه الله في المعراج علم ما يكون
في الكافي : 1 / 251 : « قال رجل لأبي جعفر ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله لا تغضب عليَّ قال : لماذا ؟ قال : لما أريد أن أسألك عنه ، قال : قل . قال : ولا تغضب ؟ قال : ولا أغضب . قال : أرأيت قولك في ليلة القدر تنزل الملائكة والروح فيها إلى الأوصياء يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد علمه ؟ أو يأتونهم بأمر كان رسول الله يعلمه ؟ وقد علمت أن رسول الله مات وليس من علمه شئ إلا وعلي ( عليه السلام ) له واع !
قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : مالي ولك أيها الرجل ومن أدخلك علي ؟
قال : أدخلني عليك القضاء لطلب الدين . قال : فافهم ما أقول لك : إن رسول الله لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جل ذكره علم ما قد كان وما سيكون ، وكان
--------------------------- 255 ---------------------------
كثير من علمه ذلك جملاً ، يأتي تفسيرها في ليلة القدر . وكذلك كان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر ، كما كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال السائل : أوما كان في الجمل تفسير ؟ قال : بلى ، ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي وإلى الأوصياء « عليهم السلام » : إفعل كذا وكذا ، لأمر قد كانوا علموه ، أمروا كيف يعملون فيه ؟
قلت : فسر لي هذا . قال : لم يمت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا حافظاً لجمله وتفسيره . قلت : فالذي كان يأتيه في ليالي القدر علم ما هو ؟ قال : الأمر واليسر فيما كان قد علم . قال السائل : فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا ؟ قال : هذا مما أمروا بكتمانه ، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه إلا الله عز وجل . قال السائل : فهل يعلم الأوصياء ما لا يعلم الأنبياء ؟ قال : لا ، وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه . قال السائل : فهل يسعنا أن نقول إن أحداً من الوصاة يعلم ما لا يعلم الآخر ؟ قال : لا لم يمت نبي إلا وعلمه في جوف وصيه ، وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم الذي يحكم به بين العباد .
قال السائل : وما كانوا علموا ذلك الحكم ؟ قال : بلى قد علموه ، ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شئ منه حتى يؤمروا في ليالي القدر كيف يصنعون إلى السنة المقبلة . قال السائل : يا أبا جعفر لا أستطيع إنكار هذا ؟ قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : من أنكره فليس منا . قال السائل : يا أبا جعفر أرأيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) هل كان يأتيه في ليالي القدر شئ لم يكن علمه ؟ قال : لا يحل لك أن تسأل عن هذا ، أما علم ما كان وما سيكون ، فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه ، أما هذا العلم الذي تسأل عنه فإن الله عز وجل أبي أن يطلع الأوصياء عليه
إلا أنفسهم .
قال السائل : يا ابن رسول الله كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة ؟ قال : إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرة ، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه » .
--------------------------- 256 ---------------------------
أقول : لاغرابة في أن يكون الله تعالى علَّم نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأراه في معراجه كثيراً من المستقبل ! لأن كل ما سيحدث في هذا الكون مخزون في علم الله تعالى الذي أحاط بكل شئ ، ونحن نرى في المنام أموراً من المستقبل ، ثم تحدث كما رأيناها تماماً ، فكأن ذلك المنام لقطة من المستقبل المخزون !
كما يدلنا هذا الحديث الشريف العميق على أن تعليم الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ولأوصيائه « عليهم السلام » له نظام وأصول ، في توقيته ، وتدرجه ، وإمضائه ، والسماح ببيانه ، بما يحفظ لهم الاختيار ، ويحفظ المسار الصحيح لتبليغهم رسالات ربهم . قال تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا . لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدداً . الجن : 26 - 28 .
8 - كان الإسراء إلى المدينة وكوفان والطور وبيت المقدس
في الكافي : 8 / 279 : « عن المفضل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس « السفاح » فلما انتهينا إلى الكناسة قال : هاهنا صلب عمي زيد « رحمه الله » ، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين ، فنزل وقال : إنزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي خطه آدم ( عليه السلام ) ، وأنا أكره أن أدخله راكباً . قال قلت : فمن غيَّره عن خطته ؟ قال : أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح ( عليه السلام ) ، ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان ، ثم غيَّره بعدُ زياد بن أبي سفيان . فقلت : وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح ( عليه السلام ) ؟ فقال لي : نعم يا مفضل ، وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ، مما يلي غربي الكوفة ، قال : وكان نوح ( عليه السلام ) رجلاً نجاراً فجعله الله عز وجل نبياً وانتجبه ، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء .
قال : ولبث نوح ( عليه السلام ) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزؤون به ويسخرون منه ، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلايَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا . فأوحى الله عز وجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها ، فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده ، فأتى بالخشب من بُعد حتى فرغ منها .
--------------------------- 257 ---------------------------
قال : المفضل ثم انقطع حديث أبي عبد الله ( عليه السلام ) عند زوال الشمس فقام فصلى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد ، فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين ، وهو موضع دار ابن حكيم وذاك فرات اليوم ، فقال لي : يا مفضل ، هاهنا نصبت أصنام قوم نوح ( عليه السلام ) : يغوث ويعوق ونسراً .
ثم مضى حتى ركب دابته فقلت : جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها ؟ قال : في دورين ، قلت : وكم الدورين ؟ قال : ثمانين سنة . قلت : وإن العامة يقولون : عملها في خمس مائة عام ، فقال : كلا كيف والله يقول : وَوَحْيِنَا .
