سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام - ج 2
--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
علي الكوراني العاملي
المجلد الثاني
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
علي الكوراني العاملي
المجلد الثاني
الطبعة الأولى
1439 - 2018
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
سر شناسه ، كورانى ، على ، 1944 - م . / Kurani Ali
عنوان ونام پديد آور : سيره أمير المؤمنين ( ع ) / على الكوراني العاملي .
مشخصات نشر : قم : دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 - مشخصات ظاهري : ج .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 03 - 1 ج 2
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
يادداشت : عربى .
مندرجات : ج . 3 . في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
موضوع : علي بن أبي طالب ( ع ) ، امام أول ، 23 قبل از هجرت - 40 ق .
موضوع : 600 - 661 ، Ali ibn abi - Talib , Imam I
رده بندى كنگره : 1396 9 س 85 ك / 37 BP
رده بندى ديويى : 297 / 951
شماره كتابشناسى ملى : 4992656
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ربيع الثاني 1439 - 2018 Jan
المطبعة : باقري - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 3000 نسخة .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 03 - 1
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------
الفصل الثاني والثلاثون: أدار علي ( عليهم السلام ) معركة نهاوند وحقق النصر
علي ( عليه السلام ) يواجه كبرياء الأكاسرة في نهاوند
تصاعد غضب الفرس وتحشيدهم لحرب المسلمين ، فقد كانت قواتهم في النمارق بضعة آلاف ، وزادت في معركة الجسر ، وكان بعدد المسلمين تقريباً ، لكن المسلمين أخطأوا فعبروا النهراليهم إلى منطقة ضيقة ، فحصرهم الفرس وقتلوا منهم نحو أربعة آلاف ! ثم أعد المثنى لمعركة البويب قرب الحلة فاقتص ليوم الجسروهزم المسلمون الفرس هزيمة كبيرة ، وأكثروا فيهم القتل ، وقيل قتل منهم عشرات الألوف ! ثم كان أكبر تحشيد للفرس في القادسية ، فقيل بلغ عددهم ستين ألفاً . قال الطبري ( 3 / 22 ) : « فبعث ( رستم ) مقدمته أربعين ألفاً ، وخرج في ستين ألفاً ، وساقته في عشرين ألفاً » .
ثم حشدوا أكثر من ذلك نجدةً ليزدجرد في المدائن ، لكن المسلمين فتحوها قبل تكامل وصول جيوشهم إليها ، فتجمعوا في جلولاء ، وقيل كان عددهم ثمانين ألفاً .
قال ابن الأعثم ( 1 / 210 ) : « واجتمعت الفرس بجلولاء في ثمانين ألف فارس . . وصار المسلمون بجلولاء في أربعة وعشرين ألفاً ويزيدون » .
ورويَ أن المسلمين كانوا اثني عشر ألفاً . ( الطبري : 3 / 134 ) .
أما في معركة تستر فلم تكن قوات الفرس كثيرة ، لكن تحصنهم كان قوياً ، حتى دلَّ المسلمين رجل فارسي على مدخل إلى المدينة ، من النهر المحيط بها .
ثم كان أكبر تحشيد للفرس في نهاوند ، وقد بلغ مئة وخمسين ألفاً ، وكان هدفه استرجاع العراق ، وغزو المدينة لاستئصال الإسلام والمسلمين !
--------------------------- 6 ---------------------------
قال الطبري ( 3 / 209 ) : « فتوافوا إلى نهاوند ، فتوافى إليها من بين خراسان إلى حلوان ومن بين الباب إلى حلوان ، ومن سجستان إلى حلوان ، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج أهل الجبال من بين الباب إلى حلوان ثلاثون ألف مقاتل ، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألف مقاتل ، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألف مقاتل ، واجتمعوا على الفيرزان » .
قال ابن الأعثم ( 2 / 289 ) : « فاجتمع أهل الري وسمنان والدامغان وما والاها بنهاوند في عشرين ألفاً ، وأهل ساوه وهمذان في عشرة آلاف ، وأهل نهاوند خاصة في عشرة آلاف ، وأهل قم وقاشان في عشرين ألفاً ، وأهل أصفهان في عشرين ألفاً ، وأهل فارس وكرمان في أربعين ألفاً .
قال : ثم بعثوا إلى أذربيجان يستمدونهم إلى حرب العرب ، فأقبل إليهم أهل أذربيجان في ثلاثين ألفاً ، فذلك خمسون ألفاً ومائة ألف ، ما بين فارس وراجل ، من المرازبة والأساورة والأبطال المعدودين المذكورين في كل بلد من أرض الفرس .
ثم إنهم جمعوا نيفاً وسبعين فيلاً يريدون التهويل على خيول المسلمين ، ثم أقبل بعضهم على بعض فقالوا : إن ملك العرب الذي جاءهم بهذا الكتاب ، وأقام لهم هذا الدين قد هلك ، يعنون بذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإنه قد ملكهم من بعده رجل يكنى أبا بكر ، فملك ملكاً يسيراً وهلك ، وإنا نرى صاحبهم هذا عمر ، قد طال عمره ودام ملكه وعلا أمره ، قد اجتمعتم من كل بلد وليس فيكم إلارماة الحدق وأحلاس السيوف والدرق ، فتعالوا بنا حتى ننفي مَن بقربنا من جيوش العرب ، ثم نسير إليهم في ديارهم ، فنستأصلهم عن جديد الأرض ! فإنا إن لم نفعل ذلك ساروا إلينا فأخرجونا عن جميع بلادنا وأنزلوا بنا من الذل والصغار ما أنزلوه بأهل القادسية والمدائن وجلولاء وخانقين ، وما أنزلوه بأهل الأهواز وتستر ومناذر ورامهرمز ، وما أنزلوه بأهل الشام ، قبل ذلك .
قال : فتعاقدوا على أمرهم وتعاهدوا وعزموا على جهاد المسلمين ، وبلغ ذلك أهل الكوفة ، فاجتمعوا إلى أميرهم عمار بن ياسر فقالوا : أيها الأمير ، هل بلغك ما كان من
--------------------------- 7 ---------------------------
جموع هؤلاء الأعاجم بأرض نهاوند ؟ قال عمار : قد بلغني ذلك فهاتوا ما عندكم من الرأي ! فقالوا : الرأي في ذلك أن نكتب إلى أمير المؤمنين ونعلمه بذلك ، قبل أن يسيرعدونا إلى ما قبلنا . قال عمار : أفعل ذلك إن شاء الله تعالى .
ذكر كتاب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمار بن ياسر ، سلام عليك ! أما بعد فإن ذا السطوات والنقمات المنتقم من أعدائه ، المنعم على أوليائه ، هو الناصرلأهل طاعته على أهل الإنكار والجحود من أهل عداوته .
ومما حدث يا أمير المؤمنين أن أهل الري وسمنان وساوه وهمذان ونهاوند وأصفهان وقم وقاشان وراوند واسفندهان وفارس وكرمان وضواحي أذربيجان ، قد اجتمعوا بأرض نهاوند في خمسين ومائة ألف من فارس وراجل من الكفار ، وقد كانوا أمروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، هم : ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، وسنفاد بن حشروا ، وخهانيل بن فيروز ، وشروميان بن اسفنديار ، وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا ، وتحالفوا وتكاتبوا ، وتواصوا وتواثقوا على أنهم يخرجوننا من أرضنا ، ويأتونكم من بعدنا .
وهم جمع عتيد ، وبأس شديد ، ودواب فره ، وسلاح شاك ، ويَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، وقد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، وقد عزموا أن يقصدوا المدائن ، ويصيروا منها إلى الكوفة ، وقد والله هالنا ذلك وما أتانا من أمرهم وخبرهم ، وكتبت هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ليكون هو الذي يرشدنا ، وعلى الأمور يدلنا ، والله الموفق الصانع بحوله وقوته ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، فرأي أمير المؤمنين أسعده الله فيما كتبته . والسلام .
قال : فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب وقرأه وفهم ما فيه وقعت عليه الرعدة والنفضة ، حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه !
ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي : أين المهاجرون
--------------------------- 8 ---------------------------
والأنصار ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، وأعينوني أعانكم الله ! قال : فأقبل إليه الناس من كل جانب ، حتى إذا علم أن الناس قد اجتمعوا وتكاملوا في المسجد ، وثب إلى منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاستوى عليه قائماً ، وإنه ليرعد من شدة غضبه على الفرس ، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، وصلى على نبيه محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أيها الناس : هذا يوم غم وحزن ! فاستمعوا ما ورد عليَّ من العراق .
فقالوا : وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن الفرس أمم مختلفة أسماؤها وملوكها وأهواؤها وقد نفخهم الشيطان نفخة فتحزبوا علينا ، وقتلوا من في أرضهم من رجالنا ، وهذا كتاب عمار بن ياسرمن الكوفة ، يخبرني بأنهم قد اجتمعوا بأرض نهاوند في خمسين ومائة ألف ، وقد سربوا عسكرهم إلى حلوان وخانقين وجلولاء ، وليست لهم همة إلا المدائن والكوفة ، ولئن وصلوا إلى ذلك ، فإنها بلية على الإسلام وثلمة لا تسد أبداً ، وهذا يوم له ما بعده من الأيام . فالله الله يا معشر المسلمين ، أشيروا عليَّ رحمكم الله ، فإني قد رأيت رأياً غير أني أحب أن لا أقدم عليه إلا بمشورة منكم ، لأنكم شركائي في المحبوب والمكروه !
قال : وكان أول من وثب على عمر بن الخطاب وتكلم طلحة بن عبيد الله فقال : يا أمير المؤمنين إنك بحمد الله رجل قد حنكته الدهور وأحكمته الأمور وراضته التجارب في جميع المقانب ، فلم ينكشف لك رأي إلا عن رضى ، وأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة فنفذنا ننفذ ، واحملنا نركب ، وادعنا نجب .
قال : ثم وثب الزبير بن العوام فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله تبارك وتعالى قد جعلك عزاً للدين وكهفاً للمسلمين ، فليس منا أحد له مثل فضائلك ، ولا مثل مناقبك ، إلامن كان من قبلك ، فمد الله في عمرك لأمة نبيك محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وبعد ، فأنت بالمشورة أبصرمن كل من في المسجد فاعمل برأيك فرأيك أفضل ومرنا بأمرك فها نحن بين يديك . فقال عمر : أريد غير هذين الرأيين .
قال : فوثب عبد الرحمن بن عوف الزهري ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كل متكلم يتكلم برأيه ، ورأيك أفضل من رأينا ، لما قد فضلك الله عز وجل علينا وأجرى على
--------------------------- 9 ---------------------------
يديك من موعود ربنا ، فاعمل برأيك واعتمد على خالقك وتوكل على رازقك ، وسر إلى أعداء الله بنفسك ونحن معك ، فإن الله عز وجل ناصرك بعزه وسلطانه ، كما عودك من فضله وإحسانه .
فقال عمر : أريد غير هذا الرأي ، فتكلم عثمان بن عفان فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك قد علمت وعلمنا أنا كنا بأجمعنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله منها بنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد اختارك لنا خليفة نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد رضيك الأخيار وخافك الكفار ، ونفر عنك الأشرار ، وأنا أشير عليك أن تسير أنت بنفسك إلى هؤلاء الفجار ، بجميع من معك من المهاجرين والأنصار ، فتحصد شوكتهم وتستأصل جرثومتهم .
فقال عمر : وكيف أسير أنا بنفسي إلى عدوي وليس بالمدينة خيلٌ ولا رَجْلٌ ، فإنما هم متفرقون في جميع الأمصار ؟ فقال عثمان : صدقت يا أمير المؤمنين ، ولكني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيقبلوا عليك من شامهم ، وإلى أهل اليمن فيقبلوا إليك من يمنهم ، ثم تسير بأهل الحرمين مكة والمدينة إلى أهل المصرين البصرة والكوفة ، فتكون في جمع كثير وجيش كبير ، فتلقى عدوك بالحد والحديد والخيل والجنود .
فقال عمر : هذا أيضاً رأي ليس يأخذ بالقلب ، أريد غير هذا الرأي .
قال : فسكت الناس . والتفت عمر إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا أبا الحسن ، لم لا تشير بشئ كما أشار غيرك ؟ قال فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إنك قد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث نبيه محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وليس معه ثان ، ولا له في الأرض من ناصر ، ولا له من عدوه مانع ، ثم لطف تبارك وتعالى بحوله وقوته وطوله ، فجعل له أعواناً أعز بهم دينه ، وشد أزره وشيد بهم أمره ، وقصم بهم كل جبار عنيد وشيطان مريد ، وأرى موازريه وناصريه من الفتوح والظهور على الأعداء ، ما دام به سرورهم ، وقرت به أعينهم . وقد تكفل الله تبارك وتعالى لأهل هذا الدين بالنصر والظفر والإعزاز .
--------------------------- 10 ---------------------------
والذي نصرهم مع نبيهم وهم قليلون ، هو الذي ينصرهم اليوم إذ هم كثيرون . وبعد ، فإنك أفضل أصحابك رأياً وأيمنهم نقيبة ، وقد حملك الله عز وجل أمر رعيتك ، فهو الذي يوفقك للصواب ودين الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، فأبشر بنصر الله عز وجل الذي وعدك ، وكن على ثقة من ربك فإنه لا يخلف الميعاد .
وبعد ، فقد رأيت قوماً أشاروا عليك بمشورة بعد مشورة فلم تقبل ذلك منهم ، ولم يأخذ بقلبك شئ مما أشاروا به عليك ، لأن كل مشير إنما يشير بما يدركه عقله ، وأعلمك يا أمير المؤمنين إن كتبت إلى الشام أن يقبلوا إليك من شامهم ، لم تأمن من أن يأتي هرقل في جمع النصرانية ، فيغير على بلادهم ويهدم مساجدهم ويقتل رجالهم ، ويأخذ أموالهم ، ويسبي نساءهم وذريتهم .
وإن كتبت إلى أهل اليمن أن يقبلوا من يمنهم ، أغارت الحبشة أيضاً على ديارهم ونسائهم وأموالهم وأولادهم . وإن سرت بنفسك مع أهل مكة والمدينة إلى أهل البصرة والكوفة ، ثم قصدت بهم قصد عدوك ، انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأطرافها ، حتى يكون من خلفته وراءك أهم إليك مما تريد أن تقصده ، ولا يكون للمسلمين كانفة تكنفهم ولا كهف يلجؤون إليه ، وليس بعدك مرجع ولا موئل ، إذ كنت أنت الغاية والمفزع والملجأ .
فأقم بالمدينة ولا تبرحها فإنه أهيب لك في عدوك وأرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض : إن ملك العرب قد غزانا بنفسه لقلة أتباعه وأنصاره ، فيكون ذلك أشد لكَلَبهم عليك وعلى المسلمين . فأقم بمكانك الذي أنت فيه ، وابعث من يكفيك هذا الأمر .
ذكر مشورة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ثانية :
فقال عمر : يا أبا الحسن ، فما الحيلة في ذلك ، وقد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين ومائة ألف ، يريدون استئصال المسلمين ؟
فقال له علي بن أبي طالب : الحيلة أن تبعث إليهم رجلاً مجرباً ، قد عرفته بالبأس والشدة ، فإنك أبصر بجندك وأعرف برجالك ، واستعن بالله وتوكل عليه واستنصره
--------------------------- 11 ---------------------------
للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحب وتريد ، وإن يكن الأخرى ، وأعوذ بالله من ذلك ، تكون ردءً للمسلمين وكهفاً يلجؤون إليه ، وفئةً ينحازون إليها .
ذكر مشورة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ثالثة :
قال فقال له عمر : نعم ما قلت يا أبا الحسن ، ولكني أحببت أن يكون أهل البصرة وأهل الكوفة ، هم الذين يتولون حرب هؤلاء الأعاجم ، فإنهم قد ذاقوا حربهم وجربوهم ومارسوهم ، في غير موطن .
فقال له علي : إن أحببت ذلك فاكتب إلى أهل البصرة أن يفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في ديارهم فيكونوا حرساً لهم يدفعون عن حريمهم ، والفرقة الثانية يقيمون في المساجد يعمرونها بالأذان والصلاة ، لكيلا تعطل الصلاة ، ويأخذون الجزية من أهل العهد لكيلا ينتقضوا عليك . والفرقة الثالثة يسيرون إلى إخوانهم من أهل الكوفة . ويصنع أهل الكوفة أيضاً كصنع أهل البصرة ، ثم يجتمعون ويسيرون إلى عدوهم ، فإن الله عز وجل ناصرهم عليهم ومظفرهم بهم ، فثق بالله ولاتيأس من روح الله ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ .
قال : فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه ومشورته أقبل على الناس وقال : ويحكم ! عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ! والله ، لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي ! ثم أقبل عليه عمر بن الخطاب فقال : يا أبا الحسن ، فأشر علي الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون ، أجعله أميراً وأستكفيه من هؤلاء الفرس ، فقال عليٌّ : قد أصبته ، قال عمر : ومن هو ؟ قال : النعمان بن مقرن المزني . فقال عمر وجميع المسلمين : أصبت يا أبا الحسن ! وما لها من سواه . قال : ثم نزل عمرعن المنبر ، ودعا بالسائب بن الأقرع بن عوف الثقفي فقال : يا سائب ! إني أريد أن أوجهك إلى العراق ، فإن نشطت لذلك فتهيأ ، فقال له السائب : ما أنشطني لذلك . . .
ثم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن المزني ، والنعمان يومئذ بموضع من العراق
--------------------------- 12 ---------------------------
يقال له كسكر ، أما بعد يا نعمان فإن كتاب أهل الكوفة ورد علي فقرأته وفهمت ما ذكر لي فيه من أمر الفرس . وبعد فقد وجهت إليك السائب بن الأقرع التميمي وأمرته بأمري وأعوزت إليك أن يأمرك أن تعسكر بالقصرالأبيض حتى تجتمع إليك أهل البصرة وأهل الكوفة ، فإذا اجتمعوا إليك وتكاملوا لديك ، فسر بهم إلى أعداء الله بأرض نهاوند ، فقد وليتك هذا الجيش ، وأنا أعلم إن شاء الله أن الله ناصرك وخاذل عدوك .
قال : ثم كتب عمر أيضاً إلى أبي موسى الأشعري أن يمده من أهل البصرة بالثلث ، وكذلك أهل الكوفة . والتأمت العساكر بالعراق فعرضهم النعمان بن المقرن وعدهم وأحصاهم فإذا هم يزيدون على ثلاثين ألفاً من أهل البصرة وأهل الكوفة ، فدعا النعمان بطليحة بن خويلد الأسدي ، فعقد له عقداً وضم إليه أربعة آلاف فارس من أهل البصرة وأهل الكوفة ، وجعله مقدمة ، ورحل طليحة على مقدمته ، فلم يزل كذلك حتى صار إلى حلوان وبها يومئذ قائد من قواد كسرى يقال له شادوه بن آزاد مرد ، في نيف وعشرة آلاف من الفرس ، فلما أحس بجنود المسلمين أنها قد استشرفت على حلوان خرج هارباً في جميع أصحابه حتى صار إلى قرماسين فنزلها ، ونزل طليحة بن خويلد حلوان في أربعة آلاف فارس .
وأقبل النعمان في جيشه الأعظم حتى نزل بحلوان ، وأقام بها أياماً حتى استراح المسلمون وأراحوا خيولهم . قال : وسار النعمان بن مقرن من حلوان حتى نزل قرماسين ، وبلغ ذلك الفرس ممن كان خارجاً عن أرض نهاوند ، فامتلأت قلوبهم خوفاً ورعباً ، ثم إنهم تفلتوا من جميع المواضع حتى صاروا إلى نهاوند فاحتشدوا بها ، ثم إنهم اجتمعوا وتحالفوا وتعاقدوا على أنهم لا يفرون أبداً دون أن يبيدوا العرب عن آخرهم !
قال : وسار المسلمون يريدون نهاوند ، قال : وبلغ ذلك أهل نهاوند فأرسلوا الماء في أرضهم لكي يمنعوا بتلك المياه المسلمين ، قال فلم يغن ذلك من قضاء الله عز وجل فيهم شيئاً ، قال : وسار المسلمون حتى نزلوا في الموضع الذي يقال له قبور الشهداء ، فنزلوا هنالك وضربوا عسكرهم ، وبلغ ذلك الفرس فألقوا حسك الحديد حول نهاوند ، فحصنوها بتلك الحسك .
--------------------------- 13 ---------------------------
قال : ودعا النعمان برجل من أشد أصحابه يقال له محمود بن زكار الخثعمي ، فقال له : ويحك يا محمود ! أحب منك أن تنطلق نحو حصن هؤلاء القوم فتنظر إليه وتأتيني بخبره ، فقد بلغني أنه حصن حصين وأنه مشرف على قلعة لهم في الهواء ، فقال محمود بن زكار : أيها الأمير ، قد بلغني ذلك وهذا نهار ، فإذا كان الليل انطلقت فأتيتك بخبر القلعة إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله .
قال : فلما كان الليل واختلط الظلام عمد محمود بن زكار هذا إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، ثم صب عليه درعه وتقلد بسيفه واعتم بعمامته ، واستوى على فرسه وتناول رمحه ومضى ، فلم يزل يسير حتى إذا أشرف على قلعة نهاوند وقد جعل يسمع أصوات الحرس على سورها من كل ناحية ونيرانهم تأجج ، قال : وإذا بفرسه قد قام وليس يتقدم ولا يتأخر ، فحركه فلم يتحرك فإذا قد علق يده واتقى منها ، قال : فنزل محمود بن زكار عن فرسه ثم ضرب بيده إلى الفرس فقلب حافره فإذا بحسكة حديد قد دخلت في حافره ، فنزعها وركب فرسه ، ثم رجع إلى النعمان بن مقرن فخبره » .
في نهج البلاغة ( 2 / 29 ) مشورة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعمر ، قال : « وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه : إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، وهو دين الله الذي أظهره ، وجنده الذي أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ ، وطلع حيث طلع . ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده وناصر جنده . ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز ، يجمعه ويضمه ، فإن انقطع النظام تفرق وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً .
والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع ، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب ، وأصلِهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك ! إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب ، فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون
--------------------------- 14 ---------------------------
ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك .
فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره . وأما ما ذكرت من عددهم ، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة » .
قال المفيد الإرشاد ( 2 / 208 ) : « فانظروا أيدكم الله إلى هذا الموقف الذي ينبئ بفضل الرأي ، إذ تنازعه أولو الألباب والعلم ، وتأملوا التوفيق الذي قرن الله به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الأحوال كلها ، وفزع القوم إليه في المعضل من الأمور ، وأضيفوا ذلك إلى ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين ، الذي أعجز متقدمي القوم ، حتى اضطروا في علمه إليه ، تجدوه من باب المعجز الذي قدمناه » .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 209 ) : « وكتب إليه أيضاً عبد الله ( ابن مسعود ) وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل ، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ، ازدادوا جرأة وقوة . ثم أورد الطبري مشورة عمر للصحابة وكلام طلحة وعثمان . ثم كلام علي ( عليه السلام ) بنحو ما تقدم .
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 13 / 286 ) : ( ولقد شهدت عمر أشكل عليه شئ فقال : هاهنا علي ؟ وفي كتاب النوادر للحميدي ، والطبقات لمحمد بن سعد ، من رواية سعيد بن المسيب قال : كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن ، يعني
علي بن أبي طالب ) .
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل ( 1 / 176 ) : ( وكان كبراء الصحابة يرجعون إليه في رأيه وعلمه ، حتى كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن ) .
النعمان بن مقرن الذي اختاره علي ( عليه السلام ) قائداً للمعركة
1 . النعمان بن مقرن من عائلة مؤمنة هو وإخوته الستة : « معقل ، وعقيل ، وسويد ، وسنان ، وعبد الرحمن ، وسابع لم يسم لنا . بنو مقرن المزنيون ، هاجروا وصحبوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يشاركهم فيما ذكره ابن عبد البر وجماعة في هذه المكرمة غيرهم » .
--------------------------- 15 ---------------------------
( مقدمة ابن الصلاح / 184 ) . وروى البيضاوي في تفسيره ( 3 / 165 ) أنه نزل فيهم قوله تعالى : وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَايُنْفِقُونَ » . « فسألوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون ، وهم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن » . ( القواعد الفقهية للبجنوردي : 4 / 9 ) .
وقال عبد الله بن مسعود : « إن للإيمان بيوتاً ، وللنفاق بيوتاً ، وإن بيت بني مقرن من بيوت الإيمان » . ( الإستيعاب : 4 / 1507 ) .
2 . وشارك النعمان وإخوته في حفر الخندق . قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان ، وحذيفة ، والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً ، فحفرنا حتى إذا كنا . . » . ( البحار : 17 / 170 ) .
وكان حارس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غزوة الحديبية : « رأيت النعمان بن مقرن المزني قائماً على رأسه ، وقد رفع أغصان الشجرة عن رأسه يبايعونه » .
وكان وإخوته مع مزينة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فتح مكة . ( مجمع الزوائد : 6 / 146 ، و : 8 / 304 ) .
3 . وكان وإخوته مع علي ( عليه السلام ) في رد هجوم طليحة الأسدي على المدينة ، كما تقدم .
4 . شارك في معارك فتح العراق ، وكان النعمان في وفد المسلمين إلى يزجرد ، ففي الطبري : 3 / 17 : « قال الملك : سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا ، أمن أجل أنا أجممناكم وتشاغلنا عنكم ، اجترأتم علينا ؟ فقال لهم النعمان بن مقرن : إن شئتم أجبت عنكم ، ومن شاء آثرته . فقالوا : بل تكلم ، وقالوا للملك : كلام هذا الرجل كلامنا . فتكلم النعمان فقال : إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا ، به ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص ، فمكث بذلك ما شاء الله أن
--------------------------- 16 ---------------------------
يمكث ، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب وبدأ بهم ، وفعل فدخلوا معه جميعاً ، على وجهين مكره عليه فاغتبط ، وطائع أتاه فازداد ، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق .
ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا ، وهو دين حسَّن الحسن وقبَّح القبيح كله ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه : الجزاء . فإن أبيتم ، فالمناجزة . فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله ، وأقمناكم عليه أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم ، وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم ، وإلا قاتلناكم !
قال فتكلم يزدجرد فقال : إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا تغزوكم فارس ولاتطمعون أن تقوموا لهم . فإن كان عدو لحق فلا يغرنكم منا ، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم ، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم . فأسكت القوم ، فقال المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدي : أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ، ويفخم الأشراف الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك ، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه ، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك . فجاوبني لأكون الذي أبلغك ويشهدون على ذلك . . . فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف أو تسلم ، فتنجي نفسك !
فقال : أتستقبلني بمثل هذا ! فقال : ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به . فقال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم ! لا شئ لكم عندي ! فقال : إئتوني بوقر من تراب ، فقال : إحملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه ، حتى يخرج من باب المدائن ! إرجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم ، حتى يدفنكم ويدفنه في خندق القادسية ، وينكل به وبكم من بعد ، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم
--------------------------- 17 ---------------------------
في أنفسكم ، بأشد مما نالكم من سابور !
ثم قال : من أشرفكم ؟ فسكت القوم ، فقال عاصم بن عمرو وَافْتَأَتَ ( أي كذب ) ليأخذ التراب : أنا أشرفهم ، أنا سيد هؤلاء فحمِّلنيه . فقال : أكذاك ؟ فقالوا : نعم فحمله على عنقه ، فخرج به من الإيوان والدار ، حتى أتى راحلته فحمله عليها ، ثم انجذب في السير ، فأتوا به سعداً وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه فقالوا : بشروا الأمير بالظفرظفرنا إن شاء الله » .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 143 : « وبلغ رستم الخبر فغلظ ذلك عليه وقال : ما لابن الحجامة ولتدبير الملك ؟ ويقال : إن أم يزد جرد كانت حَجَّامة . ثم وجه رسلاً في آثارهم ، ففاتوا الرسل » .
ومعناه أن رستم خطَّأ يزدجرد في جوابه لوفد المسلمين ، وقال مع أنه ابن كسرى العظيم ، لكن أدركه عرق من أمه الحجَّامة فتصرف تصرف الصغار !
وأراد رستم تدارك الأمر مع الوفد ، والاعتذار منهم ، لكنهم فاتوه ! وقد نسي رستم أن كسرى نفسه تصرف تصرف الصغار ومزق رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهل كانت أم كسرى حجَّامة ؟ ! بل هو الغرور والتكبر الكسروي ظهر فيه وفي ابنه .
معركة نهاوند وبطولة النعمان فيها
سُميت معركة نهاوند : فتح الفتوح ، لأنها أنهت قوة الفرس ، فلم يجتمع لهم بعدها جيش ، ومهدت لفتح بقية إيران ، وصار الشاهنشاه يزدجرد مشرداً من بلد إلى بلد ، حتى لجأ إلى مطحنة ، فقتله الطحان بأمر حاكم مرو .
قال الطبري في تاريخه ( 3 / 213 ) : « وخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم ، حتى قدموا على النعمان بالطزر ، وجعلوا بمرج القلعة خيلاً عليها النسير . وقد كتب عمر إلى سلمى بن القين وحرملة بن مريطة وزرّ بن كليب والمقترب الأسود بن ربيعة ، وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز ، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم ، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم ، وأقيموا على حدود
--------------------------- 18 ---------------------------
ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري . وبعث مجاشع بن مسعود السلمي إلى الأهواز وقال له : أنصل ( أخرج كالنصل ) منها على ماه ، فخرج حتى إذا كان بغضي شجر ، أمره النعمان أن يقيم مكانه ، فأقام بين غضى شجر ومرج القلعة .
ونَصَل سلمى وحرملة وزرّ والمقترب ، فكانوا في تخوم أصبهان وفارس فقطعوا بذلك عن أهل نهاوند أمداد فارس .
ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب ، إن معك حد العرب ورجالهم في الجاهلية ، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب ، واستعن بهم واشرب برأيهم . .
وسار النعمان على تعبيته وعلى مقدمته نعيم بن مقرن ، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن ، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو ، وعلى الساقة مجاشع ، وقد توافي إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة وعبد الله ، فانتهوا إلى الأسبيذهان ، والقوم وقوف دون وادي خرد على تعبيتهم ، وأميرهم الفيرزان وعلى مجنبتيه الزردق ، وبهمن جاذويه الذي جُعل مكان ذي الحاجب ، وقد توافي إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام ، من أهل الثغور وأمرائها ، وأعلام من أعلامهم ، ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس . وعلى خيولهم أنوشق . فلما رآهم النعمان كبر وكبر الناس معه ، فتزلزت الأعاجم ، فأمر النعمان وهو واقف بحطِّ الأثقال وبضرب الفسطاط ، فضرب وهو واقف ، فابتدره أشراف أهل الكوفة فبنوا له فسطاطاً سابقوا أكفاءهم فسبقوهم ، وهم أربع عشرة ، منهم حذيفة بن اليمان ، وعقبة بن عمرو ، والمغيرة بن شعبة ، وبشير بن الخصاصية ، وحنظلة الكاتب بن الربيع ، وابن الهوبر ، وربعي بن عامر ، وعامر بن مطر ، وجرير بن عبد الله الحميري ، والأقرع بن عبد الله الحميري ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والأشعث بن قيس الكندي ، وسعيد بن قيس الهمداني ووائل ابن حجر ، فلم ير بَنِّاء فسطاط بالعراق كهؤلاء .
وأنشب النعمان بعد ما حط الأثقال القتال ، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من أمارة عمر في سنة تسعة عشر ،
--------------------------- 19 ---------------------------
وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون ، فأقاموا عليهم
ما شاء الله ، والأعاجم بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج !
فاشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول أمرهم ، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع ، تجمع أهل الرأي من المسلمين فتكلموا وقالوا : نراهم علينا بالخيار ، وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه فوافقوه وهو يُرَوِّي ( يتروى ) في الذي روَّوا فيه فقال : على رسلكم لا تبرحوا ، وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب فتوافوا إليه ، فتكلم النعمان فقال : قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن ، وإنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا ، ولا يقدر المسلمون على إنقاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم ، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه ، وعليه من الخيار عليهم في الخروج ، فما الرأي الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل ؟ فتكلم عمرو بن ثُبَى ، وكان أكبر الناس يومئذ سناً ، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان فقال : التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم ، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم ، وقاتل من أتاك منهم . فردوا عليه جميعاً رأيه وقالوا : إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا .
وتكلم عمرو بن معدي كرب فقال : ناهدهم وكاثرهم ولاتخفهم ، فردوا عليه جميعاً رأيه وقالوا : إنما تناطح بنا الجدران ، والجدران لهم أعوان علينا !
وتكلم طليحة فقال : قد قالا ولم يصيبا ما أرادا . وأما أنا فأرى أن نبعث خيلاً مؤدية فيحدقوا بهم ثم يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم ، فإذا استحمشوا ( أثيروا وخرجوا ) واختلطوا بهم وأرادوا الخروج ، أرزوا ( هربوا ) إلينا استطراداً ، فإنا لم نستطرد لهم ( لم نهرب أمامهم ) في طول ما قاتلناهم ، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها ، فخرجوا فجادُّونا وجاددناهم ( صرنا وإياهم على جديد الأرض ) حتى يقضى الله فيهم وفينا ما أحب .
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو وكان على المجردة ، ففعل وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم فأنقضهم ، فلما خرجوا نكص ثم نكص ثم نكص ، واغتنمها
--------------------------- 20 ---------------------------
الأعاجم ، ففعلوا كما ظن طليحة ( اتبعوا الفارين ) وقالوا : هي هي ! فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب ، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس ، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع ، والنعمان بن مقرن والمسلمون على تعبيتهم في يوم جمعة ، في صدر النهار وقد عهد النعمان إلى الناس عهده ، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولايقاتلوهم حتى يأذن لهم ، ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي ، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات ، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض ، ثم قالوا للنعمان : ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما لقيَ الناس ، فما تنتظر بهم إئذن للناس في قتالهم . فقال لهم النعمان : رويداً رويداً . قالوا له ذلك مراراً فأجابهم بمثل ذلك مراراً : رويداً رويداً . فقال المغيرة : لو أن هذا الأمر إليَّ علمت ما أصنع ! فقال : رويداً ترى أمرك ، وقد كنت تلي الأمر فتحسن فلا يخذلنا الله ولا إياك ، ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث . وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات كانت أحب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في القتال أن يلقى فيها العدو ، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح !
فلما كان قريباً من تلك الساعة تحشحش النعمان وسار في الناس على برذون أحوى قريب من الأرض ، فجعل يقف على كل راية ويحمد الله ويثنى عليه ويقول : قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور ، فكفى كل رجل ما يليه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه ، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه وذلك من الملامة ، وقد يقاتل الكَلِبُ عن صاحبه فكل رجل منكم مسلط على ما يليه .
فإذا قضيت أمري فاستعدوا فإني مكبرٌ ثلاثاً ، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معاً .
اللهم أعز دينك ، وانصر عبادك ، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك . فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف وقضى إليهم أمره رجع إلى موقفه ، فكبر الأولى والثانية والثالثة ، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة
--------------------------- 21 ---------------------------
ينحى بعضهم بعضاً عن سننهم ، وحمل النعمان وحمل الناس ، وراية النعمان تنقضُّ نحوهم انقضاض العقاب ، والنعمان مُعَلَّمٌ ببياض القباء والقلنسوة ، فاقتتلوا بالسيوف قتالاً شديداً ، لم يسمع السامعون بوقعةِ يومٍ قط كانت أشد منها ، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ، ما طبق أرض المعركة دماً يزلق الناس والدواب فيه ، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين في الزلق في الدماء ، فزلق فرس النعمان في الدماء فصرعه ، وأصيب النعمان حين زلق به فرسه وصرع ، وتناول الراية نعيم بن مقرن قبل أن تقع ، وسجى النعمان بثوب وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه .
وكان اللواء مع حذيفة فجعل حذيفة نعيم بن مقرن مكانه ، وأتى المكان الذي كان فيه النعمان ، فأقام اللواء وقال له المغيرة : أكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم لكيلا يهن الناس ، واقتتلوا حتى إذا أظلهم الليل فانكشف المشركون وذهبوا ، والمسلمون ملظون ( متابعون لهم ) بهم ملتبسون ، فعمي عليهم قصدهم فتركوه ، وأخذوا نحو اللهب ( الوادي ) الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان فوقعوا فيه ، وجعلوا لا يهوي منهم أحد إلا قال : وايه خرد ، فسمى بذلك وايه خرد إلى اليوم . فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة من أعدادهم ، ولم يفلت إلا الشريد !
ونجا الفيرزان بين الصرعى في المعركة ، فهرب نحو همذان في ذلك الشريد فاتبعه نعيم بن مقرن وقَدَّمَ القعقاع قدامه ، فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان ، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلاً ، فحبسه الدواب على أجله فقتله على الثنية بعدما امتنع ، وقال المسلمون : إن لله جنوداً من عسل ، واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال ، فأقبل بها وسميت الثنية بذلك ثنية العسل . وإن الفيرزان لما غشيه القعقاع نزل فتوقل في الجبل ، إذ لم يجد مساغاً ، وتوقل القعقاع في أثره حتى أخذه . ومضى الفُلال حتى انتهوا إلى مدينة همذان والخيل في آثارهم ، فدخلوها فنزل المسلمون عليهم وحووا ما حولها ، فلما رأى ذلك
--------------------------- 22 ---------------------------
خسروشنوم استأمنهم وقبل منهم ، على أن يضمن لهم همذان ودستبى ، وأن لا يؤتى المسلمون منهم ، فأجابوهم إلى ذلك وآمنوهم ، وأمن الناس . وأقبل كل من كان هرب .
ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند ، واحتووا ما فيها وما حولها ، وجمعوا الأسلاب والرثاث إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع . فبينا هم كذلك على حالهم وفي عسكرهم ، يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان ، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على أمان ، فأبلغ حذيفة فقال : أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم ؟ قال : نعم . قال : إن النخيرجان وضع عندي ذخيرة لكسرى ، فأنا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت ، فأعطاه ذلك فأخرج له ذخيرة كسرى جوهراً كان أعده لنوائب الزمان ، فنظروا في ذلك فأجمع رأى المسلمين على رفعه إلى عمر ، فجعلوه له فأخرجوه حتى فرغوا فبعثوا به مع ما يرفع من الأخماس ، وقسم حذيفة بن اليمان بين الناس غنائمهم ، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين . وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند ، ورفع ما بقي من الأخماس إلى السائب بن الأقرع فقبض السائب الأخماس ، فخرج بها إلى عمر ، وبذخيرة كسرى » .
شهادة النعمان بن مقرن رضي الله عنه
في الثقات لابن حبان : 2 / 227 : « ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً ، حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى والصرعى في الفريقين جميعاً ، ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون ولهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ، ويبكون حول مصاحفهم .
وبات المشركون في معازفهم وخمورهم . ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون وقاتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى ، وفشت الجرحى في الفريقين جميعاً . ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم ، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم .
ثم غدا النعمان بن مقرن يوم الجمعة ، وكان رجلاً قصيراً أبيض على برذون أبيض ،
--------------------------- 23 ---------------------------
قد أعلم بالبياض ، فجعل يأتي راية راية يحرضهم على القتال ، ويقول : الله الله
في الإسلام أن تخذلوه ، حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء ، هز النعمان الراية هزةً ، فانتزعوا المخالي عن الخيول وقرطوها الأعنة ، وأخذوا أسيافهم بأيمانهم والأترسة بشمائلهم ، وصلى كل رجل منهم ركعتين يبادر بهما ، ثم هز النعمان الراية ثانياً فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه ، ولزمت الرجال منهم نحور الخيل ، وجعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان تنحَّ عنى لاأطؤك بفرسي ، إني أرى وجه مقاتلي ، إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله عليَّ ! ثم هز الثالثة فكبر فجعل الناس يكبرون الأول فالأول ، الأدنى فالأدنى وقذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب ، فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه ، ثم ولوا مدبرين ، وحمل النعمان وحمل الناس ، فكان النعمان أول قتيل قتل من المسلمين جاءه سهم فقتله ، فجاء أخوه معقل بن مقرن فغطى عليه برداً له ، ثم أخذ الراية وإنها لتنضح دماً من دماء من قتله بها النعمان قبل أن يقتل ، فهزم الله المشركين وفتح على المسلمين وبايع الناس لحذيفة بن اليمان »
قيادة حذيفة رضي الله عنه لمعركة نهاوند
في صحيح ابن حبان ( 11 / 68 ) : « فلما فرغنا واجتمع الناس قالوا : أين الأمير فقال معقل : هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح ، وختم له بالشهادة ، فبايع الناس حذيفة » .
وفي الأخبار الطوال للدينوري / 134 : « كان النعمان أول قتيل ، فحمله أخوه سويد بن مقرن إلى فسطاطه ، فخلع ثيابه فلبسها وتقلد سيفه وركب فرسه ، فلم يشك أكثر الناس أنه النعمان ، وثبتوا يقاتلون عدوهم ثم أنزل الله نصره .
وأقبل رجل من أشراف تلك البلاد إلى السائب بن الأقرع ، وكان على المغانم ، فقال له : أتصالحني على ضياعي وتؤمنني على أموالي ، حتى أدلك على كنز لا يدرى ما قدره ، فيكون خالصاً لأميركم الأعظم لأنه شئ لم يؤخذ في الغنيمة فقال له السائب : إن كنت صادقاً فأنت آمن على أولادك وضياعك وأهلك
--------------------------- 24 ---------------------------
وولدك ، فانطلق به حتى استخرجه في سفطين : أحدهما التاج والآخر الحلي . فلما قسم السائب الغنائم بين من حضرالقتال وفرغ ، حمل السفطين في خرجين على ناقته ، وقدم بهما على عمر بن الخطاب فكان من أمرهما الخبر المشهور ، اشتراهما عمرو بن الحارث بعطاء المقاتلة والذرية جميعاً ، ثم حملهما إلى الحيرة فباع بفضل كثير ، واعتقد بذلك أموالاً بالعراق » . أي اشترى عقارات .
أكذوبة : يا سارية الجبل
تعج مصادر السلطة بأكذوبة تقول إن عمر بن الخطاب كان يخطب يوم الجمعة فإذا به ينادي : يا سارية الجبل . فتعجب الناس وقالوا : ما به هل أصيب بالجنون ؟ فقال : إنه رأى القائد سارية بن زنيم في نهاوند يقاتل الفرس ، وخلفهم جبل يأتي منه العدوفناداه يا سارية أقصد الجبل ، فقصده ، فنصرهم الله على الفرس !
وما كان سارية في قادة نهاوند ، ولا كان خلفهم جبل ، ولا كانت معركة يوم جمعة !
قال ابن تيمية في تفسيره ( 2 / 140 ) : ( وعمر رضي الله عنه لما نادى : يا سارية الجبل قال إن لله جنوداً يبلغون صوتي ، وجنود الله هم من الملائكة ومن صالحي الجن وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة ) .
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 139 : « أخرج البيهقي وأبو نعيم ، كلاهما في دلائل النبوة ، واللالكائي في شرح السنة ، والدير عاقولي في فوائده ، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء ، والخطيب في رواة مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : وجه عمر جيشاً ورأَّس عليهم رجلاً يدعى سارية . . . » .
أقول : فات الذين وضعوا الحديث أن سارية إن كان في معركة نهاوند فلم يكن قائداً ، وأنه لم يكن في المعركة جبل ، بل كان الفرس في خنادقهم ، وقاتلهم المسلمون يوم الأربعاء والخميس ، وانجحر الفرس في خنادقهم يوم الجمعة !
قال الطبري ( 3 / 215 ) : « وأنشب النعمان بعد ما حط الأثقال القتال فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم في ذاك سجال ، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله ) .
--------------------------- 25 ---------------------------
وقال ابن خلدون ( 2 ق 2 / 116 ) : « ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياماً ، وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق » .
فقد كان الفرس في خنادقهم يوم الجمعة ، ولم يكن هناك جبل ، ولا كان سارية فيها !
وقالت روايتنا : وضعوا هذه المعجزة لعمر ليضاهوا بها معجزة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما وصف وهو على المنبرمعركة مؤتة وشهادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .
قال محمد بن جرير الطبري ( الشيعي ) في المسترشد / 551 : « وإنما وضعوا هذا الحديث بإزاء حديث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين رُفع له بمؤتة حتى نظر إلى معترك جعفر بن أبي طالب ، ثم نعى جعفر إلى الناس وأخبرهم أنه أصيب ) .
وقال الكراجكي في التعجب من أغلاط العامة / 148 : ( ومن عجيب كذبهم : روايتهم أن عمر بن الخطاب نادى سارية بن رستم فقال : يا سارية الجبل ! ولهم من هذه الأخبار المفتعلة التي يعارضون بها معجزات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لا يحصى كثرة ، ولقد سمعت بعض رواتهم يقول : إن عثمان بن عفان سبح الحصى في كفيه جميعاً ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سبح الحصى في كفه !
هذا ، وقد ترجموا لسارية بن زنيم فقالوا : لم يكن صحابياً ، بل كان لصاً في الجاهلية !
قال في الإصابة : 3 / 5 : « كان خليعاً في الجاهلية ، أي لصاً كثير الغارة ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وأمَّره عمر على جيش وسيره إلى فارس سنة ثلاث وعشرين » . أي بعد معركة نهاوند ، التي كانت سنة 21 .
- *
--------------------------- 26 ---------------------------
أهم أبطال معركة نهاوند وشهدائها
القائد حذيفة بن اليمان أمين سرّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
1 . عُرِفَ حذيفة رضي الله عنه بأنه صاحب سِرِّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقج علَّمه بعض المغيبات وأسماء المنافقين ، خاصة الذين حاولوا اغتياله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة العقبة في رجوعه من تبوك . وقد سئل علي ( عليه السلام ) عن حذيفة ( الإحتجاج : 1 / 388 ) فقال : « ذاك امرؤٌ عُلِّم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالماً » .
وفي أمالي الطوسي / 222 ، قال حذيفة : « إن الناس كانوا يسألون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن الخير وكنت أساله عن الشر . . فقلت : يا رسول الله ، أيكون بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم . . » .
وفي صحيح البخاري ( 4 / 178 و : 8 / 93 ) : « قال : نعم . قلت : وهل بعد هذا الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دُخْن . قلت : وما دُخْنُهُ ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر . قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ! قلت : يا رسول الله صفهم لنا . فقال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا » !
2 . وفي شذرات الذهب ( 1 / 44 ) : « كان عمر لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة ، يخشى أن يكون من المنافقين » .
وذكر ابن كثير في السيرة النبوية ( 4 / 35 ) أن عمر سأله عن نفسه هل هو من المنافقين ! « قال لحذيفة : أقسمت عليك بالله أأنا منهم ؟ قال : لا . ولا أبري بعدك أحداً . يعني حتى لا يكون مفشياً سر النبي » .
قال حذيفة : ( المنافقون الذين فيكم اليوم شرٌ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال شقيق قلت : يا أبا عبد الله وكيف ذاك ؟ قال : إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم ، وإن هؤلاء أعلنوه ) . ( مصنف ابن أبي شيبة : 15 / 109 )
3 . واشتهرحذيفة بتشيعه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو أحد الأركان الأربعة للتشيع الذين ثبتوا مع علي ( عليه السلام ) واستعدوا للموت في مواجهة مؤامرة السقيفة .
--------------------------- 27 ---------------------------
قال العلامة في الخلاصة / 131 : « حذيفة بن اليمان العبسي ( رحمه الله ) عداده في الأنصار ، أحد الأركان الأربعة ، من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .
وروى في الكافي ( 8 / 32 ) عن حذيفة أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب بعد السقيفة خطبة بليغة جاء فيها : « أيها الأمة التي خُدعت فانخدعت ، وعرفت خديعة من خدعها ، فأصرت على ما عرفت ! واتبعت أهواءها ، وضربت في عشواء غوايتها وقد استبان لها الحق فصدت عنه ، والطريق الواضح فتنكبته . . .
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أمرتم ، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ، ووصي نبيكم وخيرة ربكم ، ولسان نوركم ، والعالم بما يصلحكم ، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وُعدتم ، وما نزل بالأمم قبلكم ، وسيسألكم الله عز وجل عن أئمتكم ، معهم تحشرون وإلى الله عز وجل غداً تصيرون .
قال : ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة ، فقال : والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعدد هذه الشياه لأزلت أبن آكلة الذبان عن ملكه . قال : فلما أمسى بايعه ثلاث مائة وستون رجلاً على الموت ، فقال لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحَلِّقِين ، وحَلَقَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وجاء سلمان في آخرالقوم . فرفع يده ( عليه السلام ) إلى السماء فقال : اللهم إن القوم استضعفوني ، كما استضعفت بنو إسرائيل هارون ، اللهم فإنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى عليك شئ في الأرض ولا في السماء ، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين » .
وأحاديث تشيع حذيفة كثيرة في مصادر الطرفين ! قال الباحث حسن بن فرحان المالكي في كتابه : نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي / 184 : « من المعلوم أن أعلم الناس بالفتنة حذيفة بن اليمان ، وقد أوصى باتباع علي في الفتنة ، ولم يأمر بالاعتزال فكان يقول : عليكم بالطائفة التي تدعو إلى أمر علي بن أبي طالب فإنها على الحق . رواه البزار وصححه الحافظ ابن حجر . وحذيفة أعلم بالفتن من
--------------------------- 28 ---------------------------
المعتزلين ، بل هو أعلم الصحابة مطلقاً بأخبار الفتن وما يجب فيها » .
وتقدم في غزوة الخندق قول حذيفة لربيعة الرأي ( مناقب ابن سليمان : 1 / 222 ) :
« يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد في كفة الميزان ، من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل علي يوماً واحداً في الكفة الأخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم ! فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة : وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان « أحمق » ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد ، يوم عمرو بن عبد ود ينادي للمبارزة ، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً ،
فقتله الله على يديه ) !
4 . وكانت فرحة حذيفة غامرة ببيعة علي ( عليه السلام ) ، فقد كان حاكم المدائن وكان مريضاً ، فخطب خطبة صريحة ، روى قسماً منها المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 383 ) قال : « أخرجوني وادعوا الصلاةَ جامعةً فوضع على المنبر . . . فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وعلى آله ، ثم قال : أيها الناس ، إن الناس قد بايعوا علياً فعليكم بتقوى الله وانصروا علياً ووازروه ، فوالله إنه لعلى الحق آخراً وأولًا ، وإنه لخير من مضى بعد نبيكم ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم أطبق يمينه على يساره ثم قال : اللهم اشهد أني قد بايعت علياً . وقال : الحمد لله الذي أبقاني إلى هذا اليوم . وقال لابنيه صفوان وسعد : إحملاني وكونا معه ، فستكون له حروب كثيرة فيهلك فيها خلق من الناس ، فاجتهدا أن تستشهدا معه ، فإنه والله على الحق ومن خالفه على الباطل . ومات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام وقيل : بأربعين يوماً » .
وروى خطبته الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 323 ) قال : « صعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد وآل محمد ، ثم قال : الحمد لله الذي أحيا الحق وأمات الباطل ، وجاء بالعدل ودحض الجور ، وكَبَتَ الظالمين .
أيها الناس ، إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً ، وخير من نعلمه بعد نبينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأولى الناس بالناس ، وأحقهم بالأمر ، وأقربهم إلى الصدق وأرشدهم
--------------------------- 29 ---------------------------
إلى العدل ، وأهداهم سبيلاً ، وأدناهم إلى الله وسيلة ، وأقربهم برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رحماً . أنيبوا إلى طاعة أول الناس سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأصدقهم طريقة ، وأسبقهم إيماناً ، وأحسنهم يقيناً ، وأكثرهم معروفاً ، وأقدمهم جهاداً ، وأعزهم مقاماً . . . فقام الناس بأجمعهم فبايعوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأحسن بيعة وأجمعها .
فلما استتمت البيعة ، قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن التيهان أخي أبي الهيثم بن التيهان ، يقال له مسلم متقلداً سيفاً ، فناداه من أقصى الناس : أيها الأمير ، إنا سمعناك تقول في أول كلامك إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً ، تعريضاً بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء المؤمنين حقاً ، فعرِّفنا ذلك أيها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا ، فإنك ممن شهد وغبنا ، ونحن مقلدون ذلك في أعناقكم ، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لأمتكم ، وصدق الخبر عن نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال حذيفة : أيها الرجل ، أما إذا سألت وفحصت هكذا فاسمع وافهم ما أخبرك به :
أما من تقدم من الخلفاء قبل علي بن أبي طالب ممن تسمى بأمير المؤمنين ، فإنهم تسموا بذلك وسماهم الناس به . وأما علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فإن جبرائيل سماه بهذا الاسم عن الله تعالى وشهد له الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن جبرائيل بإمرة المؤمنين ، وكان أصحاب رسول الله يدعونه في حياة رسول الله بأمير المؤمنين ) .
أقول سنورد كلام حذيفة في بيعة الأمصار لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
5 . وكان حذيفة يستعمل أسلوب المداراة والتقية مع الحاكم . قال الذهبي في سيره ( 2 / 361 ) : « كان يقول : ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض ! قالوا : وأنت ؟ قال : وأنا والله ) !
6 . قال حذيفة إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حَذَّرَ من اثني عشر إماماً يدعون إلى النار ، وبَشَّرَ
باثني عشر إماماً يدعون إلى الجنة ! فروى عنه مسلم ( 8 / 122 ) قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
« في أصحابي اثنا عشر رجلاً منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها ، حتى يلج
--------------------------- 30 ---------------------------
الجمل في سم الخياط » .
وروى عنه الخزاز في كفاية الأثر / 136 : « قلت : يا رسول الله فكم يكون الأئمة من بعدك ؟ قال : عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين ، أعطاهم الله علمي وفهمي ) .
7 . وكان حذيفة ( رحمه الله ) يخبر المسلمين بغرائب ستحدث ، فيدهشون ويتحيرون ، فقد روى عنه ابن حماد بسند صحيح في الفتن / 45 : « لو حدثتكم أن أمكم تغزوكم ، أتصدقوني ؟ قالوا أو حقٌّ ذلك ؟ قال : حق » !
8 . رأى حذيفة الصحابة المنافقين الذين شاركوا في مؤامرة اغتيال النبي ، فقد روى مسلم ( 8 / 123 ) عن أبي الطفيل قال : « كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال فقال له القوم : أخبره إذْ سألك ! قال : كنا نُخْبَر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ) !
9 . شارك حذيفة في فتوح الشام ، وجاء ببشارة النصر في اليرموك ، إلى عمر .
10 . قال في الإصابة ( 2 / 40 ) : « وشهد حذيفة فتوح العراق وله بها آثار شهيرة » . ثم ذهب إلى الشام وشارك في معركة اليرموك ، ثم رجع إلى الشام ثم إلى العراق ، فشارك في فتح المدائن ، وما بعدها .
11 . ثم توغل جيش المسلمين داخل إيران ، فشارك حذيفة في معركة تستر . قال ابن الأعثم ( 2 / 277 ) في وصف معركة تستر ، وكانت نهايتها أن أسلم الهرمزان .
12 . ثم قاد حذيفة معركة نهاوند ، أكبرمعارك فتح فارس وحقق فيها النصر .
13 . روى الطبري ( 3 / 203 ) أن النعمان بن مقرن : « عبَّأ كتائبه وخطب الناس فقال : إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان ، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله ، وإن أصيب جرير ، فعليكم قيس بن مكشوح » . وهذا الترتيب من علي ( عليه السلام ) .
14 . ثم قاد حذيفة أغلب معارك فتح إيران ، من الشرق والغرب والوسط ، من نهاوند إلى همدان وأصفهان والري وخراسان وجرجان ، ثم إلى أرمينية وبلاد آسيا !
--------------------------- 31 ---------------------------
ويكفي أن تقرأ قول خليفة بن خياط / 107 : « مضى حذيفة بن اليمان بعد نهاوند . . ثم غزا مدينة الدينور فافتتحها عنوة . ثم غزا حذيفة ماسبدان فافتتحها عنوة . . قال أبو عبيدة : غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة ولم تكن فتحت قبل ذلك . ثم غزا الري فافتتحها عنوة ولم تكن فتحت قبل ذلك ، وإليها انتهت فتوح حذيفة . قال أبو عبيدة : فتوح حذيفة هذه كلها في سنة اثنتين وعشرين » . ويقصد ابن خياط أن فتوح حذيفة وقفت عند الري أي طهران ولم يسمح له عمر بالتقدم إلى خراسان .
15 . قال الطبري ( 3 / 333 و 353 ) : « استعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان ، وكان على ذلك الفرج ( أرمينيا وما حاذاها ) قبل ذلك عبد الرحمن بن ربيعة . . فغزاها حذيفة بن اليمان ثلاث غزوات ، فقتل عثمان في الثالثة ، ولقيهم مقتل عثمان » . أقول : لا يصح قوله في سنة عشر ، بل الصحيح ما رواه في تاريخ دمشق ( 9 / 205 ) : ( سلمان بن ربيع قتل ببلنجرمن بلاد أرمينية ، سنة تسع وعشرين ، ويقولون : سنة ثلاثين ، ويقال : مات سنة إحدى وثلاثين ) .
16 . والنتيجة : أن حذيفة رضي الله عنه قاد جيش المسلمين بعد نهاوند في الفتوحات سنين متطاولة ، حتى أنه عندما قتل عثمان كان يفتح مناطق جديدة في آسيا الوسطى . ومن قبل كان دوره وافراً في معارك فتح إيران : ففي معركة جلولاء التي كان قادها هاشم المرقال ، كان حذيفة فيها قائداً . ثم قاد حذيفة معركة حلوان وفتحها . ثم كان في معركة تستر قائداً .
17 . وكان حذيفة والي المدائن مع سلمان ، ومسح أرض العراق . ففي الطبري ( 3 / 222 ) : « كتب ( عمر ) إلى أهل الكوفة إني بعثت إليكم عمار بن ياسرأميراً ، وجعلت عبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً ، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها ، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى » .
18 . وكان حذيفة نشيطاً يتردد على الكوفة والمدينة . ففي تاريخ دمشق ( 12 / 294 ) : « سمعت أبا إسحاق يقول : كان حذيفة يجئ كل جمعة من المدائن إلى الكوفة . قال أبو بكر : فقلت له يستطيع أن يجئ من المدائن إلى
--------------------------- 32 ---------------------------
الكوفة ؟ قال : نعم كانت له بغلة فارهة » . والمسافة بين الكوفة والمدائن نحو مئة كيلومتر ، لكن الفرس أو البغلة السريعة تقطعها في بضع ساعات !
19 . كما كان حذيفة بطل توحيد نسخة القرآن ، فعندما كان قائداً في فتح أرمينيا ، وقع اختلاف بين جند الشام وجند العراق في قراءة ألفاظ في القرآن ، فكان بعضهم يقول إن ما تقرأه لم ينزله الله تعالى وليس قرآناً ، ويجيبه الآخر كذلك ، فكادت تقع بينهم حرب ! فهدأهم حذيفة وقصد إلى المدينة يطلب من عثمان توحيد نسخة القرآن ، فكلفه أن يجمع نسخ أبي بن كعب ، ونسخة عمر التي عند حفصة ، ونسخة أبي موسى الأشعري من البصرة ، ونسخة عبد الله بن مسعود في الكوفة ، فنهض حذيفة بذلك . وكلف عثمان سعيد بن العاص أن يكتب النسخة ، فكتب كثيراً منها على نسخة علي ( عليه السلام ) ثم أرسلها إلى الأمصار .
وكان حذيفة يعمل في ذلك بتوجيه علي ( عليه السلام ) . ( راجع : تدوين القرآن للمؤلف / 192 ) .
20 . فاز ابنا حذيفة : صفوان وسعيد ، بالشهادة بين يدي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بوصية أبيهما رضي الله عنهم . وكان عمران بن حذيفة من أصحاب المختار في ثورته لأخذ ثأر الحسين ( عليه السلام ) وقتله مصعب بن الزبير . ( الكامل : 4 / 280 ) .
وله ابن آخر هو ربيعة ، نسب إليه : إبراهيم بن مسلم الحذيفي العبسي ، وهو بغدادي سكن همدان . ( اللباب : 1 / 351 ، وتاريخ بغداد : 6 / 184 ) .
وذكر ابن سعد بنته أم موسى بنت حذيفة ( 6 / 297 ) وبنته أم سلمة ، وأنها روت عن أبيها ( 8 / 477 ) وذكر زوجته جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري ( 8 / 482 ) .
عمرو بن معدي كرب وعروة بن زيد الخيل وغيرهما
1 . قال البلاذري ( 2 / 316 ) يصف معركة القادسية : « فالتحمت الحرب بينهم ، وذلك بعد الظهر ، وحمل عمرو بن معدي كرب الزبيدي فاعتنق عظيماً من الفرس فوضعه بين يديه في السرج وقال : أنا أبو ثور افعلوا كذا ! ثم حطم فيلاً من الفيلة وقال : إلزموا سيوفكم خراطيمها ، فإن مقتل الفيل خرطومه » .
--------------------------- 33 ---------------------------
2 . « قال عمرو بن معدي كرب : إني حامل على الفيل ومن حوله ، لفيل بإزائهم فلا تدعوني أكثر من جزر جزور ، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور ، فأنى لكم مثل
أبي ثور ، فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف ! فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم وستره الغبار ، فقال أصحابه : ما تنتظرون ما أنتم بخلقاء أن تدركوه ، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم ! فحملوا حملة فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه وإن سيفه لفي يده يضاربهم وقد طعن فرسه !
فلما رأى أصحابه وانفرج عنه أهل فارس ، أخذ برِجل فرس رجل من أهل فارس فحركه الفارسي فاضطرب الفرس ، فالتفت الفارسي إلى عمرو فهمَّ به وأبصره المسلمون فغشوه ، فنزل عنه الفارسي وحاضر ( ركض ) إلى أصحابه فقال عمرو : أمكنوني من لجامه فأمكنوه منه فركبه » . ( تاريخ الطبري : 3 / 61 ) .
أقول : حمل عمرو مثل هذه الحملة في نهاوند وغاص في وسط جيش الفرس ، ويظهر أن المسلمين تأخروا عن نجدته ، فأدركوه وقد استشهد رضي الله عنه !
3 . قال ابن الأعثم ( 2 / 304 ) يصف معركة نهاوند : « ورجعت إليهم الفرس كأنهم السباع الضارية في جموع لم يروا مثلها قبل ذلك ، فصاح عمرو بن معد يكرب : يا معاشر العرب والموالي ! ويا أهل الإسلام والدين والقرآن ! إنه لا ينبغي لكم أن يكون هؤلاء الأعاجم أصبرمنكم على الحرب ، ولا أحرص منكم على الموت ، فتناسوا الأولاد والأزواج ، ولا تجزعوا من القتل فإنه موت الكرام ومنايا الشهداء .
قال : ثم نزل عمرو عن فرسه ونزل معه أبطال بني عمه ، قال : والأعاجم في الآلة والأسلحة وبين أيديهم ثلاثون فيلاً ، على كل فيل منهم جماعة من أساورة الفرس . قال : ونظر عامة المسلمين إلى عمرو بن معد يكرب وأصحابه وقد ترجلوا فنزل الناس وترجلوا ، ثم تقدموا نحو الخيل والفيلة ، فلم يكن إلا ساعة من أول النهار حتى إحمرت الأرض من دماء الفرس . .
فلما كان من غد وذلك في اليوم الرابع من حربهم ثار القوم بعضهم إلى بعض ،
--------------------------- 34 ---------------------------
وزحف أهل نهاوند في جميع عظيم حتى صافوا المسلمين . . .
قال : ثم نزل عمرو عن فرسه وجعل يستوثق من حزامه وثفره ولببه ،
ثم استوى عليه وضرب بيده إلى الصمصامة فجعل يهزها ، قال : ثم كبر عمرو وحمل ، وحمل معه فرسان بني مذحج على جموع الأعاجم ، فلما خالطهم عمرو عثر به فرسه فسقط إلى الأرض وغار فرسه وأحاطت به الفرس من كل جانب ، فلم يزل يقاتل حتى انكسرت الصمصامة في يده ، ثم ضرب بيده إلى السيف ذي النون فلم يزل يضرب به حتى انكسر في يده ، فعند ذلك علم أنه مقتول ، قال : وجعل المسلمون يحملون على الفرس فيقاتلون وليست لهم بهم طاقة لكثرة جمعهم ، وحمل رجل من الفرس يقال له بهرزاد على عمرو بن معد يكرب فضربه على يافوخه ، فخر عمرو صريعاً ، وتكاثرت عليه الفرس بالسيوف فقطعوه إرباً إرباً ، رحمة الله ورضوانه عليه ) .
4 . في الأنساب للسمعاني ( 3 / 136 ) : « استشهد بنهاوند زمن عمر . ومحمية بن جزء الزبيدي ، صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، استعمله على الأخماس » .
وقال الحموي ( 1 / 499 ) : « بندسيان : من قرى نهاوند ، بها قبر النعمان بن مقرن ، استشهد هناك يوم نهاوند وهوأميرالجيوش . وقبرعمرو بن معدي كرب فيما يزعم أهلها . والمشهور أن عمرو بن معديكرب مات بروذه قرب الري » .
قيس بن المكشوح
1 . وهو ابن أخت عمرو بن معدي كرب ، لكنه بجلي حليف بني مراد ، وعمرو زبيدي ، وكانت علاقتهما سيئة بسبب صراع القبيلتين ، وكان قيس مسلماً قبل خاله وأحسن تديناً . وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعتمد عليه فقد كتب له ليساعد في قتل مدعي النبوة الأسود العنسي ففعل ، وكانت له بطولات في الفتوحات ، وشارك في معركة اليرموك ، وسارع مع هاشم المرقال إلى العراق فحضر القادسية وكان قائد ميسرتها ، وكان قائداً فيما بعدها من معارك . وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد استشهد معه في صفين .
--------------------------- 35 ---------------------------
2 . قال الطبري ( 3 / 203 ) : « فسار النعمان ومعه وجوه أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم حذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي ، وطليحة بن خويلد الأسدي ، وقيس بن مكشوح المرادي . . .
ثم عبأ كتائبه وخطب الناس فقال : إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان ، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله ، وإن أصيب جرير بن عبد الله فعليكم قيس بن مكشوح ، فوجد المغيرة بن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه » .
3 . وفي الإستيعاب ( 3 / 1299 ) : « قيس بن المكشوح ، أبو شداد . . حليف مراد ، وعداده فيهم . . وهو أحد الصحابة الذين شهدوا مع النعمان بن مقرن فتح نهاوند . له ذكر صالح في الفتوحات بالقادسية وغيرها زمن عمر وعثمان ، وهو أحد الذين قتلوا الأسود العنسي ، وهم : قيس بن مكشوح ، وذادويه ، وفيروز الديلمي . . ثم قتل قيس بن مكشوح بصفين مع علي ( عليه السلام ) ، وكانت فيه نجدة وبسالة ، وكان قيس شجاعاً فارساً بطلاً شاعراً ، وهو ابن أخت عمرو بن معدي كرب ، وكان يناقضه في الجاهلية ، وكانا في الإسلام متباغضين .
ومن خبره في صفين أن بجيلة قالت له : يا أبا شداد ، خذ رايتنا اليوم فقال : غيري خير لكم . قالوا : ما نريد غيرك . قال : فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب ! قال : وعلى رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب يستر به معاوية من الشمس ، فقالوا له : إصنع ما شئت . فأخذ الراية ثم زحف فجعل يطاعنهم حتى انتهى إلى صاحب الترس ، وكان في خيل عظيمة ، فاقتتل الناس هنالك قتالاً شديداً ، وكان على خيل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس فعارضه دونه رومي لمعاوية ، فضرب قدم أبي شداد فقطعها ، وضربه قيس فقتله ، وأشرعت إليه الرماح ،
فقتل رحمة الله تعالى عليه » .
--------------------------- 36 ---------------------------
زيد الخير بن صوحان
1 . في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 95 ) : « وذكر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زيد بن صوحان فقال : زيد وما زيد يسبقه عضو منه إلى الجنة ! فقطعت يده في يوم نهاوند في سبيل الله » .
2 . شارك زيد رضي الله عنه في معركتي الجمل الصغرى والكبرى ، فكان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأبلى بلاء حسناً ، واستشهد فيها ، قتله عمير بن يثربي فارس بني ضبة ) . ( أنساب الأشراف / 244 ) .
وأخذ بثأره من ابن يثربي عمار بن ياسر ( رحمه الله ) ، قال في تاريخ دمشق ( 43 / 464 ) : « فبرز له عمار وهو ابن ثلاث وتسعين ، عليه فروة مشدودة الوسط بشريط ، حمائل سيفه نسعة ، فانتقضت ركبتاه فجثى على ركبتيه فأخذه أسيراً ، فأتى به علياً ( عليه السلام ) » .
أبو عثمان النهدي : عبد الرحمن بن مَلّ
في سير أعلام النبلاء : 4 / 177 : « عن أبي عثمان النهدي ، قال : أتيت عمر بالبشارة يوم نهاوند . . كان أبو عثمان النهدي يصلي حتى يغشى عليه » .
وقال ابن حبان في الثقات : 5 / 75 : « عبد الرحمن بن مَلّ ، أبو عثمان النهدي من قضاعة أدرك الجاهلية . . غزا في عهد عمرالقادسية وجلولاء وتستر ونهاوند وأذربيجان ، وقد قيل مات أبو عثمان النهدي سنة مائة وكان مقيماً بالكوفة ، فلما قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) انتقل منها إلى البصرة وقال : لا أسكن بلداً قتل فيها ابن بنت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وكان أبو عثمان يقول بلغت ثلاثين ومائة سنة ، كل شئ مني عرفت فيه النقص ، إلا أملي فإني أراه كما هو » . « قال لي سلمان : أتعرف رامهرمز ؟ قلت : نعم . قال : إني من أهلها . قلت : ما أشد حبك لعلي ! قال : كيف لا أحبه وقد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : الناس من أشجار شتى ، وأنا وعلي من شجرة واحدة » . ( أربعون منتجب الدين / 35 ) .
وروى عنه أبو يعلى عن علي ( 1 / 427 ) : ( أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اعتنقه وأجهش بالبكاء قلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدورأقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي ! قال قلت يا رسول الله في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك » .
--------------------------- 37 ---------------------------
الفصل الثالث والثلاثون: دور علي ( عليهم السلام ) في فتح بقية إيران
قال عمر : مالنا ولخراسان ، وما لخراسان ولنا !
1 . قال الطبري ( 3 / 176 ) : « قال عمر : حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز . وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار ، لا يصلون إلينا منه ولانصل إليهم . وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار ، لا يصلون إلينا منه ولانصل إليهم » !
ونلاحظ أن هذا موقف عمر في كل مراحل فتح إيران ، قبل معركة جلولاء وتستر ونهاوند وبعدها ، بل حتى بعد فتح خراسان ! لكن الواقع الميداني فرض نفسه عليه ، وجرت المعارك بخير في العراق فرضي بها ، ومع ذلك كان يؤكد أن لا يتوغلوا داخل إيران ! وقد توغل هاشم المرقال قائد معركة جلولاء لمطاردة الجيش الفارسي ، فقاد مع حجر بن عدي ، فتح حلوان وغيرها .
وفي فتوح ابن الأعثم ( 2 / 78 ، و 320 ) : « كتب إلى أبي موسى : أما بعد فقد ورود عليَّ كتابك يخبرني بما فتح الله على يديك من أرض فارس وكرمان ، وأنك تريد التقدم إلى بلاد خراسان ، فمهلاً أبا موسى في ذلك ، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا ، فول على كل بلد مما فتح الله عز وجل على يديك رجلاً يرتضيه المسلمون ، وارجع إلى البصرة فأقم بها ، وذر عنك خراسان فلا حاجة لنا بها . يا ابن قيس : مالنا ولخراسان وما لخراسان ولنا ! ولوددت أن بيننا وبين خراسان جبالاً من حديد وبحاراً ، وألف سد كل سد مثل سد يأجوج ومأجوج .
فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ولمَ ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر : لأنها أرض بعدت عنا جداً ، ولا حاجة لنا بها . فقال علي : فإن كانت قد بعدت عنك خراسان ، فإن لله عز وجل مدينة بخراسان يقال لها مرو ، أسسها ذو القرنين وصلى بها عزير ، أرضها فياحة . .
--------------------------- 38 ---------------------------
ثم حدثه عن مدن خراسان وما يجري عليها ، فقال عمر : يا أبا الحسن ، لقد رغبتني في فتح خراسان ! قال علي ( عليه السلام ) : قد ذكرت لك ما علمت منها مما لا شك فيه » .
( ونحوه الطبري : 3 / 246 ) .
وقال ( عليه السلام ) ( الفقيه : 2 / 583 ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ستدفن بضعة مني بخراسان ما زارها مكروب إلا نفس الله عز وجل كربه ، ولامذنب إلا غفر الله له ذنوبه ) .
وهذا إخبار منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بفتح خراسان ، فلا بد أن علياً ( عليه السلام ) استعمله لإقناع عمر ! وتابع علي ( عليه السلام ) والأحنف محاولتهما مع عمر لتقوية قلبه وإقناعه بفتح خراسان ، حتى سمح بالإنسياح في إيران ، وأرسل الأحنف لفتح خراسان ومطاردة يزدجرد .
2 . قال الطبري ( 3 / 182 و 184 ) قال الأحنف : « يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الإنسياح في البلاد ، وأمرتنا بالإقتصار على ما في أيدينا ، وإن مَلِك فارس حيٌّ بين أظهرهم ، وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام مَلكهم فيهم ، ولم يجتمع مَلِكان فاتفقا حتى يُخرج أحدهما صاحبه ، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شئ إلا بانبعاثهم ، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم ، ولا يزال هذا دأبهم حتى يأذن لنا في السيح في بلادهم ، حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وعز أمته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويربطوا جأشاً . فقال : صدقتني والله ، وشرحت لي الأمر عن حقه ) .
3 . وقال الطبري ( 3 / 244 ) : « وفي هذه السنة ( سنة 21 ) غزا الأحنف بن قيس في قول بعضهم خراسان . فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزلها ، ونزل الأحنف مرو الشاهجان ، وكتب يزدجرد وهو بمرو الروذ إلى خاقان يستمده ، وكتب إلى ملك الصغد يستمده ، فخرج رسولاه نحو خاقان وملك الصغد ، وكتب إلى ملك الصين يستعينه .
وخرج الأحنف من مرو الشاهجان ، واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي ، بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة ، على أربعة أمراء : علقمة بن النضر النضري ، وربعي بن عامر التميمي ، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي ، وابن أم غزال الهمداني . وخرج سائراً نحو مرو الروذ ، حتى إذا بلغ ذلك يزدجرد خرج إلى بلخ ( في أفغانستان )
--------------------------- 39 ---------------------------
ونزل الأحنف مرو الروذ ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ ، وأتبعهم الأحنف فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ ، فهزم الله يزدجرد ، وتوجه في أهل فارس إلى النهر فعبر ، ولحق الأحنف بأهل الكوفة ، وقد فتح الله عليهم . فبلخ من فتوح أهل الكوفة . . .
وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمروالروذ ، وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان والصغد نهر بلخ غازياً له ، خرج في عسكره ليلاً يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به ، فمر برجلين ينقيان علفاً إما تبناً وإما شعيراً ، وأحدهما يقول لصاحبه لو أن الأمير أسندنا إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقاً ، وكان الجبل في ظهورنا من أن نؤتى من خلفنا ، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله . فرجع واجتزأ بها ، وكان في ليلة مظلمة ، فلما أصبح جمع الناس ثم قال : إنكم قليل وإن عدوكم كثير فلا يهولنكم ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين . إرتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجيل ، فاجعلوه في ظهوركم واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم ، وقاتلوهم من وجه واحد ، ففعلوا ، وقد أعدوا ما يصلحهم ، وهو في عشرة آلاف من أهل البصرة ، وأهل الكوفة نحو منهم .
وأقبلت الترك ومن أجلبت حتى نزلوا بهم ، فكانوا يغادرونهم ويراوحونهم ، ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله .
وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل فخرج ليلةً بعد ما علم علمهم طليعةً لأصحابه ، حتى كان قريباً من عسكر خاقان فوقف ، فلما كان في وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه وضرب بطبله ، ثم وقف من العسكر موقفاً يقفه مثله ، فحمل عليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله . ثم انصرف الأحنف إلى عسكره ، ولم يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد . وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء كلهم يضرب بطبله ، ثم يخرجون بعد خروج الثالث فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث
--------------------------- 40 ---------------------------
فأتوا على فرسانهم مقتلين ، فتشاءم خاقان وتطير ، فقال قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم يصب بمثله قط ! مالنا في قتال هؤلاء القوم من خير ، فانصرفوا بنا . فكان وجوههم راجعين وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئاً وأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ . ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو فأعجل عنه ، وأراد أن يستقل به منها ، إذ هو أمرعظيم من خزائن أهل فارس وأراد اللحاق بخاقان فقال له أهل فارس : أي شئ تريد أن تصنع ؟ فقال : أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين . فقالوا له : مهلاً فإن هذا رأي سوء ، إنك إنما تأتي قوماً في مملكتهم وتدع أرضك وقومك ، ولكن إرجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم أوفياء وأهل دين وهم يلون بلادنا ، وإن عدواً يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة عدو يلينا في بلاده ، ولا دين لهم ولا ندري ما وفاؤهم !
فأبى عليهم وأبوأ عليه فقالوا فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ولا نخرجها من بلادنا إلى غيرها ، فأبى فقالوا : فإنا لا ندعك ! فاعتزلوا وتركوه في حاشيته فاقتتلوا فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها ، ونكبوه .
وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ ، ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع .
كانت نهاية يزدجرد في مطحنة بيد قومه الفرس !
عاش الملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى بعد معركة نهاوند ، نحو اثنتي عشرة سنة ، كان فيها ملكاً مقاتلاً مشرداً ، يستنهض الفرس لقتال المسلمين ، فيتحرك بعضهم ويقاتلون معه ، ويكرهه أكثرهم ، حتى غدربه بعضهم وقتلوه ! وكانت مشكلته التكبر على قومه الفرس ، فهو يراهم عبيداً له ويصرح بذلك ، ويعاملهم بغطرسة ، مع أنه مشرد محتاج إليهم !
قال البلاذري في فتوح البلدان : 2 / 387 : « هرب يزدجرد من المدائن إلى حلوان ثم إلى إصبهان . فلما فرغ المسلمون من أمر نهاوند هرب من إصبهان إلى إصطخر . فتوجه عبد الله بن بديل بن ورقاء بعد فتح إصبهان لاتباعه فلم يقدر عليه . .
ثم بدا له فهرب إلى كرمان ، واتبعه ابن عامرمجاشع بن مسعود السلمي ، وهرم بن
--------------------------- 41 ---------------------------
حيان العبدي ، فمضى مجاشع فنزل بيمنذ من كرمان ، فأصاب الناس الدَّمَق
( ريح وثلج ) وهلك جيشه فلم ينج إلا القليل فسمى القصرقصرمجاشع .
وكان يزدجرد جلس ذات يوم بكرمان ، فدخل عليه مرزبانها فلم يكلمه تيهاً ! فأمر بجر رجله وقال : ما أنت بأهل لولاية قرية فضلاً عن الملك ، ولو علم الله فيك خيراً ، ما صيرك إلى هذه الحال ! فمضى إلى سجستان فأكرمه ملكها وأعظمه ، فلما مضت عليه أيام سأله عن الخراج فتنكر له .
فلما رأى يزدجرد ذلك سار إلى خراسان ، فلما صار إلى حد مرو تلقاه ماهويه مرزبانها معظماً مبجلاً ، وقدم عليه نيزك طرخان فحمله وخلع عليه وأكرمه ، فأقام نيزك عنده شهراً ، ثم شخص وكتب إليه يخطب ابنته فأحفظ ذلك يزدجرد ( أغضَبه ) وقال : أكتبوا إليه إنما أنت عبد من عبيدي ، فما جرأك على أن تخطب إليَّ ؟ وأمر بمحاسبة ماهويه مرزبان مرو ، وسأله عن الأموال ، فكتب ماهويه إلى نيزك يحرضه عليه ويقول : هذا الذي قدم مفلولاً طريداً ، فمننت عليه ليرد عليه ملكه فكتب إليك بما كتب ، ثم تضافرا على قتله ! وأقبل نيزك في الأتراك حتى نزل الجنابذ فحاربوه ، فتكافأ الترك ثم عادت الدائرة عليه فقتل أصحابه ونهب عسكره . فأتى مدينة مرو فلم يفتح له فنزل عن دابته ومشى حتى دخل بيت طحان على المرغاب ، ويقال إن ماهويه بعث إليه رسله حين بلغه خبره فقتلوه في بيت الطحان . ويقال إنه دس إلى الطحان فأمره بقتله فقتله ، ثم قال : ما ينبغي لقاتل ملك أن يعيش ، فأمر بالطحان فقتل ) .
وعقد الطبري ( 3 / 244 ) فصلاً لمصير يزدجرد وهروبه من بلد إلى بلد ، وحملة الأحنف بن قيس على خراسان واشتباكه معه ومطاردته له » .
وكان قتل يزدجرد في خلافة عثمان سنة 31 ، بعد 12 سنة من وقعة نهاوند .
وهكذا تحقق دعاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على كسرى لما مزق كتابه ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « مزق الله ملكه كما مزق كتابي ، أما إنه ستمزقون ملكه » . ( مناقب آل أبي طالب : 1 / 70 ) .
--------------------------- 42 ---------------------------
شهربانويه زوجة الحسين وأم زين العابدين ( ( عليهما السلام ) )
1 . كتبنا في سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ( اسم أمه : شاه زنان ، وقيل شهربانويه ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولَّى حريث بن جابرالحنفي جانباً من المشرق ، فبعث إليه ببنتي يزدجرد بن شهريار ، فنحل ابنه الحسين ( عليه السلام ) إحداهما فأولدها زين العابدين ( عليه السلام ) ونحل الأخرى محمد بن أبيبكر فولدت له القاسم بن محمد بن أبيبكر ، فهما ابنا خالة ) . ( إعلام الورى : 1 / 480 ) . وقد ذكر خؤولته من آل كسرى كل من أرخ له ( عليه السلام ) ! ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رغَّب بني هاشم بمصاهرة العجم فقال : فالتمسوا أولادهن ، فإن في أرحامهن البركة ) . ( المغني لابن قدامة الحنبلي ( 7 / 468 ) والكافي ( 5 / 474 ) .
وقال في عمدة الطالب / 192 : ( أغنى الله تعالى علي بن الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما حصل له من ولادة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن ولادة يزدجرد ) .
2 . وهي غير ابنة يزدجرد التي فاوض حراسها سلمان في فتح المدائن على إخراجها من القصر وتسليمه للمسلمين . وقد روى ذلك الواقدي ( 2 / 204 ) وفيه أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تقدم إلى حراس القصر وكلمهم بالفارسية وقال لهم إن الملك يزدجرد هرب ، وقد وعدنا الله هذا القصر فسلموه لنا ولا تهلكوا أنفسكم ، فقالوا له إنهم تخلفوا عن كسرى بسبب بنته المريضة ، فسمحوا لهم بأخذها وغادروا » .
ومن البعيد أن تكون ابنة يزدجرد أرسلت أسيرة إلى عمر فصارت زوجة الحسين ( عليه السلام ) ، لأنها أسلمت فلم تكن أسيرة ، ولأن فتح المدائن كان سنة ست عشرة ( الطبري : 3 / 139 ) والإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ولد سنة ثمان وثلاثين ، ومن البعيد أنها ولدته بعد اثنين وعشرين سنة من زواجها من الحسين ( عليه السلام ) ، فلا بد أن تكون أم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) غيرها . فالمرجح رواية حريث بن جابرالوالي من قبل علي ( عليه السلام ) على اللهازم ، وأنه عثر على بنتي يزدجرد فبعثما إلى الإمام ( عليه السلام ) ، وقد كن صغيرات مشردات عند هروبه من المدائن ، وروي أنه لما وصل هارباً إلى مرو خطب حاكم مرو ابنته ، فغضب ! ( البلاذري : 2 / 387 ) .
--------------------------- 43 ---------------------------
3 . وكان حريث بن جابر والياً لعلي ( عليه السلام ) على لهازم البصرة ( شرح النهج : 4 / 37 ) وهي مجموعة قبائل ، نزلوا الكرج بين طهران وهمدان ، وقد مصرها أبودلف العجلي ، ومنهم من سكن قزوين وخراسان ، ويظهرأن يزدجرد أودع بناته أو بنات أخيه في منطقة نفوذ اللهازم ، فعثرعليهن حريث بن جابر .
وتكون نسبة القصة إلى عمر خلطاً بأسيرة أخرى من آل كسرى في زمن عمر .
والمرجح عندي أنها بنت شيرويه أخ يزدجرد ، لقول الشيخ الطوسي في التهذيب ( 6 / 77 ) : ( وأمه شاه زنان بنت شيرويه بن كسرى اپرويز ) .
وكذا في الخرائج ( 2 / 750 ) والتذكرة ( 6 / 198 ) والحدائق : 17 / 435 ) والمفيد في المقنعة / 472 .
ترجمة حريث بن جابر الحنفي البكري
1 . قال محمد هادي الأميني في كتابه أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والراوين عنه ( 1 / 157 ) : ( حريث بن جابر الحنفي البكري . فارس ، شاعر ، رئيس بني حنيفة ، ومن أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المخلصين في ولائه . شهد صفين وأبلى فيها بلاءً حسناً ، وأمَّره علي ( عليه السلام ) على لهازم البصرة يوم صفين . وله أخبار تدل على ثباته في طاعة علي ( عليه السلام ) . إتقان المقال / 79 . الأخبار الطوال / 178 . أعيان الشيعة 4 / 615 . أنساب الأشراف 2 / 325 . الإمامة والسياسة 1 / 105 . تنقيح المقال 1 / 261 . جامع الرواة 1 / 182 . رجال الشيخ الطوسي / 39 . شرح ابن أبي الحديد 5 / 234 و 16 / 197 . قاموس الرجال 3 / 107 . مجمع الرجال 2 / 90 . مروج الذهب 2 / 395 . معجم رجال الحديث 4 / 248 . نقد الرجال / 84 . وقعة صفين / 137 ، 205 ، 299 ، 485 ) .
2 . وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم / 297 : ( بعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقال : إن لي إليك حاجة فالقني ، فلقيه الحسن فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنئوه فهل لك أن تخلفه ونوليك هذا الأمر ؟ قال : كلا والله لا يكون ذلك . ثم قال له الحسن : لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك ، أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك مخلقاً بالخلوق تُري نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً !
--------------------------- 44 ---------------------------
قال : فوالله ما كان إلا كيومه أو كالغد وكان القتال فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء وهي الخضرية ، كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر ، ونظر الحسن فإذا هو برجل متوسد رجلاً قتيلاً قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله ، فقال الحسن لمن معه : أنظروا من هذا ، فإذا هو رجل من همدان ، فإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، قد قتله وبات عليه حتى أصبح ، ثم سلبه ، فسأل الرجل من هو ؟ فقال : رجل من همدان وإنه قتله .
واختلفوا في قاتل عبيد الله ) . وسبب الاختلاف أن قاتله لا يريد أن يعرف ، والظاهر أنه ابن حريث ، وأنه قتله وتركه فادعى غيره قتله . قال ابن العديم في بغية الطلب ( 5 / 2199 ) : ( وقال بعضهم : ما قتله إلا حريث بن جابر الحنفي ) .
3 . وقال حريث بن جابر في التداعي إلى الحكومة :
لعمرو أبيك والأبناء تنمي * وقد يشقي من الخبر الخبير
لقد نادى معاوية بن حرب * لأمر لا تضيق له الصدور
دعانا للتي كنا إليها * دعوناه وذاك لها سرور
فحكمنا للقرآن بغير شك * وكان الله عدلاً لا يجور
ولا تعجل معاوية بن حرب * فإن سرور ما تهوى غرور
فإنك والخلافة يا ابن حرب * لكالحادي وليس له بعير ) .
الأحنف بن قيس رائد فتح خراسان
1 - الضحاك بن قيس . . بن زيد مناة بن تميم . أدرك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يره . ( أسد الغابة : 1 / 55 ) . وقد وفد على عمرفحبسه عنده سنة بدون سبب ، وفهم الأحنف مزاج عمر وكان صبوراً ، فأعجب به عمر . وسماه الأحنف وهو الذي في مشط قدمه مَيْلٌ أو تشوه . ( الصحاح : 4 / 1374 ) .
وقال الحسن البصري : ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف . وقال سفيان : ما وزن عقل الأحنف بعقل إلا وزنه . ( تاريخ دمشق : 4 / 316 ) .
وفي مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 109 : « صعد الأحنف بن قيس فوق بيته فأشرف على جاره ، فقال : سوءةً سوءةً ! دخلت على جاري بغيرإذن ! لاصعدت فوق هذا البيت أبداً » .
--------------------------- 45 ---------------------------
وهذا نبلٌ فريد . وبقي الأحنف سيد بني تميم أربعين سنة . وتوفي في الكوفة سنة سبع وستين . ( الغارات : 2 / 754 ) .
وقال المدائني : كان له ابن وبنت وقد انقرض عقبه . ( معجم البلدان : 1 / 55 )
2 - كان الأحنف من شيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقد روى عن أبي ذر ( رحمه الله ) قوله : « كنا ذات يوم عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجد قبا ، ونحن نَفَرٌ من أصحابه فقال : معاشرأصحابي يدخل عليكم من هذا الباب رجل هو أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، قال فنظروا وكنت فيمن نظر ، فإذا نحن بعلي بن أبي طالب قد طلع فقام ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاستقبله وعانقه وقبَّل ما بين عينيه ، وجاء به حتى أجلسه إلى جانبه ، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم فقال : هذا إمامكم بعدي ، طاعته طاعتي ، ومعصيته معصيتي ، وطاعتي طاعة الله ، ومعصيتي معصية الله عز وجل » .
( أمالي الصدوق / 634 ) .
3 . كان بنو تميم منقسمين في حرب الجمل ، فكتب الأحنف إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه إن معه لكنه إن جاء يأتي معه ألفان أو نحوها ، وإن وقف على الحياد كف عنه عشرة آلاف سيف ، فأمره علي ( عليه السلام ) بأن يعتزل ويكف عنه عشرة آلاف .
4 . وكان أول من أجاب دعوة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما دعا أهل البصرة لقتال معاوية ، فلما قرأ ابن عباس كتاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : « أيها الناس استعدوا للشخوص إلى إمامكم ، وانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم . . فلما أتمَّ كلامه قام الأحنف فقال : نعم والله لنجيبك ، ونخرج معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الأجر ، ونأمل به من الله الثواب العظيم » .
( شرح النهج : 3 / 187 ) .
5 . اقترح الأحنف على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يكون مندوبه للتحكيم بعد صفين مقابل ابن العاص فقال : « يا أمير المؤمنين : إنك رُميت بحجر الأرض ، ومن حارب الله ورسوله أنف الإسلام ، وإني قد عجمت هذا الرجل ، يعني أبا موسى ، وحلبت شطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر ، وإنه لا يصلح
--------------------------- 46 ---------------------------
لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم ، فإن شئت أن تجعلني حكماً فاجعلني ، وإن شئت فاجعلني ثانياً أو ثالثاً ، فإن عمراً لا يعقد عقدة إلا حللتها ، ولا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها ، فعرض الإمام ذلك على الناس فأبوه ! وقالوا لا يكون إلا أبو موسى » .
( شرح النهج : 2 / 230 ) .
ولما أصر أهل الكوفة على تحكيم أبي موسى ، نصحه الأحنف : « يا أبا موسى اعرف خَطْبَ هذا الأمر ، واعلم إن له ما بعده وإنك إن أضعت العراق فلا عراق ، إتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك ، وإذا لقيت غداً عمراً فلا تبدأه بالسلام ، فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس بأهلها ، ولاتعطه يدك فإنها أمانة ، وإياك أن يقعدك على صدرالفراش فإنها خدعة ، ولاتلقه إلا وحده ، وأحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع ، تخبأ لك فيه الرجال والشهود » . ( شرح النهج : 2 / 249 ) .
6 . خطب شاميٌّ في مجلس معاوية : « فكان آخر كلامه أن لعن علياً ( عليه السلام ) فأطرق الناس ! وتكلم الأحنف فقال لمعاوية : إن هذا القائل لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم ، فاتق الله ودع عنك علياً ، فقد لقي ربه وأفرد في قبره وخلا بعمله ، وكان والله المبرز بسبقه ، الطاهر خلقه ، الميمون نقيبته ، والعظيم مصيبته . فقال معاوية : يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى ، وقلت بغير ما ترى ، وأيم الله لتصعدنَّ المنبر فلتلعنه طوعاً أو كرهاً ! فقال له الأحنف : إن تعفني فهو خير لك ، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي أبداً .
قال : فاصعد المنبر ! قال الأحنف : أما والله لأنصفنَّك في القول والفعل . قال : وما أنت قائل يا أحنف ؟ قال : أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله ، وأصلي على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم أقول : أيها الناس إن معاوية أمرني أن ألعن علياً ، وإن علياً ومعاوية اختلفا واقتتلا وادَّعى كل واحد منها أنه بغى على فئته ، فإذا دعوت فأمِّنوا رحمكم الله ، ثم أقول : اللهم ألعن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه ، وألعن الفئة الباغية ، اللهم العنهم لعناً كثيراً !
--------------------------- 47 ---------------------------
يا معاوية : لا أزيد على هذا ولا أنقص حرفاً ، ولو كان فيه ذهاب نفسي ، فسكت معاوية وأعفاه عن ذلك » . ( مواقف الشيعة : 1 / 244 ) .
7 . « قال الأحنف : دخلت على معاوية فقدَّم إليَّ من الحلو والحامض ما كثر تعجبي منه . ثم قدم لوناً ما أدري ما هو فقلت : ما هذا ؟ قال : مصارين البط مَحْشُوَّةٌ بمخاخ العصافير ، قد قُليت بدهن الفستق ، وذُرَّ عليه الطبرزد . فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت علياً ، بينا أنا عنده فحضر وقت إفطاره ، فسألني المقام إذ دعا بجراب مختوم ، قلت : ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير . قلت : خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ قال : لا ولا أحدهما ، ولكني خفت أن يَلِتَّهُ الحسن والحسين بسمن أو زيت . قلت : محرم هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ، ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس ، لئلا يطغى بالفقير فقره ! قال معاوية : ذكرت من لا ينكر فضله » . ( التذكرة الحمدونية / 69 ) .
وفي رواية : فبكى معاوية . . ولا بد أن يكون بكاءه تريأثراً ببكاء الأحنف !
8 . كان الأحنف شجاعاً قائداً ، فقد جعله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أميراً على تميم البصرة كلها في معركة صفين . ( شرح النهج : 4 / 27 ) كما كان له دور قيادي في الفتوحات ، فكان أول من توجه إلى فتح خراسان ، وطارد يزدجرد ، وفتح مرو الروذ وغيرها . ( تاريخ دمشق : 24 / 313 ) . وكان على مقدمة الجيش في فتح هرات ، وطخارستان ، وطالقان ، والجوزجان وغيرها . ( شرح النهج : 4 / 27 ) .
وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ( 1 / 330 ) : « كتب معاوية إلى زياد : أنظر رجلاً يصلح لثغر الهند فولَّه ، فكتب إليه إنّ قبلي رجلين يصلحان لذلك : الأحنف بن قيس ، وسنان بن سلمة الهذلي . فكتب إليه معاوية : بأي يومي الأحنف نكافيه ؟ أبخذلانه أمّ المؤمنين ، أم بسعيه علينا يوم صفّين ؟ فوجه سناناً . فكتب إليه زياد : إن الأحنف قد بلغ من الشرف والحلم والسؤدد ، ما لا تنفعه الولاية ، ولا يضرُّه العزل » !
--------------------------- 48 ---------------------------
بقايا بني تميم في خراسان إلى اليوم !
يوجد إلى اليوم خمس قرى في محافظة خراسان سكانها من بني تميم ، ما زالوا يتكلمون العربية ، وأخبرني بعضهم أن لغتهم يكثر فيها الألفاظ الفارسية كأهل الأهواز ، وهم شيعة جعفرية ، ومنهم علماء وطلبة علم ، وقد رأيت أحدهم في قم ونسيت اسمه . والفخر الأكبر لبني تميم لرئيسهم الأحنف بن قيس رضي الله عنه في عقله الوافر ، وحسن إدارته ، وشجاعته التي ظهرت في فتح خراسان وأفغانستان .
- *
--------------------------- 49 ---------------------------
الفصل الرابع والثلاثون: احتجاجات علي ( عليه السلام ) على أبيبكر وعمر وعثمان
1 . حديث الإمتحانات الربانية السبعة
روى الصدوق في الخصال / 365 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عند منصرفه عن وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي . قال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ؟ قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده ، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ( عليهم السلام ) ، فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء ؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم ؟
فقال له علي ( عليه السلام ) : والله الذي لا إله غيره ، الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرن به ؟ قال : نعم .
قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) لئن أجبتك لتسلمن ؟ قال : نعم ، فقال له علي ( عليه السلام ) : إن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ( عليهم السلام ) في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم ، أمرالأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الأوصياء في أعناق الأمم ممن يقول بطاعة الأنبياء ( عليهم السلام ) ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء وقد أكمل لهم السعادة .
--------------------------- 50 ---------------------------
قال له رأس اليهود : صدقت يا أمير المؤمنين ، فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصيرآخر أمرك ؟
فأخذ علي ( عليه السلام ) بيده وقال : إنهض بنا أنبئك بذلك ، فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولم ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأمور بدت لي من كثير منكم .
فقام إليه الأشتر فقال : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك ، فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الأرض وصي نبي سواك ، وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نبياً سواه ، وأن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا ، فجلس علي ( عليه السلام ) وأقبل على اليهودي فقال : يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني في حياء نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن ، من غير تزكية لنفسي ، بنعمة الله له مطيعاً . قال : فيمَ وفيم يا أمير المؤمنين ؟
قال أما أولهن ، فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سناً ، أخدمه في بيته وأسعى في قضاء بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبد المطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه ، وهجروه ونابذوه ، واعتزلوه واجتنبوه ، وسائر الناس مقصين له ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم تحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ما دعا إليه مسرعاً مطيعاً موقناً ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما
آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله ، وقد فعل .
ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار ، دار الندوة ، وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ، ثم يأتي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد
--------------------------- 51 ---------------------------
فيقتلوه ، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها ، فيمضي دمه هدراً ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالخبر ، وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه ، فمضى ( عليه السلام ) لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس .
ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن ابني ربيعة وابن عتبة وكانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر ، فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع صاحبيَّ ، رضي الله عنهما ، وقد فعل ، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي ، واستشهد ابن عمي في ذلك رحمة الله عليه .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال علي ( عليه السلام ) : وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم ، قد استجاشوا من يليهم من قبايل العرب وقريش ، طالبين بثأر مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، فذهب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعسكر بأصحابه في سد أحد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا إلينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي من الهزيمة ، وبقيت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله عز وجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نيفاً وسبعين جرحة منها هذه
--------------------------- 52 ---------------------------
وهذه ، ثم ألقى ( عليه السلام ) رداءه وأمر يده على جراحاته ، وكان مني في ذلك ما على الله
عز وجل ثوابه إن شاء الله .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضني إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ، فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لا تعدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة ، وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان مني فيهم من النكاية .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فإنا وردنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها ، من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا احمرت الحدق ، ودعيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه . والتفت بعض أصحابي إلي بعض وكل يقول : يا أبا الحسن إنهض ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى دارهم ، فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ،
--------------------------- 53 ---------------------------
حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها حتى أفتتحها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول لله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما توجه لفتح مكة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عز وجل آخراً كما دعاهم أولاً فكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضي به فكلهم يرى التثاقل فيه ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلاً فوجهه به فأتاه جبرئيل فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فأنبأني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة ، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود ، هذه المواطن التي امتحنني فيه ربي عز وجل مع نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجدني فيها كلها بمنه مطيعاً ، ليس لأحد فيها مثل الذي لي ،
ولو شئت لوصفت ذلك ، ولكن الله عز وجل نهى عن التزكية .
فقالوا : يا أمير المؤمنين : صدقت والله ولقد أعطاك الله عز وجل الفضيلة بالقرابة من نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأسعدك بأن جعلك أخاه ، تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها ، والأهوال التي ركبتها ، وذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره ، ومما ليس لأحد من المسلمين مثله ، يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن شهدك بعده .
--------------------------- 54 ---------------------------
فأخبرنا يا أمير المؤمنين ما امتحنك الله عز وجل به بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاحتملته وصبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علماً منا به وظهوراً منا عليه ، إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته ، فأطعته فيه .
فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني بعد وفاة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي منه ونعمته صبوراً .
وأما أولهن يا أخا اليهود ، فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحد آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه ، أو أتقرب به غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، هو رباني صغيراً ، وبوأني كبيراً ، وكفاني العيلة ، وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ، ووقاني المكسب ، وعال لي النفس والولد والأهل ، هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحق ، عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوي على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم ، جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه ، وتغسيله وتحنيطه وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولا جزيل مصيبة حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته ، وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدى إليهم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إذا حضرته والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي
--------------------------- 55 ---------------------------
في شئ من الأمر في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا بعد وفاته ، ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمرأمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم ، وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي . فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية ، وفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالى . فصبرت عليها إذا أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يلقاني معتذراً في
--------------------------- 56 ---------------------------
كل أيامه ويلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ، ويسألني تحليله ! فكنت أقول : تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً ، من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها : نعم ، وفلاناً يقول : لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الإسلام يأتوني عوداً وبدءاً وعلانيةً وسراً ، فيدعوني إلى أخذ حقي ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويداً وصبراً قليلاً ، لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل فقال كل قوم : منا أمير ! وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر ، فلما دنت وفاة القائم ، وانقضت أيامه ، صير الأمر بعده لصاحبه ، فكانت هذه أخت أختها ، ومحلها مني مثل محلها ، وأخذا مني ما جعله الله لي ، فاجتمع إلي من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن مضى وممن بقي ممن أخره الله من اجتمع ، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في أختها ، فلم يَعْدُ قولي الثاني قولي الأول صبراً واحتساباً ويقيناً ، وإشفاقاً من أن تفنى عصبة تألفهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) باللين مرة وبالشدة أخرى ، بالنذر مرة وبالسيف أخرى ، حتى لقد كان من تألُّفِهِ لهم أن كان الناس في الكر والفر والشبع والري واللباس والوطاء والدثار ، ونحن أهل بيت محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لاسقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، ونطوي الليالي والأيام جوعاً عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاءه الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ، ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها ، دون بلوغها أو فناء آجالها ، لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على إحدى منزلتين : إما متبع مقاتل ، وإما مقتول إن لم يتبع الجميع ، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي ، أو أمسك عن طاعتي ،
--------------------------- 57 ---------------------------
وقد علم الله أني منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمنزلة هارون من موسى ، يَحُلُّ به في مخالفتي والإمساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته . ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ، ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب ، أزيد لي في حظي وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم . وكان أمر الله قدراً مقدوراً . ولو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه ، لعلم من مضى من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن بحضرتك منهم ، بأني كنت أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة ، وأكثر في هذا الدين مناقب وآثاراً ، لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، ولقد قبض محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن ولاية الأمة في يده وفي بيته لا في يد الأولى تناولوها ولا في بيوتهم ، ولَأَهْلُ بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ، فلما أن أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه ، في صحة من بدنه ، لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها ، وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت ، فكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوماً أنا سادسهم ولم يستوني بواحد منهم ، ولا ذكر لي حالاً في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا وصير ابنه فيها حاكماً علينا ! وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صير الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره ! وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود
--------------------------- 58 ---------------------------
صبراً ، فمكث القوم أيامهم كلها ، كل يخطب لنفسه ، وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري ، فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي والركون إلى الدنيا ، والاقتداء بالماضين قبلهم ، إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه ، التمس مني شرطاً أن أصيرها له بعدي ! فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ، ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان طمعاً في الشحيح معه فيها ، وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلاً عمن دونهم . لاببدر التي هي سنا فخرهم ، ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن اختصه معه من أهل بيته ، ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه !
ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه ، ومشى إليَّ أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من أختها وأفظع ، وأحرى أن لا يصبر عليها ، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما أمضَّ وأبلغ منها ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجع عما كان ركب مني ! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله عز وجل علي حقي ، فوالله يا أخا اليهود ما منعني إلا الذي منعني من أختيها قبلها ، ورأيت الإبقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي ، ولقد كنت عاهدت الله
--------------------------- 59 ---------------------------
عز وجل ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل ، فأنزل الله فينا : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا . وما سكَّتني عن ابن عفان وحثني على الإمساك عنه ، إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه فضلاً عن الأقارب ، وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك ، لم أنطق فيه بحرف من لا ونعم . ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح في الأرض وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي ، وشديد عادة منتزعة ، فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل !
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلك مني ، وثبوا بالمرأة عليَّ وأنا ولي أمرها ، والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري وتنبح عليها كلاب الحوأب ، وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم عازبة آراؤهم ، وهم جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، ويرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ، ممن إن كففت لم يرجع ولم يعقل ، وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت ، فقدمت الحجة بالأعذار والإنذار ، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي ، والترك لنقضهم عهد الله عز وجل فيَّ ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع وذكرته فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً ، فلما أبوا إلا هي ، ركبتها منهم فكانت عليهم
--------------------------- 60 ---------------------------
الدبرة ، وبهم الهزيمة ، ولهم الحسرة ، وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أولاً من الإغضاء والإمساك ، ورأيتني إن أمسكت كنت معيناً لهم عليَّ بإمساكي على ما صاروا إليه وطمعوا فيه من تناول الأطراف ، وسفك الدماء وقتل الرعية ، وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال ، كعادة بني الأصفر ، ومن مضى من ملوك سبأ والأمم الخالية ، فأصير إلى ما كرهت أولاً وآخراً ، وقد أهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ، ولم أهجم على الأمر إلا بعدما قدمت وأخرت ، وتأنيت وراجعت ، وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ يلتمسوه بعد أن عرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك ، أقدمت عليها ، فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيداً .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فتحكيمهم الحكمين ، ومحاربة ابن آكلة الأكباد وهو طليق معاند لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمؤمنين ، منذ بعث الله محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أن فتح الله عليه مكة عنوة ، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالأمس أول من سلم عليَّ بإمرة المؤمنين ، وجعل يحثني على النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي ، ويجدد لي بيعته كلما أتاني ، وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد رد إلي حقي وأقر في معدنه ، وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعاً وفي أمانة حملناها حاكماً ، كر على العاصي بن العاصي فاستماله فمال إليه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ، وحرام عليه أن يأخذ من الفيئ دون قسمه درهماً ، وحرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، فأقيل يخبط البلاد بالظلم ، ويطأها بالغشم ، فمن بايعه أرضاه ، ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلي ناكثاً علينا مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً ، والأنباء تأتيني والأخبار ترد علي بذلك ، فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن أوليه البلاد التي هو بها لأداريه بما أوليه منها ، وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند الله عز وجل في توليته لي مخرجاً ، وأصبت لنفسي
--------------------------- 61 ---------------------------
في ذلك عذراً ، فأعملت الرأي في ذلك ، وشاورت من أثق بنصيحته لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولي وللمؤمنين ، فإن رأيه في ابن آكلة الأكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ويحذرني أن أدخل في أمر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً ، فوجهت إليه أخا بجيلة مرة وأخا الأشعريين مرة ، كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه ، فلما لم أره يزداد فيما انتهك من محارم الله إلا تمادياً ، شاورت من معي من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) البدريين والذين ارتضى الله عز وجل أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم ، وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين ، فكل يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه مما نالت يده ، وإني نهضت إليه بأصحابي ، أنفذ إليه من كل موضع كتبي وأوجه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه ، والدخول فيما فيه الناس معي ، فكتب يتحكم علي ويتمنى علي الأماني ، ويشترط علي شروطاً لا يرضاها الله عز وجل ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواماً من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبراراً ، فيهم عمار بن ياسر وأين مثل عمار ؟ والله لقد رأيتنا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما يعد منا خمسة إلا كان سادسهم ، ولا أربعة إلا كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم وانتحل دم عثمان ، ولعمر والله ما ألب على عثمان ، ولا جمع الناس على قتله ، إلا هو وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن ، فلما لم أجب إلى ما اشترط من ذلك كر مستعلياً في نفسه بطغيانه ، وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر ، فموه لهم أمراً فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عز وجل بعد الإعذار والإنذار فلما لم يزده ذلك إلا تمادياً وبغياً لقيناه بعادة الله التي عودناه من النصر على أعدائه وعدونا ، وراية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأيدينا ، لم يزل الله تبارك وتعالى يفل حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه ، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل أقاتلها مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في كل المواطن ، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب فركب فرسه وقلب رايته ، لا يدري كيف يحتال فاستعان برأي ابن العاص فأشار عليه بإظهار المصاحف ورفعها على الأعلام
--------------------------- 62 ---------------------------
والدعاء إلى ما فيها ، وقال : إن ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وتقيا ، وقد دعوك إلى كتاب الله أولاً وهم مجيبوك إليه آخراً ، فأطاعه فيما أشار به عليه إذ رأى أنه لا منجى له من القتل أو الهرب غيره ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ، فمالت إلى المصاحف قلوب ومن بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم ، وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم ، وظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه ، فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه ، وأنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا إجابته كرهت أم هويت ، شئت أو أبيت ، حتى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان أو ادفعوه إلى ابن هند برمته .
فجهدت علم الله جهدي ، ولم أدع غلة في نفسي إلا بلغتها في أن يخلوني ورأيي فلم يفعلوا ، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس فلم يجيبوا ، ما خلا هذا الشيخ وأومأ بيده إلى الأشتر وعصبة من أهل بيتي ، فوالله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان ، وأومأ بيده إلى الحسن والحسين ( عليه السلام ) فينقطع نسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذريته من أمته ومخافة أن يقتل هذا وهذا ، وأومأ بيده إلى عبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما فإني أعلم لولا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عز وجل .
فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الأمور ، وتخيروا الأحكام والآراء ، وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ، وما كنت أحكم في دين الله أحداً إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلك أردت أن أحكم رجلاً من أهل بيتي أو رجلا ممن أرضي رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودته ودينه . وأقبلت لا أسمي أحداً إلا امتنع منه ابن هند ولا أدعوه إلى شئ من الحق إلا أدبر عنه ، وأقبل ابن هند يسومنا عسفاً ، وما ذاك إلا باتباع أصحابي له على ذلك ، فلما أبوا إلا غلبتي على التحكيم تبرأت إلى الله عز وجل منهم وفوضت ذلك إليهم فقلدوه امرءً فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها وأظهر المخدوع عليها ندماً .
--------------------------- 63 ---------------------------
ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان عهد إلي أن أقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي ، يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بخلافهم علي ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم لي بقتلهم بالسعادة فلما انصرفت إلى موضعي هذا يعني بعد الحكمين أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ ، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه ، فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لاحكم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة وأخرى بحروراء وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً حتى عبرت دجلة ، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته ، فمن تابعها استحيته ، ومن خالفها قتلته ، فخرجت إلى الأوليين واحدة بعد أخرى أدعوهم إلى طاعة الله عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعهما غير ذلك ، فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل ، فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لولا ما فعلوا ركناً قوياً وسداً منيعاً ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه . ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى ، وكانوا من جلة أصحابي وأهل التعبد منهم ، والزهد في الدنيا ، فأبت إلا اتباع أختيها والاحتذاء على مثالهما وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين ، وتتابعت إليَّ الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة ، أوجه السفراء والنصحاء ، وأطلب العتبي بجهدي بهذا مرة وبهذا مرة ، أومأ بيده إلى الأشتر ، والأحنف بن قيس ، وسعيد بن قيس الأرحبي والأشعث بن قيس الكندي ، فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم ، وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت منهم مخبر ، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى ،
--------------------------- 64 ---------------------------
له ثدي كثدي المرأة .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال ، أليس كذلك ؟ قالوا ، بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود ، وبقيت الأخرى وأوشكْ بها فكأنْ قَدْ . فبكى أصحاب علي ( عليه السلام ) وبكى رأس اليهود وقالوا : ياأميرالمؤمنين أخبرنا بالأخرى ، فقال : الأخرى أن تخضب هذه وأومأ بيده إلى لحيته ، من هذه وأومأ بيده إلى هامته . قال : وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً ، وأسلم رأس اليهود على يدي علي ( عليه السلام ) من ساعته ، ولم يزل مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأُخذ ابن ملجم لعنه الله . فأقبل رأس اليهود حتى وقف على الحسن ( عليه السلام ) والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه فقال له : يا أبا محمد أقتله قتله الله ، فإني رأيت في الكتب التي أنزلت على موسى ( عليه السلام ) أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرماً من ابن آدم قاتل أخيه ، ومن القدار عاقر ناقة ثمود ) .
2 . ملاحظات على حديث الإمتحانات الربانية
1 . يظهر من هذا الحديث سعة اطلاع هذا الحاخام الأكبر عند اليهود ، وصدقه .
2 . دل الحديث على أن إعطاء النبوة والإمامة ، لا تكون إلا بامتحان واستحقاق ، وأن قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للَّنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . قاعدة في جميع الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) .
3 . تضمن كلامه ( عليه السلام ) موجزاً لتاريخ الإسلام ، ولا بد من حمل قوله ( عليه السلام ) : فأجبت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحدي ، على إعلان إسلامه وأن يتفرغ مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للدعوة ، أما أصل الإسلام فقد كان أبو طالب وجعفر وحمزة مسلمين ، لكن لم يعلنوا إسلامهم . لكن يشكل تفسير قوله ( عليه السلام ) : فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي ، أو يشهد لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله ، وقد فعل . فتكون الرواية متفردة بذلك ، ويعارضها المشهور ، وإسلام أبي ذر رضي الله عنه في تلك السنوات .
--------------------------- 65 ---------------------------
4 . قوله ( عليه السلام ) عن مبيته في فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه . يدل على أنه كان يحتمل أنهم يقتلونه ، وقد بينا في محله أن المشركين كانوا يراقبون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أول الليل ، وتواعدوا أن يقتلوه بعد الفجر وكان المطلوب تطمينهم بأنه ما زال في بيته ، لذلك كان الخطرعلى علي ( عليه السلام ) محققاً بأن يقتل أو يجرح ، ولا يصح القول إنه كان يعلم أنه لا يقتل ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره بأن قريشاً لا تنال منه ، في رسالته له من المدينة .
5 . يدل قوله ( عليه السلام ) : فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، على أن حفرالخندق كان بتعليم جبرئيل ( عليه السلام ) ، وقد اشتهر أنه بإرشاد سلمان رضي الله عنه ، ولعل سلمان حدثهم عن استعمال الفرس للخندق في حروبهم ، فنسبوا الخندق اليه .
6 . قوله ( عليه السلام ) في فتح خيبر : ( ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها . . يدل على أن مبارزته لمرحب وأصحابه كانت خارج الحصن ، وأن بقيتهم هربوا إلى الحصن وسدوا بابه عليهم فدحاه صلوات الله عليه ، ثم كانت له معركة مع فرسانهم داخل الحصن ، وأخذ منهم أسرى وأسيرات ، ولا بد أنه كتفهم ووضعهم جانباً ، حتى وصل المسلمون ودخلوا الحصن المفتوح .
7 . كلامه ( عليه السلام ) عن مؤامرة السقيفة أدق كلام لخطتهم ، ومخالفتهم للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ونقضهم بيعته ( عليه السلام ) التي بايعوه بها يوم الغدير ، ومسارعتهم إلى اختلاس الخلافة بدون مشورة أحد ، قال ( عليه السلام ) : ( فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم وأخلوْا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا
--------------------------- 66 ---------------------------
أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاًإلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ) . ففيه مواد شرعية توجب بطلان بيعتهم :
أ - تركهم لمعسكرهم الذي يبعد عن المدينة بضعة كيلومترات بدون إذن أميرهم أسامة ، وهومخالفة تجعل بيعتهم باطلة .
ب - وكذلك تبطل لأنها تناقض بيعتهم لعلي ( عليه السلام ) في الغدير .
ج - وتبطل لأنها بدون مشورة .
د - وتبطل لأنها لم يعلم بها بنو هاشم وأكثر المسلمين .
ه - - مضافاً إلى بطلان البيعة ممن ليس له ولاية على الأمة .
و - ولمن ليس له أهلية للخلافة ، لأن في الأمة من هو أعلم منه .
ز . قوله ( عليه السلام ) : ( فإن القائم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ، ونقض بيعتي ، ويسألني تحليله ) !
أقول : هذه سياسة من أبيبكر ، لأنه محتاج لعلي ( عليه السلام ) في حرب الردة ، خاصة في دفع جيش طليحة الأسدي الذي هاجم المدينة بعد ستين يوماً من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأرسل أبو بكر عثمان مكرراً إلى علي ( عليه السلام ) يقول له : يا ابن عم إن الناس يقولون لا نخرج حتى يخرج علي ، فنهض الإمام ( عليه السلام ) للدفاع عن الإسلام وعاصمته ، كما بينا . وكان أبو بكر يعتذر له بأن عمر أجبره على قبول الخلافة ، وأنه سيوصي بها اليه لكنه لا يستطيع مخالفة عهده لعمر ومن أتوا به ! على أن اليهود سمُّوه لتصل الخلافة إلى عمر لأنه فضل عندهم .
8 . وكذلك كان عمر بحاجة إلى علي ( عليه السلام ) وهو القائل مراراً : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ، والقائل مراراً : لولا علي لهلك عمر . فكان يعده بأنه سيوصي له بالخلافة وعداً سياسياً ليستفيد منه في مشكلات الدولة ، قال ( عليه السلام ) : ( فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها
--------------------------- 67 ---------------------------
فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ) .
وكان هذا ظاهر الأمر ، وإلا فالإمام ( عليه السلام ) يعلم أن قريشاً واليهود قرروا عزل بني هاشم عن الحكم ، وإيصال الخلافة إلى أعدائهم بني أمية ، المفضلين عند قريش واليهود .
9 . يدل قوله ( عليه السلام ) : ( وثبوا بالمرأة عليَّ وأنا ولي أمرها ، والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري ، وتنبح عليها كلاب الحوأب ، وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة ) ! على أنه ( عليه السلام ) ولي أمر نساء النبي بحكم قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وبوصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له بالولاية عليهن .
كما يدل قوله ( عليه السلام ) : ( في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي ) على أن بيعة الغدير قد لزمت أعناق الأمة كلها ، وأن بيعتهم الثانية بعد عثمان مؤكدة لها لا أكثر .
10 . يتضح من وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أتباع الحكام قبله ، أن مستوى الفهم العادي في الأمة كان منخفضاً ، فضلاً عن مستوى الوعي الديني أو السياسي ، ووصفه ( عليه السلام ) أتباع عائشة بأنهم حميرلاعقول لهم ولا بصائر ، قصيرة أيديهم طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم عازبة آراؤهم : يدل على عامية مفرطة ، وجمهور أوباش يساقون على غير هدى ! وهذا يجعلنا نعيد النظر في سلامة التاريخ الذي صنعه هؤلاء العوام بمعاركهم وطاعتهم لقادتهم !
11 . كانت الأمة في أواخرعهده ( عليه السلام ) قد تعبت من الحروب ويبست همتها وإرادتها ، واستسلمت لموجة بني أمية ، ووعود معاوية الكاذبة ، وإلا فلو كان كلامه ( عليه السلام ) مع أمة حية خضراء ، لهبت في طاعته ، وترجمت تصديقها لنبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيه ، بإنهاء أعدائه ، وعزل خصومه . وقد قال علي ( عليه السلام ) لأبيبكرعندما أرادوا إجباره على البيعة ( الإمامة والسياسة ( 1 / 18 ) : « نحن أولى برسول الله حياً وميتاً ، فأنصفونا إن
--------------------------- 68 ---------------------------
كنتم تؤمنون ، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون ! فقال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : إحلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً ! ثم قال : والله يا عمرلا أقبل قولك ولا أبايعه . فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك » .
ولما أوصى أبو بكر لعمر قال له علي ( عليه السلام ) : « حلبت حلباً لك شطره ! بايعته عام أول ، وبايع لك العام » . ( أنساب الأشراف : 10 / 375 ) .
3 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا علم عند الثلاثة ولا جهاد
قال ( عليه السلام ) كما في كتاب سُليم بن قيس الهلالي / 249 : ( ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة ، وضُلالها ، وقادتها وساقتها إلى النار ، لأنهم قد سمعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول عوداً وبدءً : ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ، ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه . وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله . وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا غناء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء . وقد علموا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف ، وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء ، وأحقهم بذلك . وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولايبارز الأبطال ولا يفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شديدة قط ، ولا كربَهُ أمرٌ ، ولا ضيقٌ ، ومستصعبٌ من الأمر ، إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمي عن وجهي ، فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه . ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول ، حيث خصني بذلك ووفقني له .
لم يكن لأبيبكر وعمر أي سابقة في الدين ، وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ، ولامبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة
--------------------------- 69 ---------------------------
تكلم وتَغَيَّر ( أظهر الغيرة ) وأمر ونهى . ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه ، حتى تبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما رآى به من الرعب ، وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي .
وهو القائل يوم الخندق لأصحابه الأربعة : والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك ، حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا . كما قال الله تعالى : وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا . فقال له صاحبه : لا ، ولكن نتخذ صنماً عظيماً نعبده ، لأنا لا نأمن أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ، ولكن يكون هذا الصنم لنا ذخراً ، فإن ظفرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم ، وأعلمناهم أنا لم نفارق ديننا ) .
4 - خطبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في اليوم السابع لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في الكافي ( 8 / 18 ) عن جابر بن يزيد الجعفي ( رحمه الله ) قال : « دخلت على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقلت : يا ابن رسول الله ، قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها ، فقال : يا جابر ألم أُقِفْكَ على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ، ومن أي جهة تفرقوا ؟ قلت : بلى يا ابن رسول الله ، قال : فلا تختلف إذا اختلفوا ! يا جابر : إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أيامه ! يا جابر : إسمع وعِ ، قلت : إذا شئت ، قال : إسمع وعِ وبلغ حيث انتهت بك راحلتك : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن ، وتأليفه فقال :
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي مَنَعَ الأَوْهَامَ أَنْ تَنَالَ إِلَّا وُجُودَه ، وحَجَبَ الْعُقُولَ أَنْ تَتَخَيَّلَ ذَاتَه ، لِامْتِنَاعِهَا مِنَ الشَّبَه والتَّشَاكُلِ ، بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ فِي ذَاتِه ، ولَا يَتَبَعَّضُ بِتَجْزِئَةِ الْعَدَدِ فِي كَمَالِه ، فَارَقَ الأَشْيَاءَ لَا عَلَى اخْتِلَافِ الأَمَاكِنِ ، ويَكُونُ فِيهَا لَا عَلَى وَجْه الْمُمُازَجَةِ ، وعَلِمَهَا لَا بِأَدَاةٍ لَا يَكُونُ الْعِلْمُ إِلَّا بِهَا ، ولَيْسَ بَيْنَه وبَيْنَ مَعْلُومِه عِلْمُ غَيْرِه بِه ، كَانَ عَالِماً بِمَعْلُومِه ، إِنْ قِيلَ كَانَ فَعَلَى تَأْوِيلِ أَزَلِيَّةِ الْوُجُودِ ،
--------------------------- 70 ---------------------------
وإِنْ قِيلَ لَمْ يَزَلْ فَعَلَى تَأْوِيلِ نَفْيِ الْعَدَمِ ، فَسُبْحَانَه وتَعَالَى عَنْ قَوْلِ مَنْ عَبَدَ سِوَاه ، واتَّخَذَ إِلَهاً غَيْرَه ، عُلُوّاً كَبِيراً . نَحْمَدُه بِالْحَمْدِ الَّذِي ارْتَضَاه مِنْ خَلْقِه ، وأَوْجَبَ قَبُولَه عَلَى نَفْسِه . وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه ، شَهَادَتَانِ تَرْفَعَانِ الْقَوْلَ ، وتُضَاعِفَانِ الْعَمَلَ . خَفَّ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْه ، وثَقُلَ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيه ، وبِهِمَا الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ والنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ ، والْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ . وبِالشَّهَادَةِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وبِالصَّلَاةِ تَنَالُونَ الرَّحْمَةَ . أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّكُمْ : إِنَّ الله ومَلائِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه وسَلِّمُوا تَسْلِيماً . صَلَّى الله عَلَيْه وآلِه وسَلَّمَ تَسْلِيماً .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الإسلام ، ولَا كَرَمَ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوَى ، ولَا مَعْقِلَ أَحْرَزُ مِنَ الْوَرَعِ ، ولَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ ، ولَا لِبَاسَ أَجْمَلُ مِنَ الْعَافِيَةِ ، ولَا وِقَايَةَ أَمْنَعُ مِنَ السَّلَامَةِ ، ولَا مَالَ أَذْهَبُ بِالْفَاقَةِ مِنَ الرِّضَا بِالْقَنَاعَةِ ، ولَاكَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقُنُوعِ ، ومَنِ اقْتَصَرَعَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ ، وتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ ، والرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ التَّعَبِ ، والِاحْتِكَارُ مَطِيَّةُ النَّصَبِ ، والْحَسَدُ آفَةُ الدِّينِ ، والْحِرْصُ دَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ ، وهُوَ دَاعِي الْحِرْمَانِ . والْبَغْيُ سَائِقٌ إِلَى الْحَيْنِ ، والشَّرَه جَامِعٌ لِمَسَاوِي الْعُيُوبِ ، رُبَّ طَمَعٍ خَائِبٍ ، وأَمَلٍ كَاذِبٍ ، ورَجَاءٍ يُؤَدِّي إِلَى الْحِرْمَانِ ، وتِجَارَةٍ تَؤُولُ إِلَى الْخُسْرَانِ . أَلَا ومَنْ تَوَرَّطَ فِي الأُمُورِ غَيْرَ نَاظِرٍ فِي الْعَوَاقِبِ ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمُفْضِحَاتِ النَّوَائِبِ ، وبِئْسَتِ الْقِلَادَةُ الذَّنْبُ لِلْمُؤْمِنِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا كَنْزَ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ ، ولَا عِزَّ أَرْفَعُ مِنَ الْحِلْمِ ، ولَا حَسَبَ أَبْلَغُ مِنَ الأَدَبِ ، ولَا نَصَبَ أَوْضَعُ مِنَ الْغَضَبِ ، ولَا جَمَالَ أَزْيَنُ مِنَ الْعَقْلِ ، ولَا سَوْأَةَ أَسْوَأُ مِنَ الْكَذِبِ ، ولَا حَافِظَ أَحْفَظُ مِنَ الصَّمْتِ ، ولَا غَائِبَ أَقْرَبُ مِنَ الْمَوْتِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِه اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِه ، ومَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ الله لَمْ يَأْسَفْ عَلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِه ، ومَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِه ، ومَنْ حَفَرَ لأَخِيه بِئْراً وَقَعَ فِيهَا ، ومَنْ هَتَكَ حِجَابَ غَيْرِه انْكَشَفَت عَوْرَاتُ بَيْتِه ، ومَنْ نَسِيَ زَللَهُ اسْتَعْظَمَ زَلَلَ غَيْرِه ، ومَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِه ضَلَّ ، ومَنِ اسْتَغْنَى بِعَقْلِه زَلَّ ، ومَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ ،
--------------------------- 71 ---------------------------
ومَنْ سَفِه عَلَى النَّاسِ شُتِمَ ، ومَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ حُقِّرَ ، ومَنْ حَمَلَ مَا لَا يُطِيقُ عَجَزَ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا مَالَ هُوَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ ، ولَا فَقْرَ هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ ، ولَا وَاعِظَ هُوَ أَبْلَغُ مِنَ النُّصْحِ . ولَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، ولَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ ، ولَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ ، ولَا وَحْشَةَ أَشَدُّ مِنَ الْعُجْبِ ، ولَا وَرَعَ كَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ ، ولَا حِلْمَ كَالصَّبْرِ والصَّمْتِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : فِي الإِنْسَانِ عَشْرُ خِصَالٍ يُظْهِرُهَا لِسَانُه : شَاهِدٌ يُخْبِرُ عَنِ الضَّمِيرِ ، حَاكِمٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخِطَابِ ، ونَاطِقٌ يُرَدُّ بِه الْجَوَابُ ، وشَافِعٌ يُدْرَكُ بِه الْحَاجَةُ ، ووَاصِفٌ يُعْرَفُ بِه الأَشْيَاءُ ، وأَمِيرٌ يَأْمُرُ بِالْحَسَنِ ، ووَاعِظٌ يَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ ، ومُعَزٍّ تُسَكَّنُ بِه الأَحْزَانُ ، وحَاضِرٌ تُجْلَى بِه الضَّغَائِنُ ، ومُونِقٌ تَلْتَذُّ بِه الأَسْمَاعُ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ ، كَمَا أَنَّه لَا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ ، واعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّه مَنْ لَمْ يَمْلِكْ لِسَانَه يَنْدَمْ ، ومَنْ لَا يَعْلَمْ يَجْهَلْ ، ومَنْ لَا يَتَحَلَّمْ لَا يَحْلُمْ ، ومَنْ لَا يَرْتَدِعْ لَا يَعْقِلْ ، ومَنْ لَا يَعْلَمْ يُهَنْ ، ومَنْ يُهَنْ لَا يُوَقَّرْ ، ومَنْ لَا يُوَقَّرْ يَتَوَبَّخْ ، ومَنْ يَكْتَسِبْ مَالاً مِنْ غَيْرِ حَقِّه يَصْرِفْه فِي غَيْرِ أَجْرِه ، ومَنْ لَا يَدَعْ وهُوَ مَحْمُودٌ يَدَعْ وهُوَ مَذْمُومٌ ، ومَنْ لَمْ يُعْطِ قَاعِداً مُنِعَ قَائِماً ، ومَنْ يَطْلُبِ الْعِزَّ بِغَيْرِ حَقٍّ يَذِلَّ ، ومَنْ يَغْلِبْ بِالْجَوْرِ يُغْلَبْ ، ومَنْ عَانَدَ الْحَقَّ لَزِمَه الْوَهْنُ ، ومَنْ تَفَقَّه وُقِّرَ ، ومَنْ تَكَبَّرَ حُقِّرَ ، ومَنْ لَا يُحْسِنْ لَا يُحْمَدْ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ الْمَنِيَّةَ قَبْلَ الدَّنِيَّةِ ، والتَّجَلُّدَ قَبْلَ التَّبَلُّدِ ، والْحِسَابَ قَبْلَ الْعِقَابِ ، والْقَبْرَ خَيْرٌ مِنَ الْفَقْرِ ، وغَضَّ الْبَصَرِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّظَرِ ، والدَّهْرَ يَوْمٌ لَكَ ويَوْمٌ عَلَيْكَ ، فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ ، وإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ ، فَبِكِلَيْهِمَا تُمْتَحَنُ .
أَيُّهَا النَّاسُ : أَعْجَبُ مَا فِي الإِنْسَانِ قَلْبُه ، ولَه مَوَادُّ مِنَ الْحِكْمَةِ وأَضْدَادٌ مِنْ خِلَافِهَا ، فَإِنْ سَنَحَ لَه الرَّجَاءُ أَذَلَّه الطَّمَعُ ، وإِنْ هَاجَ بِه الطَّمَعُ أَهْلَكَه الْحِرْصُ ، وإِنْ مَلَكَه الْيَأْسُ قَتَلَه الأَسَفُ ، وإِنْ عَرَضَ لَه الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِه الْغَيْظُ ، وإِنْ أُسْعِدَ بِالرِّضَى نَسِيَ التَّحَفُّظَ ، وإِنْ نَالَه الْخَوْفُ شَغَلَه الْحَذَرُ ، وإِنِ اتَّسَعَ لَه الأَمْنُ اسْتَلَبَتْه الْغِرَّةُ ، وإِنْ جُدِّدَتْ لَه نِعْمَةٌ أَخَذَتْه الْعِزَّةُ ، وإِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاه الْغِنَى ،
--------------------------- 72 ---------------------------
وإِنْ عَضَّتْه فَاقَةٌ شَغَلَه الْبَلَاءُ ، وإِنْ أَصَابَتْه مُصِيبَةٌ فَضَحَه الْجَزَعُ ، وإِنْ أَجْهَدَه الْجُوعُ قَعَدَ بِه الضَّعْفُ ، وإِنْ أَفْرَطَ فِي الشِّبَعِ كَظَّتْه الْبِطْنَةُ . فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِه مُضِرٌّ ، وكُلُّ إِفْرَاطٍ لَه مُفْسِدٌ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه مَنْ قَلَّ ذَلَّ ، ومَنْ جَادَ سَادَ ، ومَنْ كَثُرَ مَالُه رَؤُسَ ، ومَنْ كَثُرَ حِلْمُه نَبُلَ ، ومَنْ أَفْكَرَ فِي ذَاتِ الله تَزَنْدَقَ ، ومَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيئٍ عُرِفَ بِه ، ومَنْ كَثُرَ مِزَاحُه اسْتُخِفَّ بِه ، ومَنْ كَثُرَ ضِحْكُه ذَهَبَتْ هَيْبَتُه . فَسَدَ حَسَبُ مَنْ لَيْسَ لَه أَدَبٌ . إِنَّ أَفْضَلَ الْفِعَالِ صِيَانَةُ الْعِرْضِ بِالْمَالِ . لَيْسَ مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ بِذِي مَعْقُولٍ ، مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ فَلْيَسْتَعِدَّ لِقِيلٍ وقَالٍ . لَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْمَوْتِ غَنِيٌّ بِمَالِه ، ولَا فَقِيرٌ لإِقْلَالِه .
أَيُّهَا النَّاسُ : لَوْ أَنَّ الْمَوْتَ يُشْتَرَى ، لَاشْتَرَاه مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا الْكَرِيمُ الأَبْلَجُ ، واللَّئِيمُ الْمَلَهْوَجُ
[ غير الناضج ] .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَوَاهِدَ : تُجْرِي الأَنْفُسَ عَنْ مَدْرَجَةِ أَهْلِ التَّفْرِيطِ ، وفِطْنَةُ الْفَهْمِ لِلْمَوَاعِظِ مَا يَدْعُو النَّفْسَ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْخَطَرِ ، ولِلْقُلُوبِ خَوَاطِرَ لِلْهَوَى . والْعُقُولُ تَزْجُرُ وتَنْهَى ، وفِي التَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَأْنَفٌ ، والِاعْتِبَارُ يَقُودُ إِلَى الرَّشَادِ ، وكَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ مَا تَكْرَهُه لِغَيْرِكَ ، وعَلَيْكَ لأَخِيكَ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ الَّذِي لَكَ عَلَيْه . لَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِه ، والتَّدَبُّرُ قَبْلَ الْعَمَلِ ، فَإِنَّه يُؤْمِنُكَ مِنَ النَّدَمِ ، ومَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوه الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأِ ، ومَنْ أَمْسَكَ عَنِ الْفُضُولِ عَدَلَتْ رَأْيَه الْعُقُولُ ، ومَنْ حَصَّنَ شَهْوَتَه فَقَدْ صَانَ قَدْرَه ، ومَنْ أَمْسَكَ لِسَانَه أَمِنَه قَوْمُه ونَالَ حَاجَتَه ، وفِي تَقَلُّبِ الأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ ، والأَيَّامُ تُوضِحُ لَكَ السَّرَائِرَ الْكَامِنَةَ ، ولَيْسَ فِي الْبَرْقِ الْخَاطِفِ مُسْتَمْتَعٌ لِمَنْ يَخُوضُ فِي الظُّلْمَةِ ، ومَنْ عُرِفَ بِالْحِكْمَةِ لَحَظَتْه الْعُيُونُ بِالْوَقَارِ والْهَيْبَةِ ، وأَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى ، والصَّبْرُ جُنَّةٌ مِنَ الْفَاقَةِ ، والْحِرْصُ عَلَامَةُ الْفَقْرِ ، والْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ ، والْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ ، ووَصُولٌ مُعْدِمٌ خَيْرٌ مِنْ جَافٍ مُكْثِرٍ ، والْمَوْعِظَةُ كَهْفٌ لِمَنْ وَعَاهَا ، ومَنْ أَطْلَقَ طَرْفَه كَثُرَ أَسَفُه ، وقَدْ أَوْجَبَ الدَّهْرُ شُكْرَه عَلَى مَنْ نَالَ سُؤْلَه ، وقَلَّ مَا يُنْصِفُكَ اللِّسَانُ فِي نَشْرِ قَبِيحٍ أَوْ إِحْسَانٍ ، ومَنْ ضَاقَ خُلُقُه مَلَّه أَهْلُه ، ومَنْ نَالَ اسْتَطَالَ ، وقَلَّ مَا تَصْدُقُكَ الأُمْنِيَّةُ ، والتَّوَاضُعُ يَكْسُوكَ الْمَهَابَةَ ، وفِي
--------------------------- 73 ---------------------------
سَعَةِ الأَخْلَاقِ كُنُوزُ الأَرْزَاقِ . كَمْ مِنْ عَاكِفٍ عَلَى ذَنْبِه فِي آخِرِ أَيَّامِ عُمُرِه ، ومَنْ كَسَاه الْحَيَاءُ ثَوْبَه خَفِيَ عَلَى النَّاسِ عَيْبُه . وانْحُ الْقَصْدَ مِنَ الْقَوْلِ ، فَإِنَّ مَنْ تَحَرَّى الْقَصْدَ خَفَّتْ عَلَيْه الْمُؤَنُ ، وفِي خِلَافِ النَّفْسِ رُشْدُكَ . مَنْ عَرَفَ الأَيَّامَ لَمْ يَغْفُلْ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ . أَلَا وإِنَّ مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقاً ، وإِنَّ فِي كُلِّ أُكْلَةٍ غَصَصاً ، لَا تُنَالُ نِعْمَةٌ إِلَّا بِزَوَالِ أُخْرَى . ولِكُلِّ ذِي رَمَقٍ قُوتٌ ، ولِكُلِّ حَبَّةٍ آكِلٌ ، وأَنْتَ قُوتُ الْمَوْتِ .
إعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ : أَنَّه مَنْ مَشَى عَلَى وَجْه الأَرْضِ فَإِنَّه يَصِيرُ إِلَى بَطْنِهَا ، واللَّيْلُ والنَّهَارُ يَتَسَارَعَانِ فِي هَدْمِ الأَعْمَارِ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ : كُفْرُ النِّعْمَةِ لُؤْمٌ ، وصُحْبَةُ الْجَاهِلِ شُؤْمٌ ، إِنَّ مِنَ الْكَرَمِ لِينَ الْكَلَامِ ، ومِنَ الْعِبَادَةِ إِظْهَارَ اللِّسَانِ ، وإِفْشَاءَ السَّلَامِ . إِيَّاكَ والْخَدِيعَةَ فَإِنَّهَا مِنْ خُلُقِ اللَّئِيمِ . لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ ، ولَا كُلُّ غَائِبٍ يَؤُوبُ . لَا تَرْغَبْ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ . رُبَّ بَعِيدٍ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ . سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ ، وعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ . أَلَا ومَنْ أَسْرَعَ فِي الْمَسِيرِ أَدْرَكَه الْمَقِيلُ . أسْتُرْ عَوْرَةَ أَخِيكَ كَمَا تَعْلَمُهَا فِيكَ . اغْتَفِرْ زَلَّةَ صَدِيقِكَ لِيَوْمِ يَرْكَبُكَ عَدُوُّكَ . مَنْ غَضِبَ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرِّه طَالَ حُزْنُه وعَذَّبَ نَفْسَه . مَنْ خَافَ رَبَّه كَفَّ ظُلْمَه . ومَنْ لَمْ يَزِغْ فِي كَلَامِه أَظْهَرَ فَخْرَه ، ومَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ . إِنَّ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةَ الزَّادِ . مَا أَصْغَرَ الْمُصِيبَةَ مَعَ عِظَمِ الْفَاقَةِ غَداً ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ . ومَا تَنَاكَرْتُمْ إِلَّا لِمَا فِيكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي والذُّنُوبِ ، فَمَا أَقْرَبَ الرَّاحَةَ مِنَ التَّعَبِ ، والْبُؤْسَ مِنَ النَّعِيمِ . ومَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَه الْجَنَّةُ ، ومَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَه النَّارُ ، وكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ مَحْقُورٌ ، وكُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ . وعِنْدَ تَصْحِيحِ الضَّمَائِرِ تُبْدُو الْكَبَائِرُ . تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ ، وتَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنَ الْفَسَادِ أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الْجِهَادِ . هَيْهَاتَ لَوْ لَا التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ الله تَعَالَى وَعَدَ نَبِيَّه مُحَمَّداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الْوَسِيلَةَ ، ووَعْدُه الْحَقُّ ، ولَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَه ، أَلَا وإِنَّ الْوَسِيلَةَ أَعْلَى دَرَجِ الْجَنَّةِ ، وذِرْوَةُ ذَوَائِبِ الزُّلْفَةِ ، ونِهَايَةُ غَايَةِ الأُمْنِيَّةِ ، لَهَا أَلْفُ مِرْقَاةٍ ، مَا بَيْنَ الْمِرْقَاةِ إِلَى الْمِرْقَاةِ حُضْرُ الْفَرَسِ الْجَوَادِ مِائَةَ
--------------------------- 74 ---------------------------
عَامٍ ، وهُوَ مَا بَيْنَ مِرْقَاةِ دُرَّةٍ إِلَى مِرْقَاةِ جَوْهَرَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ زَبَرْجَدَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ لُؤْلُؤَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ يَاقُوتَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ زُمُرُّدَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ مَرْجَانَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ كَافُورٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ عَنْبَرٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ يَلَنْجُوجٍ [ عود طيب الريح ] إِلَى مِرْقَاةِ ذَهَبٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ غَمَامٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ هَوَاءٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ نُورٍ . قَدْ أَنَافَتْ عَلَى كُلِّ الْجِنَانِ ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يَوْمَئِذٍ قَاعِدٌ عَلَيْهَا مُرْتَدٍ بِرَيْطَتَيْنِ ، رَيْطَةٍ مِنْ رَحْمَةِ الله ، ورَيْطَةٍ مِنْ نُورِالله [ ثوب رقيق لين ] عَلَيْه تَاجُ النُّبُوَّةِ ، وإِكْلِيلُ الرِّسَالَةِ ، قَدْ أَشْرَقَ بِنُورِه الْمَوْقِفُ . وأَنَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ ، وهِيَ دُونَ دَرَجَتِه ، وعَلَيَّ رَيْطَتَانِ : رَيْطَةٌ مِنْ أُرْجُوَانِ النُّورِ ، ورَيْطَةٌ مِنْ كَافُورٍ ، والرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ ( عليهم السلام ) قَدْ وَقَفُوا عَلَى الْمَرَاقِي ، وأَعْلَامُ الأَزْمِنَةِ وحُجَجُ الدُّهُورِ [ الأوصياء ] عَنْ أَيْمَانِنَا ، وقَدْ تَجَلَّلَهُمْ حُلَلُ النُّورِ والْكَرَامَةِ ، لَا يَرَانَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا بُهِتَ بِأَنْوَارِنَا ، وعَجِبَ مِنْ ضِيَائِنَا وجَلَالَتِنَا . وعَنْ يَمِينِ الْوَسِيلَةِ عَنْ يَمِينِ الرَّسُولِ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غَمَامَةٌ بَسْطَةَ الْبَصَرِ ، يَأْتِي مِنْهَا النِّدَاءُ : يَا أَهْلَ الْمَوْقِفِ طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّ الْوَصِيَّ ، وآمَنَ بِالنَّبِيِّ الأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ ، ومَنْ كَفَرَ فَالنَّارُ مَوْعِدُه . وعَنْ يَسَارِ الْوَسِيلَةِ عَنْ يَسَارِ الرَّسُولِ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ظُلَّةٌ ، يَأْتِي مِنْهَا النِّدَاءُ : يَا أَهْلَ الْمَوْقِفِ طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّ الْوَصِيَّ وآمَنَ بِالنَّبِيِّ الأُمِّيِّ ، والَّذِي لَه الْمُلْكُ الأَعْلَى ، لَا فَازَ أَحَدٌ ولَا نَالَ الرَّوْحَ والْجَنَّةَ إِلَّامَنْ لَقِيَ خَالِقَه بِالإِخْلَاصِ لَهُمَا ، والِاقْتِدَاءِ بِنُجُومِهِمَا .
