سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام - ج 3

--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام )
حرب الجمل ، بدر الثانية ضد بني هاشم
علي الكوراني العاملي
المجلد الثالث
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام )
حرب الجمل ، بدر الثانية ضد بني هاشم
علي الكوراني العاملي
المجلد الثالث
الطبعة الأولى
1438 - 2017
دار المعروف
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
سرشناسه : كوراني ، علي ، 1944 - م . Kurani , Ali
عنوان ونام پديدآور : سيرة اميرالمومنين ( ع ) / علي الكوراني العاملي .
مشخصات نشر : قم : دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396
مشخصات ظاهري : ج . شابك : ج . 1 9786006612904 :
وضعيت فهرست نويسي : فيپا
يادداشت : عربي .
يادداشت : چاپ دوم .
مندرجات : ج . 1 . حرب الجمل ، بدرالثانيه ضد بني هاشم
موضوع : علي بن أبي طالب ( ع ) ، امام أول ، 23 قبل از هجرت - 40 ق . - سرگذشتنامه
موضوع : Ali ibn Abi - talib , Imam I , 600 - 661 - Biography
رده بندي كنگره : BP 37 / ك 85 س 9 1396
رده بندي ديويي : 297 / 951
شماره كتابشناسي ملي : 4794965
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
حَرب الجَمل ، بَدر الثانية ضد بَني هاشِم
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دارالمعروف ، قم المقدّسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ذي قعدة 1438 ه - . ق - July 2017
المطبعة : باقري - قم المقدّسة .
عدد المطبوع : 3000 نسخة .
شابك : 4 - 90 - 6612 - 600 - 978
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 4 ---------------------------
.
--------------------------- 5 ---------------------------

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام
على سيد نا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .

أول حرب على تأويل القرآن

عندما أكملت كتابة حرب الجمل ، اقترح أحد الفضلاء أن أطبعها مستقلةً ، ولا أنتظر استكمال بقية سيرة أمير المؤمنين عليه السلام . وقد أخذتُ بهذا الرأي ، لأن حرب الجمل موضوع مستقل ، وهو رفض قريش لخلافة علي عليه السلام ، واستنفارها لحربه .
ولأنها الحرب الأولى التي وعدها النبي صلى الله عليه وآله بقوله : ( إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ، فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا . قال عمر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا ، لكنه خاصف النعل . وكان أعطى علياً نعله يخصفها ) . ( مجمع الزوائد : 5 / 186 ، وصححه على شرط الشيخين ) .
وهي الحرب التي قال عنها النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : ( إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب عليَّ جهاد المشركين ، قال : يا رسول الله ، ما هذه الفتنة التي كتب عليَّ فيها الجهاد ؟ قال : قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون للسنة . فقلت : يا رسول الله فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد ؟ قال : على الإحداث في الدين ومخالفة الأمر .
--------------------------- 6 ---------------------------
فقلت : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة ، فاسألِ الله أن يعجلها لي بين يديك . قال : فَمَنْ يُقَاتِلُ الناكثين والقاسطين والمارقين ! أما إني وعدتك الشهادة وستُستشهد ، تُضرب على هذه فتخضب هذه ، فكيف صبرك إذاً !
قلت : يا رسول الله ، ليس ذا بموطن صبر ، هذا موطن شكر .
قال : أجل أصبت ، فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصم .
فقلت : يا رسول الله لو بينت لي قليلاً ! فقال : إن أمتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن وتعمل بالرأي ، وتستحل الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، وتحرف الكتاب عن مواضعه ، وتغلب كلمة الضلال ، فكن جليس بيتك حتى تُقلدها ، فإذا قُلِّدْتَها جاشت عليك الصدور وقُلِّبَت لك الأمورفقاتِلُ حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى .
فقلت : يا رسول الله ، فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك ؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة ؟ فقال : بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل . فقلت : يا رسول الله ، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا ؟ قال : بل منا ، بنا فتح وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله ) . ( شرح النهج : 9 / 207 ) .

تعصبت قريش لقتلى بدر ، وعَظَّمت من قاتل علياً عليه السلام

أقامت قريش على قتلى بدر مناحة كبرى وما زالت ، كمناحة اليهود ( الهولكست ) بل أشد منها ! وجعلت رثاءهم والنوح عليهم ديناً تدين به ، ومحاور قصائد شعرائها ، وأناشيد وأغاني في حفلاتها ، ومجالس خمرها .
وقررت أن يكون ثأرها لقتلى بدرأن تأخذ دولة محمد صلى الله عليه وآله وتبعد عترته عن الحكم إلى آخر الدهر ، فإن عاد بنو هاشم إلى الحكم ، فقد بطل ثأر قريش !
قال عثمان لعلي عليه السلام : « ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين ، كأن وجوههم شنوف الذهب » ! ( نثر الدرر : 1 / 259 ) .
--------------------------- 7 ---------------------------
وكانت خالة معاوية زوجة عقيل بن أبي طالب تقول له : ( لا يحبكم قلبي يا بني هاشم أبداً ! أين أخي ، أين عمي ، أين فلان ، أين فلان ؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة ، ترد أنوفهم قبل شفاههم ) . ( غريب الحديث للحربي : 1 / 208 ) .
( فيسكت عنها ، حتى دخل عليها يوماً وهو برمٌ فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ) ! ( تفسيرالقرطبي : 5 / 176 ) .
ما أصنع لكم يا بني هاشم ، لاتحبكم قريش ، لا أنت يا علي ، ولا النبي صلى الله عليه وآله مع أنا نتشهد الشهادتين ، ولا أحداً من بني هاشم ، لأن لنا عندكم ثأراً !
يقول ذلك خليفة يجلس على كرسي دولة النبي صلى الله عليه وآله وهو يعرف أنه لولا إزاحة السبعين من قريش وقتلهم في بدر ، ما وجدت دولة ، ولا خلافة ، ولا كرسي الخليفة !
على أيٍّ ، أبعدت قريش بني هاشم عن الخلافة والدولة ، ولم توظف منهم حتى كاتباً عادياً ، طوال عهد أبي بكر وعمر وعثمان !
وعلى حين غفلة من قريش وصل بنو هاشم إلى الحكم ، فهبت قريش هبةً واحدة تماماً كهبتها في بدر ، فقد حكم علي ، وبطل ثأر قريش كله ، وإن دخلت الخلافة في بني هاشم ، فلن تخرج منهم إلى يوم القيامة !
( لما قدم عبد الله بن عامر بن كريز المدينة لقي طلحة والزبير ، فقال لهما : بايعتما علي بن أبي طالب ! أما والله لا يزال يُنتظر بها الحبالى من بني هاشم ، فمتى تصير إليكما ) ! ( خصائص الأئمة للشريف الرضي / 61 ) .
أي لا تخرج الخلافة منهم ، وإذا لم يكن فيهم كبير ، فسينتظرون المولود أن يولد .

زعمت قريش أن النبي صلى الله عليه وآله حرَّم الخلافة على بني هاشم

حَرَّمت قريش الخلافة على بني هاشم ، ووضعت في ذلك حديثاً نبوياً ، ليكون التحريم حكماً شرعياً قطعياً ، صادراً من النبي نفسه صلى الله عليه وآله !
لكن حدث خلل في مسار الأحداث فخرجت عن هندسة رجال قريش ، وهو أن الوفود الثائرة على عثمان وبعض الأنصار ، كسروا التحريم القرشي المشدد وبايعوا
--------------------------- 8 ---------------------------
علياً عليه السلام ، فصار واجب قريش أن تقاتله ، لتعيد الحق إلى نصابه !
قال أبو بكر لعلي : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا ، واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة . فقال علي : هل أحد من أصحاب رسول الله شهد هذا معك ؟ فقال عمر : صدق خليفة رسول الله ، قد سمعته منه كما قال . وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل : صدق ، قد سمعنا ذلك من رسول الله ) ! ( كتاب سليم / 154 ) .
فأي حديث أصح من هذا ! لقد شهد به كبار الصحابة ، فمن يجرؤ أن يخالفه !
ولما جعل عمر علياً عليه السلام في الشورى قال له العباس : ( أشرت عليك في يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أن تمد يدك فنبايعك فإن هذا الأمر لمن سبق إليه ، فعصيتني حتى بويع أبو بكر . وأنا أشيرعليك اليوم أن عمرقد كتب اسمك في الشورى وجعلك آخر القوم ، وهم يخرجونك منها ، فأطعني ولا تدخل في الشورى ! فلم يجبه بشئ . فلما بويع عثمان قال له العباس : ألم أقل لك ! قال له : يا عم إنه قد خفي عليك أمر ، أما سمعت قوله على المنبر : ما كان الله ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوة ، فأردت أن يكذب نفسه بلسانه فيعلم الناس أن قوله بالأمس كان كذباً باطلاً ، وأنا نصلح للخلافة . فسكت العباس ) ! ( علل الشرائع : 1 / 171 ) .
وقال علي عليه السلام : « لَعَمْرُ أبي وأمي ، لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة ، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد ! أما والله لو قلت ما سبق لله فيكم لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم ، كتداخل أسنان دوارة الرحى ) ! ( الإحتجاج : 1 / 127 ) .

الخارجون على علي عليه السلام ليسوا بغاة ، بل مجتهدون لهم أجر !

قال ابن رشد في البيان والتحصيل ( 17 / 361 ) : ( والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي ، وأخطأ طلحة والزبير ، هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده ، فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ، ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما ) .
ومن بغضهم لعلي عليه السلام ، قالوا إن الخارجين عليه مأجورون حتى لو كانوا بايعوه ! لكن
--------------------------- 9 ---------------------------
لو خرجوا على أبي بكر أو عمر أو عثمان ، لكانوا بغاة كفاراً من أهل النار !
قال إسحاق بن راهويه في مسنده ( 2 / 34 و 40 ) : ( لا ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل ، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ . على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة قاصدة للخير ! كما اجتهد طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وجماعة من الكبار رضي الله عن الجميع ) .
وقال ابن تيمية ( منهاج السنة : 4 / 316 ) : ( وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها : تقاتلين علياً وأنت ظالمة له ، فهذا لا يعرف في شئ من كتب العلم المعتمدة ، ولا له إسناد معروف ، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة ، بل هو كذب قطعاً فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال ، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين ، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ! ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها ! وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال ، فندم طلحة ، والزبير ، وعلي ، رضي الله عنهم أجمعين ، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال ، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم !
وأما قوله : وخالفت أمر الله في قوله تعالى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الآولَى . فهي رضي الله عنها لم تتبرج . والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها ، كما لو خرجت للحج والعمرة . ولهذا كان أزواج النبي يحججن بعده كما كن يحججن معه . وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين ، فتأولت في ذلك ) !

مطلب عائشة أن يخلع علي عليه السلام نفسه ويخرج من الخلافة نهائياً

( قدم طلحة والزبيرعلى عائشة فدعواها إلى الخروج فقالت : أتأمراني أن أقاتل ؟ فقالا : لا ، ولكن تُعْلِمين الناس أن عثمان قتل مظلوماً ، وتَدْعيهم إلى أن يجعلوا الأمر شورى بين المسلمين ، فيكونوا على الحالة التي تركهم عليها عمر بن الخطاب ، وتصلحين بينهم ) . ( البلاذري : 2 / 223 ) .
--------------------------- 10 ---------------------------
فكتبت عائشة ذلك إلى أم سلمة : ( أما ما كنت تعرفيه من رأيي في عثمان فقد كان ولا أجد مخرجاً منه إلا الطلب بدمه . وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس ، فإن فعل ، وإلا ضربت وجهه بالسيف حتى يقضي الله ما هو قاض ! فأنفذت إليها أم سلمة : أما أنا فغير واعظة لك من بعد ، ولا مكلمة لك جهدي وطاقتي . والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار ! والله ليخيبن ظنك ولينصرن الله ابن أبي طالب على من بغى ، وستعرفين عاقبة ما أقول ) . ( الجمل للمفيد / 128 ) .
وقالت عائشة في خطبتها في مربد البصرة : ( ألا وإن قريشاً رمت غرضها بنبالها وأدمت أفواهها بأيديها ، وما نالت بقتلها إياه شيئاً ، ولاسلكت به سبيلاً قاصداً . ألا إن عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته ، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان ) . تقصد علياً عليه السلام . ( شرح النهج : 9 / 316 )
( لما بايع الناس علياً عليه السلام وتخلف عبد الله بن عمر ، وكلمه علي عليه السلام في البيعة فامتنع عليه ، أتاه في اليوم الثاني فقال : إني لك ناصح ، إن بيعتك لم يرض بها كلهم ، فلو نظرت لدينك ورددت الأمر شورى بين المسلمين !
فقال علي عليه السلام : ويحك ! وهل ما كان عن طلب مني له ! ألم يبلغك صنيعهم ؟ قم عني يا أحمق ! ما أنت وهذا الكلام ) ! ( شرح النهج : 4 / 12 ) .
ويتضح بذلك أن مطلب القرشيين جميعاً رأس علي عليه السلام ، وإبعاده عن الخلافة كلياً !

لماذا انكسر جيش عائشة رغم كثرته وتجهيزه ؟

قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( فمنيتُ بأطوع الناس في الناس ، عايشة بنت أبي بكر ، وبأشجع الناس الزبير ، وبأخصم الناس طلحة بن عبيد الله . وأعانهم عليَّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير ) ! ( المحجة / 173 ) .
فوصف عائشة بأنها أطوع الناس في الناس ، لقوة شخصيتها وتأثيرها عليهم وتهافتهم عليها ، فقد تربى جيل على تقديسها وترديد مناقبها ، ولذلك نراها دخلت البصرة بست
--------------------------- 11 ---------------------------
مئة جندي ، فجندت منهم في أقل من شهر أكثر من مئة ألف ، واستعملت أساليب منها الخطابة وإظهار الظلامة ، وقد بكت لكعب بن سور رئيس الأزد فاستجاب لها ! وكانت تعطي الجندي ضعفين ، فتهافت عليها شباب البصرة .
وقالت عائشة كما في حديث الواقدي ( الجمل للمفيد / 201 ) : ( وكان من معنا فتيان أحداث من قريش لاعلم لهم بالقتال ولم يشهدوا الحرب ، فكانوا جَزْراً للقوم ، فإني لعلى ما نحن فيه وقد كان الناس كلهم حول جملي ، فسكتوا ساعة فقلت : خيراً أم شراً ذا سكوتكم ، ضَرُس القتال ! وإذا ابن أبي طالب أنظر إليه يباشر القتال بنفسه ، وأسمعه يصيح : الجمل الجمل ! فقلت : أرادوا والله قتلي ! فإذا هو علي بن أبي طالب ، ومعه محمد بن أبي بكر أخي ، ومعاذ بن عبد الله التميمي ، وعمار بن ياسر ، وقطعوا البطان واحتملوا الهودج فهوى على أيدي الرجال يرفلون به ، وهرب من كان معنا فلم أحس لهم خبراً ! ونادى منادي علي بن أبي طالب : لايُتبع مدبر ، ولا يُجهز على جريح ، ومن طرح السلاح فهو آمن . فرجعت إلى الناس أرواحهم ) !
وقال علي عليه السلام عند تطوافه على القتلى : ( هذه قريش ! جدعتُ أنفي ، وشفيت نفسي ! لقد تقدمت إليكم أحذركم عض السيوف ، وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ولكنه الحين وسوء المصرع ، فأعوذ بالله من سوء المصرع ) ! ( الإرشاد : 1 / 246 ) .
وقد دعا الإمام عليه السلام شباب قريش في المعركة للإنسحاب ، ونصب راية لمن أراد ذلك ! فلم ينسحب منهم إلا قليل ، وكانوا يدفعون موجات الجنود الأغرار والعوام ، ويجعلونهم جزراً لسيوف أصحاب علي عليه السلام ، كما قالت عائشة ، فقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفاً ، ومن أصحاب علي نحو ألفين .
كتبه : علي الكوراني العاملي - بقم المشرفة في يوم المبعث الأغر - 1439
--------------------------- 12 ---------------------------

الفصل الثاني والخمسون : استعداد عائشة لحرب علي عليه السلام !