قال قلت : فأخبرني عن قول الله عز وجل : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ، فأين كان موضعه وكيف كان ؟ فقال : التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد . فقلت له : فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم . ثم قلت له : وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور ؟ فقال : نعم إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية ، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً ، وفاض الفرات فيضاً ، والعيون كلهن فيضاً ، فغرقهم الله عز ذكره ، وأنجى نوحاً ومن معه في السفينة . فقلت له : كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها ؟ فقال : لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها ، وطافت بالبيت أسبوعاً ، ثم استوت على الجودي ، وهو فرات الكوفة . فقلت له : إن مسجد الكوفة قديم ؟ فقال : نعم ، وهو مصلى الأنبياء « عليهم السلام » ولقد صلى فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أسري به إلى السماء ، فقال له جبرئيل : يا محمد هذا مسجد أبيك آدم ، ومصلى الأنبياء « عليهم السلام » ، فانزل فصل فيه فنزل فصلى فيه . . ثم إن جبرئيل عرج به إلى السماء » .
وفي رواية في تفسير القمي : 2 / 3 أن جبرئيل ( عليه السلام ) أنزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة فصلى فيها ، وأخبره أنها مهاجره ، وصلى في طور سيناء عند قبر موسى ( عليه السلام ) ، وفي بيت لحم مولد عيسى ( عليه السلام ) .
أقول : « روى الطبري : 3 / 145 أن سلمان وحذيفة كانا رائدي جيش فتح العراق فارتادا لهم مكاناً لنزولهم ، فخرج سلمان حتى أتى الأنبار ، فسار في غربي الفرات
--------------------------- 258 ---------------------------
لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة . وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، والكوفة على حصباء ، وكل رملة حمراء يقال لها سهلة ، وكل حصباء ورمل هكذا متخلطين فهو كوفة ، فأتيا عليها وفيها دَيْرَات ثلاثة : دير حرقة ودير أم عمرو ودير سلسلة ، وخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة » .
وفي فتوح البلاذري : 2 / 354 أن سلمان الفارسي قال : « الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها » .
ولا بد أن يكون عمله « رحمه الله » بتوجيه علي ( عليه السلام ) باب مدينة علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
9 - استنفر أبو طالب ليلة الإسراء لأنه افتقد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
كانت مدة المعراج الأول أقل من ثلث ليلة ، حسب رواية الاحتجاج : 1 / 327 . وكان وقته الثلث الأخير من الليل ، كما في الخرائج : 1 / 85 .
وفي تفسير العياشي ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي أسريَ به فيها بمكة . وكان أبو طالب أمرعلياً وجعفراً وحمزة بالتناوب لحراسته ، وكان يتفقد مكانه في الليل ! ولما لم يجده خاف أن يكون القرشيون قتلوه ، فبعث من يبحث عنه ، واستدعى شباب بني هاشم ووزع عليهم سيوفاً قصيرة أو شفاراً ، وأمرهم أن يكون كل واحد منهم بجانب زعيم قرشي فإذا أمرهم فليقتل كل منهم من بجنبه من الزعماء ، وأولهم أبو جهل ! مناقب ابن شهرآشوب : 1 / 156 وروضة الواعظين / 59 .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 26 : « قال لهم : إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم ، وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولاتنتظروني . فوجدوه على باب
أم هانئ ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرَّفهم ما كان منه ! فأعظموا ذلك وجلَّ في صدورهم ، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لا يؤذون رسول الله ، ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه أبداً » .
وفي الخرائج للراوندي : 1 / 85 : « لما رجع من السُّرى نزل على أم هاني بنت أبي طالب
--------------------------- 259 ---------------------------
فأخبرها فقالت : بأبي أنت وأمي والله لئن أخبرت الناس بهذا ليكذبنَّك من صدَّقَك ، وكان أبو طالب قد فقده تلك الليلة فجعل يطلبه وجمع بني هاشم ، ثم أعطاهم المُدى ، وقال لهم : إذا رأيتموني قد دخلت وليس معي محمد فليضرب كل رجل منكم جليسه ، والله لا نعيش نحن ولا هم وقد قتلوا محمداً .
فخرج في طلبه وهو يقول : يا لها عظيمة إن لم يواف رسول الله مع الفجر ، فتلقاه على باب أم هاني حين نزل من البراق فقال : يا ابن أخي ، انطلق فادخل بين يديَّ المسجد ، وسلَّ سيفه عند الحجر وقال : يا بني هاشم أخرجوا مُداكم . فقال : لو لم أره ما بقي منكم شِفْر ٌ « أحد » أو عشنا ، فاتقته قريش منذ يوم أن يغتالوه .
ثم حدثهم محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس . قال : إنما دخلته ليلاً ، فأتاه جبرئيل فقال : أنظر إلى هناك ، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه ، ثم نعت لهم ما كان لهم من عير ما بينهم وبين الشام » .
لكن ابن سعد : 1 / 202 جعل الحادثة عندما جاء زعماء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يعطوه رجلاً بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ونزلت سورة صاد فاشمأزوا منها ! قال : « فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب ، ثم قال : ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني فإذا دخلت المسجد فلينظركل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية يعني أبا جهل ، فإنه لم يغب عن شر ، إن كان محمد قد قتل ! فقال الفتيان نفعل » .
وفي الغدير : 7 / 350 ، عن الحجة لفخار بن معد ، عن ابن الجوزي عن الواقدي : « كان أبو طالب بن عبد المطلب لا يغيب صباح النبي ولا مساءه ، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن يغتالوه ، فلما كان ذات يوم فقده فلم يره . . . فلما وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده : أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كل واحد منهم ما في يده ، فلما رأوا السكاكين قالوا : ما هذا يا أبا طالب ؟ قال : ما ترون ، إني طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم ، فأمرت
--------------------------- 260 ---------------------------
هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم : إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذني فيه ولو كان هاشمياً ! فقالوا : وهل كنت فاعلاً ؟ فقال : إي ورب هذه وأومى إلى الكعبة ! فقال له المطعم بن عدي بن نوفل وكان من أحلافه : لقد كدت تأتي على قومك ؟ قال : هو ذلك . ومضى به وهو يقول :
إذهب بُنَيَّ فما عليك غضاضةٌ * إذهب وقَرَّ بذاك منك عيونا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
وذكرت ديناً لا محالة إنه * من خير أديان البرية دينا
فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والإستعطاف ، وهو لا يحفل بهم » !