فَأَيْقِنُوا يَا أَهْلَ وَلَايَةِ الله بِبَيَاضِ وُجُوهِكُمْ ، وشَرَفِ مَقْعَدِكُمْ ، وكَرَمِ مَآبِكُمْ ، وبِفَوْزِكُمُ الْيَوْمَ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ . ويَا أَهْلَ الِانْحِرَافِ والصُّدُودِ عَنِ الله عَزَّ ذِكْرُه ، ورَسُولِه وصِرَاطِه وأَعْلَامِ الأَزْمِنَةِ ، أَيْقِنُوا بِسَوَادِ وُجُوهِكُمْ وغَضَبِ رَبِّكُمْ ، جَزَاءً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
ومَا مِنْ رَسُولٍ سَلَفَ ولَا نَبِيٍّ مَضَى ، إِلَّا وقَدْ كَانَ مُخْبِراً أُمَّتَه بِالْمُرْسَلِ الْوَارِدِ مِنْ بَعْدِه ومُبَشِّراً بِرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومُوصِياً قَوْمَه بِاتِّبَاعِه ، ومُحَلِّيَه عِنْدَ قَوْمِه لِيَعْرِفُوه بِصِفَتِه ، ولِيَتَّبِعُوه عَلَى شَرِيعَتِه ، ولِئَلَّا يَضِلُّوا فِيه مِنْ بَعْدِه ، فَيَكُونَ مَنْ هَلَكَ أَوْ ضَلَّ بَعْدَ وُقُوعِ الإِعْذَارِ والإِنْذَارِ ، عَنْ بَيِّنَةٍ وتَعْيِينِ حُجَّةٍ . فَكَانَتِ الأُمَمُ فِي رَجَاءٍ مِنَ الرُّسُلِ ، ووُرُودٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ، ولَئِنْ أُصِيبَتْ بِفَقْدِ نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ ، عَلَى عِظَمِ مَصَائِبِهِمْ وفَجَائِعِهَا بِهِمْ ، فَقَدْ
--------------------------- 75 ---------------------------
كَانَتْ عَلَى سَعَةٍ مِنَ الأَمَلِ ، ولَا مُصِيبَةٌ عَظُمَتْ ولَا رَزِيَّةٌ جَلَّتْ كَالْمُصِيبَةِ بِرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لأَنَّ الله خَتَمَ بِه الإِنْذَارَ والإِعْذَارَ ، وقَطَعَ بِه الِاحْتِجَاجَ والْعُذْرَ بَيْنَه وبَيْنَ خَلْقِه ، وجَعَلَه بَابَه الَّذِي بَيْنَه وبَيْنَ عِبَادِه ، ومُهَيْمِنَه الَّذِي لَا يَقْبَلُ إِلَّا بِه ، ولَا قُرْبَةَ إِلَيْه إِلَّا بِطَاعَتِه ، وقَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِه : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ، ومَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً . فَقَرَنَ طَاعَتَه بِطَاعَتِه ومَعْصِيَتَه بِمَعْصِيَتِه ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى مَا فَوَّضَ إِلَيْه ، وشَاهِداً لَه عَلَى مَنِ اتَّبَعَه وعَصَاه ، وبَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ ، فَقَالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فِي التَّحْرِيضِ عَلَى اتَّبَاعِه والتَّرْغِيبِ فِي تَصْدِيقِه والْقَبُولِ بِدَعْوَتِه : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ .
فَاتِّبَاعُه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مَحَبَّةُ الله ، ورِضَاه غُفْرَانُ الذُّنُوبِ ، وكَمَالُ الْفَوْزِ ، ووُجُوبُ الْجَنَّةِ . وفِي التَّوَلِّي عَنْه والإِعْرَاضِ مُحَادَّةُ الله وغَضَبُه وسَخَطُه ، والْبُعْدُ مِنْه مُسْكِنُ النَّارِ ، وذَلِكَ قَوْلُه : ومَنْ يَكْفُرْ بِه مِنَ الأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه ، يَعْنِي الْجُحُودَ بِه والْعِصْيَانَ لَه ، فَإِنَّ الله تَبَارَكَ اسْمُه امْتَحَنَ بِي عِبَادَه ، وقَتَلَ بِيَدِي أَضْدَادَه ، وأَفْنَى بِسَيْفِي جُحَّادَه ، وجَعَلَنِي زُلْفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وحِيَاضَ مَوْتٍ عَلَى الْجَبَّارِينَ ، وسَيْفَه عَلَى الْمُجْرِمِينَ ، وشَدَّ بِي أَزْرَ رَسُولِه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأَكْرَمَنِي بِنَصْرِه ، وشَرَّفَنِي بِعِلْمِه ، وحَبَانِي بِأَحْكَامِه ، واخْتَصَّنِي بِوَصِيَّتِه ، واصْطَفَانِي بِخِلَافَتِه فِي أُمَّتِه ، فَقَالَ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقَدْ حَشَدَه الْمُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ ، وانْغَصَّتْ بِهِمُ الْمَحَافِلُ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ عَلِيّاً مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ مُوسَى ، إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي ، فَعَقَلَ الْمُؤْمِنُونَ عَنِ الله نُطْقَ الرَّسُولُ ، إِذْ عَرَفُونِي أَنِّي لَسْتُ بِأَخِيه لأَبِيه وأُمِّه ، كَمَا كَانَ هَارُونُ أَخَا مُوسَى لأَبِيه وأُمِّه ، ولَا كُنْتُ نَبِيّاً فَاقْتَضَى نُبُوَّةً ، ولَكِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْه اسْتِخْلَافاً لِي ، كَمَا اسْتَخْلَفَ مُوسَى هَارُونَ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حَيْثُ يَقُولُ : أخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأَصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ .
وقَوْلُه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حِينَ تَكَلَّمَتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ نَحْنُ مَوَالِي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فَخَرَجَ رَسُولُ الله إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، ثُمَّ صَارَ إِلَى غَدِيرِخُمٍّ ، فَأَمَرَ فَأُصْلِحَ لَه شِبْه الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ عَلَاه وأَخَذَ بِعَضُدِي حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْه رَافِعاً صَوْتَه قَائِلاً فِي
--------------------------- 76 ---------------------------
مَحْفِلِه : مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه . فَكَانَتْ عَلَى وَلَايَتِي وَلَايَةُ الله ، وعَلَى عَدَاوَتِي عَدَاوَةُ الله ، وأَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ، فَكَانَتْ وَلَايَتِي كَمَالَ الدِّينِ ورِضَا الرَّبِّ جَلَّ ذِكْرُه ، وأَنْزَل الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اخْتِصَاصاً لِي وتَكَرُّماً نَحَلَنِيه ، وإِعْظَاماً وتَفْصِيلاً مِنْ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مَنَحَنِيه ، وهُوَ قَوْلُه تَعَالَى : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَه الْحُكْمُ وهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ .
في مَنَاقِبُ لَوْ ذَكَرْتُهَا لَعَظُمَ بِهَا الِارْتِفَاعُ ، فَطَالَ لَهَا الِاسْتِمَاعُ .
ولَئِنْ تَقَمَّصَهَا دُونِيَ الأَشْقَيَانِ ، ونَازَعَانِي فِيمَا لَيْسَ لَهُمَا بِحَقٍّ ، ورَكِبَاهَا ضَلَالَةً ، واعْتَقَدَاهَا جَهَالَةً ، فَلَبِئْسَ مَا عَلَيْه وَرَدَا ، ولَبِئْسَ مَا لأَنْفُسِهِمَا مَهَّدَا ، يَتَلَاعَنَانِ فِي دُورِهِمَا ، ويَتَبَرَّأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِه يَقُولُ لِقَرِينِه إِذَا الْتَقَيَا : يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ، فَيُجِيبُه الأَشْقَى عَلَى رُثُوثَةٍ : يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْكَ خَلِيلاً لَقَدْ أَضْلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً .
فَأَنَا الذِّكْرُ الَّذِي عَنْه ضَلَّ ، والسَّبِيلُ الَّذِي عَنْه مَالَ ، والإِيمَانُ الَّذِي بِه كَفَرَ ، والْقُرْآنُ الَّذِي إِيَّاه هَجَرَ ، والدِّينُ الَّذِي بِه كَذَّبَ ، والصِّرَاطُ الَّذِي عَنْه نَكَبَ . ولَئِنْ رَتَعَا فِي الْحُطَامِ الْمُنْصَرِمِ ، والْغُرُورِ الْمُنْقَطِعِ ، وكَانَا مِنْه عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ، لهمَا عَلَى شَرِّ وُرُودٍ ، فِي أَخْيَبِ وُفُودٍ ، وأَلْعَنِ مَوْرُودٍ ، يَتَصَارَخَانِ بِاللَّعْنَةِ ، ويَتَنَاعَقَانِ بِالْحَسْرَةِ ، مَا لَهُمَا مِنْ رَاحَةٍ ، ولَا عَنْ عَذَابِهِمَا مِنْ مَنْدُوحَةٍ . إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَزَالُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ ، وسَدَنَةَ أَوْثَانٍ ، يُقِيمُونَ لَهَا الْمَنَاسِكَ ، ويَنْصِبُونَ لَهَا الْعَتَائِرَ ، ويَتَّخِذُونَ لَهَا الْقُرْبَانَ ، ويَجْعَلُونَ لَهَا الْبَحِيرَةَ والْوَصِيلَةَ والسَّائِبَةَ والْحَامَ ، ويَسْتَقْسِمُونَ بِالأَزْلَامِ ، عَامِهِينَ عَنِ الله عَزَّ ذِكْرُه ، حَائِرِينَ عَنِ الرَّشَادِ ، مُهْطِعِينَ إِلَى الْبِعَادِ ، وقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، وغَمَرَتْهُمْ سَوْدَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ ، ورَضَعُوهَا جَهَالَةً ، وانْفَطَمُوهَا ضَلَالَةً ، فَأَخْرَجَنَا الله إِلَيْهِمْ رَحْمَةً ، وأَطْلَعَنَا عَلَيْهِمْ رَأْفَةً ، وأَسْفَرَ بِنَا عَنِ الْحُجُبِ نُوراً لِمَنِ اقْتَبَسَه ، وفَضْلاً لِمَنِ اتَّبَعَه ، وتَأْيِيداً لِمَنْ صَدَّقَه ، فَتَبَوَّؤُوا الْعِزَّ بَعْدَ الذِّلَّةِ ، والْكَثْرَةَ بَعْدَ الْقِلَّةِ ، وهَابَتْهُمُ الْقُلُوبُ والأَبْصَارُ ، وأَذْعَنَتْ لَهُمُ الْجَبَابِرَةُ وطَوَائِفُهَا ، وصَارُوا أَهْلَ نِعْمَةٍ مَذْكُورَةٍ ، وكَرَامَةٍ مَيْسُورَةٍ ، وأَمْنٍ
--------------------------- 77 ---------------------------
بَعْدَ خَوْفٍ ، وجَمْعٍ بَعْدَ كَوْفٍ ، وأَضَاءَتْ بِنَا مَفَاخِرُ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ ، وأَوْلَجْنَاهُمْ بَابَ الْهُدَى ، وأَدْخَلْنَاهُمْ دَارَ السَّلَامِ ، وأَشْمَلْنَاهُمْ ثَوْبَ الإِيمَانِ ، وفَلَجُوا بِنَا فِي الْعَالَمِينَ ، وأَبْدَتْ لَهُمْ أَيَّامُ الرَّسُولِ آثَارَ الصَّالِحِينَ ، مِنْ حَامٍ مُجَاهِدٍ ، ومُصَلٍّ قَانِتٍ ، ومُعْتَكِفٍ زَاهِدٍ ، يُظْهِرُونَ الأَمَانَةَ ، ويَأْتُونَ الْمَثَابَةَ . حَتَّى إِذَا دَعَا الله عَزَّ وجَلَّ نَبِيَّه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورَفَعَه إِلَيْه ، لَمْ يَكُ ذَلِكَ بَعْدَه إِلَّا كَلَمْحَةٍ مِنْ خَفْقَةٍ ، أَوْ وَمِيضٍ مِنْ بَرْقَةٍ ، إِلَى أَنْ رَجَعُوا عَلَى الأَعْقَابِ ، وانْتَكَصُوا عَلَى الأَدْبَارِ وطَلَبُوا بِالأَوْتَارِ ، وأَظْهَرُوا الْكَتَائِبَ ، ورَدَمُوا الْبَابَ ، وفَلُّوا الدِّيَارَ ، وغَيَّرُوا آثَارَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورَغِبُوا عَنْ أَحْكَامِه ، وبَعُدُوا مِنْ أَنْوَارِه ، واسْتَبْدَلُوا بِمُسْتَخْلَفِه بَدِيلاً اتَّخَذُوه ، وكَانُوا ظَالِمِينَ ، وزَعَمُوا أَنَّ مَنِ اخْتَارُوا مِنْ آلِ أَبِي قُحَافَةَ أَوْلَى بِمَقَامِ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مِمَّنِ اخْتَارَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لِمَقَامِه ، وأَنَّ مُهَاجِرَ آلِ أَبِي قُحَافَةَ خَيْرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيِّ الرَّبَّانِيِّ ، نَامُوسِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
أَلَا وإِنَّ أَوَّلَ شَهَادَةِ زُورٍ وَقَعَتْ فِي الإسلام شَهَادَتُهُمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ مُسْتَخْلَفُ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مَا كَانَ ، رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وقَالُوا إِنَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مَضَى ولَمْ يَسْتَخْلِفْ ، فَكَانَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الطَّيِّبُ الْمُبَارَكُ ، أَوَّلَ مَشْهُودٍ عَلَيْه بِالزُّورِ فِي الإسلام ، وعَنْ قَلِيلٍ يَجِدُونَ غِبَّ مَا يَعْلَمُونَ ، وسَيَجِدُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَه الأَوَّلُونَ . ولَئِنْ كَانُوا فِي مَنْدُوحَةٍ مِنَ الْمَهْلِ ، وشِفَاءٍ مِنَ الأَجَلِ ، وسَعَةٍ مِنَ الْمُنْقَلَبِ واسْتِدْرَاجٍ مِنَ الْغُرُورِ ، وسُكُونٍ مِنَ الْحَالِ ، وإِدْرَاكٍ مِنَ الأَمَلِ ، فَقَدْ أَمْهَلَ الله عَزَّ وجَلَّ شَدَّادَ بْنَ عَادٍ ، وثَمُودَ بْنَ عَبُّودٍ ، وبَلْعَمَ بْنَ بَاعُورٍ ، وأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَه ظَاهِرَةً وبَاطِنَةً ، وأَمَدَّهُمْ بِالأَمْوَالِ والأَعْمَارِ ، وأَتَتْهُمُ الأَرْضُ بِبَرَكَاتِهَا ، لِيَذَّكَّرُوا آلَاءَ الله ولِيَعْرِفُوا الإِهَابَةَ لَه ، والإِنَابَةَ إِلَيْه ، ولِيَنْتَهُوا عَنِ الِاسْتِكْبَارِ ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْمُدَّةَ ، واسْتَتَمُّوا الأُكْلَةَ ، أَخَذَهُمُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ واصْطَلَمَهُمْ : فَمِنْهُمْ مَنْ حُصِبَ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْه الصَّيْحَةُ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَحْرَقَتْه الظُّلَّةُ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَوْدَتْه الرَّجْفَةُ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَرْدَتْه الْخَسْفَةُ : فَما كانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .
--------------------------- 78 ---------------------------
أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً ، فَإِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَه ، لَوْ كُشِفَ لَكَ عَمَّا هَوَى إِلَيْه الظَّالِمُونَ ، وآلَ إِلَيْه الأَخْسَرُونَ ، لَهَرَبْتَ إِلَى الله عَزَّ وجَلَّ مِمَّا هُمْ عَلَيْه مُقِيمُونَ ، وإِلَيْه صَائِرُونَ .
أَلَا وإِنِّي فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ كَهَارُونَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ ، وكَبَابِ حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وكَسَفِينَةِ نُوحٍ فِي قَوْمِ نُوحٍ ، إِنِّي النَّبَأُ الْعَظِيمُ ، والصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ ، وعَنْ قَلِيلٍ سَتَعْلَمُونَ مَا تُوعَدُونَ ، وهَلْ هِيَ إِلَّا كَلُعْقَةِ الآكِلِ ، ومَذْقَةِ الشَّارِبِ ، وخَفْقَةِ الْوَسْنَانِ ، ثُمَّ تُلْزِمُهُمُ الْمَعَرَّاتُ ، خِزْياً فِي الدُّنْيَا ، ويَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ، ومَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ . فَمَا جَزَاءُ مَنْ تَنَكَّبَ مَحَجَّتَه ، وأَنْكَرَ حُجَّتَه ، وخَالَفَ هُدَاتَه ، وحَادَّ عَنْ نُورِه ، واقْتَحَمَ فِي ظُلَمِه ، واسْتَبْدَلَ بِالْمَاءِ السَّرَابَ ، وبِالنَّعِيمِ الْعَذَابَ ، وبِالْفَوْزِ الشَّقَاءَ ، وبِالسَّرَّاءِ الضَّرَّاءَ ، وبِالسَّعَةِ الضَّنْكَ ، إِلَّا جَزَاءُ اقْتِرَافِه ، وسُوءُ خِلَافِه . فَلْيُوقِنُوا بِالْوَعْدِ عَلَى حَقِيقَتِه ، ولْيَسْتَيْقِنُوا بِمَا يُوعَدُونَ ، يَوْمَ تَأْتِي الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ وإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ، يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) .
5 - ملاحظات على خطبة الوسيلة
1 . هذه الخطبة فوق الوصف ، في معماريتها ، وغنى فصولها ، وعمق معانيها وبلاغة مطالبها . وقد أطلقها الإمام الباقر ( عليه السلام ) عمداً على يد تلميذه جابر بن يزيد الجعفي رضي الله عنه ، وأمره أن يبلغها في طول بلاد الأمة الإسلامية وعرضها فقال له : ( إسمع وعِ ، وبلغ حيث انتهت بك راحلتك ) .
2 . أول ما يطالعك في الخطبة أن أفقها عالٍ ، فهي تتحدث عن الله تعالى وعن الرسول والإسلام ، في قواعد من الحكمة العملية ، ثم تصف المقام المحمود العظيم الذي وعد الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) به ، وأن علياً والعترة ( عليهم السلام ) معه في ذلك المقام ، ثم تصل إلى ما فعله أهل السقيفة مع الله ورسوله وعترته !
3 . عُرفت باسم خطبة الوسيلة ، لأنهاتضمنت وصف درجة الوسيلة التي وعد الله بها رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومعه عترته ( عليهم السلام ) . لاحظ قوله : إِنَّ الله تَعَالَى وَعَدَ نَبِيَّه مُحَمَّداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الْوَسِيلَةَ
--------------------------- 79 ---------------------------
ووَعْدُه الْحَقُّ ولَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَه ، أَلَا وإِنَّ الْوَسِيلَةَ أَعْلَى دَرَجِ الْجَنَّةِ وذِرْوَةُ ذَوَائِبِ الزُّلْفَةِ . . . الخ . وقصده من ذلك أن يبين أن ما ارتكبه أهل السقيفة من عزل أهل البيت ( عليهم السلام ) لا يضر بمقامهم عند الله تعالى ، لأنهم خير البشر ( عليهم السلام ) .
4 . معنى أنها كانت بعد سبعة أيام من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنها كانت يوم الأحد رابع ربيع الأول ، بعد أن انتهى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من جمع القرآن ، وبعد أن هاجموا بيته واعتدوا على الزهراء ( عليها السلام ) ، وأخذوه وأجبروه على البيعة .
5 . لم تكن سيطرة أهل السقيفة يومها على المسجد النبوي كاملة ، وإن سيطروا على القبرالشريف حتى لايستجير به بنو هاشم ، ومنعوا مجلس النوح الذي كانت تقيمه فاطمة ( عليها السلام ) . لكن مع ذلك خطب فيه سلمان الفارسي رضي الله عنه ، في اليوم الثالث لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولا بد أن أهل السقيفة لم يروا في خطبته وخطبة أبي بن كعب وأمثالهما ، خطراً فعلياً ، فقد قال عمر أما إذا بايعتم فقولوا ما شئتم ! وكان وضعهم يتحمل خطباً لإثبات حق علي ( عليه السلام ) ، ما دامت لا تدعوعملياً إلى رفض بيعة أبيبكر .
6 . كان أول يوم جمعة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوماً عاصفاً ، فقد اتفق اثنا عشرمن المهاجرين والأنصار ، يتقدمهم خالد بن سعيد بن العاص الأموي رضي الله عنهم ، على أن يواجهوا أبا بكر عندما يجلس على منبرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويحتجوا عليه ويوبخوه على فعلته . فخطبوا ( الإحتجاج : 1 / 97 ) : ( فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يُحِرْ جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم ، أقيلوني أقيلوني ! فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ! قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ) !
وفي هذه الأيام الثلاثة كانوا يجمعون جنوداً من خارج المدينة ليهددوا بهم من يعترض على خلافتهم . وفي اليوم الثاني كانت خطبة علي ( عليه السلام ) في المسجد ، وكان
--------------------------- 80 ---------------------------
الصحابة يتكلمون في انكسار أهل السقيفة ، وفي ضرورة أن يعيدوا الأمر شورى بين المسلمين ، فأصغوا إلى خطبة علي ( عليه السلام ) بدون تشويش .
7 . فهرس الخطبة الشريفة : أن الإمام ( عليه السلام ) بدأ بحمد الله تعالى وتوحيده ، وأنه فتح لعباده باب معرفة بوجوده ، وحجب العقول عن معرفة ذاته بل عن تخيلها ، ثم بين قواعد في معرفة الله ضل عنها البعض ، وضل فيها البعض .
ثم ركز على قيمة الشهادة بنبوة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفوائدها ، وثواب من شهد بها . ثم انطلق ( عليه السلام ) من قاعدة : لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الإِسْلَامِ . إلى بيان مجموعة قواعد في الحكمة العملية ، توجب تأكيد الحالة المنطقية في شخصية الإنسان .
ثم بين مكانة العلم : لَا كَنْزَ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ . وعدد من الصفات المتصلة به .
ثم دعا ( عليه السلام ) إلى أن يشتغل الإنسان بنفسه بدل أن يكون فضولياً يتعرض لما لا يعنيه : إِنَّه مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِه اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِه .
ثم بين ( عليه السلام ) مكانة العقل والتعقل في الأمور ، وقواعد في فهم ما يكشفه اللسان . وقواعد في السكوت والكلام والحكمة العملية . ثم بين ضرورة حفظ الإعتدال والتوازن في الأمور وخطورة الإفراط والتفريط .
ثم أفاض ( عليه السلام ) في بيان وعد الله تعالى لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمقامه في درجات الوسيلة بأعلى الجنان . وأن مقام العترة ( عليهم السلام ) مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن الله تعالى خلق علياً ( عليه السلام ) وأعده لهذا المقام وهذه المنزلة ، واستحقها بجهاده مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكد على مكانته وخلافته بعده .
ثم وصل في خطبته إلى ما فعله أهل السقيفة وسماهما : الأشقيان فقال : ولَئِنْ تَقَمَّصَهَا دُونِيَ الأَشْقَيَانِ ، ونَازَعَانِي فِيمَا لَيْسَ لَهُمَا بِحَقٍّ ، ورَكِبَاهَا ضَلَالَةً ، واعْتَقَدَاهَا جَهَالَةً ، فَلَبِئْسَ مَا عَلَيْه وَرَدَا ، ولَبِئْسَ مَا لأَنْفُسِهِمَا مَهَّدَا . .
وهذا موقف صريح من الشيخين ، وإدانة ما بعدها إدانة ، ثم واصل حملةً شعواء عليهما إلى آخر الخطبة ، لما ارتكباه في حقه ( عليه السلام ) وحق الله تعالى ، وحق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحق الإسلام والأمة . محللاً في ذلك فعلهما ودوافعه الدنيوية ، ومقرراً نتائجه الوخيمة على
--------------------------- 81 ---------------------------
الأمة ، وعليهما من عقوبة الله تعالى وعذابه .
8 . تعمد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يجعل إدانتهم في سياق كلامه الطويل هذا ، يقول بذلك : هذه هي الأرضية العقائدية والعقلانية ، والبنية التحتية التي يفتقدها هؤلاء ، وهذا هو الإطار الصحيح الذي يجب أن يوضع فيه عملهم الخطير .
9 . تعبيره عنهما بالأشقيين ، يربطهما بأشقى الأولين عاقر ناقة صالح ، وأشقى الآخرين ابن ملجم ، وهما صفتان لهما من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقد جعل علي ( عليه السلام ) هذين أخويهما ، ولا بد أنه سمع وصفهما بذلك من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
10 . الخطبة غنية بقواعد عديدة في علم النفس والاجتماع والحكمة العملية ، تعمد الإمام ( عليه السلام ) إيرادها لارتباط عملهما بها ، ولتحذير الأمة من اتباعهما .
11 . كانت خطبة الزهراء ( عليها السلام ) بعد عشرة أيام لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( شرح النهج : 16 / 263 ) فتكون يوم الخميس الثاني لوفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد ثلاثة أيام من خطبة الوسيلة هذه .
والفرق بين الخطبتين أن نسيجهما مختلف ومشكاتهما واحدة ، وخطبة الوسيلة أطول وأكثر صراحة في الإدانة ، وإن كانت الإدانة في خطبة الزهراء ( عليها السلام ) أيضاً واضحة ، في مثل قولها ( عليها السلام ) : ( فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم . هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) .
وفرق آخر : أن مصب خطبة الزهراء ( عليها السلام ) على إثبات انحراف الأمة بمجرد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وظهور حسيكة النفاق ونخوة الشيطان وأحقاد بدر وأحد ،
--------------------------- 82 ---------------------------
في الذين سيطروا على دولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد أثبتت أن الحاكم لا أهلية له ، فقد صادر مال بنت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فياويل بنات المسلمين منه ، ودعت الأنصار للثورة على المنحرفين الظالمين للأمة ولأهل بيت نبيها !
أما خطبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتتكلم عن نعمة الإسلام والعقل والعلم والحكمة العملية ، وعن المكانة السامية للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعترته ( عليهم السلام ) في سلم الوجود ، وعن الدركات السفلى لمن خالفهم . وتحذر من آثار الانحراف الذي وقع في الأمة !
6 . الخطبة الشقشقية إدانة صريحة لأهل السقيفة
قال فيها ( عليه السلام ) : ( أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبرعلى طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبرعلى هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً !
حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، ثم تمثل بقول الأعشى :
شتانَ ما يومي على كورها * ويومِ حيانٍ أخي جابر
فيا عجبا ، بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدَّ ما تشطرا ضرعيها ! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم . فمنيَ الناس لعمر الله بخبطٍ وشماس ، وتلونٍ واعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة .
حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ! فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكني أسففت إذ أسَفُّوا ، وطرت إذ طاروا . فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهن .
إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون
--------------------------- 83 ---------------------------
مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكَبَت به بطنته ، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون عليَّ من كل جانب . حتى لقد وُطئ الحسنان وشُق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون !
كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ للَّمُتَّقِينَ . بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها !
أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ) ! ( نهج البلاغة : 1 / 37 ) .
قال ابن أبي الحديد ( 1 / 205 ) : ( فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وست مائة قال : قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ، فلما انتهيت إلى هذا الموضع ، قال لي : لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له : وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة ، لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد ! والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره ) !
7 . أيتها الأمة المخدوعة عن علم وعمد !
روى في الكافي ( 8 / 31 ) : ( عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الهيثم بن التيهان أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس بالمدينة فقال : الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، كان حياً بلا كيف ، ولم يكن له كان ، ولا كان لكانه كيف ، ولا كان له أين ، ولا كان في شئ ، ولا كان على شئ ولا ابتدع لكانه مكاناً ، ولا قوي بعد ما كون شيئاً ، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكون شيئاً ، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً ، ولا يشبه شيئاً ، ولا كان خلواً عن الملك قبل إنشائه ، ولا يكون خلواً منه بعد
--------------------------- 84 ---------------------------
ذهابه ، كان إلهاً حياً بلا حياة ، ومالكاً قبل أن ينشئ شيئاً ، ومالكاً بعد إنشائه للكون ، وليس يكون لله كيف ولا أين ولا حد يعرف ، ولا شئ يشبهه ، ولا يهرم لطول بقائه ، ولا يضعف لذعرة ، ولا يخاف كما تخاف خليقته من شئ ولكن سميع بغير سمع ، وبصير بغير بصر ، وقوي بغير قوة من خلقه ، لا تدركه حدق الناظرين ولا يحيط بسمعه سمع السامعين ، إذا أراد شيئا كان بلا مشورة ولا مظاهرة ولا مخابرة ولا يسأل أحدا عن شئ من خلقه أراده ، لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، فبلغ الرسالة
وأنهج الدلالة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
أيها الأمة التي خدعت فانخدعت ، وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت ، واتبعت أهواءها ، وضربت في عشواء غوايتها ، وقد استبان لها الحق فصدت عنه ، والطريق الواضح فتنكبته .
أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لو اقتبستم العلم من معدنه ، وشربتم الماء بعذوبته ، وادخرتم الخير من موضعه ، وأخذتم الطريق من واضحه ، وسلكتم من الحق نهجه ، لنهجتْ بكم السبل ، وبدت لكم الأعلام ، وأضاء لكم الإسلام ، فأكلتم رغداً ، وما عال فيكم عائل ، ولاظلم منكم مسلم ولا معاهد .
ولكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها ، وسدت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم ، واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم ، واتبعتم الغواة فأغوتكم ، وتركتم الأئمة فتركوكم ، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم إذا ذكر الأمر ، سألتم أهل الذكر فإذا أفتوكم قلتم هو العلم بعينه ، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه !
رويداً عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم ، وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم !
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد علمتم أني صاحبكم ، والذي به أمرتم ، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ، ووصي نبيكم وخيرة ربكم ، ولسان نوركم ، والعالم
--------------------------- 85 ---------------------------
بما يصلحكم . فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وُعدتم وما نزل بالأمم قبلكم ، وسيسألكم الله عز وجل عن أئمتكم ، معهم تحشرون وإلى الله عز وجل غداً تصيرون ، أما والله لو كان لي عدة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر وهم أعدادكم ، لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق ، وتنيبوا للصدق ، فكان أرتق للفتق ، وآخذ بالرفق . اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين .
قال ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة ، فقال : والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه ، لأ زلت أبن آكلة الذبان عن ملكه . قال : فلما أمسى بايعه ثلاث مائة وستون رجلاً على الموت فقال لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلقين ، وحلق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وجاء سلمان في آخر القوم ، فرفع يده إلى السماء فقال : اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون ، اللهم فإنك تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى
عَلَى اللَّهِ مِنْ شَئْ فِي الأَرْضِ وَلافِي السَّمَاءِ ، تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ . أما والبيت والمفضي إلى البيت ، لولا عهد عهده إلي النبي الأمي لأوردت المخالفين خليج المنية ، ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت . وعن قليل سيعلمون ) ( الكافي : 8 / 32 ) .
8 . ما ترك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأحد حجة !
بعد احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المسجد ودعوته المهاجرين والأنصار لقبول عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطأ الأمر لأبيبكر وقالت جماعة من الأنصار : ( يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبيبكر ما اختلف فيك اثنان .
فقال علي ( عليه السلام ) : يا هؤلاء ! أكنت أدع رسول الله مسجى لا أواريه وأخرج أنازع في سلطانه ؟ والله ما خفت أحداً يسموا له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحل ما استحللتموه ، ولا علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك يوم غدير خم لأحد حجة ، ولا لقائل مقالاً ، فأنشد الله رجلاً سمع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم غدير خم يقول : من كنت
--------------------------- 86 ---------------------------
مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، أن يشهد الآن بما سمع .
قال زيد بن أرقم [ أنس بن مالك ] : فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك ، وكنت ممن سمع القول من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكتمت الشهادة يومئذ فدعا عليٌّ ، فذهب بصري ) . ( الإحتجاج للطبرسي : 1 / 184 ، والإمامة والسياسة / 29 ) .
9 . طلبا مني البيعة لمن سبيله أن يبايعني
عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( لما أتى أبو بكر وعمر إلى منزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخاطباه في البيعة وخرجا من عنده ، خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى المسجد ، فحمد الله وأثنى عليه بما اصطنع عندهم أهل البيت ، إذ بعث فيهم رسولاً منهم ، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . ثم قال : إن فلاناً وفلاناً أتياني وطالباني بالبيعة لمن سبيله أن يبايعني ، أنا ابن عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبوإبنيه ، والصديق الأكبر ، وأخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يقولها أحد غيري إلا كاذب ، أسلمت وصليت قبل الناس ، وأنا وصيه ، وزوج ابنته سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبوحسن وحسين سبطي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونحن أهل بيت الرحمة ، بنا هداكم الله ، وبنا استنقذكم من الضلالة ، وأنا صاحب يوم الدوح ، وفيَّ نزلت سورة من القرآن ، وأنا الوصي على الأموات من أهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنا بقيته على الأحياء من أمته ، فاتقوا الله يثبت أقدامكم ويتم نعمته عليكم . ثم رجع ( عليه السلام ) إلى بيته ) .
( أمالي الطوسي / 568 ) .
10 . منشور الإمام حول الخلافة وحول قتاله لمعاوية
كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يرفق بالذين يقدسون أبا بكر وعمر ويسميهم المخدوعين ! وكان بعض خصومه يثيرونهم عليه ، وكان لايعجبه النقاش في ذلك لكنه في نفس الوقت يراه فرصةً لبيان الحق وتوعية الأمة على مؤامرة قريش ، وأنها صادرت السلطة من عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسلمتها إلى بني أمية ، وأن عثمان الذي نقمت عليه الأمة فقتلته ، ومعاوية بعده ، إنما هما ثمرة سقيفة قريش !
--------------------------- 87 ---------------------------
وقد سجل ( عليه السلام ) لأجيال الأمة مواقفه ، وكشف أمر السقيفة وأصحابها ، وبين فداحة ظلامة العترة النبوية ( عليهم السلام ) بيد القرشيين !
من ذلك : منشورٌ كتبه بعد النهروان ، وأمر أن يقرأ على الناس كل أسبوع ، وقد روته مصادرنا ، ومنها كتاب رسائل الأئمة ( عليهم السلام ) للكليني ( قدس سره ) ، وروت مصادرهم أجزاءً منه كالبلاذري وابن قتيبة وغيرهما . وهذا نصه برواية الكليني ، قال :
( كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد منصرفه من النهروان كتاباً ، وأمر أن يقرأ على الناس ، وذلك أن الناس سألوه عن أبيبكر وعمر وعثمان ، فغضب ( عليه السلام ) لذلك وقال :
قد تفرغتم للسؤال عما لا يعنيكم ، وهذه مصرُقد افتتحت وقَتَل معاوية بن خديج محمد بن أبا بكر ! فيا لها من مصيبة ما أعظمها مصيبتي بمحمد ، فوالله ما كان إلا كبعض بنيَّ . سبحان الله ، بينا نحن نرجو أن نغلب القوم على ما في أيديهم ، إذ غلبونا على ما في أيدينا ، وأنا أكتب لكم كتاباً فيه تصريح ما سألتم إن شاء الله تعالى ، فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له : أدخل عليَّ عشرةً من ثقاتي ، فقال : سمِّهم يا أمير المؤمنين فقال :
أدخل أصبغ بن نباتة ، وأبا الطفيل عامر بن واثلة الكناني ، وزر بن حبيش الأسدي ، وجويرية بن مسهر العبدي ، وخندف بن زهير الأسدي ، وحارثة بن مضرب الهمداني ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ومصابيح النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وكميل بن زياد ، وعمير بن زرارة ، فدخلوا إليه فقال لهم :
خذوا هذا الكتاب ، وليقرأه عبيد الله بن أبي رافع وأنتم شهود ، كل يوم جمعة ، فإن شغب شاغب عليكم ، فأنصفوه بكتاب الله بينكم وبينه .
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى شيعته من المؤمنين والمسلمين ، فإن الله يقول : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ، وهو إسمٌ شرفه الله تعالى في الكتاب ، وأنتم شيعة النبي محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما أنه من شيعة إبراهيم . إسمٌ غير مختص ، وأمر غير مبتدع . وسلام الله عليكم ، والله هو السلام ، المؤمِّن أولياءه من العذاب المهين ، الحاكم عليكم بعدله .
--------------------------- 88 ---------------------------
أما بعد ، فإن الله تعالى بعث محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنتم معاشرالعرب على شر حال ، يغذو أحدكم كلبه ويقتل ولده ! ويغير على غيره ، فيرجع وقد أغير عليه ! تأكلون العِلْهِز والهبيد والميتة والدم ! تنيخون على أحجار خُشْن ، وأوثان مضلة ، وتأكلون الطعام الجشب ، وتشربون الماء الآجن ، تَسافكون دماءكم ، ويسبي بعضكم بعضاً !
وقد خص الله قريشاً بثلاث آيات وعمَّ العرب بآية . فأما الآيات اللواتي في قريش فهي قوله تعالى : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
والثانية : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شيئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
والثالثة : قول قريش لنبي الله تعالى حين دعاهم إلى الإسلام والهجرة ، فقالوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ، فقال الله تعالى : أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيء رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
وأما الآية التي عمَّ بها العرب فهي قوله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
فيا لها من نعمة ما أعظمها إن لم تخرجوا منها إلى غيرها ، ويا لها من مصيبة ما أعظمها إن لم تؤمنوا بها وترغبوا عنها .
فمضى نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد بلغ ما أرسل به ، فيالها مصيبة خصت الأقربين ، وعمت المؤمنين ، لن تصابوا بمثلها ، ولن تعاينوا بعدها مثلها ! فمضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لسبيله وترك كتاب الله وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، إمامين لا يختلفان ، وأخوين لايتخاذلان ، ومجتمعين لايتفرقان . ولقد قبض الله محمداً نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا ، وما ألقيَ في روعي ولاعرضَ في رأيي أن وجه الناس إلى غيري .
( يقصد ( عليه السلام ) أن ما حدث كان غير منطقي لا يتصور ، وإلا فقد أخبره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما سيجري ) .
--------------------------- 89 ---------------------------
فلما أبطأوا عني بالولاية لهممهم ، وتثبط الأنصار وهم أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وقالوا : أما إذا لم تسلموها لعلي فصاحبنا أحق بها من غيره ! فوالله ما أدري إلى من أشكو ، فإما أن تكون الأنصار ظلمت حقها ، وإما أن يكونوا ظلموني حقي . بل حقي المأخوذ وأنا المظلوم . فقال قائل قريش : الأئمة من قريش ، فدفعوا الأنصار عن دعوتها ومنعوني حقي منها !
فأتاني رهطٌ يعرضون عليَّ النصر ، منهم ابنا سعيد ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، والزبير بن العوام ، والبراء بن عازب ، فقلت لهم : إن عندي من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهداً وله إليَّ وصية لست أخالفه عما أمرني به ، فوالله لو خزموني بأنفي لأقررت لله تعالى سمعاً وطاعة .
فلما رأيت الناس قد انثالوا على أبيبكر بالبيعة أمسكت يدي ، وظننت
( بمعنى علمت ) أني أولى وأحق بمقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منه ومن غيره ، وقد كان نبي الله أمر أسامة بن زيد على جيش وجعلهما في جيشه ، وما زال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أن فاضت نفسه يقول : أنفذوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة !
فلما رأيت راجعة من الناس قد رجعت عن الإسلام ، تدعو إلى محو دين محمد وملة إبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، خشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلماً وهدماً تكون المصيبة علي فيه أعظم من فوت ولاية أموركم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، ثم تزول وتنقشع كما يزول وينقشع السحاب ! فنهضت مع القوم في تلك الأحداث حتى زهق الباطل ، وكانت كلمة الله هي العليا ، وإن رغم الكافرون . فوليَ أبو بكر فقارب واقتصد ، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً ، حتى إذا احتضرقلت في نفسي ليس يعدل بهذا الأمر عني ، ولولا خاصةٌ بينه وبين عمر ، وأمرٌ كانا رضياه بينهما ، لظننت أنه لا يعدله عني ، وقد سمع قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لبريدة الأسلمي حين بعثني وخالد بن الوليد إلى اليمن ، وقال : إذا افترقتما فكل واحد منكما على حياله وإذا اجتمعتما فعلي عليكم جميعاً ، فغزونا وأصبنا سبياً فيهم خولة بنت جعفر جار الصفا ، فأخذتُ
--------------------------- 90 ---------------------------
الحنفية خولة ، واغتنمها خالد مني وبعث بريدة إلى رسول الله مُحَشِّراً عليَّ ، فأخبره بما كان من أخذي خولة فقال : يا بريدة حظه في الخمس أكثر مما أخذ ، إنه وليكم بعدي !
سمعها أبو بكر وعمر ، وهذا بريدة حي لم يمت ، فهل بعد هذا مقال لقائل !
فبايع عمر دون المشورة ، فكان مرضي السيرة من الناس عندهم ، حتى إذا احتضرقلت في نفسي ليس يعدل بهذا الأمرعني ، للذي قد رأى مني في المواطن وسمع من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعلني سادس ستة ! وأمر صهيباً أن يصلي بالناس ، ودعا أبا طلحة زيد بن سعد الأنصاري فقال له : كن في خمسين رجلاً من قومك فاقتل من أبى أن يرضى من هؤلاء الستة ! وقال : هؤلاء الرهط الذين قبض رسول الله وهو عنهم راض ، فكيف يأمر بقتل قوم رضي الله عنهم ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن هذا لأمر عجيب ! ولم يكونوا لولاية أحد منهم أكره منهم لولايتي ، كانوا يسمعون وأنا أحاجُّ أبا بكر وأقول : يا معشر قريش إنا أحق بهذا الأمرمنكم ما كان منا من يقرأ القرآن ويعرف السنة ، ويدين بدين الله الحق ، وإنما حجتي أني وليُّ هذا الأمر من دون قريش أن نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : الولاء لمن أعتق ، فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعتق الرقاب من النار وأعتقها من الرق ، فكان للنبي ولاء هذه الأمة ، وكان لي بعده ما كان له ، فما جاز لقريش من فضلها عليها بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاز لبني هاشم على قريش ، وجاز لي على بني هاشم بقول النبي يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، إلا أن تدعي قريش فضلها على العرب بغير النبي ، فإن شاؤوا فليقولوا ذلك !
فخشي القوم إن أنا وليتُ عليهم أن آخذ بأنفاسهم وأعترض في حلوقهم ، ولا يكون لهم في الأمر نصيب ! فأجمعوا عليَّ إجماع رجل واحد ، حتى صرفوا الولاية عني إلى عثمان ، رجاء أن ينالوها ويتداولوها في ما بينهم .
فدعوني إلى بيعة عثمان فبايعتُ مستكرهاً وصبرت محتسباً . فقال عبد الرحمن بن عوف : يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمر لحريص ! فقلت : لست عليه حريصاً وإنما أطلب ميراث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحقه وأن ولاء أمته لي من بعده ، وأنتم أحرص عليه مني إذ تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه بالسيف !
--------------------------- 91 ---------------------------
اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم قطعوا رحمي ، وأضاعوا أيامي ، ودفعوا حقي ، وصغروا قدري وعظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به منهم فاستلبونيه ، ثم قالوا إصبر مغموماً أو مت متأسفاً ! وأيم الله لو استطاعوا أين يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ، ولكنهم لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً ! وإنما حقي على هذه الأمة كرجل له حق على قوم إلى أجل معلوم ، فإن أحسنوا وعجلوا له حقه قبله حامداً ، وإن أخروه إلى أجله أخذه غير حامد ، وليس يعاب المرء بتأخير حقه ، إنما يعاب من أخذ ما ليس له ، وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد إليَّ عهداً فقال : يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه ، فإن الله سيجعل لك مخرجاً . فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا معي مساعد إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، ولو كان لي بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمي حمزة وأخي جعفر لم أبايع مكرهاً ، ولكني بليت برجلين حديثي عهد بالإسلام العباس وعقيل ، فضننت بأهل بيتي عن الهلاك ، فأغضيت عيني على القذى ، وتجرعت ريقي على الشجى ، وصبرت على أمَرِّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزِّ الشفار .
وأما أمر عثمان فكأنه علم من القرون الأولى عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ، خذله أهل بدر ، وقتله أهل مصر ، والله ما أمرت ولا نهيت ، ولو أني أمرت كنت قاتلاً ، ولو أني نهيت كنت ناصراً ، وكان الأمر لا ينفع فيه العيان ولا يشفى منه الخبر ، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خيرمنه ، ولا يستطيع من خذله أن يقول نصره من هو خير مني . وأنا جامع لكم أمره : إستأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، والله يحكم بينكم وبينه .
والله ما يلزمني في دم عثمان تهمة ، ما كنت إلا رجلاً من المسلمين المهاجرين في بيتي ، فلما قتلتموه أتيتموني تبايعوني فأبيت عليكم وأبيتم عليَّ ، فقبضت يدي فبسطتموها ، وبسطتها فمددتموها ، ثم تداككتم علي تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى ظننت أنكم قاتليَّ ، وأن بعضكم قاتل بعض ،
--------------------------- 92 ---------------------------
حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرورالناس ببيعتهم إياي أن حُمل إليها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل إليها العليل ، وحسرت لها الكعاب . فقالوا : بايعنا على ما بويع عليه أبو بكر وعمر ، فإنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك ، بايعنا لا نفترق ولا نختلف !
فبايعتم على كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعوت الناس إلى بيعتي فمن بايعني طائعاً قبلت منه ، ومن أبى تركته ، فكان أول من بايعني طلحة والزبيرفقالا : نبايعك على أنا شركاؤك في الأمر ! فقلت : لا ، ولكنكما شركائي في القوة ، وعوناي في العجز ، فبايعاني على هذا الأمر ، ولو أبيا لم أكرههما ، كما لم أكره غيرهما !
وكان طلحة يرجو اليمن ، والزبير يرجو العراق ! فلما علما أني غير موليهما استأذناني للعمرة يريدان الغدرة ، فأتيا عايشة واستخفاها مع شئ في نفسها عليَّ ، وقادهما عبد الله بن عامر إلى البصرة ، وضمن لهما الأموال والرجال ، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما ، فاتخذاها فئة يقاتلان دونها ! فأيُّ خطيئة أعظم مما أتيا ، أخرجا زوجة رسول الله من بيتها فكشفا عنها حجاباً ستره الله عليها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، ولا أنصفا الله ولا رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
من أنفسهما !
فمنيتُ بأطوع الناس في الناس : عايشة بنت أبيبكر ، وبأشجع الناس : الزبير ، وبأخصم الناس : طلحة بن عبيد الله ، وأعانهم عليَّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير ! والله لئن استقام أمري لأجعلن ماله فيئاً للمسلمين !
ثم أتوا البصرة وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي ، وبها شيعتي خزان بيت مال الله ومال المسلمين ، فدعوا الناس إلى معصيتي وإلى نقض بيعتي وطاعتي ، فمن أطاعهم أكفروه ، ومن عصاهم قتلوه ! فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوه في سبعين رجلاً من عُبَّاد أهل البصرة ومخبتيهم ، يسمَّوْنَ المثفَّنين كأن راح أكفهم ثفنات الإبل ، وأبى أن يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري فقال : إتقيا الله ، إن أولكم قادنا إلى الجنة فلا يقودنا آخركم إلى النار ، فلا تكلفونا أن نصدق المدعي ونقضي على الغائب ، أما يميني فشغلها علي بن أبي طالب ببيعتي إياه ، وهذه شمالي فارغة فخذاها إن شئتما !
--------------------------- 93 ---------------------------
فخُنق حتى مات ( رحمه الله ) .
وقام عبد الله بن حكيم التميمي فقال : يا طلحة هل تعرف هذا الكتاب ؟ قال : نعم هذا كتابي إليك . قال : هل تدري ما فيه ؟ قال : إقرأه عليَّ . فقرأه فإذا فيه عيبُ عثمان ودعاؤه إلى قتله ! فسيَّروه من البصرة !
وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الأنصاري غدراً ، فمثلوا به كل مثلة ، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه ! وقتلوا شيعتي ، طائفة صبراً وطائفة غدراً ، وطائفة عضوا بأسيافهم حتى لقوا الله !
فوالله لو لم يقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحلَّ لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش لرضاهم بقتل من قتل ! دع أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم ، وقد أدال الله منهم ، فبعداً للقوم الظالمين .
فأما طلحة فرماه مروان بسهم فقتله ، وأما الزبير فذكرته قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنك تقاتل علياً وأنت ظالم له ! وأما عايشة فإنها كانت نهاها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
عن مسيرها ، فعضت يديها نادمة على ما كان منها !
وقد كان طلحة لما نزل ذا قار قام خطيباً فقال : أيها الناس إنا أخطأنا في عثمان خطيئة ما يخرجنا منها إلا الطلب بدمه ، وعليٌّ قاتله وعليه دمه ! فلما بلغني قوله وقول كان عن الزبير قبيح ، بعثت إليهما أناشدهما بحق محمد وآله ما أتيتماني وأهل مصر محاصروا عثمان فقلتما : إذهب بنا إلى هذا الرجل فإنا لا نستطيع قتله إلا بك ، لما تعلم أنه سيَّر أبا ذر ( رحمه الله ) ، وفتق عماراً ، وآوى الحكم بن أبي العاص وقد طرده رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبو بكر وعمر ، واستعمل الفاسق على كتاب الله الوليد بن عقبة ، وسلط خالد بن عرفطة العذري على كتاب الله يمزقه ويحرقه . فقلت : كل هذا قد علمت ، ولا أرى قتله يومي هذا ، وأوشك سقاؤه أن يخرج المخض زبدته ! فأقرَّا بما قلت !
وأما قولكما إنكما تطلبان بدم عثمان ، فهذان ابناه عمرو وسعيد ، فخلوا عنهما يطلبان دم أبيهما ، ومتى كان أسد وتيم أولياء بني أمية ، فانقطعا عند ذلك !
--------------------------- 94 ---------------------------
فقام عمران بن حصين الخزاعي صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : يا هذان لاتخرجانا ببيعتكما من طاعة علي ، ولاتحملانا على نقض بيعته فإنها لله رضى ، أما وسعتكما بيوتكما حتى أتيتما بأم المؤمنين ! فالعجب لاختلافها وإياكما ومسيرها معكما فكفَّا عنا أنفسكما وارجعا من حيث جئتما ، فلسنا عبيد من غلب ولا أول من سبق ! فهمَّا به ثم كفَّا عنه !
وكانت عايشة قد شكَّت في مسيرها وتعاظمت القتال ، فدعت كاتبها عبيد الله بن كعب النميري فقالت أكتب : من عايشة بنت أبيبكر إلى علي بن أبي طالب ، فقال : هذا أمر لا يجري به القلم . قالت : ولمَ ؟ قال : لأن علي بن أبي طالب في الإسلام أول ، وله بذلك البدء في الكتاب . فقالت : أكتب : إلى علي بن أبي طالب من عايشة بنت أبيبكر ، أما بعد فإني لست أجهل قرابتك من رسول الله ، ولا قدمك في الإسلام ، ولا غَنَاءك عن رسول الله ، وإنما خرجت مصلحة بين بنيَّ لا أريد حربك ، إن كففت عن هذين الرجلين ، في كلام لها كثير ، فلم أجبها بحرف ، وأخرت جوابها لقتالها . ( لأنه كان أتم عليها الحجة ) .
فلما قضى الله لي الحسنى ، سرتُ إلى الكوفة ، واستخلفت عبد الله بن عباس على البصرة ، فقدِمتُ الكوفة وقد اتسقت لي الوجوه كلها إلا الشام ، فأحببت أن أتخذ الحجة وأفضي العذر ، أخذت بقول الله تعالى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ، فبعثت جرير بن عبد الله إلى معاوية معذراً إليه ، متخذاً للحجة عليه ، فردَّ كتابي وجحد حقي ودفع بيعتي ، وبعث إليَّ أن ابعث إليَّ قتله عثمان ، فبعثت إليه ما أنت وقتلة عثمان ؟ أولاده أولى به ، فادخل أنت وهم في طاعتي ثم خاصم القوم لأحملكم وإياهم على كتاب الله ، وإلا فهذه خدعة الصبي عن رضاع الملي !
فلما يئس من هذا الأمر بعث إليَّ أن اجعل الشام لي حياتك ، فإن حدث بك حادث من الموت لم يكن لأحد عليَّ طاعة ، وإنما أراد بذلك أن يخلع طاعتي من عنقه ، فأبيتُ عليه ، فبعث إليَّ إن أهل الحجاز كانوا الحكام على أهل الشام ، فلما قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكام على أهل الحجاز ! فبعثتُ إليه إن كنت صادقا فسمِّ لي رجلاً من قريش الشام تحل له الخلافة ، ويُقبل في الشورى ، فإن لم تجده سميت لك من قريش الحجاز من يحل له الخلافة ، ويُقبل في الشورى .
--------------------------- 95 ---------------------------
ونظرت إلى أهل الشام فإذا هم بقية الأحزاب ، فراش نار ، وذباب طمع ، تجمَّع من كل أوب ، ممن ينبغي أن يؤدب ويحمل على السنة ، ليسوا مهاجرين ولا أنصار ، ولا تابعين بإحسان ، فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة ، فأبوا إلا فراقي وشقاقي ، ثم نهضوا في وجه المسلمين ينضحونهم بالنبل ويشجرونهم بالرماح ! فعند ذلك نهضت إليهم ، فلما عضتهم السلاح ووجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ، فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن ، وإنما رفعوها مكيدة وخديعة فامضوا لقتالهم ، فقلتم إقبل منهم واكفف عنهم فإنهم إن أجابوا إلى ما في القرآن ، جامعونا على ما نحن عليه من الحق ، فقبلت منهم وكففت عنهم ، فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين حكمين ليحييا ما أحياه القرآن ، ويميتا ما أماته القرآن ، فاختلف رأيهما واختلف حكمهما ، فنبذا ما في الكتاب ، وخالفا ما في القرآن وكانا أهله .
ثم إن طائفة اعتزلت فتركناهم ما تركونا ، حتى إذا عاثوا في الأرض يفسدون ويقتلون ، وكان فيمن قتلوه أهل ميرة من بني أسد ، وخباباً وابنه وأم ولده ، والحارث بن مرة العبدي ، فبعثت إليهم داعياً فقلت ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ، فقالوا : كلنا قتلتهم ، ثم شدت خيلهم ورجالهم ، فصرعهم الله مصارع الظالمين .
فلما كان ذلك من شأنهم ، أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم فقلتم : كلَّت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصيداً ! فأذن لنا فلنرجع ولنستعد بأحسن عدتنا ، وإذا نحن رجعنا زدنا في مقاتلتنا عدة من قتل منا ، حتى إذا أظللتم على النخيلة أمرتكم أن تلزموا معسكركم ، وأن تضموا إليه نواصيكم ، وأن توطنوا على الجهاد نفوسكم ، ولا تكثروا زيارة أبناءكم ونساءكم ، فإن أصحاب الحرب مصابروها ، وأهل التشمير فيها الذين لا يتوجدون من سهر ليلهم ولا ظمأ نهارهم ، ولا فقدان أولادهم ولا نساءهم ! فأقامت طائفة منكم معدة ، وطائفة دخلت المصرعاصية ، فلا من دخل المصر عاد إليَّ ، ولا من أقام منكم ثبت معي ولا صبر ، فلقد رأيتني وما في عسكري منكم خمسون رجلاً ،
--------------------------- 96 ---------------------------
فلما رأيت ما أنتم عليه دخلتُ عليكم ، فما قُدِّرَ لكم أن تخرجوا معي إلى يومكم هذا !
لله أبوكم ألا ترون إلى مصر قد افتتحت ، وإلى أطرافكم قد انتقصت ، وإلى مسالحكم تُرقى ، وإلى بلادكم تُغزى ، وأنتم ذووا عدد جم ، وشوكة شديدة ، وأولوا بأس قد كان مخوفاً !
لله أنتم أين تذهبون ، وأنى تؤفكون ، ألا وإن القوم قد جدوا وتآسوا وتناصروا وتناصحوا ، وإنكم قد أبيتم وونيتم وتخاذلتم وتغاششتم ، ما أنتم إن بقيتم على ذلك سعداء ، فنبهوا رحمكم الله نائمكم ، وتجردوا وتحروا لحرب عدوكم ، فقد أبدت الرغوة عن الصريح ، وأضاء الصبح لذي عينين ، فانتبهوا إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وأهل الجفاء ومن أسلم كرهاً ، وكان لرسول الله آنفاً وللإسلام كله حرباً ! أعداء السنة والقرآن ، وأهل البدع والإحداث ، ومن كانت نكايته تتقى ، وكان على الإسلام وأهله مخوفاً ، وأكلة الرشا ، وعبيد الدنيا !
ولقد أنهيَ إليَّ أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتيَّةً ، هي أعظم مما في يديه من سلطانه ، فصفرتْ يد هذا البائع دينه بالدنيا ، وخزيتْ أمانة هذا المشتري بنصرة فاسق غادر بأموال المسلمين ، وأيُّ سهم لهذا المشتري بنصرة فاسق غادر ، وقد شرب الخمر وضرب حداً في الإسلام ، وكلكم يعرفه بالفساد في الدين .
وإن منهم من لم يدخل في الإسلام وأهله حتى رضخ له عليه رضيخة ! فهؤلاء قادة القوم ، ومن تركت لكم ذكر مساوية أكثر وأبور ! وأنتم تعرفونهم بأعيانهم وأسمائهم كانوا على الإسلام ضداً ، ولنبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حرباً ، وللشيطان حزباً ، لم يقدم إيمانهم ولم يحدث نفاقهم !
وهؤلاء الذين لو ولوا عليكم لأظهروا فيكم الفخر والتكبر ، والتسلط بالجبرية والفساد في الأرض ! وأنتم على ما كان منكم من تواكل وتخاذل خيرمنهم وأهدى سبيلاً ، منكم الفقهاء والعلماء والفهماء ، وحملة الكتاب والمتهجدون بالأسحار ، ألا تسخطون وتنقمون أن ينازعكم الولاية السفهاء البطاء عن الإسلام ، الجفاة فيه ! إسمعوا قولي يهدكم الله إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فوالله لئن أطعتموني لا تغوون ، وإن عصيتموني لا ترشدون !
--------------------------- 97 ---------------------------
قال الله تعالى : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . وقال الله تعالى لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ .
فالهادي بعد النبي هادٍ لأمته على ما كان من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فمن عسى أن يكون الهادي إلا الذي دعاكم إلى الحق ، وقادكم إلى الهدى !
خذوا للحرب أهبتها ، وأعدوا لها عدتها ، فقد شبَّت وأوقدت ، وتجرد لكم الفاسقون لكيما يطفئوا نور لله بأفواههم ، ويغروا عباد الله .
ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والجفاء ، أولى بالحق من أهل البر والإحسان والإخبات في طاعة ربهم ومناصحة إمامهم !
إني والله لو لقيتهم وحدي وهم أهل الأرض ما استوحشت منهم ولا باليت ، ولكن أسفٌ يريبني وجزعٌ يعتريني من أن يلي هذه الأمة فجارها وسفهاؤها ، فيتخذون مال الله دولاً ، وكتاب الله دغلاً ، والفاسقين حزباً ، والصالحين حرباً !
وأيم الله لولا ذلك ما أكثرت تأنيبكم وتحريضكم ، ولتركتكم إذ أبيتم حتى حمَّ لي لقاؤهم ، فوالله إني لعلى الحق ، وإني للشهادة لمحب ، وإني إلى لقاء الله ربي لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر ، إني نافرٌ بكم فانفروا خفافاً وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، ولا تثاقلوا في الأرض فتغموا بالذل ، وتقروا بالخسف ، ويكون نصيبكم الأخسر !
إن أخا الحرب اليقظان الأرق ، إن نام لم تنم عينه ، ومن ضعف أوذي ، ومن كره الجهاد في سبيل الله كان المغبون المهين . إني لكم اليوم على ما كنت عليه أمس ، ولستم لي على ما كنتم عليه ، من تكونوا ناصريه أخذ بالسهم الأخيب !
والله لو نصرتم الله لنصركم وثبت أقدامكم ، إنه حقٌّ على الله أن ينصر من نصره ، ويخذل من خذله ، أترون الغلبة لمن صبر بغير نصر ، وقد يكون الصبر جبناً ، ويكون حمية ، وإنما النصر بالصبر ، والورد بالصدر ، والبرق بالمطر .
اللهم اجمعنا وإياهم على الهدى ، وزهدنا وإياهم في الدنيا ، واجعل الآخرة خيراً لنا
من الأولى ) . ( رواه الطبري ابن رستم في المسترشد / 77 ، ونهج السعادة للمحمودي : 5 / 194 ،
--------------------------- 98 ---------------------------
وذكر من مصادره في : 5 / 258 : كشف المحجة للسيد ابن طاووس / 173 ، والبحار : 8 / 184 . الإمامة والسياسة / 154 ، ط . مصر . والثقفي في الغارات ، كما في بحار الأنوار ( 8 / 615 ، وأشار إلىه البلاذري في أنساب الأشراف / 400 ) .
11 . من خطبة له ( عليه السلام ) يصف خلط الولاة قبله الحق بالباطل
روى في الكافي ( 8 / 58 ) بسند صحيح : ( خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان : اتباع الهوى وطول الأمل . أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة . ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ، ولكل واحدة بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غداً حساب ولا عمل .
وإنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالاً . ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجللان معاً ، فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى .
إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة فإذا غيرمنها شئ قيل : قد غيرت السنة ، وقد أتى الناس منكراً !
ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب ، وكما تدق الرحا بثفالها ، ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال :
قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ولوحملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي
--------------------------- 99 ---------------------------
الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ( عليها السلام ) ، ورددت صاع رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأقوام لم تُمض لهم ولم تُنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضي بها ، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأرحام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعطي بالسوية ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ، وألقيت المساحة ، وسويت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه ، وحرمت المسح على الخفين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجده ممن كان رسول الله أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن كان رسول الله أدخله ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائرالأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إذاً لتفرقوا عني !
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة ، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ! ما لقيتُ من هذه الأمة من الفرقة ،
--------------------------- 100 ---------------------------
وطاعة أئمة الضلالة ، والدعاة إلى النار ! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ، فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال تعالى : فَللَّهِ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، فينا خاصة ، كَىْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ، في ظلم آل محمد ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، لمن ظلمهم . رحمةً منه لنا ، وغنى أغنانا الله به ، ووصى به نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً ، أكرم الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس ، فكذبوا الله وكذبوا رسوله ، وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا ! ما لقي أهل بيت نبي من أمته ! ما لقينا بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! والله المستعان على من ظلمنا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) .
ملاحظة
يدل كلامه ( عليه السلام ) على أن يرى لزوم إبقاء مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما هو ، وإن شاء المسلمون فليبنوا مسجداً ومساجد أكبر منه ، لكن لايمسوه . وكذلك الأمر في المعالم الأخرى .
12 . احتجاجه ( عليه السلام ) على المفتخرين عليه
ومن احتجاجه ( عليه السلام ) في جمع أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما رواه الواحدي عن أبي هريرة : ( اجتمع عدة من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، والفضل بن عباس ، وعمار ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان ، وعبد الله بن مسعود ، فجلسوا وأخذوا في مناقبهم فدخل عليهم علي ( عليه السلام ) فسألهم : فيمَ أنتم ؟ قالوا : نتذاكر مناقبنا مما سمعنا من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال علي : إسمعوا مني ، ثم أنشأ يقول :
لقد علم الأناس بأن سهمي * من الإسلام يفضل كل سهم
وأحمد النبي أخي وصهري * عليه الله صلى وابن عمي
وإني قائد للناس طراً * إلى الإسلام من عرب وعجم
--------------------------- 101 ---------------------------
وقاتل كل صنديد رئيس * وجبار من الكفار ضخم
وفي القرآن ألزمهم ولائي * وأوجب طاعتي فرضاً بعزم
كما هارون من موسى أخوه * كذاك أنا أخوه وذاك اسمي
لذاك أقامني لهمُ إماماً * وأخبرهم به بغدير خم
فمن منكم يعادلني بسهمي * وإسلامي وسابقتي ورحمي
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ * لمن يلقى الإله غداً بظلمي
وويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ * لجاحد طاعتي ومريد هضمي
وويلٌ للذي يشقى سفاهاً * يريد عداوتي من غير جرمي
( ينابيع المودة للقندوزي الحنفي : 1 / 213 ) .
وروى في الإحتجاج ( 1 / 266 ) عن أبي عبيدة ، قال : ( كتب معاوية إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام )
إن لي فضائل كثيرة ، كان أبي سيداً في الجاهلية ، وصرت ملكاً في الإسلام ، وأنا صهر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وخال المؤمنين ، وكاتب الوحي . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أبالفضائل يبغي عليَّ ابن آكلة الأكباد ؟ أكتب إليه يا غلام :
محمد النبي أخي وصنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحى * يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي * مسوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً * غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وصليت الصلاة وكنت طفلاً * مقراً بالنبي في بطن أمي
وأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غداً بظلمي
أنا الرجل الذي لا تنكروه * ليوم كريهة أو يوم سلم
فقال معاوية : أخفوا هذا الكتاب ، لايقرؤه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب ) .
ورواه في تاريخ دمشق ( 42 / 520 ) : وقال في هامشه : ( الخبر والشعر في البداية والنهاية : 8 / 9 . . الأبيات في ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه طبعة بيروت / 188 ، ومعجم الأدباء : 14 / 48 .
--------------------------- 102 ---------------------------
ورواها ابن حجر في الصواعق المحرقة : 2 / 386 ، ورواه في سمط النجوم العوالي : 3 / 78 والوافي بالوفيات : 21 / 184 ، ومعجم الأدباء : 4 : 176 ، والحماسة المغربية : 1 / 576 ) .
أقول : أصل الأبيات ثمانية ، روى ابن عساكر منها خمسة ، وكذلك فعل غيره ، لأن فيها احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ببيعة الغدير !
ورواه من مصادرنا : روضة الواعظين للفتال النيسابوري / 87 ، وشرح الأخبار : 2 / 109 ، والاحتجاج : 1 / 265 ، عن أبي عبيدة ، ومناقب آل أبي طالب : 2 / 19 ، عن المدائني ، وبحار الأنوار : 33 / 132 ، عن الإحتجاج .
وأورد لها الأميني في الغدير ( 2 / 26 ) أحد عشر مصدراً من أصحابنا ، وستاً وعشرين مصدراً من السنيين ، منهم البيهقي رواها برمتها كما نقل عنه ابن حجر في الصواعق المحرقة ، وابن الشيخ في ألف باء : 1 / 439 ، والكندي في المجتنى / 39 ، عن ابن دريد ، والحموي في معجم الأدباء : 5 / 266 ، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول / 11 ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص / 62 ، والشنقيطي كاملة في كفاية الطالب / 36 . . الخ . ) .
13 . من كلماته ( عليه السلام ) في مكانة أهل البيت ( عليهم السلام )
قال ( عليه السلام ) : ( لا يقاس بآل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من هذه الأمة أحد ، ولايُساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً . هم أساس الدين وعماد اليقين . إليهم يفئ الغالي وبهم يلحق التالي . ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ) . ( نهج البلاغة : 1 / 38 )
وقال ( عليه السلام ) : ( هم أساس الدين وعماد اليقين . هم دعائم الإسلام وولائج الإعتصام . هم أزمة الحق وأعلام الدين . هم كنوز الرحمن وفيهم كرائم القرآن . هم أركان الأرض القوامون بالقسط . هم أرسب في الدين من الجبال الرواسي . هم عيش العلم وموت الجهل . هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة . لا تعلموهم فهم أعلم منكم . أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا .
العلم في عترة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . العلم في عقبنا إلى أن تقوم الساعة . إنا أهل بيت من علم الله علمنا . عندنا أهل البيت معاقل العلم . نحن أهل البيت أعلم بما قال الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . عندنا من اسم الله الأعظم اثنان وسبعون حرفاً . إنا أهل بيت علمنا علم المنايا والبلايا . إن الله علمنا منطق الطير . لا تصيب أحداً أعلم منا أهل البيت .
--------------------------- 103 ---------------------------
إنا لأمراء الكلام . عندنا أبواب الحكم وضياء الأمر . ليس منا أحد إلا وهو عالم بجميع أهل ولايته . ( فهرس الدليل على موضوعات نهج البلاغة ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( نحن أهل بيت الرحمة . نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة . نحن معدن الكرامة . نحن أهل البيت اختارنا الله واصطفانا . نحن شهداء الله والرسول شهيد علينا . نحن أنوار السماء وأنوار الأرض . نحن أمان لأهل الأرض . نحن النجباء وأفراطنا أفراط الأنبياء . نحن باب حطة وهو باب الإسلام . نحن ولاة ليلة القدر . نحن النمرقة الوسطى .
وقال ( عليه السلام ) : إنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا . بنا اهتديتم في الظلماء . بنا هداكم الله من الضلالة . بنا تسنمتم الشرفاء . بنا عُبد الله في أرضه . بنا يفتح الله وبنا يختم . مثل آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كمثل نجوم السماء . مثلنا في هذه الأمة كمثل سفينة نوح . ما برأ الله من برية أفضل من محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومني ومن أهل بيتي . شجرة النبي خير شجرة . عترة النبي خير العتر . أنا أحق قريش بالإمامة . لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي . الله الله لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري . ما علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك يوم غدير خم لأحد حجة . احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة . أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة .
أكنت أدَعُ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مسجى لا أواريه وأخرج أنازع في سلطانه . أرادوا أن يحرقوا عليَّ بيتي . لو وجدت أربعين رجلاً لما كففت يدي . لو كان لي بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حمزة وجعفر لم أبايع كرهاً . لم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط . يا علي إن وجدت فئة تقاتل بهم فاطلب حقك ، وإن لم تجد أعواناً فبايعهم واحقن دمك . أطعت مخافة أن يرجع الناس كفاراً . لولامخافة الفرقة بين المسلمين لكنا على غير ما كنا . فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول . رأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين . أمسكت يدي ورأيت أني أحق بمقام محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الناس . فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام . خشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً
--------------------------- 104 ---------------------------
وهدماً . صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى . كظمت غيظي وانتظرت أمر ربي . والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين . اللهم إني أستعديك على قريش .
ما تركت بدرٌ لنا مَذيقا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا .
ومن كلام له ( عليه السلام ) : بنا اهتديتم في الظلماء ، وتسنمتم العلياء ، وبنا إنفجرتم عن السرار . لقد قبض الله نبيه ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا . وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم . لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة . لم يوجس موسى ( عليه السلام ) خيفة على نفسه ، أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال . ( فهرس موضوعات نهج البلاغة ) .