فرح المسلمون بخلافة علي عليه السلام واستنفر الأمويون لحربه

1 . بدأ هتاف الناس باسم علي عليه السلام من أيام عثمان ، فكانوا يقولون : ما لها غيرك يا أبا الحسن . وأرسل له عثمان أن يغيب عن المدينة : ( إلى ماله بينبع ليقلَّ هَتْفُ الناس باسمه للخلافة ، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل ، فقال عليه السلام : يا ابن عباس ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب ، أقبل وأدبر ! بعث إليَّ أن أخرج ، ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هوالآن يبعث إلي أن أخرج ! والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً ) ! ( نهج البلاغة : 2 / 233 ) .
ولكنه عليه السلام استجاب وذهب ، ثم أرسل له عثمان لما ضاقت عليه أن يحضر ! ولما قتل عثمان تعاظم هتف الناس وطالبوا أن يبايعهم . قال عليه السلام : ( وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى انقطعت النعل ، وسقطت الرداء ، ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب ) . ( نهج البلاغة : 2 / 222 ) .
2 . وبايع الناس علياً عليه السلام وفرحوا بخلافته ، إلا الطبقة التي سلطها عثمان على مقدرات الأمة ، وأعطاها امتيازات ، وأهم شخصياتها :
معاوية بن أبي سفيان ، حاكم الشام الذي كان يعمل لبقاء الحكم في بني أمية .
ومروان بن الحكم صهر عثمان ومستشاره وحامل ختمه . وسعيد بن العاص ، مستشار
--------------------------- 13 ---------------------------
عثمان ووالي الكوفة . والوليد بن عقبة والي الكوفة الذي صلى بالناس صلاة الصبح ثمانياً وقال هل أزيدكم ! وعبد الله بن أبي كرز والي البصرة ، وعبد الله بن أبي سرح والي مصر .
ومن غير بني أمية : يعلى بن مُنية حليف بني أمية ، والي اليمن . وطلحة بن عبيد الله من بني تَيْم ، وكان يطمع أن يوصي له أبو بكر بالخلافة . والزبير بن العوام ، وقد تغير على علي عليه السلام بتأثير ابنه عبد الله ، وخالته عائشة ، وكانت عائشة تبغض علياً عليه السلام أكثر مما أبغضت عثمان لقطعه مخصصاتها !
وأبو موسى الأشعري الذي كان والي البصرة ثم الكوفة ، وكان يبغض علياً عليه السلام .
وعمرو العاص الذي كان حاكم مصر ، وقد جمع ثروة كبيرة ، فهو يخاف عليها .
قال اليعقوبي ( 2 / 178 ) : ( بايعه طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار . . إلا ثلاثة نفر من قريش : مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة وكان لسان القوم ، فقال : يا هذا إنك قد وترتنا جميعاً ، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وكان أبوه ثور قريش ، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه ، فتُبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا ، وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا . فغضب علي عليه السلام وقال : أما ما ذكرت من وِتْري إياكم فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله تعالى ، وأما إعفائي عما في أيديكم ، فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم .
وأما قتلي قتلة عثمان ، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه ، فمن ضاق عليه الحق فالباطل عليه أضيق . وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم . فقال مروان : بل نبايعك ونقيم معك فترى ونرى ) !
ولما أعلن الإمام عليه السلام إلغاء سندات تمليك الأراضي ( قطائع عثمان ) أعادها إلى بيت المال وقال عليه السلام : ( ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لايبطله شئ . فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها ،
--------------------------- 14 ---------------------------
فكتب إلى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع ، إذ قَشَرَك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها ) ! ( شرح النهج : 1 / 270 ) .
وكانت ملكية ابن العاصي في مصر وفلسطين والشام والحجاز ، ميزانية دولة !
وفي دعائم الإسلام ( 1 / 396 ) : ( أنه عليه السلام أحضرالأشعث بن قيس وكان عثمان استعمله على أذربيجان ، فأصاب مائة ألف درهم ، فبعض يقول : أقطعه عثمان إياها ، وبعض يقول : أصابها الأشعث في عمله . فأمره علي عليه السلام بإحضارها فدافعه وقال : يا أمير المؤمنين ، لم أصبها في عملك . قال : والله لئن أنت لم تحضرها بيت مال المسلمين ، لأضربنك بسيفي هذا ، أصاب منك ما أصاب ! فأحضرها وأخذها منه ، وصيرها في بيت مال المسلمين ، وتتبع عمال عثمان ، فأخذ منهم كل ما أصابه قائماً في أيديهم ، وضمنهم ما أتلفوا ) .

نشطت عائشة في تجميع أعداء علي عليه السلام للخروج عليه

1 . في شرح النهج ( 6 / 216 ) : ( قالت لما بلغها قتله : أبعده الله ، قتله ذنبه ، وأقاده الله بعمله ! يا معشر قريش لايسومنكم قتل عثمان ، كما سام أحمر ثمود قومه ، إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع . فلما جاءت الأخبار ببيعة علي قالت : تعسوا تعسوا ! لا يردون الأمر في تيم أبداً ) !
2 . روى الطبري ( 3 / 477 ) : ( أن عائشة لما انتهت إلى سَرَف راجعةً في طريقها إلى مكة لقيها عبد بن أم كلاب ، وهو عبد بن أبي سلمة ينسب إلى أمه ، فقالت له : مهيم ؟ قال : قتلوا عثمان فمكثوا ثمانياً . قالت : ثم صنعوا ماذا ؟ قال : أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز ، اجتمعوا على علي بن أبي طالب . فقالت : والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك ! ردوني ردوني ! فانصرفت إلى مكة وهي تقول : قُتِلَ والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبن بدمه ! فقال لها ابن أم كلاب : ولم ، فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت
--------------------------- 15 ---------------------------
تقولين : أقتلوا نعثلاً فقد كفر ! قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأول ! فقال لها ابن أم كلاب :
فمنك البداءُ ومنك الغِيَر * ومنك الرياحُ ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله * وقاتلهُ عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا * ولم ينكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تدرإٍ * يزيل الشبا ويقيم الصعر
ويلبس للحرب أثوابها * وما مَن وفى مثل مَن قد غدر فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحِجرفسترت ( نصبت ستراً ) واجتمع إليها الناس فقالت : يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوماً ، ووالله لأطلبن بدمه ) !
3 . في شرح الأخبار للقاضي المغربي ( 1 / 342 ) عن الإمام الباقر عليه السلام ، قال : ( أرسل إليَّ سعيد بن عبد الملك بن مروان فأتيته فأقبل يسألني ، فرأيته رجلاً قد لقي أهل العلم وحادثهم ، فإذا هو ليس في يده شئ من أمر عثمان إلا أنه يقول : خرجت عائشة تطلب بدمه . فقلت له : أيُّ رجل كان فيكم مروان بن الحكم ؟ فقال : ذاك سيدنا وأفضلنا . قلت : فأي رجل ترون علي بن الحسين ؟ قال : صدوقاً مرضياً . قلت : فإني أشهد على علي بن الحسين عليه السلام أنه حدثني إنه سمع مروان بن الحكم يقول : انطلقت أنا وعبد الرحمان بن عوف إلى عائشة وهي تريد الحج وعثمان قد حُصر ، فقلت لها : قد ترين أن هذا الرجل قد حصر ، فلوأقمت فنظرت في شأنه وأصلحت أمره ! فقالت : قد غرَّبت غرايري وأدنيت ركائبي وفرضت الحج على نفسي ، فلست بالتي أقيم ، فجهدنا عليها فأبت ، فقمت من عندها وأنا أقول ، وذكر بيتاً من شعر تمثل به . فقالت : أيها الرجل المتمثل بالشعر إرجع ، فرجعت فقالت : لعلك
--------------------------- 16 ---------------------------
ترى أني إنما قلت هذا الذي قلت وأنا أشك في عثمان ، وددت والله ، أنه محاط عليه في بعض غرايري هذه ، حتى أكون التي أقذفه في اليم ! ثم ارتحلت حتى نزلت ماء يقال له : الصلصل ، وبعث الناس عبد الله بن العباس على الموسم وعثمان محصور ، فمضى حتى نزل ذلك الماء ، فقيل لها : هذا ابن عباس قد بعث به الناس على الموسم ، فأرسلت إليه فقالت : يا ابن عباس إن الله عز وجل أعطاك لساناً وعلماً ، فأناشدك الله أن تخذل الناس عن قتل هذا الطاغية عثمان غداً ! ثم انطلقت إلى مكة ، فلما أن قضت منسكها وانقضى أمرالموسم بلغها أن عثمان قد قتل ، وأن طلحة بن عبيد الله بويع قالت : إيهاً ذا الإصبع ، فلما بلغها بعد ذلك أن علياً بويع ، قالت : وددت أن هذه تعني السماء وأشارت إليها ، وقعت على هذه ، وأشارت إلى الأرض ) !
4 . قال في شرح النهج ( 1 / 230 ) : ( لما بويع علي عليه السلام كتب إلى معاوية : أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غيرمشورة مني وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فإذا أتاك كتابي فبايع لي ، وأوفد إلى أشراف أهل الشام قبلك . فلما قدم رسوله على معاوية وقرأ كتابه ، بعث رجلاً من بني عميس وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام وفيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان : سلام عليك ، أما بعد ، فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنه لا شئ بعد هذين المصرين . وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهرا الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجد والتشمير . أظفركما الله وخذل مناوئكما !
فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سُرَّ به وأعلم به طلحة وأقرأه إياه ، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية ، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام ) !
5 . بادرطلحة والزبيرالى استثمار عائشة فكتبا لها وهي بمكة ( شرح النهج : 6 / 216 ) : ( أن خَذِّلِي الناس عن بيعة علي ، وأظهري الطلب بدم عثمان ، وحملا الكتاب مع ابن أختها عبد الله بن الزبير ، فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان ،
--------------------------- 17 ---------------------------
وكانت أم سلمة بمكة في ذلك العام ، فلما رأت صنع عائشة قابلتها بنقيض ذلك ، وأظهرت موالاة علي عليه السلام ونصرته ) .
ونشطت عائشة في الثورة على علي عليه السلام ، لكنها تحولت من مقودة للزبير وطلحة إلى قائدة لهما ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : فبينا هما يقودانها ، إذ هي تقودهما !
6 . قال أمير المؤمنين عليه السلام ( الإرشاد : 1 / 245 ) : ( بايعني في أولكم طلحة والزبيرطائعين غير مكرهين ، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة ، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة ، فجددت عليهما العهد في الطاعة ، وأن لا يبغيا للأمة الغوائل ، فعاهداني ثم لم يفيا لي ، ونكثا بيعتي ونقضا عهدي ! فعجباً لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي ، ولست بدون أحد الرجلين ، ولو شئت أن أقول لقلت . اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقي ، وصغرا من أمري ، وظَفِّرْني بهما ) .
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 1 / 77 ) : ( طلب طلحة والزبير من عليّ عليه السلام أن يوليهما المصرين البصرة والكوفة ، فقال : حتى أنظر . ثم استشارالمغيرة بن شعبة فقال له : أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس . فخلا بابن عباس وقال : ما ترى ؟ قال : يا أمير المؤمنين إن الكوفة والبصرة عين الخلافة وبهما كنوز الرجال ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت ، ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمراً ، فأخذ برأي ابن عباس ) .
أقول : والصحيح أن أمير المؤمنين عليه السلام لا يحتاج إلى رأي ابن عباس ، ولا غيره .
7 . قال أمير المؤمنين عليه السلام ( الإرشاد : 1 / 249 ) : ( نحن أهل بيت النبوة ، وأحق الخلق بسلطان الرسالة ، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الأمة . هذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة ، ولا من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله ، حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر ، فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما ، ليذهبا بحقي ، ويفرقا جماعة المسلمين عني ! ثم دعا عليهما ) .
وقال عليه السلام ( شرح النهج : 1 / 309 ) : ( ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً
--------------------------- 18 ---------------------------
يخدعهما فيه فكتماه عني ، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان ، والله ما أنكرا عليَّ منكراً ، ولا جعلا بيني وبينهم نصفاً ، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما ! يا خيبة الداعي إلى مَ دعا ، وبما ذا أجيب ) !
8 . وقد وصف أمير المؤمنين عليه السلام عائشة وطلحة والزبير فقال ( المحجة / 173 ) : ( دعوت الناس إلى بيعتي ، فمن بايعني طائعاً قبلت منه ومن أبى تركته ، فكان أول من بايعني طلحة والزبير فقالا : نبايعك على أنا شركاؤك في الأمر ! فقلت : لا ، ولكنكما شركائي في القوة ، وعوناي في العجز ، فبايعاني على هذا الأمر ، ولو أبيا لم أكرههما كما لم أكره غيرهما ! وكان طلحة يرجو اليمن ، والزبير يرجو العراق ، فلما علما أني غير موليهما استأذناني للعمرة يريدان الغدرة ، فأتيا عايشة واستخفَّاها مع كل شئ في نفسها علي . وقادهما عبد الله بن عامر إلى البصرة ، وضمن لهما الأموال والرجال ، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما ، فاتخذاها فئة يقاتلان دونها ! فأي خطيئة أعظم مما أتيا ، أخرجا زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله من بيتها فكشفا عنها حجاباً ستره الله عليها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، ولا أنصفا الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله من أنفسهما ! فمنيتُ بأطوع الناس في الناس عايشة بنت أبي بكر وبأشجع الناس الزبير ، وبأخصم الناس طلحة بن عبيد الله ، وأعانهم عليَّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير ! والله لئن استقام أمري لأجعلن ماله فيئاً للمسلمين !
ثم أتوا البصرة وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي ، وبها شيعتي خزان بيت مال الله ومال المسلمين ، فدعوا الناس إلى معصيتي وإلى نقض بيعتي وطاعتي ، فمن أطاعهم أكفروه ومن عصاهم قتلوه ! فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوه في سبعين رجلاً من عُبَّاد أهل البصرة ومخبتيهم ، يسمَّوْنَ المثفَّنين ، كأن راح أكفهم ثفنات الإبل . وأبى أن يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري فقال : إتقيا الله ، إن أولكم قادنا إلى الجنة فلا يقودنا آخركم إلى النار ، فلا تكلفونا أن نصدق المدعي ونقضي على الغائب ، أما يميني فشغلها علي بن أبي طالب ببيعتي إياه ، وهذه شمالي فارغة فخذاها إن شئتما ! فخُنق حتى مات رحمه الله .
--------------------------- 19 ---------------------------
وقام عبد الله بن حكيم التميمي فقال : يا طلحة هل تعرف هذا الكتاب ؟ قال : نعم هذا كتابي إليك . قال : هل تدري ما فيه ؟ قال : إقرأه عليَّ ، فقرأه فإذا فيه عيبُ عثمان ودعاؤه إلى قتله ! فسيروه من البصرة !
وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الأنصاري غدراً فمثلوا به كل مثلة ، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه ! وقتلوا شيعتي طائفة صبراً ، وطائفة غدراً ، وطائفة عضوا بأسيافهم حتى لقوا الله ! فوالله لو لم يقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحلَّ لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش لرضاهم بقتل من قتل ! دع أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم ، وقد أدال الله منهم ، فبعداً للقوم الظالمين . فأما طلحة فرماه مروان بسهم فقتله ، وأما الزبير فذكرته قول رسول الله صلى الله عليه وآله إنك تقاتل علياً وأنت ظالم له ! وأما عايشة فإنها كانت نهاها رسول الله صلى الله عليه وآله عن مسيرها ، فعضت يديها نادمة على ما كان منها ! وقد كان طلحة لما نزل ذا قار قام خطيباً فقال : أيها الناس إنا أخطأنا في عثمان خطيئة مايخرجنا منها إلاالطلب بدمه ، وعليٌّ قاتله وعليه دمه ! فلما بلغني قوله وقول كان عن الزبير قبيح ، بعثت إليهما أناشدهما بحق محمد وآله ما أتيتماني وأهل مصر محاصرو عثمان فقلتما : إذهب بنا إلى هذا الرجل فإنا لا نستطيع قتله إلا بك ، لما تعلم أنه سيَّر أبا ذر ، وفتق عماراً ، وآوى الحكم بن أبي العاص وقد طرده رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر وعمر ، واستعمل الفاسق على كتاب الله الوليد بن عقبة ، وسلط خالد بن عرفطة العذري على كتاب الله يمزقه ويحرقه ، فقلت : كل هذا قد علمت ، ولا أرى قتله يومي هذا ، وأوشك سقاؤه أن يخرج المخض زبدته ! فأقرَّا بما قلت ! وأما قولكما إنكما تطلبان بدم عثمان ، فهذان ابناه عمرو وسعيد ، فخلوا عنهما يطلبان دم أبيهما ، ومتى كان أسد وتيم أولياء بني أمية ، فانقطعا عند ذلك ! فقام عمران بن حصين الخزاعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : يا هذان لا تخرجانا ببيعتكما من طاعة علي ، ولا تحملانا على نقض بيعته فإنها لله رضى ، أما وسعتكما بيوتكما حتى أتيتما بأم المؤمنين ! فالعجب لاختلافها وإياكما ومسيرها معكما ، فكفَّا عنا
--------------------------- 20 ---------------------------
أنفسكما وارجعا من حيث جئتما ، فلسنا عبيد من غلب ، ولا أول من سبق ! فهمَّا به ثم كفَّا عنه !
وكانت عايشة قد شكَّت في مسيرها وتعاظمت القتال ، فدعت كاتبها عبيد الله بن كعب النميري فقالت أكتب : من عايشة بنت أبي بكر إلى علي بن أبي طالب ، فقال : هذا أمر لا يجري به القلم . قالت : ولمَ ؟ قال : لأن علي بن أبي طالب في الإسلام أول وله بذلك البدء في الكتاب . فقالت أكتب : إلى علي بن أبي طالب من عايشة بنت أبي بكر ، أما بعد فإني لست أجهل قرابتك من رسول الله ، ولا قدمك في الإسلام ، ولا غَنَاءك عن رسول الله ، وإنما خرجت مصلحة بين بنيَّ ، لا أريد حربك إن كففت عن هذين الرجلين ، في كلام لها كثير ) .