أقول : لا يبعد أن يكون عمل أبي طالب « رحمه الله » قد تكرر منه لحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتهديد قريش .
10 - رأت قريش آيات المعراج فزادت كفراً وعتواً
في أمالي الصدوق / 533 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق ، فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء « عليهم السلام » وصلى بها ، ورده فمرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعه بِعِيرٍ لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه ، فشرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك الماء وأهرق باقيه ! فلما أصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لقريش : إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس ، وأراني آثار الأنبياء « عليهم السلام » ومنازلهم ، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم ، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك . فقال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة منه فسلوه كم الأساطين فيها والقناديل ؟ فقالوا : يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه ؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه ! فلما أخبرهم قالوا : حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت . فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تصديق ذلك أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فلما كان من الغد
--------------------------- 261 ---------------------------
أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة ، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق ، فسألوهم عما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : لقد كان هذا ، ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أهريق الماء ! فلم يزدهم ذلك إلا عتواً » !
وفي الكافي : 8 / 262 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « ثم قال : هذه عير بني فلان تقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق أو أحمر ، قال : وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردها ، قال : وبلغ مع طلوع الشمس ، قال قرطة بن عبد عمرو : يا لهفاً ألا أكون لك جذعاً ، حين تزعم أنك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك » !
ونحوه في الخرائج : 1 / 141 ، عن علي ( عليه السلام ) ، وفيه : « فلما كان اليوم الثالث خرجوا إلى باب مكة لينظروا صدق ما أخبر به محمد ( صلى الله عليه وآله ) قبل طلوع الشمس ، فهم كذلك إذا طلعت العير عليهم بطلوع الشمس في أولها الجمل الأحمر ! فتعجبوا من ذلك ! وسألوا الذين كانوا مع العيرفقالوا مثل ما قال محمد ( صلى الله عليه وآله ) في إخباره عنهم . فقالوا : هذا أيضاً من سحر محمد » !
وفي تفسير العياشي : 2 / 137 في قول الله عز وجل : وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ، قال : « فأجابهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كل ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلا قليل ، وهو قول الله تبارك وتعالى : وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ . ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : نعوذ بالله أن لا نؤمن بالله وبرسوله . آمنا بالله وبرسوله ( صلى الله عليه وآله ) » .
11 - صفة البُراق الذي حمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في معراجه
روى في الكافي : 8 / 376 : « أتى جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالبراق أصغرمن البغل وأكبر من الحمار ، مضطرب الأذنين ، عينيه في حافره ، وخطاه مد بصره ، إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه وطالت رجلاه ، فإذا هبط طالت يداه وقصرت رجلاه ، أهدب العرف الأيمن ، له جناحان من خلفه » .
في أمالي الصدوق / 534 : « رجلاها أطول من يديها ، خَطْوُها مدُّ البصر ، فلما
--------------------------- 262 ---------------------------
أراد النبي أن يركب امتنعت فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : إنه محمد ، فتواضعت حتى لصقت بالأرض . قال فركب فكلما هبطت ارتفعت يداها وقصرت رجلاها ، وإذا صعدت ارتفعت رجلاها وقصرت يداها ، فمرت به في ظلمة الليل على عيرٍ مُحَمَّلة ، فنفرت العير من دفيف البراق ، فنادى رجل في آخر العير غلاماً له في أول العير : يا فلان ، إن الإبل قد نفرت » !
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 35 ومسند زيد بن علي / 497 ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : « هي دابة من دواب الجنة ، ليست بالطويل ولا بالقصير ، فلو أن الله أذن لها لجالت الدنيا في جرية واحدة ، وهي أحسن الدواب لوناً » .
وفي الخرائج : 1 / 84 : « فوقفه على باب خديجة ودخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فمرح البراق ، فخرج إليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : أسكن فإنما يركبك أحب خلق الله إليه » . وفي روضة الواعظين / 53 : « ومضى إلى بيت المقدس ، ثم إلى السماء الدنيا ، فتلقته الملائكة فسلمت عليه ، وتطايرت بين يديه ، حتى انتهى إلى السماء السابعة » .
وفي مسند زيد بن علي / 449 : « قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : لما بدأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بتعليم الأذان أتى جبريل بالبراق فاستصعب عليه : ثم أتاه بدابة يقال لها براقة فاستصعبت عليه ، فقال لها جبريل أسكني براقة ، فما ركبك أحد أكرم على الله منه فسكنت ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فركبتها حتى انتهت إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى ، فخرج ملك من وراء الحجاب ، فقال الله أكبر الله أكبر ، قال فقلت : يا جبريل ومن هذا الملك ، قال : والذي أكرمك بالنبوءة ما رأيت هذا الملك قبل ساعتي هذه ! فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، فنودي من وراء الحجاب : صدق » .
وفي صحيح البخاري : 4 / 77 : « وأتيتُ بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا ، قيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قيل : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحباً به » .
ويفهم من دعاء إقبال الأعمال : 2 / 51 أن الله تعالى علم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بعض أسمائه الحسنى فسخر له البراق : وباسمك الذي سخرت به البراق لمحمد صلواتك عليه وآله .