14 . احتجاج ابن عباس على عمر
في تاريخ الطبري ( 3 / 288 ) عن ابن عباس ، وفي شرح النهج ( 6 / 50 ) عن عبد الله بن عمر ، ولفظهما متقارب ، قال : « كنت عند أبي يوماً وعنده نفر من الناس ، فجرى ذكر الشعر فقال : من أشعر العرب ؟ فقالوا فلان وفلان ، فطلع عبد الله بن عباس فسلم وجلس ، فقال عمر : قد جاءكم الخبير ، من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير بن أبي سلمى . قال : فأنشدني مما تستجيده له . فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه مدح قوماً من غطفان يقال لهم بنو سنان ، فقال :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا ، جن إذا فزعوا * مرزؤون بها ليلاً إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعم * لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
فقال عمر : والله لقد أحسن ، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت هاشم لقرابتهم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال ابن عباس : وفقك الله يا أمير المؤمنين ، فلم تزل موفقاً . فقال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين . قال : لكني أدري ! قال : ما هو يا أمير المؤمنين ؟
--------------------------- 105 ---------------------------
قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجخفوا جخفاً ( تتكبروا تكبراً ) فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت !
فقال ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع ؟ قال : قل ما تشاء . قال : أما قول أمير المؤمنين : إن قريشاً كرهت ، فإن الله تعالى قال لقوم : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ! وأما قولك : إنا كنا نجخف ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله
الذي قال الله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم ، وقال له : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . وأما قولك : فإن قريشاً اختارت ، فإن الله تعالى يقول : وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش ! فقال عمر : على رسلك يا ابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول ، وحقداً عليها لا يحول !
فقال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب هاشماً إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه ، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا . وأما قولك حقداً ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، ويراه في يد غيره !
فقال عمر : أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي ! قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ أخبرني به فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقاً فإن منزلتي لا تزول به ! قال : بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا الأمر منكم حسداً وظلماً ! قال : أما قولك يا أمير المؤمنين : حسداً ، فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة ، فنحن بنو آدم المحسود ! وأما قولك : ظلماً ، فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ! ثم قال : يا أمير المؤمنين ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله ، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ! فنحن أحق برسول الله من سائر قريش فقال
--------------------------- 106 ---------------------------
له عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك !
فقام ، فلما ولى هتف به عمر : أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك ! فالتفت ابن عباس فقال : إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقاً برسول الله ، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى ! فقال عمر لجلسائه : واهاً لابن عباس ما رأيته لاحى أحداً قط إلا خصمه » !
- *
أقول : إن احتجاجات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على القوم ، واسعةٌ متتابعة ، كاملةٌ شاملة . .
وما ذكرناه بعضها ، وقد أوردنا عدداً منها في فصول سيرته مع أبيبكر وعمر وعثمان . - *
--------------------------- 107 ---------------------------
الفصل الخامس والثلاثون: كان أبو بكر وعمر صَدَيقين لدودين !
كانا عدوَّىن يعملان لهدف مشترك !
« لما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشاع بين الناس موته ، طاف عمر على الناس قائلاً : إنه لم يمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه ! وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات ! فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما يتوعد ويقول ! فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده ، حتى جاء أبو بكر فقال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت » ! ( سنن الدارمي : 1 / 39178 ) .
وفي رواية : لا يموت حتى يقتل المنافقين . وفي رواية : حتى يظهر دينه على الدين كله . وفي رواية : حتى يملك المشرق والمغرب ! ( أحمد : 6 / 220 ، وابن أبي شيبة : 8 / 565 ) وغيرها .
وسبب فعل عمر هذا أنه خاف أن يبادر بنو هاشم إلى بيعة علي ( عليه السلام ) ، فأراد كسب الوقت حتى يحضرأبوبكر ! فلما عرف أن علياً ( عليه السلام ) لا يقبل البيعة ، وأن أبا بكر جاء وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات ، قَبِلَ عمر قوله وسكت !
وبقي الخوف من الأنصار أن يبادروا إلى بيعة سعد بن عبادة وكان مريضاً في سقيفته ، فسارعا راكضين ليصفقا على يد أبيبكر في بيت سعد ، بمساعدة الأوس خصوم سعد ، وجمهور الطلقاء !
ففي سنن البيهقي ( 8 / 145 ) : « فقال أبو بكر : دونكم صاحبكم ، لبني عم رسول الله ، يعني في غسله وما يكون من أمره ، ثم خرج » !
وفي سيرة ابن كثير ( 4 / 491 ) : « فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان ! حتى أتوهم » .
ونلاحظ أن أبا بكر وعمر جاءا من معسكر أسامة بدون إجازة ، وأن عمر كان يصرخ إن
--------------------------- 108 ---------------------------
النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يمت فلا تقوموا بأي عمل لخلافته ! ويهدد بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيرجع كما رجع موسى ( عليه السلام ) ويقتل من قال إنه مات ! حتى جاء أبو بكر فدخل وكشف عن وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعلن بأسلوب فج أنه مات ، قال : من كان يعبد هذا فإنه قد مات ، أي فاعلموا ذلك يا عباد محمد ! أما نحن فنعبد رب محمد ولا نعبده هو ! ثم غطى وجهه وقال لبني هاشم : دونكم صاحبكم ، أي خذوا جنازته فغسلوه وادفنوه !
وخرج مع عمر وذهبا راكضين إلى بيت سعد أو سقيفته . وفي الطريق كان ينتظرهم أبو عبيدة واثنان من الأوس ، فهؤلاء كل الذين حضروا في السقيفة !
وكانت الجلسة مختصرة ، بدؤوها بمناقشة حادة مع سعد المريض ، ثم صفقوا على يد أبيبكر ، وجاء الطلقاء وملؤوا السقيفة تأييداً لأبيبكر وعمر !
وفي روايتنا : « اشتدت علة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعت عائشة صهيباً فقالت : إمض إلى أبيبكروأعلمه أن محمداً في حال لاترجى ، فهلموا إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ، ومن رأيتم أن يدخل معكم ، وليكن دخولكم المدينة بالليل سراً . . .
فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد ثقل . قال : فأفاق بعض الإفاقة فقال : لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم ! فقيل له وما هو يا رسول الله ؟ قال فقال : إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون أمري ! ألا إني إلى الله منهم برئ ! ويحكم نفذوا جيش أسامة ! فلم يزل يقول ذلك حتى قالها مرات كثيرة » . ( إرشاد القلوب : 2 / 237 ، والدرجات الرفيعة / 290 ) .
السقيفة ترتيبٌ قرشي عمري مقابل الترتيب الإلهي
الإسلام عِلْمٌ يدير حياة الإنسان ويوجهها إلى هدفها ، ويحتاج إلى متخصص عنده إلهامٌ إلهي ، ولذلك أعدَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول العترة علياً ( عليه السلام ) ، وجعل له جلستين في كل يوم . وأعد الله عترة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهداية الأمة بهذا العلم ، وأورثهم علم الكتاب الذي هو تبيان كل شئ ، فقال : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا .
ثم أمر الصحابة والأجيال بطاعتهم لعصمتهم ، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ . فالذين أمرالله الأمة بطاعتهم لا بد أن يكونوا علماء ربانيين
--------------------------- 109 ---------------------------
معصومين ، ومحالٌ أن يأمر بطاعة كل من تَغَلَّبَ على الأمة !
وقد أجمع المسلمون على تميُّز علي وأئمة العترة ( عليهم السلام ) في علمهم ، ورووا أن الله تعالى أقْرَأَ رسوله فلا ينسى : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى . أمره أن يعدَّ علياً ( عليه السلام ) ويقرئه فلا ينسى !
قال السيوطي في الدر المنثور ( 6 / 260 ) : ( أخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن مكحول قال : لما نزلت : وَتَعِيَها أذُنٌ وَاعِية ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : سألت ربي أن يجعلها أذن عليّ . قال مك حول : فكان عليٌّ يقول : ما سمعت من رسول الله شيئاً فنسيته !
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والواحدي ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وابن النجاري ، عن بريدة : قال رسول الله لعلي : إن الله أمرني أن أدنيك ولاأقصيك وأن أعلمك وأن تعي ، وحق لك أن تعي ، فنزلت هذه الآية : وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي : قال رسول الله : يا علي إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي ، فأنزلت هذه الآية : وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، فأنت أذن واعية لعلمي ) .
وقد عرف الجميع سعة علم علي ( عليه السلام ) ، وضآلة علم من أتوا بهم من السقيفة ، ورووا أخطاءهم الفظيعة في تفسيرالقرآن وأحكام الشريعة ، كتفسير آية : وفاكهةً وأبًّا ، وآية الكلالة ، وآية الربا ، وآية التيمم ، وإرث الجدة ، وعشرات الأمثلة !
قال في فتح الباري ( 9 / 323 ) : ( عن ابن عباس ، أن عمر أُتِيَ بمجنونة قد زنت وهي حبلى ، فأراد أن يرجمها ، فقال له علي : أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يدرك ، وعن النائم حتى يستيقظ . أخرجه أبو داود ، وابن حبان من طريقه ، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين . وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور ) !
فالذي حدث في السقيفة : أنهم أقصوا الذي عنده علم الكتاب ، وأجبروه على البيعة لجاهل . فأي ظلم أكبر من أن تسجن المتخصص بالقانون ، وتأتي بمن
يجهله ليطبقه !
--------------------------- 110 ---------------------------
الوحيدان اللذان منعا نبيهما ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب وصيته !
إن ما فعلوه مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعجب ظلامة في تاريخ الأنبياء والرسل جميعاً ( عليهم السلام ) ، وأسوأ تصرف من صحابتهم معهم ! فلو أن نبي الله موسى ( عليه السلام ) قال لليهود : إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً بل تحكمون العالم إلى يوم القيامة ، فتنطع يهودي وقال له : كلا ، لا نريد عهدك ، حسبنا التوراة ! فأطاعوا المتنطع ، وصاحوا : القول ما قال فلان ، وليس قولك يا موسى ! فماذا نحكم عليهم ؟ لابد أننا سنحكم عليهم بالكفر والإنقلاب على نبيهم ( عليه السلام ) !
لكنا لا نحكم بشئ على عمر ، ولا ندين شعاره الذي رفعه في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : حسبنا كتاب الله ! بل نؤيده في مصادرته حق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في رسم مستقبل أمته !
وفي مصادرته حق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كمسلم في أن يوصي بما يريد !
ومصادرة حقه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كصاحب بيت في أن يتصرف على فراش مرضه كما يريد !
ومصادرة حقه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في تفسير القرآن ، وتسمية أولي الأمر المفسرين الشرعيين !
روحي فداك يا رسول الله ، ما أعجب ظلامتك ! فعندما حان منك وداع أمتك وأردت أن تضعها في المسار الصحيح ، واجهك طلقاء قريش ، فقالوا لك بقيادة عمر : نقبل نبوتك لكن بدون سنتك وعترتك ، فنحن قبائل قريش أولى بدولتك من بني هاشم ، فالدولة لنا ، ومستقبل الأمة بيدنا ، وتفسير القرآن من حقنا ! وإن أبيت ذلك فأنت تهجر وتخرِّف ، وتريد تأسيس ملك لعترتك ، ونعلن الردة عن دينك !
قال عمر : ( لما مرض النبي قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لا تضلون بعدي أبداً ! فكرهنا ذلك أشد الكراهة ! ثم قال : ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً ! فقال النسوة من وراء الستر : ألاتسمعون ما يقول رسول الله ! فقلت : إنكن صواحبات يوسف ، إذا مرض رسول الله عصرتنَّ أعينكن ، وإذا صح ركبتنَّ رقبته ! فقال رسول الله : دعوهنَّ فإنهنَّ خيرٌ منكم ) ! ( مجمع الزوائد : 9 / 33 ، وطبقات ابن سعد : 2 / 244 ، ومعجم الرجال والحديث : 1 / 7 ، ونقل قولهم فيه : إسناده ضعيف فيه الواقدي ،
وقد ضعفه غير واحد ، والمتن صحيح بشواهده ) .
--------------------------- 111 ---------------------------
نعم والله ، إنهن خير منهم ، خاصة أم سلمة ، قالت : ألا تسمعون ما يقول رسول الله !
ومن العجائب موقف عمر الذي وصفه الطبري ( 2 / 618 ) عند وفاة أبيبكر ، وبيده عصا يسكِّت بها الناس ويقول : إسمعوا وأطيعوا ، يريد أن يكتب لكم كتاباً ! قال : ( رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه وبيده جريدة وهو يقول : أيها الناس : إسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله ، إنه يقول : إني لم آلكم نصحاً ! قال : ومعه مولى لأبيبكر يقال له شديد ، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر ) !
أقول : هذا جزءٌ يسير من أخبار رفض قريش للعهد النبوي ، ومسارعتهم في الصفق على يد أبيبكر وإعلانه خليفة ! ثم هجومهم بالحطب والسيوف على أهل البيت النبوي لإجبارهم على البيعة ! ثم مسارعتهم في الوصية لعمر ! ( راجع انقلاب الأمة على رسولها في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 2 مسألة : 159 ) .
أول صحابيين واجها نبيهما : إنا لانطيعك !
روى في شرح النهج ( 12 / 78 ) والتحفة العسجدية / 146 ، عن ابن عباس أن عمر قال له : « يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك ، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً ، فيمَ تظن موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنك لتعلم ! قال : أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة . قلت : هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد الأمر له . فقال : يا ابن عباس ، وأراد رسول الله الأمر له ، فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله ! أوَكلما أراد رسول الله كان » ؟ !
فعمر يعترف بأن الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد أن يكون الخليفة علياً ( عليه السلام ) ، وأراد أن يكتب ذلك فمنعه ، وزعم أن إرادة الرسول ( عليه السلام ) إرادة شخصية وليست ربانية ، وجعل فعله هو مقابل إرادة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعلَ الله تعالى وإرادتَه ! فهو يقول : أراد رسول الله أمراً ، وأراد الله غيره ، يعني أردتُ أنا غيره ، فوقع ما أراد الله ، أي ما أراده عمر !
--------------------------- 112 ---------------------------
ونتيجة هذا التحريف تصبح طاعة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غير واجبة ، لأن إرادة شخصية بهواه ، ومعصيته مقدسة ، لأنها إرادة الله ! ويصبح معنى قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ، أن معصيته هي إرادة الله لأن الله سمح بها تكويناً فهي جائزة شرعاً ! وهكذا قلَب عمر الأمور وجعل معنى الإرادة التكويني إرادة شرعية !
قال العلامة ( قدس سره ) في كشف اليقين / 470 : « وروى أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد بسنده عن ابن عباس ، قال : دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني للأكل فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرٍّ كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، ثم قال : من أين جئت يا عبد الله ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر فقلت : خلفته يلعب مع أترابه . قال : لم أعن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت . قلت : خلفته يمتح بالغرب ( يسقي بالدلو ) على نخلات له وهو يقرأ القرآن ، فقال : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، أبقيَ في نفسه شئ من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أيزعم أن رسول الله جعلها له ؟ قلت : نعم وأزيدك : سألت أبي عما يدعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ [ غُلُو ] من قول لا يُثبت حجة ولا يقطع عذراً ، وقد كان يربع في أمره وقتاً ما . ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لاورب هذه البينة لا تجتمع عليه قريش أبداً ! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ! فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم ) !
أشار بذلك إلى قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إئتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده ، فقال عمر : إن الرجل ليهجر !
وانتقضت عليه العرب : أي : نقضناها نحن عليه !
أبو بكر وعمر أسسا فصل الدين عن الدولة
وهذا طبيعي لأن مخالفتهما للنص الرسولي والترتيب الرباني للحكم بعد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتغليبهما منطق قريش القبلي ، تعني حتماً أنهما أسسا دولة علمانية
--------------------------- 113 ---------------------------
بمنطق قبلي وبفعل بشري ، لا علاقة لها بالوحي والنص الإسلامي .
ولم يدَّع أحد منهما أن خلافته استندت إلى نص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بل إلى العرف القبلي ! وتسميتها نظام خلافة لا معنى له إلا البعدية الزمنية ، أي نظامٌ خلف نظاماً !
وعليه ، فالحقوق التي افترضها القرشيون لخليفتهم ، لا أساس لها في الإسلام ، إلا ما ثبت لحاكم زمني نصبه متغلبون بالإجبار والإكراه !
حرموا الأمة من ضمان مستقبلها
فقد أنشأ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذه الأمة وأطلق مدَّها الحضاري في أقصروقت وأقل كلفة ! فلم يزد عدد القتلى في كل حروبه من الطرفين على ست مئة شخص ! ووضع الله تعالى لهذه الأمة برنامجاً بإمامة عترة نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لتبقى خير أمة ، وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يكرر أنكم إن أطعتموهم لا تضلون بعدي .
لكن عمر وأبا بكر رفضا ذلك وقالا : إذا دخلت الخلافة في بني هاشم فلن تخرج منهم أبداً ، وهذا ظلم لقريش ما بعده ظلم ! فهم يريدون رفع ظلم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والوحي عن قبائل قريش وتحقيق العدل !
ولأن هدفهم رفع الظلم عن قريش ردوا عرض نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وسخروا من وعده بأن يبقوا على الهدى ويسودوا العالم إلى يوم القيامة ! وقاد موقفهم عمر فأطاعوه وصاحوا : لا تقربوا له دواة وقرطاساً ، القول ما قاله عمر !
قال البخاري ( 1 / 36 ) : ( عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا وكثر اللغط قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ! فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ، ما حال بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين كتابه ) !
وفي مسند أحمد ( 3 / 346 ) : ( دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده ، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها ) !
وسفَّهَ عمر قول النساء قربوا له دواة وقال : استفهموه ، أي سترون أنه يهجر !
--------------------------- 114 ---------------------------
فكانت قريش على خطوة من إعلان الردة ، وكان جبريل حاضراً عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمره أن لايضغط عليهم فيكفروا ، وينهي المجلس ويطردهم ، فقال : قوموا عني !
وقال البخاري ( 4 / 31 ) إنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لهم : ( دعوني ، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ) !
أي ما أنا فيه من إيمانكم بنبوتي والقرآن ، خيرٌ مما تريدون أن تجرُّوني اليه من إحراجكم لترتدوا وتكفروا ! فالذي ( يدعونه اليه ) أن يصرعلى كتابة العهد ليعلنوا أنه يريد فرض عترته ويعلنوا الردة ! وخففها البخاري فقال ( 4 / 66 ) : ( ماله أهَجَر ، استفهموه ) ! أي لتروا صحة كلامنا ، وأنه يهجر !
وهذه ظلامةٌ للأمة ، فقد عصوا الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومنعوه من تأمين مستقبل أمته من تسلط غيرها ، ومن الضلال . بل انتزعوا قيادة الأمة منه وأعطوها إلى زعيمهم الجديد عمر ! فوضعها في مسار الغلبة القبلي بدل مسار النص النبوي !
وأسس صراعاً دموياً على السلطة ، لم تعرف أمةٌ بعد نبيها أسوأَ منه ! نشبت فيه الحروب وسقط فيه ملايين القتلى ، وخسرت الأمة والعالم فيها خسارات عظيمة !
إن مَثَل الأمة بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كسفينة قال ربانها لركابها : أعطوني عهداً بالتنفيذ لأعطيكم خريطة توصلكم إلى برَّالنجاة ، فقال له أصحابه : لا نريد خريطتك ونحن نقودها إلى بر الأمان ! فقادوها واختلفوا واقتتلوا ، فوصلوا إلى صخور شاهقة وأمواج عاتية ، هي قانون الغلبة والصراع القبلي ، إلى يومنا هذا !
عزلوا العترة النبوية ( عليهم السلام ) واضطهدوهم
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) « نهج البلاغة : 1 / 82 ، و : 2 / 27 » : « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أنْ رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ! بنا يُستعطى الهدى ، ويستجلى العمى .
إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم » . « والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأول :
--------------------------- 115 ---------------------------
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَاا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
وقد بدأت حساسية قريش من عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أمره الله أن ينذرعشيرته الأقربين ، فبعثت قريش أبا سفيان فقال : ( يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ ؟ قال : يا صخر ، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى ) ! « المناقب : 2 / 276 »
وبعد أن صار للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دولة وفتَح مكة ، وأجبر قريشاً على خلع سلاحها ، أخذت تعمل لأخذ خلافته من عترته ! وقد واصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تبليغ رسالات ربه في عترته وأنهم كالقرآن أمانة الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الأمة ، وكان يؤكد : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . وحدد مصطلح أهل بيته بأنهم : عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين ( عليهم السلام ) ، وبلَّغ أمته أن الله كرَّمهم فحرَّم عليهم الزكاة ، وشرَّع لهم ميزانية خاصة هي الخمس ! وأنهم أولوا الأمرالذين فرض الله طاعتهم . وأولوا القربى ، الذين أمر الله الأمة بمودتهم . وأن علياً أولهم ، وهو الميزان ، فلا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق !
وفي حجة الوداع كان أكبر همِّه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يُركز إمامتهم ، فخطب خمس خطب في مكة وعرفات ومنى ، وبشَّر الأمة بأن الله اختار لهم اثني عشر إماماً ربانياً ، وأنهم الضمانة الوحيدة من بعده !
ثم خطب السادسة في طريق عودته إلى المدينة ، فأصعد علياً ( عليه السلام ) معه على المنبر ورفع بيده ، وبلَّغ الأمة أن الولاية التي له جعلها الله لعلي بعده !
قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( أيها الناس : ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ! فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) .
--------------------------- 116 ---------------------------
وأمر المسلمين أن يبايعوه فبايعوه ، وأمر زوجاته فجئن إلى خيمته وبايعنه .
وفي مقابل ذلك : واصلت قريش خططها لعزل عترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخذ خلافته ، وقالت لليهود سنطيعكم في بعض الأمر ، وجعلوه سراً بينهم : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا للَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ .
وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرف نشاطهم ، وأخبرأن أمته طمعت في خلافته ، وأنها ستظلم أهل بيته ( عليهم السلام ) ظلامة فادحة ! ثم يضرب بعضها بعضاً بالسيف على السلطة ، وأن ظلامة أهل بيته ستطول حتى يبعث الله ولده المهدي ( عليه السلام ) فيرفع الظلم عنهم وعن العالم !
وروى الحاكم ( 4 / 464 ) عن ابن مسعود ، والطبري في دلائل الإمامة / 223 : ( أتينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به ، ولا سكتنا إلا ابتدأنا ، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه !
قلت : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : إنا أهل بيت قد اختار الله الآخرة على الدنيا وإنه سيصيب أهل بيتي قتلٌ وتطريدٌ وتشريدٌ في البلاد ، حتى يتيح الله لنا راية تجئ من المشرق من يهزها يهزّ ، ومن يشاقها يشاقّ ، ثم يخرج عليهم رجل من أهل بيتي اسمه كاسمي وخلقه كخلقي ، تؤوب إليه أمتي كما تؤوب الطير إلى أوكارها ، فيملأ الأرض عدلاً ، كما ملئت جوراً ) .
وفي تفسير فرات / 392 ، لما نزل قوله تعالى : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . خرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض ، لبني عبد المطلب !
قال : فبعث رسول الله إلى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ، ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار ! قال : فقام رجل وقال : يا أبا الحسن ما لهنَّ من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم . فأتى رسول الله فأخبره فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ويل لقريش من تأويلهن ، ثلاث مرات !
--------------------------- 117 ---------------------------
ثم قال : يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجيرالذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبَوَا المؤمنين ) !
وهكذا كانت الإرادة الإلهية في هذه الأمة أن يقيم الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليهم الحجة ، وأن يعطيهم الحرية في أن يهتدوا بعده ، أو يضلوا !
وقد أمعنوا في عداوة بني هاشم فأبعدوهم عن كل وظائف الدولة ولم يوظفوا منهم أي موظف طول خلافة أبيبكر وعثمان !
قال ابن عباس ( مروج الذهب : 2 / 222 ) : ( إن عمر أرسل اليه فقال : يا ابن عباس ، إن عامل حمص هلك وكان من أهل الخير ، وأهل الخير قليل ، وقد رجوت أن تكون منهم ، وفي نفسي منك شئ لم أره منك [ بعيني ] وأعياني ذلك ، فما رأيك في العمل ؟ قال : لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك ، قال : وما تريد إلى ذلك ؟ قال : أريده ، فإن كان شئ أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أني لست من أهله ، فقبلت عملك هنالك ، فإني قلما رأيتك طلبت شيئاً إلا عاجلته ، فقال : يا ابن عباس ، إني خشيت أن يأتي عليَّ الذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلم إلينا ، ولا هلم إليكم دون غيركم ، إني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم ، قال : والله قد رأيتُ من ذلك فلمَ تراه فعل ذلك ؟ قال : والله ما أدري أضن بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم ، أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العتاب ، ولا بد من عتاب . وقد فرغت لك من ذلك ، فما رأيك ؟ قال قلت : أرى أن لا أعمل لك ، قال : ولمَ ؟ قلت : إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينك ، قال : فأشر عليَّ ، قلت : إني أرى أن تستعمل صحيحاً منك ، صحيحاً لك ) !
يريد أن يتأكد من أن عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى بعدموته لن يكون لهم دور في الحكم !
--------------------------- 118 ---------------------------
وأخرج عمر ضبه ونسف شرعية أبيبكر !
ورد في الإحتجاج ( 1 / 104 ) في حديث احتجاج اثني عشر صحابياً على أبيبكر وعمر : ( قال الصادق ( عليه السلام ) : فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يَحِرْ جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني ، فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممتُ أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة !
قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل ، فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم ؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل ، فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال عمر : والله يا أصحاب علي ! لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه ) !
أقول : لاتعجب من توبيخ عمر لأبيبكر ، فقد نصبه قبله لأنه شيبة قرشية ، فهو كالمحلل ليصل به إلى الخلافة ، وكان أبو بكر يعترف بذلك !
ففي فقه السنة لسيد سابق ( 1 / 290 ) : ( جاء عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، وعباس بن مرداس ، وطلبوا من أبيبكر نصبهم فكتب لهم به ، وجاءوا إلى عمر وأعطوه الخط فأبى ومزقه . . فرجعوا إلى أبيبكرفقالوا : الخليفة أنت أم عمر ؟ بذلت لنا الخط فمزقه عمر ، فقال : هو ، إن شاء ) !
ومن عجائب عمر أنه يتكلم عن قريش ويقول إن الخلافة حق لها دون غيرها ، ثم يقول لأبيبكر : والله لقد هممتُ أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ! وسالم فارسي ، عبدُ أبي حذيفة بن عتبة الأموي ، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو التي اخترعت رضاع الكبير من أجل سالم ، وزعمت أنها قالت للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن بىتهم غرفه واحدة وإن
--------------------------- 119 ---------------------------
سالماً يدخل عليَّ وهو كبير له لحية ، فقال أرضعيه ليكون ابنك من الرضاعة ، ويزول ما في نفس زوجك أبي حذيفة من دخوله عليك ! ( الطبراني : 7 / 121 ) .
فعمر يعطي الخلافة القرشية لغلام فارسي ! لأن قريشاً عنده هي عمر ، ومعنى تختار لنفسها : يختار لها عمر ، حتى لو اختار فارسياً أو هندياً ، أو مشلولاً أعمى !
قال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 126 ) : « روى الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني ، عن سعيد بن جبير قال : ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل : كانا والله شمسي هذه الأمة ونوريها ، فقال له ابن عمر : وما يدريك ؟ فقال له الرجل : أوليس قد إئتلفا ؟ فقال ابن عمر : بل اختلفا لو كنتم تعلمون ، وأشهد أني عند أبي يوماً وقد أمرني أن أحبس الناس عنه ، فاستأذن عبد الرحمن بن أبيبكر ، فقال عمر : دويبة سوء ولهو خير من أبيه ! فأوحشني ذلك منه ، فقلت : يا أبه عبد الرحمن خير من أبيه ! فقال : ومن ليس خيراً من أبيه لا أم لك ! إئذن لعبد الرحمن ، فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه ، وكان عمر قد حبسه في شعر قاله ، فقال عمر : إن الحطيئة لبذي ، فدعني أقوِّمه بطول الحبس ، فألح عليه عبد الرحمن وأبى عمر !
وخرج عبد الرحمن فأقبل عليَّ أبي وقال : أفي غفلة أنت إلى يومك هذا على ما كان من تقدم أحيمق بني تيم عليَّ وظلمه لي ؟
فقلت : يا أبه لا علم لي بما كان من ذلك !
فقال : يا بني وما عسيت أن تعلم ! فقلت : والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم ! قال : إن ذلك لكذلك على رغم أبيك وسخطه !
فقلت : يا أبه أفلا تحكي عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهم ، قال : وكيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم ، إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل !
قال ابن عمر : ثم تجاسر والله فجسر ، فما دارت الجمعة حتى قام خطيباً في الناس فقال : يا أيها الناس إن بيعة أبيبكر كانت فلتة وقى الله شرها ، فمن دعاكم
--------------------------- 120 ---------------------------
إلى مثلها فاقتلوه ) !
وقد صرح عمر بعدم شرعية بيعة أبيبكر لأنها بدون مشورة ، وأفتى بأن من دعا إلى مثلها فهو خائن ، يجب على المسلمين قتله !
روى البخاري ( 8 / 25 ) عن عبد الرحمن بن عوف قال : ( رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان ( الزبير ) يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً ( علياً ) فوالله ما كانت بيعة أبيبكر إلا فلتة فتمت !
فغضب عمر ثم قال : إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذي يريدون أن يغصبوهم أمورهم !
قال عبد الرحمن : فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير ، وأن لايعوها وأن لايضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً ، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها . فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة .
قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر ، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف ! فأنكر عليَّ وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله ؟ فجلس عمر على المنبر ، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فاني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي : ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم ( الزبير ) يقول والله لو مات عمر بايعت فلاناً ( علياً ) فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبيبكر فلتة وتمت . ألا وإنها قد كانت كذلك
--------------------------- 121 ---------------------------
ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبيبكر . من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تَغِرَّةَ أن يقتلا .
وإنه قد كان من خبرنا حين توفي الله نبيه أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبيبكر فقلت لأبيبكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقيَنا رجلان منهم صالحان فذكرا ماتمالأ عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لاعليكم أن لا تقربوهم ، إقضوا أمركم . فقلت والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ، فقلت من هذا ؟ قالوا هذا سعد بن عبادة ، فقلت : ماله ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله كما هو أهله ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دَفَّتْ دافةٌ من قومكم ( الطلقاء ) فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، وأن يغصبونا الأمر .
فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبيبكر ، وكنت أداري منه بعض الحدة ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل ، حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولم يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لايقربني ذلك من إثم ، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن . فقال قائل الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش .
--------------------------- 122 ---------------------------
فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار . ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ! فقلت : قتل الله سعد بن عبادة ! قال عمر : وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبيبكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد . فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يُتًابع ، هو ولا الذي بايعه ، تَغِرَّةَ أن يقتلا ) !
ملاحظات على حديث الفلتة
1 . قالوا إن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وهي بيت سعد ، والصحيح أنه لم يكن أي اجتماع للأنصار ولا دعوة لاجتماع ، ولم يكن في السقيفة إلا سعد مريضاً وحوله أهل بيته . فقرر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أن يذهبوا إلى بيته ويصفقوا على يد أبيبكر هناك ، ويؤيد ذلك الطلقاء .
وقد رووا أن أبا بكر لما كشف عن وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال إنه مات : ( ثم قام فقال : عندكم صاحبكم ، أي خذوه فغسلوه ، ثم خرج ) . ( مجمع الزوائد : 5 / 182 ) .
وفي سيرة ابن كثير ( 4 / 491 ) : ( فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان حتى أتوهم ) .
أي ذهبا إلى السقيفة يتراكضان ، وهي بيت سعد ، وقد اختاروا بيته للصفق على يد أبيبكر لأنه كان قال : إذا لم تعط قريش الخلافة لأهل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنحن أولى بها ، ودعا إلى نفسه ، فتخوف الأوس أن يكون الخليفة خزرجياً ، فتعاونوا مع أبيبكر وعمر ، وصفقوا على يد أبيبكر هناك ، رغم رفض سعد ، فكان لهم ما أرادوا .
2 . قوله : من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فلايبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يقتلا : أي لايغترا فيقتلا ، وهو من التغرير ، فهو يحكم بوجوب قتل من يبايع بدون مشورة ، وقد بايع هو بدون مشورة !
3 . قوله : وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون
--------------------------- 123 ---------------------------
أن يختزلونا من أصلنا وأن يغصبونا الأمر : يبدو أنه كلام سعد ، والدافة : البدو الذين يأتون يدفون دفيفاً ، أي دخل إلى المدينة بدوٌ مسلحون من قومكم ، يريدون غصب الخلافة ، وهم جمهور الطلقاء .
قوله : جُذيلها المحكك وعُذيقها المرجب ، أي أنا العمود المجرب التي تحك به الإبل نفسها ، وأنا عذق النخل المسند بسند .
قوله : قتلتم سعد بن عبادة ! فقلت : قتل الله سعد بن عبادة ! بل قال : أقتلوا سعداً فإنه صاحب فتنة ، فهددهم ابنه قيس فسكتوا .
وكان في صدر عمر ضبٌّ على أبيبكر !
قال الشريف المرتضى في تلخيص الشافي ( 3 / 161 ) : ( روى الهيثم بن عدي ، عن مجاهد بن سعيد قال : غدوت يوماً إلى الشعبي وأنا أريد أن أسأله عن شئ بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله : فأتيته في مسجد حيه ، وفي المسجد قوم ينتظرونه ، فخرج فتعرف إليه القوم . فقلت للشعبي : أصلحك الله كان ابن مسعود يقول : ما كنت محدثاً قوماً حديثاً لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ، قال : نعم ، قد كان ابن مسعود يقول ذلك . وكان ابن عباس يقوله أيضاً ، فكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها ، ويصرفها عن غيرهم ، فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا ، فأخذنا في ذكر أبيبكر وعمر ، فضحك الشعبي وقال : لقد كان في صدر عمر ضبٌّ ( أي حقدٌ ) على أبيبكر ! فقال الأزدي : والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قياداً لرجل ، ولا أقول فيه بالجميل من عمر في أبيبكر . فأقبل عليَّ الشعبي فقال : هذا مما سألت عنه . ثم أقبل على الرجل ، فقال : يا أخا الأزد كيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها ؟ أترى عدواً يقول في عدوه يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبيبكر ؟
فقال الرجل : سبحان الله يأبى عمر ، وأنت تقول ذلك ! فقال الشعبي : أنا أقوله ! قاله عمر بن الخطاب على رؤوس الأشهاد فلُمْهُ أو دعه ، فنهض الرجل مغضباً وهو يهمهم في الكلام بشئ لم نفهمه . قال مجاهد : فقلت للشعبي : ما أحسب هذا
--------------------------- 124 ---------------------------
الرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم . قال : إذن والله لا أحفل بذلك شيئاً لم يحفل به ابن الخطاب ، حين قام على رؤوس المهاجرين والأنصار ، أحفل به ! وأنتم أيضاً فأذيعوه عني ما بدا لكم ) .
ثم روى صاحب الشافي ( 3 / 162 ) عن أبي موسى الأشعري أن عمر وصف أبا بكر : ( كان والله أحسد قريش كلها ، ثم أطرق طويلاً ، ثم قال : والهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة ، أحسدُ قريش كلها ، لقد تقدمني ظالماً ، وخرج إليَّ منها آثماً ) !
كما كان في صدر أبيبكر ضبٌّ على عمر !
روى الطبري ( 2 / 462 ) أن عمر قال لأبيبكر : ( فإن الأنصار أمروني أن أبلغك ، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة . فوثب أبو بكر وكان جالساً ، فأخذ بلحية عمر ، فقال له : ثكلتك أمُّكَ وعُدِمَتْكَ يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه » !
وقال مسدد في مسنده : « استشار علياً في أهل الردة فقال : إن الله جمع الصلاة والزكاة ، ولا أرى أن تفرق ، فعند ذلك قال أبو بكر : لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه » . ( كنز العمال : 6 / 531 ) .
وفي الرياض النضرة ( 1 / 105 ) : ( ارتدت العرب وقالوا لا نؤدي زكاة ، فقال : لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه . فقلت : يا خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تألف الناس وارفق بهم ، فقال : أجَبَّارٌ في الجاهلية وخَوَّارٌ في الإسلام ) !
ونحوه في الدر المنثور ( 3 / 241 ) وحذف منه البخاري ذم أبيبكر لعمر ورواه ( 8 / 140 ) .
- *
--------------------------- 125 ---------------------------
الفصل السادس والثلاثون: نماذج من رجوع أبيبكر وعمر إلي علي ( عليه السلام )
1 . أعلم أمتنا بالكتاب والسنة
روى في ( الكافي ( 1 / 529 ) والخصال / 476 ) : ( قال أبو الطفيل : شهدت جنازة أبيبكر يوم مات ، وشهدت عمرحين بويع وعلي ( عليه السلام ) جالس ناحية ، فأقبل غلام يهودي جميل بهي ، عليه ثياب حسان ، وهو من ولد هارون ، حتى قام على رأس عمر فقال : يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم ؟ قال : فطأطأ عمر رأسه ، فقال : إياك أعني وأعاد عليه القول ، فقال له عمر : لم ذاك ؟ قال : إنّي جئتك مرتاداً لنفسي شاكّاً في ديني ، إني رجل من اليهود وأنا علاّمتهم ، وقد أردت أن أسألك عن مسائل إن أجبتني فيها أسلمت . قال : ما هي ؟ قال : ثلاث وثلاث وواحدة ، فإن شئت سألتك وإن كان في القوم أحد أعلم منك فأرشدني إليه . قال : عليك بذلك الشاب . قال : ومن هذا الشاب ؟ قال : هذا عليّ بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهذا أبو الحسن والحسين ابني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهذا زوج فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فأقبل اليهودي على علي ( عليه السلام ) فقال : أكذاك أنت ؟ قال : نعم ، قال : إنّي اُريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة . قال فتبسم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من غير تبسم وقال : يا هاروني ما منعك أن تقول سبعاً ؟ قال : أسألك عن ثلاث فإن أجبتني سألت عما بعدهن ، وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم . قال علي ( عليه السلام ) : فإنّي أسألك بالإله الذي تعبده لئن أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعنَّ دينك ولتدخلنَّ في ديني ؟ قال : ما جئت إلاّ لذاك . قال : فسل . قال :
--------------------------- 126 ---------------------------
أسألك عن أول حجر وضع على وجه الأرض ، وأول عين نبعت وأوّل شجرة نبتت ؟ قال ( عليه السلام ) : يا يهودي ، أنتم تقولون : أول حجر وضع على وجه الأرض في بيت المقدس وكذبتم ، هو الحجر الذي نزل به آدم من الجنة قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ! قال ( عليه السلام ) : وأنتم تقولون : إن أوّل عين نبعت على وجه الأرض العين التي ببيت المقدس وكذبتم ، هي عين الحياة التي غسل فيها يوشع بن نون السمكة ، وهي العين التي شرب منها الخضر ، وليس يشرب منها أحد إلاّ حيي . قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ! قال ( عليه السلام ) : وأنتم تقولون : أول شجرة نبتت على وجه الأرض الزيتون وكذبتم ، هي العجوة التي نزل بها آدم ( عليه السلام ) من الجنة معه » . قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى !
فقال له : أخبرني عن الثلاث الأخر : أخبرني عن محمد كم له من إمام عدل ؟ وفي أي جنة يكون ؟ ومن ساكن معه في جنته ؟ فقال ( عليه السلام ) : يا هاروني إن لمحمد اثني عشر إمام عدل ، لا يضرهم خذلان من خذلهم ، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم ، وإنهم في الدين أرسب من الجبال الرواسي في الأرض ، ومسكن محمد في جنته معه أولئك الاثني عشر الإمام العدل ، فقال : صدقت والله الذي لا اله إلا هو إني لأجدها في كتب أبي هارون ، كتبه بيده وإملاء موسى عمّي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال : فأخبرني عن الواحدة ، أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده ؟ وهل يموت أو يقتل ؟ قال ( عليه السلام ) : يا هاروني يعيش بعده ثلاثين سنة ، لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً ، ثم يضرب ضربة ههنا يعني على قرنه فتخضب هذه من هذا . قال : فصاح الهاروني وقطع كستيجه ، وهو يقول : أشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأنك وصيّه ، ينبغي أن تفوق ولا تفاق ، وأن تعظم ولا تستضعف . قال : ثم مضى به علي ( عليه السلام ) إلى منزله
فعلّمه معالم الدين ) .
--------------------------- 127 ---------------------------
2 . صف لنا ابن عمك ؟
في الرياض النضرة ( 3 / 162 ) : ( عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى أبيبكر فقالوا : صف لنا صاحبك فقال : معشر اليهود لقد كنت معه في الغار كإصبعي هاتين ، ولقد صعدت معه جبل حراء وإن خنصري لفي خنصره ، ولكن الحديث عنه شديد ، وهذا علي بن أبي طالب . فأتوا علياً فقالوا : يا أبا الحسن صف لنا ابن عمك فقال : لم يكن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالطويل الذاهب طولاً ، ولا بالقصير المتردد ، كان فوق الربعة ، أبيض اللون مشرباً حمرة ، جعد الشعر ليس بالقطط ، يضرب شعره إلى أرنبته ، صلت الجبين ، أدعج العينين ، دقيق المسربة ، براق الثنايا ، أقنى الأنف ، كأن عنقه إبريق فضة ، له شعرات من لبته إلى سرته كأنهن قضيب مسك أسود ، ليس في جسده ولا في صدره شعرات غيرهن ، وكان شثن الكف والقدم ، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر ، وإذا التفت التفت بمجامع بدنه ، وإذا قام غمر الناس ، وإذا قعد علا الناس ، وإذا تكلم أنصت الناس ، وإذا خطب أبكى الناس ، وكان أرحم الناس بالناس ، لليتيم كالأب الرحيم ، وللأرملة كالكريم الكريم ، أشجع الناس وأبذلهم كفاً ، وأصبحهم وجهاً ، لباسه العباء ، وطعامه خبز الشعير ، وإدامه اللبن ووساده الأدم ، محشو بليف النخل ، سريره أم غيلان مرمل بالشريف ، كان له عمامتان إحداهما تدعى السحاب والأخرى العقاب ، وكان سيفه ذا الفقار ، ورايته الغراء ، وناقته العضباء ، وبغلته دلدل ، وحماره يعفور ، وفرسه مرتجز ، وشاته بركة ، وقضيبة الممشوق ، ولواؤه الحمد ، وكان يعقل البعير ، ويعلف الناضح ، ويرقع الثوب ، ويخصف النعل ) .
3 . أقل الحمل ستة أشهر
روى المفيد في الإرشاد ( 1 / 206 ) : ( أن عمر أُتِيَ بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمَّ برجمها ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك ، إن الله عز اسمه يقول : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًاً . ويقول تعالى : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
--------------------------- 128 ---------------------------
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ، فإذا تممت المرأة الرضاعة سنتين ، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً ، كان الحمل منها ستة أشهر . فخلّى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك ، يعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا ) .
4 . رفع القلم عن ثلاثة
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 203 ) وأبو داود ( 4 / 140 ) : ( إن مجنونة على عهد عمر فجر بها رجل ، فقامت البينة عليها بذلك فأمر عمر بجلدها الحد ، فمُرَّ بها على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لتُجلد ، فقال : ما بال مجنونة آل فلان تُعْتَل ؟ فقيل له : إن رجلاً فجربها وهرب وقامت البينة عليها ، فأمر عمر بجلدها ، فقال لهم : ردوها إليه وقولوا له : أما علمتَ أن هذه مجنونة آل فلان ! وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، إنها مغلوبة على عقلها ونفسها . فردت إلى عمر وقيل له ما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال : فرج الله عنه لقد كدت أن أهلك في جلدها ،
ودرأ عنها الحدّ ) .
5 . أي سبيل لك على ما في بطنها ؟
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 203 ) : ( إن عمر أُتي بحامل قد زنت فأمر برجمها ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هب لك سبيل عليها ، أي سبيل لك على ما في بطنها ؟ والله تعالى يقول : ولا تزر وازرة وزر اُخرى . فقال عمر : لاعشتُ لمعضلة لا يكون لها أبو حسن . ثمّ قال : فما أصنع بها ؟ قال ( عليه السلام ) : إِحتط عليها حتى تلد ، فإذا ولدت ووجدتَ لولدها من يكفله فأقم الحد عليها . فسرّي بذلك عن عمر وعول في الحكم به على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ) .
6 . لا قيمة للاعتراف في جو الخوف
في مناقب الخوارزمي / 88 : ( اُتي بامرأة حامل ، فسألها عمر فاعترفت بالفجور ، فأمر بها عمر أن ترجم ، فلقيها علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال : ما بال هذه ؟ فقالوا : أمر بها أمير المؤمنين أن ترجم ، فردها علي ( عليه السلام ) ، فقال : أمرت بها أن ترجم ؟ فقال : نعم اعترفت
--------------------------- 129 ---------------------------
عندي بالفجور . فقال ( عليه السلام ) : هذا سلطانك عليها ، فما سلطانك على ما في بطنها ؟ وقال علي ( عليه السلام ) : فلعلّك أنتهرتها أو أخفتها ؟ فقال : قد كان ذلك . قال ( عليه السلام ) : أو ما سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : لاحد على معترف بعد بلاء ؟ أنه من قيدت أو حبست أو تهددت ، فلا إقرار له . فخلّى عمر سبيلها ، ثم قال : عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب ، لولا علي لهلك عمر ) .
7 . لم يعرف أبو بكر وعمر معنى الكلالة والأبّ
( سُئل أبو بكر عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن أصبتُ فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان . فبلغ ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : ما أغناه عن الرأي في هذا المكان ! أما علم أن الكلالة هم الإخوة والأخوات من قِبَل الأب والأُم ، ومن قبَل الأب على انفراده ، ومن قبَل الأم أيضاً على حِدَتها ، قال الله عزّ قائلاً : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد . وقال جلت عظمته : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ .
« وسئل أبو بكر عن معنى : وفاكهة وأبّاً ، فلم يعرف معنى الأب وقال : أي سماء تُظلني وأي أرض تُقلني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله تعالى بما لا أعلم ، أما الفاكهة فنعرفها ، وأما الأب فالله أعلم به . فبلغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مقاله في ذلك فقال ( عليه السلام ) : يا سبحان الله أما عَلم أنّ الأب هو الكلأ والمرعى ، وأن قوله عز اسمه : وفاكهة وأبّاً ، اعتداد من الله سبحانه بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم ، مما تحيا به أنفسهم وتقوم به أجسادهم » . ( الإرشاد : 1 / 200 ) .
أما عمر فله مع الكلالة قصص ، وقد ألف فيها كتاباً ثم مزقه ، وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعا عليه أن لا يعرفها ، ثم أوصى المسلمين في خطبة تعيين الشورى أن يحلوا مسألتها ! وقد صحح علماء الحدىث جهل أبي بكر وعمر بمعنى الابّ .
--------------------------- 130 ---------------------------
8 . ألم يقتله مرة ؟
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 366 ) : ( قال الرضا ( عليه السلام ) : أقر رجل بقتل ابن رجل من الأنصار ، فدفعه عمر إليه ليقتله به ، فضربه ضربتان بالسيف حتى ظن أنه هلك فحمل إلى منزله وبه رمق فبرئ الجرح بعد ستة أشهر ، فلقيه الأب وجره إلى عمر فدفعه إليه عمر ، فاستغاث الرجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال لعمر : ما هذا الذي حكمت به على هذا الرجل ؟ فقال : النفس بالنفس . قال ( عليه السلام ) : ألم يقتله مرة ؟ قال : قد قتله ثم عاش . قال ( عليه السلام ) : فيقتل مرتين ؟ فبهت ، ثم قال : فاقض ما أنت قاض . فخرج ( عليه السلام ) فقال للأب : ألم تقتله مرّة ؟ قال : بلى فيبطل دم ابني ؟ قال ( عليه السلام ) : لا ولكن الحكم أن تدفع إليه فيقتص منك مثل ما صنعت به ثمّ تقتله بدم ابنك . قال : هو والله الموت ولابد منه . قال ( عليه السلام ) : لابد أن يأخذ بحقه . قال : فإني قد صفحت عن دم ابني ويصفح لي عن القصاص ، فكتب بينهما كتاباً بالبراءة ، فرفع عمر يده إلى السماء وقال : الحمد الله أنتم أهل بيت الرحمة يا أبا الحسن . ثم قال : لولا علي لهلك عمر ) .
9 . لعل لها عذراً
في الإرشاد ( 1 / 206 ) : ( إن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها ليس ببعل لها ، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل . فقالت : اللهم إنك تعلم أني بريئة ، فغضب عمر وقال : وتجرح الشهود أيضاً ؟
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ردوها واسألوها ، فلعل لها عذراً . فرُدت وسُئلت عن حالها فقالت : كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملتُ معي ماء ولم يكن في أبلي لبن ، وخرج معي خليطنا وكانت في إبله لبن ، فنفذ مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتّى اُمكنه من نفسي فأبيت ، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرهاً . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الله أكبر : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . فلما سمع ذلك عمر خلى سبيلها ) .
--------------------------- 131 ---------------------------
10 . زوجت هذا الغلام من هذه الجارية
روى في الكافي ( 7 / 423 ) : ( قال عاصم بن حمزة السلولي : سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول : يا أحكم الحاكمين أحكم بيني وبين اُمي ، فقال له عمر بن الخطاب : يا غلام لم تدعو على أمك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنها حملتني في بطنها تسعة أشهر وأرضعتني حولين ، فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ويميني عن شمالي طردتني وانتفت مني ، وزعمت أنها لا تعرفني . فقال عمر : أين تكون الوالدة ؟ قال : في سقيفة بني فلان . فقال عمر : علي بأم الغلام . قال : فأتوا بها مع أربعة إخوة لها وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لا تعرف الصبي ، وأن هذا الغلام غلام مدع ظلوم غشوم ، يريد أن يفضحها في عشيرتها وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط وأنها بخاتم ربها .
فقال عمر : يا غلام ما تقول ؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذه والله أمي حملتني في بطنها تسعة أشهر ، وأرضعتني حولين فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني ، وزعمت أنها لا تعرفني . فقال عمر : يا هذه ما يقول الغلام ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين والّذي احتجب بالنور ، فلا عين تراه وحق محمد وما ولد ، ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو وإنه غلام مدع ، يريد أن يفضحني في عشيرتي ، وإني جارية من قريش لم أتزوج قطّ ، وإني بخاتم ربي . فقال عمر : ألك شهود ؟ فقالت : نعم ، هؤلاء ، فتقدم الأربعون القسامة فشهدوا عند عمرأن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها ، وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قطّ وأنها بخاتم ربها . فقال عمر : خذوا هذا الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود ، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري ، فأخذوا الغلام ينطلق به إلى السجن ، فتلقاهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في بعض الطريق ، فنادى الغلام : يا ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنني غلام مظلوم ، وأعاد عليه الكلام الّذي كلم به عمر ، ثم قال : وهذا عمر قد أمر بي إلى الحبس . فقال علي ( عليه السلام ) : ردوه إلى عمر ، فلما ردوه قال لهم عمر : أمرت به إلى السجن فرددتموه
--------------------------- 132 ---------------------------
إليّ ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين أمرنا عليّ بن أبي طالب أن نردّه إليك وسمعناك وأنت تقول : لاتعصوا لعليّ ( عليه السلام ) أمراً ، فبينا هم كذلك إذ أقبل عليّ ( عليه السلام ) فقال : عليّ باُم الغلام فأتوا بها فقال عليّ ( عليه السلام ) : يا غلام ما تقول ؟ فأعاد الكلام ، فقال علي ( عليه السلام ) لعمر : أتأذن لي أن أقضي بينهم ؟ فقال عمر : سبحان الله وكيف لا ؟ وقد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أعلمكم علي بن أبي طالب . ثم قال للمرأة : يا هذه ألكِ شهود ؟ قالت : نعم ، فتقدم الأربعون قسامه فشهدوا بالشهادة الاُولى ، فقال علي : لأقضين اليوم بقضية بينكما هي مرضاة الرب من فوق عرشه علمنيها حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ثم قال لها : ألكِ وليٌّ ؟ قالت : نعم هؤلاء إخوتي . فقال لإخوتها : أمري فيكم وفي اُختكم جائز ؟ فقالوا : نعم يا ابن عم محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرك فينا وفي اُختنا جائز . فقال علي ( عليه السلام ) : أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربع مائة درهم والنقد من مالي ، يا قنبرعليَّ بالدراهم . فأتاه قنبر بها فصبها في يد الغلام قال : خذها فصبها في حجر امرأتك ، ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس يعني الغسل ، فقام الغلام فصب الدراهم في حجر المرأة ثم تلببها فقال لها : قومي . فنادت المرأة : النار النار ، يا ابن عم محمد تريد أن تزوجني من ولدي ، هذا والله ولدي ، زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا الغلام ، فلما ترعرع وشبَّ أمروني أن أنتفي منه وأطرده وهذا والله ولدي ، وفؤادي يتقلى أسفاً على ولدي . قال : ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت ونادى عمر : واعمراه ! لولا عليٌّ لهلك عمر ) .
11 . إيتوني بماء حار
روى في الكافي ( 7 / 422 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( أُتيَ عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلقت برجل من الأنصار وكانت تهواه ، ولم تقدر له على حيلة ، فذهبت فأخذت بيضة فأخرجت منها الصفرة وصبت البياض على ثيابها بين فخذيها ، ثمّ جاءت إلى عمر فقالت : يا أمير المؤمنين إن هذا الرجل أخذني في موضع كذا وكذا ففضحني . قال : فهم عمرأن يعاقب الأنصاري فجعل الأنصاري يحلف وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) جالس ويقول : يا أمير المؤمنين تثبت في أمري . فلما أكثرالفتى قال عمرلأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : يا أبا الحسن
--------------------------- 133 ---------------------------
ما ترى ؟ فنظر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى بياض على ثوب المرأة وبين فخذيها فاتهمها أن تكون احتالت لذلك فقال : إيتوني بماء حار قد أغلى غلياناً شديداً . ففعلوا فلما أُتي بالماء أمرهم فصبوا على موضع البياض فاشْتوى ذلك البياض ، فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فألقاه في فيه فلما عرف طعمه ألقاه من فيه ، ثم أقبل على المرأة حتى أقرت بذلك ، ودفع الله عز وجل عن الأنصاري عقوبة عمر ) .
12 . إيتوني بمنشار
روى المفيد في الإرشاد ( 1 / 205 ) : ( أن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولداً لها بغير بينة ، ولم ينازعهما فيه غيرهما ، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفزع فيه إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوفهما فأقامتا على التنازع والاختلاف ، فقال ( عليه السلام ) عند تماديهما في النزاع : إيتوني بمنشار . فقالت له المرأتان : ما تصنع ؟ فقال ( عليه السلام ) : أقده نصفين لكل واحدة منكما نصفه . فسكتت إحداهما ، وقالت الأخرى : الله الله يا أبا الحسن ، إن كان لابد من ذلك فقد سمحتُ به لها . فقال ( عليه السلام ) : الله أكبر ، هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت . فاعترفت المرأة الاُخرى بأن الحق مع صاحبتها والولد لها دونه ، فسرى عن عمر ودعا لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) بما فرج عنه في القضاء ) .
13 . أسئلة أسقف نجران
روى الشريف الرضي في خصائص الأئمة / 90 : ( قدم أسقف نجران على عمر بن الخطاب في صدرخلافته فقال : يا أمير المؤمنين إن أرضنا باردة شديدة المؤنة لا تحتمل الجيش ، وأنا ضامن لخراج أرضي أحمله إليك في كل عام كملاً .
قال : فضمنه إياه فكان يحمل المال ويقدم به في كل سنة ويكتب له عمر البراءة بذلك . فقدم الأسقف ذات مرة ومعه جماعة وكان شيخاً جميلاً مهيباً ، فدعاه عمر إلى الله وإلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكتابه وذكر له أشياء من فضل الإسلام وما يصير إليه المسلمون من النعيم والكرامة ، فقال له الأسقف : يا عمر ، أنتم تقرؤون
--------------------------- 134 ---------------------------
في كتابكم : وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فأين تكون النار ؟ فسكت عمر وقال لعليّ ( عليه السلام ) : أجبه أنت . فقال له عليّ ( عليه السلام ) : أنا أجيبك يا أسقف أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقال الأُسقف : ما كنت أرى أن أحداً ليجيبني عن هذه المسألة ، مَن هذا الفتى يا عمر ؟ فقال : علي بن أبي طالب ختن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وابن عمه وهو أبو الحسن والحسين . فقال الأسقف : فأخبرني يا عمر ، عن بقعة من الأرض طلعت فيها الشمس مرة واحدة ثم لم تطلع قبلها ولا بعدها ؟ فقال عمر : سل الفتى . فقال ( عليه السلام ) : أنا اُجيبك ، هو البحر حيث انفلق لبني إسرائيل ووقعت فيه الشمس مرة واحدة ولم تقع قبلها ولا بعدها .
فقال الأسقف : أخبرني عن شئ في أيدي الناس شبيه بثمار الجنة ؟ قال عمر : سل الفتى فسأله فقال عليّ ( عليه السلام ) : أنا أجيبك ، هو القرآن يجتمع عليه أهل الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شئ فكذلك ثمار الجنة . فقال الأسقف : صدقت . قال : أخبرني هل للسماوات من قفل ؟ فقال عليّ ( عليه السلام ) : قفل السماوات الشرك بالله . فقال الأسقف : وما مفتاح ذلك القفل ؟ قال ( عليه السلام ) : شهادة أن لا إله إلاّ الله لا يحجبها شئ دون العرش . فقال : صدقت . فقال : أخبرني عن أول دم وقع على وجه الأرض ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : أمّا نحن فلا نقول كما تقولون دم الخشاف ولكن أول دم وقع على وجه الأرض مشيمة حواء حيث ولدت هابيل بن آدم . قال : صدقت وبقيت مسألة واحدة ، أخبرني أين الله ؟ فغضب عمرفقال عليّ ( عليه السلام ) : أنا أُجيبك وسل عما شئت ، كنا عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذ أتاه ملك فسلم فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من أين اُرسلت ؟ فقال : من السماء السابعة من عند ربي ، ثم أتاه آخر فسأله فقال : أرسلت من الأرض السابعة من عند ربي ، فجاء ثالث من المشرق ، ورابع من المغرب ، فسألهما فأجابا كذلك ، فالله عز وجل هاهنا وهاهنا :
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ) .
--------------------------- 135 ---------------------------
14 . فأخبرنا أين ربك ؟
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( توحيد الصدوق / 180 ) : ( كان لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صديقان يهوديان قد آمنا بموسى رسول الله وأتيا محمّداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسمعا منه ، وقد كانا قرءا التوراة وصحف إبراهيم وموسى ، وعلما علم الكتب الأولى ، فلما قبض الله تبارك وتعالى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقبلا يسألان عن صاحب الأمر بعده وقالا : إنه لم يمت نبي قط إلاّ وله خليفة يقوم بالأمر في أُمته من بعده قريب القرابة إليه من أهل بيته ، عظيم الحظر جليل الشأن ، فقال أحدهما لصاحبه : هل تعرف صاحب الأمر من بعد هذا النبي ؟ قال الآخر : لا أعلمه إلاّ بالصفة التي أجدها في التوراة ، وهو الأصلع المصفر ، فإنه كان أقرب القوم من رسول الله . فلما دخلا المدينة وسألا عن الخليفة أُرشدا إلى أبيبكر فلما نظرا إليه قالا : ليس هذا صاحبنا ، ثم قالا له : ما قرابتك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال : إني رجل من عشيرته ، وهو زوج ابنتي عائشة ، قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا . قالا : ليست هذا بقرابة . قالا : فأخبرنا أين ربك ؟ قال : فوق سبع سماوات . قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا . قالا : دُلنا على من هو أعلم منك ، فإنك أنت لستَ بالرجل الذي نجد صفته في التوراة أنه وصي هذا النبي وخليفته .
قال : فتغيّظ من قولهما وهم بهما ، ثم أرشدهما إلى عمر وذلك أنه عرف من عمر ، أنهما إن استقبلاه بشيء بطش بهما . فلما أتياه قالا : ما قرابتك من هذا النبي ؟ قال : أنا من عشيرته وهو زوج ابنتي حفصة ، قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا . قالا : ليست هذه بقرابة وليست هذه الصفة التي نجدها في التوراة ، ثم قالا له : فأين ربك ؟ قال : فوق سبع سماوات . قالا : هل غيرهذا ؟ قال : لا . قالا : دُلنا على من هو أعلم منك . فأرشدهما إلى علي صلوات الله عليه فلما جاءاه فنظرا إليه قال أحدهما لصاحبه : إنه الرجل الذي نجد صفته في التوراة أنه وصيّ هذا النبي وخليفتهُ وزوج ابنته ، وأبوسبطيه والقائم بالحقِّ من بعده . ثمّ قالا لعليّ ( عليه السلام ) : أيّها الرجل ما قرابتك من رسول الله ؟
--------------------------- 136 ---------------------------
قال ( عليه السلام ) : هو أخي ، وأنا وارثه ووصيه وأول من آمن به ، وأنا زوج ابنته فاطمة ( عليها السلام ) .
قالا له : هذه القرابة الفاخرة والمنزلة القريبة ، وهذه الصفة التي نجدها في التوراة . ثم قالا له : فأين ربك عز وجل ؟ قال لهما عليٌّ ( عليه السلام ) : إن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبيّكما موسى ( عليه السلام ) وإن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قالا : أنبئنا بالذي كان على عهد نبينا موسى ( عليه السلام ) . قال علي ( عليه السلام ) : أقبل أربعة أملاك : مََلَكٌ من المشرق ، وملك من المغرب ، وملك من السماء ، وملك من الأرض ، فقال صاحب المشرق لصاحب المغرب : من أين أقبلت ؟ قال : أقبلتُ من عند ربّي . وقال صاحب المغرب لصاحب المشرق : من أين أقبلتَ ؟ قال : أقبلتُ من عند ربي . وقال النازل من السّماء للخارج من الأرض : من أين أقبلتَ ؟ قال : أقبلتُ من عند ربّي ، وقال الخارج من الأرض للنّازل من السّماء : مِن أين أقبلتَ ؟ قال : أقبلتُ من عند ربّي . فهذا ما كان على عهد نبيّكما موسى ( عليه السلام ) . وأما ما كان على عهد نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فذلك قوله في محكم كتابه : مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَرَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَسَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَمَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا .
قال اليهوديّان : فما منع صاحبيك أن يكونا جعلاك في موضعك الذي أنت أهله ؟ فوالذي أنزل التوراة على موسى إنك لأنت الخليفة حقاً ، نجد صفتك في كتبنا ونقرأه في كنائسنا ، وإنّك لأحق بهذا الأمر وأولى به ممن قد غلبك عليه !
فقال علي ( عليه السلام ) : قدما وأخرا وحسابهما على الله عز وجل ، يُوقَفان ويُسألان ) .
15 . غلط أصحابك يا كعب وحرّفوا كتب الله
روى المجلسي في البحار ( 36 / 194 ) : ( عن ابن عباس أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر ، إذ قال ( عمر ) : يا كعب أحافظ أنت للتوراة ؟ قال كعب : إني لأحفظ منها كثيراً . فقال رجل من جنبة المجلس : يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه ، ومِمَّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه ؟
فقال عمر : يا كعب هل عندك من هذا علم ؟
فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين ، نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان
--------------------------- 137 ---------------------------
قديماً قبل خلق العرش ، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تَفَلَ تَفَلَةً كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة ، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخر ما بقي منها لمسجد قدسه !
قال ابن عباس : وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حاضراً ، فَعَظَّمَ عَلِيٌّ رَبَّهُ وقام على قدميه ونفض ثيابه ! فأقسم عليه عمر لما عاد إلى مجلسه ففعله . قال عمر : غُصْ عليها يا غواص ما تقول يا أبا الحسن ، فما علمتك إلا مفرجاً للغم .
فالتفت علي ( عليه السلام ) إلى كعب فقال : غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه ! يا كعب ويحك ! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته ، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قِدْمته ، وعزّ الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه ، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي كان عجز عن كونه ، وهو مما عَلَّمَ من البيان يقول الله عز وجل : خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ فقولي له كان ، مما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته ، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء ، محيطاً بكل الأشياء ، ثم كَوَّنَ ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شئ ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لامن شئ كما خلق النور من غير شئ ، ثم خلق من الظلمة نوراً ، وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبعٍ أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ، ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الأخرى ، وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب ، وذلك قوله : وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ .
يا كعب ويحك ! إن من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس ، أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه !
--------------------------- 138 ---------------------------
فضحك عمر بن الخطاب وقال : هذا هو الأمر ، وهكذا يكون العلم ، لا كعلمك يا كعب . لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن ) .
16 . في بيته يؤتى الحكم
روى في الكافي ( 7 / 249 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واُفضى الأمر إلى أبيبكر اُتي برجل قد شرب الخمر ، فقال له أبو بكر : أشربت الخمر ؟ فقال الرجل : نعم ، فقال : ولِمَ شربتها وهي محرمة ؟ فقال : إنني لما أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمرويستحلونها ، ولم أعلم أنها حرام فأجتنبهَا . قال : فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال : ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل ؟ فقال : معضلة وأبو الحسن لها . فقال أبو بكر : يا غلام أدع لنا عليّاً ، قال عمر : بل يؤتى الحكم في منزله فأتوه ، ومعه سلمان الفارسي فأخبره بقصة الرجل فاقتص عليه قصته ، فقال عليّ ( عليه السلام ) لأبيبكر : ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار ، فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شئ عليه .
ففعل أبو بكر بالرجل ما قال عليّ ( عليه السلام ) فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله . فقال سلمان لعليّ ( عليه السلام ) : لقد أرشدتهم ، فقال علي ( عليه السلام ) : إنما أردت أن اُجدد تأكيد هذه الآية فيَّ وفيهم : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .
17 . أسئلة الأخوين اليهوديين
روى الصدوق في الخصال / 595 : ( عن عبد الله بن عباس قال : قدم يهوديان أخوان من رؤساء اليهود بالمدينة فقالا : يا قوم إن نبينا حدثنا أنه قد ظهر نبي بتهامة يسفه أحلام اليهود ، ويطعن في دينهم ، ونحن نخاف أن يزيلنا عما كان عليه آباؤنا ، فأيكم هذا النبي ، فإن يكن الذي بشر به داود آمنا به واتبعناه ، وإن لم يكن يورد الكلام على ائتلافه ويقول الشعر ويقهرنا بلسانه ، جاهدناه بأنفسنا وأموالنا ، فأيكم هذا النبي ؟ فقال المهاجرون والأنصار : إن نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد قبض ، فقالا : الحمد لله ، فأيكم وصيه ، فما بعث الله عز وجل نبياً إلى قوم إلا وله وصي يؤدي عنه من بعده ، ويحكي عنه ما أمره
--------------------------- 139 ---------------------------
ربه ، فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبيبكر فقالوا : هو وصيه ، فقالا لأبيبكر : إنا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء ، ونسألك عما تسأل الأوصياء عنه ، فقال لهما أبو بكر : ألقيا ما شئتما أخبركما بجوابه إن شاء الله ، فقال أحدهما :
ما أنا وأنت عند الله عز وجل ؟ وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟ وما قبر سار بصاحبه ؟ ومن أين تطلع الشمس ؟ وفي أين تغرب ؟ وأين طلعت الشمس ثم لم تطلع فيه بعد ذلك ؟ وأين تكون الجنة ؟ وأين تكون النار ؟ وربك يحمل أو يحمل ؟ وأين يكون وجه ربك ؟ وما اثنان شاهدان ؟ وما اثنان غائبان ؟ وما اثنان متباغضان ؟ وما الواحد ؟ وما الاثنان ؟ وما الثلاثة ؟ وماالأربعة ؟ وما الخمسة ؟ وما الستة ؟ وما السبعة ؟ وما الثمانية ؟ وما التسعة ؟ وما العشرة ؟ وما الأحد عشر ؟ وما الاثنا عشر ؟ وما العشرون ؟ وما الثلاثون ؟ وما الأربعون ؟ وما الخمسون ؟ وما الستون ؟ وما السبعون ؟ وما الثمانون ؟ وما التسعون ؟ وما المائة ؟
قال : فبقي أبوبكرلايرد جواباً ، وتخوفنا أن يرتد القوم عن الإسلام ! فأتيت منزل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقلت له : يا علي إن رؤساء اليهود قد قدموا المدينة وألقوا على أبيبكر مسائل فبقي أبوبكرلايرد جواباً ، فتبسم علي ( عليه السلام ) ضاحكاً ثم قال : هو اليوم الذي وعدني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأقبل يمشي أمامي وما أخطأت مشيته من مشية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شيئاً ، حتى قعد في الموضع الذي كان يقعد فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم التفت إلى اليهوديين فقال : يا يهوديان أدْنُوَا مني وألقيا علي ما ألقيتماه على الشيخ ، فقال اليهوديان : ومن أنت ؟ فقال لهما : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أخو النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زوج ابنته فاطمة وأبو الحسن والحسين ( عليهم السلام ) ووصيه في حالاته كلها ، وموضع سرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال له أحد اليهوديين : ما أنا وأنت عند الله ؟ قال : أنا مؤمن منذ عرفت نفسي وأنت كافر منذ عرفت نفسك ، فما أدري ما يحدث الله فيك يا يهودي بعد ذلك . فقال اليهودي : فما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟ قال ذاك يونس ( عليه السلام ) في بطن الحوت . .
--------------------------- 140 ---------------------------
إلى أن قال : صف لي محمداً كأني أنظر إليه حتى أؤمن به الساعة . فبكى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم قال : يا يهودي هيجت أحزاني ! كان حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلت الجبين ، مقرون الحاجبين ، أدعج العينين ، سهل الخدين ، أقنى الانف ، دقيق المسربة ، كث اللحية براق الثنايا ، كان عنقه إبريق فضة ، كان له شعيرات من لبته إلى سرته ملفوفة كأنه قضيب كافور ، لم يكن في بدنه شعيرات غيرها ، لم يكن بالطويل الذاهب ، ولا بالقصير النزر ، كان إذا مشى مع الناس غمرهم نوره ، وكان إذا مشى كأنه يتقلع من صخر ، أو ينحدر من صبب ، كان مدور الكعبين ، لطيف القدمين ، دقيق الخصر ، عمامته السحاب ، وسيفه ذو الفقار ، وبغلته دلدل ، وحماره اليعفور ، وناقته العضباء ، وفرسه لزاز ، وقضيبه الممشوق ، وكان ( عليه السلام ) أشفق الناس على الناس ، وأرأف الناس بالناس ، كان بين كتفيه خاتم النبوة مكتوب على الخاتم سطران ، أما أول سطر فلا إله إلا الله وأما الثاني فمحمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . هذه صفته يا يهودي .
فقال اليهوديان : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنك وصي محمد حقاً ، فأسلما وحسن إسلامهما ، ولزما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكانا معه حتى كان من أمر الجمل ما كان ، فخرجا معه إلى البصرة فقتل أحدهما في وقعة الجمل ، وبقي الآخر حتى خرج معه إلى صفين فقتل بصفين ) .
أقول : في هذا الحديث ضعف في سنده ، ويبدو أن الراوي لم يحفظ ، فذكر أشياء من عنده . وقد أوردناه وحديث وفد ملك الروم الآتي على ضعفهما ، لأن فوائدهما متعددة .
18 . وفد ملك الروم
روى الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 299 ) : بسنده عن سلمان الفارسي ، ملخصاً قال : ( إن ملك الروم لما بلغه خبر وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخبر أمته واختلافهم ، وقولهم إنه لم يوص إلى أحد بعده دعا علماء بلده وأساقفتهم ، فأمر الجاثليق أن يختار من أصحابه وأساقفته فاختار منهم مائة رجل فخرجوا يقدمهم جاثليق لهم قد أقرت العلماء له جميعاً بالفضل والعلم ، متبحراً في علمه يخرج الكلام من تأويله ، ويرد كل فرع إلى أصله ، فقدم المدينة فسأل أهل المدينة عمن أوصى إليه محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن قام مقامه ،
--------------------------- 141 ---------------------------
فدلوهم على أبيبكر فأتوا مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال زعيم القوم : إنا قوم من الروم قدمنا نسأل عن صحة نبوة نبيكم ونسترشد لديننا ، فأيكم صاحب الأمر بعد نبيكم ؟ فقال عمر بن الخطاب : هذا صاحب أمر نبينا بعده .