من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في شخصية طلحة والزبير

في نهج البلاغة ( 2 / 184 ) : ( ومن كلام له عليه السلام كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة ، وقد عتبا من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما : قد نقمتما يسيراً ، وأرجأتما كثيراً . ألا تخبراني أي شئ لكما فيه حق دفعتكما عنه ، وأي قسم استأثرت عليكما به ، أم أي حق رفعه إلى أحد من المسلمين ضعفت عنه ، أم جهلته ، أم أخطأت بابه . والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة . ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها . فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا ، وأمرنا بالحكم به فاتبعته ، وما استسن النبي صلى الله عليه وآله فاقتديته . فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما ، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما ، وإخواني المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما .
وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة ، فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ولا وليته هوى مني ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله قد فرغ منه ، فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه وأمضى فيه حكمه .
فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى . أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ،
--------------------------- 21 ---------------------------
وألهمنا وإياكم الصبر . ثم قال عليه السلام : رحم الله امرأ رأى حقاً فأعان عليه ، أو رأى جوراً فرده ، وكان عوناً بالحق على صاحبه ) .
وفي نهج البلاغة ( 2 / 19 ) : ( ومن كلام له عليه السلام في معنى طلحة والزبير : والله ما أنكروا عليَّ منكراً ، ولاجعلوا بيني وبينهم نصفاً ، وإنهم ليطلبون حقاً هم تركوه ، ودماً هم سفكوه . فإن كنت شريكهم فيه ، فإن لهم نصيبهم منه ، وإن كانوا ولوه دوني ، فما الطَّلِبة إلا قِبَلهم . وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم . إن معي لبصيرتي ، ما لَبَّسْتُ ولا لُبِّسَ عليَّ . وإنها للفئة الباغية فيها الحما والحمة والشبهة المغدفة . وإن الأمر لواضح ، وقد زاح الباطل عن نصابه ، وانقطع لسانه عن شغبه . وأيم الله لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه لا يصدرون عنه بري ، ولايعبُّون بعده في حِسْي ) .
وقد فسرالشيخ محمد عبده مفرداته : بأن الطلِبة ما يطالب به من الثأر ، والحَما والحِمَّة : كناية عن الزبير وعائشة ، وكان النبي أخبر علياً عليه السلام أنه ستبغي عليه فئة فيها بعض أحمائه وإحدى زوجاته ، وأصل الحِمَّة الحية . ولأفْرُطَن لهم : أي لأملأن لهم حوض المنية وأسقيهم ، فلا يشربون بعده ماء عذباً .
وفي نهج البلاغة ( 2 / 88 ) : ( من كلام له عليه السلام في معنى طلحة بن عبيد الله : قد كنت وما أهدَّد بالحرب ، ولا أُرَهَّبُ بالضرب . وأنا على ما قد وعدني ربي من النصر . والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلا خوفاً من أن يطالب بدمه ، لأنه مظنته ، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه ، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ، ليلبس الأمر ويوقع الشك .
ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث : لئن كان ابن عفان ظالماً كما كان يزعم ، لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه ، أو ينابذ ناصريه . ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه ، والمعذرين فيه . ولئن كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه ، فما فعل
--------------------------- 22 ---------------------------
واحدة من الثلاث ، وجاء بأمر لم يعرف بابه ، ولم تسلم معاذيره ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 73 ) : ( بايعاني بالحجاز ، ثم خالفاني بالعراق فقاتلتهما على خلافهما ، ولو فعلا ذلك مع أبي بكر وعمر ، لقاتلاهما ) .

سارع بنو أمية إلى إعلان الخروج على أمير المؤمنين عليه السلام

قال الطبري ( 3 / 455 ) : ( لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان ، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعداً والزبير خارجين ، ووجدوا طلحة في حائط له ، ووجدوا بني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب ، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أول من خرج وتبعهم مروان ، وتتابع على ذلك من تتابع ، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر : أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة ، وأمركم جائز على الأمة ، فانظروا رجلاً تنصبونه ، ونحن لكم تبع ، فقال الجمهور : علي بن أبي طالب ، نحن به راضون ) .
أقول : يظهر أن بني أمية كانوا مختفين بعد مقتل عثمان ، ثم اطمأنوا فجاؤوا وفاوضوا علياً عليه السلام . قال المؤرخون : ( فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علي عليه السلام ، ثم طلع مروان وسعيد وعبد الله بن الزبير فجلسوا إليهما ، ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم ، فتحدثوا نجياً ساعة ثم : ( قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إلى علي فقال : يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً ، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً ، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثَوْرَ قريش ! وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه ، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف ، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان ، وأن تقتل قتلته وأنا إن خفناك تركناك ، فالتحقنا بالشام .
فقال عليه السلام : أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم ، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس ، ولكن لكم عليَّ إن خفتموني أن أؤمنكم وإن خفتكم
--------------------------- 23 ---------------------------
أن أسيركم . فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف ) . ( شرح النهج : 7 / 38 ، وتاريخ اليعقوبي : 2 / 167 ) .
ثم كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى سهل بن حنيف عامله على المدينة أن لا يمنع من أراد الهروب إلى معاوية ، قال : ( بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ، ويذهب عنك من مددهم . فكفى لهم غياً ، ولك منهم شافياً فرارهم من الهدى والحق ، وإيضاعهم إلى العمى والجهل . وإنما هم أهل دنياً مقبلون عليها ومهطعون إليها ، قد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه ، وعلموا أن الناس عنده في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة ! فبعداً لهم وسحقاً ، إنهم والله لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل . وإنا لنطمع في هذا الأمر أن يذلل الله لنا صعبه ويسهل لنا حزنه ، إن شاء الله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 132 ) .
وهذه إحدى ميزات أمير المؤمنين عليه السلام أنه يعطي الحرية لمخالفيه ، بعكس غيره .

طلبوا من عبد الله بن عمر أن يخرج معهم فأبى !

قال ابن الأعثم ( 2 / 452 ) : ( وأقبل طلحة والزبير إلى عبد الله بن عمر وهو يومئذ مقيم بمكة ، فقالوا له : أبا عبد الرحمن ! إن عائشة قد خافت في هذا الأمر وعزمت على المسير إلى البصرة ، فاشخص معنا ولك بنا أسوة ، فأنت أحق بهذا الأمر . قال : وكلمه الزبير وقال : أبا عبد الرحمن ! لا تنظرن إلى أول أمرنا في عثمان وبيعتنا علياً ولكن انظر إلى آخر أمرنا ، إننا ما نريد في مسيرنا هذا إلا علاج الأمة وقد خفَّت عائشة ، وليست بك عنها رغبة .
قال : فقال عبد الله بن عمر : أيها الرجلان ! أتريدان أن تخدعاني لتخرجاني من بيتي كما يخرج الأرنب من جحره ، ثم تلقياني بين لحيي علي بن أبي طالب ! مهلاً يا هذان ، فإن الناس إنما يخدعون بالوصف والوصيفة والدينار والدرهم ولست من أولئك ، إني قد تركت هذا الأمر عياناً وأنا أدعى إليه ، فدعوني واطلبوا لأمركم غيري ، قال فقال الزبير : يغني الله عنك ) .
--------------------------- 24 ---------------------------
ورواه ابن حبان في الثقات ( 2 / 279 ) وأبو حاتم في أخبار الخلفاء ( 2 / 532 ) وفيه : ( فقال طلحة : ما لنا أمر أبلغ في استمالة الناس إلينا من شخوص ابن عمر معنا . فأتاه طلحة فقال : يا أبا عبد الرحمن إن عائشة قصدت الإصلاح بين الناس ، فاشخص معنا فإن لنا بك أسوة . فقال ابن عمر : أتخدعونني لتخرجوني كما تخرج الأرنب من جحرها . . الخ . ) .

أرادت حفصة أن تخرج معهم فمنعها أخوها

قال ابن حبان في ثقاته ( 2 / 280 ) : ( كلموا حفصة ابنة عمرأن تخرج معهم فقالت : رأيي تبعٌ لرأي عائشة ، فأتاها عبد الله بن عمر فناشدها الله أن تخرج ، فقعدت وبعثت إلى عائشة إن أخي حال بيني وبين الخروج . فقالت يغفر الله لابن عمر ) . ونحوه تاريخ الطبري ( 3 / 470 ) ونهاية الإرب ( 20 / 26 ) .

وصف أمير المؤمنين عليه السلام لخروجهم عليه

قال عليه السلام ( نهج البلاغة : 2 / 85 ) : ( فخرجوا يجرون حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله كما تجر الأمة عند شرائها ، متوجهين بها إلى البصرة ، فحبسا نساءهما في بيوتهما ، وأبرزا حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله لهما ولغيرهما ، في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره ، فقدموا على عاملي بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها ، فقتلوا طائفة صبراً وطائفة غدراً . فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً معتمدين لقتله بلا جرم جره ، لحل لي قتل ذلك الجيش كله ، إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد . دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم ) !
وفي شرح النهج ( 9 / 308 ) : ( فيقال : أيجوز قتل من لم ينكر المنكرمع تمكنه من إنكاره ؟ والجواب أنه يجوز قتلهم ، لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحاً ، فإنهم إذا اعتقدوا إباحته فقد اعتقدوا إباحة ما حرم الله ، فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح ، أو أن شرب الخمر مباح . وقال القطب الراوندي : يريد أنهم داخلون في عموم قوله
--------------------------- 25 ---------------------------
تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا .
ولقائل أن يقول : فهو عَلَّلَ استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر ، ولم يعلل ذلك بعموم الآية . وأما معنى قوله : دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم ، فهو أنه لو كان المقتول واحداً لحل لي قتلهم كلهم ، فكيف وقد قتلوا من المسلمين عدة مثل عدتهم التي دخلوا بها البصرة !
وصدق عليه السلام فإنهم قتلوا من أوليائه وخزان بيت المال بالبصرة خلقاً كثيراً ، بعضهم غدراً ، وبعضهم صبراً ) .

صراع طلحة والزبير وعائشة على الخلافة !