--------------------------- 263 ---------------------------
12 - النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيركب البراق يوم القيامة
روى الحاكم : 3 / 153 ، والطوسي والصدوق في أماليهما / 35 / 275 ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « وأبعث على البراق ، خطوها عند أقصى طرفها ، وتبعث فاطمة « عليها السلام » أمامي » .
وفي الخصال / 203 : « عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما في القيامة راكب غيرنا ونحن أربعة ، فقام إليه العباس بن عبد المطلب فقال : من هم يا رسول الله ؟ فقال : أما أنا فعلى البراق ووجهها كوجه الإنسان وخدها كخد الفرس ، وعرفها من لؤلؤ مسموط ، وأذناها زبرجدتان خضراوان ، وعيناها مثل كوكب الزهرة ، تتوقدان مثل النجمين المضيئين ، لها شعاع مثل شعاع الشمس ، ينحدر من نحرها الجمان ، مطوية الحلق طويلة اليدين والرجلين ، لها نفس كنفس الآدميين ، تسمع الكلام وتفهمه ، وهي فوق الحمار ودون البغل .
قال العباس : ومن يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : وأخي صالح على ناقة الله عز وجل التي عقرها قومه ، قال العباس : ومن يا رسول الله ؟ قال : وعمي حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، سيد الشهداء على ناقتي العضباء ، قال العباس : ومن يا رسول الله ؟ قال : وأخي علي على ناقة من نوق الجنة ، زمامها من لؤلؤ رطب عليها محمل من ياقوت أحمر ، قضبانه من الدر الأبيض ، على رأسه تاج من نور عليه حلتان خضراوان ، بيده لواء الحمد وهو ينادي : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله . فيقول الخلائق ما هذا إلا نبي مرسل أو ملك مقرب ، فينادي مناد من بطنان العرش : ليس هذا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا حامل عرش ، هذا علي بن أبي طالب وصي رسول رب العالمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين » ! ونحوه أمالي الطوسي / 258 .
وقال الصدوق في الخصال : هذا حديث غريب لما فيه من ذكر البراق ووصفه ، وذكر حمزة بن عبد المطلب .
وفي أمالي الصدوق / 275 : « لن يركب إلا أربعة : أنا وعلي وفاطمة وصالح نبي الله » .
--------------------------- 264 ---------------------------
أقول : تفاوتت الرواية في عد الركبان فبعضها عد منهم الزهراء « عليها السلام » فيكونون خمسة ، ومنهم عدهم أربعة فيكون المقصود الرجال . ولم تبين الرواية مكان ركوبهم أو زمانه . على أن أسانيدها ليست قوية .
13 - ركب إبراهيم ( ( ع ) ) البراق والمهدي ( ( ع ) ) سيركبه
روى القمي في تفسيره : 1 / 60 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن الله تعالى حمل إبراهيم على البراق إلى مكة . وروي أن المهدي ( عليه السلام ) يأتيه جبرئيل بالبراق فيركبه من المدينة إلى مكة : « فيأخذ بيده ويصافحه ويسلم عليه ويقول له : قم ويجيؤه بفرس يقال له البراق فيركبه ثم يأتي إلى جبل رضوى ، فيأتي محمد ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) فيكتبان له عهداً منشوراً يقرؤه على الناس ، ثم يخرج إلى مكة والناس يجتمعون بها . قال : فيقوم رجل منه فينادي : أيها الناس هذا طلبتكم قد جاءكم يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول الله . قال : فيقوم هو بنفسه فيقول : أيها الناس أنا فلان بن فلان ، أنا ابن نبي الله ، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله . فيقومون إليه ليقتلوه فيقوم ثلاث مائة وينيف على الثلاث مائة فيمنعونه ، منه خمسون من أهل الكوفة ، وسائرهم من أفناء الناس لا يعرف بعضهم بعضاً ، اجتمعوا على غير ميعاد » .
معجم المهدي : 3 / 198 .
14 - قميص المعراج وقميص أحُد من ماريث الأنبيا ( ( عليهم السلام ) )
في الكافي : 1 / 236 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما عرض على عمه العباس قبول ديونه وعداته فاعتذر ، ثم عرضها على علي ( عليه السلام ) فقبلها ، فأمر بإحضارها ، وفيه : « يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية . . . والقميصين : القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي جُرح فيه يوم أحد . . . فقال : إقبضها
في حياتي » .
أقول : يظهر من أحاديث المعراج أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ركب على وسيلة خاصة ، وأنه استعمل الاسم الأعظم ، وأنه لبس قميصاً خاصاً .
--------------------------- 265 ---------------------------
15 - معنى سدرة المنتهى
روى البخاري عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : 4 / 249 : « ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال : هذه سدرة المنتهى » .
فسدرة المنتهى عند هذا الراوي شجرة سدر ، لكن ثمرها نبق كبير ، الواحدة منه بقدر قربة ماء كبيرة ، من قِلال هجر البحرين ، أوهجر المدينة !
وهذا تبسيط عامي لسدرة المنتهى ، لكن أهل البيت « عليهم السلام » رووا أنها شجرة خاصة في عوالم أنوار الله تعالى ، وأن منطقتها آخر ما يمكن أن يصل اليه مخلوق .
ففي الإحتجاج : 1 / 361 : « ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى . يعني : محمداً كان عند سدرة المنتهى ، حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز وجل » .
وفي المحاسن : 2 / 334 : « قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : إنما سميت سدرة المنتهى ، لأن أعمال
أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محل السدرة . وقال : الحفظة الكرام البررة دون السدرة ، يكتبون ما ترفعه إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض وينتهون بها إلى محل السدرة » .