قال الجاثليق : أيها الشيخ أنت القائم الوصي لمحمد في أمته قال أبو بكر : لا ما أنا بوصي . قال له : فما أنت ؟ قال عمر : هذا خليفة رسول الله . قال النصراني أنت خليفة رسول الله استخلفك في أمته ؟ قال أبو بكر : لا . قال : فما هذا الاسم الذي تسميت به أنبيك سماك به ؟ قال : لا ولكن تراضوا الناس فولوني واستخلفوني . فقال : أنت خليفة قومك لا خليفة نبيك ، ثم التفت الجاثليق إلى أصحابه فقال : إن هؤلاء يقولون إن محمداً لم يأتهم بالنبوة وإنما كان أمره بالغلبة ، ولو كان نبياً لأوصى كما أوصت الأنبياء . ثم التفت فقال : يا شيخ أما أنت فقد أقررت أن محمداً النبي لم يوص إليك ولا استخلفك وإنما تراضى الناس بك ، ولو كان رضا الله لرضا الخلق ما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . فلا بد لنا أن نحتج عليكم فيما ادعيتم حتى نعرف سبيل ما تدعون إليه .
ثم التفت إلى أبيبكر فقال : يا شيخ أين مكانك الساعة من الجنة وأين مكاني من النار ؟ قال : فالتفت أبو بكر إلى عمر وإلى أبي عبيدة مرة أخرى ليجيبا عنه ، فلم ينطق أحد منهما . قال : إنه قال ما أدري أين مكاني وما حالي عند الله .
قال الجاثليق : يا هذا أخبرني كيف استجزت لنفسك أن تجلس هذا المجلس وأنت محتاج إلى علم غيرك ، ولقد ظلمك القوم وظلموا أنفسهم فيك .
قال سلمان رضي الله عنه : فلما رأيت ما نزل بالقوم من البهت والحيرة والذل والصغار ، وما حل بدين محمد وما نزل بالقوم من الحزن ، نهضت لا أعقل أين أضع قدمي إلى باب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فدققت عليه الباب فخرج ، وهو يقول ما دهاك يا سلمان ؟ قال قلت : هلك دين الله وهلك الإسلام بعد محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وظهر أهل الكفر على دينه وأصحابه بالحجة ، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والقوم قد ورد عليهم ما لا طاقة لهم ، فأنت اليوم مفرج كربها وكاشف بلواها .
--------------------------- 142 ---------------------------
قال فقال ( عليه السلام ) : وما ذلك ؟ قال قلت : قدم قوم من ملك الروم يقدمهم جاثليق لم أر مثله يورد الكلام على معانيه ويصرفه على تأويله ، فأتى أبو بكر وهو في جماعة فأورد على أبيبكر مسألة أخرجه بها عن إيمانه وألزمه الكفر والشك في دينه ، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فنهض أمير المؤمنين ( عليه السلام ) معي حتى أتينا القوم وقد ألبسوا الذلة والمهانة والصغر والحيرة ، فسلم ثم جلس فقال : يا نصراني أقبل علي وجهك واقصدني بحاجتك فعندي جواب ما يحتاج الناس إليه فيما يأتون ويذرون ، وبالله التوفيق .
قال فتحول النصراني إليه فقال : يا شاب إنا وجدنا في كتب الأنبياء أن الله عز وجل لم يبعث نبياً قط إلا وكان له وصي يقوم مقامه ، فأقدمنا ملكنا وفداً لنبحث عن دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونعرف سنن الأنبياء والاستماع من قومه الذين ادعوا مقامه ، حق ذلك أم باطل ؟ فقدمنا وأرشدونا إلى هذا الشيخ فادعى مقامه فسألنا عن الوصية إليه من نبيه فلم يعرفها . فإن وجدنا لهذا الرسول وصياً قائماً بعده وعنده علم ما يحتاج إليه الناس صدقنا بنبوته وأجبنا دعوته ، وإن يكن غير ذلك رجعنا إلى ديننا وعلمنا أن أحمد لم يبعث . وقد سألنا هذا الشيخ فلم نجد عنده تصحيح نبوة محمد ، وإنما ادعى أنه كان جباراً غلب على قومه بالقهر ، وإنه مضى وتركهم بهم يغلب بعضهم بعضاً ، فهل عندك أيها الشاب شفاء لما في صدورنا ؟
قال علي ( عليه السلام ) : بل عندي شفاء لصدوركم وضياء لقلوبكم ، وإخبار عن أموركم وبرهان لدلالتكم . فاسألني عما يكون إلى يوم القيامة ، وعما كان على عهد عيسى ( عليه السلام ) منذ بعثه الله تبارك وتعالى ، وعن كل وصي ، وكل فئة تضل مائة وتهدي مائة ، وعن سائقها وقائدها وناعقها إلى يوم القيامة ، وكل آية نزلت في كتاب الله في ليل نزلت أم في نهار ، وعن التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ، فإنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يكتمني شيئاً من علمه ، ولا شيئاً ما تحتاج إليه الأمم ، من أهل التوراة والإنجيل ، وأصناف الملحدين وأحوال المخالفين .
قال فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال : هذا والله هو الناطق بالعلم والقدرة ، والفاتق والراتق ، ونرجو من الله أن يكون قد صادفنا حظنا . ثم التفت إلى علي ( عليه السلام ) فقال : كيف
--------------------------- 143 ---------------------------
عدل بك القوم عن قصدهم إياك وادعوا ما أنت أولى به منهم . فأخبرني أيها الحكيم عني وأنت ما أنت عند الله وما أنا عنده ؟
قال علي ( عليه السلام ) : أما أنا فعند الله عز وجل وعند نفسي مؤمن مستيقن بفضله ورحمته وهدايته ونعمه علي . وأما أنت فعند الله كافر بجحودك الميثاق والإقرار الذي أخذ الله عليك ما دمت على هذه الحال كنت في النار لا محالة .
قال : أخبرني عن الله جل وعلا أحمل العرش أم العرش يحمله ؟ قال ( عليه السلام ) الله حامل العرش والسماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله عز وجل : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً . قال : فأخبرني عن قوله عز وجل وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ فكيف ذلك وقلت إنه يحمل العرش والأرض ؟
قال علي ( عليه السلام ) : إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر احمرت منه الحمرة ، ونور أخضر اخضرت منه الخضرة ، ونور أصفر اصفرت منه الصفرة ، ونور أبيض أبيض منه البياض ، وهو العلم الذي حمله الله الحملة وذلك نور من عظمته ، فبعظمته ونوره ابيضت منه قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة ، بالأعمال المختلفة والأديان المتشتتة ، وكل محمول يحمله الله ، نوره ونور عظمته وقدرته . لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، فكل شئ محمول والله عز وجل الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما وبما فيهما من شئ ، وهو حياة كل شئ سبحانه ، ونور كل شئ ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
قال : فأخبرني عن الله عز وجل أين هو ؟ قال ( عليه السلام ) : هو هاهنا وهاهنا وهاهنا وهاهنا ، وهو فوق وتحت ، ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله تعالى ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
--------------------------- 144 ---------------------------
والكرسي محيط بالسماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم .
قال : والتفت الجاثليق إلى أصحابه فقال : هذا والله الحق من عند الله عز وجل على لسان المسيح والنبيين والأوصياء ( عليهم السلام ) .
قال : أخبرني عن الجنة هل في الدنيا هي أم في الآخرة وأين الآخرة من الدنيا ؟ قال ( عليه السلام ) : الدنيا في الآخرة والآخرة محيطة بالدنيا ، إذ كانت النقلة من الحياة إلى الموت ظاهرة ، وكانت الآخرة هي دار الحيوان .
قال الجاثليق : صدقت أيها الوصي العلي الحكيم الرفيق الهادي ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً ، وأنك وصيه وموضع سره ، وولي المؤمنين من بعده . ثم التفت إلى القوم فقال : يا هؤلاء قد أصبتم أمنيتكم وأخطأتم سنة نبيكم فاتبعوه تهتدوا وترشدوا .
قال وأسلم النصراني ومن كان معه وشهدوا لعلي ( عليه السلام ) بالوصية ولمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) )
بالحق والنبوة .
قال سلمان الخير : فلما خرجوا من المسجد وتفرق الناس ، وأرادوا الرحيل أتوا علياً ( عليه السلام ) مسلمين عليه مودعين له ، واستأذنوا فخرج إليهم علي فجلسوا فقال الجاثليق : يا وصي محمد وأبا ذريته : ما نرى الأمة إلا هلكت كهلاك من مضى من بني إسرائيل ، ونحن أولياؤك وعلى دينك وعلى طاعتك ، فمرنا بأمرك إن أحببت أقمنا معك ونصرناك على عدوك ، وإن أمرتنا بالمسير سرنا وإلى ما صرفتنا إليه صرفنا ، وقد نرى صبرك على ما ارتكب منك وكذلك سيماء الأوصياء ، وسنتهم بعد نبيهم ، فهل عندك من نبيك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد فيما أنت فيه وهم ؟
قال علي ( عليه السلام ) : نعم والله إن عندي لعهداً من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما هم صائرون إليه وما هم عاملون . ألا وقد عهد إلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن الأمر صائر إلي بعد الثلاثين من وفاته وظهور الفتن ، واختلاف الأمة علي ، ومروقهم من دين الله عز وجل ، وأمرني بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين ، فمن أدرك منكم ذلك الزمان وتلك الأمور ، وأراد أن يأخذ بحظه من الجهاد معي فليفعل . . . ثم بكى وبكى القوم معه ، ثم ودعوه ) .
--------------------------- 145 ---------------------------
19 . وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 194 ) : ( مسند أحمد وأبي يعلى : روى عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أنه اصطاد أهل الماء حجلاً فطبخوه ، وقدموا إلى عثمان وأصحابه ، فأمسكوا ، فقال عثمان : صيد لم نصده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فاطعموناه فما به بأس ، فقال رجل : إن علياً يكره هذا ، فبعث إلى علي فجاء وهو غضبان ملطخ بدنه بالخبط فقال له : إنك لكثيرالخلاف علينا . فقال ( عليه السلام ) : أذكرالله من شهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتى بعجز حمار وحشي وهو محرم فقال : إنا محرمون ، فأطعموه أهل الحل ؟ فشهد اثنا عشر رجلاً من الصحابة ثم قال : أذكر الله رجلاً شهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتى بخمس بيضات من بيض النعام فقال : إنا محرمون فأطعموه أهل الحل ؟ فشهد اثنا عشر رجلاً من الصحابة ! فقام عثمان ودخل فسطاطه وترك الطعام على أهل الماء . قال أبو الحسن المرادي :
يا سائلي عن علي والأولى عملوا * به من السوء ما قالوا وما فعلوا
لم يعرفوه فعادوه لجهلهم * والناس كلهم أعداء ماجهلوا ) .
- *
--------------------------- 146 ---------------------------
الفصل السابع والثلاثون: مكذوبات السلطة في فضائل أبيبكر وعمر وعثمان
1 . قال معاوية للوضاعين : كفى
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 3 / 595 ) : ( روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب ( علي ( عليه السلام ) ) وأهل بيته ! فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ، ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ! فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .
ويضيف المدائني : وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ! وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ، ومحبيه وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجئ أحد من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه ، فلبثوا بذلك حيناً .
--------------------------- 147 ---------------------------
وكتب معاوية إلى عماله : إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إليَّ وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله !
فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتى أشاروا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلمي الكتاتيب ، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموا بناتهم ، ونساءهم ، وخدمهم ، وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله ! .
ثم كتب معاوية نسخة واحدة إلى جميع البلدان : أنظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه !
وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره ! فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما الكوفة ، حتى أن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ، فيلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولايحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار ، والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض ) .
--------------------------- 148 ---------------------------
وأضاف سليم بن قيس في روايته / 316 : ( إن معاوية مر بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس فقال له : يا ابن عباس ، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا موجدة في نفسك علي بقتالي إياكم يوم صفين . يا ابن عباس إن ابن عمي أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً . قال له ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً ، أفسلمتم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه ؟ قال : إن عمر قتله مشرك . قال ابن عباس : فمن قتل عثمان ؟ قال : قتله المسلمون . قال : فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه ، فليس إلا بحق .
قال معاوية : فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك يا ابن عباس وأربع على نفسك . فقال له ابن عباس : أفتنهانا عن قراءة القرآن ؟ قال : لا . قال : أفتنهانا عن تأويله ؟ قال : نعم . قال : فنقرؤه ولا نسأل عما عنى الله به ؟ قال : نعم . قال : فأيما أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟ قال معاوية : العمل به . قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك . قال : إنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان ، أو أسأل عنه آل أبي معيط ، أو اليهود والنصارى والمجوس ؟
قال له معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيرتنا منهم ! قال له ابن عباس : لعمري ما أعدلك بهم ، غير أنك نهيتنا أن نعبدالله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا .
قال معاوية : فاقرؤا القرآن وتأولوه ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم من تفسيره ، وما قاله رسول الله فيكم ، وارووا ما سوى ذلك .
قال ابن عباس : قال الله في القرآن : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهبِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهإِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . قال معاوية : يا ابن عباس ، إكفني نفسك وكف عني لسانك ، وإن كنت لا بد فاعلاً فليكن ذلك سراً ولا يسمعه أحد منك علانية . ثم رجع إلى منزله ، فبعث إليه بخمسين ألف درهم ) .
--------------------------- 149 ---------------------------
2 . ملاحظات
1 . المدائني عند علماء المذاهب : إمام صدوق موثوق ، من كبار أئمة الحديث والمغازي والسير . قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 10 / 401 ) : ( المدائني : العلامة الحافظ الصادق ، أبو الحسن علي بن محمد ، بن عبد الله بن أبي سيف ، المدائني الأخباري . نزل بغداد ، وصنف التصانيف ، وكان عجباً في معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب ، مصدقاً فيما ينقله ، عالي الإسناد ) .
2 . قال معاوية : ( إن رسول الله قال لي إنك ستلي الخلافة من بعدي ، فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب ، فلعنوه ) ( شرح النهج : 4 / 72 ) .
3 . قامت سياسة الحكام في محاربة أهل البيت ( عليهم السلام ) على أربع خطط جهنمية :
الأولى : وضع الأحاديث كذباً متعمداً على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد أعطوا جوائز سخية للوضاعين في مدح أبيبكر وعمر وعثمان ومعاوية ، وبني أمية وقريش ، وفي ذم أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم والتنقيص منهم .
الثانية : منع الأحاديث وتفسيرالآيات في مدح العترة ، تحت طائلة العقوبة بالقتل !
الثالثة : منع الكلام ضد أبيبكر وعمر وعثمان ، سواء كان انتقاداً ، أو رواية حديث ، أو لعناً وسباً ، تحت طائلة العقوبة !
الرابع : إجبار الناس على ولاية أبيبكر وعمر وعثمان ، ووجوب مدحهم والترضي عنهم ، خاصة في خطبة صلاة الجمعة . واضطهاد من لا يحبهم !
لهذا تستطيع أن تكتب ثلاث مجلدات :
أولها : في غلو الحكومات في أبيبكر وعمر ، بقصص وأحاديث كاذبة تفضلهما حتى على الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) !
والمجلد الثاني ، في صرفهم الأموال الطائلة لوضع الأحاديث الكاذبة .
والمجلد الثالث : في خطط الحكومات من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى يومنا هذا ، في إجبار
--------------------------- 150 ---------------------------
الناس على ولاية أبيبكر وعمر وعثمان ، واضطهادهم الناس لذلك !
وبذلك صارت ولاية أبيبكر وعمر وعثمان عاملاً أساسياً في صناعة التاريخ .
3 . اعترف علماء السلطة بكثرة المكذوبات في مناقب الحكام
قال العجلوني في كشف الخفاء ( 2 / 419 ) : « وباب فضائل أبيبكرالصديق رضي الله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات ، كحديث : إن الله يتجلى للناس عامة ولأبيبكر خاصة ! وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبو بكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبيبكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبيبكر » !
وقال ابن القيم في مناره / 115 : « ومما وضعه جهلة المنتسبين إلى السنة في فضائل الصديق ، حديث : إن الله يتجلى للناس عامة يوم القيامة ولأبيبكر خاصة . وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا صببته في صدر أبيبكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبل شيبة أبيبكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبيبكر ! وحديث عمر : كان رسول الله وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما ! وحديث : لو حدثتكم بفضائل عمر عمر نوح في قومه ما فنيت ، وإن عمر حسنة من حسنات أبيبكر ! وحديث : ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ، إنما سبقكم بشئ وقر في صدره . ونحوه القاري في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة / 454 .
وهذا غيضٌ من فيض أقروا بأنه موضوع ، لكنه إقرار في بطون الكتب ، أما على المنابر وفي وسائل الإعلام ، وفي مؤلفات علمائهم ، فهي أحاديث صحيحة يستدلون بها ، ويرفعون بها عقيرتهم ، ويخاصمونك !
قال الفخر الرازي في تفسيره ( 1 / 169 ) : ( إن النبي أعطى أبا بكر خاتماً لينقش عليه لا إله إلا الله ، فأضاف لها : محمد رسول الله أبو بكر الصديق ! فقال له النبي : يا أبا بكر ما هذه الزوائد ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم الله ،
--------------------------- 151 ---------------------------
وأما الباقي فما قلته وخجل أبو بكر ! فجاء جبريل وقال : يا رسول الله أما اسم أبيبكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسم الله ، فما رضي الله أن يفرق اسمه عن اسمك ) !
فانظر كيف تحول هذا العقلاني الفيلسوف إلى عامي مفرط ، ولم يذكر سند هذا الحديث المكذوب ولم يسأل نفسه : لو صح هذا الحديث لاحتج به أبو بكر في السقيفة ، أو احتجوا له به ! لكنه لم يحتج في السقيفة إلا بالاستحقاق القبلي وأن محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من قريش ، فيجب أن ترث سلطانه قريش دون الأنصار !
وسيأتي استدلال التفتازاني المتكلم كغيره بهذه الأحاديث ، التي صرحوا بأنها مكذوبة !
4 . المكذوبات في عثمان أكثر إتقاناً !
قال السيد الميلاني : نلاحظ أن المكذوبات في عثمان أكثر دقة وإتقاناً ؟ فقلت له : لأن مرسوم معاوية الأول كان بوضع فضائل لعثمان ، فتسابق رواة السلطة على ذلك وبذلوا أقصى جهدهم في ذلك ليأخذوا جوائز معاوية ، فكثرت مناقب عثمان وتنوعت ، حتى كتب معاوية مرسوماً وعممه ، إنه قد كثر الحديث في عثمان فضعوا مناقب لأبيبكر وعمر . فكانت زهرة جهدهم في المكذوبات لعثمان ، وجاءت مناقب غيره أقل إتقاناً ! فقد كثر الكذابون وتسابقوا لأخذ الجوائز بأي بضاعة !
5 . نماذج من هرطقة رواة السلطة في فضائل أبيبكر
1 . كان لا يصلي في الليل ، لكنه يفكر ، فينشوي كبده حتى يحترق !
« روى المحب الطبري في الرياض النضرة ( 1 / 133 ) أن عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبيبكر بعد موته فسألها عن أعمال أبيبكر في بيته ما كانت ؟ فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها . ثم قالت : ألا إنه كان في كل ليلة جمعة يتوضأ ويصلي ثم يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه ، فإذا كان وقت السحر رفع رأسه وتنفس الصعداء ويقول : آخ فيطلع الدخان من فيه . فبكى عمر وقال :
--------------------------- 152 ---------------------------
كل شئ يقدر عليه عمر إلا الدخان ! أنى لابن الخطاب بكبد مشوي » ! ( الغدير : 7 / 219 ) .
2 . أبو بكر خير أهل السماوات والأرض !
في الصواعق المحرقة لابن حجر / 252 : عن أبي هريرة ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض وخير الأولين وخير الآخرين ، إلا النبيين والمرسلين . وقال : علي وفاطمة والحسن والحسين أهلي ، وأبو بكر وعمر أهل الله ، وأهل الله خير من أهلي » .
3 . أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى !
زعموا أن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما نفعني في الإسلام مال أحد ما نفعني مال أبيبكر ، منه أعتق بلالاً ، ومنه هاجر نبيه ، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكنه أخي وصاحبي ، وأخوة الإسلام أفضل . أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي . ( تاريخ دمشق : 30 / 60 و 206 ، وتاريخ بغداد : 11 / 383 ) . وضعوه ليقابلوا به الحديث المتواتر : علي مني بمنزلة هارون من موسى !
وقد اعترف ابن حجر والذهبي بأنه موضوع . ( لسان الميزان : 2 / 23 ) .
4 . قال أبو بكر للأعمى : إقبض على لحيتي وتوسل بها !
« فنهض أبو بكر ووضع لحيته في يد الأعمى وقال : أمسك لحيتي في حب محمد وقل : يا رب أسألك بحرمة شيبة أبيبكر ، إلا رددت عليَّ بصري ! قال فرد الله عليه بصره لوقته ! فنزل جبريل على النبي وقال : يا محمد ، السلام يقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ، ويقول لك : وعزته وجلاله لو أقسم عليَّ كل أعمى بحرمة شيبة أبيبكر الصديق لرددت عليه بصره ، وما تركت على وجه الأرض أعمى » . ( الغدير : 7 / 239 ) .
5 . كلبة جنية تعضُّ من يسب أبا بكر !
زعموا أن أنس بن مالك قال : كنا جلوساً عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذ أقبل إليه رجل من أصحابه وساقاه تشخبان دماً ، فقال النبي : ما هذا ؟ قال : مررت بكلبة فلان المنافق فنهشتني ! ثم أقبل إليه رجل آخر من أصحابه وساقاه تشخبان دماً ، فقال النبي :
--------------------------- 153 ---------------------------
ما هذا ؟ فقال : إني مررت بكلبة فلان المنافق فنهشتني ! فنهض النبي وقال لأصحابه : هلموا بنا إلى هذه الكلبة نقتلها ، فقاموا وأرادوا أن يضربوها فقالت الكلبة بلسان طلق ذلق : لا تقتلني يا رسول الله ، إني كلبة من الجن مأمورة أن أنهش من سب أبا بكر وعمر ! ( الغدير : 7 / 219 ) .
6 . وافتروا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه كان ساذجاً وكان أبو بكر وعمر يوجهانه !
فزعموا أنه أمرَ في خيبر بقطع النخل فسارع المسلمون يقطعون نخل خيبر ، فجاء أبو بكر وقال له : ألم يعدك ربك نخل خيبر ؟ قال بلى . قال : فكيف تقطع نخلك ونخل أصحابك ، فانتبه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لخطئه ، وأمر أن ينادي المنادي : إن رسول الله ينهاكم عن قطع النخل فانتهوا ! ( الواقدي : 2 / 644 ) .
ثم جعلوها فضيلة لعمر فقالوا ( السيرالكبير : 1 / 40 ) : ( إنتهى رسول الله إلى الطائف فأمر بكرومهم أن تقطع . وفي ذلك قصة قد ذكرت في المغازي أنهم عجبوا من ذلك وقالوا : النخلة لا تثمر إلا بعد عشرسنين ، وكيف العيش بعد قطعها ؟ ثم أظهر بعضهم الجلادة فنادوا من فوق الحصن : لنا في الماء والتراب والشمس خلف مما تقطعون . فقال بعضهم : هذا لوتمكنت من الخروج من جحرك .
وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقطع نخيل خيبرحتى مرَّ عمر بالذين يقطعون فهمَّ أن يمنعهم فقالوا : أمر به رسول الله . فأتاه عمر فقال : أنت أمرت بقطع النخيل ؟ قال نعم . قال أليس وعدك الله خيبر ؟ قال : بلى . فقال عمر : إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك ، فأمر مناديا ينادي فيهم بالنهي عن قطع النخيل .
قال الراوي : فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم : هذا مما قطع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! والنطاة اسم حصن من حصون خيبر . وقد كانت لهم ستة حصون : الشق ، والنطاة ، والقموص ، والكتيبة ، والسلالم ، والوطيحة .
وفي دلائل النبوة للبيهقي ( 5 / 157 ) : ( أمر رسول الله المسلمين حين حاصروا ثقيفاً أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم . . فأتاه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله إنها عفاء لم تؤكل ثمارها ! فأمرهم أن يقطعوا
--------------------------- 154 ---------------------------
ما أكلت ثماره الأول فالأول ) ! ثم أكملوا الرواية بمدح أبيبكر فقالوا : ( سنن البيهقي : 9 / 90 ) : ( لما بعث أبو بكر يزيد بن أبي سفيان إلى الشام على ربع من الأرباع خرج أبو بكر رضي الله عنه معه يوصيه . فقال : ولا تقتلوا كبيراً هرماً ولا امرأةً ولا وليداً ، ولا تخربوا عمراناً ، ولا تقطعوا شجرةً إلا لنفع ، ولا تعقرن بهيمةً إلا لنفع ، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه ، ولا تغدر ، ولا تمثل ، ولا تجبن ، ولا تغلل ) .
واتهموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالسذاجة في غزوة تبوك حتى نبهه عمر ، فقال البخاري ( 3 / 109 ) : ( خَفَّت أزواد القوم وأملقوا فأتوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في نحر إبلهم فأذن لهم ! فلقيهم عمر فأخبروه فقال : ما بقاؤكم بعد إبلكم ! فدخل على النبيِّ فقال : يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعا وبارك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا ، ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ) .
6 . رد الإمام الباقر ( عليه السلام ) على بعض هذه المكذوبات
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( كتاب سليم بن قيس / 190 ) : ( وربما رأيت الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً ، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد مضى من الولاة ، لم يخلق الله منها شيئاً قط ، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد سمعها منه ، ممن لا يُعرف بكذب ، ولا بقلة ورع .
ويروون عن علي ( عليه السلام ) أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يعلم الله أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور .
قال قلت له : أصلحك الله ، سم لي من ذلك شيئاً . قال : رووا أن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر ، وأن عمر محدث ، وأن الملك يلقنه ، وأن السكينة تنطق على لسانه ، وأن عثمان الملائكة تستحي منه ، وأن لي وزيراً من أهل السماء ووزيراً من أهل الأرض ، وأن اقتدروا بالذين من بعدي ، وأثبت حراء فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد ، حتى عدد أبو جعفر ( عليه السلام ) أكثر من مائة رواية يحسبون أنها حق ! فقال ( عليه السلام ) : هي والله كلها كذب وزور !
--------------------------- 155 ---------------------------
قلت : أصلحك الله لم يكن منها شئ ؟ قال ( عليه السلام ) : منها موضوع ومنها محرف ، فأما المحرف فإنما عنى أن عليك نبي الله وصديقاً وشهيداً ، يعني علياً ( عليه السلام ) . ومثله : كيف لايبارك لك وقد علاك نبي وصديق وشهيد ، يعني علياً ( عليه السلام ) . وعامتها كذب
وزور وباطل ) !
7 . رد الإمام الجواد على بعض هذه المكذوبات
في الإحتجاج ( 2 / 477 ) أن المأمون كان في مجلس وعنده الإمام الجواد ( عليه السلام ) ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة ، فقال له يحيى بن أكثم : « ما تقول يا ابن رسول الله في الخبر الذي روي أنه نزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك : سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل أبيبكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبرأن يأخذ مثال الخبرالذي قاله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع : قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي ! فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي ، فما وافق
كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به .
وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبيبكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره ! هذا مستحيل في العقول !
ثم قال يحيى بن أكثم : وقد روي أن مَثَل أبيبكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء ! فقال ( عليه السلام ) : وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه ، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن أسلما بعد الشرك ، فكان أكثر أيامهما الشرك بالله ، فمحال أن يشبههما بهما !
قال يحيى : وقد روي أيضاً أنهما سيدا كهول أهل الجنة ، فما تقول فيه ؟ فقال ( عليه السلام ) : وهذا الخبرمحال أيضاً لأن أهل الجنة كلهم يكونون شباباً ولا يكون
--------------------------- 156 ---------------------------
فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحسن والحسن ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنهما سيدا شباب أهل الجنة !
فقال يحيى بن أكثم : وروي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة ؟ فقال ( عليه السلام ) : وهذا أيضاً محال لأن في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ومحمد ، وجميع الأنبياء والمرسلين ، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ بنور عمر !
فقال يحيى : وقد روي أن السكينة تنطق على لسان عمر . فقال ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل عمر ، ولكن أبا بكر أفضل من عمر : فقال على رأس المنبر : إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملت فسددوني !
فقال يحيى : قد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لو لم أبعث لبعث عمر ! فقال ( عليه السلام ) : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه ؟ ! وكل الأنبياء ( عليهم السلام ) لم يشركوا بالله طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله ! وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نبئت وآدم بين الروح والجسد !
فقال يحيى بن أكثم : وقد روي أيضاً أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب ! فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضاً لأنه لا يجوز أن يشك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في نبوته ! قال الله تعالى : اللَّه يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ . فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به !
قال يحيى : روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر ! فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضاً لأن الله تعالى يقول : وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما داموا يستغفرون » .
8 . غارة الحكام والرواة على ألقاب علي ( عليه السلام ) ومناقبه !
في الرياض النضرة للطبري ( 2 / 155 ) : ( عن أبي ذر قال : سمعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لعلي : أنت أول من آمن بي وصدقني ، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصديق
--------------------------- 157 ---------------------------
الأكبر ، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظلمة ) . ومناقب علي لابن مردويه / 65 .
وعن معاذة العدوية قالت : ( سمعت علياً ( عليه السلام ) وهو على منبر البصرة يقول : أنا الصديق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم ) .
ونحوه تاريخ دمشق : 1 / 62 ، ومعارف ابن قتيبة / 73 ، وأنساب الأشراف : 2 / 146 ، ومناقب آل أبي طالب : 1 / 289 . وابن ماجة / 1 / 44 ، والحاكم : 3 / 112 ، وابن أبي شيبة : 7 / 498 ، وشرح النهج ( 13 / 200 ) وفيه : لا يقولها غيري إلا كذاب . وفي ( 13 / 200 ) وقال : كأنه ( عليه السلام ) لم يرتض أن يذكر عمر ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه ، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً . ومناقب ابن سليمان : 1 / 214 ، وفيه : لا يقولها غيري . وكذا المسترشد / 264 .
وفي كشف اليقين / 168 : ( ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل ، وفيه : وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كاذب مفترٍ . وقد استبدلوا قوله : لا يقولها غيري ، بعدي ، ليستثنوا أبا بكر وعمر من الكذب والافتراء !
وقالت رواية ابن سعد ( 3 / 120 ) إن الناس سموا أبا بكر بالصديق وليس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال عبد الله بن عمرو : « سميتموه الصديق ، وأصبتم اسمه » .
وقالوا سمى المغيرة بن شعبة عمر بأمير المؤمنين فتبناه ! قال ابن شبة في تاريخ المدينة ( 2 / 677 ) سماه به المغيرة قال له : « نحن المؤمنون وأنت أميرنا ، فأنت أمير المؤمنين . قال : فأنا أمير المؤمنين !
وقال الطبري إن عمر سمى نفسه : « لما ولي أبو بكر قالوا : يا خليفة رسول الله فلما ولي عمر قالوا : يا خليفة خليفة رسول الله ، فقال عمر : هذا أمر يطول ، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فسمي أمير المؤمنين ) . ( النهاية : 7 / 150 ) .
وقال الزهري ( تاريخ المدينة : 2 / 662 ) سماه اليهود الفاروق : « بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر : الفاروق ، وكان المسلمون يؤثرون ذلك من قولهم ، ولم يبلغنا أن رسول الله ذكر من ذلك شيئاً » .
وهذا يرد ما رواه ابن ذكوان قال : « قلت لعائشة : من سمى عمر الفاروق ؟
--------------------------- 158 ---------------------------
قالت : النبي » ! ( تاريخ المدينة : 2 / 662 ) .
بينما فضائل علي ( عليه السلام ) لا يمكنهم ردها ! روى الطبراني في معجمه الكبير : 6 / 269 :
« عن أبي ذر وسلمان قالا : أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي فقال : إن هذا أول من آمن بي ، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصديق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين » والاستيعاب : 4 / 1744 ، وكنز العمال : 11 / 616 ، و : 13 / 122 ، عن عدة مصادر . ونحوه أمالي الصدوق / 274 . ومجمع الزوائد : 9 / 101 .
قال عنه الذهبي في سيره ( 23 / 79 ) « إسناده واه » . لكنه رواه في ميزان الإعتدال ( 3 / 101 ) عن خصائص النسائي ولم يضعفه . ورواه ابن حجر في الإصابة ( 7 / 293 ) ولم يضعفه . ولا حجة لهم في تضعيفه ، لكنهم يريدون تغطية سرقة ألقاب علي ( عليه السلام ) وصفاته !
ومثله حديث لم يستطيعوا تضعيفه ، رواه ابن ماجة ( 1 / 44 ) عن علي ( عليه السلام ) قال : « أنا عبد الله ، وأخو رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ! صليت قبل الناس لسبع سنين ) . قال في مجمع في الزوائد ( 9 / 101 ) : هذا إسناد صحيح ، رجاله ثقات ، رواه الحاكم : 3 / 112 ، عن المنهال ، وقال : صحيح على شرط الشيخين . وابن أبي شيبة : 7 / 498 ، والضحاك في الآحاد : 1 / 148 ، و 151 ، وابن أبي عاصم في السنة / 584 ، وسنن النسائي : 5 / 106 ، والخصائص للنسائي / 46 ، وتاريخ دمشق : 42 / 32 ، وكبير البخاري : 4 / 23 ، وتفسير الثعلبي : 5 / 85 .
وقال في شرح النهج ( 4 / 122 ) : « واعلم أن أمير المؤمنين ما زال يَدَّعِي ذلك لنفسه ويفتخر به ويجعله في أفضليته على غيره ويصرح بذلك ، وقد قال غيرمرة : أنا الصديق الأكبر والفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبيبكر وصليت قبل صلاته .
وروى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة في كتاب المعارف ( 1 / 167 ) وهوغيرمتهم في أمره . ومن الشعر المروي عنه في هذا المعنى الأبيات التي أولها :
محمدٌ النبيُّ أخي وصهري * وحمزةُ سيدُ الشهداء عمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً * غلاماً ما بلغت أوان حلمي » .
- *
--------------------------- 159 ---------------------------
وفي الكافي ( 1 / 197 ) بسند صحيح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( ما جاء به علي ( عليه السلام ) آخذ به وما نهى عنه أنتهي عنه ، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وآله ولمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفضل على جميع من خلق الله عز وجل .
المتعقب عليه في شئ من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله . كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب الله الذي لا يؤتى إلا منه ، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك ، وكذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد ، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها ، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى ، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً ما يقول : أنا قسيم الله بين الجنة والنار ، وأنا الفاروق الأكبر ، وأنا صاحب العصا والميسم ، ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولقد حُملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب . وإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعى فيكسى وادعى فأكسى ، ويستنطق واستنطق فأنطق على حد منطقه . ولقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي : عُلِّمْتُ المنايا ، والبلايا ، والأنساب ، وفصل الخطاب ، فلم يفتني ما سبقني ، ولم يعزب عني ما غاب عني ، أُبَشِّرُ بإذن الله وأؤدي عنه ، كل ذلك من الله ، مكنني فيه بعلمه ) .
ومعنى حمله على حمولة الرب : أنه ركب البراق الذي بعثه الله عز وجل للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 97 ) وابن الأعثم ( 1 / 13 ) : قالوا لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) بايعْ أبا بكر فقال : ( أنا أحق بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمرمن الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من الرسول ، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للأنصارأنكم أولى بهذا الأمرمنهم لمكانكم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الإمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار ، أنا أولى برسول الله حياً وميتاً ، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه ، وأنا الصديق الأكبر ، والفاروق الأعظم ، وأول من آمن به وصدقه ، وأحسنكم
--------------------------- 160 ---------------------------
بلاء في جهاد المشركين ، وأعرفكم بالكتاب والسنة ، وأفقهكم في الدين ، وأعلمكم بعواقب الأمور ، وأذربكم لساناً وأثبتكم جناناً ، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر ؟ أنصفونا إن كنتم تخافون الله على أنفسكم ، ثم اعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم ، وإلا فبوؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون !
فقال عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً !
فقال له علي ( عليه السلام ) : إحلب حلباً لك شطره ، أشدد له اليوم ليرد عليك غداً ، إذاً والله لا أقبل قولك ولا أحفل بمقامك ولا أبايع .
فقال له أبو بكر : مهلاً يا أبا الحسن ، ما نشدد عليك ولا نكرهك ! فقام أبو عبيدة بن الجراح إلى علي ( عليه السلام ) فقال له : يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك ، ولكنك حدث السن ، وكان لعلي ( عليه السلام ) يومئذ ثلاث وثلاثون سنة ، وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك ، وهو أحمل لثقل هذا الأمر ، وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له ، فإن عمرك الله يسلموا هذا الأمر إليك ، ولا يختلف فيك اثنان بعد هذا ، ألا وأنت به خليق وله حقيق ، ولا تبعث الفتنة في غير أوانها ، فقد عرفت ما في قلوب العرب وغيرهم عليك .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا معاشرالمهاجرين والأنصار ، الله الله لاتنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري ، ولا تخرجوا سلطان محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولاتدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس . فوالله يا معاشر الجمع إن الله قضى وحكم ، ونبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعلم ، وأنتم تعلمون ، أنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، المضطلع بأمر الرعية ؟ والله إنه لفينا لا فيكم ، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً ،
وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم .
فقال بشير بن سعد الأنصاري ، الذي وطأ الأرض لأبيبكر ، وقالت جماعة من الأنصار : يا أبا الحسن لو كان هذا الأمر سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبيبكر ، ما اختلف فيك اثنان . فقال علي ( عليه السلام ) : يا هؤلاء كنت أدع رسول الله مسجى لا أواريه
--------------------------- 161 ---------------------------
وأخرج أنازع في سلطانه ، والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحل ما استحللتموه ، ولاعلمت أن رسول الله ترك يوم غدير خم لأحد حجة ، ولا لقائل مقالاً ، فأنشد الله رجلاً سمع النبي يوم غدير خم يقول : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصرمن نصره وخذل من خذله ، أن يشهد الآن بما سمع ! قال زيد بن أرقم : فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك ، وكنت ممن سمع القول من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكتمت الشهادة يومئذ ، فدعا علي عليٌّ فذهب بصري ! قال : وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت ، وخشي عمرأن يصغي الناس إلى قول علي ففسح المجلس وقال : إن الله يقلب القلوب ، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة . فانصرفوا يومهم ذلك ) .
أقول : ورد أن الذي لم يشهد لعلي ( عليه السلام ) فدعا عليه ، هو أنس بن مالك ، وليس زيد بن أرقم . وقال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 21 ) : ( وقوله لما شاجره عثمان وقال له : أبو بكر وعمر خير منك ، فقال : أنا خيرمنك ومنهما ، عبدت الله قبلهما ، وعبدته بعدهما ) .
راجع في الموضوع كتاب : ألف سؤال ( 3 / 185 ) .
وقول أبي عبىدة : عرفت ما في قلوب العرب وغىرهم علىك : ىقصد الىهود ! لأنه ىرى أن رضاهم عن الخلىفة شرط ! وقد عرف رأىهم لأنه كان من التهوكىن الذىن ىدرسون عندهم !
9 . عمر مهندس نظام الخلافة والمنصور مهندس المذاهب
هندس عمر نظام الخلافة الإسلامية على أساس قبلي قرشي ، ثم قلده المنصور الدوانيقي فهندس المذاهب الإسلامية بمنطق قرشي عباسي ، فقد قامت ثورة العباسيين أول الأمر على الدعوة إلى الرضا من آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والبراءة من بني أمية وتيم وعدي . لكن لما ثار الحسنيون على المنصور وكادوا يهزمونه ، قرر أن يمنع رواية فضائل جدهم علي ( عليه السلام ) حتى لو كان راويها جده ابن عباس ، وأن يعظم أبا بكر وعمر ، وأمر بالترضي عليهما في خطب الجمعة !
--------------------------- 162 ---------------------------
قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة / 69 : ( ابتدعوا أشياء اعترفوا بأنها بدعة وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فإن مصيرها إلى النار ! وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه ! ولو رُدُّوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ! كذكر الخلفاء في خطبتهم ، مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ، ولا في صدر ولاية العباسيين ، بل هو شئ أحدثه المنصور لمِا وقع بينه وبين العلوية فقال : والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، وأرفع عليهم بني تيم وعديٍّ ، وذكَرَ الصحابة في خطبته ! واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان ) .
10 . سليمان الأعمش نموذجٌ لعداوة ( الخلفاء ) لعلي ( عليه السلام ) !
وهو من كبار العلماء والرواة ، وثقه الجميع ورووا عنه . وكان معاصراً للمنصور وصادعاً بفضائل علي ( عليه السلام ) ، فطلب منه أبو حنيفة أن لا يروي ذلك !
قال الطوسي في أماليه / 628 : ( شريك بن عبد الله القاضي قال : حضرت الأعمش في علته التي قبض فيها ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فسألوه عن حاله فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوف من خطيئاته وأدركته رنةٌ فبكى ! فأقبل عليه أبو حنيفة فقال : يا أبا محمد إتق الله وانظر لنفسك فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة ، وقد كنت تحدث في علي بن أبي طالب بأحاديث لو رجعت عنها كان خيراً لك ! قال الأعمش : مثلُ ماذا يا نعمان ؟ قال : مثل حديث عباية : أنا قسيم النار . قال : أوَلمثلي تقول هذا يا يهودي ؟ أقعدوني ، سندوني ، أقعدوني : حدثني والذي إليه مصيري موسى بن طريف ، ولم أر أسدياً كان خيراً منه قال : سمعت عباية بن ربعي إمام الحي ، قال : سمعت علياً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : أنا قسيم النار ، أقول هذا وليي دعيه ، وهذا عدوي خذيه ! وحدثني أبو المتوكل الناجي في إمرة الحجاج وكان يشتم علياً شتماً مقذعاً يعني الحجاج ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إذا كان يوم القيامة يأمر الله عز وجل فأقعد أنا وعلي على الصراط
--------------------------- 163 ---------------------------
ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبكما ، وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما ! ثم قال أبو سعيد : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما آمن بالله من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتول أو قال لم يحب علياً ، وتلا : أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ . !
قال فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه وقال : قوموا بنا لايجيؤنا أبو محمد بأطمَّ من هذا ) !
والظاهر أن المنصور أرسل أبا حنيفة إلى الأعمش ، فقد كان أبو حنيفة هارباً من المنصور لأنه أفتى بالثورة عليه ، وكان يسميه لص الخلافة ، فتوسط له بعضهم وأرضوه عنه ، فبايعه وصار مطيعاً للمنصور ، فكان يرسله إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) وغيره ، ويستخدمه لأغراضه ، وأخيراً حبسه ، وقتله ! وإنما وصف الأعمش أبا حنيفة باليهودي لأن مبغض علي والعترة ( عليهم السلام ) يحشر يهودياً ، كما رويَ عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : 2 / 661 ) .
وقال المفيد في تصحيح الإعتقاد / 108 : ( جاء الخبربأن الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمر به الناس ، وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعن شماله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى : أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .
وكان الأعمش ( رحمه الله ) يصدع بمذهبه ، ويواجه المنصور بفضائل علي ( عليه السلام ) !
ففي العمدة لابن البطريق / 378 : ( دخل الأعمش على المنصور وهو جالس للمظالم ، فلما بصر به قال له : يا سليمان تَصَدَّرْ ؟ قال : أنا صدرٌ حيث جلستُ ! ثم قال : حدثني الصادق قال : حدثني الباقر قال : حدثني السجاد قال : حدثني الشهيد أبو عبد الله قال : حدثني أبي وهو الوصي علي بن أبي طالب قال : حدثني النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : أتاني جبرئيل آنفاً فقال : تختموا بالعقيق فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانية ، ولمحمد بالنبوة ، ولعلي بالوصية ، ولولده بالإمامة ، ولشيعته بالجنة ! قال : فاستدار الناس بوجوههم نحوه فقيل له : تذكر قوماً فتعلم من لا نعلم ! فقال : الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، والسجاد علي بن الحسين ، والشهيد الحسين بن علي ، والوصي ، وهو التقي
--------------------------- 164 ---------------------------
علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ) .
أخرجه ابن المغازلي الشافعي في مناقبه / 227 ، وبهامشه : أخرجه الحافظ ابن أبي الفوارس في الأربعين / 149 ، على ما في ذيل الإحقاق ( 4 / 88 ) وأخرجه أخطب خوارزم في المناقب / 228 ، وأخرجه الصدوق في علل الشرايع ( 2 / 153 ) .
ويظهرأن المنصور حقد على الأعمش وقرر أن يقتله ، فقد روى ابن المغازلي في كتابه فضائل علي ( عليه السلام ) / 226 ، ( قال الأعمش : وجّه إليَّ المنصورُ فقلت للرسول : لما يريدني أمير المؤمنين ؟ قال : لا أعلم ، فقلت : أبلغه أني آتيه ، ثم تفكرتُ في نفسي فقلت : ما دعاني في هذا الوقت لخير ، ولكن عسى أن يسألني عن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فإن أخبرته قتلني !
قال : فتطهرتُ ولَبستُ أكفاني وتحنطت ثم كتبت وصيتي ، ثمّ صرت إليه فوجدت عنده عمرو بن عُبيد فحمدت الله تعالى على ذلك وقلت : وجدت عنده عون صدق من أهل النصرة .
فقال لي : أدن يا سليمان فدنوت ، فلمّا قرُبتُ منه أقبلتُ على عمرو بن عُبيد أُسائله وفاح مِني ريح الحُنوط . فقال : يا سليمان ما هذه الرائحة ؟ والله لتصْدُقني وإلاّ قتلتُك . فقلت : يا أمير المؤمنين أتاني رسولك في جَوف الليل فقلت في نفسي : ما بعث إليَّ أمير المؤمنين في هذه الساعة إلا ليسألني عن فضائل عليٍّ فإن أخبرته قتلني ، فكتبتُ وصيتي ولبستُ كفني وتحنَّطَتُ !
فاستوى جالساً وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم . ثم قال : أتدري يا سلمان ما اسمي ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين دعنا الساعة من هذا . فقال : ما اسمي ؟ فقلت : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب . قال : صدقت فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله ، كم رويت من حديث علي بن أبي طالب ، وكم من فضيلة من جميع الفقهاء ؟ قلت : شئ يسير يا أمير المؤمنين . قال : كم ؟ قلت : مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد .
قال : يا سلىمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع
--------------------------- 165 ---------------------------
الفقهاء ، فإن حلفت لاترويها لأحد من الشيعة حدثتك بها ! قال : لا أحلف ولا أحدث بها !
وروى له المنصور روايتين في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم قال : يا سليمان سمعت في فضائل علي أعجب من هذين الحديثين ؟ يا سليمان حُبُّ علي إيمان وبُغْضُه نِفاق ، لايحبُّ علياً إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ كافر ! فقلت : يا أمير المؤمنين الأمانَ ؟ قال : لك الأمان ، قلت : فما تقول يا أمير المؤمنين في مَنْ قتل هؤلاءِ ؟ قال : في النار لا أشكُّ ، فقلت : فما تقول فيمن قَتَل أولادهم وأولاد أولادهم ؟ قال : فَنكَّسَ رأسه ثم قال : يا سليمان المُلْكُ عَقيمٌ ، ولكن حَدِّث عن فضائل علي بما شئت ! قال قلتُ : مَن قتل ولده في النار ! فقال عمرو بن عبيد : صدقت يا سليمان ، الويل ثم الويل لمن قتل ولده !
فقال المنصور : يا عمرو إشهد عليه فإنه قال في النار ، فقال قد أخبرني الشيخ الصدوق يعني الحسن بن أنس أن من قتل أولاد علي لا يشم رائحة الجنة . قال : فوجدت المنصور قد غمض وجهه ! فخرجنا . فقال الراوي : لولا مكان عمرو ( بن عبيد ) ما خرج سليمان إلا مقتولاً ) !
11 . من تلبيس علماء السلطة لمدح أبيبكر وانتقاص علي ( عليه السلام )
قال الله تعالى في سورة الليل : فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى . لايَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى . وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى . وقد زور علماء السلطة معنى الآية ففسروا الأتقى بشخص ، وجعلوه أبا بكر ، مع أن الأتقى جماعة ، وأفعل التفضيل فيه نسبي ، والمعنى : الأتقى من غيره .
فلو كان الأتقى واحداً لزم أن يكون أبو بكر أفضل من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن لا يجنَّب النار غيره ! ويكون الأشقى واحداً ولا يَصْلَى النار إلا شخص واحد ! وقد يقال إن الذين فسروا الأتقى بشخص فرس لا يدركون معنى الأتقى في العربية ، لكنه بعيد .
ثم أصروا على خطئهم فالوا : الأتقى أبو بكر ، لأنه اشترى بلالاً وغيره وأعتقهم ،
--------------------------- 166 ---------------------------
وأنفق ماله على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهو الأفضل والأحق بالخلافة ، لأنه ليس للنبي عنده نعمة تجزى ، بينما له على علي ( عليه السلام ) نعمة ويدٌ تجزى ، لأنه رباه وأنفق عليه !
ولو كان أبو بكر يعرف تلبيساتهم لاحتج بآية الأتقى في السقيفة ! لكنه لم يذكرها ولا أنصاره ، حتى جاء مقاتل الفارسي فاخترعها ! ولو كان أبو بكر يعرف أنه الأتقى لما قال : وليتكم ولست بخيركم .
قال مقاتل في تفسيره ( 2 / 493 ) : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . يعني أبا بكر الصديق . . اشترى تسعة نفر يعذبون على الإسلام ، منهم بلال المؤذن وعامر بن فهيرة وأخته ، وزنيرة وابنتها ، وحارثة بن عمر ، وأم كياس ، والنهدية وابنتها ، كانت لامرأة من بني عبد الدار تضربها على الإسلام ، فأعتقهم ) .
وقد نص علماؤهم على أن مقاتلاً كذاب ، ومجسم ! ( تهذيب التهذيب : 10 / 251 ) .
وقال الفخر الرازي ( 21 / 205 ) وهو من ذرية أبيبكر : ( إنما قلنا إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى : وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ، وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه ، وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها ، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه نعمة دنيوية ، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول ، بل كان للرسول عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين ، إلا أن هذا لا يجُزى لقوله تعالى : مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ . والمذكور هاهنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى ، فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب .
وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق ، وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة إما أبو بكر أو علي ، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي ، تعين حملها على أبيبكر ، وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة ) !
وأخذه منه التفتازاني في شرح المقاصد ( 2 / 298 ) فقال : ( والأخبار الواردة على فضايلهم متعارضة ، لكن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل ثم عمر ، ثم تتعارض الظنون في عثمان وعلي رضي الله عنهما . وذهب الشيعة وجمهور
--------------------------- 167 ---------------------------
المعتزلة إلى أن الأفضل بعد رسول الله ( عليه السلام ) علي رضي الله عنه . ثم استدل على أن أبا بكر أفضل بالآية : وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . وقال : فالجمهورعلى أنها نزلت في أبيبكر والأتقى أكرم لقوله تعالى : إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ الله أتْقَاكُم . . ثم أورد التفتازاني أحاديث عديدة موضوعة بشهادة علمائهم ! ثم قال :
( تمسكت الشيعة القائلون بأفضلية علي بالكتاب والسنة والمعقول . أما الكتاب فقوله تعالى : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ . الآية . عنى بأنفسنا علياً وإن كان صيغة جمع ، لأنه ( عليه السلام ) حين دعا وفد نجران إلى المباهلة ، وهوالدعاء على الظالم من الفريقين ، خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ، وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمِّنوا ، ولم يخرج معه من بني عمه غير علي
رضي الله عنه ، ولا شك أن من كان بمنزلة نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان أفضل .
وقوله تعالى : قُلْ لاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . قال سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين تودهم ؟ قال : علي وفاطمة وولداها . ولا يخفى أن من وجبت محبته بحكم نص الكتاب كان أفضل ، وكذا من ثبت نصرته للرسول بالعطف في كلام الله تعالى عنه على اسم الله وجبريل مع التعبير عنه بصالح المؤمنين ، وذلك قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّه هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ،
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن المراد به علي .
وأما السنة فقوله ( عليه السلام ) : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظرإلى علي بن أبي طالب . ولا خفاء في أن من ساوى هؤلاء الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل . وقوله ( عليه السلام ) : أقضاكم علي . والأقضى أكمل وأعلم . وقوله ( عليه السلام ) : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاءه علي فأكل معه . والأحب إلى الله أكثر ثواباً ، وهو معنى الأفضلية . وبقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولم يكن عند موسى أفضل من هارون . وكقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من كنت مولاه فعلي مولاه . . الحديث . وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يوم خيبر لأعطين هذه الراية
--------------------------- 168 ---------------------------
غداً رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ قالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه ، قال : فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله فيهما فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية .
وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا دار الحكمة وعلي بابها . وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : أنت أخي في الدنيا والآخرة ، وذلك حين آخى رسول الله بين أصحابه ، فجاء علي تدمع عيناه فقال : آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد !
وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لمبارزة علي عمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة . وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، ومن أحبك فقد أحبني وحبيبي حبيب الله ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله ، فالويل لمن أبغضك بعدي .
وأما المعقول ، فهوأنه أعلم الصحابة لقوة حدسه وذكائه وشدة ملازمته للنبي واستفادته منه ، وقد قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين نزل قوله تعالى : وَتَعِيَها أُذُنٌ وَاعِيَة : اللهم اجعلها أذن علي . قال علي : ما نسيت بعد ذلك شيئاً ! وقال : علمني رسول الله ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب . ولهذا رجعت الصحابة إليه في كثير من الوقايع ، واستند العلماء في كثير من العلوم إليه كالمعتزلة والأشاعرة في علم الأصول ، والمفسرين في علم التفسير ، فإن رئيسهم ابن عباس تلميذ له ، والمشايخ في علم السر وتصفية الباطن ، فإن المرجع فيه إلى العترة الطاهرة ، وعلم النحو إنما ظهر منه ، ولهذا قال : لو كسرت الوسادة ثم جلست عليها ، لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أوسهل أو جبل ، أو سماء أو أرض ، أو ليل أو نهار ، إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وفي أي شئ نزلت .
وأيضاً هوأشجعهم ، يدل عليه كثرة جهاده في سبيل الله وحسن إقدامه في الغزوات ، وهي مشهورة غنية عن البيان ، ولهذا قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو
--------------------------- 169 ---------------------------
الفقار . وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الأحزاب : لضربة علي خير من عبادة الثقلين .
وأيضاً : هو أزهدهم لما تواتر من إعراضه عن لذات الدنيا مع اقتداره عليها لاتساع أبواب الدنيا عليه ، ولهذا قال : يا دنيا إليك عني ، إليَّ تعرضتِ أم إلي تشوفتِ ، لا حان حَيْنُك ، هيهات غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، فقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعيشك قصير وحظك يسير وأملك حقير . وقال : والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم . وقال : والله لنعيم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز .
وأيضاً : هو أكثرهم عبادة حتى روي أن جبهته صارت كركبة البعير لطول سجوده . وأكثرهم سخاوة حتى نزل فيه وفي أهل بيته : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . وأشرفهم خلقاً وطلاقة وجه ، حتى نسب إلى الدعابة . وأحلمهم ، حتى ترك ابن ملجم في دياره وجواره يعطيه العطاء ، مع علمه بحاله ، وعفا عن مروان حين أخذ يوم الجمل مع شدة عداوته له ، وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيه : سيلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر .
وأيضاً : هوأفصحهم لساناً على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة . وأسبقهم إسلاماً على ما روي أنه بعث النبي يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء . وبالجملة فمناقبه أظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى .
ثم قال التفتازاني : لا كلام في عموم مناقبه ، ووفور فضائله ، واتصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات ، إلا أنه لا يدل على الأفضلية بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله ، بعدما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع ، على أفضلية أبيبكر ثم عمر ، والاعتراف من علي بذلك ) ! وسبب نقص عقله هواه !
وهنا تشك في عقل التفتازاني ، لأنه يقول : نعم إن مقتضى الآيات والنصوص النبوية أن علياً ( عليه السلام ) هو الأفضل وأنه خليفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لكن إجماع القوم على خلافة أبيبكر وتفضيله ، لا بد أن يكون مستنداً إلى أدلة غابت عنا !
وقد أخذ ابن تيمية تزويرهم وكرره في كتبه ، قال في مجموعة الفتاوى ( 1 / 186 ) :
--------------------------- 170 ---------------------------
( وأما الصِّدِّيق فقد قال الله فيه وفي مثله : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . . . وأما عليٌّ وَزَيْدٌ وغيرهما فإن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان له عندهم نعمة تجزى ، فإن زيداً كان مولاه فأعتقه ) .
ونحوه الفتاوى الكبرى : 2 / 448 ، و : 5 / 244 ، ومجموع الفتاوى : 1 / 31 ، و 75 ، و : 2 / 30 ، و : 7 / 554 ، و : 10 / 273 ، و 480 ، و 495 ، و : 11 / 111 ، و 525 , و : 18 / 321 ، و : 27 / 147 . ومستدرك فتاواه : 1 / 83 !
أما ابن عبد البر ، فتحير ولم يجزم بأن الآية في أبيبكر ، فقال في كتابه الدرر / 46 : ( فقيل : إن فيه نزلت : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . إلى آخر السورة ) .
12 . ملاحظات على آية الأتقى
1 . أصل تزويرهم أنهم جعلوا الأتقى شخصاً واحداً هو أبو بكر ، مع أن المعنى : سِيُجَنَّبُها الأتقى من غيره ، ولايصلاها إلا الأشقى من غيره . فقد حملوا اسم الجنس على الشخص ، والتفضيل على الحقيقي وهو نسبي ، وقد اعترف بذلك الفخر الرازي فقال ( 31 / 203 ) : ( الأشقى بمعنى الشقي كما يقال : لست فيها بأوحد أي بواحد ، فالمعنى لا يدخلها إلا الكافرالذي هو شقي ) .
فقد تناقض ، ففسر الأشقى بنوع من الناس وفسر الأتقى بشخص وجعله أبا بكر !
2 . قد يقال : لو سلمنا أن المقصود نوع الأتقى لاشخصه ، فيدخل في الآية أبو بكر . والجواب : أنه لا يصح أيضاً لأن ثروة أبيبكر وإنفاقه لم يصحا ، بل كان فقيراً وكان أبوه يخدم عند عبد الله بن جدعان بطاعم بطنه ، وفسموه عضروط ابن جدعان .
ومن جهة أخرى إن آية : يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ، نزلت في ابن أبي الدحداح . قال الشهيد التستري في الصوارم المهرقة / 302 : ( لا نسلم صحة الرواية في شأن أبيبكر ، فضلاً عن الإجماع عليه . والسند ما ذكره بعضهم بأنها نزلت في حق أبي الدحداح ، وقد روى هذا أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في تفسيره الموسوم بأسباب النزول بإسناده المرفوع إلى عكرمة وابن عباس ، أن رجلاً في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ، وصاحب النخلة يصعد ليأخذ منها التمر فربما سقطت تمرة فيأخذها صبيان الفقير ،
--------------------------- 171 ---------------------------
فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ التمر من أيديهم ، فإن وجدها في فِي أحدهم أدخل إصبعه في فيه !
فشكى الفقير إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يلقى من صاحب النخلة فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذهب ، ولقي صاحب النخلة وقال : أعطني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة . فقال الرجل للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن لي نخلاً كثيراً وما فيها نخلة أعجب إليَّ تمرةً فكيف أعطيك ! ثم ذهب الرجل في شغله فقال رجل كان يسمع كلام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتعطيني ما أعطيت ، أعني النخلة التي في الجنة إن أنا أخذتها ؟ فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم ، فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال : تعرف أن محمداً أعطاني نخلة في الجنة فقلت له : يعجبني تمرها وإن لي نخلاً كثيراً ، وما فيه كله نخلة أعجب إليَّ تمراً منها ؟ فقال الرجل لصاحب النخلة أتريد بيعها ؟ قال : لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أُعطى . قال فما مُناك ؟ قال : أربعون نخلة . فقال الرجل لصاحب النخلة لقد جئت بعظيم ؟ تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ؟ ثم قال الرجل أنا أعطيك أربعين نخلة ، فقال صاحب النخلة : أَشْهِدْ لي إن كنت صادقاً ، فمرَّ الرجل على أناس ودعاهم وأشهدَ لصاحب النخلة ، ثم ذهب إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : يا رسول الله إن النخلة صارت في ملكي فهي لك ، فذهب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الفقير وقال له : النخلة لك ولعيالك ، فأنزل الله تعالى : وَالَّليْل إذَا يَغشى . . السورة !
وعن عطاء أنه قال : اسم الرجل أبو الدحداح . فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى : هو أبو الدحداح وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى : صاحب النخلة ، وهو سمرة ) . وهذا التفسير هو المعقول المنسجم مع الآيات ، وإن كانت روايته ضعيفة عندهم ، فهي صحيحة عندنا كرواية الحميري في قرب الإسناد عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) . قال القمي في تفسيره ( 2 / 426 ) ورواها بنحو ما تقدم وفي روايته : ( فأنزل الله في ذلك : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى واتَّقى وصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرى ، يعني ابن الدحداح . . لايَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى . يعني هذا الذي بخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى . ابن الدحداح ) .
--------------------------- 172 ---------------------------
وقال المفيد في تفسيره / 557 : ( ولا فرق بين من ادعاه لأبيبكر ، وبين من ادعاه لأبي هريرة ، أو المغيرة بن شعبة ، أو عمرو بن العاص ، أو معاوية بن أبي سفيان ، في تعري دعواه عن البرهان ، وحصولها في جملة الهذيان ، مع أن ظاهر الكلام يقتضي عمومه في كل معط من أهل التقوى والإيمان . على أن أصحاب الحديث من العامة قد رووا ضد ذلك عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وغيرهما من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد ذكروا أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وسمرة بن جندب . . )
ولذلك اختاره القرطبي ( 20 / 90 ) قال : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى : يعني أبا الدحداح . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى : في ثمن تلك النخلة . وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى : يكافؤه عليها ، يعني أبا الدحداح . وَلَسَوْفَ يَرْضَى : إذا أدخله الله الجنة . والأكثر أن السورة نزلت في أبيبكر ) .
وجعل البغوي نزولها في أبيبكر قولاً قالوه ، قال في معالم التنزيل ( 4 / 496 ) : ( قيل نزلت في أبيبكر الصديق اشترى بلالاً من أمية بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه . . وروى علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء قال : كان لرجل من الأنصار نخلة ، وكان له جار . . الخ ) . فترى بعض عقلائهم لا يوافقون الكذابين على كذبهم في مدح أبيبكر . ويؤيد قولهم أن عائشة نفت أن يكون نزل فيها وفي أبيها شئ من القرآن إلا آية تبرئتها ، قال البخاري ( 6 / 41 ) : « فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري » . فمما نفته مكذوبات السلطة في آية : الْأَتْقَى . ونحن ننفي أن آىة البراءة فىها ،
بل في مارىة . !
13 . تلبيسات الفخر الرازي لمدح جده أبيبكر
الفخر الرازي من ذرية أبيبكر ، من أهل هراة في أفغانستان ، وسكن الري ، ويبدو أن كثيراً من ذرية عمر وأبيبكر سكنوا أفغانستان ، وقد كتبنا فصلاً في المجلد الثالث من كتاب : ألف سؤال وإشكال ، في نقده ، بعنوان : الوجه الآخر للفخر الرازي ، أوردنا فيه من تفسيره نحو ثلاثين تلبيسة في مدح جده أبيبكر وعمر والتنقيص من علي ( عليه السلام ) . وسمينا ذلك تلبيسات ، لأن الفخر الرازي اعترف بأنه قد يرتكب التلبيس والتزوير !
--------------------------- 173 ---------------------------
قال الذهبي في تاريخه ( 43 / 219 ) : « وعظ مرة عند السلطان شهاب الدين فقال : يا سلطان العالم لاسلطانك يبقى ، ولا تلبيس الرازي يبقى ، وأن مردنا إلى الله » !
ومعنى التلبيس أن يرتب كلاماً ظاهره منطقي ، لكنه باطل ، وهذا إقرارٌ منه بأنه قد يستعمل مهارته العقلية لرد الحق ونصرة الباطل ! واعترافٌ بأن آراءه تضمنت تلبيسات باطلة ، ستفنى كما يفنى حكم الخوارزمية !
فمن تلبيساته أن علياً ( عليه السلام ) قاتل الكفار وأبا بكر جاهد بدعوتهم إلى الإسلام ، والجهاد أفضل من القتال ! وأن علياً ( عليه السلام ) جاهد يوم كان الإسلام قوياً ، وأبو بكر جاهد يوم كان الإسلام ضعيفاً ، فهو أفضل !
قال في تفسيره ( 10 / 143 ) : ( جاهد علي يوم أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار ، ولكن جهاد أبيبكر أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة ، وجهاد علي أفضى إلى قتل الكفار ، ولا شك أن الأول أفضل .
وأيضاً فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي في غاية الضعف ، وعلي إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب ، وكان الإسلام قوياً في هذه الأيام ، ومعلوم أن الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة ) !
وقال في تفسيره ( 12 / 23 ) في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِى اللَّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ : ( أما قول الروافض لعنهم الله : إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال يوم خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وكان ذلك هوعلي ، فنقول : هذا الخبرمن باب الآحاد وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل ، فكيف يجوز التمسك به في العلم ، وأيضاً إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبيبكر ، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبيبكر ، ومن جملة تلك الصفات كونه كراراً غير فرار . . ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبيبكر محباً لله ولرسوله ، وكون الله محباً له وراضياً عنه ، قال تعالى في حق أبيبكر : وَلَسَوْفَ يَرْضَى . وقال عليه الصلاة والسلام :
--------------------------- 174 ---------------------------
إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبيبكر خاصة . وقال : ما صب الله شيئاً في صدري إلا وصبه في صدر أبيبكر . وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله ) .
يقول الرازي هذا ، وهو يعلم أن حديث : لأعطين الراية غداً . . صحيح متواتر ، وحديث : إن الله يتجلى لأبيبكر ، و : ما صب الله شيئاً في صدري . . مكذوب بنص علمائهم !
وقال في تفسيره ( 23 / 188 ) : « فعليٌّ أعطى للخوف من العقاب ، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى ، فدرجة أبيبكرأعلى ، فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل » ! ثم استشهد بكلام ابن الباقلاني وارتضاه فقال ( 31 / 206 ) : « ذكرالقاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإمامة فقال : الآية الواردة في حق علي : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرا ، والآية الواردة في حق أبيبكر : إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ، فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله ، إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله ، وللخوف من يوم القيامة على ما قال : إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرا ، وأما آية أبيبكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غيرأن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب ، فكان مقام أبيبكر أعلى وأجل .
وبذلك اعترف الرازي بأن آيات سورة الدهر نزلت في مدح علي ( عليه السلام ) فهي مجمع عليها بيننا وبينهم ، أما الآية التي زعمها في أبيبكر فنحن نطعن في روايتها . فيكون إنفاق علي ( عليه السلام ) متفقاً عليه ، وإنفاق أبيبكر مختلفاً فيه !
14 . زعم ابن تيمية أن أبا بكر وعمر أشجع من علي ( عليه السلام ) !
جعل ابن تيمية أبا بكر وعمرأشجع من علي ( عليه السلام ) ! وأغمض بصره وبصيرته عن بطولات علي ( عليه السلام ) وعن فرار أبيبكر وعمر في أحُد وخيبر وحنين ، وغيرها !
قال في منهاجه ( 8 / 86 ، و 78 ) : « فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة . . وأبو بكر وعمر مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن ! قال أبو محمد بن حزم : وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً
--------------------------- 175 ---------------------------
وطعناً في الكفار وضرباً ، والجهاد أفضل الأعمال . قال : وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة : أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان ، والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير ، والجهاد باليد في الطعن والضرب أقل مراتب الجهاد ) !
ثم تفذلك ابن تيمية فقال : « وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب ، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم ، فإن أبا بكر باشرالأهوال التي كان يباشرها النبي من أول الإسلام إلى آخره ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل ، وكان يقدم على المخاوف يقي النبي بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله ، وهو في ذلك كله مقدم ! وكان يوم بدر مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله ، وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي ويعاونه .
ولما قام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعو ربه ويستغيث ويقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبداللهم اللهم . . جعل أبو بكر يقول له : يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك ! وهذا يدل على كمال يقين الصديق ، وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته » ! وكرره في فتاواه : 28 / 257 .
ولو صح قوله إن الشجاعة من صفات النية وقوة القلب ، فكيف عرف أن قلب الشيخين لو سلمنا ثباتهما في العريش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بدر ، أقوى من قلب علي ( عليه السلام ) الذي غاص في وطيس المعركة ، وجندل نصف عتاة قريش ؟ ! وقد اعترف عمر بأنه هرب من العاص بن سعيد في بدر إلى خلف الصفوف !
وإذا صح أن أبا بكر كان في العريش في بدر مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من العريش وقاتل فأين ذهب أبو بكر ؟ ! راجع ما كتبناه في بدر في السيرة النبوية .
وقد ردَّ علماء الشيعة تزوير ابن تيمية والفخر الرازي ، وإمامهم ابن حزم ( الفِصَل : 4 / 135 ) راجع الغدير : 7 / 200 ، ومحاضرات في الإعتقادات : 1 / 324 ، ودراسات في منهاج السنة / 214 ، للسيد الميلاني ، والصحيح من السيرة : 5 / 41 .
--------------------------- 176 ---------------------------
ومن أحسن الردود ما كتبه الحافظ محمد بن عقيل مفصلاً ، في كتابه القيم : النصائح الكافية لمن يتولى معاوية / 234 ، قال : ( أنكر معظمهم أيضاً أشجعيته كرم الله وجهه التي ضربت بها الأمثال ، وقالوا إن أبا بكر رضي الله عنه أشجع منه . . إننا أهل السنة بهذه الدعوى صرنا هزؤاً لدى الشيعة ، بل وعند المطلعين من أهل الملل الأخرى على وقائع التأريخ وما جرياته ، وليسوا بملومين . ومكابرة من يكابر في مثل هذا محض تعصب ، لا يرتاب فيه ذو تمييز ) .
أقول : فاته ( رحمه الله ) أن يستدل بنداء جبرئيل ( عليه السلام ) : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى علي ، فكما أن ذا الفقار ، وهو سيف منزل من الله تعالى ، أفضل السيوف ، فكذلك علي ( عليه السلام ) هو الفتى الأول وأشجع الناس بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنص نداء جبريل ( عليه السلام ) .
15 . حفلة خمر شارك فيها الشيخان بسند صحيح !
وقد نسف علماء السلطة كل محاولاتهم لتفضيل أبيبكر وعمر على علي ( عليه السلام ) ، برواية رووها بسند صحيح تقول إنهما شربا الخمر قبيل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغنيا بشعر ينوح على قتلى المشركين في بدر ! فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غاضباً وبيده سعفة أو مكنسة ، ليضربهما ، فأعلنا التوبة !