1 . لما دعوا عبد الله بن عمر ليخرج معهم على علي عليه السلام لم يقبل لأنه عرف أنهم يريدونه واجهة وأن مرشحهم غيره ! أما الزبيرفيرى أنه صهر أبي بكر ، وأنه أكبر سناً من طلحة ، وأشجع منه ، وأكثر سابقة في حروب النبي صلى الله عليه وآله !
وأما عائشة فمرشحها ابن عمها طلحة ، لأنه من عشيرتها تَيْم ، وهي مُصِرَّةٌ على إعادة الخلافة إلى تيم ، إلى طلحة ثم إلى أخيها عبد الرحمن ، فإن لم يمكن فلمحمد بن طلحة ، أو لأخيه موسى ، الذي ادعوا له أنه المهدي الموعود .
فإن لم يمكن فلابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير ! وكانت تحبه وتفضله على طلحة والزبير ، لكن الخلافة عندها لبني تيم خاصة !
2 . يدل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على أن تعيين الخليفة كان بيد عائشة ، وأن طلحة والزبيركانا يأملان الخلافة لصلتهما بعائشة !
قال عليه السلام ( الكافئة / 19 ) : ( قد سارت عائشة وطلحة والزبيركل منهما يدعي الخلافة دون صاحبه ! ولا يدعي طلحة الخلافة إلا أنه ابن عم عائشة ، ولا يدعيها الزبير إلا أنه صهر أبيها ! والله لئن ظفرا بما يريدان ، ليضربن الزبيرعنق طلحة ، وليضربن طلحة عنق الزبير ، ينازع هذا على الملك هذا ! ) .
وقال أبو جعفر الإسكافي في المعيار والموازنة / 56 : ( قوله : لئن ظفرا بالأمر يعني
--------------------------- 26 ---------------------------
الزبير وطلحة ، ليضربن بعضهم بعضاً . وقد كان من تشاحهما على الصلاة وقتالهما عليها ، ما يحقق قوله رضي الله عنه ) .
3 . بلغ من جرأة عائشة أنها رفعت عشيرتها بني تيم وادعت لهم الوصية ، فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى لأبي بكر وابنه عبد الرحمن ! مع أن أبا بكر وعمر قالا إن النبي صلى الله عليه وآله لم يوص إلى أحد ! لكن عائشة تصر على أن النبي صلى الله عليه وآله قال لها ( البخاري : 7 / 8 و : 8 / 126 ) : ( لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ، ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون ) .
وروى عنها مسلم ( 7 / 110 ) أنها قالت : ( قال لي رسول الله في مرضه : أدعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) .
وقال ابن حجر ( فتح الباري : 1 / 186 ) : ( اختلف في المراد بالكتاب ، فقيل كان أراد أن يكتب كتاباً ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف . وقيل : بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف ، قاله سفيان بن عيينة ، ويؤيده أنه قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة : أُدْعِي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر . أخرجه مسلم ) !
وقال في فتح الباري ( 13 / 177 ) : ( قوله : فأعهد ، أي أعين القائم بالأمر بعدي ، هذا هو الذي فهمه البخاري فترجم به ، وإن كان العهد أعم من ذلك ، لكن وقع في رواية عروة عن عائشة بلفظ : أُدعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً .
وفي رواية للبزار : معاذ الله أن تختلف الناس على أبي بكر . فهذا يرشد إلى أن المراد الخلافة . وأفرط المهلب فقال : فيه دليل قاطع في خلافة أبي بكر ! والعجب أنه قرر بعد ذلك أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله لم يستخلف ) !
أقول : لم يفرط المهلب في تفسير حديث عائشة بأن النبي صلى الله عليه وآله أوصى لأبي بكر وابنه بالخلافة ، لكنه رأى أن ذلك كذب صريح ، فتراجع ونفى الوصية !
ولئن كان النبي صلى الله عليه وآله نصَّ بالخلافة لأبي بكر وابنه ، فقد خالفه أبو بكر وأخرجها من بنيه
--------------------------- 27 ---------------------------
وعشيرته ، إلى بني عدي ! واضطرت عائشة يومها أن تسكت على مضض !
وإذا صح أن المؤمنين يأبوْنَ إلا أبا بكر ، فالذين عارضوه وأدانوه يكونون غيرمؤمنين ! وهم أكثر من سبعين صحابياً ، فكيف عدوهم مؤمنين عدولاً !
وكيف يصدقون عائشة في زعمها هذا ، ثم يصدقون أباها بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يوصِ ! ثم يصدقون وصف عمر لبيعة أبي بكر بأنها فلتة وخطيئة ، يجب قتل من عاد إلى مثلها ! لكنهم جماعة متناقضة الأقول والأفعال ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !
وهل يفسرون العهد الذي أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يكتبه فمنعوه من كتابته ، بأنه عهد بالخلافة لأبي بكر ! ولو كان كذلك فلماذا منعوا النبي صلى الله عليه وآله من كتابته !
ولو كانت خلافة أبي بكرتعصم أمته من الضلال والضعف إلى يوم القيامة ، فلماذا اختلفت الأمة وكفَّر بعضها بعضاً ، وسفكت دماء مئات الألوف !
4 . وتتعجب عندما ترى أن عامة علماء السلطة لم يكذبوا عائشة ولا خطؤوها ، بل قبلوا منها النص على الخلافة لبني تيم ! قال في إرشاد الساري بشرح البخاري ( 10 / 270 ) : ( فأعهد : أي أوصي بالخلافة لأبي بكر ، كراهية أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ) . وهكذا فسره بقية شراحهم ، فمن هو الصادق عائشة ، أم أبوها !
5 . أما الأمويون فرأيهم أن ملك قريش لبني عبد مناف للأمويين أو الهاشميين !
قال الطبري ( 3 / 472 ) : ( لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بذات عرق فقال : أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل ! أقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم لاتقتلوا أنفسكم . قالوا بل نسيرفلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً ! فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال : إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر ، أصدقاني ؟ قالا : لأحدنا أينا اختاره الناس . قال : بل اجعلوه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه . قالا : ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم [ لأيتام ] ! قال : فلا أراني أسعى لأخرجها من بني عبد مناف . . فرجع ومضى القوم ، معهم أبان بن عثمان والوليد بن عثمان ، فاختلفوا في الطريق فقالوا : من ندعولهذا الأمر ) !
--------------------------- 28 ---------------------------
وفي نهاية الأرب ( 20 / 26 ) : ( لما خرجت عائشة من مكة أذَّنَ مروان بن الحكم ، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال : على أيكما أسلِّمُ بالإمرة وأؤذن بالصلاة ؟ فقال عبد الله بن الزبير : على أبي عبد الله ، يعني أباه . وقال محمد بن طلحة : على أبي محمد ، يعني أباه . فأرسلت عائشة إلى مروان فقالت : أتريد أن تفرق أمرنا ! ليصل بالناس ابن أختي تعني عبد الله بن الزبير . وقيل بل صلَّى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل ) .
6 . يتعجب الإنسان عندما يرى تحاسد طلحة والزبيروعائشة ! فقد اختلف طلحة والزبيرعلى إمامة الصلاة وتدافعا بالأيدي عن المحراب أمام الناس حتى صاح الناس كادت الشمس تطلع وتفوت الصلاة ! فأمرت عائشة ابن أختها بإمامتهم ! ثم اختلفا وتدافعا على بيت مال البصرة ، فأراد كل منهما أن يقفل بابه ويأخذ المفتاح ، وتدخلت عائشة فلم ينفع تدخلها ، وأقفلوه بثلاثة أقفال ، ثالثها لعبد الله بن الزبير نيابة عن عائشة !
وقد هددها الزبير بأن يتركها ويلتحق بمعاوية ، إذا لم تؤمره عليهم ! وذلك لما سيطروا على بيت المال فقال الزبير للناس : إمضوا فخذوا أعطياتكم ، فلما رجع إلى منزله قال له ابنه عبد الله : أمرت الناس أن يأخذوا أعطياتهم ليتفرقوا بالمال قبل أن يأتي علي بن أبي طالب فتضعف ، بئس الرأي الذي رأيت ! فقال له الزبير : أسكت ويلك ما كان غير الذي قلت ! فقال طلحة : صدق عبد الله وما ينبغي أن يسلم هذا المال حتى يقرب منا علي فنضعه في موضعه فيمن يدفعه عنا ، فغضب الزبير وقال : والله لو لم يبق إلا درهم واحد لأعطيته ، فلامته عائشة على ذلك ووافق رأيها برأي الرجلين فقال الزبير : والله لتَدَعُوني أو ألحق بمعاوية ، فقد بايع لي في الشام الناس . فأمسكوا عنه ) ! ( الجمل للمفيد / 155 ) .
7 . أرسل معاوية إلى الزبير يدعوه للحضور إلى الشام ! يريد أن يغريه بحرب علي عليه السلام ، ثم إذا حضر إلى الشام استفاد منه وقتله ، وأعلن نفسه خليفة بعده !
قال في شرح النهج ( 1 / 230 ) : ( بعث رجلاً من بنى عميس وكتب معه كتاباً إلى
--------------------------- 29 ---------------------------
الزبير بن العوام وفيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله الزبيرأمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان : سلام عليك ، أما بعد ، فإني قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنه لا شئ بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهرا الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجد والتشمير أظفركما الله وخذل مناوئكما ! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سُرَّ به ، وأعلم به طلحة وأقرأه إياه ، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية ، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام ) !
وروى نحوه في البدء والتاريخ ( 5 / 211 ) وقال الطبري في كامل البهائي ( 2 / 215 ) : ( ولكن عائشة قالت : لو كان كتب إلى طلحة ) . وهذا يكشف عن عملها لبني تيم !
وقال البلاذري ( 2 / 257 ) : ( كتب معاوية إلى الزبير : أن أقبل إلي أبايعك ومن يحضرني . فكتم ذلك عن طلحة وعائشة ، ثم بلغها فكبر ذلك عليها ، وأخبرت عائشة به ابن الزبير فقال لأبيه : أتريد أن تلحق بمعاوية ؟ فقال : نعم ، ولم لا أفعل وابن - ( طلحة ) ينازعني في الأمر ! ثم بدا له في ذلك ، وأحسبه كان حلف ليفعلن فدعا غلاماً له فأعتقه ، وعاد إلى الحرب ) !
ولم يرجع عن تهديده لهم حتى بايعوه ، لكنهم بايعوه أميراً للجند ، فقد كتبت عائشة إلى أهل المدينة : ( فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة وأمَّروا عليهمالزبير بن العوام فهو أميرالجنود ، والكافة يجتمعون على السمع والطاعة له ، فإذا اجتمعت كلمة المؤمنين على أمرائهم عن ملأ منهم وتشاور ، فإنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه فإذا جاءكم كتابي هذا فاسمعوا وأطيعوا ) . ( الجمل للمفيد / 160 ) .
وروى البلاذري قول عائشة ( 2 / 229 و 262 ) : ( لا تبايعوا الزبير على الخلافة ، ولكن على الإمرة في القتال ، فإن ظفرتم رأيتم رأيكم ! فقال عبد الله بن الزبير : إنما تريد هذه أن تجعل حارَّ أمر الناس بك وبارده لابن عمها . قال : ثم كانت تقول : ما أنا وطلحة والزبير وبيعة من بويع وحرب من حورب ، يا ليتني قَرَرْتُ في بيتي ،
--------------------------- 30 ---------------------------
ولكنها بلية جاءت بمقدار » ! وهذا يدل على حدة صراعهما .
وروي أن عائشة بايعت بعده طلحة أميراً أيضاً ، ولا بد أن طلحة اعترض وغضب ، فبايعته أميراً إلى جنب الزبير ! قال البلاذري ( 2 / 227 ) : ( فتدافع طلحة والزبير الصلاة ، وكانا بويعا أميرين غير خليفتين ) .
8 . قال أبو الأسود الدؤلي : ( ولما خرج عثمان بن حنيف من البصرة وعاد طلحة والزبير إلى بيت المال فتأملا إلى ما فيه من الذهب والفضة قالوا : هذه الغنائم التي وعدنا الله بها وأخبرنا أنه يعجلها لنا . قال أبو الأسود الدؤلي : وقد سمعت هذا منهما ! ورأيت علياً بعد ذلك وقد دخل بيت مال البصرة ، فلما رأى ما فيه قال : يا صفراء يا بيضاء غُري غيري ، المال يعسوب الظلمة وأنا يعسوب المؤمنين فلا والله ما التفت إلى ما فيه ، ولا فكر فيما رآه منه وما وجدته عنده إلا كالتراب هواناً ! فتعجبت من القوم ومنه عليه السلام فقلت : أولئك ممن يريد الدنيا ، وهذا ممن يريد الآخرة ! وقويت بصيرتي فيه ) . ( الجمل للمفيد / 154 ) .

تشاوروا هل يخرجون عليه في المدينة أو البصرة أوالشام

تجمعوا في مكة : عائشة ، وطلحة ، والزبير ، وابنه عبد الله ، ومروان ، والوليد بن عقبة ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن كريز ، ويعلى بن منية ، والمغيرة بن شعبة ، وآل أبي معيط ، وغيرهم . وتشاوروا من أين يبدؤون الثورة على علي عليه السلام ؟
قال ابن قتيبة في المعارف / 208 : ( فلما تتامُّوا بمكة تشاوروا فيما يريدون من الطلب بدم عثمان ، وهمُّوا بالشام لمكان معاوية بها ، فصرفهم عبد الله بن عامر عن ذلك إلى البصرة ، فتوجهوا إليها فأخذوا عثمان بن حنيف عامل علي بها فحبسوه ، وقتلوا خمسين رجلاً كانوا معه على بيت المال ، وغير ذلك من أعمالهم ) .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ( وقادهما عبد الله بن عامر إلى البصرة وضمن لهما الأموال والرجال ، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما ، فاتخذاها فئة يقاتلان دونها ) .
وكان أصغرهم عبد الله بن كريز ، ابن خال عثمان ، ولاه البصرة وعمره 25 سنة ! ( الطبري : 3 / 319 ) ثم عزله علي عليه السلام ، ثم ولاه معاوية وكان يفتخر به . ( الطبقات : 5 / 48 ) .
--------------------------- 31 ---------------------------
وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 357 ) : ( دخل طلحة والزبيرمكة ، وقد كانا استأذنا عليّاً في العمرة فقال لهما : لعلكما تريدان البصرة أو الشام ، فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة ، وقد كانت عائشة بمكة ، وقد كان عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة ، هرب عنها حين أخذ البيعة لعلي بها على الناس حارثة بن قدامة السعدي ، ومسير عثمان بن حنيف الأنصاري إليها على خراجها من قبل علي رضي الله عنه ! وانصرف عن اليمن عامل عثمان وهو يعلى بن منية ، فأتى مكة وصادف بها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني أمية ، فكان ممن حَرَّض على الطلب بدم عثمان ، وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربع مائة ألف درهم وكُرَاعاً وسلاحاً ، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمى عسكراً وكان شراؤه عليه باليمن مائتي دينار ، فأرادوا الشام فصدهم ابن عامر وقال : إن به معاوية ولا ينقاد إليكم ولايطيعكم ، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد فجهزهم بألف ألف درهم ومائة من الإبل ، وغير ذلك . وسار القوم نحو البصرة في ست مائة راكب ) .
وفي خصائص الأئمة للشريف الرضي / 61 : ( لما قدم عبد الله بن عامر بن كريز المدينة لقي طلحة والزبيرفقال لهما : بايعتما علي بن أبي طالب ! أما والله لا يزال يُنتظر بها الحبالى من بني هاشم ، فمتى تصير إليكما ! أما والله ما جئت حتى ضربت على أيدي أربعة آلاف من أهل البصرة كلهم يطلبون بدم عثمان ، فدونكما فاستقيلا أمركما . فأتَيَا علياً فقالا له : إئذن لنا في العمرة ، فقال : والله إنكما تريدان العمرة وما تريدان نكثاً ولا فراقاً لأمتكما ، وعليكما بذلك أشد ما أخذ الله على النبيين من ميثاق ؟ قالا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد ، إذهبا وانطلقا ، والله لا أراكما إلا في فئة تقاتلني ) !
ومعنى قول ابن كريز لا تخرج الخلافة من بني هاشم ، أنها تكون في ذرية علي عليه السلام !
--------------------------- 32 ---------------------------
وقال ابن الأعثم ( 2 / 451 ) : ( فخرج الزبير وطلحة إلى مكة ، وخرج معهما عبد الله بن عامر بن كريز وهو ابن خال عثمان ، فجعل يقول لهما : أبشرا فقد نلتما حاجتكما ، والله لأمدنكما بمائة ألف سيف . قال : وقدموا مكة وبها يومئذ عائشة وحرضوها على الطلب بدم عثمان ، وكان معها جماعة من بني أمية ، فلما علمت بقدوم طلحة والزبير فرحت بذلك واستبشرت وعزمت على ما أرادت من أمرها . قال : وتكلمت بنو أمية ورفعت رؤوسها عند قدوم طلحة والزبيرعلى عائشة ، ولم يزالوا يحرضوها على الطلب بدم عثمان ، قال : وكتب الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى من كان بالمدينة من بني هاشم أبياتاً مطلعها :
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم * ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
قال : فأجابه الفضل بن العباس يقول أبياتاً مطلعها :
سلوا أهل مصرعن سلاح ابن أختكم * فهم سلبوه سيفه وحرائبه
قال : وقدم يعلى بن منية من اليمن ، وقد كان عاملاً عليها من قبل ، فقدم ومعه أربع مائة بعير ، فدعا الناس إلى الحملان ، فقال له الزبير : دعنا من إبلك هذه ، هات فأقرضنا مما لك ما نستعين به على ما نريد ، فأقرضهم ستين ألف دينار ، ففرقها الزبير فيمن أحب ممن خف معه ، قال : ثم شاوروا في المسيرفقال الزبير : عليكم بالشام ! فيها الرجال والأموال وبها معاوية وهو عدو لعلي ، فقال الوليد بن عقبة : لا والله ما في أيديكم من الشام قليل ولا كثير ! وذلك أن عثمان بن عفان قد كان استعان بمعاوية لينصره وقد حوصر فلم يفعل وتربص حتى قتل ، لذلك يتخلص له الشام أفتطمع أن يسلمها إليكم ؟ مهلاً عن ذكر الشام وعليكم بغيرها ، ثم اعتزلهم الوليد بن عقبة وأنشأ يقول أبياتاً مطلعها :
قولا لطلحة والزبير خطئتما * بقتلكما عثمان خير قتيل
قال : واتصل الخبر بمعاوية أن طلحة والزبيروعائشة قد تحالفوا على علي رضي الله عنه ، وقد اجتمع إليه جماعة من الناس وأنهم يريدون الشام ، فكأنه اغتم بذلك ، ثم كتب إليهم أبياتاً لا عن لسانه ولا عن لسان غيره ، مطلعها :
--------------------------- 33 ---------------------------
قل للزبير على ما كان من عَنَدٍ * والمرءِ طلحةَ قولاً غير ذي أود
قال : فلما وردت الأبيات على طلحة والزبير ونظرا فيها قال الزبير : والله ما هذا إلا من قول معاوية ، ولكنه جعله على لسان غيره ) .
أقول : موقف معاوية منسجم مع موقف بني أمية بأن الخلافة لهم أو لبني هاشم ، ولا تحق لطلحة من بني تيم ، ولا للزبير من بني أسد عبد العزى .
لهذا قررت عائشة أن تقصد البصرة ، وقالت لأم سلمة : ( إن ابني وابن أخي أخبراني أن الرجل قتل مظلوماً ، وأن بالبصرة مائة ألف سيف يطيعون ، فهل لك أن أخرج أنا وأنت لعل الله أن يصلح بين فئتين متشاجرتين ؟ فقالت : يا بنت أبي بكر ، أبدم عثمان تطلبين ؟ فلقد كنت أشد الناس عليه ) ! ( الإختصاص / 166 ) .
وفي الطبري ( 3 / 471 ) : ( فاجتمعوا في بيت عائشة فأداروا الرأي فقالوا : نسير إلى علي فنقاتله ، فقال بعضهم : ليس لكم طاقة بأهل المدينة ، ولكنا نسيرحتى ندخل البصرة والكوفة ولطلحة بالكوفة شيعة وهوى وللزبير بالبصرة هوى ومعونة ، فاجتمع رأيهم على أن يسيروا إلى البصرة وإلى الكوفة ، فأعطاهم عبد الله بن عامر مالاً كثيراً وإبلاً ، فخرجوا في سبع مائة رجل من أهل المدينة ومكة ، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل ) .