وفي قرب الإسناد / 101 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الورقة منها تظل الدنيا ، وعلى كل ورقة ملك يسبح الله ، يخرج من أفواههم الدر والياقوت ، تبصر اللؤلؤة مقدار خمس مائة عام ، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور ، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى ، فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا : يا محمد مرحباً بك ، فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان ، قد اهتزت فرحاً لمجيئك ، فسمعت الجنان تنادي : واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين » .
وفي دلائل الإمامة / 100 : « عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : لما زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة من علي « عليهما السلام » أتاه أناس من قريش فقالوا : إنك زوجت علياً بمهر قليل ! فقال : ما أنا زوجت علياً ولكن الله زوجه ليلة أسريَ بي إلى السماء ، فصرت عند سدرة المنتهى أوحى الله إلى السدرة :
--------------------------- 266 ---------------------------
أن انثري ما عليك ، فنثرت الدر والجوهر والمرجان ، فابتدر الحور العين فالتقطن ، فهن يتهادينه ويتفاخرن به ، ويقلن : هذا من نثار فاطمة بنت محمد » .
16 - لم يرَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ربه بعىنه بل رأى من آياته الكبرى
عقد في الكافي : 1 / 95 باباً في تنزيه الله تعالى عن الخضوع لقوانين الزمان والمكان ، والرؤية بالعين ، وروى فيه بضعة عشر حديثاً ، منها حديثان عن الكندي الفيلسوف يعقوب بن يوسف ، من رسالتين بعث بهما إلى الإمام العسكري ( عليه السلام ) :
1 - عن يعقوب بن إسحاق قال : « كتبت إلى أبي محمد « الحسن العسكري ( عليه السلام ) » أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه ؟ فوقع ( عليه السلام ) : يا أبا يوسف ، جل سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يرى . وسألته : هل رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ربه ؟ فوقع ( عليه السلام ) : إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب » .
2 - عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : « جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته ؟ قال فقال : ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره ! قال : وكيف رأيته ؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان » .
3 - عن عاصم بن حميد قال : « ذاكرت أبا عبد الله ( عليه السلام ) فيما يروون من الرؤية فقال : الشمس جزء من سبعين جزءً من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءً من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءً من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءً من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب » .
4 - عن صفوان بن يحيى قال : « سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة : إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ، فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية !
--------------------------- 267 ---------------------------
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس : لاتُدْرِكُهُ الأبْصَار ، ولا يحُيطون به علماً ، ولَيْسَ كمثلهِ شَئ ، أليس محمد ؟ قال : بلى . قال : كيف يجيئ رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول : لا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شئ ، ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ؟ ! أما تستحون ! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر !
قال أبو قرة : فإنه يقول : ولقد رآه نزلةً أخرى ، فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ما كذب الفؤاد ما رأى ، يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى فقال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، فآيات الله غير الله ، وقد قال الله : وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْما ، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة ! فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات ؟ فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شئ » .
5 - عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال : « قلت لأبي جعفر « الإمام الجواد ( عليه السلام ) » : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ؟ فقال : يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ، ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون » !
6 - عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لما أسري بي إلى السماء ، بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه قط جبرئيل . فكُشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب .
وفي الكافي : 1 / 443 : « فخلى عنه فقال له : يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة ؟ فقال : إمضه ، فوالله لقد وطأت مكاناً ما وطأه بشر ، وما مشى فيه بشرٌ قبلك » .
7 - وروى الصدوق في التوحيد / 117 ، بسند صحيح عن أبي الصلت الهروي قال : « قلت لعلي بن موسى الرضا « عليهما السلام » : يا ابن رسول الله ، فما معنى الخبر
--------------------------- 268 ---------------------------
الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله ؟ فقال ( عليه السلام ) : يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم ، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته ، وقال الله عز وجل : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك . وقال عز وجل : كل شئ هالك إلا وجهه » .
17 . زعم أتباع السلطة أنه رأى ربه في داره شاباً أمرد !
قال البخاري : 8 / 205 في حديث فرض الصلاة وأن موسى ( عليه السلام ) قال له إرجع وأطلب من الله تخفيف الصلاة عن أمتك : « فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت ، فعلا به إلى الجبار وهو في مكانه فوضع عنه عشراً » !
ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رأى الله على صورة شاب أمرد ، يلبس قبقاباً من ذهب ! وتبناه ابن تيمية في منهاج السنة / 634 وفي نقض التأسيس : 3 / 241 ، فقال : « سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه ؟ قال : نعم . قال : وكيف رآه ؟ قال : في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ ، كأن قدميه في خضرة . . وهذا يدل على أنه رآه . وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة ، وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم ، فيقتضي أنها رؤية عين ، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : رأيت ربي في صورة شاب أمرد ، له وفرة ، جعد ، قطط ، في روضة خضراء » !
وكذلك تبناه في كتابه بيان تلبيس الجهمية / 223 ، ونقل عن الطبراني أنه قال : « روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة ، عن قتادة . . ونقل عن ابن صدقة الحافظ قوله : من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق !
ثم روى أن عبد الله بن عمر سأل ابن عباس فأجابه : نعم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب ، على كرسي من ذهب ، تحمله أربعة من الملائكة » .
ثم قال ابن تيمية : « وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال : باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي ( صلى الله عليه وآله ) خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت ، وذكر أن الله
--------------------------- 269 ---------------------------
نبيه خصَّ محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بالرؤية كما خص إبراهيم ( عليه السلام ) بالخلة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعاً ، وكما خص موسى ( عليه السلام ) بالكلام ، كل واحد بفضيلة ، كما أخبرنا عز وجل في محكم تنزيله بقوله : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ . البقرة 253 .
ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب . . فأما خبر قتادة والحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وخبر عبد الله بن أبي سلمة ، عن ابن عباس ، فبينٌ واضحٌ أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رأى ربه ، وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق ، وأنها تفيد رؤية العين لله » .