وتتفاجأ بأن الحديث صحيح عندهم ، رواه تمام الرازي المتوفى 414 ، في كتابه الفوائد : 2 / 228 ، برقم : 1593 ، وفي طبعة : 3 / 481 : « بسند صحيح عن أبي القموص قال : « شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، فأخذت فيه ، فأنشأ يقول :
تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ * وهل لك بعد رهطك من سلامِ
ذريني أصطبح يا بكر أني * رأيت الموت نقَّبَ عن هشام
فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ * بألف من رجال أو سوام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من القينات والخيل الكرام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من الشيزى تُكلل بالسنام
فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه ، فلما نظر إليه قال : أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله ، والله لا يلج لي رأساً أبداً ! فذهب عن رسول الله
--------------------------- 177 ---------------------------
ما كان فيه ، وخرج ونزل عليه : فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون ؟ فقال عمر : انتهينا والله » .
ومعنى قوله : « فقام معه جريدة يجر إزاره أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه خرج غاضباً مسرعاً ولم يسو رداءه ، وبيده سعفة ليضرب بها وجوههم ، وقد تكون مكنسة !
ورواه الثعلبي في تفسيره ( 2 / 142 ) دون أن يسميهما قال : « وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم ، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ، ويقول . . . فبلغ ذلك رسول الله فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه ، ورفع شيئاً كان بيده ( سعفة أو خشبة أو مكنسة ) ليضربه ، فلما عاينه الرجل قال : أعوذ بالله من غضب الله
وغضب رسول الله ، والله لا أطعمها أبداً » .
ورواها ابن هشام ( 2 / 549 ) وفيها أبيات أبيبكر في إنكار الآخرة ، قال :
« يخبرنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ » !
وفي الصحيح من السيرة : 5 / 301 :
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يرد الموت عني * وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمان عني * بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي * وقل لله يمنعني طعامي »
ورواه ابن حجر في الإصابة : 7 / 39 ، عن الفاكهي في كتاب مكة ، أن الرجل كان أبا بكر ! وفيه : « شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول : فذكرالأبيات فبلغ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبيبكر ، فلما نظر إلى وجهه محمراً قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله ! والله لا يلج لنا رأسا أبداً ! فكان أول من حرمها على نفسه ! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، ورثى قتلى بدر من المشركين » !
وذكر ابن حجر في فتح الباري ( 10 / 31 ) أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت
--------------------------- 178 ---------------------------
أبي طلحة ، وكانوا عشرة صحابة أو أكثر ، وكان ساقيهم أنس بن مالك !
ثم قال : « ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس : كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة .
ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس ، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً ، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم ، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس . . . ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس ، أن أبا بكر وعمر كانا فيهم ! وهو منكر ، مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطاً » !
يقصد أن حديث شرب أبيبكر وعمر للخمر صحيح السند ، لكن معناه مستنكر ! مع أنه إذا صح سند الحديث ، فلا قيمة لاستغرابك معناه !
ووقت هذه القصةكانت عند نزول سورة المائدة قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشهر أو شهرين ! لأن آية : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، من سورة المائدة ، وهي آخر سورة نزلت من القرآن ، قرب وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقالت الروايات إنه انتشر بين المسلمين أن القصيدة من نظم أبيبكر ! فاهتمت عائشة بنفي نظمه لها ، لكنها لم تنف مشاركته في الحفلة وإنشاده لها !
فقد روى بخاري في صحيحه ( 4 / 263 ) دفاعها فقال : « عن عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر ، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، الذي قال هذه القصيدة ورثى كفار قريش :
وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام
تحييْ بالسلامة أم بكر * وهل لي بعد قومي من سلام
يحدثنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام »
فنفت عائشة نظم أبيها للقصيدة لا إنشاده لها ! فكأن المهم عندها نفي نظمها لأنها تثبت
--------------------------- 179 ---------------------------
كفر ناظمها وإنكاره النبوة ! أما إنشاده لها فهو أقل مصيبةً !
وروى ابن حجر في الإصابة ( 7 / 39 ) أن عائشة كانت غاضبة لأن الناس يومها لم يصدقوها ! « كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول : والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولكن تزوج امرأة من بني كنانة ثم بني عوف ، فلما هاجر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، فقال هذه القصيدة يرثي كفار قريش الذين قتلوا ببدر ، فتحامى الناس أبا بكر من أجل المرأة التي طلقها ، وإنما هو أبو بكر بن شعوب » .
تقصد عائشة أن أم بكر المخاطبة بالقصيدة هي مطلقة أبيها ، وتزوجها ابن شعوب ، وهو الذي نظم القصيدة ! راجع : أمالي الطوسي / 737 ، رواها بسبعة أبيات ، وابن هشام : 2 / 549 ، رواها بتسعة ، والغدير : 6 / 251 ، و 7 / 96 و : 7 / 95 ، وفتح الباري : 10 / 30 ، وقد توسع في الموضوع ودافع بما يستطيع ، لكن كلامه يدل على تحيره ، وسيرة ابن كثير : 2 / 535 ، ومستدرك الوسائل : 17 / 83 ، والسقيفة أم الفتن / 74 ، وفيض القدير : 1 / 117 ، والإصابة : 7 / 38 ، والزوائد : 5 / 51 ، والهداية الكبرى / 106 ، وأمالي المرتضى : 2 / 18 ، والنص والاجتهاد / 311 ، وأحاديث الشعر للمقدسي / 57 ، والنهاية : 3 / 412 ، والثعلبي : 2 / 142 ، والإصابة : 7 / 38 ، والصحيح من السيرة : 5 / 301 و 304 .
ولما رأى رواة السلطة أن علياً ( عليه السلام ) لم يشارك في هذه الحفلة ، افتروا عليه أنه شرب الخمر ، وأنه صلى وهو سكران ، ورووها على عادتهم عن لسان علي ( عليه السلام ) !
قال البيهقي ( 1 / 389 ) : ( عن علي أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر ، فأمهم علي في المغرب وقرأ : قُلْ يَا أيُّهَا الكَافِرُون ، فخلط فيها فنزلت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .
لكن الطبري قال : إن صاحب القصة والقائل انتهينا هو عمر ، عند نزول الآية ! ( الدر المنثور : 2 / 318 ) .
--------------------------- 180 ---------------------------
16 . المناقب المكذوبة لغير علي ( عليها السلام ) دليل على صحة مناقبه
فعندما تجد حديث : أن أبا بكر وعمر من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمنزلة هارون من موسى ، فهو دليل على صحة حديث : أنت مني بمنزلة هارون من موسى .
وعندما تجد حديث : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة ، فهو دليل على صحة حديث : الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيدا شباب أهل الحنة .
وعندما تجد حديث أن أبا بكر باب مدينة علم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دليل على أن علياً ( عليه السلام ) بابها .
وعندما نجد أن الحكمة تجري على لسان عمر ، وأن معه ملكاً يسدد منطقه ، فمعناه أن النبي قال ذلك لعلي ( عليه السلام ) ، فجعلوه لعمر .
وعندما تجد حديث : أن عائشة زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا والآخرة ، فمعناه خديجة ( عليها السلام ) زوجته في الدنيا والآخرة . وعندما تجد أن عائشة أحب نسائه اليه ، فمعناه أنها ليست أحبهن ! وعندما تجد أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لم ينفعني مال كما نفعني مال أبيبكر ، فمعناه صحة الحديث الذي قال فيه : لم ينفعني مال كما نفعني مال خديجة ( عليها السلام ) . الخ .
- *
--------------------------- 181 ---------------------------
الفصل الثامن والثلاثون: مقارنة بين مالية علي ( عليه السلام ) وأبيبكر وعمر وعثمان
ووجدك عائلاً فأغنى :
أغنى الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمال خديجة ( عليها السلام ) ، وبالدعوة المستجابة فلو دعا الله أن يجعل حجراً ذهباً لاستجاب له ، ثم أغناه بالخمس والغنائم .
ففي أمالي الطوسي / 468 : ( وأمره ( أمرعلياً ) أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم . قال أبو عبيدة : فقلت لعبيد الله يعني ابن أبي رافع : أوَ كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجد ما ينفقه هكذا ؟ فقال : إني سألت أبي عما سألتني وكان يحدث بهذا الحديث ، فقال : فأين يذهب بك عن مال خديجة ( عليها السلام ) ؟ وقال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة ، وكان رسول الله يفك من مالها الغارم والعاني ، ويحمل الكل ، ويعطي في النائبة ، ويرفد فقراء أصحابه ، إذ كان بمكة ، ويحمل من أراد منهم الهجرة ، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين ، يعني رحلة الشتاء والصيف ، كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قريش مالاً ، وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينفق منه ما شاء في حياتها ، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها ) .
وروى البخاري ( 5 / 80 ) قال عمر لأسماء بنت عميس : ( سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم ، فغضبت وقالت : كلا والله ، كنتم مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله . وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله ، ونحن كنا نؤذي ونخاف ) . فأيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قولها .
--------------------------- 182 ---------------------------
زعموا أن أبا بكر كان ينفق على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وضعوا في مقابل قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة ، أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما نفعني مال قط كما نفعني مال أبيبكر ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال : ما أنا ومالي إلا لك ! ( ابن حبان : 15 / 273 ، والاستيعاب : 3 / 966 ) .
وقال في فتاوى الشبكة الإسلامية ( 4 / 475 ) : ( أخرج الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال . . قال الشيخ الألباني : صحيح ، وهذا الحديث لا يفهم منه أن رسول الله لم ينتفع بمال خديجة رضي الله عنها بل إنها بذلت مالها مواساة لسيد المرسلين ، ولهذا قال عنها : وواستني بمالها إذ حرمني الناس . وهذا بعض حديث رواه أحمد في مسنده ، وصححه الأرناؤوط ) .
فهم يريدون إثبات إنفاق أبيبكر على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر من إنفاق خديجة ( عليها السلام ) !
وفي الطرائف / 406 : ( لم يزل قومه وجماعته أهل الثروة والرئاسة ، ولما كان بمكة كان له مع ماله ومال كفيله وعمه أبي طالب مال خديجة ( عليها السلام ) ، التي يضرب بكثرة مالها الأمثال ، ولما هاجر إلى المدينة فتحت عليه الفتوح والغنائم ، ففي أي الوقتين كان لأبيبكر مال يغنيه بماله . ومن طريف ما يؤكد ذلك أن أباه أبا قحافة كان شديد الفقر ، حتى كان يؤجر نفسه للناس في أمور خسيسة ، فأين كان غناه وإيثاره مع سوء حال أبيه ، لولا البهتان الذي لا شبهة فيه ) .
وفي الصراط المستقيم ( 2 / 102 ) عن الكلبي النسابة : ( كان أبو قحافة عضروطاً لابن جذعان ينادي على مائدته كل يوم بمد ) . والعضروط : الذي يخدم بطعام بطنه .
وقد اخترعت عائشة لأبيها ثروة عظيمة زعمت أنه أنفقها على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فتحيرعلماء السلطة فيها لأنها خيالية ! قالت : « فخرتُ بمال أبي في الجاهلية ، وكان قد ألف ألف أوقية ) ! ( رواه النسائي : 5 / 358 ، وروته مصادرهم ووثقه علماؤهم أو صححوه ! كتهذيب الكمال : 23 / 392 ، وميزان الإعتدال : 3 / 375 ، ومجمع الزوائد : 4 / 317 ، وأمثال الحديث للرامهرمزي / 131 ، وفتح الباري : 9 / 222 ، وتاريخ بخاري الكبير : 1 / 224 ، وتهذيب الكمال : 21 / 416 ، وتهذيب التهذيب : 8 / 325 ، وسنة ا بن أبي عاصم / 225 ، وإعانة الطالبين : 4 / 199 / والطبراني الكبير : 23 / 174 .
فتكون ثروة أبيها مليار درهم ، وهو أمرٌ غير معقول ! لهذا اضطرالذهبي لأن يجعل
--------------------------- 183 ---------------------------
المبلغ ألف أوقية بدل مليون أوقية ! قال في سيره ( 2 / 185 ) : « وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة . . أما ألف ألف أوقية ، فلا تجتمع إلا لسلطان كبير » .
ولا تصح فذلكته لأن علماءهم صححوه برواية : ألف ألف أوقية ! كما لا يصح فرضه أن أبا بكر أنفق مليون درهم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه لم يرو أحد أنه أوصل صاع حنطة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنوات حصارهم ! ولا دراهم يسيرة أعطاها لمستضعف من المسلمين ، إلا ما زعموه من شرائه بلالاً ولم يثبت ، أما ما زعموه من إنفاقه على ابن خالته مسطح ، فقد كان يعمل معه في الخياطة .
قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة / 187 : « وأما إنفاقه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكذب ، لأنه لم يكن ذا مال ، فإن أباه كان فقيراً في الغاية ، وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمُدٍّ في كل يوم يقتات به ! فلو كان أبو بكر غنياً لكفى أباه !
وكان معلماً للصبيان في الجاهلية ، وصار في الإسلام خياطاً ، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس من الخياطة فقال : إني أحتاج إلى القوت ، فجعلوا له في كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال ! والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان قبل الهجرة غنياً بمال خديجة ( عليها السلام ) ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش ، وبعد الهجرة لم يكن لأبيبكر شئ البتة ) .
أقول : لما صار أبو بكر خليفة قال : « إن حرفتي لم تكن لتعجزعن مؤونة أهلي ، وقد شغلت بأمر المسلمين ، وسأحترف للمسلمين في مالهم ، وسيأكل آل أبيبكرمن هذا المال » ( الطبقات : 3 / 184 ) . فجعل له الصحابة كل يوم درهمين ونصف شاة . ( المغني : 11 / 377 ، وفتح الباري : 4 / 258 ) .
ثم جعلوا له ألفي درهم في السنة : « فقال : زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة ، فزادوه خمس مائة . وكان يقيم يوم الجمعة في صدرالنهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ، ثم يروح لقدر الجمعة فيُجَمِّع بالناس . وكان رجلاً تاجراً فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع ، وكانت له قطعة غنم تروح عليه ، وربما خرج هو نفسه فيها » ! ( الطبقات : 3 / 184 ) .
--------------------------- 184 ---------------------------
ثم أغنى الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة :
وذلك بالأخماس والغنائم والهدايا ، ومنها أموالُ أحد أغنياء اليهود وهو مُخَيْريق رئيس بني النضير ( رحمه الله ) ، فقد أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فأبوا ، وقاتل مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستشهد في أحُد ، وأوصى بكل أمواله إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يضعها حيث أمره ربه ، وقد أمره ربه أن يجعلها لنفقاته وإنفاقاته ، ثم يوقفها على ذريته الطاهرة ( عليهم السلام ) من بعده .
قال الطبري ( 2 / 209 ) : ( قال : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصرمحمد عليكم لَحَقٌّ ! قالوا : إن اليوم يوم السبت ، فقال : لاسبتَ ! فأخذ سيفه وعدته وقال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا إلى رسول الله فقاتل معه حتى قتل ، فقال رسول الله فيما بلغني مخيريق خير يهود ) .
وفي المجموع ( 15 / 327 ) : ( قال الشافعي : وقيل إن أول وقف ما وقفه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أموال مخيريق التي أوصى بها له ) .
وفي الكافي ( 7 / 47 ) : ( سألته ( الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ) عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفاطمة ( عليها السلام ) فقال : لا ، إنما كانت وقفاً ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه والتابعة يلزمه فيها ، فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة فيها ، فشهد علي وغيره أنها وقف على فاطمة ( عليها السلام ) وهي : الدلال ، والعواف ، والحسنى ، والصافية ، ومال أم إبراهيم ، والميثب ، والبرقة .
وروى وصية فاطمة ( عليها السلام ) إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فإن مضى عليٌّ فإلى الحسن ، فإن مضى الحسن فإلى الحسين ، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي . شهد الله على ذلك ، والمقداد بن الأسود ، والزبير بن العوام . وكتب علي بن أبي طالب .
ثم أضاف الله تعالى إلى ملكية رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفئ في قوله تعالى : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) .
قال الصنعاني في سبل السلام ( 4 / 147 ) : ( كانت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ) .
وفي صحيح بخاري ( 6 / 190 ) : ( عن عمرأن النبي كان يبيع نخل بني النضير ( غلته )
--------------------------- 185 ---------------------------
ويحبس لأهله قوت سنتهم ) . ونخل بني النضير هو كل بساتينهم بعد إجلائهم .
وفي موطأ مالك ( 2 / 893 ) : ( أما يهود فدك ، فكان لهم نصف الثمر ، ونصف الأرض لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض ) .
وفي صحيح بخاري ( 5 / 25 ) : ( عن عائشة أن فاطمة ( عليها السلام ) والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت النبي يقول : لا نورث ما تركنا صدقة ) .
وروى الطبري الشيعي في المسترشد / 502 : ( عن أبي سعيد الخدري : لما نزلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، قال : يا فاطمة لك فدك . فهذه رواياتهم ، ثم يَجْرُونَ إلى العناد والى منع ابنة رسول الله حقها ، تعصباً على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذريته ! ولعمري لقد كان عمر بن عبد العزيز أعرف بحقها حين رد إلى محمد بن علي ( عليه السلام ) فدكاً فقيل له : طعنتَ على الشيخين ! فقال : هما طعنا على أنفسهما ) .
نفقات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
اشترى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مكان مسجده وبيته في المدينة وبناهما ، مما بقي عنده من أموال خديجة ( عليها السلام ) . ثم جاء تشريع الأنفال والخمس الذي جعله الله ملكاً للنبي وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حيث نزلت سورة الأنفال بعد بدر : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وعيَّنَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أميناً للأخماس الخاصة ببني هاشم ، هو الصحابي مَحْمِيَّة بن جُزء . ( مسلم : 3 / 119 ) .
وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يباري الريح سخاءً وعطاءً ، كما وصفه عمه العباس ، ولا يرى للدنيا قيمة .
ففي الكافي ( 2 / 134 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما لي وللدنيا ! إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رُفعت له شجرةٌ في يوم صائف ، فقالَ ( من القيلولة ) تحتها ، ثم راح وتركها ) .
ومع موارده الواسعة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تُوفي مديوناً ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 236 ) : ( لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟
--------------------------- 186 ---------------------------
فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تباري الريح ؟ ! قال : فأطرق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هنيئة ، ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال : بأبي أنت وأمي شيخ كثيرالعيال قليل المال ، وأنت تباري الريح !
قال : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ! ثم قال : يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم بأبي أنت وأمي . قال : ذاك علي وليي ، قال فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال : تختَّم بهذا في حياتي ، قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم . ثم صاح يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك ، يعني الأبرقة فجيئ بشقة كادت تخطف الأبصار ، فإذا هي من أبرق الجنة فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال : يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستذفر بها مكان المنطقة ، ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميصين : القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين والجُمَع ، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه ، ثم قال : يا بلال عليَّ بالبغلتين : الشهباء والدلدل ، والناقتين : العضباء والقصوى ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحيزوم هو الذي كان يقول : أقدم حيزوم ، والحمار عفير ، فقال : إقبضها في حياتي .
فذكرأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أول شئ من الدواب توفي عفير ، ساعة قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء ، فرمى بنفسه فيها فكانت قبره ) !
وفي رواية المفيد الإرشاد ( 1 / 185 ) : ( فجئ بها إليه فدفعها إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال له : إمض بها على اسم الله إلى منزلك ) .
أقول : أخرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمه العباس من وصيته على أعين الناس ، لئلا ينازع علياً ( عليه السلام ) في
--------------------------- 187 ---------------------------
ولاية صدقاته وغيرها ، ومع ذلك نازعوه ! وقد قضى علي ( عليه السلام ) ديون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونفذ عداته للناس ، ومنها وعود بأموال جزيلة ، ومنها وعد بمئة ناقة .
كان علي يعيش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانت نفقته منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
لما نزله قوله تعالى : وأنذرْ عَشِيرَتَك الأقْرَبِين ، جمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بني هاشم ودعاهم إلى الإسلام ، وطلب منهم شخصاً يتفرغ معه للدعوة إلى الإسلام ، ويكون أخاه ووزيره ووصيه وخليفته ، فتقدم علي ( عليه السلام ) فأعلنه بأمر ربه أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة ، ومن يومها تفرغ للعمل مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يعمل في كسب رزقه ، وتكفل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصارفه وحاجاته .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( الخصال / 371 ) : ( لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة ، أحدٌ آنس به أو أعتمد عليه ، أو أستنيم إليه ، أو أتقرب به ، غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، هو رباني صغيراً ، وبوأني كبيراً ، وكفاني العيلة ، وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ، ووقاني المكسب ، وعال لي النفس والولد والأهل .
هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحق عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوي على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب ، بين مُعَزٍّ يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم ، جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت ، والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولاجزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً ) .
--------------------------- 188 ---------------------------
ورث علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مالية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصادرتها السلطة :
أجمع المسلمون على أن الله تعالى جعل للنبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ميزانية خاصة ، ومنعهم أن يأخذوا من الزكاة كعامة الناس ، تشريفاً لهم وتوسعة عليهم ! وهذا تمييز واضح لهم عن المسلمين ، وقد شدد الله فيه فحرم عليهم أن يأكلوا حتى تمرة واحدة من أموال الصدقات ، لأنها أوساخ الناس !
وطبيعي أن يعترض غير المسلم على هذا التمييز الطبقي ، لكن المؤمن يراه شبيهاً بتمييز ملكة النحل في غذائها عن بقية النحل !
روى البخاري ( 2 / 135 ) : ( أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي : كِخْ كِخْ ، ليطرحها ! ثم قال : أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ) و : 4 / 36 ، ومسلم : 3 / 117 ، والبيهقي : 7 / 29 ، وفي أحمد : 2 / 279 : فأدخل النبي يده فانتزعها منه ثم قال : أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد ! والدارمي : 1 / 386 ، والزوائد : 1 / 284 .
وفي مناقب ابن المغازلي / 317 : ( عن أبي هريرة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أُتِيَ بتَمر من تَمر الصدقة ، ومعه الحسن بن علي فقسم التمر فتناول الحسنُ تمرةً فأدخلها فاه ورسول الله لا يراه ، فلما نظر إليه قال له : كِخْ كِخْ ! وأخْرَجَها مِن فِيهِ ، وقال : إن السيد لا يأكل الصدقة ) . وفي هامشه : أخرجه الإمام ابن حنبل في مسنده ( 2 / 348 ) وأخرجه بهذا السند واللفظ في : 2 / 408 و 444 . وقد حذوفوا منه لفظ : السيد !
وفي عمدة القاري بشرح البخاري ( 9 / 87 ) : ( وقد ذكرنا الحكمة في تحريمها عليهم أنها مطهرة للمُلَّاك ولأموالهم ، قال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ، فهي كغسالة الأوساخ ، وأن آل محمد منزهون عن أوساخ الناس وغسالاتهم ) .
وفي شرح ابن قدامة ( 2 / 711 ) : ( لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة لقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس ! ولأن منعهم من الزكاة لشرفهم ، وشرفهم باق ، فيبقى المنع ) .
وفي مجموع النووي ( 4 / 436 ) : ( كخ كخ : أي ألقها كما يمنعه من شرب الخمر والزنا وغيرهما ) !
--------------------------- 189 ---------------------------
وفي نيل الأوطار ( 2 / 244 ) أنهم أعطوا لعائشة من الصدقة فأقره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ،
ثم قال : ذكر ابن المنير أنها لا تحرم الصدقة على الأزواج ، قولاً واحداً ) .
وقال النووي في شرح مسلم ( 7 / 175 ) : ( قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ! هذه اللفظة تقال في الشئ الواضح التحريم ونحوه ، وإن لم يكن المخاطب عالماً به ، وتقديره : عجبٌ كيف خفي عليك هذا مع ظهورتحريم الزكاة على النبي وعلى آله . .
قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنما هي أوساخ الناس تنبيهٌ على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب ، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم ، كما قال تعالى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ، فهي كغسالة الأوساخ ) .
ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يتحفظ من أكل الصدقة كما يتحفظ من الشيء النجس !
قال في المغني ( 2 / 522 ) : ( قال أبو هريرة : كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا أتيَ بطعام سأل عنه فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل ، وإن قيل له هدية ، ضرب بيده فأكل معهم . أخرجه البخاري . وقال ( عليه السلام ) : إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي في بيتي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها ! لأن النبي كان أشرف الخلق ، وكان له من المغانم خمس الخمس والصُّفَى ) .
وفي فقه السنة ( 1 / 400 ) : ( كما حرم رسول الله الصدقة على بني هاشم ، حرمها كذلك على مواليهم ) .
نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجوز أن يأكلن من الصدقات !
لم يَشمل حكم تحريم الصدقة وتشريع الخمس نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقد أجاز الله لهن أن يأكلن منها ، أما للنبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهو : ( كِخْ كخ ) !
واستدل عليه فقهاء المذاهب بأن أبا رافع مولى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد الاستفادة من الصدقات ، فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( إن الصدقة لا تحل لنا ، وإن مولى القول منهم ) .
--------------------------- 190 ---------------------------
( النسائي : 5 / 107 ، والكبرى : 2 / 58 ، والبيهقي : 2 / 151 و : 7 / 32 ، وابن أبي شيبة : 8 / 431 ،
والمحلى : 6 / 147 ) .
وفي المقابل : أُتيَ للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بلحم تصدقوا به على بريرة مولاة عائشة ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنه يحل لها صدقة ويحل له كهدية منها ! فأقر الصدقة على موالي أزواجه ، ومعناه تحليل الصدقة على أزواجه لأن مولى القوم منهم ! ( مسند أحمد : 3 / 117 ، و : 3 / 180 ، و : 6 / 115 ، وصحيح بخاري : 2 / 135 ، و 136 وفتح الباري : 12 / 41 ، والمحلى : 6 / 107 ، وعمدة القاري : 9 / 79 ، وأورد نهي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مولى علي ( عليه السلام ) أن يأكل الصدقة ) .
أما مصادرنا فروته مفصلاً ، كالكافي ( 4 / 58 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكني قد وعدت الشفاعة . . فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة ، أتروني مؤثراً عليكم غيركم ) .
كما نصت أحاديثنا على أن الصدقة حرام على كل بني هاشم ، لكن آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصطلح خصصه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي وفاطمة والحسنين ( عليهم السلام ) وتسعة من ذريته . كالذي رواه في كفاية الأثر / 89 : ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي . فقلنا يا رسول الله صلى الله عليك ، ومن آلك من أهل بيتك ؟ قال : أهل بيتي عترتي من لحمي ودمي ، هم الأئمة بعدي ، عدد نقباء بني إسرائيل ) .
شدد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع على ترفع أهل بيته ( عليهم السلام ) عن الصدقات :
ففي مسند أحمد ( 4 / 186 ) : ( قال ليث في حديثه : خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وَبْرَةً من كاهل ناقته فقال : ولا ما يساوي هذه أو ما يزن هذه ! لعن الله من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه . الولد للفراش وللعاهر الحجر ) . وعبد الرزاق ( 9 / 48 ) .
أقول : إن تشريع الخمس لأهل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتحريم أموال الدولة عليهم ، ولعن من كم ىتولاهم ، من عجائب تشريعات الله تعالى ، لقوم يعقلون .
--------------------------- 191 ---------------------------
أين صارت مالية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد وفاته ؟
أراد الله تعالى من تشريع الخمس أن يُظهر مقام عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن لهم صفو أموال الأرض يتصرفون بها ، وأنهم مأمونون لا يُخاف منهم الظلم والحيف . ولذلك كانت ملكية الإمام ( عليه السلام ) أعظم الملكيات الأربع في الإسلام : ملكية المسلمين ، وملكية الدولة وملكية الأفراد ، ليوازن الإمام من ملكيته بين الملكيات ، ويحفظ دورة الإقتصاد .
وقد أراد الله تعالى أن يكون لهم مصدر مالي يساعدهم على أداء واجبهم إذا حكموا ، وعلى أداء دورهم إذا أقصتهم الأمة عن الحكم ! فأول ما فعله أبو بكر وعمر بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن حرمهم سهمهم الذي فرضه الله ، ثم صادروا أموالهم ، وعملوا لإفقارهم ! أخذوا منهم فدكاً وخيبر وبني النضير ، ولم يسلم لهم إلا بساتين مخيريق كانت بيد فاطمة ( عليها السلام ) .
قال عمر : ( لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله . قال فقلت : والذي بخيبر ؟ قال والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك . فقلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير ، فلا ) . ( مجمع الزوائد : 9 / 39 ) .
( عن ابن أبي ليلى قال : سألت علياً عن الخمس فقال : إن الله حرم علينا الصدقة وعوضنا منها الخمس ، فأعطانيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى توفاه الله ، ثم أعطانيه أبو بكر حتى مات ، ثم أعطانيه عمر حتى كان فتح السوس ) . ( كنز العمال : 4 / 519 ) .
وفي جامع أحاديث الشيعة ( 8 / 622 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : لما وليَ أبو بكر قال له عمر : إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ، فامنع عن علي الخمس والفئ وفدكاً ، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا علياً رغبة في الدنيا ) .
وكان عمر متشدداً في مصادرة أموال علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإفقارهما ، قال إن لهم حق الأكل منها ونحن نطعمهم ! ولما قالوا إن الله جعل لرسوله ( عليه السلام ) ما لم يوجف عليها
--------------------------- 192 ---------------------------
بخيل ولا ركاب ، قال لفاطمة بخشونة : ( هذا ( أي رقبته ) لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ؟ فضعي الحبال في رقابنا ) !
ففي الكافي ( 1 / 543 ) : ( لما ورد أبو الحسن موسى ( الكاظم ( عليه السلام ) ) على المهدي رآه يرد المظالم فقال : يا أمير المؤمنين ، ما بال مظلمتنا لا ترد ؟ فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدك وما والاها ، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّه ، فلم يدر رسول الله من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل ، وراجع جبرئيل ( عليه السلام ) ربه فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة ( عليها السلام ) ، فدعاها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لها : يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك ، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك . فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاء ها ، فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها : إئتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأم أيمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض ، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال : ما هذا معك يا بنت محمد ؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة ، قال : أرينيه فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه ، ثم تفل فيه ومحاه وخرقه ، فقال لها : هذا ( رقبته ) لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ؟ فضعي الحبال في رقابنا ) !
وفي سنن النسائي ( 7 / 129 ) أن نجدة رئيس الخوارج كتب إلى ابن عباس يسأله عن الخمس فأجابه : ( كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو ؟ وهو لنا أهل البيت وقد كان عمر دعانا إلى أن يُنكح منه أيِّمنا ، ويخدم منه عائلنا ، ويقضي منه عن غارمنا ، فأبينا إلا أن يُسلمه لنا ، وأبى ذلك ، فتركناه عليه ) . وفي سنن البيهقي : 6 / 345 ، وسننه الكبرى : 3 / 44 ، وابن أبي شيبة : 7 / 699 ، وأبو يعلى : 4 / 423 .
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه : الخطط السياسية لتوحيد الأمة / 261 : ( ومن المثير للإنتباه حسب تحليل هذه البطون أن آية المباهلة الواردة في القرآن الكريم وتطبيقها العملي أمام الصحابة ، حصرت الأبناء والنساء والأنفس بمحمد وعلي وفاطمة وحسن وحسين فقط ! وتلك إشارة ضوء صارخة تعكس نوايا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعكس توجه
--------------------------- 193 ---------------------------
الترتيبات الإلهية . والأخطر من ذلك : إعلان النبي أن من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله !
ليس هذا فحسب ، بل إن النبي يعلن بأن البطن الهاشمي هو خير بطون الأرض وأن بيت عبد المطلب هو خير بيوت بني البشر ، ثم يضع الكساء على الأبناء والنساء والأنفس ويتلو قول الله تعالى : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، ثم يعلن النبي بعد ذلك أن هؤلاء هم أهل بيته !
والأشد خطورة من الجميع : أن النبي قد أعلن بأن الصدقات لا تجوز على آل محمد ، وأن لهم حقاً معلوماً في موارد الدولة وهو خمس الخمس .
ثم إن القرآن طلب من النبي أن يعلن بأنه لا يسأل الناس أجراً على هدايته لهم وإنقاذهم ، إلا المودة في القربى . . إلخ .
ثم عدَّد المحامي الأردني أعمال تحالف طلقاء قريش ضد أهل البيت ( عليهم السلام ) فقال في / 268 : ( الورقة الخامسة : تدمير القاعدة الاقتصادية لبني هاشم وتتبيعهم للدولة ! لقد حرم الله الصدقة على أهل البيت ، وخصص لهم جزءاً ثابتاً من موارد الدولة وهو خمس الخمس ، ليضمن لهم الاستقلال الاقتصادي وعدم التبعية الاقتصادية لأحد لأنهم قيادة الأمة ، وفرض هذا الحق في آية محكمة ، ولما آلت الأمور إلى بطون قريش ألغوا هذا الحق تماماً ، وصار أهل البيت يسألون الحاكم عطاءه كما يسأله عامة الناس ، ولم تكتف البطون بذلك إنما أوجدت قاعدة ( الأنبياء لا يُوَرِّثُون ) فحرموا أهل البيت من تركة النبي ، حتى أن العطاءات والمنح التي أعطاها النبي للمسلمين ، أو أقطعها لغير أهل البيت بقيت على حالها ، أما المنح والعطاءات التي أعطاها النبي لأهل البيت فقد صادرتها البطون ! وقصة الزهراء وفدك خير دليل على ذلك .
وهكذا تحطم الهاشميون من الناحية الاقتصادية ، وتُركوا عالة على الدولة ورُهناء من الناحية الاقتصادية بمشيئة الحاكم ، إن شاء وصلهم وإن شاء قطعهم ) !
أقول : لم يكتفِ زعماء بطون قريش بعزل عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سياسياً ، وإفقارهم اقتصادياً ، بل عملوا لعزلهم اجتماعياً عزلاً تاماً ! ففي الكافي ( 8 / 156 ) عن الإمام
--------------------------- 194 ---------------------------
الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( كانت امرأة من الأنصار تودنا أهل البيت وتكثر التعاهد لنا ، وإن عمر بن الخطاب لقيها ذات يوم وهي تريدنا فقال لها : أين تذهبين يا عجوز الأنصار ؟ فقالت : أذهب إلى آل محمد أسلم عليهم وأجدد بهم عهداً ، وأقضي حقهم ، فقال لها عمر : ويلك ليس لهم اليوم حق عليك ولا علينا ، إنما كان لهم حق على عهد رسول الله ، فأما اليوم فليس لهم حق ، فانصرفي ! فانصرفت حتى أتت أم سلمة فقالت لها أم سلمة : ماذا أبطأ بك عنا ؟ فقالت : إني لقيت عمر بن الخطاب وأخبرتها بما قالت لعمر وما قال لها عمر ، فقالت لها أم سلمة : كَذِبَ ، لا يزال حق آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة ) .
وقد عمل معاوية كالذين قبله لإفقار بني هاشم ، فنقض الشروط المالية في صلحه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، واستولى على ما استطاع من ماليتهم
أوقاف النبي وفاطمة وأوقاف علي ( عليهم السلام ) وكمثال على ذلك ، أمر معاوية ابن أخيه والي المدينة بالسيطرة على أملاك للحسين ( عليه السلام ) !
ففي تاريخ دمشق ( 63 / 210 ) : ( تنازع الحسين بن علي والوليد بن عتبة بن أبي سفيان في أرض ، والوليد يومئذ أمير على المدينة ، فبينا حسين ينازعه إذ تناول عمامة الوليد عن رأسه فجذبها ! فقال مروان بن الحكم وكان حاضراً : إنا لله ما رأيت كاليوم جرأة رجل على أميره ! قال الوليد : ليس ذاك بك ولكنك حسدتني على حلمي عنه ! فقال حسين : الأرض لك ! اشهدوا أنها له ) .
لكن الوليد اعترف بأن الأرض كانت للحسين ( عليه السلام ) وأراد أن يغصبها !
ففي مناقب آل أبي طالب ( 3 / 224 ) : ( فقال الوليد : وإنما كانت الضيعة له ! فقال الحسين : الضيعة لك يا وليد ، وقام ) .
ثم حاول معاوية وابن أخيه الوليد والي المدينة مصادرة بساتين ينبع ، وضيعتين لعلي في وادي القرى ، حتى هددهم الحسين ( عليه السلام ) بحلف الفضول ، فسكتوا عنه !
وقد صاغ بخاري ( 5 / 23 ) ومسلم ( 5 / 151 ) مسألة أوقاف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشكل يرفع المسؤولية عن السلطة ويضعها على عاتق علي ( عليه السلام ) والعباس ، فزعم أنهما طالبا بها أبا بكر
--------------------------- 195 ---------------------------
واتَّهَمَاهُ بأنه ( كاذبٌ آثمٌ غادرٌ خائن ) ! فلم يعطهما إياها .
ثم طالبا بها عمر فأعطاهما إياها ، على أن يعملا فيها كما كان يعمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيأخذا منها نفقاتهما ويصرفا الباقي في مصالح المسلمين ، فاختلف العباس وعلي وتشاتما وجاءا إلى عمر يختصمان ! فقال لهما عمر حسب رواية مسلم : طالبتما أبا بكر : ( فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر وأنا وليُّ رسول الله ووليُّ أبيبكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق ) .
ورفض أن يحكم بينهما ، وقال لهما إما أن تتفقا وتعملا فيها كما كان يعمل النبي ، أو تردَّاها اليَّ لأعمل ذلك !
ثم قال بخاري : ( فكانت هذه الصدقة بيد علي ، منعها علي عباساً فغلبه عليها ! ثم كانت بيد حسن بن علي ، ثم بيد حسين بن علي ، ثم بيد علي بن حسين وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ) .
أقول : كتب بخاري ومسلم ذلك في عصر العباسيين ، وغرضهما تبرئة أبيبكر وعمر من مصادرة أوقاف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن يقولا إن متوليها العباس وعلي ، فظلمه عليٌّ وغلبه عليها وشتمه ! فيحق لأولاد العباس أخذها ، وقد رووا هم أن العباس لم يرض أن يأخذها من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مقابل ديونه !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 6 / 145 ) : ( الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يكتب في عهده فيولي عليها من قبله من يقبضها ، ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة . قلت : كان ذلك على رأس المائتين ، ثم تغيرت الأمور ، والله المستعان ) .
مقابل خطط السلطة قام علي ( عليه السلام ) بتنمية ماليته ، فبارك الله فيها :
قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ( 1 / 221 ) : ( لما أشرف علي رضي الله عنه على ينبع فنظر إلى جبالها قال : لقد وُضِعَتْ على نقيٍّ من الماء عظيم ) .
ومعناه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان خبيراً بأماكن المياه الجوفية ، وغزارتها ، وعذوبتها .
وقد عدَّد عمر ابن شبَّة العيون التي استنبطها والبساتين التي أنشأها ، فقال ( 1 / 219 ) :
--------------------------- 196 ---------------------------
( صدقات علي بن أبي طالب رضي الله عنه : نزل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد علي بالمنجار ، وهو موضع بين حوزة السفلى وبين منحوين ، على طريق التجار في الشام ، حين بعثهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يترقبان له عن عير أبي سفيان ، فنزلا على كَشَد ( الجهني ) فأجارهما ، فلما أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينبع قطعها لكشد فقال : يا رسول الله إني كبير ، ولكن أقطعها لابن أخي فقطعها له فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري بثلاثين ألف درهم ، فخرج عبد الرحمن إليها فرمى بها وأصابه سافيها وريحها فقَذِرَها ، وأقبل راجعاً فلحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمنزلة ، وهي بلية دون ينبع فقال : من أين جئت ؟ فقال من ينبع وقد شنئتها ، فهل لك أن تبتاعها ؟ قال علي : قد أخذتها بالثمن ، قال : هي لك . فخرج إليها علي رضي الله عنه ، فكان أول شئ عمله فيها البغيبغة وأنفذها . .
عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : بشر علي رضي الله عنه بالبغيبغة حين ظهرت فقال : بشر الوارث . ثم قال : هي صدقة على المساكين وابن السبيل وذي الحاجة الأقرب . . ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وأبناء السبيل القريب والبعيد ، في السلم والحرب ، ليوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه ، ليصرف الله بها وجهي عن النار ، ويصرف النار عن وجهي .
عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما في حديث ساقه ، قال : وكانت أموال علي رضي الله عنه عيوناً متفرقة بينبع ، منها عين يقال لها عين البحير ، وعين يقال لها عين أبي نيزر ( ابن النجاشي ) وعين يقال لها عين نولا ، وهي اليوم تدعي العدر ، وهي التي يقال لها إن علياً رضي الله عنه عمل فيها بيده ، وفيها مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متوجهه إلى ذي العشيرة يتلقى عير قريش .
وفي هذه العيون أشراب بأيدي أقوام ، زعم بعض الناس أن ولاة الصدقة أعطوهم إياها ، وزعم الذين هي بأيديهم أنها ملك لهم ، إلا عين نولا فإنها خالصة ، إلا نخلات فيها بيد امرأة يقال لها بنت يعلى ، مولى علي بن أبي طالب . وعمل علي رضي الله عنه أيضاً بينبع البغيبغات ، وهي عيون منها عين يقال لها : خيف الأراك ، ومنها عين يقال
--------------------------- 197 ---------------------------
لها خيف ليلى ، ومنها يقال لها خيف بسطاس ، فيها خليج من النخل مع العين . وكانت البغيبغات مما عمل علي رضي الله عنه وتصدق به ، فلم تزل في صدقاته حتى أعطاها حسين بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب . . فأقامت في صدقته حتى قبضها أبو جعفر في خلافته ، وكلم فيها الحسن بن زيد المهدي حين استخلف وأخبرته خبرها ، فكتب إلى زفر بن عاصم الهلالي ، وهو والي المدينة ، فردها مع صدقات علي رضي الله عنه .
ولعلي رضي الله عنه أيضاً ساقي على عين يقال لها عين الحدث ، بينبع . وأشرك على عين يقال لها العصبية موات بينبع . وكان له أيضاً صدقات بالمدينة : الفقيرين بالعالية ، وبئر الملك بقناة ، والأدبية بالأُضم . .
ولعلي رضي الله عنه في صدقاته : عين ناقة بوادي القرى ، وعين يقال لها : عين حين بالبيرة من العلا . . وله بوادي القرى أيضاً : عين موات . . ولعلي رضي الله عنه أيضاً : حق على عين سكر . وله أيضاً : ساقي على عين بالبيرة وهو في الصدقة .
وله : بحرة الرجلاء من ناحية شعب زيد واد يدعي الأحمر ، شطره في الصدقة ، وشطره بأيدي آل مناع من بني عدي ، منحة من علي ، وكان كله بأيديهم حتى خاصمهم فيه حمزة بن حسن ، فأخذ منهم نصفه .
وله أيضاً : بحرة الرجلاء ، واد يقال له البيضاء فيه مزارع وعفا وهو في صدقته . وله أيضاً : بحرة الرجلاء أربع آبار ، يقال لها : ذات كمات ، وذوات العشراء وقعين ، ومعيد ، ورعوان ، فهذه الآبُر في صدقته .
وله بناحية فدك : واد بين لابتي حرة يدعى رعية ، فيه نخل ووشل من ماء يجري على سقا بزرنوق ، فذلك في صدقته .
وله أيضاً : بناحية فدك واد يقال له الأسحن ، وبنو فزارة تدعي فيه ملكاً ومقاماً وهو اليوم في أيدي ولاة الصدقة في الصدقة .
وله أيضاً : ناحية فدك مال بأعلى حرة الرجلاء ، يقال له القصيبة . .
قال أبو غسان ( هو المؤلف ابن شبَّه ) : وهذه نسخة كتاب صدقة علي بن أبي طالب
--------------------------- 198 ---------------------------
رضي الله عنه حرفاً بحرف ، نسختها على نقصان هجائها وصورة كتابها ، أخذتها من أبي ، أخذها من حسن بن زيد :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أمر به وقضى به في ماله عبد الله علي أمير المؤمنين ، ابتغاء وجه الله ليولجني الله به الجنة ، ويصرفني عن النار ، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .
أن ما كان لي بينبع من ماء يعرف لي فيها وما حوله صدقة ورقيقها ، غير أن رباحاً وأبا نيزر وجبير أعتقناهم ليس لأحد عليهم سبيل ، وهم موالي يعملون في الماء خمس حجج ، وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق أهليهم . ومع ذلك ما كان بوادي القرى ، ثلثه مال ابني قطيعة ، ورقيقها صدقة ، وما كان لي بواد ترعة وأهلها صدقة ، غير أي زريقاً له مثل ما كتبت لأصحابه . وما كان لي بإذنية وأهلها صدقة . والفُقَيْر لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله .
وأن الذي كتبت من أموالي هذه صدقة وجب فعله ، حياً أنا أو ميتاً ، ينفق في كل نفقة ابتغى به وجه الله من سبيل الله ، ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم ، وبني المطلب والقريب والبعيد ، وأنه يقوم على ذلك حسن بن علي ، يأكل منه بالمعروف وينفق حيث يريه الله في حل محلل لاحرج عليه فيه ، وإن أراد أن يندمل من الصدقة مكان ما فاته ، يفعل إن شاء الله لاحرج عليه فيه ، وإن أراد أن يبيع من الماء فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لاحرج عليه فيه ، وإن شاء جعله يسير إلى ملك ، وإن ولد علي وما لهم إلى حسن بن علي ، وإن كان دار حسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها ، فإنه يبيع إن شاء لا حرج عليه فيه ، فإن يبع فإنه يقسم منها ثلاثة أثلاث ، فيجعل ثلثه في سبيل الله ، ويجعل ثلثه في بني هاشم وبني المطلب ، ويجعل ثلثه في آل أبي طالب ، وأنه يضعه منهم حيث يريه الله . وإن حدث بحسن حدث وحسين حي ، فإنه إلى حسين بن علي ، وأن حسين بن علي يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسناً ، له منها مثل الذي كتبت لحسن منها ، وعليه فيها مثل الذي على حسن ، وإن لبني فاطمة ( عليها السلام ) من صدقة علي مثل الذي لبني علي ، وإني إنما جعلت الذي جعلت إلى ابني فاطمة ( عليها السلام ) ابتغاء وجه
--------------------------- 199 ---------------------------
الله ، وتكريم حرمة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتعظيماً وتشريفاً ورجاء بهما ، فإن حدث لحسن أو حسين حدث ، فإن الآخر منهما ينظر في بني علي ، فإن وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته فإنه يجعله إن شاء ، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريد ، فإنه يجعله إلى رجل من ولد أبي طالب يرضاه ، فإن وجد آل أبي طالب يومئذ قد ذهب كبيرهم وذووا رأيهم وذووا أمرهم ، فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم ، وإنه يشترط على الذي يجعله إليه أن ينزل الماء على أصوله ينفق تمره حيث أمر به من سبيل الله ووجهه ، وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلب ، والقريب والبعيد لايبع منه شئ ولا يوهب ولا يورث ، وإن مال محمد على ناحية ، ومال ابني فاطمة ومال فاطمة إلى ابني فاطمة ( عليها السلام ) . وإن رقيقي الذين في صحيفة حمزة الذي كتب لي ، عتقاء .
فهذا ما قضى عبد الله علي أمير المؤمنين في أمواله هذه الغد من يوم قدم مكر ، ابتغي وجه الله والدار الآخرة ، والله المستعان على كل حال .
ولا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شئ قبضته في مال ، ولا يخالف فيه عن أمري الذي أمرت به عن قريب ولا بعيد .
فهذا ما قضى به عبد الله علي أمير المؤمنين . . شهد أبوشمر بن أبرهة ، وصعصعة بن صوحان ، ويزيد بن قيس ، وهياج بن أبي هياج . وكتب عبد الله علي أمير المؤمنين بيده لعشرة خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين ) .
أقول : في الكافي ( 7 / 50 ) : ( هذا ما قضى به علي بن أبي طالب في أمواله هذه الغد ، من يوم قدم مسكن بدل مَكر ) ومسكن موضع في الكوفة على الفرات . فالمقصود به نفوذ وقفيته من ذلك اليوم . وفي هذه الأملاك تفاصيل ذكرها ابن شبة وغيره ، لا يتسع لها المجال .
وفي الكافي ( 7 / 54 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( قسَّم نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفئ فأصاب علياً ( عليه السلام ) أرضاً فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير ، فسماها يَنْبُع ، فجاء البشير يبشرفقال ( عليه السلام ) : بشِّر الوارث ، هي صدقة بَتَّةٌ بَتْلاً ،
--------------------------- 200 ---------------------------
في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله ، لاتباع ولا توهب ولاتورث ، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) .
وفي مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان ( 2 / 81 ) : ( كان أبونيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم فرغب في الإسلام فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان معه ، فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صار مع فاطمة وولدها رحمة الله عليهم .
قال أبونيزر : جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال : هل عندك من طعام ؟ فقلت : عندنا طعام لا أرضاه لك ، قّرْعٌ من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة ( بسمْن غير جيد - لسان العرب : 3 / 27 ) فقال : عليَّ به ، فقام إلى الربيع وهو الجدول ، فغسل يده فأصاب من ذلك شيئاً ، ثم رجع إلى الربيع فغسل يده بالرمل حتى أنقاها ثم ضم يديه كل واحدة إلى أختها ثم شرب بها حساً من الربيع ، ثم قال : يا أبا نيزر إن الأكف أنظف الآنية ثم مسح من ذلك الماء على بطنه ثم قال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله ، ثم أخذ المعول وانحدر إلى العين فأقبل يضرب فيها وأبطأ عليه الماء ، فخرج وقد تفضخت جبهته عرقاً ، فاستشف العرق من جبينه ، ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها وجعل يهينم ، فانثالت كأنها عنق جزور فخرج مسرعاً فقال : أشهد الله أنها صدقة ، عليَّ بدواة وصحيفة ! قال أبونيزر : فعجلت بها إليه فكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله وجهي حرالنار يوم القيامة ، ولا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين ، إلا أن يحتاج الحسن أو الحسين فهما طلق لهما ليس لأحد غيرهما . قال أبونيزر : فركب الحسين دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مئتي ألف دينار فأبى الحسين أن يبيع وقال : إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار ) .
وفي معجم البلدان ( 1 / 469 ) إن أبا نيزر كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون لصُلبه ، وأن علياً وجده عند تاجر بمكة ، فاشتراه منه وأعتقه مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين . ونحوه الإصابة ( 7 / 343 ) وتخريج الدلالات للخزاعي / 567 .
--------------------------- 201 ---------------------------
ويدل هذا على أن علياً ( عليه السلام ) أنشأ بساتين في ينبع قبل أن يستنبط عين أبي نيزر ، وقد بلغت عيونها مائة عين ، ولعل بساتينها كانت أضعاف ذلك !
وكان علي ( عليه السلام ) يحدث بنعمة ربه . فقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد ( 9 / 123 ) عن أحمد وصححه ، قال تحت عنوان : ( باب فيما بلغت صدقة ماله رضي الله عنه :
عن محمد بن كعب القرظي أن علياً قال : لقد رأيتني مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع ، وإن صدقة مالي لتبلغ أربعين ألف دينار ) .
ونحوه أسد الغابة : 4 / 23 ، والنهاية : 7 / 368 ، وتهذيب الأسماء : 1 / 317 ، والتراتيب الإدارية : 1 / 407 ، ومناقب ابن سليمان : 2 / 66 ، وحلية الأولياء : 1 / 86 ، وكنز العمال : 13 / 179 ،
والسيرة الحلبية : 2 / 473 . . .
ويحتمل أن يكون قصده ( عليه السلام ) أن وارد صدقاته أربعون ألف دينار ، أويقصد زكاة ماله أي العشر أو نصف العشر فيكون وارد ينبع وغيرها نحو أربع مئة ألف دينار ، وهو مبلغ ضخم يومها .
وقد كانت بساتين ينبع مئات آلاف أشجار النخيل ، فقد روى في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 388 ) : ( قال له رجل ورأى عنده وَسَقٌ نَوَى : ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : مائة ألف نخلة إن شاء الله ، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة ! ووقف مالاً بخيبر وبوادي القرى . . وأخرج مائة عين بينبع جعلها للحجيج ، وهو باق إلى يومنا هذا ، وحفر آباراً في طريق مكة والكوفة ) .
وما زالت منطقة مسجد الشجرة تعرف باسم : آبار علي ( عليه السلام ) ، لأنه استنبط عيونها . ولم يملك أبو بكر ولا عمر حتى نصف ملكية علي ( عليه السلام ) .
وكان ( عليه السلام ) لا يأكل من بيت المال ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن علياً ( عليه السلام ) كان يؤتى بغَلَّة ماله من ينبع فيُصنع له منها الطعام ، يُثرد له الخبز والزيت وتمر العجوة ، فيجعل له منه ثريداً ، فيأكله ، ويطعم الناس الخبز واللحم ، وربما أكل اللحم ) . ( قرب الإسناد للحميري / 113 ) .
وفي نثر الدرر / 137 : ( قال الأحنف : دخلت على معاوية فقدم إليَّ من الحلو
--------------------------- 202 ---------------------------
والحامض ما كثر تعجبي منه ، ثم قدم لوناً ما أدري ما هو ، فقلت ما هذا ؟ قال : مصارين البط محشوة بمخاخ العصافير قد قليَ بدهن الفستق وذُرَّ عليه الطبرزد ، فبكيت ، فقال ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت علياً ، بينا أنا عنده فحضروقت إفطاره فسألني المقام ، إذ دعا بجراب مختوم ، قلت : ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير ، قلت خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ قال : لا ولا أحدهما ، ولكني خفت أن يَلِتَّهُ الحسن والحسين بسمن أو زيت . قلت : محرم هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس ، لئلا يٌطغي بالفقير فقره ! قال معاوية : ذكرتَ من لا ينكر فضله ) .
أي : ينبغي للحاكم أن يكون مأكله ومعيشته كفقراء شعبه ، فإن أراد رفع مستوى معيشته ، فليرفع مستواهم !
صارت يَنْبُع بلد علي وأهل البيت ( عليهم السلام ) :
فقد أسسها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان يتردد إليها ، ولما حاصرالمسلمون عثمان كانوا يهتفون باسم علي ( عليه السلام ) مطالبين بعزل عثمان ومبايعته مكانه ! فأرسل إليه عثمان أن يذهب إلى أرضه بينبع ، ويغيب عن المدينة حتى لا يهتف الناس باسمه ، فذهب ! ثم أرسل إليه أن يأتي لمساعدته فأتى ، ثم أرسل إليه أن يذهب ثانية : ( إلى ماله بينبع ليقلَّ هَتْفُ الناس باسمه للخلافة ، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل ، فقال ( عليه السلام ) : يا ابن عباس ، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب أقبل وأدبر ! بعث إليَّ أن أخرج ، ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هوالآن يبعث إلي أن أخرج ! والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً ) ! ( نهج البلاغة : 2 / 233 ) .
ولكنه ( عليه السلام ) استجاب أخيراً وذهب إلى ينبع ، ثم أرسل له عثمان لما ضاق الأمر عليه أن يحضرلمساعدته . وروي أنه خرج في المرة الثانىة إلى ماله بوادي القرى .
ثم كانت ينبع بيد الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم بيد الأئمة من أولادهم ( عليهم السلام ) وبيد غير الأئمة من ذريتهم . وكثرت ذرية علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ينبع فكانوا فيها قبائل حسنية وحسينية ، وفيهم العلماء والحكام ، ولهم فيها تاريخ طويل في عصور الإسلام المختلفة ، وما زالت فيها منهم بقية ، بعد أن زال حكمهم ، واضطر أكثرهم إلى مغادرتها بعد
--------------------------- 203 ---------------------------
سيطرة الوهابيين . وينبُع اليوم من أهم موانئ الحجاز .
وقد تولى الإمام الحسن ( عليه السلام ) صدقات أبيه وأمه وما بقي من صدقات جده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد نمى الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مواردهما ، فكان للحسين ( عليه السلام ) عين تدعى بَجنَسْ ، باعها زين العابدين ( عليه السلام ) بعد كربلاء ليوفي دين أبيه ، وكان دينه بضعة وسبعين ألف دينار . ( مناقب آل أبي طالب : 3 / 285 ) .
تركة علي ( عليه السلام ) :
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لما قبض أمير المؤمنين قام الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجد الكوفة ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أيها الناس إنه قد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون ، إنه كان لصاحب راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل ، لاينثني حتى يفتح الله له . والله ما ترك بيضاء ولا حمراء إلا سبع مائة درهم فضلت عن عطائه ، أراد أن يشتري بها خادماً لأهله . والله لقد قبض في الليلة التي فيها قبض وصي موسى يوشع بن نون ، والليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ، والليلة التي نزل فيها القرآن ) . ( الكافي : 1 / 457 ) .
أقول : معناه أنه ( عليه السلام ) وهب كل ماليته في حياته ، أو أوقفها على ذريته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمحتاجين . وقد أرجع الإمام الحسن السبع مائة درهم إلى بىت المال ، بوصىه أبىه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 204 ---------------------------
مالية أبيبكر بن أبي قحافة
تقدم في مالية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يدل على فقر أبيبكر وأبيه ، في الجاهلية والإسلام . قالت عائشة : « لما استخلف أبو بكر قال : قد علم قومي أن حرفتي لم تكن لتعجز عن مؤنة أهلي ، وقد شغلت بأمرالمسلمين فسيأكل آل أبيبكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه ! قالت : لما استخلف عمر بن الخطاب أكل هو وأهله من المال ، وأحترف في مال نفسه » . ( البيهقي : 10 / 107 ، و : 6 / 308 ) .
أي كانت كل نفقات أبيبكر وكل نفقات عمر من بيت المال ، وكان أبو بكر يتاجر لنفسه في مال بيت المال ، أما عمر فكان يأكل من بيت المال ويتاجر بماله الشخصي ، ويستقرض لتجارته من بيت المال ، فقد توفي وعليه لبيت المال ثمانون ألف درهم ، على عكس علي ( عليه السلام ) الذي كان يأكل من ماله ، ولا يأكل من بيت المال ، ولا يستقرض منه لمصرفه أو تجارته !
ويبدو أن عائشة أخفت ثروة أبيبكر بعد موته : ( عن عائشة قالت : والله ما ترك أبو بكر ديناراً ولا درهماً . ضرب الله سِكَّته ) . ( الطبقات : 3 / 195 ، وتاريخ الخلفاء / 94 ) .
تقصد أن الله أزال دراهمه فلم يوجد عنده ولا درهم ! وفي كتاب : ذم الكلام للأنصاري ( 4 / 293 ) أن الحسن البصري : ( سمع رجلاً يقول ما عنده درهم ، ضرب الله سكته ! فقال : أي لكع ، الله يضرب الدراهم ؟ ! ) .
ويؤكد ما قلناه أن أبا بكر أخذ قرضاً من بيت المال لم تعترف به عائشة ! فقد قال أبو بكر عند موته : ( وإني استسلفت من بيت المال مالاً ، فإذا مت فليبع حائطي في موضع كذا ، وليرد إلى بيت المال ) . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 137 ) .
ولم يبع الورثة الحائط أي البستان ، ولا وفوا دين أبيبكر ولا عمر لبيت المال !
--------------------------- 205 ---------------------------
مالية عمر بن الخطاب
كان ينفق من بيت المال ويضارب بأمواله :
في تاريخ البخاري ( 5 / 442 ) : « عبيد الأنصاري : أعطاني عمر مالاً مضاربة » . « وقد بلغنا عن عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن مسعود وعن عثمان بن عفان أنهم أعطوا مالاً مضاربة » . ( الأم للشافعي : 7 / 118 ، وفتاوى السبكي : 1 / 417 ) .
وكان له غلمان يتاجرون له ، وكان يعلمهم :
في تاريخ المدينة ( 2 / 748 ) أنه مرَّ على غلام له فقال له : « إذا نشرت ثوباً كبيراً فانشره وأنت قائم ، وإذا نشرت ثوباً صغيراً فانشره وأنت قاعد ، فقال أبو ذر : اتقوا الله يا آل عمر ! فقال عمر : إنه لا بأس أن تزين سلعتك بما فيها .
وعن أبي موسى الأشعري : قدمت على عمر بن الخطاب فخرجت معه إلى السوق ، فمر على غلام له رَطَّاب يبيع الرطبة فقال : كيف تبيع ؟ أُنْفُشْ فإنه أحسن للسوق ! ثم مر على غلام له يبيع البرود ، فقال : كيف تبيع ؟ » .
وكان يبيع ويشتري بنفسه ، ويماكس في المعاملة :
ففي لسان الميزان ( 2 / 320 ) : « عن أنس أن أعرابياً جاء بإبل يبيعها فساومه عمر ، وجعل عمر ينخس بعيراً بعيراً ، ثم يضربه برجله لينبعث البعير ، لينظركيف فؤاده ؟ فقال : خل عن إبلي لا أباً لك ، فلم ينته ، فقال : إني لأظنك رجل سوء ! فلما فرغ منها اشتراها ، قال : سقها وخذ أثمانها ، فقال الأعرابي : حتى أضع عنها أحلاسها وأقتابها ! فقال عمر : اشتريتها وهي عليها ، فقال الأعرابي أشهد أنك رجل سوء ! فبينما هما يتنازعان أقبل عليٌّ فقال عمر : ترضى بهذا الرجل بيني وبينك ؟ فقال : نعم فقصا عليه القصة فقال علي : يا أمير المؤمنين إنك إن اشترطت عليه أحلاسها وأقتابها فهي لك ، وإلا فالرجل يزين سلعته بأكثر من ثمنها » .
وكان عمر يفضل التجارة على الجهاد ، قال :
« لئن أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ، أحبُّ من أن أجاهد في سبيل الله ! فقيل يا أمير المؤمنين ولم قلتَ ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في كتابه : وَآخَرُونَ
--------------------------- 206 ---------------------------
يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ . فقدم بالذكر من كان يضرب في الأرض لابتغاء فضل الله تعالى » . ( السير الكبير : 3 / 1012 ) .
ونهى المسلمين عن أكل البيض لأنه إسراف !
ففي تاريخ المدينة ( 3 / 796 ) أنه خطب على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : « أيها الناس أوفوا الطحين وأملكوا العجين ، وخير الطحين مَلْكُ العجين ( إعجنوه جيداً ) ولا تأكلوا البيض ، فإنما البيضة لقمة ، فإذا تركت كانت دجاجة ثُمْنَ درهم » !
يقصد أن الثمان بيضات بدرهم ، وهذا يدل على تفكيره الاقتصادي المفرط !
وكان يملك أراضيَ زراعية وبساتين :
في صحيح بخاري ( 3 / 68 ) : « وعامل عمرالناس على : إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا » .
وفي معجم البلدان ( 2 / 128 ) : « والجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام ، به كانت أموال لعمر بن الخطاب ) .
وفي معجم البلدان ( 2 / 84 ) : ثمغ : بالفتح ثم السكون والغين معجمة : موضع مال لعمر بن الخطاب ) .
قال في وفاء الوفا ( 2 / 1241 ) : « الشبعان ، كان من ضمن صدقات عمر » .
واختلف عمر مع أبيّ بن كعب على بستان نخل ! « حلف لأبيٍّ قال : والله الذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي ، وما لأبيٍّ فيها شئ » . ( المغني : 12 / 112 ، و 116 ) .
وضيعة ثَمَغ أعطاها له اليهود ، وكان يملك في خيبرمئة سهم من النخيل ، وهي غير سهمه الذي وصله من فتح خيبر .
ومع أن نفقاته من بيت المال ، فكان يستقرض منه :
روى البخاري ( 4 / 205 ) وصية عمر لابنه : « يا عبد الله بن عمرأنظر ماذا عليَّ من الدين ، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه ، قال : إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم ، وإلا فسل في بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ، ولا تَعْدُهُم إلى غيرهم ، فأدِّ عني هذا المال ) .
--------------------------- 207 ---------------------------
وقال في فتح الباري ( 7 / 53 ) : « أنكر نافع مولى ابن عمرأن يكون على عمر دين ، فروى عمر بن شبة في كتاب المدينة بإسناد صحيح أن نافعاً قال : من أين يكون على عمر دين ، وقد باع رجل من ورثته ميراثه بمائة ألف ! وهذا لا ينفي أن يكون عند موته عليه دين ، فقد يكون الشخص كثير المال ولا يستلزم نفي الدين عنه » .
وقد أنكر ورثته دينه لبيت المال ، كما أنكر ورثة أبيبكر ، فلم يوفوا عنهما ما أقرا به !
وقال محمد بن جرير الطبري الشيعي في كتابه المسترشد / 523 : « ومما نقموا عليه : أخذه ثمانين ألف درهم من أموال المسلمين ، ثم أوصى ابنه عبد الله عند موته أن يكسر فيها ماله ويردها ، وقد قتل عثمان في أقل من هذا المقدار . ولا نعلم أحداً روى أن عبد الله ، قضى هذا المال ) !
وكان يعطي من يحبهم غنائم ثمىنة :
فقد جاؤوا بصندوق من الغنائم ( فلم يعرفوا قيمته ، فقال : أتأذنون أن أبعث به إلى عائشة لحب رسول الله إياها ، قالوا نعم . فأتي به عائشة فقالت : ماذا فُتح على ابن الخطاب بعد رسول الله ) . ( كنز العمال : 4 / 540 ) . وهو جواهر لكسرى .
وكانت عائشة تقول : ( زينوا مجالسكم بذكر عمر . . إذا ذكر عمر في المجلس حسن الحديث ) . ( كنز العمال : 12 / 588 ) . حتى قالت : ( أتيت في المنام فقيل لي : عمر بن الخطاب نبي هو ؟ فظننت أني دعوت بذلك ) . ( تاريخ المدينة : 3 / 942 ) .
مبلغ ثروة عمر بعد وفاته :
صحح ابن حجر أن أحد ورثة عمر باع سهمه بمئة ألف درهم . وكان لعمر ستة أبناء هم : عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبيد الله ، وعاصم ، وعياض ، وزيد . وست بنات هن : حفصة ، ورقية ، وفاطمة ، وصفية ، وزينب وأم الوليد . وكان له زوجات وجوار . ( النهاية : 7 / 156 ) .
فتكون ثروته مليوناً ونصف مليون درهم ، وهي ثروة كبيرة ، لأن قيمة الشاة كان أربعة أو خمسة دراهم ، وكانت ثمان دجاجات بدرهم !
لكن المتعصبين لعمر يخفون ثروته ، وىقولون أنه توفي وعليه ديْنٌ لبيت المال ! ولم ىرووا أن ورثته وفوادىنه !
--------------------------- 208 ---------------------------
مالية عثمان بن عفان
1 . ما أن تولى عثمان الخلافة حتى سلط أقاربه ومقربيه على أموال المسلمين وأبدانهم في كل البلاد ! وقد وصفهم علي ( عليه السلام ) فقال : ( إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث فتله وأجهز عليه عمله وكَبَت به بطنته ، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون عليَّ من كل جانب ) . ( نهج البلاغة : 1 / 37 ) .
ولما تمت البيعة لعثمان دخل بيته ودخل إليه بنو أمية : ( حتى امتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا ، قال : يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة ! قال : فانتهره عثمان ، وساءه بما قال ، وأمر بإخراجه ) . ( تاريخ أبي الفداء / 349 ) .
وكان أبو سفيان أعمى البصر والبصيرة فقال : خذوني إلى قبر حمزة ، حتى إذا لمسه بيده ركله برجله وقال : ( يا أبا عمارة ! إن الأمر الذي اجتلدنا عليه أمس ، صار في يد غلماننا يتلعَّبون به ) ! ( شرح النهج : 4 / 51 ) .
وفي النزاع والتخاصم لمعمر بن عقيل / 227 : ( ركل قبر حمزة برجله اقتداء بإبليس في ركله جسد آدم ( عليه السلام ) . وأراد بمخاطبته حمزة بقوله : إن الأمرالذي كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم ، مقابلة خطاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأصحاب قليب بدر بقوله : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ، فإنا وجدنا ما وعد ربنا حقاً ) !
ولا تستبعد أن يكون أبو سفيان وقف على قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له كما قال لحمزة ! فقد حلف ابن عباس : ( والله ما كان إلا منافقاً ! ولقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كف بصره وفينا علي ( عليه السلام ) فأذن المؤذن فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال أبو سفيان : هاهنا من يحتشم ؟ قال واحد من القوم : لا ، فقال : لله درُّأخي بني هاشم ، أنظروا أين وضع اسمه ! فقال علي ( عليه السلام ) : أسخن الله عينيك يا أبا سفيان ، الله فعل ذلك
--------------------------- 209 ---------------------------
بقوله عز من قائل : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ . فقال أبو سفيان : أسخن الله عين من قال لي : ليس هاهنا من يحتشم ) . ( قصص الأنبياء للراوندي / 293 ) .
وبقي أبو سفيان مجاهراً بنفاقه ، لأنه كان مطمئناً بأن عثمان لا يعاقبه ، بل يعطيه !
قال في شرح نهج البلاغة ( 1 / 67 ) : ( أعطى أبا سفيان بن حرب مئتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر لمروان بن الحكم بمئة . وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه في فتح إفريقية بالمغرب ، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ، من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين ) !
2 . وكوَّنَ عثمان طبقة من الأثرياء المترفين القوارين ، من بني أمية والمقربين منه ، فقد سرقوا أموال الدولة حتى كان بعضهم يكسرالذهب بالفؤوس ! في حين كان عامة المسلمين يعيشون الفاقة والفقر والجوع !
أ . في طبقات ابن سعد ( 3 / 136 ) : ( إن عبد الرحمن بن عوف ( صهرعثمان ) توفي وكان فيما ترك ذهبٌ قُطِّع بالفؤوس ، حتى مَجَلت أيدي الرجال منه ) .
وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 209 ) : ( ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة ألاف شاة بالنقيع ، ومائة فرس ترعى بالنقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً ، وكان يدخر قوت أهله من ذلك سنة ) .
ب . وقال ابن سعد ( 3 / 44 ) كتب عثمان لمروان بخمس مصر ، وأعطى أقرباءه المال وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها ، واتخذ الأموال ( العقارات ) واستسلف من بيت المال ) .
وقال ابن الأثير ( 3 / 38 ) : ( أعطى عبد الله بن سعد خمس الغزوة الأولى ، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية ، التي افتتحت فيها جميع إفريقية ) . وقال ابن كثير ( 7 / 152 ) : ( صالح عثمان خمس إفريقية بطريقها على ألفي ألف دينار ، فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم ) .
وفي تاريخ الطبري ( 5 / 50 ) : ( الذي صالحهم عليه ألفي ألف دينار وخمس مئة
--------------------------- 210 ---------------------------
ألف دينار وعشرين ألف دينار . . . كان الذي صالحهم عبد الله بن سعد على ثلاث مائة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم ) .
ج . وقال اليعقوبي ( 2 / 145 ) : ( زوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد ، وأمر له بست مائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة ) !
د . وقال ابن سعد ( 3 / 222 ) : ( كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والأموال ، وما ترك من الناض ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ، ومائتي ألف دينار ، والباقي عروض . . . قال عمرو بن العاص : حُدثت أن طلحة بن عبيد الله ترك مائة بهار ، في كل بهار ثلاث قناطر ذهب ، وسمعت أن البهار جلد ثور ) .
وفي تاريخ الذهبي ( 1 / 40 ) : ( قتل طلحة وفي يد خازنه ألف ألف درهم ، ومئتا ألف درهم ) . وقال ابن الجوزي في المنتظم ( 5 / 114 ) : ( وترك عروضاً كثيرة ، وقومت أصوله وعقاره ثمانين ألف ألف درهم ) .
وقال في العقد الفريد ( 5 / 71 ) : ( لما قتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل ، وجدوا في تركته ثلاث مائة بهار من ذهب وفضة . والبهار مزود من جلد عجل ) .
وفي الإكمال في أسماء الرجال / 114 : ( ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، والباقي عروض ، وقالت سعدى بنت عوف : قتل طلحة وفي خازنه ألفا ألف درهم ومائتا ألف درهم ) .
ه - . قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 333 ) : ( وخلف الزبير ألف فرس ، وألف عبد وأمة ، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار ) .
وفي صحيح البخاري ( 4 / 52 ) : ( ورفع الثلث ، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف ، فجميع ماله خمسون ألف ألف ، ومائتا ألف ) .