أعلن حذيفة تحذير النبي صلى الله عليه وآله لأمته من عائشة

روى الحاكم ( 4 / 471 ) : ( عن خيثمة بن عبد الرحمن قال : كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال بعضنا : حدثنا يا با عبد الله ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
قال : لو فعلت لرجمتموني ! قال قلنا : سبحان الله ، أنحن نفعل ذلك ! قال : أرأيتكم لو حدثتكم أن بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثيرعددها شديد بأسها صدقتم به ؟ قالوا : سبحان الله ومن يصدق بهذا ! ثم قال حذيفة : أتتكم الحميراء في كتيبة يسوقها أعلاجها ، حيث تسوء وجوهكم ، ثم قام فدخل مخدعاً ! هذا
--------------------------- 34 ---------------------------
حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ) !
أقول : لم يخرجه البخاري ومسلم لأنهما ينتقيان من سنة النبي صلى الله عليه وآله ما يوافق السلطان ، وهذا حديث يخرج عائشة من ملة النبي صلى الله عليه وآله ! وقد تجرأ الحاكم ورواه !
وفي أمالي المفيد / 58 : ( حدثنا الأعمش ، عن حبة العرني قال : سمعت حذيفة بن اليمان قبل أن يقتل عثمان بن عفان بسنة وهو يقول : كأني بأمكم الحميراء قد سارت ، يساق بها على جمل وأنتم آخذون بالشوى والذنب ، معها الأزد أدخلهم الله النار ، وأنصارها بنوضبة جذ الله أقدامهم .
قال : فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أمير المؤمنين صلوات الله عليه : لايبدأن أحد منكم بقتال حتى آمركم . قال : فرموا فينا فقلنا يا أمير المؤمنين قد رُمينا ، فقال : كفوا ، ثم رمونا فقتلوا منا ، قلنا يا أمير المؤمنين قد قتلونا ، فقال : احملوا على بركة الله . قال فحملنا عليهم فأنشب بعضنا في بعض الرماح حتى لو مشى ماش لمشى عليها ، ثم نادى منادي علي : عليكم بالسيوف فجعلنا نضرب بها البيض فتنبو لنا ، فنادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام : عليكم بالأقدام . قال : فما رأينا يوماً كان أكثر قطع أقدام منه . قال : فذكرت حديث حذيفة : أنصارها بنو ضبة جذَّ الله أقدامهم ، فعلمت أنها دعوة مستجابة ) .

أم سلمة رضي الله عنها تقيم الحجة على عائشة

1 . كان موقف أم سلمة رضي الله عنها مع عائشة موقفاً تاريخياً ، فقد نصحتها وحذرتها ، وحاولت أن تثنيها عن السفر إلى البصرة ، فلم ينفع معها .
قال الشريف المرتضى في رسائله ( 4 / 66 ) : ( ومن الأخبار الطريفة ما رواه نصر بن مزاحم . . عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي قال : كنت بمكة مع عبد الله بن الزبير وبها طلحة والزبير . قال : فأرسلا إلى عبد الله بن الزبيرفأتاهما وأنا معه فقالا له : إن عثمان قتل مظلوماً وإنا نخاف الانتشار في أمة محمد صلى الله عليه وآله ، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا ، لعل الله يرتق بها فتقاً ويشعب بها صدعاً .
--------------------------- 35 ---------------------------
قال : فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبد الله بن الزبير في سمرها وجلست على الباب ، فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت : سبحان الله ، ما أمرت بالخروج وما تحضرني امرأة من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة ، فإن خرجت خرجت معها ! فرجع إليهما فأبلغهما ذلك فقال : إرجع إليها فلتأتها فإنها أثقل عليها منا ، فرجع إليها فبلغها فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت أم سلمة : مرحباً بعائشة ، والله ما كنت لي بزوارة فما بدا لك ؟ قالت : قدم طلحة والزبير فخبرا أن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً ! قال : فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار فقالت : يا عائشة أنت بالأمس تشهدين عليه بالكفر ، وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوماً ، فما تريدين !
قالت : تخرجين معي فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد | فقالت : يا عائشة أخرج وقد سمعت من رسول الله ما سمعت !
نشدتك بالله يا عائشة : الذي يعلم صدقك إن صدقت ، أتذكرين يومك من رسول الله فصنعت حريرة في بيتي ، فأتيته بها وهو يقول : والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية ، فسقط الإناء من يدي ، فرفع رأسه إلي فقال : ما بالك يا أم سلمة ؟ قلت : يا رسول الله ألايسقط الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول ، ما يؤمنني أن أكون أنا هي ! فضحكت أنت فالتفت إليك فقال : ما يضحكك يا حمراء الساقين ، إني لأحسبك هي !
ونشدتك بالله يا عائشة : أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله من مكان كذا وكذا ، وهو بيني وبين علي بن أبي طالب يحدثنا ، فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي ، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك وقال : أما والله ما يومك منه بواحد ، ولا بليته منك بواحدة ، أما إنه لا يبغضه إلا منافق أو كذاب !
وأنشدك الله يا عائشة : أتذكرين مرض رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قبض فيه فأتاك أبوك يعوده ومعه عمر ، وقد كان علي بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول الله ونعله
--------------------------- 36 ---------------------------
وخفه ويصلح ماوهَى منها ، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية ، وهو يخصفها خلف البيت ، فاستأذنا عليه فأذن لهما فقالا : يا رسول الله كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت أحمد الله تعالى . قالا : ما بد من الموت ؟ قال : لا بد منه . قالا : يا رسول الله فهل استخلفت أحداً ؟ فقال : ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل ، فخرجا فمرا على علي وهو يخصف النعل !
كل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه ، لأنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله !
ثم قالت أم سلمة : يا عائشة أنا أخرج على علي بعد هذا الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله ! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت : يا ابن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة بعد الذي سمعته من أم سلمة ، فرجع فبلغهما . قال : فما انتصف الليل حتى سمعنا رُغاء إبلها ترتحل ، فارتحلت معهما » .
وأضاف المرتضى + : « ومن العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الذي يتضمن النص بالخلافة وكل فضيلة غريبة ، موجوداً في كتب المخالفين وفيما يصححونه من روايتهم ويصنفونه من سيرتهم ولا يتبعونه ! لكن القوم رووا ما سمعوا وأودعوا كتبهم ما حفظوا ونقلوا ، ولم يتخيروا ويتبينوا ما وافق مذهبهم وما خالفهم ( أحياناً ) . وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحق » ! ( ورواه في شرح النهج : 2 / 78 ، والعقد الفريد : 3 / 96 ، والبدء والتاريخ : 2 / 109 ، والفائق : 1 / 190 » .
2 . ورواه المفيد في الإختصاص / 116 ، بتفصيل ، فقال : ( حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أبو العباس ثعلب . . عن أبي كيسة ويزيد بن رومان قالا : لما أجمعت عائشة على الخروج إلى البصرة أتت أم سلمة رضي الله عنها وكانت بمكة فقالت : يا بنت أبي أمية كنت كبيرة أمهات المؤمنين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقمؤ ( يجلس ) في بيتك ، وكان يقسم لنا في بيتك ، وكان ينزل الوحي في بيتك .
فقالت لها : يا بنت أبي بكر لقد زرتني وما كنت زوارة ، ولأمر ما تقولين هذه المقالة ؟ قالت : إن ابني وابن أخي أخبراني أن الرجل قتل مظلوماً ، وأن بالبصرة
--------------------------- 37 ---------------------------
مائة ألف سيف يطيعون ، فهل لك أن أخرج أنا وأنت لعل الله أن يصلح بين فئتين متشاجرتين ؟ فقالت : يا بنت أبي بكر ، أبدم عثمان تطلبين ؟ فلقد كنت أشد الناس عليه ! وإن كنت لتدعينه بالتبري . أم أمر ابن أبي طالب تنقضين ، فقد بايعه المهاجرون والأنصار ! إنك سدة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أمته ، وحجابةٌ مضروبة على حرمه ، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه ، وسكني عقيراك فلا تَضْحَيْ بها ، اللهَ من وراء هذه الأمة ، قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله مكانك ، ولو أراد أن يعهد إليك فعل ، قد نهاك رسول الله صلى الله عليه وآله عن الفراطة في البلاد ، إن عمود الإسلام لا ترأبه النساء إن انثلم ، ولايشعب بهن إن انصدع . حماديات النساء غَض الأطراف ، وقِصَرالوهادة ، وما كنت قائلةً لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله عرض لك ببعض الفلوات ، وأنت ناصَّةٌ قلوصاً ، من منهل إلى آخر !
إن بعين الله مهواك وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله تردين ، قد وجهت سدافته ، وتركت عهيداه . أقسم بالله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي : أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً صلى الله عليه وآله هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ . إجعلي حصنك بيتك ، وقاعة الستر قبرك ، حتى تلقيه وأنت على ذلك أطوع .
ثم قالت : لو ذكرتك من رسول الله صلى الله عليه وآله خمساً في علي لنهشتني نهش الحية الرقشاء المطرَّقة ذات الحَبَب ! أتذكرين إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً فأقرع بينهن فخرج سهمي وسهمك ، فبينا نحن معه وهو هابط من قُدَيْد ومعه علي عليه السلام يحدثه فذهبت لتهجمي عليه فقلت لك : رسول الله صلى الله عليه وآله معه ابن عمه ولعل له إليه حاجة ، فعصيتني ورجعت باكية فسألتك فقلت بأنك هجمت عليهما فقلت له : يا علي إنما لي من رسول الله يوم من تسعة أيام وقد شغلته عني ! فأخبرتني أنه قال لك : أتبغضينه ؟ فما يبغضه أحد من أهلي ولامن أمتي إلا خرج من الإيمان ! أتذكرين هذا يا عائشة ؟ قالت : نعم .
ويوم أراد رسول الله صلى الله عليه وآله سفراً وأنا أجشُّ له جَشيشاً ( أدق له سويقاً ) فقال :
--------------------------- 38 ---------------------------
ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، تنبحها كلاب الحوأب ! فرفعت يدي من الجشيش وقلت : أعوذ بالله أن أكونه ، فقال : والله لابد لأحدكما أن تكونه ، إتقي الله يا حميرا أن تكونيه ! أتذكرين هذا يا عائشة ؟ قالت : نعم .
ويوم تبذلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله فلبست ثيابي ولبست ثيابك ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله فجلس إلى جنبك فقال : أتظنين يا حميرا أني لا أعرفك ، أما إن لأمتي منك يوماً مراً ، أو يوماً حمرا ، أتذكرين هذا يا عائشة ؟ قالت : نعم .
ويوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله فجاءك أبوك وصاحبه يستأذنان ، فدخلت الخدر فقالا : يا رسول الله إنا لا ندري قدر مقامك فينا ، فلو جعلت لنا إنساناً نأتيه بعدك . قال : أما إني أعرف مكانه وأعلم موضعه ، ولوأخبرتكم به لتفرقتم عنه كما تفرقت بنوا إسرائيل عن عيسى بن مريم عليه السلام .
فلما خرجا خرجت إليه أنا وأنت وكنت جريئة عليه ، فقلت له : من كنت جاعلاً لهم ؟ فقال : خاصف النعل ! وكان علي بن أبي طالب يصلح نعل رسول الله صلى الله عليه وآله إذا تخرقت ويغسل ثوبه إذا اتسخ ، فقلتِ : ما أرى إلا علياً ، فقال : هو ذاك . أتذكرين هذا يا عائشة ؟ قالت : نعم .
قالت : ويوم جمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله في بيت ميمونة فقال : يا نسائي اتقين الله ولا يسفر بكن أحد ، أتذكرين هذا يا عائشة ؟ قالت : نعم ، ما أقبلني لوعظك وأسمعني لقولك ، فإن أخرج ففي غير حرج ، وإن أقعد ففي غير بأس !
وخرجت فخرج رسولها فنادى في الناس : من أراد أن يخرج فليخرج ، فإن أم المؤمنين غير خارجة ، فدخل عليها عبد الله بن الزبير فنفث في أذنها وقَلَبَهَا في الذروة ، فخرج رسولها فنادى : من أراد أن يسير فليسر فإن أم المؤمنين خارجة ، فلما كان من ندمها أنشأت أم سلمة تقول :
لو أن معتصماً من زلة أحد * كانت لعائشة العتبى على الناس
كم سنة ل تاركة * وتلو آي من القرآن مدراس
--------------------------- 39 ---------------------------
قد ينزع الله من ناس عقولهم * حتى يكون الذي يقضي على الناس
فيرحم الله أم المؤمنين لقد * كانت تبدل إيحاشاً بإيناس .
قال أبو العباس ثعلب : قوله : يقمؤ في بيتك : يعني يأكل ويشرب .
وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه : البذخ : النفخ والرياء والكبر .
سكني عقيراك : مقامك ، وبذلك سمي العقار لأنه أصل ثابت . وعقر الدار : أصلها . فلا تَضْحَيْ بها : قال الله عز وجل : وَأَنَّكَ لاتَظْمَؤُ فيهَا وَلَا تَضْحَى . لاتبرز للشمس ، قال النبي صلى الله عليه وآله لرجل محرم : إضح لمن أحرمت له ، أي أخرج إلى البراز والموضع الظاهرالمنكشف من الأغطية والسقوف .
الفراطة في البلاد : السعي والذهاب . لا ترأبه النساء : لا تضمه النساء .
حُمَادى النساء : ما يحمد منهن . غض بالأطراف لايبسطن أطرافهن في الكلام .
قِصَرالوِهَادة : جمع وَهْد ووِهاد ، والوِهاد الموضع المنخفض .
ناصة قلوصاً : النص : السوق بالعنف ومن ذلك الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله أنه كان إذا وجد فجوة نص أي أسرع ، ومن ذلك نص الحديث أي رفعه إلى أهله بسرعة . من منهل إلى آخرالمنهل : الذي يشرب فيه الماء . مهواك : الموضع الذي تهوين وتستقرين فيه ، قال الله عز وجل : وَالنَّجْم إذَا هَوَى ، أي نزل . سدافته من السدفة وهي شدة الظلمة . قاعة الستر قاعة الدار : صحنها . السدة : الباب ) .
وروى الصدوق بعض هذه المحاورة ، في معاني الأخبار / 375 ، وقال إنها رسالة من أم سلمة رضي الله عنها إلى عائشة ، ويبدو أنها كلمتها ثم كتبت لها ، ثم قال الصدوق : ( قولها رحمة الله عليها : إنك سدة بين رسول الله صلى الله عليه وآله : أي إنك باب بينه وبين أمته في حريمه وحوزته ، فاستبيح ما حماه ، فلا تكوني أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك لتحوجي الناس إلى أن يفعلوا مثل ذلك .
وقولها : فلا تبذخيه : أي لا تفتحيه فتوسعيه بالحركة والخروج ، يقال : ندحت الشئ إذا وسعته ، ومنه يقال : أنا في مندوحة عن كذا ، أي في سعة .
--------------------------- 40 ---------------------------
وتريد بقولها : قد جمع القرآن ذيلك ، قول الله عز وجل : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الآولَى .
وقولها : وسكن عقيراك : من عقر الدار وهو أصلها وأهل الحجاز يضمون العين ، وأهل نجد يفتحونها : فعقيرا اسم مبني من ذاك على التصغير ، ومثله ما جاء مصغراً الثريا والحميا وهي سَوْرَة الشراب . ولم يسمع بعقيرا إلا في هذا الحديث .
وقولها : فلا تصحريها ، أي لاتبرزيها وتباعديها وتجعليها بالصحراء ، يقال : أصحرنا ، إذا أتينا الصحراء ، كما يقال : أنجدنا ، إذا أتينا نجداً .
وقولها : عِلْتُ ، أي ملت إلى غير الحق ، والعول الميل والجور ، قال الله عز وجل : ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا . يقال : عال يعول ، إذا جاز .
وقولها : بل قد نهاك عن الفُراطة في البلاد ، أي عن التقدم والسبق في البلاد لأن الفُرطة اسم في الخروج والتقدم مثل غُرفة وغَرفة ، يقال : في فلان فُرْطة ، أي تقدم وسبق ، يقال : فَرَطْته في المال أي سبقته . وقولها : إن عمود الإسلام لن يثاب بالنساء إن مال . أي لا يرد بهن إلى استوائه ، ثُبْتُ إلى كذا ، أي عُدت إليه .
وقولها : لن يُرأب بهن إن صدع ، أي لا يسد بهن يقال : رأبت الصدع ولأمته فانضم . وقولها : حماديات النساء : هي جمع حمادي ، ويقال : قصاراك أن تفعل ذلك وحماداك ، كأنها تقول : حمدك وغايتك . وقولها : غض الأطراف ، معروف .
وقولها : وخفر الأعراض ، الأعراض جماعة العرض وهو الجسد ، والخفْر : الحياء ، أرادات أن محمدة النساء في غض الأبصار وفي التستر ، للخفر الذي هو الحياء .
وقِصَرالوهازة : وهو الخطو ، تعني بها أن تقل خطوهن .
وقولها : ناصَّةً قلوصاً من منهل إلى آخر ، أي رافعة لها في السير ، والنص : سير مرفوع ، ومنه يقال : نصصت الحديث إلى فلان إذا رفعته إليه ، ومنه الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وآله يسير العَنَق ، فإذا وجد فجوة نَصَّ ، تعني زاد في السير . وقولها إن بعين الله مهواك : تعني مرادك لا يخفى عليه .
--------------------------- 41 ---------------------------
وقولها : وعلى رسول الله تردين فتخجلي من فعلك وقد وجهت سدافته ، أي هتكت الستر ، لأن السدافة الحجاب ، والستر هو اسم مبني من أسدف الليل إذا ستر بظلمته ، ويجوز أن تكون أرادت : وجهت سدافته ، تعني : أزلتِها من مكانها الذي أُمرت أن تلزميه ، وجعلتِها أمامك .
وقولها : وتركت عهيداه : تعني بالعهيدة التي تعاهده ويعاهدك ، ويدل على ذلك قولها : لو قيل لي أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ . وقولها : إجعلي حصنك بيتك ووقاعة الستر قبرك ، فالربع المنزل ، والرباعة الستر ما وراء الستر ، تعني : إجعلي ما وراء الستر من المنزل قبرك . ومعنى ما يروى : ووقاعة الستر قبرك ، هكذا رواه القتيبي وذكر أن معناه ووقاعة الستر موقعة من الأرض إذا أرسلت . وفي رواية القتيبي : لو ذكرت قولاً تعرفينه نهشتني نهش الرقشاء المطرق . فذكر أن الرقشاء سميت بذلك للرقش في ظهرها وهي النقط ، وقال غير القتيبي : الرقشاء من الأفاعي التي في لونها سواد وكدورة . قال : والمطرق : المسترخي جفون العين ) .
أقول : نلاحظ أن الصدوق + أدق في تفسير مفرداتها من ثعلب اللغوي ، ويظهر ذلك من تفسيره السدافة ، وتصحيحه الوهادة بالوهازة وهي الخَطْوُ .
كما تعجبك العقلانية العالية في منطق أم سلمة رضي الله عنها وقوة حجتها على عائشة وتتعجب من ضعف حجة عائشة ، وتبريرها هواها في الخروج على الخليفة الشرعي !
3 . ورواه ابن أعثم في الفتوح ( 2 / 454 ) وفيه أن عائشة قالت لها : « فهل لك أن تسيري بنا إلى البصرة لعل الله تبارك وتعالى أن يصلح هذا الأمرعلى أيدينا ؟ فقالت لها أم سلمة : يا بنت أبي بكر ، بدم عثمان تطلبين ! والله لقد كنت من أشد الناس عليه وما كنت تسميه إلا نعثلاً ، فما لك ودم عثمان ، وعثمان رجل من عبد مناف ، وأنت امرأة من بني تيم بن مرة ! ويحك يا عائشة ، أعلى علي وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله تخرجين ! وقد بايعه المهاجرون والأنصار !
--------------------------- 42 ---------------------------
ثم جعلت أم سلمة تذكر عائشة فضائل علي عليه السلام ، وعبد الله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله فصاح بأم سلمة وقال : يا بنت أبي أمية إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير ! فقالت أم سلمة : والله لتوردُنَّها ثم لاتصدرُنَّها أنت ولا أبوك ! أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعلي بن أبي طالب حي ، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة ؟ ! فقال عبد الله بن الزبير : ما سمعنا هذا من رسول الله ساعة قط ! فقالت أم سلمة : إن لم تكن أنت سمعته فقد سمعته خالتك عائشة وها هي فاسألها ! فقد سمعته يقول : علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني ! أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا ؟ فقالت عائشة : اللهم نعم ! قالت أم سلمة : فاتقي الله يا عائشة في نفسك واحذري ما حذرك الله ورسوله صلى الله عليه وآله ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرنك الزبير وطلحة ، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئاً !
قال : فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها ، ثم إنها بعثت إلى حفصة فسألتها أن تخرج معها إلى البصرة ، فأجابتها حفصة إلى ذلك . قال : فعند ذلك أذن مؤذن طلحة والزبير بالمسير إلى البصرة ، فسار الناس في التعبية والآلة والسلاح ، وسارت معهم عائشة وهي تقول : اللهم إني لا أريد إلا الإصلاح بين المسلمين ، فأصلح بيننا إنك على كل شئ قدير !
وكتبت أم سلمة إلى علي بن أبي طالب : لعبد الله علي أمير المؤمنين ، من أم سلمة بنت أبي أمية ، سلام عليك ورحمة الله وبركاته ، أما بعد ، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال ، خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة ، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً وأنهم يطلبون بدمه ! والله كافيكم ، وجاعل دائرة السوء عليهم ، إن شاء الله تعالى .
وتالله لولا ما نهى الله عز وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن ، وما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله عند وفاته ، لشخصت معك ، ولكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وإليك ابني عمر بن أبي سلمة . والسلام .
فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له : ألا ترى إلى أختك عائشة كيف
--------------------------- 43 ---------------------------
خرجت من بيتها الذي أمرها الله عز وجل أن تقر فيه ، وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة ، لشقاقي وفراقي !
فقال له محمد : يا أمير المؤمنين لا عليك ، فإن الله معك ولن يخذلك ، والناس بعد ذلك ناصروك ، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله ) .
أقول : من المؤكد أن النبي صلى الله عليه وآله وعلياً عليه السلام يحبان عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه ، لكن غيره أحب اليهما منه . وأم سلمة الجليلة صادقة وفصيحة ، فكلامها يدل على أن أفعل التفضيل نسبي وليس مطلقاً ، أي أحب الناس اليهما من نوعه .
4 . ولما أصرَّت عائشة على الفتنة ، آلت أم سلمة على نفسها أن لا تكلمها كل عمرها ! ففي محاسن البيهقي / 181 ، وطبعة / 221 ، ومواقف الشيعة ( 1 / 93 ) : « دخَلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل ، وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً ، من أجل مسيرها إلى محاربة علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقالت عائشة : السلام عليك يا أم المؤمنين ، فقالت : يا حائط ! ألم أنهك ، ألم أقل لك ؟ قالت عائشة : فإني أستغفرالله وأتوب إليه ، كلميني يا أم المؤمنين ! قالت : يا حائط ! ألم أقل لك ألم أنهك ؟ فلم تكلمها حتى ماتت ! وقامت عائشة وهي تبكي وتقول : وا أسفاه على ما فرط مني ) . راجع سيرة أم سلمة في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام .

رسائل عائشة وطلحة والزبيرالى زعماء المسلمين

1 . تقدمت رسالة طلحة والزبير إلى عائشة وهي في مكة ، بأن تخذل الناس عن علي عليه السلام وتعلن الطلب بدم عثمان ! وقول علي عليه السلام إن عائشة تحولت من مقودة إلى قائدة ، قال : فبينا هما يقودانها ، إذ هي تقودهما !
2 . نشطت عائشة في كتابة الرسائل قبل أن تتحرك من مكة ، وعندما اقتربت من البصرة ، ولما سيطرت على بيت مال البصرة ، إلى زعماء المسلمين والبلاد ، فكتبت إلى أهل المدينة تطمئنهم ، والى أهل اليمامة تبشرهم ، والى أهل الكوفة
--------------------------- 44 ---------------------------
تخذلهم عن علي عليه السلام ، والى حفصة تبشرها بقرب النصر ، وكانت تكتب اسمها قبل اسم من ترسل اليه ، بلقب عائشة بنت أبي بكر أم المؤمنين ، وتصف نفسها بأنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فتمدح نفسها لتجمعَ حولها الأنصار !
3 . كتبت إلى زيد بن صوحان من سادة عبد القيس في الكوفة ( الكامل : 2 / 32 ) : « من عائشة أم المؤمنين ، حبيبة رسول الله ، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان ، أما بعد : إذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا ، فإن لم تفعل فخذِّل الناس عن عليِّ » .
فأجابها كما في رواية الطبري ( 3 / 492 ) : ( أما بعد : فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ، ورجعت إلى بيتك ، وإلا فأنا أول من نابذك !
قال زيد بن صوحان : رحم الله أم المؤمنين ، أمرت أن تلزم بيتها ، وأمرنا أن نقاتل ، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به ، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه ) !
وفي رواية شرح النهج ( 6 / 227 ) : ( وقد أتاني كتابك فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله ، فأكون قد صنعت ما أمرك الله به ، وصنعت ما أمرني الله به ، فأمرك عندي غير مطاع ، وكتابك غير مجاب ، والسلام ) .
4 . وروى المفيد في الجمل / 128 ، آخر رسائل أم سلمة إليها : ( ثم أنفذت أم سلمة إلى عائشة فقالت لها : قد وعظتك فلم تتعظي ، وقد كنت أعرف رأيك في عثمان وأنه لو طلب منك شربة ماء لمنعتيه ، ثم أنت اليوم تقولين إنه قتل مظلوماً ، وتريدين أن تثيري لقتال أوْلى الناس بهذا الأمر قديماً وحديثاً ، فاتق الله حق تقاته ولا تَعَرَّضي لسخطه . فأرسلت إليها عائشة : أما ما كنت تعرفيه من رأيي في عثمان فقد كان ، ولا أجد مخرجاً منه إلا الطلب بدمه .
وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس ، فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف ، حتى يقضي الله ما هو قاض !
فأنفذت إليها أم سلمة : أما أنا فغير واعظة لك من بعد ، ولامكلمة لك جهدي وطاقتي ، والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار ، والله ليخيبن ظنك ، ولينصرن الله ابن
--------------------------- 45 ---------------------------
أبي طالب على من بغى ، وستعرفين عاقبة ما أقول . والسلام ) .
أقول : يظهر أن أم سلمة عندها خبر بانتصار علي عليه السلام على عائشة وجماعتها .
5 . وكتبت إلى صعصعة ، فأجابها : « من صعصعة بن صوحان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أم المؤمنين عائشة : أما بعد ، فقد أتاني كتابك أيتها الأم ، تأمريني فيه بما أمرك الله تعالى به من لزوم البيت وترك الجهاد لقوله تعالى : يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ . وتفعلين أنت بما أمرني به الله من الجهاد ، وهذا عجيب ، لأني لو قيل لي من أعقل الناس لما عدوتك ، فاتقي الله أيتها الأم وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله صلى الله عليه وآله بلزومه ، فإني في إثركتابي هذا خارج إلى علي عليه السلام للبيعة التي في عنقي . والسلام على من اتبع الهدى » . ( العقد النضيد / 136 ) .
6 . وأرسلت إلى الأحنف بن قيس أن يأتيها مرتين فأبى ، تقول له : يا أحنف ما عذرك في ترك جهاد قتلة أمير المؤمنين ، أمن قلَّة عدد ، أو أنك لا تطاع في العشيرة ! فكتب إليها : إنه والله ما طال العهد بي ، ولا نسيت عهدي في العام الأول وأنت تحرضين على جهاده ، وتذكرين أن جهاده أفضل من جهاد فارس والروم . وفي رواية : فقالت ويحك يا أحنف ، إنهم مَاصُوه مَوْص الإناء ( غسلوه ) ثم قتلوه . فقال لها الأحنف : إن آخذ برأيك وأنت راضية ، أحب إلي من أن آخذ به وأنت ساخطة ) ! ( شرح الأخبار : 1 / 381 ) أي أنت الآن ساخطة ورأيك عن غضب !
وفي النص والاجتهاد / 439 ، عن محاسن البيهقي ( 1 / 35 ) عن الحسن البصري أن الأحنف قال لها : ( يا أم المؤمنين هل عهد إليك رسول الله هذا المسير ؟ قالت : اللهم لا . قال : فهل وجدته في شئ من كتاب الله جل ذكره . قالت : ما نقرأ إلا ما تقرأون . قال : فهل رأيت رسول الله استعان بشئ من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة ؟ قالت : اللهم لا . قال الأحنف : فإذاً ما هو ذنبنا ؟ !
وفي رواية : أعندك عهد منه صلى الله عليه وآله أنك معصومة من الخطأ ؟ قالت : لا .
--------------------------- 46 ---------------------------
قال : صدقت ، إن الله رضي لك المدينة فأبيت إلا البصرة ، وأمرك بلزوم بيت نبيه فنزلت بيت أحد بني ضبة ! ألا تخبريني يا أم المؤمنين أللحرب قدمت أم للصلح ؟ أجابت وهي متألمة : بل للصلح . فقال لها : والله لو قدمت وليس بينهم إلا الخفق بالنعال والرمي بالحصى ، ما اصطلحوا على يديك ، فكيف والسيوف على عواتقهم ؟ فقالت : إلى الله أشكو عقوق أبنائي ) !
وقال الطبري ( 3 / 479 ) : ( وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة ، وكتبت إلى الأحنف بن قيس ، وصبرة بن شيمان ، وأمثالهم من الوجوه ) .
وفي الدر النظيم ( 1 / 339 ) : ( بعث طلحة والزبير إلى الأحنف بن قيس فأتاهما ، فقالا له : إخلع علياً وبايعنا . فقال لهما : لا أخلع علياً ولا أبايعكما ، ألم آتكما فسألتكما عن عثمان فزعمتما أن الله قتله بذنبه وأقاده بعمله ، وسألتكما عن علي فقلتما : بايعه فإنه أحق الناس بها اليوم وفيما قبل اليوم ، وأنا قد بايعته وبايعه المهاجرون والأنصار ؟ قالا : بلى قد كان ذلك . قال : فما رد اللبن في الضرع ) !
7 . ومن رسائلها إلى حفصة : ما رواه البكري في معجم ما استعجم ( 2 / 554 ) : ( كتبت عائشة إلى حفصة : إن ابن أبي طالب نزل الدقَاقَة ، موضع بالبصرة ، وبعث ربيبه ربيب السوء ، إلى عبد الله بن قيس يستنفره ، تعني محمداً أخاها ) .
وعبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعري ، الذي كان والي الكوفة .
وما رواه المفيد في الكافئة / 16 : « لما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار كتبت إلى حفصة بنت عمر : أما بعد ، فإنا نزلنا البصرة ونزل علي بذي قار ، والله داقٌّ عنقه كدق البيضة على الصفا ، إنه بذي قار بمنزلة الأشقر ، إن تقدم نحر وإن تأخر عقر ! فلما وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت بذلك ، ودعت صبيان بني تيم وعدي ، وأعطت جواريها دفوفاً ، وأمرتهن أن يضربن بالدفوف ويقلن : ما الخبر ما الخبر ! [ علي في السفر ] ! عليٌّ كالأشقر ! إن تقدم نحر ! وإن تأخر عقر ! فبلغ أم سلمة اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سب أمير المؤمنين والمسرة بالكتاب الوارد عليهن من عائشة ، فبكت وقالت : أعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن وأقع بهن !
--------------------------- 47 ---------------------------
فقالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام : أنا أنوب عنك فإنني أعرف منك ، فلبست ثيابها وتنكرت وتخفرت واستصحبت جواريها متخفرات ، وجاءت حتى دخلت عليهن كأنها من النظارة ، فلما رأت ما هن فيه من العبث والسفه ، كشفت نقابها وأبرزت لهن وجهها ، ثم قالت لحفصة : إن تظاهرت أنت وأختك على أمير المؤمنين عليه السلام فقد تظاهرتما على أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله من قبل ، فأنزل الله عز وجل فيكما ما أنزل ! والله من وراء حربكما ! فانكسرت حفصة وأظهرت خجلاً وقالت : إنهن فعلن هذا بجهل ، وفرقتهن في الحال ، فانصرفن من المكان » !
أقول : لا بد أن حفصة تأسفت على تعبها في تلحين أغنيتها ضد علي عليه السلام ! وما أنفقته على فرقة الغناء من أطفال وجوار ! وفي شرح النهج ( 14 / 13 ) : فقال سهل بن حنيف :
عذرنا الرجال بحرب الرجال * فما للنساء وما للسباب
أما حسبنا ما أتينا به * لك الخيرمن هتك ذاك الحجاب
ومخرجها اليوم من بيتها * يعرفها الذنب نبح الكلاب
إلى أن أتانا كتاب لها * مشومٌ فيا قبح ذاك الكتاب )
8 . وكتبت عائشة إلى صبرة بن شيمان رئيس الأزد ، فاستجاب لها ، قال الطبري ( 3 / 515 ) : ( جاءت عائشة من منزلها التي كانت فيه حتى نزلت في مسجد الحدان في الأزد ، وكان القتال في ساحتهم ، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان . فنصحه كعب بن سور أن يكون على الحياد فقال : ( أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس ، وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردوا عليهم الصلح ، وأدع الطلب بدم عثمان ، لا والله لا أفعل ذلك أبداً ! فأطبق أهل اليمن على الحضور ) . وقال الطبري ( 3 / 508 ) : ( وأقبل صبرة بن شيمان فقال : يا طلحة يا زبير انتهزا بنا هذا الرجل ، فإن الرأي ( أي الغدر ) في الحرب خير من الشدة ،
--------------------------- 48 ---------------------------
فقالا : يا صبرة إنا وهم مسلمون ، وهذا أمرلم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن ، أو يكون فيه من رسول الله سنة ، إنما هو حدث ، وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم وهم علي ومن معه ، فقلنا نحن : لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم ، ولا نؤخره ) .
أقول : تدل الرواية التالية على أن نفوذ كعب بن سور في الأزد ، كان بعد نفوذ صبرة بن شيمان ، فلم يتحركوا حتى تحرك كعب .
9 . قال ضامن بن شدقم / 37 : ( رجال البصرة ثلاثة كلهم سيد مطاع : كعب بن سور في اليمن ، والمنذر بن ربيعة ، والأحنف بن قيس . فكتب طلحة والزبير إلى كعب بن سور : ( أما بعد فإنك قاضي عمر بن الخطاب وشيخ أهل البصرة ، وسيد أهل اليمن ، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى ، فاغضب له من القتل ) .
فأجابهما كعب : ( فإن يك عثمان قتل ظالماً فما لكما وله ؟ وإن كان قتل مظلوماً فغيركما أولى به ، وإن كان أمره أشكل على من شهده فهو على من غاب أشكل ) .
وكتبت عائشة إلى كعب بن سور قاضي البصرة ورئيس قبيلة الأزد ، فأجابها بأنه على الحياد ، ولا يريد أن يدخل في الفتنة ، فذهب اليه طلحة والزبيرفاعتذرعن استقبالهما . قال المفيد رحمه الله في كتاب الجمل / 172 : ( وتأخرعنهما الأزد لقعود كعب بن سور القاضي عنهما وكان سيد الأزد وأهل اليمن بالبصرة ، فأنفذا إليه رسوليهما يسألانه النصرة لهما والقتال معهما فأبى عليهما ، وقال أنا أعتزل الفريقين ، فقالا : لئن قعد عنا كعب خذلنا الأزد بأسرها ، ولاغنى لنا عنه ، فصارا إليه واستأذنا عليه فلم يأذن لهما وحجبهما !
فصارا إلى عائشة فخبراها خبره ، وسألاها أن تسير إليه فأبت وراسلته تدعوه إلى الحضور عندها ، فاستعفاها من ذلك !
فقال طلحة والزبير : يا أم إن قعد عنا كعب قعدت عنا الأزد كلها ، وهي حي البصرة ، فاركبي إليه فإنك إن فعلت لم يخالفك وانقاد لرأيك ، فركبت بغلاً وأحاط بها نفر من أهل البصرة ، وصارت إلى كعب بن سور فاستأذنت عليه فأذن لها ورحب بها فقالت : يا بني أرسلت إليك لتنصرالله عز وجل ، فما الذي أخرك عني ؟ فقال : يا أماه ، لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة . فقالت : يا بني أخرج معي وخذ بخطام جملي ، فإني
--------------------------- 49 ---------------------------
أرجو أن يقربك بي إلى الجنة واستعبرت باكية ! فرق لها كعب بن سور وأجابها ، وعلق المصحف في عنقه وخرج معها !
قال ابن حجر في الإصابة ( 5 / 481 ) : ( شهد كعب بن سور الجمل مع عائشة ، فلما اجتمع الناس خرج وبيده مصحف ، فنشره وجال بين الصفين يناشد الناس في ترك القتال ، فأتاه سهم غرب فقتل ) .
وروى عبد الرزاق في المصنف ( 6 / 130 ) أن كعباً كان يذهب إلى كنائس النصارى فيخلع لباسه ويلبس لباس قسيس ويُحلِّفهم في المذبح ! قال : ( كان كعب بن سور يحلف أهل الكتاب ، يضع على رأسه الإنجيل ، ثم يأتي به إلى المذبح ، فيُحَلِّفُ بالله ) ! فهو شيخ مسلم ، وقسيس نصراني في نفس الوقت !
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 256 ) : ( ثم مشى أمير المؤمنين عليه السلام قليلاً فمرَّ بكعب بن سور فقال : هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف ، يزعم أنه ناصرأمه ، يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعلم ما فيه ، ثم استفتح وخاب كل جبار عنيد .
أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتلة الله . أجلسوا كعب بن سور ، فأجلس ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا كعب ، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ؟ ثم قال : أضجعوا كعباً ) .
10 . وفي فتح الباري ( 13 / 47 ) : ( إن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة ، فقال : إنك لأمٌّ وإن حقك لعظيم ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : لن يفلح قوم تملكهم امرأة ) !
وكتب طلحة والزبير إلى الأحنف : ( أما بعد ، فإنك وافد عمر ، وسيد مضر ، وحليم أهل العراق ، وقد بلغك مصاب عثمان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان أشفى لك من الخبر . فأجابهما : أما بعد ، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمرلانشك فيه إلا قتل عثمان ، وأنتم قادمون علينا ، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم ، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا أيديكم ثقة ، والسلام ) . ( الإمامةوالسياسة 1 / 48 )
وكتبا إلى المنذر : ( أما بعد ، فإن أباك كان رئيساً في الجاهلية ، وسيداً في الإسلام
--------------------------- 50 ---------------------------