وزعم ابن تيمية أن كل ما في التوراة من تجسيم يطابق السنة ! ولذا رد الأحاديث التي تنفي الرؤية بالعين ، وتشبث بأحاديث التجسيم حتى الضعيفة كحديث لقيط العقيلي في العماء ، وحديث أم الطفيل عن معبودهم الشاب الأمرد ، اللابس نعلين من ذهب ، وحديث الأوعال والأسد والثور التي تحمل عرشه ، كما في التوراة ، وحديث طقطقة العرش وصريره وأزيزه ، لأن خشبه جديد كمحمل الجمل ! وأنه يفضل من العرش أربع أصابع ، فيُقعد فيها إلى جانبه من يحبه . . . إلخ .
فالتوراة في عقيدته هي الأساس ، والسنة يجب أن تخضع لها ، والقرآن أيضاً !
وقال ابن باز « 4 / 368 رقم 2331 » : « خلق الله آدم على صورته ، طوله ستون ذراعاً ! وهو حديث صحيح ولا غرابة في متنه . . الضمير في قوله : على صورته ، يعود على الله ، بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة : على صورة الرحمن » !
وقال الألباني أيضاً في فتاويه / 506 : « هل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى ؟ جواب : الهرولة كالمجئ والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها .
وأثبت له ابن باز صفة الهرولة ، قال في فتاويه : 5 / 374 : « ومن تقرب إلي ذراعاً
--------------------------- 270 ---------------------------
تقربت إليه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً . . . أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة » .
ورووا أن الله يجلس على كرسي ويُجلس حوله النبيين « عليهم السلام » : 2 / 58 : « عن أنس : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء . . . قال لأن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الجنة وادياً من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه تبارك وتعالى ، ثم حف كرسيه منابر من ذهب مكللة بالجواهر ، ثم يجئ النبيون حتى يجلسوا عليها » !
ووصف البدوي أمية بن الصلت ربه وزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صدَّقه « الإصابة 549 » :
رجل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليثٌ مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلةٍ * فجراً وتصبح لونها يتوقد
تأبى فما تطلع لهم في وقتها * إلا معذبةً ، وإلا تُجلدُ » .
وفي جزء الشعر للنابلسي / 90 : أخرجه أحمد في المسند : 1 / 256 ، وقد صحح العلامة أحمد شاكر إسناده وابن أبي شيبة في المصنف : 8 / 505 ، برقم : 6064 وأبو يعلى في مسنده : 4 / 365 .
وأصله رواية البخاري : « 3 / 30 و 4 / 178 ومسلم : 1 / 96 » : « أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش » . أما أهل البيت « عليهم السلام » فردوا كل هذه الروايات وكل أنواع التجسيم والتشبيه .
18 - أخذ الله ميثاق الأنبياء ( ( عليهم السلام ) ) للنبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في الكافي : 3 / 302 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء فبلغ البيت المعمور ، وحضرت الصلاة فأذن جبرئيل وأقام ، فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصَفَّ الملائكةُ والنبيون خلف محمد ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفي علل الشرائع : 1 / 8 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تقدم يا جبرئيل ، فقال له : إنا لا نتقدم على الآدميين ، منذ أُمرنا بالسجود لآدم » .
وفي الكافي : 8 / 120 : « عن أبي الربيع قال : حججنا مع أبي جعفر ( عليه السلام ) في السنة التي
--------------------------- 271 ---------------------------
كان حج فيها هشام بن عبد الملك ، وكان معه نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب « من علماء النصارى والسلطة » فنظر نافع إلى أبي جعفر ( عليه السلام ) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع : يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداكَّ عليه الناس ؟ فقال : هذا نبي أهل الكوفة ، هذا محمد بن علي ! فقال : أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لايجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي ! قال : فاذهب إليه وسله لعلك تخجله ، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقال : يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي ! قال : فرفع أبو جعفر ( عليه السلام ) رأسه فقال : سل عما بدا لك . فقال : أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة ؟ قال : أخبرك بقولي أو بقولك ؟ قال : أخبرني بالقولين جميعاً . قال : أما في قولي فخمس مائة سنة ، وأما في قولك فست مائة سنة . قال : فأخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ؟ ! قال : فتلا أبو جعفر ( عليه السلام ) هذه الآية : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً ( صلى الله عليه وآله ) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعاً وأقام شفعاً ، وقال في أذانه : حي على خير العمل ، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم : على ما تشهدون وما كنتم تعبدون ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا . . فولَّى « نافع » من عنده وهو يقول : أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً ، فأتى هشاماً فقال له : ما صنعت ؟ قال : دعني من كلامك هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً ، وهو ابن رسول الله حقاً ، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً » .
أقول : نصت أكثر الأحاديث على صلاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالأنبياء « عليهم السلام » في البيت المعمور
--------------------------- 272 ---------------------------
في السماء الرابعة ، وقد يوهم هذا الحديث بأن الصلاة في بيت المقدس وهو بعيد .
وفي نوادر المعجزات / 72 ، ونحوه في العياشي : 2 / 128 عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « فلما أقام الصلاة قال : يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لا يعلم عددهم إلا الله ، فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصلى بهم جميعاً ركعتين ، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر : يا محمد : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . قال : فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى من خلفه من الأنبياء فقال : على ما تشهدون ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأن لكل نبي منا خلفا وصياً من أهله ، ما خلا هذا فإنه لا عصبة له ، يعنون بذلك عيسى بن مريم ( عليه السلام ) . ونشهد أنك سيد النبيين ، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء ، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا » .
وفي مائة منقبة لابن أحمد القمي / 150 ، عن ابن عباس : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما عرج بي إلى السماء انتهى بي المسير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة ، فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر فقال جبرئيل هذا هو البيت المعمور ، خلقه الله تعالى قبل السماوات والأرضين بخمسين ألف عام ، قم يا محمد فصلِّ إليه . . ثم أمر الله تعالى حتى اجتمع جميع
الرسل والأنبياء » .
وروى الحاكم في المعرفة / 96 ، عن عبد الله بن عمر : « قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا عبد الله أتاني ملك فقال : يا محمد ، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ، على ما بعثوا ؟ قال قلت : على ما بعثوا ؟ قال على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب ! قال الحاكم : ولم نكتبه إلا عن بن مظفر ، وهو عندنا حافظ ثقةٌ مأمون » .
وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « لما أسري بي ليلة المعراج اجتمع عليَّ الأنبياء في السماء فأوحى الله إلي : سلهم يا محمد بماذا بعثتم ؟ قالوا : بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله ، وعلى الإقرار بنبوتك والولاية لعلي بن أبي طالب » . رواه في خصائص الوحي المبين / 170 ، عن الإستيعاب . وفي الطرائف / 101 ، عن أبي نعيم ، وفي ينابيع المودة : 2 / 246 ، عن أبي هريرة . ونهج الحق / 183 ، عن ابن عبد البر وغيره . ومنهاج الكرامة / 130 ، وفي هامشه الصراط المستقيم 1 / 181 ، عن الثعلبي والزمخشري في
--------------------------- 273 ---------------------------
الكشاف : 4 / 94 والكنجي في كفاية الطالب / 136 . وأورده في نفحات الأزهار : 5 / 260 و 16 / 366 ، وردَّ في : 20 / 392 و 396 ، على إنكار ابن تيمية وجود الحديث ، وبحث سنده في مصادر السنة .
روى القمي في تفسيره : 1 / 246 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أول من سبق من الرسل إلى : بَلَى ، محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى ، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء : تقدم يا محمد فقد وطأت موطئاً لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل ! ولولا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه ، فكان من الله عز وجل كما قال الله : قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، أي بل أدنى » .
وفي المحتضر / 266 ، في حديث الجالوت النصراني : « فقال رسول الله : يا جالوت ، ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله تعالى إليَّ أن : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا . . على ما بعثوا ؟ فقلت لهم : على ماذا بعثتم ؟ قالوا : على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريتكما . ثم أوحى إليَّ أن التفت إلى يمين العرش ، فالتفت فإذا علي ، والحسن ، والحسين ، وعلي ، ومحمد ، وجعفر ، وموسى ، وعلي ، ومحمد ، وعلي ، والحسن ، والمهدي ، في ضحضاح من نور يُصلون . فقال الرب تعالى : هؤلاء الحجج أوليائي ، وهذا منهم المنتقم من أعدائي . قال الجالوت فقلت : هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور » .
19 - حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع ملك الموت ( ( ع ) )
في تفسير القمي : 2 / 168 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أسري بي إلى السماء رأيت ملكاً من الملائكة بيده لوح من نور ، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ، مقبلاً عليه كهيئة الحزين ، فقلت من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا ملك الموت مشغول في قبض الأرواح . فقلت : أدنِني منه يا جبرئيل لأكلمه ، فأدناني منه فقلت له : يا ملك الموت ، أكل من مات أو هو ميت فيما بعد أنت تقبض روحه ؟ قال : نعم . قلت : وتحضرهم بنفسك ؟ قال : نعم ، وما الدنيا كلها عندي
--------------------------- 274 ---------------------------
فيما سخرها الله لي ومكنني منها ، إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء ، وما من دار في الدنيا إلا وأدخلها في كل يوم خمس مرات ، وأقول إذا بكى أهل البيت على ميتهم : لا تبكوا عليه ، فإن لي إليكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد ! فقال رسول الله : ( صلى الله عليه وآله ) كفى بالموت طامة يا جبرئيل ! فقال جبرئيل : إنما بعد الموت أطم وأعظم من الموت » .
وفي الكافي : 3 / 136 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على رجل من أصحابه وهو يجود بنفسه فقال : يا ملك الموت إرفق بصاحبي فإنه مؤمن ، فقال : أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق ، واعلم يا محمد أني أقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول : ما هذا الجزع ! فوالله ما تعجلناه قبل أجله ، وما كان لنا في قبضه من ذنب ! فإن تحتسبوا وتصبروا تؤجروا ، وإن تجزعوا تأثموا وتوزروا ، واعلموا أن لنا فيكم عودة ثم عودة ! فالحذر الحذر إنه ليس في شرقها ولا في غربها أهل بيت مدر ولا وبر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ، ولأنا أعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، ولو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتى يأمرني ربي بها ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنما يتصفحهم في مواقيت الصلاة ، فإن كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ونحى عنه ملك الموت إبليس » .
وفي نوادر المعجزات / 66 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي لمَّا عرج بي إلى السماء سلم عليَّ ملك الموت ثم قال لي : يا محمد ما فعل ابن عمك علي ؟ قلت : وكيف سألتني عنه يا عزرائيل ؟ قال : إن الله تعالى أمرني أن أقبض أرواح الخلائق كلهم إلا أنت وابن عمك ، فالله تعالى يقبض أرواحكما بيده » .
20 - آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون
في تفسير القمي : 1 / 95 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « هذه الآية مشافهة الله تعالى لنبيه ليلة أسريَ به إلى السماء ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : انتهيت إلى محل سدرة المنتهى وإذا بورقة
--------------------------- 275 ---------------------------
منها تظل أمة من الأمم ، فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى ، كما حكى الله عز وجل ، فناداني ربي تبارك وتعالى : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ . فقلت أنا مجيباً عني وعن أمتي : وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . فقال الله : لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ . فقلت : رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا . وقال الله : لا أؤاخذك ، فقلت : رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاتُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . البقرة : 285 - 286 .