وفي الوافي للصفدي ( 14 / 123 ) : ( وكانت له أربع زوجات ، فورثت كل واحدة ألف
--------------------------- 211 ---------------------------
ألف ومئتي ألف وذلك ربع الثمن ، وكان جميع ماله خمسين ألف ألف ومائتي ألف ، وكان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهم له وسهمين لفرسه وسهم لذي القربى أي لأمه ، وكان له بمصر والإسكندرية والكوفة والبصرة خطط ودور . وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجاً ) .
ومع ثروة الزبير وطلحة أخذا لحرب الجمل من يعلى بن أمية قرضاً ، ولم يرداه !
قال ابن حبان في الثقات ( 2 / 279 ) : ( قدم يعلى بن أمية من اليمن وقد كان عاملاً عليها بأربع مائة من الإبل فدعاهم إلى الحِملان ( نقل الجنود إلى البصرة مجاناً ) فقال له الزبير : دعنا من إبلك هذه ، ولكن أقرضنا من هذا المال ! فأعطاه ستين ألف دينار ، وأعطى طلحة أربعين ألف دينار ، فتجهزوا وأعطوا من خفَّ معهم ) !
و . ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات ، خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار ) . ( مروج الذهب : 2 / 333 ) .
وقال البيهقي في سننه ( 6 / 348 ) : ( زيد بن ثابت كان في أمارة عثمان على بيت المال فدخل عثمان فأبصر وهيباً يغنيهم ، فقال : من هذا ؟ فقال مملوك لي ، فقال أراه يعينهم ! أفرض له ألفين ، قال ففرض له ألفاً ، أو قال ألفين ) !
وقال ابن أبي شيبة ( 7 / 618 ) : ( فأبصر وهيباً يغنيهم في بيت المال ، فقال : من هذا ؟ فقال زيد : هذا مملوك لي ، فقال عثمان : أراه يعين المسلمين وله حق ، وإنا نفرض له ففرض له ألفين ! فقال زيد : والله لا نفرض لعبد ألفين ففرض له ألفاً ) !
ز . وذكر الأميني ( رحمه الله ) في الغدير ( 8 / 286 ) قائمة بهباته مع مصادرها : ( فقد أعطى لمروان 500000 دينار ذهب ، و 100000 درهم فضة ، ولابن أبي سرح 100000 دينار ، ولطلحة ضعفه مع ثلاثين مليون درهم مرة ، ومليونين ومئتين ألف درهم فضة ، ولعبدالرحمن بن عوف صهره 2560000 دينار ، وليعلي بن أمية نصف مليون دينار ، ولزيد بن ثابت مائة ألف دينار . . وهكذا دواليك للحَكَم وآل الحَكَم ،
--------------------------- 212 ---------------------------
والحارث ، وسعيد ، والوليد ، وعبد الله ، وأبي سفيان ، والزبير وابن أبي الوقاص ، وغيرهم من حزبه وأعوانه ) .
ح - . قال البلاذري ( 5 / 49 ) وابن كثير ( 7 / 157 ) : ( بعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم وبجمل عليه كسوة ، فأمر فوضع في المسجد وقال : يا معشر المسلمين : ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه ) !
وكانت هذه القصة في مصر وكان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة الأموي ( رحمه الله ) من شيعة علي ( عليه السلام ) ، المعارضين لسياسات عثمان .
3 . وكان المسلمون يعيشون في فقر وحاجة : وكان منهم من لا يملك القوت والثياب ، فحالة الغنى واليسر من أموال الفتوحات كانت محصورة بالخليفة وبطانته ، وقادة الفتوحات وبطانتهم . ويكفي مثلاً أويس القرني ، فقد بشر به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل أن يراه المسلمون ، وأوصاهم أن يبلغوه سلامه وأن يحرصوا على أن يستغفر لهم ، وقد دعا لبعض الصحابة فقال : غفر الله لك ، ولم يستغفر لبعضهم ، وهرب من المدينة زمن عمر وسكن الكوفة : ( كان أويس يجالس رجلاً من فقهاء الكوفة يقال له يسير ففقده ، فإذا هو في خُصٍّ له قد انقطع من العري ) ! ( لسان الميزان : 1 / 280 ) .
ولذلك قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( إن من أمتي من لا يستطيع أن يأتي مسجده أو مصلاه من العري ، يحجزه إيمانه أن يسأل الناس ، منهم أويس القرني ) . ( سير الذهبي : 4 / 29 ) .
( إن كان أويس القرني ليتصدق بثيابه ، حتى يجلس عرياناً لا يجد ما يروح فيه إلى الجمعة ) . ( حلية الأولياء : 2 / 83 ) . ويقول : ( اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة وجسد عار ، وليس لي إلا ما على ظهري ، وفي بطني ) . ( الحاكم : 3 / 406 ) .
والأخطر من الجوع والعري الأمن : فلم يكن المسلم آمناً على حياته ودمه من السلطة ، فقد يقتل حتى الصحابي أو التابعي بشكاية عليه بأنه طعن في الخليفة !
قال الحاكم في المستدرك ( 3 / 405 ) : ( جاء رجل من مراد إلى أويس القرني فقال : السلام عليكم ، قال : وعليكم . قال : كيف أنتم يا أويس ؟ قال : الحمد لله . قال : كيف الزمان عليكم ؟ قال : لا تسأل ! الرجل إذا أمسى لم ير أنه يصبح ، وإذا أصبح
--------------------------- 213 ---------------------------
لم ير أنه يمسي ! يا أخا مراد ، إن الموت لم يبق لمؤمن فرحاً . يا أخا مراد ، إن عرفان المؤمن بحقوق الله لم تبق له فضة ولا ذهباً . يا أخا مراد ، إن قيام المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقاً ! والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء ، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعواناً ، حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم ، ووالله لا يمنعني ذلك أن أقول بالحق ) !
وقال ابن حبان في المجروحين ( 3 / 151 ) : ( وكان ابن عم له يلزم السلطان تولع به ، فإن رآه مع قوم أغنياء قال ما هو إلا يشاكلهم ! وإن رآه مع قوم فقراء ، قال ما هو إلا يخدعهم ! وأويس لا يقول في ابن عمه إلا خيراً ) !
4 . وكان عثمان يجادل الصحابة ، ويصرعلى سياسته !
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد ( 5 / 56 ) : ( ولما رد عثمان الحكم بن أبي العاص طريد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطريد أبيبكر وعمر إلى المدينة ، تكلم الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس مني ؟ إني وصلت رحماً وقربت قرابة ) .
وفي تاريخ المدينة ( 3 / 1099 ) : ( دعا عثمان ناساً من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفيهم عمار فقال : إني سائلكم ، أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ويؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟ فسكت القوم ، فقال : لو أن مفاتيح الجنة في يدي لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم ، والله لأعطينهم ولأستعملنهم على رغم أنف من رغم . فقال عمار : على رغم أنفي ؟ قال : على رغم أنفك . قال : وأنف أبيبكر وعمر ! فغضب عثمان فوثب إليه فوطأه وطأً شديداً ، فأجفله الناس عنه ) .
ورواه أحمد ( 1 / 62 ) وابن عساكر ( 39 / 253 ) ناقصاً ، ورواه ابن كثير ( 7 / 192 ) محرفاً ) .
أي داسه عثمان حتى أصاب عمار الفتق وأغمي عليه ، فثارت له بنو مخزوم لأنه حليفهم . وروى ابن إدريس في المستطرفات / 566 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : ( كان عثمان إذا أتيَ بشئ من الفئ فيه ذهب عزله وقال : هذا لطوق عمرو . فلما كثر ذلك قيل له : كبر عمرو عن الطوق ، فجرى به المثل ) .
--------------------------- 214 ---------------------------
وقد جعلوا : شبَّ عمرو عن الطوق ، مثلاً لعمرو بن عدي جد آل المنذر حكام الحيرة لكنه مثلٌ لعمرو بن عثمان . وطوق الذهب يستعمل للأطفال في أيديهم أو أرجلهم أو وسطهم ، وكان عثمان يجمع الذهب ليصنع منه طوقاً لابنه عمرو ، فقال له أهل المدينة لقد شب عن الطوق ، وصاركبيراً ، لكن بقي عثمان يأخذ الذهب لطوق عمرو !
ودافع ابن كثير ( 7 / 192 ) عن عثمان وتمحل ، ومما قاله : ( وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلاً سوياً عدلاً ، وقد ولى رسول الله عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة ، وولى أسامة بن زيد بن حارثة . وطعن الناس في إمارته فقال إنه لخليق بالامارة وأما إيثاره قومه بني أمية . فقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤثرقريشاً على الناس ، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لأدخلت بني أمية إليها ) .
وبذلك تعرف سبب ثورة الصحابة عليه وقتله ، وتحريمهم دفنه في مقابر المسلمين !
- *
--------------------------- 215 ---------------------------
الفصل التاسع والثلاثون: من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع أبيبكر بن أبي قحافة
من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع أبيبكر بن أبي قحافة
1 . نوم علي على فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهجرة أبيبكر معه
1 . من الأسئلة في الهجرة : لماذا احتاج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مبيت علي ( عليه السلام ) مكانه ، ولماذا بمبيته مكانه فداه بنفسه ؟ وقد كتبنا في هجرة علي ( عليه السلام ) أن المشركين كانوا مرابطين يحرسون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حول بيته وينتظرون ساعة حددوها لاغتياله ، فكان من المهم إيهامهم أنه ما زال موجوداً نائماً في فراشه ، وأن لا يعرفوا بخروجه من بيته .
2 . ومن الأسئلة أيضاً : كيف التحق به أبو بكر ، فقد رووا الضد والنقيض في ذلك وقالوا إنه اتفق مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مسبقاً ، وخرجا معاً ، وقالوا إنه ذهب إلى بيت أبيبكر ، وقالوا جاءه أبو بكر وخرجا معاً ، لكنهم رووا أن أمر الله بالهجرة جاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجأة ، فلم يكن مجال لأن يذهب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بيت أبيبكر ، ولا أن يأتي أبو بكر اليه وهو محاصر من المشركين ، فلا وجه لرفقته له إلا أنه رآه في طريقه .
وأصح رواية عندهم : أن أبا بكر جاء يتفقد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجد علياً نائماً في فراشه ! رواها أحمد ابن حنبل في مسنده ( 1 / 331 ) ، قال : ( وكان المشركون يرومون ( يطلبون ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء أبو بكر وعلي نائم ، قال وأبو بكر يحسب أنه نبي الله ، قال فقال : يا نبي الله . قال فقال له علي : إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركْه ، قال فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار ) .
ورواه الحاكم ( 3 / 132 ) والمحب الطبري في الرياض النضرة ( 3 / 175 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق : 42 / 100 ، وقال عنه في مجمع الزوائد ( 9 / 119 ) : ( رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح ، غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين ) .
--------------------------- 216 ---------------------------
وروى نحوه الحسكاني في شواهد التنزيل ( 1 / 129 ) قال : ( فأتى غار ثور ، وأمر علي بن أبي طالب فنام على فراشه فانطلق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء أبو بكر في طلبه فقال له علي : قد خرج ، فخرج في أثره فسمع النبي وطأ أبيبكر خلفه فظن أنه من المشركين ، فأسرع فكره أبو بكر أن يشق على النبي ، فتكلم فعلم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلامه ، فانطلقا حتى أتيا الغار ، فلما أراد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يدخل دخل أبو بكر قبله ، فلمس بيده مخافة أن يكون دابة أو حية أو عقرب يؤذي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما لم يجد شيئاً قال لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أدخل فدخل . وكانت عيون المشركين يختلفون ينظرون إلى علي نائماً على فراش رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعليه بُرْدٌ لرسول الله أخضر ، فقال بعضهم لبعض : شدوا عليه ، فقالوا : الرجل نائم ، ولو كان يريد أن يهرب لهرب ، ولكن دعوه حتى يقوم فتأخذوه أخذاً . فلما أصبح قام علي فأخذوه فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : ما أدري . فأيقنوا أنه قد توجه إلى يثرب ، وأنزل الله في علي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه وَاللَّه رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) .
ولا يصح قول الراوي : جاء أبو بكر في طلب النبي فقال له علي : قد خرج . . فلا يمكن أن يكون أبا بكر جاء وخرق الحصار المحكم ولم يتعرض له أحد ! ولا أن علياً ( عليه السلام ) كشف له نفسه وكلمه وأخبره أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نجا من الحصار وقصد بئر ميمون في جبل الهجرة ، وكل ذلك ولم يلتفت اليه المحاصرون ، ولا سألوه ماذا يريد وأين يريد ؟ !
فمجيئ أبيبكر إذن مكذوب ، وذهاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بيت أبيبكر مكذوب أيضاً ، وهذه الرواية الصحيحة عندهم تنفيه . فلا مفر من القول بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رآه في طريقه إلى الغار فأخذه معه . راجع : مبيت علي ( عليه السلام ) مكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من السيرة النبوية .
2 . متى وقع الحسد لعلي ( عليه السلام ) في قلب أبيبكر
روى في الكافي ( 8 / 340 ) حديث هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفيه : ( فقال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين ( عليه السلام ) : جعلت فداك ، كان أبو بكر مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أقبل إلى المدينة ، فأين فارقه ؟ فقال : إن أبا بكر لما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى قُبا فنزل بهم ينتظر قدوم علي ( عليه السلام ) ، فقال له أبو بكر : إنهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك ،
--------------------------- 217 ---------------------------
وهم يستريثون إقبالك إليهم ، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظرعلياً فما أظنه يقدم عليك إلى شهر ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كلا ، ما أسرعه ، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل ، وأحب أهل بيتي إليَّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين . قال : فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز ، وداخله من ذلك حسدٌ لعلي ( عليه السلام ) وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ، وأول خلاف على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
بقُبا ينتظر علياً ( عليه السلام ) ) .
3 . استرجع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سورة براءة من أبيبكر
في تفسير القمي ( 1 / 281 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكان سُنَّة في العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها ، وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، وكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده ، ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ، ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلا ثوب واحد ، طاف بالبيت عرياناً . .
وكانت سيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله ، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده . حتى نزلت عليه سورة البراءة : فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . ثم يقتلون حيثما وجدوا . فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أبيبكر ، وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في طلبه فلحقه بالروحاء فأخذ منه الآيات ، فرجع أبو بكر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله أأنزل الله فيَّ شئ ؟ قال لا ، إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن أبلغ عن الله أن لايطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام ،
--------------------------- 218 ---------------------------
وأقرأ عليهم : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فأحل الله للمشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر » !
وفي الإرشاد ( 1 / 65 ) : ( فلما سار غير بعيد نزل جبرئيل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . فاستدعى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر فخذ براءة من يده ، وامض بها إلى مكة ، فانبذ عهد المشركين إليهم ، وخيِّرْ أبا بكر بين أن يسير مع ركابك أو يرجع إلي . فقال : بل أرجع إليه ) .
وفي الخصال / 369 : « فكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ، ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة . فأتيتُ مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر الشحناء ، من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم » .
وفي الإقبال ( 2 / 39 ) : ( وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب ، فأذن ثلاث مرات : ألا تسمعون يا أيها الناس أني رسول رسول الله إليكم ، ثم قال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . تسع آيات من أولها ، ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكررها ، فقال الناس : من هذا الذي ينادي في الناس ؟ فقالوا : علي بن أبي طالب ، وقال من عرفه من الناس : هذا ابن عم محمد ، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد . فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ، ويقرأ على الناس غدوةً وعشية ، فناداه الناس من المشركين : أبلغ ابن عمك أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف ، وطعناً بالرماح ) !
أقول : استكثر جماعة أبيبكر أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سحب منه سورة براءة ، وكبر ذلك عليهم ، فزعموا أنه بعث أبا بكر أميراً على الحج ، وذهب علي بالسورة معه !
فقد روى ابن كثير في سيرته ( 4 / 72 ) عن أحمد بن حنبل : « لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ
--------------------------- 219 ---------------------------
منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال : لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . وهذا ضعيف الإسناد ومتنه فيه نكارة ، والله أعلم ) !
فقد زعم أن فيه نكارة لأنه جعل علياً ( عليه السلام ) أميرالحاج وأبا بكر تحت إمرته ، لكن سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه يعطي رايته لعلي ( عليه السلام ) دائماً ويؤمره ولا يؤمر عليه أحداً ! وكان أبو بكر وغيره تحت إمرته ، بل كان تحت إمرة أسامة ، وعمره سبع عشرة سنة ! .
4 . موقف أبيبكر وعمر من بيعة الغدير
اشتهرت تهنئة عمر لعلي ( عليه السلام ) يوم الغدير بقوله : « بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » ومن أصح رواياتها عندهم حديث أبي هريرة في فضل صوم يوم الغديرشكراً لله تعالى ، وقد شهد نقادهم بأن رواته ثقات ، ونصه :
« من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهويوم غدير خم لما أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه . فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ! فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا » . » تاريخ دمشق : 42 / 233 ، وتاريخ بغداد : 8 / 248 ، والمنتظم : 5 / 233 «
ورووا أن أبا بكر قال له نحو ذلك ! ففي إحقاق الحق ( 2 / 473 ) عن حبيب السير ( 3 / 144 ) : « ثم جلس أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في خيمة تزوره الناس ويهنئونه ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فقال عمر : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، ثم أمرأمهات المؤمنين أن يدخلن عليه ويهنئنه » .
وفي نفحات الأزهار ( 6 / 13 ) : « طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد خطبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويبايعونه بالإمامة ، وفي مقدمهم الشيخان أبو بكر وعمركل يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » !
وروى الخوارزمي في المناقب / 88 ، موقف أبيبكر عن الحارث الهمداني ، قال :
--------------------------- 220 ---------------------------
« بلغنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان في جمع من أصحابه فقال : يأتيكم آدم في علمه ونوحاً في فهمه وإبراهيم في حكمته ، فلم يكن بأسرع من أن طلع علي ! فقال أبو بكر : يا رسول الله أقِسْتَ رجلاً بثلاثة من الرسل ؟ بخ بخ لهذا الرجل ، من هو يا رسول الله ؟ قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ألا تعرفه يا أبا بكر ؟ قال : الله ورسوله أعلم ! قال : أبو الحسن علي بن أبي طالب . فقال أبو بكر : بخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن ، وأين مثلك يا أبا الحسن » .
وقال الغزالي في كتابه سرالعالميْن / 20 : « لكن أسفرت الحجة وجهها ، وأجمع الجماهيرعلى متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع ، وهو يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه . فقال عمر : بخٍ بخٍ يا أبا الحسن ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، فهذا تسليمٌ ورضىً وتحكيم ! ثم بعد هذا غلب الهوى بحب الرياسة ، وحمْل عمود الخلافة ، وعقْد البنود وخفقان الهوى ، في قعقعة الرايات ، واشتباك ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار . وسقاهم كأس الهوى ، فعادوا إلى الخلاف الأول : فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ » !
أقول : صرح الغزالي في كتابه سرُّ العالميْن بأنه ألَّفه لابن تومرت المغربي ، ونراه يُنَظِّر فيه للميكافيلة ، ويعلمه كيف يعمل للوصول إلى الملك بأي طريقة ، ولو كانت مخالفة للقِيم ، كما فعل الشيخان . فالكتاب قبل ميكافيلي يؤسس لقاعدة : الغاية تبرر الوسيلة !
5 . جاءه خبر بيعة أبيبكر وهو يُغسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
روى الكليني في الكافي ( 8 / 343 ) عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن سليم بن قيس الهلالي قال : ( سمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول : لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصنع الناس ما صنعوا ، وخاصم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح الأنصار ، فخصموهم بحجة علي ( عليه السلام ) قالوا : يا معشرالأنصار قريش أحق بالأمر منكم لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من قريش والمهاجرين منهم ، إن الله تعالى بدأ بهم في كتابه وفضلهم ، وقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الأئمة من قريش . قال سلمان رضي الله عنه : فأتيت علياً وهو يغسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبرته بما صنع الناس وقلت : إن أبا بكرالساعة على منبر رسول الله ،
--------------------------- 221 ---------------------------
والله ما يرضى أن يبايعوه بيد واحدة إنهم ليبايعونه بيديه جميعاً بيمينه وشماله ، فقال لي : يا سلمان هل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قلت : لا أدري ، إلا أني رأيت في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار ، وكان أول من بايعه بشير بن سعد وأبو عبيدة بن الجراح ثم عمر ثم سالم . قال : لست أسألك عن هذا ، ولكن تدري أول من بايعه حين صعد منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قلت : لا ، ولكني رأيت شيخاً كبيراً متوكئاً على عصاه بين عينيه سجادة ، شديد التشمير ، صعد إليه أول من صعد وهو يبكي ويقول : الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى رأيتك في هذا المكان ، أبسط يدك ، فبسط يده فبايعه ثم نزل ، فخرج من المسجد ! فقال علي ( عليه السلام ) : هل تدري من هو ؟ قلت : لا ولقد ساءتني مقالته كأنه شامت بموت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فقال : ذاك إبليس لعنه الله ، أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إياي للناس بغديرخم بأمر الله عز وجل ، فأخبرهم أني أولى بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ، فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه فقالوا : إن هذه أمة مرحومة ومعصومة ، ومالك ولا لنا عليهم سبيل ، قد أعلموا إمامهم ومفزعهم بعد نبيهم ، فانطلق إبليس لعنه الله كئيباً حزيناً . وأخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لو قُبض ، أن الناس يبايعون أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد ما يختصمون ، ثم يأتون المسجد فيكون أول من يبايعه على منبري إبليس في صورة رجل شيخ مشمر يقول كذا وكذا ، ثم يخرج فيجمع شياطينه وأبالسته فينخر ويكسع ويقول : كلا زعمتم أن ليس لي عليهم سبيل ، فكيف رأيتم ما صنعت بهم ، حتى تركوا مَن أمرالله بطاعته وأمرهم رسوله ) . والنخير : صوت الأنف . والكسع : ضرب الشخص مؤخره بقدمه فرحاً .
6 . وجاءه الخبر أيضاً ولم يفرغ من دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 190 ) : ( لما تم لأبيبكر ما تم وبايعه من بايع ، جاء رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يسوي قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمسحاة في يده فقال له :
--------------------------- 222 ---------------------------
إن القوم قد بايعوا أبا بكر ، ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم ، وبدرَ الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر . فوضع طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ، ثم قال : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .
7 . تناقضت أوامر أبيبكر بشأن علي ( عليه السلام )
قال البلاذري في أنساب الأشراف ( 1 / 32 ) : ( عن ابن عباس قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى عليّ حين قعد عن بيعته ، وقال : إئتني به بأعنف العنف ، فلما أتاه جرى بينهما كلام ، فقال له علي ( لعمر ) : إحلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤمرك غداً ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 30 ) : ( فأخرجوا علياً ، فمضوا به إلى أبيبكر فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، قال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله ! قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ! فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ! فقال : لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق علي بقبر رسول الله يصيح ويبكي وينادي : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) !
فقد أمر أبو بكر باستعمال أقصى العنف مع علي ( عليه السلام ) : إئتوني به بأعنف العنف !
ولما امتنع عن البيعة وناقشهم ، وطلب عمر من أبيبكر أن يأمر بقتله فقال : لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة ( عليها السلام ) إلى جنبه ، يعني لا أجبره ولا أقتله في حياتها !
وبما أن فاطمة ( عليها السلام ) كانت شابة ولم تكن مريضة ، ربما كان معنى كلامه : أقتلوا فاطمة أولاً ، ثم إن لم يبايع فاقتلوه ! وقد قتلوا أم فروة الأنصارية لاعتراضها ، كما يأتي !
--------------------------- 223 ---------------------------
8 . لماذا وصف علي ( عليه السلام ) أبا بكر بأنه ابن آكلة الذبان
روي أن علياً ( عليه السلام ) على علو أدبه وسمو أخلاقه ، وصف أبا بكر بأنه ابن آكلة الذبان ! ففي كتاب سليم / 160 ، في محاجته ( عليه السلام ) لعمر لما أجبروه على بيعة أبيبكر : ( يا ابن صهاك ، فليس لنا فيها حق ، وهي لك ولابن آكلة الذبان ) !
وفي الكافي ( 8 / 31 ) قال له : ( رويداً ، عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم وتجدون وخيم ما اجترمتم . . والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه ، لأ زلتُ أبن آكلة الذبان عن ملكه ) .
كما روى ابن عساكر ( 77 / 327 ) أن أبا طالب ( عليه السلام ) وصف أبا قحافة بآكل الذبان ، روى عن الثوري ، قال : ( بعث أبو طالب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال أطعمني من عنب جنتك ، وأبو بكر الصديق جالس عند رسول الله ! فقال أبو بكر : حرمها الله على الكافرين . فقال أبو طالب : فلأبي قحافة آكل الذبان تدخرها ) .
وقد حمل ذلك بعضهم على أكل الذبان الحقيقي ، وقال كانوا في الجاهلية يأكلونه ! قال ابن عساكر ( 25 / 416 ) سئل الشعبي : ( ما تقول في أكل الذبان ؟ قال : إن اشتهيته فكله ) . وقال النووي في المجموع ( 9 / 3 ) : ( لو وقعت ذبابة أو نحلة في قدر طبيخ وتهرأت أجزاؤها فيه ، لم يحرم أكل ذلك الطبيخ ، لأن تحريم أكل الذباب والنمل ونحوه إنما كان للاستقذار ، ولا يعد هذا مستقذراً ) .
وقال الجاحظ في الحيوان ( 3 / 190 ) : ( أنشد ابن داحة في مجلس أبي عبيدة قول السيد :
أترى صهاكاً وابنها وابن ابنها * وأبا قحافة آكل الذبان
كانوا يرون وفي الأمور عجائبٌ * يأتي بهن تصرف الأزمان
إن الخلافة في ذؤابة هاشم * فيهم تصير وهيبة السلطان ؟ !
فقال له : ما عناه في قوله : آكل الذبان ؟ فقال : لأنه كان يذب عن عطر ابن جدعان . قال : ومتى احتاج العطارون إلى المذاب ؟ قال : غلطت إنما كان يذب عن حيسة ابن جدعان . قال : فابن جدعان وهشام بن المغيرة ، كان يحاس
--------------------------- 224 ---------------------------
لأحدهما الحيسة على عدة أنطاع . . الحيس : تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديداً ثم يندر منه نواه ) . والمرجح عندي أن آكل الذبان وصف للضئيل الدنيئ الذي قد يأكله .
9 . كان أبو بكر لَيِّنَ الظاهر بعكس عمر
كان أبوبكرأقل شدة على عترة النبي من عمر ، قال علي ( عليه السلام ) في حديثه لحاخام اليهود ( الخصال / 373 ) : ( وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره لما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله ! فكنت أقول تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية ، حدثاً في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الإسلام ، يأتوني عوداً وبدءً وعلانيةً وسراً ، فيدعوني إلى أخذ حقي ويبذلون أنفسهم في نصرتي ، ليؤدوا إليَّ بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويداً وصبراً لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل فقال كل قوم : منا أمير ، وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر . فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صيرالأمر بعده لصاحبه ، فكانت هذه أخت أختها ) .
10 . ولما غزا طليحة المدينة نهض عليٌّ ( عليه السلام ) وصالح أبا بكر
فقد عسكر جيش طليحة قرب المدينة ليغزوها ، والناس يقولون إذا لم يخرج علي لا نخرج . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 3 / 118 ) : « فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فخشيت إن لم أنصرالإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب . فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتَنَهْنَه » .
--------------------------- 225 ---------------------------
وقال البلاذري في أنساب الأشراف ( 1 / 588 ) : « لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى عليّ فقال : يا ابن عم ، إنه لا يخرج أحد إلى هذا العدو وأنت لم تبايع ، فلم يزل به حتى مشى إلى أبيبكر . فقام أبو بكر ، إليه فاعتنقا وبكى كل واحد إلى صاحبه ! فبايعه فسُرَّ المسلمون ، وجدَّ الناس في القتال ، وقطعت البعوث » .
11 . وكان أبو بكر يثق بعلي ( عليه السلام ) أكثر من ثقته بعمر
فقد كان يشعر بالحاجة إلى علي ( عليه السلام ) ولو كان خصمه ، ويثق بكلامه أكثر من عمر ، فقد قال فيه عمر : ( كان والله أحسد قريش كلها ، ثم أطرق طويلاً ثم قال : والهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة ، أحسدُ قريش كلها ، لقد تقدمني ظالماً ، وخرج إلي منها آثماً ) ! ( الشافي : 3 / 162 ) .
كما جعل عمر بيعة أبيبكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ، وأمر أن يقتلوا من دعا إلى مثلها لأنها ابتزاز للمسلمين ! ( من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يقتلا ) . ( صحيح البخاري : 8 / 25 ) .
وقد خالف أبو بكر نصيحة عمر بأن يقبل شروط طليحة لأنهم يوحدون الله ، قال له عمر : ( كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله ) ! ( البخاري : 8 / 140 ) .
وكانت شروطهم إسقاط الزكاة ، وأن يكون الأذان : أشهد أن محمداً وطليحة رسولا الله ! لكن علياً ( عليه السلام ) نصحه بقتالهم حتى لو منعوه عقالاً من الزكاة ، فعمل أبو بكر بنصيحة علي ( عليه السلام ) ، وقال لعمر : ( رجوتُ نصرك وجئتني بخذلانك ! جَبَّارٌ في الجاهلية خَوَّارٌ في الإسلام ! ماذا عسيتُ أن أتألفهم ، بشعر مفتعل أو بسحر مفترى ، هيهات هيهات مضى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانقطع الوحي . والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي ، وإن منعوني عقالاً » . ( كنز العمال : 6 / 527 ) .
--------------------------- 226 ---------------------------
12 . حديث توبة أبيبكر وعزمه على إرجاع الخلافة لعلي ( عليه السلام ) !
روى الصدوق في الخصال / 548 : ( عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ( عليهم السلام ) قال : لما كان من أمر أبيبكر وبيعة الناس له وفعلهم بعلي ( عليه السلام ) ، لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه الإنقباض ، فكبر ذلك على أبيبكر وأحب لقاءه واستخراج ما عنده ، والمعذرة إليه مما اجتمع الناس عليه ، وتقليدهم إياه أمر الأمة ، وقلة رغبته في ذلك وزهده فيه . أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة فقال : يا أبا الحسن ، والله ما كان هذا الأمر عن مواطاة مني ، ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولاحرص عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمة ، ولا قوة لي بمال ولا كثرة العشيرة ، ولااستيثار به دون غيري ، فمالك تضمر عليَّ ما لم أستحقه منك ، وتظهر لي الكراهة لما صرت فيه ، وتنظر إلي بعين الشناءة لي ؟
قال : فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه ولاحرصت عليه ، ولاوثقت بنفسك في القيام به ؟ قال فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله لا يجمع أمتي على ضلال ، فلما رأيت إجماعهم اتبعت قول النبي وأحلت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى من الضلال ، فأعطيتهم قود الإجابة ، ولو علمت أن أحداً يتخلف لامتنعت .
فقال علي ( عليه السلام ) : أما ما ذكرت من حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله لا يجمع أمتي على ضلال ، أفكنتُ من الأمة أم لم أكن ؟ قال : بلى . قال ( عليه السلام ) : وكذلك العصابة الممتنعة عنك من سلمان ، وعمار ، وأبي ذر ، والمقداد ، وابن عبادة ، ومن معه من الأنصار ؟ قال : كلٌّ من الأمة . قال علي ( عليه السلام ) : فكيف تحتج بحديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمثال هؤلاء قد تخلفوا عنك ؟ وليس للأمة فيهم طعن ، ولا في صحبة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم تقصير ! قال : ما علمت بتخلفهم إلا من بعد إبرام الأمر ، وخفت إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدين عن الدين ، وكان ممارستهم إلي إن أجبتهم أهون مؤونة على الدين وإبقاء له ، من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعون كفاراً ! وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم . فقال علي ( عليه السلام ) : أجل ، ولكن أخبرني على الذي يستحق هذا الأمر بِمَ يستحقه ؟ فقال أبو بكر : بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة ، والمحاباة ،
--------------------------- 227 ---------------------------
وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعلم بالكتاب والسنة ، وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها ، وانتصاف المظلوم من الظالم للقريب والبعيد ، ثم سكت . فقال علي ( عليه السلام ) : والسابقة والقرابة ؟ فقال أبو بكر : والسابقة والقرابة .
فقال علي ( عليه السلام ) : أنشدك بالله يا أبا بكر ، أفي نفسك تجد هذه الخصال ، أو فيَّ ؟ قال أبو بكر : بل فيك يا أبا الحسن . قال ( عليه السلام ) : فأنشدك بالله ، أنا المجيب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل ذُكْران المسلمين أم أنت ؟ قال : بل أنت .
قال : فلم يزل ( عليه السلام ) يورد مناقبه التي جعل له ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دونه ودون غيره ، ويقول له أبو بكر : بل أنت . قال ( عليه السلام ) : فبهذا وشبهه يستحق القيام بأمور أمة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فما الذي غرك عن الله تعالى وعن رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودينه ، وأنت خلوٌ مما يحتاج إليه أهل دينه ! قال : فبكى أبو بكر وقال : صدقت يا أبا الحسن ، أنظرني قيام يومي فأدبِّرما أنا فيه ، وما سمعت منك . قال قال : فقال له علي ( عليه السلام ) :
لك ذلك يا أبا بكر .
فرجع من عنده وخلا بنفسه يومه ، ولم يأذن لأحد إلى الليل ، وعمر يتردد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي ، فبات في ليلته فرأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في منامه متمثلاً له في مجلسه ، فقام إليه أبو بكر ليسلم عليه فولى وجهه فقال أبو بكر : يا رسول الله هل أمرت بأمر فلم أفعل ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أرد السلام عليك وقد عاديت الله ورسوله ، وعاديت من والى الله ورسوله ! رُدَّ الحق إلى أهله ، قال فقلت : مَن أهله ؟ قال : من عاتبك عليه وهوعلي ، قال : فقد رددت عليه يا رسول الله بأمرك . قال : فأصبح وبكى وقال لعلي ( عليه السلام ) : أبسط يدك فبايعه وسلم إليه الأمر ، وقال له : أَخرجُ إلى مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبر الناس بما رأيت في ليلتي وما جرى بيني وبينك ، فأخرج نفسي من هذا الأمر وأسلم عليك بالإمرة . قال فقال له علي ( عليه السلام ) : نعم . فخرج من عنده متغيراً لونه ، فصادفه عمر وهو في طلبه فقال له : ما حالك يا خليفة رسول الله ؟ فأخبره بما كان منه وما رأى وما جرى بينه وبين علي ، فقال له عمر : أنشدك بالله يا خليفة رسول الله أن تغتر
--------------------------- 228 ---------------------------
بسحر بني هاشم فليس هذا بأول سحر منهم ! فما زال به حتى رده عن رأيه وصرفه عن عزمه ورغبه فيما هو فيه ، وأمره بالثبات عليه والقيام به !
قال : فأتى علي ( عليه السلام ) المسجد للميعاد فلم ير فيه منهم أحداً ، فأحس بالشر منهم ، فقعد إلى قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمر به عمر فقال : يا علي دون ما تروم خرط القتاد ، فعلم بالأمر ، وقام ورجع إلى بيته ) !
ورواه الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 264 ) بلفظ : ( وروي عن الصادق ( عليه السلام ) أن أبا بكر لقي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في سكة من سكك بني النجار فسلم عليه وصافحه . . وفيه : فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقلتم : نعم يا رسول الله ، وقمتم بأجمعكم تهنون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتهنوني بكرامة الله لنا . فدنا عمر وضرب على كتفي وقال بحضرتكم : بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى المؤمنين .
فقال أبو بكر : ذكرتني أمراً يا أبا الحسن ، لو يكون رسول الله شاهداً فأسمعه منه . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الله ورسوله عليك من الشاهدين يا أبا بكر إن رأيت رسول الله حياً ، يقول لك إنك ظالم في أخذ حقي الذي جعله الله ورسوله لي دونك ودون المسلمين ، أن تسلم هذا الأمر إلي وتخلع نفسك منه ؟ قال أبو بكر : نعم . فضرب أمير المؤمنين على يده ، وقال تسعى معي نحو مسجد قُبا ، فلما ورده تقدم أمير المؤمنين فدخل المسجد وأبو بكر من ورائه ، فإذا هو برسول الله جالس في قبلة المسجد ! فلما رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشي عليه فناداه رسول الله : إرفع رأسك أيها الضليل المفتون ! فرفع أبو بكر رأسه وقال : لبيك يا رسول الله ، أحياة بعد الموت يا رسول الله ؟ فقال : ويلك يا أبا بكر ، إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير .
قال : فسكت أبو بكر وشخصت عيناه نحو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ويلك يا أبا بكر أنسيت ما عهدت الله ورسوله عليه في المواطن الأربع لعلي ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله فهل من توبة ، وهل يعفو الله عني إذا سلمت هذا الأمر إلى أمير المؤمنين ؟ قال : نعم يا أبا بكر . .
قال فتشبث أبو بكر بعلي وقال : الله الله فيَّ يا علي ، سرمعي إلى منبر رسول الله حتى
--------------------------- 229 ---------------------------
أعلو المنبروأقص على الناس ما شاهدت ورأيت من أمر رسول الله ، وما قال لي وما قلت له وأمرني به ، وأخلع نفسي من هذا الأمر وأسلمه إليك .
فقال له أمير المؤمنين : أنا معك إن تركك شيطانك ! فقال أبو بكر إن لم يتركني تركته وعصيته . فقال أمير المؤمنين : إذاً تطيعه ولاتعصيه ، وإنما رأيت ما رأيت لتأكيد الحجة عليك . وأخذ بيده وخرجا من مسجد قبا يريدان مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبو بكر يخفق بعضه بعضاً ويتلون ألواناً ، حتى لقيه عمر بن الخطاب فقال له : يا خليفة رسول الله ما شأنك وما الذي دهاك ؟ فقال أبو بكر : خلِّ عني يا عمر فوالله لاسمعت لك قولاً ! فقال له عمر : وأين تريد يا خليفة رسول الله ؟ فقال أبو بكر : أريد المسجد والمنبر . فقال : ليس هذا وقت صلاة ومنبر ، فقال : خل عني فلا حاجة لي في كلامك . فقال عمر : يا خليفة الله أفلا تدخل قبل المسجد منزلك فتسبغ الوضوء ؟ قال : بلى . ثم التفت أبو بكر إلى علي ( عليه السلام ) وقال له : يا أبا الحسن تجلس إلى جانب المنبر حتى أخرج إليك ، فتبسم أمير المؤمنين ثم قال : يا أبا بكر قد قلتُ إن شيطانك لايدعك أو يرديك !
إلى أن قال : فخرج عمر وأمير المؤمنين جالس بجنب المنبر فقال : ما بالك يا علي قد تصديت ، هيهات هيهات دون ما تريد من علو هذا المنبر خرط القتاد ! فتبسم أمير المؤمنين حتى بدت نواجذه ثم قال : ويلك منها والله يا عمر ، إذا أفضت إليك ، والويل للأمة من بلائك . فقال عمر : هذه بشرى يا ابن أبي طالب صدقت ظنونك وحق قولك . وانصرف أمير المؤمنين إلى منزله ) .
وفي بصائر الدرجات / 299 : ( عن معاوية الدهني قال : دخل أبو بكر على علي ( عليه السلام ) فقال له : إن رأيت رسول الله حتى يخبرني ببعض هذا لاكتفيته ، قال : فوافني إذا صليت المغرب ، قال فرجع إلى بعد المغرب فأخذ بيده فخرج به إلى مسجد قبا ، فإذا رسول الله والله جالسٌ في القبلة ، فقال : يا عتيق وثبت على علي وجلست مجلس النبوة ، وقد تقدمت إليك في ذلك ، فانزع هذا السربال الذي تسربلته ، فخله لعلي ( عليه السلام ) وإلا فموعدك النار . قال : فلقي أبو بكر عمر فقال له : أراني عليٌّ
--------------------------- 230 ---------------------------
كذا وكذا ، فقال له عمر : ويلك ما أقل عقلك ، فوالله ما أنت فيه الساعة ليس إلا من بعض سحر ابن أبي كبشة ، قد نسيت سحر بني هاشم ! ومن أين يرجع محمد ولا يرجع من مات . إن ما أنت فيه أعظم من سحر بني هاشم ، فتقلد هذا السربال ومُرَّ فيه ) .
13 . ملاحظات حول توبة أبيبكر
1 . أطمئن بأن الروايتين صحيحتان وهما أطول مما ذكرنا منهما ، فقد أتم الإمام ( عليه السلام ) الحجة على أبيبكر ، وأراه الله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في منامه ، ولما بقي في شكه ورغبته في الخلافة أراه إياه في اليقظة على نحو المعجزة . وقد رأى أبو بكر وعمر من علي ( عليه السلام ) معجزات في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعد وفاته ، وكان عمر يقول إنها من سحر بني هاشم ، وكان أبو بكر يطيع عمر عملياً في أمر الخلافة ، وإن خالفه في أمور أخرى .
2 . كان أبو بكر وعمر يعرفان أن علياً ( عليه السلام ) عنده علم الكتاب ، وأنه مدينة علم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكانا يثقان بإخباره عن المستقبل ، ويسألانه عما يكون ! فلما قال لعمر : ( ويلك منها والله يا عمر ، إذا أفضت إليك ، والويل للأمة من بلائك . فقال عمر : هذه بشرى يا ابن أبي طالب صدقت ظنونك وحق قولك ) .
اعتبر عمر ذلك بشارة بأنه سيحكم ، فهذا المهم عنده ، أما تحذير علي له فليس مهماً !
وقد سمع عمر من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد من ذلك ، فلم يهتم به ! وأخبره علي ( عليه السلام ) بما قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيهما وأشهد شهوداً ، فلم يهتما به !
وقال له أبو بكر : لا تجادله ، فما دام بايع فليقل هو وأنصاره ما يريدون ! وليحدثوا عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنا في الدرك الأسفل من النار ، فالمهم أنا فزنا ، وخضع علي بالقوة !
3 . كان أبو بكر ألين من عمر مع علي ( عليه السلام ) ليونة سياسية ، فقد كان خاضعاً لعمر ، وقال أهل البيت ( عليهم السلام ) إنه المقصود بقوله تعالى : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً . فهل الرسول إلا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ وهل الذكر الذي أضله خليله عنه إلا القرآن والعترة ! وهل عملهم إلا الانقلاب الموعود بقوله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
--------------------------- 231 ---------------------------
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ .
14 . أم فروة الأنصارية تُفحم أبا بكر
روى ابن حمزة الطوسي في كتابه القيم : الثاقب في المناقب / 237 : ( عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن سلمان رضي الله عنه في حديث طويل ألخص لك فائدته ، قال : إن امرأة من الأنصار قتلت تجنياً بمحبة علي ( عليه السلام ) يقال لها أم فروة ، وكان علي ( عليه السلام ) غائباً ، فلما وافى ذهب إلى قبرها ورفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم يا محيي النفوس بعد الموت ، ويا منشئ العظام الدارسات بعد الفوت ، أحي لنا أم فروة واجعلها عبرة لمن عصاك . فإذا بهاتف يهتف : يا أمير المؤمنين ، إمض لما سألت فرفس قبرها وقال : يا أمة الله ، قومي بإذن الله تعالى . فخرجت أم فروة من القبر فبكت وقالت : أرادوا إطفاء نورك فأبى الله عز وجل لنورك إلا ضياء ، ولذكرك إلا ارتفاعاً ولو كره الكافرون . فردها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى زوجها ، وولدت بعد ذلك غلامين ، وعاشت بعد أمير المؤمنين ستة أشهر ) !
ورواه القطب الراوندي بتفصيل في الخرائج / 548 ، قال : ( إن امرأة من الأنصار يقال لها أم فروة كانت تحض على نكث بيعة أبي بكر ، وتحث على بيعة علي ( عليه السلام ) . فبلغ أبا بكر ذلك فأحضرها واستتابها فأبت عليه . فقال : يا عدوة الله أتحضين على فرقة جماعة اجتمع عليها المسلمون فما قولك في إمامتي ؟ قالت : ما أنت بإمام ! قال : فمن أنا ؟ قالت أميراختارك قومك وولوك ، فإذا كرهوك عزلوك ، فالإمام المخصوص من الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعلم ما في الظاهر والباطن ، وما يحدث في المشرق والمغرب من الخير والشر ، وإذا قام في شمس أو قمرفلا فئ له ، ولا تجوز الإمامة لعابد وثن ، ولا لمن كفر ثم أسلم ، فمن أيهما أنت يا ابن أبي قحافة ؟ قال : أنا من الأئمة الذين اختارهم الله لعباده ! فقالت : كذبت على الله ولو كنت ممن اختارك الله لذكرك في كتابه كما ذكر غيرك ، فقال عز وجل :
--------------------------- 232 ---------------------------
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ . ويلك إن كنت إماماً حقاً فما اسم السماء الدنيا والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ؟ فبقي أبوبكرلا يحير جواباً ، ثم قال : اسمها عند الله الذي خلقها . قالت : لو جاز للنساء أن يعلمن الرجال لعلمتك . فقال : يا عدوة الله لتذكرن اسم سماء سماء وإلا قتلتك ! قالت : أبالقتل تهددني ؟ والله ما أبالي أن يجري قتلي على يدي مثلك ولكني أخبرك : أما السماء الدنيا الأولى فأيلول ، والثانية زبنول ، والثالثة سحقوم ، والرابعة ذيلول ، والخامسة ماين ، والسادسة ماحيز ، والسابعة أيوث .
فبقي أبو بكر ومن معه متحيرين ، وقالوا لها : ما تقولين في علي ؟ قالت : وما عسى أن أقول في إمام الأئمة ، ووصي الأوصياء ، من أشرقت بنوره الأرض والسماء ، ومن لا يتم التوحيد إلا بحقيقة معرفته ، ولكنك ممن نكث واستبدل ، وبعت دينك بدنياك ! قال أبو بكر : أقتلوها فقد ارتدت ، فقتلت !
وكان علي ( عليه السلام ) في ضيعة له بوادي القرى ، فلما قدم وبلغه قتل أم فروة خرج إلى قبرها ، وإذا عند قبرها أربعة طيور بيض مناقيرها حمر ، في منقار كل واحد حبة رمان كأحمر ما يكون ، وهي تدخل في فرجةٍ في القبر ، فلما نظر الطيور إلى علي ( عليه السلام ) رفرفن وقرقرن ، فأجابها بكلام يشبه كلامها ، وقال : أفعل إن شاء الله . ووقف على قبرها ومد يده إلى السماء وقال : يا محيي النفوس بعد الموت ، ويا منشئ العظام الدارسات ، أحي لنا أم فروة واجعلها عبرة لمن عصاك . فإذا بهاتف يقول : إمض لأمرك يا أمير المؤمنين . [ فرفس قبرها وقال : يا أمة الله ، قومي بإذن الله تعالى ] فخرجت أم فروة متلحفة بريطة خضراء من السندس ، وقالت : يا مولاي أراد ابن أبي قحافة أن يطفئ نورك ، فأبي الله لنورك إلا ضياء ! وبلغ أبا بكر وعمر ذلك فبقيا متعجبين ! فقال لهما سلمان : لو أقسم أبو الحسن على الله أن يحيي الأولين والآخرين لأحياهم . وردها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى زوجها وولدت غلامين له . وعاشت بعد علي ستة أشهر ) .
--------------------------- 233 ---------------------------
15 . ملاحظات على خبر أم فروة الأنصارية
1 . ترجم ابن حجر لأم فروة في الإصابة ( 8 / 449 ) فقال إنها عمة قاسم بن غنام ، بايعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيعة الرضوان ، وأخرج حديثها أبو داود والترمذي والحاكم والدارقطني أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة لأول وقتها .
وعلى مبناهم في أن أهل بيعة الرضوان من أهل الجنة ، يكون أبو بكر خرج من الإيمان لأنه قتل أحد أهل الجنة ! وقد سجلت المصادر حالة اعتراض على أبيبكر كأم فروة وأشد منها ، وهي اعتراض مالك بن نويرة لما جاء إلى المدينة ورأى أبا بكر على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فأرسل أبو بكر خالداً وقتله ، وتزوج زوجته !
2 . وردت روايات في مصادر الطرفين في أسماء السماوات وألوانها ، تشبه خبرأم فروة ، كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور ( 1 / 44 ) : ( عن علي بن أبي طالب قال : اسم السماء الدنيا رقيع ، واسم السابعة الضراح .
أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ ، عن الربيع بن أنس قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية مرمرة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة نحاس ، والخامسة فضة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة حمراء ، وما فوق ذلك صحارى من نور ) . ونحوه الخصال / 593 . والروض الأنف : 2 / 158 .
وفي روضة الواعظين للنيسابوري / 44 : ( قال الرضا ( عليه السلام ) : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الجامع بالكوفة ، فقام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له : يا أمير المؤمنين أخبرني عن ألوان السماوات السبع وأسمائها ، فقال له : اسم سماء الدنيا رقيع وهي من ماء ودخان ، واسم السماء الثانية فيدوم وهي على لون النحاس ، واسم السماء الثالثة المادوم وهي على لون الشبَّه ، واسم السماء الرابعة أرقلون وهي على لون الفضة ، والسماء الخامسة اسمها هيعون ، وهي على لون الذهب ، والسماء السادسة اسمها عروس ، وهي ياقوتة خضراء ، والسماء السابعة اسمها عجماء وهي درة بيضاء .
--------------------------- 234 ---------------------------
وقال زيد بن وهب : سئل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن قدرة الله جلت عظمته فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن لله تعالى ملائكة لو أن ملكاً منهم هبط إلى الأرض ما وسعته ، لعظم خلقة وكثرة أجنحته ! ومنهم من لو كلف الجن والإنس أن يصفوه ما وصفوه ، لبعد ما بين مفاصله وحسن تركيب صورته ! وكيف يوصف من ملائكته من سبع مائة عام ما بين منكبيه وشحمة أذنيه ) !
أقول : تفاوت الرواة في أوصاف السماوات وأسمائها ، يدل على أنهم لم يحفظوا عن المعصوم ( عليه السلام ) وأن بعضهم تكلم من تصوره . ومن حقنا أن نتوقف في قبول هذه الأحاديث عن أسماء السماوات وألوانها ، إلا إذا ثبتت بسند صحيح عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأهل بيته المعصومين ( عليهم السلام ) ، الذين يعرفون الوحي ويحفظونه .
وقد وردت صفات عديدة للسماوات ، ويبدو أن التمييز بينها بالكثافة والشفافية ، فتكون سماؤنا الدنيا أكثرها كثافة ، والسماء السابعة أكثرها شفافية ونورانية .
3 . الأمر المؤكد من حديث أم فروة أنها من شخصيات الصحابة المميزين . وقد اعترضت على أبيبكر فأفحمته فقتلها ، وأحياها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) !
16 . الحسن والحسين ( ( عليهما السلام ) ) يتحديان أبا بكر وعمر !
روت المصادر بسند صحيح أن أبا بكركان على المنبر فجاء الإمام الحسن ( عليه السلام ) وكان في السنة السابعة من عمره الشريف فقال له : « إنزل عن منبر أبي واجلس على منبر أبيك ! فقال له أبو بكر : نعم إنه منبر أبيك وأبي لا منبر له ، وإن كل ما عندنا منكم ، فهل أنبت الشعر على رؤوسنا إلا الله وأنتم » !
« خطب يوماً فجاء الحسن فصعد إليه المنبر فقال : إنزل عن منبر أبي ! فقال علي : إن هذا لشئ عن غير ملامنا » . ( تاريخ دمشق : 30 / 307 ، وكنز العمال : 5 / 616 ) .
وقال ابن حجر الهيتمي ( بالتاء ) في الصواعق المحرقة ( 2 / 515 ) : « وأخرج الدارقطني أن الحسن جاء لأبيبكر وهو على منبر رسول الله فقال : إنزل عن مجلس أبي ! فقال : صدقت والله إنه لمجلس أبيك ! ثم أخذه وأجلسه في حجره وبكى ، فقال علي : أما
--------------------------- 235 ---------------------------
والله ما كان عن رأيي ! فقال صدقت والله ما اتهمتك . فانظر لعظم محبة أبيبكر وتعظيمه وتوقيره للحسن ، حيث أجلسه على حجره وبكى .
ووقع للحسين نحو ذلك مع عمر وهو على المنبر ، فقال له : منبر أبيك والله لا منبر أبي ! فقال علي : والله ما أمرت بذلك ! فقال عمر : والله ما اتهمناك . زاد ابن سعد أنه أخذه فأقعده إلى جنبه وقال : وهل أنبت الشعر على رؤوسنا إلا أبوك ! أي إن الرفعة ما نلناها إلا به » .
وفي سير الذهبي ( 3 / 285 ) : « وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا الله ثم أنتم ! ووضع يده على رأسه وقال : أي بني ! لو جعلت تأتينا وتغشانا . إسناده صحيح » .
راجع المسانيد للأنصاري : 2 / 88 ، والرياض النضرة للطبري : 1 / 561 ، والإصابة : 2 / 69 ، والمراجعات / 396 ، وشرح النهج : 6 / 42 ، ومعرفة الثقات : 1 / 302 ، وتاريخ بغداد : 1 / 151 ، وتاريخ دمشق : 14 / 175 ، وتاريخ المدينة : 3 / 799 ، ومناقب محمد بن سليمان : 2 / 255 .
ومن مصادرنا : علل الشرائع : 1 / 186 ، والغدير : 7 / 126 ، ومستدرك الوسائل : 15 / 165 .
وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ( 2 / 300 ) : « الحسين بن علي قال : أتيت على عمر وهو يخطب على المنبرفصعدت إليه فقلت له : إنزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك ! فقال عمر : لم يكن لأبي منبر ! وأخذني فأجلسني معه أقلب حصى بيدي ، فلما نزل انطلق بي إلى منزله فقال لي : من علمك ؟ فقلت : والله ما علمني أحد ! قال : يا بني لو جعلت تغشانا . قال فأتيته يوماً وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعت معه ، فلقيني بعدُ فقال لي : لم أرك ! فقلت : يا أمير المؤمنين إني جئت وأنت خال بمعاوية ، وابن عمر بالباب فرجع ورجعت معه ! فقال : أنت أحق بالإذن من ابن عمر ، وإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ، ثم أنتم » ! « ثم نزل عن المنبرفأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر ، فخطب الناس وهو جالس معه على المنبر ، ثم قال : أيها الناس ، سمعت نبيكم يقول : احفظوني في عترتي وذريتي ، فمن حفظني فيهم حفظه الله ، ألا لعنة الله على من آذاني فيهم ! ثلاثاً » . ورواه الطوسي في أماليه / 703 .
--------------------------- 236 ---------------------------
وروى الطبرسي في الإحتجاج ، احتجاج الحسين ( عليه السلام ) على عمر ( 2 / 13 ) قال : ( إن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) من ناحية المسجد : إنزل أيها الكذاب عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك ! فقال له عمر : فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي ، من علمك هذا أبوك علي بن أبي طالب ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنه لها وأنا مهتد به ، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، نزل بها جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله تعالى ، لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب ، قد عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم ، وويل للمنكرين حقنا أهل البيت ، ماذا يلقاهم به محمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الغضب وشدة العذاب ! فقال عمر : يا حسين من أنكر حق أبيك فعليه لعنة الله ، أمَّرَنا الناس فتأمَّرْنَا ، ولو أمروا أباك لأطعنا . فقال له الحسين : يا ابن الخطاب فأي الناس أمَّرك على نفسه قبل أن تؤمر أبا بكر على نفسك ، ليؤمرك على الناس ، بلا حجة من نبي ولا رضا من آل محمد ، فرضاكم كان لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رضاً ، أو رضا أهله كان له سخطاً !
أما والله لو أن للسان مقالاً يطول تصديقه ، وفعلاً يعينه المؤمنون لما تخطيت رقاب آل محمد ، ترقى منبرهم ، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم ، لا تعرف معجمه ، ولا تدري تأويله ، إلا سماع الاذان ! المخطئ والمصيب عندك سواء ، فجزاك الله جزاك ، وسألك عما أحدثت سؤالاً حفياً .
قال : فنزل عمر مغضباً ، فمشى معه أناس من أصحابه حتى أتى باب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاستأذن عليه فأذن له فدخل فقال : يا أبا الحسن ما لقيت اليوم من ابنك الحسين ، يجهرنا بصوت في مسجد رسول الله ، ويحرض عليَّ الطغام وأهل المدينة ، فقال له الحسن ( عليه السلام ) : على مثل الحسين ابن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يشخب من لاحكم له ، أو يقول بالطغام على أهل دينه ؟ أما والله ما نلت إلا بالطغام ، فلعن الله من حرض الطغام !
فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : مهلاً يا أبا محمد فإنك لن تكون قريب الغضب ولا لئيم الحسب ، ولا فيك عروق من السودان ، إسمع كلامي ولا تعجل بالكلام .
--------------------------- 237 ---------------------------
فقال له عمر : يا أبا الحسن إنهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هما أقرب نسباً برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أن يهما ، أما فارضهما يا ابن الخطاب بحقهما يرض عنك من بعدهما . قال : وما رضاهما يا أبا الحسن ؟ قال : رضاهما الرجعة عن الخطيئة ، والتقية عن المعصية بالتوبة .
فقال له عمر : أدب يا أبا الحسن ابنك أن لا يتعاطى السلاطين الذين هم الحكماء في الأرض . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنا أؤدب أهل المعاصي على معاصيهم ، ومن أخاف عليه الزلة والهلكة ، فأما من والده رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونَحَله أدبه ، فإنه لا ينتقل إلى أدب خير له منه ، أما فارضهما يا ابن الخطاب !
قال : فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف فقال له عبد الرحمن : يا أبا حفص ما صنعت فقد طالت بكما الحجة ؟ فقال له عمر : وهل حجة مع ابن أبي طالب وشبليه ! فقال له عثمان : يا ابن الخطاب هم بنو عبد مناف الأسمنون والناس عجاف ! فقال له عمر : ما أعد ما صرت إليه فخراً فخرت به بحمقك ، فقبض عثمان على مجامع ثيابه ثم نبذ به ورده ، ثم قال له : يا ابن الخطاب كأنك تنكر ما أقول ! فدخل بينهما عبد الرحمن وفرق بينهما ، وافترق القوم ) .
17 . محمد بن أبيبكر
تزوج أبوبكرأسماء بنت عميس بعد شهادة زوجها جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) فولدت له محمد بن أبيبكر . لكن أكثر زوجة أثرت في نفسه هي أم بكر ، التي قال لها : تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ . . وتقدمت أبياتها . ( ابن هشام : 2 / 549 ) .
وولد محمد بن أبيبكر ( رحمه الله ) في حجة الوداع ، وعاش مع أبيه أقل من ثلاث سنين ، ثم تزوج علي ( عليه السلام ) أمه أسماء بنت عميس ، فكان محمد ربيبه ، وكان يعدُّه كأحد أولاده ، وكان عمره عندما ولاه مصر ستاً وعشرين سنة .
قال اليعقوبي ( 2 / 193 ) : ( وجه معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرطٍ له ، فقدِمها سنة 38 ومعه جيش عظيم من أهل الشام ، فلقيهم محمد بن أبيبكر بموضع يقال له المسنَّاة ، فحاربهم محاربة شديدة ) .
--------------------------- 238 ---------------------------
وفي الغارات للثقفي ( 1 / 301 ) أن جيش الشام غلب أهل مصر ، وقتلوا محمد بن أبيبكر ، ثم ألقوه في جوف حمار ، وأحرقوه بالنار ) !
وفي الغارات للثقفي ( 1 / 285 ) : « فلما بلغ ذلك عائشة أم المؤمنين جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ، وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها ، فكان القاسم بن محمد بن أبيبكر في عيالها » .
وفي الإصابة ( 8 / 16 ) : ( لما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله ، قامت إلى مسجد بيتها وكظمت غيظها ، حتى شخب ثدياها دماً » .
وفي مقابل حزن أسماء وعائشة ، فرحت أم حبيبة بنت أبي سفيان أخت معاوية ، فابتكرت أسلوباً للشماتة !
قال في الغارات ( 2 / 757 ) : « أمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكبش فشُوِيَ ، وبعثت به إلى عائشة وقالت : هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت ! ووصفت أم حبىبة ببنت العاهرة ( تذكرة الخواض 1 / 101 ) : وما عثرت قط إلا قالت : تعس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ) .
وقال صالح الورداني في كتابه : الشيعة في مصر / 109 : « مرقده في بلدة ميت دمسيس التابعة للمنصورة ، وهناك قبر ناحية الفسطاط يقال له محمد الصغير ، والعامة يعتقدون أنه محمد بن أبيبكر ، إلا أن الراجح أن مرقده ناحية المنصورة » .
هذا ، وسيأتي المزيد عن محمد بن أبيبكر رضي الله عنه في محله .
18 . موقف علي ( عليه السلام ) من وصية أبيبكر لعمر
قال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتاب : أين سنة الرسول / 151 ، ملخصاً : ( مرض أبو بكر مرضاً شديداً قبل وفاته ، فدعا عثمان قبل وفاته بقليل ليكتب وصيته وتوجيهاته النهائية ، وعندما جلس عثمان بجانب فراش أبيبكر قال له : أكتب : إني قد وليت عليكم . . ثم أغمي عليه من شدة الوجع فكتب عثمان : إني قد وليت عليكم
--------------------------- 239 ---------------------------
عمر ، فلما أفاق أبو بكر من غيبوبته طلب أن يقرأ عليه ما كتب فقرأ ، فَسُرَّ أبو بكر وقال لعثمان : لو كتبت اسمك لكنت أهلاً لها !
لقد أتاح المسلمون لأبيبكر الفرصة ليكتب وصيته وتوجيهاته النهائية ، وعاملوه أثناء مرضه بكل التقديس والاحترام ، ولم يقولوا له أنت تهجر ولا قالوا له : إن المرض قد اشتد به ، ولا قالوا له : حسبنا كتاب الله ، ولا كسروا بخاطره ، ولا أساؤوا كما أساؤوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
الموقف المناقض لعمر عندما أراد أبو بكر أن يكتب كان يقول : أيها الناس إسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول : إني لم آلكم خيراً .
قارن بربك بين موقفه وحزبه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عندما أراد أن يكتب وصيته أثناء مرضه ، وبين موقفه من أبيبكر يوم كتب وصيته !
لم يقل عمر إن أبا بكر قد اشتد به الوجع ، مع أن وجع أبيبكر كان أشد من وجع الرسول ! ولم يقل إن أبا بكر قد هجر كما قال ذلك لرسول الله مع أن أبا بكر قد أغمي عليه قبل أن يتم الجملة !
ولم يجمع الجموع ويقتحم بيت أبيبكر ، كما جمع الجموع واقتحم بيت النبي ، واتفق معهم على ترديد اللازمة : القول ما قال عمر ! ولم يختلف الحضور ولم يتنازعوا ، ولم يكثر اللغط واللغو ، ولم تتدخل النساء ! لقد وفرت زعامة بطون قريش المناخ الملائم لوصية أبيبكر النهائية لأن أبا بكر وعمر وزعامة قريش من حزب واحد ، أما رسول الله فليس من حزبهم !
وطُعن عمر بن الخطاب وقال طبيبه لا أرى أن تمسي ، فما كنت فاعلاً فافعله وأخذ يتوجع فيقول : لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع ، الويل لعمر ولأم عمر إن لم يغفر الله لعمر ، ويقول لابنه : ضع خدي على الأرض لا أم لك . ومع هذا فقد كتب وصيته وتوجيهاته النهائية وعهد للستة نظرياً ولعثمان عملياً ، وأمر بضرب عنق من يخالف .
لقد كتب عمر أثناء مرضه ما أراد ، ولم يعترضه أحد ، ولم يقل أحد بأن المرض
--------------------------- 240 ---------------------------
قد اشتد به ، ولم يقل أحد بأنه قد هجر كما ردد عمر وزعماء حزبه ومرتزقته هذا القول الفاحش أمام رسول الله !
ولم يقل أحد عندنا كتاب الله وهو يغنينا عن وصيتك يا عمر ! إنما قوبل بكل التوقير والتقديس والاحترام ونفذت وصيته حرفياً كأنها كتاب منزل من عند الله بل وأكثر !
فهل لعمر وأبيبكر قداسة عند القوم أكثر من رسول الله ! وبأي كتاب قد أنزل الله بأن الاثنين أولى بالاحترام والطاعة من رسول الله !
ولن تجرؤ على القول بأن فعلهما هذا يستحق اللوم على الأقل لأن العامة والخاصة من أولياء الخلافة التاريخية الذين أشربوا ثقافة التاريخ ، سيدفنوك حياً إن فعلت ذلك ! فهم يعتقدون أن الولاء للخلفاء جزء لا يتجزأ من الولاء لله ، فلو قمت الليل وصمت النهار أبداً ، وكنت غير موال للخلفاء ، لأحلوا سفك دمك حتى بالأشهر الحرم !
فمن الممكن أن يخطئ النبي بعرفهم فهو بشر ! لكن من غير الجائز أن تقول إن أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية قد أخطأ !
أولياء الخلافة التاريخية يعتقدون أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم قد فعلوا ذلك برسول الله لحكمة كانت خافية على الناس ! أو فعلوا ذلك ( اجتهاداً ) وبالتالي فإنهم مأجورون أجراً واحداً على إهانتهم لرسول الله ، وعقوقهم له ومعصيتهم لأوامره ! إن هذا لهو البلاء المبين !
لم يصدف طوال تاريخ البشر أن عومل ولي أمر ، سواء أكان نبياً أو خليفةً أو ملكاً أو والياً أو عاملاً وهو مريض ، بالقسوة والجلافة والظلم الذي عاملوا به رسول الله أثناء مرضه !
ولم يصدف طوال التاريخ السياسي للمسلمين أن اعترض المسلمون على أي خليفة أو وال أو عامل أو مسلم أراد أن يكتب وصيته أو توجيهاته أثناء مرضه ، بل على العكس فقد اعتبروا أن كتابة الوصية ، والاستخلاف حق للخليفة القائم وواجب عليه .
قال ابن خلدون الذي أشرب ثقافة التاريخ وآمن بفلسفة معاوية وأساتذته :
( إن الخليفة ينظر للناس حال حياته وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته ، ويقيم لهم من يتولى أمورهم من بعده !
--------------------------- 241 ---------------------------
لكن ابن خلدون لايعترف بهذا الحق لرسول الله ، لأن الرسول ليس خليفة ! لقد اخترع ابن خلدون هذا الحق خصيصاً للخلفاء الذين أشرب ثقافتهم ! فهل بعد هذا العجب من عجب ! ألا بعداً لهم كما بعدت ثمود ) !
موقف علي ( عليه السلام ) من وصية أبيبكر بالخلافة لعمر :
في تاريخ المدينة لابن شبَّه ( 2 / 666 ) : ( عن الشعبي قال : بينا طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد جلوساً عند أبيبكر في مرضه عواداً . فقال أبو بكر : إبعثوا إلى عمر ، فأتاه فدخل عليه ، فلما دخل أحست أنفسهم أنه خِيرتُه ، فتفرقوا عنه وخرجوا وتركوهما ، فجلسوا في المسجد وأرسلوا إلى علي ونفر معه فوجدوا علياً في حائط فتوافوا إليه واجتمعوا . وقالوا : يا علي يا فلان ويا فلان ، إن خليفة رسول الله مستخلف عمر ، وقد علم وعلم الناس أن إسلامنا كان قبل إسلام عمر ، وفي عمر من التسلط على الناس ما فيه ولا سلطان له ، فأدخلوا بنا عليه نسأله فإن استعمل عمر كلمناه فيه فأخبرناه عنه ، ففعلوا فقال أبو بكر : إجمعوا لي الناس أخبركم من اخترت لكم ، فخرجوا فجمعوا الناس إلى المسجد . فأمر من يحمله إليهم حتى وضعه على المنبر ، فقام فيهم باختيار عمر لهم !
ثم دخل فاستأذنوا عليه فأذن لهم فقالوا له : ماذا تقول لربك وقد استخلفت علينا عمر ! فقال أقول : استخلفت عليهم خير أهلك ) .
وفي أنساب الأشراف ( 10 / 375 ) : ( عن هشام بن عروة قال : لما بويع عمر قال عليٌّ : حلبت حلباً لك شطره ، بايعته عام أول ، وبايع لك العام ) !
19 . كان أبو بكر يخاف أن يقتلوه بالسم لمصلحة عمر !
كان أبو بكر يرى أن عمر مستعجلٌ لأن يرثه ، وكان يخشى أن يسمه اليهود لمصلحة عمر ، فبمجرد أن بايعوه أحضر طبيب السموم الحارث بن كلدة من الطائف ، وكان لا يأكل إلا معه ، فلم ينفعه الحذر .
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 61 : ( أخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة ( لحم مثروم )
--------------------------- 242 ---------------------------
أهديت لأبيبكر ، فقال الحارث لأبيبكر : إرفع يدك يا خليفة رسول الله ! والله إن فيها لسُمُّ سنة ، وأنا وأنت نموت في يوم واحد ! فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا ) !
( وتاريخ دمشق : 30 / 409 ، وكنز العمال : 12 / 537 : وقال : ابن سعد ، وابن السني ، وأبو نعيم معاً في الطب . قال ابن كثير : إسناده صحيح . ونحوه في تاريخ مكة لابن الضياء / 233 ، وفتح الباري : 7 / 34 ، وتحفة الأحوذي : 10 / 96 ، والمستدرك : 3 / 64 ، والطبقات : 3 / 198 ، وأسد الغابة : 3 / 223 ، وصفة الصفوة : 1 / 263 ، والرياض النضرة : 2 / 243 ، والمنتظم : 4 / 129 ، ومسائل الإمام أحمد / 75 ، والمصباح المضي : 1 / 33 ، وتخريج الدلالات للخزاعي / 670 ، والتراتيب الإدارية : 1 / 456 ، والصواعق المحرقة : 1 / 253 ، وفوائد ابن القيم / 95 والعقد الفريد / 1010 ، وربيع الأبرار . وغيرها ) .
وقال المسعودي في مروج الذهب ( 3 / 301 ) : ( سَمَّتْهُ اليهود في شئ من الطعام ) !
ونلاحظ أن عمر لم يفتح ملف سُم أبيبكر أبداً ، ومنع النوح عليه ، وذهب بنفسه ليمنع مجلساً أقامته عائشة للنوح على أبيها ، وضرب أخت أبيبكر !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 5 / 54 ) : ( وصله ابن سعد في الطبقات : بإسناد صحيح من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لما توفي أبوبكرأقامت عائشة عليه النوح فبلغ عمر فنهاهن فأبين ، فقال لهشام بن الوليد : أخرج إليَّ بنت أبي قحافة ، يعني أم فروة ، فعلاها بالدرة ضربات ، فتفرق النوائح حين سمعن بذلك ) .
20 . كان لليهود وجود في المدينة وفعاليات !
1 . إن شهادة المسعودي ، وهو مؤرخ موثوق ودقيق ، بأن اليهود دسوا السُّم لأبيبكر ، يدل على وجودهم في المدينة ، ولهم عملاء يمكنهم القيام بمثل هذا العمل الخطير دون أن يشعر بهم أحد ! وقد كانت علاقة اليهود وثيقة بقريش ، فعاونوها في عدائها للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحروبها معه ، ثم واصلوا تعاونهم مع خلفائه القرشيين ، وكان الحاخام كعب الأحبارمستشاراً دينياً للخليفة . وكان عمر يعامله كنبي ويسأله عن أفعال الله تعالى ، وعن الآخرة ، وعن مستقبله الشخصي ، ويثق به ويعمل برأيه !
وكان بعض نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لها صديقات يهوديات تعتقد بهن وتطلب منهن الدعاء والرقية ! قال مالك في الموطأ ( 2 / 943 ) إن أبا بكر : ( دخل على عائشة وهي تشتكي ،
--------------------------- 243 ---------------------------
ويهودية ترقيها ، فقال أبو بكر : إرقيها بكتاب الله ) . أي إرقيها بالتوراة !
وصححه الشافعي في الأم ( 7 / 241 ) والبيهقي في سننه ( 9 / 347 )
ورووا أن امرأة عبد الله بن مسعود كانت تذهب إلى يهودي لرقية عينها . ولا يطلب الإنسان الرقية إلا ممن يعتقد أنه عبد صالح قريب إلى الله تعالى .