وإنك من أبيك بمنزلة المصلي من السابق ، يقال كاد أو لحق ، وقد قتل عثمان من أنت خير منه ، وغضب له من هو خير منك ، والسلام .
فأجابهما : وإنما أوجب حق عثمان اليوم حقه أمس ، وقد كان بين أظهركم فخذلتموه ، فمتى استنبطتم هذا العلم ، وبدا لكم هذا الرأي ) !
11 . قال ضامن بن شدقم في : وقعة الجمل / 29 : ( كتب الأشتر من المدينة إلى عائشة ، وهي بمكة : أما بعد فإنك ظعينة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أمرك أن تقري في بيتك ، فإن فعلت فهو خير لك ، وإن أبيت إلا أن تأخذي فسأتك ، وتلقي جلبابك ، وتبدي للناس شعيراتك ، فأقاتلك حتى أردك إلى بيتك ، والموضع الذي يرضاه لك ربك .
فكتبت إليه في الجواب : أما بعد ، فإنك أول العرب شب الفتنة ، ودعا إلى الفرقة وخالف الأئمة ، وسعَّر في قتل الخليفة ، وقد علمت أنك لن تعجزالله حتى يصيبك منه بنقمة ينتصربها منك للخليفة المظلوم . وقد جاءني كتابك وفهمت ما فيه ، وسيكفينك الله ، وكل من أصبح مماثلاً لك في ضلالك وغيك ) .
12 . كتبت عائشة إلى أهل المدينة بعد أن غدرت بوالي البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري وأرادت قتله ، فهددها بالأنصار في المدينة ، فضربته ضرباً شديداً ونتفت شعره ، فادعت أنه غدر بها ، فعفت عنه ومنَّتْ عليه ! كتبت لهم : ( من أم المؤمنين عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وابنة الصديق إلى أهل المدينة ، أما بعد ، فإن الله أظهرالحق ونصرطالبيه ، وقد قال الله عز اسمه : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ . فاتقوا الله عباد الله واسمعوا وأطيعوا ، واعتصموا بحبل الله جميعاً وعروة الحق ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة وأمَّروا عليهم الزبيربن العوام فهو أمير الجنود والكافة يجتمعون على السمع والطاعة له ، فإذا اجتمعت كلمة المؤمنين على أمرائهم عن ملأمنهم وتشاور ، فإنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه ، فإذا جاءكم كتابي هذا فاسمعوا وأطيعوا ، وأعينوا على ما سمعتم عليه من أمر الله . وكتب عبيد الله بن كعب لخمس ليال من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين ) . ( الجمل / 160 ) .
--------------------------- 51 ---------------------------
13 . وكتبت إلى أهل اليمامة : ( أما بعد ، فإني أذكركم الله الذي أنعم عليكم وألزمكم بالإسلام ، فإن الله يقول : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الَّله يَسِيرٌ . فاعتصموا عباد الله بحبله وكونوا مع كتابه ، فإن أمكم ناصحة لكم فيما تدعوكم إليه من الغضب له والجهاد لمن قتل خليفة حرمه ، وابتز المسلمين أمرهم وقد أظهر الله عليه ، وإن ابن حنيف الضال المضل كان بالبصرة يدعو المسلمين إلى سبيل النار ، وإنا أقبلنا إليها ندعو المسلمين إلى كتاب الله ، وأن يضعوا بينهم القرآن فيكون ذلك رضاً لهم وأجمع لأمرهم ، وكان ذلك لله عز وجل على المسلمين فيه الطاعة ، فإما أن ندرك به حاجتنا أو نبلغ عذراً ، فلما دنونا إلى البصرة وسمع بنا ابن حنيف جمع لنا الجموع وأمرهم أن يتلقونا بالسلاح فيقاتلونا ويطردونا ، وشهدوا علينا بالكفر وقالوا فينا المنكر ، فأكذبهم المسلمون وأنكروا عليهم ، وقالوا لعثمان بن حنيف : ويحك ! إنما تابعنا زوج النبي صلى الله عليه وآله وأم المؤمنين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وأئمة المسلمين ، فتمادى في غيه وأقام على أمره ، فلما رأى المسلمون أنه قد عصاهم ورد عليهم أمرهم ، غضبوا لله عز وجل ولأم المؤمنين ، ولم نشعر به حتى أظلنا في ثلاثة آلاف من جهلة العرب وسفهائهم ، وصفهم دون المسجد بالسلاح ، فالتمسنا أن يبايعوا على الحق ولا يحولوا بيننا وبين المسجد فرد علينا ذلك كله ، حتى إذا كان يوم الجمعة وتفرق الناس بعد الصلاة عنه ، دخل طلحة والزبير ومعهما المسلمون وفتحوه عنوة ، وقدموا عبد الله بن الزبير للصلاة بالناس .
وإنا نخاف من عثمان وأصحابه أن يأتونا بغتة ليصيبوا منا غرة . فلما رأى المسلمون أنهم لايبرحون تحرزوا لأنفسهم . ولم يحرج ومن معه حتى هجموا علينا وبلغوا سدة بيتي ، ومعهم هاد يدلهم عليه ليسفكوا دمي ، فوجدوا نفراً على باب بيتي فردوهم عني ، وكان حولي نفرٌ من القريشيين والأزديين يدفعونهم عني ، فقتل منهم من قتل وانهزموا ، فلم نعرض لبقيتهم وخلينا ابن حنيف مَنّاً عليه وقد توجه إلى صاحبه ، وعرفناكم ذلك عباد الله لتكونوا على ما كنتم عليه
--------------------------- 52 ---------------------------
من النية في نصرة دين الله ، والغضب للخليفة المظلوم ) . ( الجمل لابن شدقم / 35 ) .
14 . وروى ابن حبان في الثقات ( 2 / 282 ) رسالتها إلى أهل الكوفة ، قال : ( وقدم زيد بن صوحان من عند عائشة معه كتابان من عائشة إلى أبي موسى والى الكوفة ، وإذا في كل كتاب منهما : بسم الله الرحمن الرحيم . من عائشة أم المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري . سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت ، وقد خرجت مصلحة بين الناس ، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم والرضا بالعافية ، حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين ، فإن قتلة عثمان فارقوا الجماعة وأحلوا بأنفسهم البوار . فلما قرأ الكتابين وثب عمار بن ياسرفقال : أُمرت عائشة بأمر وأمرنا بغيره أمرت أن تقر في بيتها ، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ، فهو ذا تأمرنا بما أمرت وركبت ما أمرنا به ! ثم قال : هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله فأخرجوا إليه ثم انظروا في الحق ومن الحق معه .
ثم قام الحسن بن علي عليهما السلام فقال : يا أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم ، لعل الله يصلح بينكم .
ثم قام هند بن عمرو البجلي فقال : إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا ابنه فاتبعوا قوله وانتهوا إلى أمره .
فقام حجر بن عدي الكندي : فقال أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافاً وثقالاً بأموالكم وأنفسكم .
ثم قال الحسن عليه السلام : أيها الناس إني غادٍ فمن شاء منكم فليخرج معي على الظهر ومن شاء فليخرج في الماء ، فأجابوه وخرج معه تسعة آلاف نفس ، بعضهم على البر وبعضهم على الماء ، وساروا حتى بلغوا ذا قار وخرج علي عليه السلام من المدينة معه ست مائة رجل ، وخلف على المدينة سهل بن حنيف ، فالتقى هو وابنه الحسن مع من خرج معه من الكوفة بذي قار ، فخرجوا جميعاً إلى البصرة ، ولم يدخل علي عليه السلام الكوفة ، وكتب إلى المدينة إلى سهل بن حنيف أن يقدم عليه ويولي على المدينة أبا حسن المازني .
--------------------------- 53 ---------------------------
والتقى مع طلحة والزبير وعائشة بالجلحاء على فرسخين من البصرة ، وذلك لخمس خلون من جمادى الآخرة ، وكان علي عليه السلام كثيراً ما يقول : يا عجباً كل العجب من جمادى ورجب ، فكان من أمرهم ما كان ، وقتل ابن جرموز الزبير ثم أتى علياً يخبره فقال علي عليه السلام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : قاتل ابن صفية بالنار ، فقال ابن جرموز : إن قتلنا معكم فنحن في النار ، وإن قاتلناكم فنحن في النار ، ثم بعج بطنه بسيفه فقتل نفسه !
وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم من ورائه ، فأثبته فيه وقتله ، وحمله إلى البصرة فمات بها ، فقبرطلحة بالبصرة ، وقُتل الزبير بوادي السباع ) .
ونذكر هنا رسالة عائشة الثانية إلى أهل الكوفة بعد أن غدرت بوالي البصرة ونقضت عهدها معه ، فاستعظم المسلمون خبر غدرهم ، فكتبت إلى الكوفة تصور ما حدث بعكس الواقع لتبرئ نفسها ! روى ذلك سيف بن عمر في كتاب الجمل / 133 ، فقال : ( وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة مع رسولهم : أما بعد فإني أذكركم الله عز وجل والإسلام ، أقيموا كتاب الله بإقامة ما فيه ، اتقوا الله واعتصموا بحبله وكونوا مع كتابه . فإنا قدمنا البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده ، فأجابنا الصالحون إلى ذلك ، واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح وقالوا : لنُتْبِعَنَّكُم عثمان ، ليزيدوا الحدود تعطيلاً ، فعاندوا فشهدوا علينا بالكفر وقالوا لنا المنكر ، فقرأنا عليهم : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ . فأذعن لي بعضهم واختلفوا بينهم فتركناهم وذلك ، فلم يمنع ذلك من كان منهم على رأيه الأول من وضع السلاح في أصحابي . وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلا قاتلوني حتى منعني الله عز وجل بالصالحين فرد كيدهم في نحورهم ، فمكثنا ستاً وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده ، وهو حقن الدماء أن تهراق ، دون من قد حل دمه ، فأبوا واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها ، فخانوا وغدروا وخانوا ، فجمع الله عز وجل لعثمان ثأره فأقادهم ، فلم يفلت منهم إلا رجل ، وأردأنا الله ومنعنا منهم بعمير بن مرثد ومرثد بن قيس
--------------------------- 54 ---------------------------
ونفر من قيس ، ونفر من الرباب والأزد .
فالزموا الرضا إلا عن قتلة عثمان بن عفان حتى يأخذ الله حقه ، ولا تخاصموا الخائنين ولا تمنعوهم ، ولا ترضوا بذَوْيِ حدود الله فتكونوا من الظالمين .
فكتبتْ إلى رجال بأسمائهم : فثبِّطُوا الناس عن منع هؤلاء القوم ونصرتهم واجلسوا في بيوتكم ، فإن هؤلاء القوم لم يرضوا بما صنعوا بعثمان بن عفان رضي الله عنه ، وفرقوا بين جماعة الأمة ، وخالفوا الكتاب والسنة ، حتى شهدوا علينا فيما أمرناهم به ، وحثثناهم عليه من إقامة كتاب الله وإقامة حدوده بالكفر وقالوا لنا المنكر ، فأنكر ذلك الصالحون وعظموا ما قالوا ! وقالوا : ما رضيتم أن قتلتم الإمام حتى خرجتم على زوجة نبيكم أن أمرتكم بالحق ، لتقتلوها وأصحاب رسول الله وأئمة المسلمين ! فعزموا وعثمان بن حنيف معهم على من أطاعهم من جهال الناس وغوغائهم ، على زطهم وسبابجهم ، فلذنا منهم بطائفة من الفسطاط ، فكان ذلك الدأب ستة وعشرين يوماً ، ندعوهم إلى الحق وألا يحولوا بيننا وبين الحق ، فغدروا وخانوا فلم نقايسهم ، واحتجوا ببيعة طلحة والزبير ، فأبردوا بريداً فجاءهم بالحجة ، فلم يعرفوا الحق ولم يصبروا عليه ، فغادوني في الغلس ليقتلوني ، والذي يحاربهم غيري ، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدة بيتي ، ومعهم هاد يهديهم إلي ، فوجدوا نفراً على باب بيتي منهم عمير بن مرثد ، ومرثد بن قيس ، ويزيد بن عبد الله بن مرثد ، ونفر من قيس ، ونفر من الرباب والأزد ، فدارت عليهم الرحى ، فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم ، وجمع الله عز وجل كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة فإذا قتلنا بثأرنا وَسِعَنَا الغدر ) .
أقول : تقصد بقولها : فأبردوا بريداً فجاءهم بالحجة ، أنهم ادعوا أن طلحة والزبير بايعا علياً مكرهين ، فاتفقوا مع عثمان بن حنيف وأرسلوا كعب بن سور ، ليسأل أهل المدينة هل أكرها على البيعة . هذا قصدها ، لكن كعباً لم يأت بنتيجة ولم يقل إنهما أكرها ، فلا يصح قول عائشة : جاءهم البريد بالحجة ، ولم تذكر توثيق ادعائها .
ثم أخفت في رسالتها الاتفاق بينها وبين عثمان بن حنيف على أن يكون له دار الإمارة والمسجد وبيت المال حتى يصل علي عليه السلام ، وأنها نقضته بعد يومين وغدرت وهاجمت دار
--------------------------- 55 ---------------------------
الإمارة وبيت المال بعد صلاة الفجر ، وقتلت حراسه السبابجة ، وسيطرت على بيت المال ، واختلفوا على قفله ومفتاحه ، فقفلوه بثلاثة أقفال !
وروى الطبري ( 3 / 489 ) رسالتها هذه شبيهاً بما تقدم ، وأخطر ما فيها أنها جعلت الغدر مشروعاً ، فقالت : ( فإذا قتلنا بثأرنا وسعنا الغدر ! ومعناه : إذا أخذنا بثأرنا وهو عثمان بن عفان ، حلَّ لنا أن نغدر بابن حنيف ، وأن نهاجم مسجده في غلس الليل ، وهو يصلي مع أفراد آمنين مطمئنين بصلحنا معهم !
ثم إن عثمان ابن حنيف لم يكن من قتلة عثمان ، ولا اتهموه قبل رسالة عائشة !
قال ابن منظور ( 2 / 294 ) : ( والسَّبَابِجَةُ : قوم ذوو جَلَدٍ من السِّنْدِ والهند ، يكونون مع رئيس السفينة البحرية يُبَذْرِقُونها . ودخلت في جمعه الهاء للعجمة والنَّسَب ، كماقالوا : البَرابِرةُ ، وربما قالوا : السَّابِجَ ) . أما الزط فقومية مثل السبابجة وقد يسمون بها .
15 . قال الطبري ( 3 / 488 ) : ( وأقام طلحة والزبير ليس لهما بالبصرة ثأر إلا حرقوص . وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه : إنا خرجنا لوضع الحرب ، وإقامة كتاب الله عز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع والكثير والقليل ، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يردنا عن ذلك ، فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم ، وخالفنا شرارهم ونزاعهم ، فردونا بالسلاح وقالوا فيما قالوا نأخذ أم المؤمنين رهينة ، أن أمرتهم بالحق وحثثتهم عليه ، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة ، حتى إذا لم يبق حجة ولا عذر ، استبسل قتلة أمير المؤمنين فخرجوا إلى مضاجعهم ، فلم يفلت منهم مخبر ، إلا حرقوص بن زهير والله سبحانه مقيده إن شاء الله . وإنا نناشدكم الله في أنفسكم إلا نهضتم بمثل ما نهضنا به ، فنلقى الله عز وجل وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا .
وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثله ، مع رجل من بني عمرو بن أسد ، يدعى مظفر بن معرض . وكتبوا إلى أهل اليمامة وعليها سبرة بن عمرو العنبري مع الحارث السدوسي . وكتبوا إلى أهل المدينة مع ابن قدامة القشيري فدسه إلى أهل المدينة ) .
وقال ابن مسكويه في تجارب الأمم ( 1 / 481 ) : ( وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا ،
--------------------------- 56 ---------------------------
وقصوا القصة وأطالوا ، وذكروا أنهم أقاموا حد الله ، وأنهم قد أعذروا ، وقضوا ما عليهم ، فنناشدكم الله في أنفسكم إلَّا نهضتم بمثل ما نهضنا به ) .