فقال الله تعالى : قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك . فقال الصادق ( عليه السلام ) : ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، حيث سأل لأمته هذه الخصال » .
وفي المحاسن : 1 / 136 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لقد أسرى بي فأوحى الله إلي من وراء الحجاب ما أوحى ، وشافهني من دونه بما شافهني ، فكان فيما شافهني أن قال : يا محمد ، من أذلَّ لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة ، ومن حاربني حاربته ، قال فقلت : يا رب ومن وليك هذا ؟ فقد علمت أنه من حاربك حاربته ، فقال : ذلك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولورثتكما بالولاية » .
21 - كلم الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المعراج بصوت علي ( ( ع ) )
عقيدتنا أن الله تعالى ليس كمثله شئ ولا تدركه الأبصار ، ولا يخضع لقوانين المكان والزمان فهو خالقهما ، ومعنى قوله : وكَلَّمَ اللهُ موسَى تكليماً : أنه خلق صوتاً في شجرة أو في جبل ، فكان موسى يسمع الصوت من جميع الجهات كما روي .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « فسبحان من توحد في علوه ، فليس لشئ منه امتناع ، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع ، إجابته للداعين سريعة ، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة . كلم موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات ، ولا شفةٍ ولا لهوات ، سبحانه وتعالى عن الصفات ، فمن زعم أن إلهَ الخلق محدود ، فقد جهل الخالق المعبود » . التوحيد للصدوق / 79 وفتح الباري : 13 / 383 .
--------------------------- 276 ---------------------------
ولا بد أن يكون الصوت الذي كلم الله به موسى صوتاً يحبه موسى ، وقد روي أنه صوت أخيه هارون « عليهما السلام » ، وكذلك الأمر في نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) عندما عرج به ، فقد روى الفريقان أن الله تعالى كلمه بصوت علي ( عليه السلام ) .
روى الموفق الخوارزمي في المناقب / 78 ، عن عبد الله بن عمر قال : « سمعت رسول الله وسئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج ؟ فقال : خاطبني بلغة علي بن أبي طالب فألهمني أن قلت يا رب خاطبتني أنت أم علي ؟ فقال يا أحمد أنا شئ ليس كالأشياء ، لا أقاس بالناس ، ولا أوصف بالشبهات ، خلقتك من نوري وخلقت علياً من نورك ، فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد في قلبك أحب إليك من علي بن أبي طالب . خاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك » . ومنهاج الكرامة / 90 .
وفي المحتضر للحسن بن سليمان الحلي / 146 ، عن ابن عباس من حديث المعراج : « فناداني ربي : يا أحمد ! وعزتي وجلالي وجودي ومجدي وارتفاعي في علو مكاني لقد اطلعت على سرك وما استكن في صدرك فلم أجد أحداً أحب إليك من علي في سرك فخاطبتك بلسانه ، لتطمئن إلى الكلام وتهدأ في الخطاب ، ولو خاطبتك بلسان الجبروت لما استطعت أن تسمع » .
وفي الإحتجاج : 1 / 230 عن القاسم بن معاوية قال : « قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : هؤلاء يروون حديثاً في معراجهم أنه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ! فقال : سبحان الله غيروا كل شئ حتى هذا ! قلت : نعم . قال : إن الله عز وجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين ، ولما خلق الله عز وجل الماء كتب في مجراه : لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين . . . فإذا قال أحدكم : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فليقل علي أمير المؤمنين » .
وقال في الصحيح من السيرة : 3 / 15 : « وإذا كان الإسراء قد حصل قبل إسلامه بمدة طويلة ، فلا يبقى مجال لتصديق ما يذكر هنا من أنه قد سمي صديقاً حينما صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قضية الإسراء ، ولا لما يذكرونه من أن ملكاً كان يكلم رسول الله
--------------------------- 277 ---------------------------
حين المعراج بصوت أبي بكر « الدر المنثور : 4 / 155 » . وقد صرح الحفاظ بكذب طائفة من تلك الروايات . والصحيح أنه كلمه بصوت علي ( عليه السلام ) » .
22 - أراه الله تعالى مكانة المؤمن عنده
في الكافي : 2 / 352 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا رب ما حال المؤمن عندك ؟ قال : يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائي . وما ترددت عن شئ أنا فاعله كترددي عند وفاة المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك . وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته » .
23 - تشريع الصلاة في المعراج
اتفقت المصادر على أن تشريع فريضة الصلاة اليومية كان في معراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويبدو أنه في أول معراج له ، ففي تهذيب الأحكام : 2 / 60 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذن جبرئيل ( عليه السلام ) وأقام فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصفَّ الملائكة والنبيون خلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
قال فقلنا له : كيف أَذَّنَ ؟ فقال : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، حي على خير العمل حي على خير العمل . الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله لا إله إلا الله .
والإقامة مثلها إلا أن فيها قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، بين حي على
--------------------------- 278 ---------------------------
خير العمل حي على خير العمل ، وبين الله أكبر الله أكبر ، فأمر بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بلالاً ، فلم يزل يؤذن بها حتى قبض الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفي نوادر المعجزات / 72 والعياشي : 2 / 128 : « فلما أقام الصلاة قال : يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لا يعلم عددهم إلا الله ، فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصلى بهم جميعاً ركعتين ، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر : يا محمد : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . قال : فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى من خلفه من الأنبياء فقال : على مَ تشهدون ؟ قالوا : نشهد أنك سيد النبيين ، ونشهد أن علياً و