كما رووا أن يهودية كانت تخدم عائشة ( مسند أحمد : 6 / 81 ) ويهوديات يختلفن إليها :
( عن عائشة قالت جاءت يهودية فاستطعمت على بابي ) ( أحمد : 6 / 139 ) .
( دخلت يهودية عليها فاستوهبتها شيئاً ، فوهبت لها عائشة ) . ( سنن النسائي : 4 / 105 )
وقد اتهموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه كذب يهودية في مسألة عذاب القبر ، ثم رجع عن خطئه وصدقها ! قالت عائشة ( المسند الجامع : 19 / 549 ) : ( إن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية : وقاك الله عذاب القبر . قالت : فدخل رسول الله عليَّ فقلت : يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال : لا وعمَّ ذاك ؟ قالت : هذه اليهودية لانصنع إليها من المعروف شيئاً إلا قالت : وقاك الله عذاب القبر ، قال : كذبت يهود وهم على الله عز وجل أكذب لا عذاب دون يوم القيامة ! قال : ثم مكث بعد ذاك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه ، وهو ينادى بأعلى صوته :
أيها الناس أظلتكم الفتن كقطع الليل المظلم . أيها الناس ، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً . أيها الناس ، إستعيذوا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق ) .
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 3 / 187 ) : ( وفي هذا كله أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنما علم بحكم عذاب القبر ، إذ هو بالمدينة ) .
ثم أشكل ابن حجر على ذلك بقوله تعالى : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ . وهي مكية ، وأجاب بجواب ضعيف ، ولم يذكر الإشكال الأساسي كيف نفى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجزم ، ثم تراجع فأقر وهو مذهول !
وفي اعتقادنا أن هذا كله مكذوب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومثله عندهم كثير .
--------------------------- 244 ---------------------------
2 . هل أن اليهود الذين سموا أبيبكر ، قد سموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبله ! فقد روى البخاري وغيره أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحس في مرضه أنهم يريدون أن يلدوه ، فنهاهم ، أي صنعوا مرهماً وكانوا ينتظرون أن يغمى عليه ليضعوه في فمه عندما ىغشى علىه .
قال البخاري ( 7 / 17 ) : ( قالت عائشة : لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني ، فقلنا كراهية المريض للدواء . فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ! قلنا : كراهية المريض للدواء ، فقال : لا يبقى في البيت أحد إلا لُدَّ وأنا أنظر ، إلا العباس فإنه لم يشهدكم ) .
وفي رواية الحاكم ( 4 / 202 ) : والذي نفسي بيده لا يبقى في البيت أحد إلا لُدَّ ، إلا عَمِّي . قال فرأيتهم يلدونهم رجلاً رجلاً . فلُدَّ الرجال أجمعون ، وبلغ اللدود أزواج النبي فلددن امرأة امرأة ) !
ثم لا نجد وجهاً لأمره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نساءه بأخذ الدواء إلا أنه يشك في ذلك الدواء ، وأنه يريد القول للأجيال بأن ما حدث كان محاولة لسمه ! وقد كانت يهوديات يترددن على نسائه فقد تكون إحداهن أعدت اللدود ، فنهى الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن استعماله .
والعجيب أنهم لم يتهموا اليهود في لد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا في سم أبيبكر !
21 . تحريم الوهابية أن تقول لعلي : كرم الله وجهه
حرم الوهابية قول كرم الله وجهه لعلي ( عليه السلام ) لأنه تعريض بأبيبكر وعمر ، وانهما لم يُكَرَّم الله وجهيهما عن السجود الأصنام ، وإشارة إلى أنهما سجدا أكثر عمرهما للأصنام !
قال الوهابية في فتاواهم ( 26 / 42 ) : ( تخصيص علي بن أبي طالب بالدعاء له بكرم الله وجهه هو من صنيع الرافضة الغالين فيه ، فالواجب على أهل السنة البعد عن مشابهتهم في ذلك ، وعدم تخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الدعاء دون سائر إخوانه من الصحابة ، كأبيبكر وعمر وعثمان وغيرهم ، رضي الله عن الصحابة أجمعين ) .
وقالوا في فتاواهم ( 24 / 161 ) : ( الدعاء بكرم الله وجهه ، ليس من الأدعية المأثورة عن السلف الصالح ، ولكن يتخذه بعض أهل البدع وهم الرافضة شعاراً في الدعاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تمييزاً له عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا التمييز غير مشروع ، فلا يستعمل ) .
--------------------------- 245 ---------------------------
وقال ابن عثيمين في شرح العقيدة السفارينية ( 1 / 604 ) : ( يزعمون أنهم يصفونه بكرم الله وجهه ، لأنه لم يسجد لصنم ، ونقول لهم : إذا كان الأمركذلك فما أكثر الصحابة الذين لم يسجدوا لصنم ، فكل الذين ولدوا في الإسلام لم يسجدوا لصنم ، والذين ولدوا في الجاهلية لا نعلم أنهم سجدوا للأصنام أم لم يسجدوا ) .
وقال سلمان بن عودة في دروسه / 46 : ( لا ينبغي تخصيص علي رضي الله عنه بقول كرم الله وجهه ، ولايخصص بقول : ( عليه السلام ) , كما يفعله بعض الأئمة حتى إن الإمام الصنعاني في سبل السلام لا يذكره إلا ويقول : ( عليه السلام ) ، وهذا لا ينبغي ! لأن علياً رضي الله عنه صحابي ، حكمه حكم غيره من الصحابة ) .
وقد أجابهم جماعة العلماء ، فجاء في كتاب التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني / 87 : ( وقد مرَّ أن الحافظ بن حجر ذكر في الدرر الكامنة أن ابن تيمية خَطَّأ أمير المؤمنين علياً كرم الله وجهه في سبعة عشر موضعاً ، خالف نص الكتاب ، وأن العلماء نسبوه إلى النفاق لقوله هذا في علي كرم الله وجهه ، ولقوله أيضاً فيه إنه كان مخذولاً ، وإنه قاتل للرياسة لا للديانة . فمن شاء فليراجع قول ابن حجر في الدرر الكامنة ( 1 / 114 ) .
وقد ذكر ابن تيمية في حق علي في كتابه منهاج السنة ( 2 / 203 ) ما نصه : وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علينا ، ولا تاركاً له ، فأئمة السنة يسلمون أنه ما كان القتال مأموراً به ، لا واجباً ولا مستحباً ) .
في المصدر السابق ( 3 / 156 ) : فلا رأي أعظم ذماً من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين ، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم ، بل نقص الخير على ما كان وزاد الشرعلى ما كان ) .
قوله : إنه ما كان القتال مأموراً به لا واجباً ولا مستحباً ، غير صحيح ،
وهو مخالف لما رواه النسائي بالإسناد الصحيح في الخصائص عن علي رضي الله عنه أنه قال : أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، فالناكثون هم الذين قاتلوه في وقعة الجمل ، والقاسطون هم الذين قاتلوه في صفين ، والمارقون وهم الخوارج ،
--------------------------- 246 ---------------------------
وهذا الحديث ليس في إسناده كذاب ولا فاسق ، كما زعم ابن تيمية !
ثم إن علياً خليفة راشد واجب الطاعة على المؤمنين لقوله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، وقد قال الإمام أبو القاسم الرافعي محرر المذهب الشافعي : وثبت أن أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة .
وقد أثبتها الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ( 4 / 44 ) فقال بعد إيرادها : هو كما قال ، ويدل عليه : أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين . رواه النسائي في الخصائص والبزار والطبراني . والقاسطين أهل الشام لأنهم جاروا عن الحق في عدم مبايعته .
ومثله ذكر الحافظ في فتحه ( 13 / 57 ) : ( وقد ثبت أن من قاتل علياً كانوا بغاة . وأما قوله : إنه لم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم ، فهو باطل . روى الحاكم وابن حبان والنسائي في الخصائص أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فقال أبو بكر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا ، قال عمر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل ، وكان علي يخصف النعل . فالرسول زكى قتال عليٍّ في جميع الوقائع ، ومن قاتله كان عاصياً ، ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال للزبير : إنك لتقاتلنه وأنت ظالم له ، فالزبير مع جلالة قدره ظَلَمَ ولكنه ندم ورجع .
ثم يردُّ قوله هذا ، الحديث المتواتر الذي رواه البخاري : ويحُ عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم للجنة ويدعونه إلى النار : فعمار الذي كان في جيش علي كان داعياً إلى الجنة بقتاله مع علي ، فعليٌّ داعٍ إلى الجنة بطريق الأولى ، وعمار ما نال هذا الفضل إلا بكونه مع علي ، فهو وجيشه دعاة إلى الجنة ومقاتلوهم دعاة إلى النار ، فلو لم يكن إلا حديث البخاري لكفى في تكذيب ابن تيمية ، فكيف يقول إن القتال لاواجباً ولا مستحباً ، والرسول زكى قتال علي في جميع الوقائع !
وكيف يقول إنه لم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم وعلي كان داعياً إلى الجنة ، ومن قاتل معه فله أجر ، ومن خالفه فهو باغ ظالم .
وأضاف في التوفيق الرباني : فائدة في الثناء على علي في حروبه الثلاثة :
--------------------------- 247 ---------------------------
ذكر في كتاب الفرق بين الفرق / 350 ، ما نصه : وقالوا بإمامة علي في وقته ، وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبنهروان . وقالوا بأن طلحة والزبيرتابا ورجعا عن قتال علي ، لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع بعد منصرفه من الحرب ، وطلحة لما هم بالانصراف رماه مروان بن الحكم ، وكان مع أصحاب الجمل ، بسهم فقتله .
وقالوا : إن عائشة رضي الله عنها قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو ضبة والأزد على رأيها ، وقاتلوا علياً دون إذنها ، حتى كان من الأمر ما كان ) .
أقول : حجتهم في تحريم قولك كرم الله وجهه لعلي ( عليه السلام ) : أنه تمييز له عن غيره من الصحابة ، وأنه يتضمن التعريض بغيره بأنهم سجدوا للأصنام ، فهو حرام !
وأن صح فىحرم أن تذكر خصائص أي صحابي ، لأنك لو قلت علي ( عليه السلام ) شجاع فمعناه أن غيره جبان ، ولو قلنا رباه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغيره ناقص التربية .
وعليه يحرم عليك أن تمدح أحداً من الصحابة بصفة تخصه بل يجب أن تعمهم ولا تميز بعضهم على بعض ، لكن لو مدحت عائشة وأبا بكر وعمر وفضلتهم فلا بأس ، ولو مدحت ابن تيمية وابن عبد الوهاب وفضلتهم ، فأنت على الصراط المستقيم !
بل على كلامهم يحرم عليك أن تمدح أي إنسان ، فلو قلت هذا أميرٌ لكان تعريضاً بغيره أنه سَوَقة ، ولو قلت هذا طبيبٌ فمعناه أن غيره عامي !
وسبب كل هذا الإفراط بغضهم لعلي ( عليه السلام ) وحسدهم له ، لأن الله تعالى خصه بالكثير الكثير ! وقد قال تعالى : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا .
قال لي أحد الوهابية : لماذا تقولون إن الوهابية نواصب ؟ قلت له : عندكم مدرسة في القطيف سميتموها : مدرسة علي بن أبي طالب ، فكتب مديرها رسالة إدارية إلى وزارة التربية ، وكتب فيها : مدير مدرسة الإمام علي . ففصلتموه من وظيفته وعممتم على الوزارات أنه يحرم توظيفه .
وثانياً : تقولون إنكم حنابلة ، وهذا مسند أحمد مملوء من : كرم الله وجهه ، وأنتم
--------------------------- 248 ---------------------------
تحرمون قول ذلك لعلي ( عليه السلام ) .
وثالثاً : ينبُع أرض أعطاها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي من الغنائم ، فاستنبط فيها مئة عين وغرس فيها مئة ألف نخلة وسماها ينبع ، وهي الآن مدينة ، وقد سميتم فيها : شارع الخليفة أبيبكر الصديق ، وشارع الخليفة عمر الفاروق ، وسميتم شارعاً باسم : شارع علي بن أبي طالب ، بلا إمام ، ولا خليفة ، ولا كرم الله وجهه !
فهل هذا إلا بغضٌ ، وهل البغض أحمر أو أزرق ! ومبغض علي ( عليه السلام ) بالإجماع ناصبي منافق ، فيحق لنا أن نسميكم نواصب .
وأقوى ما قرأت لعالم سني في ذم ابن تيمية ، ما قاله الحافظ المغربي ابن الصديق الغماري في كتابه القول الجلي في انتساب الصوفية لسيدنا علي / 53 ، قال :
( بل بلغت العداوة من ابن تيمية إلى درجة المكابرة وإنكار المحسوس ، فصرح بكل جرأة ووقاحة ولؤم ونذالة ونفاق وجهالة أنه لم يصح في فضل علي ( عليه السلام ) حديث أصلاً ، وأن ما ورد منها في الصحيحين لا يثبت له فضلاً ولا مزية على غيره ، مع أن إمامه وإمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل رحمه الله يقول : لم يرد من الأحاديث بالأسانيد الصحاح في فضل أحد من الصحابة مثل ما ورد في علي ، وهكذا قال غيره من الحفاظ !
بل أضاف ابن تيمية إلى ذلك من قبيح القول في علي وآل بيته الأطهار ما دل على أنه رأس المنافقين في عصره لقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحديث الصحيح المخرج في صحيح مسلم مخاطباً لعلي ( عليه السلام ) : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق .
كما ألزم ابن تيمية بذلك أهل عصره وحكموا بنفاقه ، فيما حكاه الحافظ في ترجمته في الدرر الكامنة ، وكيف لايُلزم بالنفاق مع نطقه قبحه الله تعالى بما لا ينطق به مؤمن في حق فاطمة سيدة نساء العاملين رضي الله عنها ، وحق زوجها أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسيد المؤمنين ، فقد قال في السيدة فاطمة البتول : إن فيها شبهاً من المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في قوله : فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ .
قال لعنة الله عليه : فكذلك فعلت هي إذ لم يعطها أبو بكر رضي الله عنه من ميراث والدها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أما علي ( عليه السلام ) فقال : فيه : إنه أسلم صبياً وإسلام الصبي غير مقبول على
--------------------------- 249 ---------------------------
قول ، فراراً من إثبات أسبقيته للإسلام ، وجحوداً لهذه المزية . وأنه خالف كتاب الله تعالى في سبع عشرة مسألة ، وأنه كان مخذولاً أينما توجه ، وأنه يحب الرياسة ويقاتل من أجلها لا من أجل الدين ، وأن كونه رابع الخلفاء الراشدين غير متفق عليه بين أهل السنة ، بل منهم من كان يربع بمعاوية وهم بنو أمية بالأندلس ، سماهم أهل السنة وكذب عليهم عليه لعائن الله تعالى ، فإن هذا لم يحصل من أهل الأندلس أصلاً ، وإنما حكي هذا عن ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد في قصة تزلف فيها لبني أمية ، فذكر معاوية رابع الخلفاء ، فاتفق أهل الأندلس على ذمه وتقبيحه فيما فعل ، فأتى هذا الكذاب ونسب ذلك لأهل السنة من أهل الأندلس كلهم ، وزعم قبحه الله أن علياً ( عليه السلام ) مات ولم ينس بنت أبي جهل التي منعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الزواج بها !
بل فاه في حقه ( عليه السلام ) بما هو أعظم من هذا ، فحكى عن بعض إخوانه المنافقين أن عليا ( عليه السلام ) حفيت أظاهره من التسلق على أزواج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالليل ، في أمثال هذا من المثالب التي لا يجوز أن يتهم بها مطلق المؤمنين فضلاً عن سادات الصحابة رضي الله عنهم ، فضلاً عن أفضل الأمة بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فقبح الله ابن تيمية وأخزاه ، وجزاه بما يستحق وقد فعل والحمد لله ، إذ جعله إمام كل ضال مضل بعده ، وجعل كتبه هادية إلى الضلال ، فما أقبل عليها أحد واعتنى شأنها إلا وصار إمام ضلالة في عصره ، ويكفي أن أخرج من صلب أفكاره الخبيثة قرن الشيطان وأتباعه كلاب النار ، وشر من تحت أديم السماء الذين ملأوا الكون ظلمة ، وسودوا وجهه بالجرائم والعظائم في كل مكان .
والكل في صحيفة ابن تيمية إمام الضالين وشيخ المجرمين ، وقد قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من دعا إلى ضلالة كان عليه إثم من تبعه إلى يوم القيامة ) .
- *
--------------------------- 250 ---------------------------
الفصل الأربعون: من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع عمر بن الخطاب
من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع عمر بن الخطاب
1 . سكن علي ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسكن عمر قرب اليهود !
بنى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيته في المدينة وبنى معه بيتاً لعلي ( عليه السلام ) وسكن فيه هو وأمه فاطمة بنت أسد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ويظهر أن البيت كان صغيراً لأنه عندما تزوج علي بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهما بيتاً ، بعيداً نسبياً عن بيته ، ثم أخذ لهما بيتاً ملاصقاً لبيته .
أما عمر فنزل خارج المدينة في قباء قرب بني قريظة . وكان يأتي إلى مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين يوم وآخر . قال عمر كما في البخاري ( 1 / 31 ) : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك » .
وبنو أمية بن زيد جيران بني قريظة وبني زريق . « تاريخ المدينة : 1 / 170 ، وابن إسحاق ( 3 / 299 ) وابن هشام ( 2 / 569 » وبين قباء والمسجد خمسة أميال . ( البخاري : 3 / 219 )
وبنو زريق هم الذين عربوا لعمر التوراة : « جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخٍ لي من بني زريق ، فتغير وجه رسول الله » ! « مجمع الزوائد : 1 / 174 ، ووثقه » . ثم جاء بنسخ أخرى وطلب من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يتبناها فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وصعد المنبر وحذر من عمر ورفقائه المتهوكين !
--------------------------- 251 ---------------------------
2 . لم يضرب أبو بكر وعمر بسيف ، ولا طعنا برمح ، ولا رمىا بسهم !
فكانا يذهبان معه في غزواته أو مع بعض السرايا جنديين مأمورين ، ولم يكن لهما أي دور قتالي في الحروب ، بل كانا يحفظان نفسيهما في الصف الخلفي أو يفران . ولم يؤمَّرهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على سرية أو غزوة ، إلا تأميرهما في خيبر فرجعا مهزومين ، والمسلمون يتهمونهما بالجبن ! وقد وصفهما علي ( عليه السلام ) وعثمان بقوله : ( ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولاغَناءٌ معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ورغبةً في البقاء ) .
( كتاب سُليم / 227 ) .
وقال عمر عن نفسه في بدر إنه رأى العاص بن أبي أحيحة فهرب منه ! قال لابنه سعيد بن العاص : « مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه ! فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له عليٌّ فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله ! فقال له علي : اللهم غفراً ، ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم ، فما لك تهيِّج الناس عليَّ ؟ فكفَّ عمر .
وقال سعيد : أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب » . « ابن هشام : 2 / 464 ، وكشف الغمة : 1 / 186 » .
فقد اعترف عمر بأنه هرب من قرنه ، فشملته آيات الفرار ! ومع ذلك زعموا أنه وأبا بكر كانا في العريش مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفضلوهما على علي ( عليه السلام ) الذي تحمل نصف أعباء المعركة ، وجندل بسيفه نصف قتلى بدر من طغاة قريش !
وأجابهم الشريف المرتضى ( قدس سره ) في الفصول المختارة / 34 ، فقال : « إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبيبكر وعمر مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العريش أفضل من جهاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف ، لأنهما كانا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مستقره يدبران الأمر معه ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه . . إلى أن قال : فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما ، فقد ثبت أنه كان
--------------------------- 252 ---------------------------
كاملاً وأنهما كانا ناقصين عن كماله ، وكان معصوماً وكانا غير معصومين ، وكان مؤيداً بالملائكة وكانا غيرمؤيدين ، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك ، فأي فقريحصل له مع ما وصفناه » !
وقال المفيد في الإفصاح / 198 : « ثم يقال لهم : خبرونا عن حبس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه ، وتدبيرهما الأمر معه أقلتم ذلك ظناً أو حدساً ، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين ؟ فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم ، فكفاهم بذلك خزياً في مقالهم وشناعةً وقبحاً ، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه ) .
أقول : من الثابت عند الجميع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل في بدر قتالاً شديداً ، ولم يكن معه أبو بكر وعمر ، فأين كانا وقت القتال ؟
قال علي ( عليه السلام ) : لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » ! « مكارم الأخلاق / 18 » ورواه ابن أبي شيبة : 7 / 578 ، وتاريخ دمشق : 4 / 14 ، وكنز العمال : 10 / 397 ، وصححه الطبري ، وحسنه في مجمع الزوائد : 9 / 12 .
فلابد من القول إن أبا بكر كان مثل عمر يحفظ نفسه في الصف الخلفي . وقد اعترف المتعصبون لهما بأنهما لم يقاتلا في أي معركة ، وقالوا إنهما قاتلا بالكلام والدعوة إلى الإسلام ، فهما أشجع من علي ( عليه السلام ) ! وأول من ابتدع ذلك ابن حزم ، وفرح به ابن تيمية فقال في منهاجه ( 8 / 86 ، و 78 ) : فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة . . وأبو بكر وعمرمقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن !
قال أبو محمد بن حزم : وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً ، والجهاد أفضل الأعمال . وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة : أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان ، والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير ، والجهاد باليد في الطعن والضرب أقل مراتب الجهاد !
ثم قال ابن تيمية : « وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب ، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر ، وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وهذا
--------------------------- 253 ---------------------------
يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم ، فإن أبا بكر باشرالأهوال التي كان يباشرها النبي من أول الإسلام إلى آخره ، ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل ، وكان يقدم على المخاوف يقي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله ، وهو في ذلك كله مقدم ! وكان يوم بدر مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله ، وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي ويعاونه » ! وكرر ابن تيمية هذره هذا في كتبه !
ورد عليه علماء الشيعة : الغدير : 7 / 200 ، ومحاضرات الميلاني : 1 / 324 ، ودراساته في منهاج السنة / 214 ، والصحيح من السيرة : 5 / 41 . والظاهر أنه لم ىكن عرىش في بدر أصلاً !
3 . شَبَّهَ عمر هروبه في أحُد بهروب العنزة البرية
فقد انهزم المسلمون عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو المدينة أوجبل أحد ، وقال عمر في خطبته عن نفسه كما في تفسير الطبري ( 4 / 193 ) : « لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد » !
وزعموا أن أبا بكر لم يهرب في أحد ، قال ابن سعد ( 2 / 42 ) : « ثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبوبكرالصديق وسبعة من الأنصار » .
لكن عائشة كذَّبته فقالت كان أبوها من أوائل الذين رجعوا من الهزيمة ! قال ابن سعد « 3 / 155 » : « عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد » .
4 - ولحقهم علي ( عليه السلام ) في أول فرارهم ووبخهم !
في تفسير القمي ( 1 / 114 ) : « وروي عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال : كنت أماشي فلاناً « عمر » إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه ، ماذا يا فلان ؟ قال ويحك أما ترى الهزير القضم ابن القضم . فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب ، فقلت له : يا هذا هو علي بن أبي طالب ! فقال : أدن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته ، بايعنا
--------------------------- 254 ---------------------------
النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال ، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه ، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا ، فرأيت علياً كالليث يتقي الدَّر ، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال : شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلى أين تفرون ، إلى النار ! فلم نرجع ، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال : بايعتم ثم نكثتم ؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل ! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً ، أو كالقدحين المملوين دماً ، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا ، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت : يا أبا الحسن الله الله ، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفي الفرة ، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني ، فما زلت أسكن روعة فؤادي ! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة » !
5 - هرب عُمر من ابن ود ومن ضرار بن الخطاب الفهري !
قال علي ( عليه السلام ) : ( وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتَغَيَّر ( أظهر الغيرة ) وأمر ونهى . ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما رآى به من الرعب ! وقال : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي . والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا » . ( كتاب سليم / 347 ) .
وفي تفسير القمي ( 2 / 183 ) : ( وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار : ويحك يا ابن صهَّاك أترميني في مبارزة ! والله لئن رميتني لاتركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته ! فانهزم عنه عمر ، ومرَّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثم قال : إحفظها يا عمر . . فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما وليَ ، فولاه ) !
--------------------------- 255 ---------------------------
6 . وهرب عُمر في حرب خيبر !
أبقى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في منطقة حصن ناعم ليرتب أمرها ، وجاء بجيشه إلى حصن القموص وهو يبعد بضعة كيلو مترات ، وكان يعطي الراية لبعض أصحابه ، فيوماً لسعد بن عبادة ، ويوماً للزبير ، ويوماً لطلحة ، ويوماً لسعد بن أبي وقاص ، ويوماً لأبيبكر ، ويوماً لعمر بن الخطاب . وكان الجميع يرجعون مهزومين ! ولم يجرؤوا على العبور إلى مرحب لمبارزته ! ولذا قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : « يا علي إكفني مرحباً » . « أمالي الطوسي / 4 ، والخرائج : 1 / 217 » .
وفي رواية مجمع الزوائد : 6 / 151 ، أن هزيمة عمر كانت سريعة قال : « بعث عمر ومعه الناس ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ) !
ووثق في الزوائد ( 6 / 151 ، و : 9 / 124 ) رواية أحمد : « أن رسول الله أخذ الراية فهزها ثم قال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال : أمِطْ » ( إذهب عني ) ! « ثم جاء رجل آخر فقال : أمط ! ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلاً لا يفر ، هاك يا علي ! فانطلق حتى فتح الله عليه ) . وشرح الأخبار : 1 / 321 والعمدة / 139 ، وأبو يعلى : 2 / 499 ، وأحمد : 3 / 16 ، وتاريخ دمشق : 1 / 194 ، ونهاية ابن الأثير : 4 / 381 .
وفي صحيح مسلم ( 7 / 131 ) : ( قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ، قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ، قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها ، قال : فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها ، وقال : إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ) .
7 . وكان علي مطيعاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحديبية بينما انشق عنه عمر
كان علي ( عليه السلام ) في الحديبية صاحب لواء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقائد جيشه ، وقد نفذ مجموعة عمليات ضد جيش قريش ، وأسر منهم نحو ثمانين رجلاً ، وكتب المعاهدة المعروفة بين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقريش . وكان في كل ذلك مطيعاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد مدحه وأطلق فيه أقوالاً عظيمة ، كما بينا في السيرة النبوية ، منها ما رواه الخطيب البغدادي في
--------------------------- 256 ---------------------------
ثلاثة مواضع من تاريخه » 2 / 377 ، و : 3 / 181 ، و : 4 / 441 « عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو آخذ بضبع على يوم الحديبية وهو يقول : هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله . مد بها صوته » .
وروى الخطيب أيضاً قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد البيت فليأت الباب ! وتاريخ دمشق : 42 / 226 ، و 282 ، وفتح الملك العلي لابن الصديق المغربي / 57 ، والحاكم : 3 / 129 ، لكن الأخير لم يذكر أن مناسبته في الحديبية .
وقال الخطيب التبريزي في الإكمال / 111 : « هذا حديث حسن صحيح فقد حسنه ابن حجر والعلائي وجماعة ، وصححه ابن معين وابن جرير والحاكم والسيوطي والعلامة الهندي وجماعة من السلف . وله شاهد من حديث ابن عباس عنه الطبري والطبراني والحاكم والخطيب ، ومن حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عنه الترمذي وابن جرير ، وقد تكلم فيه جماعة من المتعنتين والمتعصبين في الجرح فلا يلتفت إليهم !
ورواه من مصادرنا : الطوسي في الأمالي / 483 ، والطبري الشيعي في المسترشد / 622 ، عن محمد بن المنكدر ، وفيه أنه يوم الحديبية .
وقال العلامة في كشف اليقين / 136 : « وله في هذه الغزاة فضيلتان ، إحداهما : أنه لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزاة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك بالروايا فغاب قريباً وعاد وقال : لم أقدر على المضي خوفاً من القوم ! فبعث آخر ففعل كذلك ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بالروايا فورد واستسقى وجاء بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعا له بخير .
والثانية ، وذكر حديث تهديد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقريش بعلي ( عليه السلام ) وفيه : « وأومأ إلى علي فإنه يقاتل على التأويل إذا تُركت سنتي ونُبذت ، وحُرِّف كتاب الله ، وتكلم في الدين من ليس له ذلك ، فيقاتلهم على إحياء دين الله » .
أما عمر فأمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحمل رسالة من الحدىبىة إلى قريش فقال : « إن عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ، ولكني أدلك على عثمان » . « الكافي : 8 / 326 » .
ولما كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معهم كتاب الصلح ، غضب عمر على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
--------------------------- 257 ---------------------------
قال الطبري الشيعي في المسترشد / 536 : « فغضب الثاني وقال لصاحبه : يزعم أنه نبي وهو يرد الناس إلى المشركين ! ثم أتى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ألست برسول الله حقاً ؟ قال : بلى قال : ونحن المسلمون حقاً ؟ قال : بلى ، قال : وهم الكافرون ؟ قال : بلى ، قال : فعلى مَ نعطي الدنية في ديننا ؟ !
فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنما أعمل بما يأمرني به الله ربي ، إنه من خرج منها إليهم راغباً فلا خير لنا في مقامه بين أظهرنا ، ومن رغب فينا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً .
فقال : والله ما شككت في الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك ! وقام من عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متسخطاً لأمر الله وأمر رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غير راض بذلك ، ثم أقبل يمشي في الناس ويؤلب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويعرض به ويقول : وعدنا برؤياه التي زعم أنه رآها يدخل مكة ، وقد صُددنا عنها ومُنعنا منها ثم ننصرف الآن وقد أعطينا الدنية في ديننا ! والله لو أن معي أعواناً ما أعطيت الدنية أبداً ) !
وقال ابن عباس كما في الواقدي ( 1 / 607 ) : ( قال لي في خلافته وذكر القضية : إرتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلى يومئذ ، ولو وجدت شيعة أخرج معهم رغبة عن القضية لخرجت » !
أي لخرجت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقاتلته ! والسبب أنه بعد الصلح يبقي شخصاً عادياً من بني عدي ! وهو يريد أن يدخل منتصراً على قريش ، ويأخذ بالنبي موقعاً !
قال المحامي الأردني في كتاب المواجهة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 369 : « لقد اعتبر عمر هذه المعاهدة ( دنية ) وقال للرسول أمام المسلمين : فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ! وظهر الرجل بمظهر من يزاود على الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالدين ، الذي علمه الرسول إياه ! وقبل يوم واحد فقط طلب رسول الله من عمر أن يذهب إلى بطون قريش ليقول لها : بأن رسول الله لم يأت لقتال أحد إنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته ، معنا الهدي ننحره وننصرف ، فرفض وقال : يا رسول الله إني أخاف
--------------------------- 258 ---------------------------
قريش على نفسي وليس بها من بني عدي من يمنعني » ( مغازي الواقدي : 2 / 600 ) .
واعتزل عمرجانباً فلم يبايع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبقيت في نفسه عقدة من بيعة المسلمين تحت الشجرة ، فقطعها في خلافته !
8 - وهرب عُمر في غزوة حنين
قال ابن هشام ( 4 / 893 ) : « وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال : أيها الناس هلموا إليَّ ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله ! قال : فلا شئ » .
ولم يقاتل أحدٌ في حنين بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن حوله ، إلا علي ( عليه السلام ) بدليل عدم وجود شهداء للمسلمين ! وعدم وجود قتلى للمشركين إلا من قتلهم علي ( عليه السلام ) !
وفي صحيح بخاري : 4 / 57 ، قال أبو قتادة : « فلحقتُ عمر بن الخطاب فقلتُ : ما بال الناس ؟ قال : أمر الله » ! فإن كان يقصد نسبة الفرار إلى الله تعالى فهو افتراء !
وفي المناقب ( 1 / 355 ) : « وقف ( علي ( عليه السلام ) ) يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف ، إلى أن ظهر المدد من السماء . وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أباجرول ، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس » .
أقول : كان أبو جرول على جمل فضرب علي ( عليه السلام ) قوائمه فوقع على عجزه ، فعلاه بذي الفقار وقدَّه نصفىن . ولا بدأنه ففز لىعلوه ! وله مع مرحب مثلها !
وفي سيرة ابن هشام : 4 / 896 : « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » ! والدرر لابن عبد البر / 227 .
9 . وتخلف عمر عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد حنين
فقد زعم أن عليه نذراً بالإعتكاف من أيام الجاهلية ، فلم يرجع مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة بل ذهب إلى مكة ليعتكف ، ومعه جارية من غنائم هوازن ، ولما أطلق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سبي هوازن تركته الجارية ورجعت إلى أهلها .
وقد روى خبر تأخره البخاري ( 4 / 59 ) ومسلم ( 5 / 89 ) . والمرجح أنه ذهب للتشاور مع زعماء قريش الطلقاء ، ووضع الخطط لأخذ خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أهل بيته .
--------------------------- 259 ---------------------------
10 . هل كان أبو بكر وعمر في مؤامرة العقبة ؟
روت هذه المؤامرة مصادر الجميع ، وتُعرف بليلة العقبة ، ويُعرف منفذوها بأصحاب العقبة ! وقد تلثموا وصعدوا ليلاً إلى الجبل وبدؤوا بإلقاء الصخور على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما وصل إلى العقبة ، فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) وأضاء بجناحه وكشفهم ، فنزلوا مسرعين واختلطوا بالجيش ، ولم يعلن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسماءهم لخطورة ذلك
على الإسلام !
روى مسلم في صحيحه ( 8 / 123 ) عن أبي الطفيل قال : « كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال فقال له القوم : أخبره إذْ سألك ! قال : كنا نُخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ! وأشهد بالله أن اثني عشرمنهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) !
وتدل هذه الرواية الرسمية على أن المتآمرين كانوا بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المسلمين وكان حذيفة يعرفهم وكذا عمار ، وكذا أهل البيت ( عليهم السلام ) ! قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ .
قال البيضاوي ( 3 / 158 ) : وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا من الفتك بالرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي ، إذا تسنم العقبة بالليل ! فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل ، وقعقعة السلاح فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا » .
قال ابن حزم في المحلى ( 11 / 224 ) : ( وأما حديث حذيفة فساقط لأنه من طريق الوليد بن جُميع ، وهو هالك ، ولا نراه يَعلم من وضع الحديث ، فإنه قد روى
--------------------------- 260 ---------------------------
أخباراً فيها أن أبا بكر وعمروعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أرادوا قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإلقاءه من العقبة في تبوك ! وهذا هو الكذب الموضوع الذي يطعن الله تعالى واضعه فسقط التعلق به ، والحمد لله رب العالمين .
انتهى كلام ابن حزم ، وقد كذَّب الحديث لأن راويه ابن جمُيَعْ ضعيف ، لكنه موثق في مصادرهم ، وقد وثقه ابن حزم نفسه فعده من رجال مسلم ( 11 / 221 ) !
وفي الجرح والتعديل ( 9 / 8 ) : ( كان يحيى بن سعيد لا يحدثنا عن الوليد بن جميع ، فلما كان قبل موته بقليل حدثنا عنه ، وروى عن أحمد قال : ليس به بأس . وعن يحيى بن معين : الوليد بن جميع ثقة . قال سألت أبا زرعة قال : لا بأس به ) . ووثقه آخرون !
11 . علي ( عليه السلام ) وعمر في حجة الوداع
روى الجميع تأكيدات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع على احترام دماء المسلمين وحرياتهم ، وتحذيره لهم أن ينقلبوا على أعقابهم ويرجعوا كفاراً يتنازعون سلطانه ، ويضرب بعضهم رقاب بعض لأجل السلطة .
ورووا تأكيداته المكررة على اتباع عترته أهل بيته ( عليهم السلام ) وعلى القرآن . وبشارته للمسلمين بأن الله اختار لهم اثني عشر إماماً ربانياً من بعده ، غرسهم الله في هذا البطن من هاشم .
ولم يرق لقريش تأكيده على عترته فقالوا إنه قال إن الأئمة هم القرشيون ، وائتمروا أن يعزلوا عترته ، ويأخذوا قيادة دولته ، ويبايعوا أحد القرشيين المعروفين من صحابته ، وكتبوا بينهم صحيفة بذلك ! فقد قال علي ( عليه السلام ) لأصحاب السقيفة لما طلبوا منه البيعة ( الإحتجاج : 1 / 108 ) : ( لشد ما وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة : إن قتل الله محمداً أو أماته ، أن تزووا هذا الأمر عنا أهل البيت !
فقال أبو بكر : وما علمك بذلك أطلعناك عليها ؟ قال علي يا زبير ويا سلمان وأنت يا مقداد أذكركم بالله وبالإسلام ، أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك : إن فلاناً وفلاناً حتى عد هؤلاء الخمسة ، قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا ؟ قالوا : اللهم نعم ، قد سمعناه يقول ذلك لك ، فقلتَ له : بأبي أنت وأمي يا نبي الله فما تأمرني أن أفعل إذا كان ذلك ؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم
--------------------------- 261 ---------------------------
ونابذهم وإن لم تجد أعواناً فبايعهم ، واحقن دمك ) .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( دخلت مع أبي الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين ، فقال : في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو قتل ، ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً ) ! ( الكافي : 4 / 545 ) .
وفي تاريخ المدينة لابن شبه ( 3 / 942 ) : ( لما أتيَ بجنازة عمر فوضعت فقال علي : ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته ، من أن ألقاه بصحيفة هذا المسجى بينكم ) .
وفي معاني الأخبار / 413 : ( عن مفضل بن عمر قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن معنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه لما نظر إلى الثاني وهو مسجى بثوبه : ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفة من هذا المسجى ، فقال : عنى بها الصحيفة التي كتبت في الكعبة ) !
12 . قاد عمر الطلقاء فصاحوا بوجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومنعوه من كتابة عهده !
روت المصادر حديث الانقلاب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قريش ، فقد وقف في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه وردَّ عليه ، ومنعه أن يكتب لأمته عهداً يُؤمِّنُها من الضلال ، ويجعلها سيدة العالم ! فصاح في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : حسبنا كتاب الله . وصاح خلفه الطلقاء : القول ما قاله عمر ،
لا تقربوا له شيئاً !
قال البخاري ( 1 / 36 ) : « عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا : وكثر اللغط ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع . فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين كتابه » !
بل قال : إن نبىكم لىهجر ، أي خرفان ! واستفهموه لأثبت لكم !
--------------------------- 262 ---------------------------
13 . وقاد عمر تسويف تحرك جيش أسامة !
وذلك أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه أفرغ المدينة من مخالفي علي ( عليه السلام ) وأرسلهم إلى مؤتة بقيادة أسامة بن زيد ، وهو شاب أسود عمره ثماني عشرة سنة . وصح عنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه قال : ( أنفذوا بعث أسامة ، لعن الله من تخلف عنه ) !
قال الجرجاني في شرح المواقف ( 8 / 376 ) : ( فقال قوم بوجوب الاتباع لقوله ( عليه السلام ) جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عنه . وقال قوم بالتخلف انتظاراً لما يكون من رسول الله ( عليه السلام ) في مرضه ) .
وفي سيرة ابن هشام : « 4 / 1025 ، و 1064 » : « استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة ( قالها عمر ) : أمَّرغلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار ! فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقاً لها ) !
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لرئيس اليهود ( الخصال / 372 ) : ( ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد ، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمرأمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد !
فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم ، وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له
--------------------------- 263 ---------------------------
وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي .
فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ) .
14 . وقاد عمر عمليات السقيفة !
فقد ترك جيش أسامة بدون إذنه ، وأقبل هو وأبو بكر وأبو عبيدة راكضين إلى المدينة ، وما أن توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى قال العباس : مُدَّ يدك يا علي لأبايعك ليقولوا عم رسول الله بايع ابن عمه ، فلا يطمع بها طامع ، فلم يقبل علي ذلك ، عملاً بوصية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فشهر عمر سيفه وأخذ يمشي في السكك حول المسجد ويقول : من قال إن رسول الله مات ضربته بسيفي هذا ، لم يمت رسول الله بل غاب وسيعود ويقتل من قال إنه مات ، ويقطع أيديهم وأرجلهم .
يريد بذلك منع البيعة لعلي ( عليه السلام ) . حتى جاء أبو بكر وقال : ( إن الله نعى نبيكم إلى نفسه ، قال : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . فقال عمر : هذه الآية في القرآن ؟ والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم ) . ( الدر المنثور : 2 / 81 ) .
واطمأن عمر وأبو بكر إلى أن بيعة علي ( عليه السلام ) لا تحصل اليوم : ( فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان ( سيرة ابن كثير : 4 / 491 ) إلى بيت سعد بن عبادة ، ولقيهم في الطريق أبو عبيدة ، واثنان من خصوم سعد ، فتناقشوا في بيت سعد قليلاً ، وقدم عمر أبا بكر وصفق على يده على أنه خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وتراكض الطلقاء يبايعونه
--------------------------- 264 ---------------------------
ويحيطون به ! وجاؤوا به إلى المسجد يزفونه ،
قال البراء بن عازب : ( فجعلت أتردد بينهم وبين المسجد وأتفقد وجوه قريش ، فإني لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر ، ثم لم ألبث حتى إذا أنا بأبيبكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية ، لا يمر بهم أحد إلا خبطوه ، فإذا عرفوه مدوا يده فمسحوها على يد أبيبكر شاء أم أبى ! فأنكرت عقلي ! وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً وقلت : قد بايع الناس لأبيبكر بن أبي قحافة ، فقال العباس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني ! فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعماراً ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ! ) . ( السقيفة للجوهري / 48 ، وكتاب سليم / 139 ، وشرح النهج / 219 ) .
ويبدو أن الأزر الصنعانية جاء بها والي اليمن يعلى بن أمية ، وأنه كان من الأول معهم ! وبلغ ذلك علياً ( عليه السلام ) وهو مشغول بتجهيز جنازة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأجاب على فعلهم بما بيناه في محله . ثم كان هجومهم على بيته ( عليه السلام ) لإجباره على البيعة .
15 . واصل عمر هجومه على بيت علي ( عليه السلام ) حتى أخذوه !
قال سُليم / 150 : ( فأرسل عمر يستغيث ، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وثار علي ( عليه السلام ) إلى سيفه ، فرجع قنفذ إلى أبيبكر وهو يتخوف أن يخرج علي إليه بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته . فقال أبو بكر لقنفذ : إرجع فإن خرج وإلا فاقتحم عليه بيته ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النار .
فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وثار علي ( عليه السلام ) إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه وهم كثيرون ، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه ، وضبطوه فألقوا
في عنقه حبلاً ) !
--------------------------- 265 ---------------------------
16 . وضرب عمر وأصحابه فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
فقد كان يحث أبا بكر على مهاجمة بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن اعتصم معهم ، وإجباره على البيعة ، وقاد هو الهجوم على بيت علي أكثر من مرة ، وشاركه في الجرم ثمانية عشر نفراً أو أكثر ، وضرب فاطمة ( عليها السلام ) هو وصاحبه قنفذ بنعل السيف على عضدها وجنبها ، فكسروا ضلعها وأسقطت جنينها ، صلوات الله عليها .
وبعد مدة كانت الزهراء ( عليها السلام ) خارجة من عند أبيبكر وقد كتب لها كتاباً بإرجاع فدك ، فرآها عمر وأخذ منها الكتاب بالقوة ومزقه ! إلى آخر ما ارتكبه في حقها ( عليها السلام ) .
وفي رواية فريدة أن الزهراء ( عليها السلام ) أخذت ذات مرة بتلابيب عمر وجرته ( الكافي ( 1 / 460 ) : ( عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قالا : إن فاطمة ( عليها السلام ) لما أن كان من أمرهم ما كان ، أخذت بتلابيب عمر فجذبته إليها ثم قالت : أما والله يا ابن الخطاب لولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له ، لعلمت أني سأقسم على الله ثم أجده سريع الإجابة ) !
17 . جَلَدَ علي ( عليه السلام ) بعمر الأرض مرتين أيام السقيفة !
الأولى : لما هاجموا بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل ، فاستقبلته فاطمة ( عليها السلام ) وصاحت : يا أبتاه يا رسول الله ، فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت : يا أبتاه ! فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت : يا رسول الله ، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر !
فوثب علي ( عليه السلام ) فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله فذكر قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما أوصاه به ، فقال : والذي كرم محمداً بالنبوة ، يا ابن صهاك ، لولا كتاب من الله سبق ، وعهد عهده إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلمت أنك لا تدخل بيتي ) ! ( كتاب سليم / 150 و 387 ) .
والثانية : لما ختم مناقشات أنصاره ( عليها السلام ) لأهل السقيفة في المسجد الإحتجاج : 1 / 105 ) : ( قام إليه سلمان الفارسي فقال : الله أكبر الله أكبر ، سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بهاتين
--------------------------- 266 ---------------------------
الأذنين وإلا صمتا يقول : بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه ، إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه ! فلست أشك إلا وأنكم هم ! فهمَّ به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ، ثم قال : يا ابن صهاك الحبشية ، لولا كتاب من الله سبق ، وعهد من رسول الله تقدم ، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً !
ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا
إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ .
والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو لقضية أقضيها ، فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يترك الناس في حيرة ) .
والثالثة : شبيهة بهما ، عندما أراد عمر أن ينبش قبر فاطمة ( عليها السلام ) ليصلي عليها هو وأبو بكر ( كتاب سليم / 393 ) : ( فقال عمر : والله لا تتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبداً . إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب . والله لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها . فقال علي ( عليه السلام ) : والله لو رمت ذلك يا ابن صهاك لارجعت إليك يمينك . والله لئن سللت سيفي لا غمدته دون إزهاق نفسك ، فرم ذلك ! فانكسر عمر وسكت ، وعلم أن علياً إذا حلف صدق !
ثم قال علي ( عليه السلام ) : يا عمر ، ألستَ الذي هم بك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأرسل إلي ، فجئت متقلداً بسيفي ، ثم أقبلت نحوك لأقتلك ، فأنزل الله عز وجل : فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ! فانصرفوا ) .
18 . سرقوا مناقب علي ( عليه السلام ) وأعطوها لعمر !
قال المسعودي في التنبيه والإشراف / 200 : « كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أصحابه قبل هجرته بالهجرة إلى المدينة ، فخرجوا أرسالاً ، فكان أولهم قدوماً أبو سلمة عبد الله بن عبدالأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وعامر بن ربيعة ، وعبد الله بن جحش الأسدي ، وعمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة » .
--------------------------- 267 ---------------------------
فقد كان عمر من أوائل المهاجرين ، قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمدة . وكانت هجرته سراً مفرداً ، قال عمر : « اجتمعنا للهجرة ، أوعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص الميضاة » . ( مجمع الزوائد : 6 / 61 ، ووثقه ونحوه ابن هشام : 2 / 63 ) . أي واعد رفيقيه عند ميضأة بني غفار في المدينة ، لا في مكة ، ولا في الطريق !
وقال البخاري ( 2 / 264 ) : « قال البراء بن عازب : أول من قدم علينا مصعب وبلال وسعد وعمار ، ثم عمر بن الخطاب ، في عشرين من أصحاب النبي
ثم قدم النبي » .
وكانت هجرة علي ( عليه السلام ) الهجرة العلنية الوحيدة ، فسرقوها وأعطوها إلى عمر ، ومن بهتانهم جعلوا روايتها على لسان علي ( عليه السلام ) وأنه قال : « ما علمت أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب » « أسد الغابة : 4 / 58 » .
وهذا لا يتفق مع اختباء عمر حتى أجاره العاص بن وائل كما رووا ! قال البخاري ( 4 / 242 ) : ( بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية فقال له : ما بالك ؟ قال : زعم قومك أنهم سيقتلونني إن أسلمت . قال لا سبيل إليك ، أمنت . فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : نريد هذا ابن الخطاب الذي صبا ، قال لا سبيل إليه ، فكرَّالناس ) .
أما ابن الجوزي فيدهشك في كتابه : المدهش / 224 ، بقوله : « هاتوا لنا مثل عمر ! كل الصحابة هاجروا سراً وعمر هاجر جهراً ، وقال للمشركين قبل خروجه : ها أنا على عزم الهجرة ، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي » !
وهكذا يتجاهر الشيخ ابن الجوزي بالمكذوبات ، ويزعم أن عمر شجاع ، ولم نره عند أي خطر عرض للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ولاعند نزول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قباء ولا
في بناء المسجد !
--------------------------- 268 ---------------------------
19 . قرر أبو بكر وعمر تغييب سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخالفهم علي ( عليه السلام )
أصدر أبو بكر وعمر مراسيم منع تدوين السنة وأحرقا ما كتبه المسلمون منها ، ومنعا الصحابة من التحديث عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحت طائلة العقوبة والسجن !
قالت عائشة : « جمع أبي الحديث عن رسول الله وكانت خمس مائة حديث ، فبات ليلته يتقلب كثيراً ! قالت : فغمني فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشئ بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها فدعا بنار فحرقها ، فقلت لم أحرقتها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني » ! ( تذكرة الحفاظ : 1 / 5 ) .
أما عمر فأحرق السنة ولم يتأرق !
قال في الطبقات ( 5 / 140 ) : « أنشد الناس أن يأتوه بها ، فلما أتوه بها أمر بتحريقها » ! وقالوا طلب المهلة شهراً لما طلبوا منه تدوينها ، ثم استخار الله فأمره الله أن يحرقها ، فحرقها ! ( كنز العمال : 10 / 291 ) .
وقد بحث ذلك المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب ، في كتابه القيم : أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها ؟ وعقد فيه ثمانية أبواب :
الباب الأول : مكانة سنة الرسول في دين الإسلام .
والثاني : من يؤدي عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من يبين القرآن ومن يبلغ السنة بعد موته ؟
والثالث : مخططاتهم لنسف الإسلام وتدمير سنة الرسول بعد موته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
والرابع : سنة الرسول بعد موت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
والخامس : منع كتابة سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل وبعد استيلائهم على الخلافة .
والسادس : استبدال سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسنة الخلفاء !
والسابع : إباحة كتابة ورواية سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد مائة عام من تحريمها !
والثامن : أهل بيت النبوة وسنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقال في / 269 : ( كان لعمر بن الخطاب مفهومه الخاص به عن سنة الرسول بأنواعها
--------------------------- 269 ---------------------------
الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية . وبقي عمر وفياً لهذا المفهوم في صحة النبي وفي مرضه ، وقبل أن يتولى عمرالخلافة وبعد أن تولاها .
والظاهر من أقوال عمر ومن تصرفاته أنه كان لا يعتقد بأن كل ما يقوله الرسول أو يفعله صحيحاً أو من عند الله ! لقد أقنع نفسه بأن له الحق بإبداء مطالعاته على ما يقوله الرسول أو يفعله !
قال عبد الله بن عمرو بن العاص : كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش . فعمر كان على رأس قريش التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابة كل شئ يسمعه من رسول الله ، بدعوى أن الرسول يتكلم في الغضب والرضا . وحسب هذا الخبر الصحيح فإن عمر كان يعتقد بأنه ليس كل ما يقوله الرسول صحيحاً ، وجديراً بالكتابة ) !
وروى الحاكم ( 1 / 110 ) : ( أن عمر قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر : ما هذا الحديث عن رسول الله ! وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب ) .
ومن عجيب ما رأيت قول محمد رشيد رضا في تفسير المنار ( 10 / 766 و : 19 / 511 ) بعد أن ذكر نهيهم عن كتابة الحديث وإحراقهم ما كتبه الناس : ( قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث كلها ديناً عامَّاً دائماً ، كالقرآن ) .
وكلام هذا الناصبي صحيح ، فمذهب هؤلاء ينقض قوله تعالى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا : فهم يقولون : ما آتاكم الرسول فخذوا بعضه ، وما نهاكم عنه فانتهوا عن بعضه ، والذي يعين لكم ما تأخذون وما ترمون :
عمر بن الخطاب !
أما علي ( عليه السلام ) فقد بَلَّغَ أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكتابة سنته لأنها كلها حق ، ووقف ضد سياسة منع الحديث ، وكان يأمر بالتحديث والتدوين ، وعلى خطه سار الأئمة
من أبنائه ( عليهم السلام ) .
قال ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أكتبوا هذا العلم فإنكم تنتفعون به ، إما في دنياكم وإما في آخرتكم ، وإن العلم لا يضيع صاحبه ) . ( كنز العمال : 10 / 262 ) .
--------------------------- 270 ---------------------------
وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( يا معشر المسلمين واليهود : أكتبوا بما سمعتم فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الكتابة أذكر لكم ) . ( الإحتجاج : 1 / 42 ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا ) . ( الكافي : 1 / 52 )
20 . عمر والقرآن وعلي ( عليه السلام )
بحثنا موقف عمر من القرآن في كتاب : تدوين القرآن ، وكتاب : ألف سؤال وإشكال ، وكتاب : قرآن علي ( عليه السلام ) . وأثبتنا أن عمر كان يرى أن أكثر القرآن قد فُقد ، وكان يقرأ قراءات لم يوافقه عليها أحد من المسلمين ، وكان يُعِدُّ نسخةً عند حفصة لينشرها ويعممها ، لكن عاجله الموت قبل أن ينشرها ، ولله الحمد .
أما علي ( عليه السلام ) فكان رأيه أن القرآن محفوظ بكامله عنده ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إذا أكمل مراسم تغسيله وتكفينه ودفنه ، أن يكتب القرآن كما علمه ، ثم يعرضه على الذين يتسلطون على خلافته ، فإن قبلوه فهوالمطلوب ، وتكون نسحته الصحيحة الوحيدة لقرآن المسلمين ، وإن رفضوه فليحتفظ بنسخته عند الأئمة من أولاده ( عليهم السلام ) حتى ينشرها المهدي الموعود الذي يظهرالله به دينه على الدين كله ويملأ به الأرض قسطاً وعدلاً ، بعد أن ملئت ظلماً وجوراً .
وهكذا كان ، فلما أكمل علي ( عليه السلام ) مراسم دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه ، فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه ثم خرج إليهم به في إزار يحمله ، وهم مجتمعون في المسجد فأنكروا مصيره بعد انقطاع عن البيعة ، فقالوا : لأمرٍ ما جاء أبو الحسن ، فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم ، ثم قال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب ، وأنا العترة .
فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله ، فلا حاجة لنا فيكما ، فحمل ( عليه السلام ) الكتاب وعاد ، بعد أن ألزمهم الحجة .
وفي خبر طويل عن الصادق ( عليه السلام ) : أنه حمله وولى راجعاً نحو حجرته وهو يقول :
--------------------------- 271 ---------------------------
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ . ولهذا قال ابن مسعود : إن علياً جمعه وقرأ به ، فإذا قرأه فاتبعوا قراءته ) . ( مناقب آل أبي طالب : 1 / 320 ) .
كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مأموراً أن يعرضه عليهم فإن لم يقبلوه فليجمعوه كما يريدون ، حتى لا يكون للأمة كتابان . ( راجع : تدوين القرآن / 182 ، وألف سؤال : 1 / 243 ) .
ولم تعتمد خلافة قريش نسخة علي ( عليه السلام ) ، ثم طلب الأنصار أن يكتبوا القرآن فمنعوهم ، ووعدوا المسلمين بنسخة رسمية للقرآن ، وشكلوا لجنة لذلك ، لكن عطلوا اللجنة ، ولم يصدر القرآن المدون إلا بعد ربع قرن في خلافة عثمان !
وفي هذه المدة كان المسلمون يكتبون نسخ القرآن في العراق وفارس وخراسان من نسخة عبد الله بن مسعود ، وفي الشام والبلاد المفتوحة من جهتها من نسخة أبي بن كعب ، وفي البصرة والبلاد المفتوحة من جهتها من نسخة أبي موسى الأشعري . . وكانوا يكتبون عن نسخ صحابة آخرين . وكانوا إذا اختلفوا في نصه قال عمر : القرآن كله صواب ، فاقرؤوا ولا حرج وقد نزل على سبعة أحرف !
وقد نشأت بسبب ذلك مشكلة اختلاف القراءات ، وانفجرت بين جيش المجاهدين في فتح أرمينية ، فكان جيش الشام يقرأ بقراءة وجيش الكوفة بقراءة واختلفوا في القراءة ، وأعلن بعضهم كفره بقرآن الآخر ، وكاد يقع قتال ، فأصلح بينهم حذيفة بن اليمان بحكمته ، وجاء إلى المدينة ليعالج المشكلة ، وساعده على ذلك علي ( عليه السلام ) وأقنعوا عثمان بأن تتبنى الدولة نسخة من القرآن ، وتوحدها في جميع البلدان ، فقبل عثمان وأصدرأمره بتدوين النسخة الأم الفعلية .
فالنسخة الفعلية تم تدوينها بطلب حذيفة ، وتدل رسالة عثمان إلى الأمصار على أنها كتبت عن نسخة علي ( عليه السلام ) . ولذلك ترى النسخة الفعلية عن عاصم بقراءة علي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 272 ---------------------------
21 . معنى شعار عمر : حسبنا كتاب الله
اتفق الجميع على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرهم في مرض وفاته أن يلتزموا بتنفيذ عهد يكتبه لهم ، وأنه يضمن لهم أن يكونوا على الهدى ويسودوا العالم .
فقال عمر : ( إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ! فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، ومنهم من يقول : القول ما قاله عمر . فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله : قوموا عني ) .
( عدالة الصحابة للمحامي أحمد حسين يعقوب / 182 ، عن بخاري : 7 / 9 ومسلم : 5 / 75 وشرح النووي : 11 / 95 ، ومسند أحمد : 4 / 356 ، وغيرها ) .
وقد بحثنا انقلاب الصحابة على نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في كتبنا ، وغرضنا هنا الإشارة إلى أن موقف عمر من القرآن ، فقد جعله المصدر الرسمي الوحيد للإسلام ، وجعل السنة مصدراً انتقائياً يختار منها ما يناسب ، أو يمنع التحديث بها !
كما جعل نفسه المفسرالرسمي للقرآن ، بصفته الزعيم المقبول من بطون قريش ما عدا بني هاشم ، ووافقته البطون وأعطته الحق في أن يمنع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كتابة عهد قد يلزمهم بإمام ومفسرللقرآن من بني هاشم !
وقد طبق عمر نظريته : ( القرآن المصدر الوحيد والخليفة مفسره الوحيد ) بأعمال :
1 - رفض نسخة القرآن التي عند علي ( عليه السلام ) .
2 - منع علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبني هاشم وأنصارهم من تعليم القرآن والسنة .
3 - تكذيب أن علياً ( عليه السلام ) عنده من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القرآن كله أو تفسيره ، بل القرآن موزع عند الصحابة ، وجمعه من حق الخليفة فقط !
4 - القرآن برأي عمر ناقص ، ضاع أكثر من ثلثيه بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وتدارك عمر الأمر فكان يجمع ما يرى أنه منه ويضعه عند ابنته حفصة ، وقد أدركه الأجل قبل نشره . ومن باب المثال أنه رفض سورتي المعوذتين ، واخترع بدلهما سورتي الحفد والخلع ، وكان يقرأ بهما في صلاته !
--------------------------- 273 ---------------------------
5 - يوجد برأيه آيات من القرآن أمركاتبه زيد بن ثابت بكتابة بعضها ، وقال عن بعضها : لولا أن يقول المسلمون إن عمر زاد في كتاب الله لأمرت بوضعها فيه !
6 - قول علي وبني هاشم إن القرآن نزل على حرف واحد ، غلط ! فمعنى قول النبي ( نزل القرآن على سبعة أحرف ) أنه يجوز تغيير لفظه وقراءته بالمعنى بأي كلام عربي أو غير عربي ، بشرط أن لا تغير المغفرة منه إلى عذاب والعذاب إلى مغفرة ، فالقرآن كله صواب ، وكل قراءة بهذا الشرط شرعية ، وهي قرآن منزل من
عند الله تعالى !
7 - منعاً لإحراج الخليفة ، يمنع البحث ويعاقب من يسأل عن تفسير آية !
8 - نظراً لتعلق الناس بقراء القرآن ، يجب تقليل عدد القراء إلى أقل حد ممكن .
9 - يحكم القضاة بفهمهم للقرآن إذا لم يتعارض مع فهم الخليفة ، ويحكم القاضي بظنونه ، والأفضل رفع القضية إلى الخليفة !
أما موقفه من السنة فيتكوَّن من خمس قرارات ( راجع كتاب تدوين القرآن ) :
1 - مَنَع رواية سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منعاً باتاً تحت طائلة العقوبة ! وقد ضرب بعض الصحابة لأنهم حدَّثوا عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وبقي بعضهم في سجنه حتى قتل !
2 - مَنَع تدوين سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منعاً باتاً ! وطلب أبو بكر من الناس أن يأتوه بما كتبوا من السنة ، فأحرقه ! ثم جمع عمر المكتوب من السنة وأحرقه ! وأصدر مرسوماً إلى الأمصار بإحراق المكتوب من السنة ، أو محوه وإتلافه !
3 - رفض عمر كتاب علي ( الجامعة ) الذي هو بإملاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفيه ما يحتاج إليه الناس ، وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يخص علياً بشئ من العلم ، ولم يترك علماً
غير القرآن .
4 - انتقى عمر روايات من سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمل على تعليمها للأمة دون غيرها ! وبذلك قبل السنة التي رفضها بالأمس وعدَّل شعاره ( حسبنا كتاب الله ) إلى شعار : حسبنا كتاب الله وسنة نبيه ، التي يختارها الخليفة !
والى جنب هذه القرارات والمواقف ، كان لعمرقراران لهما تأثير واسع ، وهما :
--------------------------- 274 ---------------------------
1 - نشر الثقافة اليهودية والمسيحية بحجة : حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج .
2 - قراره بنشر الشعر الجاهلي ، وأمره بتعلمه وكتابته .
22 . علي ( عليه السلام ) يثأر للقرآن ويوحِّد نسخ الصحابة
أبقى عمر الدولة الإسلامية بدون قرآن رسمي خمس عشرة سنة ، في عهد أبيبكر وعهده ، وشطر من عهد عثمان ! فلم يتبنَّ نسخة علي ( عليه السلام ) ولا مصاحف القراء الأربعة الذين شهدوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر بأخذ القرآن منهم ، ومَنَعَ حفاظ الأنصار وغيرهم من تدوين القرآن ، ووعد بأن يقوم هو بتدوين القرآن ، ولم يفعل بل كان يأمر زيد بن ثابت بكتابة ما يراه قرآناً ويخبؤه عند حفصة ، ويشدد عليها أن لا تعطيه إلى أحد !
وفي نفس الوقت أعطى الشرعية لكل قراءة ، بل أفتى بجواز قراءة القرآن بالمعنى وقال : كله صواب ! فتمسك كل مقرئ بقراءته ، وانقسم الناس أحزاباً يتعصبون للقراء والقراءات ، حتى كفَّر بعضهم بعضاً بسببها ، ولم يبق إلا أن يقتتلوا بالسلاح !
هنا كان لا بد لعلي ( عليه السلام ) أن يتدخل ، فحرَّك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما جاء يشكو من اختلاف جنود الفتح في قراءة القرآن ، وأقنع عثمان فشكل لجنة وتابع حذيفة عملها ، وكتبوا القرآن عن نسخة علي ( عليه السلام ) وراعوا الجمع بين نسخ الصحابة ، وأخذ حذيفة نسخة محمد بن أبيّ بن كعب ، وذهب إلى البصرة وصادر نسخة أبي موسى الأشعري المحرفة ، وتابع سعيه مع حفصة وعبد الله بن مسعود فلم يسلما نسختيهما ، وكتبوا أربع نسخ وأرسلوها إلى الأمصار ، ومعها رسالة من عثمان تبشر المسلمين بأنه كتب القرآن عن قرآن : ( كتب عن فم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أوحاه الله إلى جبريل ، وأوحاه جبريل إلى محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنزله عليه ) !
ولم يقل عثمان في رسالته إنه قرآن علي ( عليه السلام ) بل نسبه إلى عائشة ، وعائشة لم يكن عنها هذه النسخة بل كانت تستكتب بعض السور ! وسموا مصحف عثمان المصحف الإمام ، وتعصب له عثمان لأنه منقبة له ، وفرضه على المخالفين .
قال البخاري ( 4 / 156 ) : ( إن عثمان دعا زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن
--------------------------- 275 ---------------------------
العاص ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ذلك ) .
وقال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ( 3 / 997 ) : ( إن عثمان بن عفان كتب إلى الأمصار فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين أن ترسل إليَّ بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أوحاه الله إلى جبريل ، وأوحاه جبريل إلى محمد وأنزله عليه ، وإذا القرآن غضٌّ ، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك . . فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يتحفظوا ) .
لكن النسخة المكتوبة بإملاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليست نسخة عائشة وإلا كان فيها آيات رضاع الكبير ، بل هي نسخة علي ( عليه السلام ) ، لأنه فيها كل الأوصاف التي ذكروها لقرآن علي ( عليه السلام ) وقراءاته !
ولذلك كان القراء السبعة يرجعون إلى قراءته ( عليه السلام ) . وبذلك حفظ الله القرآن بنسخة علي ( عليه السلام ) وبطل مشروع عمر الذي فيه قراءاته الشاذة ، التي رواها عنه البخاري وغيره !
وقد رووا بسند صحيح عندهم عن الزهري : ( أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب فيها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها ، فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة ( باليمين المؤكد ) إلى عبد الله بن عمر ليرسل إليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر ، فأمر بها مروان فشققت ! وقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالصحف ، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذا المصحف مرتاب ، أو يقول إنه قد كان فيها شئ لم يكتب ) !
ونعم ما فعل عثمان أن أراح المسلمين من نسخة عمر التي روى البخاري بعض قراءاتها ، مثل فامضوا إلى ذكر الله ، والحي القيام ، وصراط من أنعمت عليهم !
فالقرآن الذي بين أيدينا نسخة علي ( عليه السلام ) ، وله نسخة كتبها بأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعرضها
--------------------------- 276 ---------------------------
عليهم فلم يقبلوها ، فقال لهم : ( أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً ، إنما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه ) ! ( الكافي : 2 / 633 ) .
والفرق بين النسختين إنما هو في الترتيب ، وإن كان مؤثراً في فهم القرآن وتفسيره .
23 . علي ( عليه السلام ) لا يقول إلا بعلم ، وعمر يعترف أن بضاعته الظن !
قال السيوطي في الدر المنثور ( 6 / 127 ) : ( أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : إحذروا هذا الرأي على الدين ، فإنما كان الرأي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصيباً لأن الله كان يريه ، وإنما هو منا تكلف وظن ، وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً . !
وروى نحوه أبو داود ( 2 / 161 ) والبيهقي ( 10 / 117 ) وتحيرالبيهقي في اعتراف عمر بأن اجتهاداته ظنون لا تغني من الحق شيئاً ! فقال : ( وإنما أراد به والله أعلم الرأي الذي لا يكون مشبهاً بأصل ، وفي معناه ورد ما روي عنه وعن غيره في ذم الرأي فقد روينا عن أكثرهم اجتهاد الرأي في غير موضع النص ، والله أعلم ) .
يزعم البيهقي أن عمر لا يقصد الإجتهاد والرأي المشبه بأصل ، ولا معنى للمشبه بأصل ولا يصح ، لأن قول عمر عام لكل الآراء التي لم يُرِها الله لصاحبها ، كما أرى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقوله اعترافٌ بأن اجتهاده في منع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الوصية ، واجتهاده في تأسيس الخلافة القرشية ، وكل أعماله ، ظنون لا تغني من الحق شيئاً !
ولهذا قال علي ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 33 ) : ( إن الناس آلوا بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ثلاثة ، آلوا إلى عالمٍ على سبيل هدى من الله ، قد أغناه الله بما علم عن غيره ، وجاهل مدع للعلم لاعلم عنده ، معجب بما عنده ، قد فتنته الدنيا وفتن غيره . ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة . ثم هلك من ادعى وخاب من افترى ) .
كما وصف علي ( عليه السلام ) الذين يقولون في الدين برأيهم بقوله ( نهج البلاغة : 1 / 51 ) : ( إنَّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان : رجلٌ وكله الله إلى نفسِه فهو جائرٌ عن قصد السبيل مشغوفٌ بكلام بدعةٍ ودعاء ضلالةٍ ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالٌّ عن هديِ مَن كان قبله ، مُضِلٌّ لمن اقتدى به في حياتِه وبعد وفاتِه ، حمَّال خطايا غيره ، رهنٌ بخطيئته ! ورجلٌ قمش
--------------------------- 277 ---------------------------
جهلاً موضع في جهال الأمة عاد في أغباش الفتنة ، عمٍ بما في عقد الهدنة ، قد سمَّاه أشباه الناس عالماً وليس به ، بكَّر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن ، واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضياً ، ضامناً لتخليص ماالتبس على غيره ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثاً من رأيه ثم قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ، فإن أصاب خاف أن يكون أخطأ وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب ، جاهلٌ خبَّاطُ جهالات ، عاشٍ رَكَّابُ عشوات ، لم يعضَّ على العلم بضرسٍ قاطع ، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم . لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه . ولا هو أهل لما فُوِّض إليه لا يحسب العلم في شئ مما أنكره . ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً لغيره . وإن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه . تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعج منه المواريث ! إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالاً ويموتون ضلالاً ، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حُرِّفَ عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ) !
وقال ( عليه السلام ) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا : ( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره ، فيحكم فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوِّب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ! أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ! أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ! أم أنزل الله سبحانه ديناً تامَّاً فقصرالرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : مَافَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَئٍ . فِيهِ تِبْيَانُ كلِّ شئٍ . وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدَ غَيْر الله لَوَجَدُوا فيه اختلافاً كثيراً ) !
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 155 ) : ( فيا عجبي ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق
--------------------------- 278 ---------------------------
على اختلاف حججها في دينها ، لايقتصون أثر نبيٍّ ، ولا يقتدون بعمل وصيٍّ ، ولا يؤمنون بغيبٍ ، ولا يعفون عن عيبٍ ، يعملون في الشُّبُهات ، ويسيرون في الشهوات . المعروف عندهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا !
مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم . وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ! كأنَّ كل امرئٍ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بِعُرى ثقات ، وأسبابٍ محكمات ) !
24 . اعتراف عمر بجهله يرد مكذوباتهم عن علمه
روى البخاري روايات عديدة في علم عمر وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ( بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب ، قالوا فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم ) .
وروى البخاري من هذه البضاعة : ( 1 / 28 و : 4 / 198 و : 8 / 74 و : 8 / 79 و : 8 / 18 ، ومسلم : 7 / 110 و 112 . وأحمد : 2 / 83 و 108 و 147 و 154 . والدارمي : 2 / 128 . والترمذي : 3 / 367 و : 5 / 278 . والحاكم : 3 / 83 . والبيهقي : 7 / 49 . وأسد الغابة : 4 / 60 . والزوائد : 9 / 69 . وكنز العمال : 11 / 576 .
وجعل البخاري كأس اللبن قميصاً وجعل العلم الدين ، وزعم أن النبي قال : ( بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص ، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ، ومرَّ عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره . قالوا : ما أولت يا رسول الله ؟ قال الدين ) .
وزاد الدارمي ( 1 / 101 ) عليه علاوةً فقال إن عمرو بن ميمون قال : ( ذهب عمر بثلثي العلم ، فذكر لإبراهيم فقال : ذهب عمر بتسعة أعشار العلم ) .
وفي أسد الغابة ( 4 / 60 ) عن ابن مسعود أنه قال : ( لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان ووضع علم الناس في كفة ميزان ، لرجح علم عمر ) .
وصححه في الزوائد ( 9 / 69 ) ونقل قول عبد الله بن عمر : ( إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر ) .
وهذا كله وضعوه في مقابل قسم ابن عباس ( الإستيعاب : 2 / 1104 ) : ( والله لقد أعطى علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم ، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر ) .
--------------------------- 279 ---------------------------
وقال علي ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 64 ) : ( وقد كنت أدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربما كان في بيتي