من خطب أمير المؤمنين عليه السلام ورسائله في حرب الجمل

1 . في المعيار والموازنة / 60 : ( كتب عليه السلام إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري لما صح عنده مسير طلحة والزبير إلى البصرة ونكثهم بيعته وخروجهم من طاعته : بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف ، أما بعد ، فإن النَّكَثَة لما عاهدوا الله عليه ، نكثوا ، ثم توجهوا إلى مصرك ، وسائقهم الشيطان يريدون ما لا يرضى الله به ، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً ، فإن قدموا مصرك فادعهم إلى الحق والرجوع إلى الوفاء بعهد الله والميثاق الذي بايعوا عليه ، فإن فعلوا فأحسن جوارهم ، ومرهم بالانصراف إلى المكان الذي أقبلوا منه ، وإن أبوا وتمسكوا بحبل النكث ، فقاتلهم حتى يحكم الله بينك وبينهم ) .
2 . وفي شرح النهج ( 9 / 312 ) : ( قال : وكتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة . بنحو كتابه الأول وفيه : فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك ، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف ، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك ، وبينهم وهو خير الحاكمين . وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة ، وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله . وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين .
قال : فلما وصل كتاب علي عليه السلام إلى عثمان ، أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي ، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم وما الذي أقدمهم فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم ، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها ، وأذكراها وناشداها الله . فقالت لهما : إلقيا طلحة والزبير . فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه ) . وتأتي بقية رسائله عليه السلام إلى ابن حنيف وغيره .
3 . وفي الكافئة / 19 : ( لما اتصل بأمير المؤمنين صلوات الله عليه مسيرعائشة وطلحة
--------------------------- 57 ---------------------------
والزبير من مكة إلى البصرة ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد سارت عائشة وطلحة والزبيركل منهما يدعي الخلافة دون صاحبه . . ينازع هذا على الملك هذا ، ولقد علمت والله أن الراكبة الجمل لا تحل عقدة ولا تسيرعقبة ولا تنزل منزلة إلا إلى معصية الله ، حتى تورد نفسها ومن معها مورداً يقتل ثلثهم ، ويهرب ثلثهم ويرجع ثلثهم ! والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان ، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه !
والله لتنبحنها كلاب الحوأب ! فهل يعتبر معتبر ويتفكر متفكر ، لقد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون ؟ مالي ولقريش ! أما والله لأقتلنهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين ، وإني لصاحبهم بالأمس ومالنا إليها من ذنب غير أنا خُيِّرنا عليها فأدخلناهم في خيرنا ! أما والله لا أترك الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إن شاء الله ، فلتضجَّ مني قريش ضجيجاً ) !
4 . وفي نهج البلاغة ( 2 / 81 ) : ( ومن خطبة له عليه السلام عند مسيرأصحاب الجمل إلى البصرة : إن الله بعث رسولاً هادياً بكتاب ناطق وأمر قائم ، لا يهلك عنه إلا هالك . وإن المبتدعات المشبهات هن المهلكات إلا ما حفظ الله منها . وإن في سلطان الله عصمة لأمركم ، فأعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره بها .
والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ، ثم لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إلى غيركم . إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي ، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم ، فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين ، وإنما طلبوا هذه الدنيا حسداً لمن أفاءها الله عليه ، فأرادوا رد الأمور على أدبارها . ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى ، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ، والقيام بحقه ، والنعش لسنته ) .
5 . وفي نهج البلاغة ( 3 / 2 ) : ( ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره إلى البصرة : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، جبهة الأنصار ،
--------------------------- 58 ---------------------------
وسنام العرب ، أما بعد ، فإني أخبركم عن أمرعثمان حتى يكون سمعه كعيانه : إن الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلاً من المهاجرين أكثراستعتابه وأقل عتابه ، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف ، وأرفق حدائهما العنيف ، وكان من عائشة فيه فلتة غضب ، فأتيح له قوم فقتلوه ، وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين . واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل ، وقامت الفتنة على القطب ، فأسرعوا إلى أميركم وبادروا جهاد عدوكم ، إن شاء الله ) .
6 . قال المفيد في كتاب الجمل / 130 : ( دعا هاشم بن عتبة المرقال وكتب معه كتاباً إلى أبي موسى الأشعري وكان بالكوفة من قبل عثمان ، وأمره أن يوصل الكتاب إليه ليستنفرالناس منها إلى الجهاد معه ، وكان مضمون الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم : من علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس : أما بعد فإني أرسلت إليك هاشم بن عتبة المرقال لتشخص معه من قبلك من المسلمين ، ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي ، وأحدثوا في هذه الأمة الحدث العظيم فأشخص الناس إليَّ معه حين يقدم بالكتاب عليك ، فلا تحبسه فإني لم أقرك في المصرالذي أنت فيه إلا أن تكون من أعواني وأنصاري على هذا الأمر . والسلام .
فقدم هاشم بالكتاب على أبي موسى الأشعري فلما وقف عليه دعا السائب ابن مالك الأشعري فأقرأه الكتاب وقال له : ما ترى ؟ فقال له السائب : اتبع ما كتب به إليك ، فأبى أبو موسى ذلك وكسر الكتاب ومحاه ، وبعث إلى هاشم بن عتبة يخوفه ويتوعده بالسجن ، فقال السائب بن مالك : فأتيت هاشماً فأخبرته بأمر أبي موسى . فكتب هاشم إلى أمير المؤمنين : أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على أمريء شاق عاق بعيد الرحم ، ظاهر الغل والشقاق ، وقد بعثت إليك بهذا الكتاب مع المُحِل بن خليفة الطائي ، وهو من شيعتك وأنصارك ، وعنده علم ما قِبَلَنَا ، فاسأله عما بدا لك ، واكتب إلي برأيك أتبعه . والسلام .
فلما قدم الكتاب إلى علي عليه السلام وقرأه دعا الحسن ابنه وعمار بن ياسر وقيس بن سعد ،
--------------------------- 59 ---------------------------
وبعثهم إلى أبي موسى وكتب معهم :
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد : يا ابن الحايك ، والله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلاً ، ولا جعل لك فيه نصيباً ، وقد بعثت لك الحسن وعماراً وقيساً ، فأخل لهم المصروأهله ، واعتزل عملنا مذموماً مدحوراً ، فإن فعلت وإلا فإني أمرتهم أن ينابذوك على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ، فإن ظهروا عليك قطعوك إرباً إرباً . والسلام ) .
7 . قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 359 ) : ( وكاتَبَ علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفر الناس ، فثبطهم أبو موسى وقال : إنما هي فتنة ، فنمي ذلك إلى علي ، فولَّى على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري ، وكتب إلى أبي موسى : اعتزل عملنا يا ابن الحائك ، مذموماً مدحوراً ، فما هذا أول يومنا منك ، وإن لك فينا لهنات وهنيات ) .
وفي نهج البلاغة ( 3 / 121 ) : ( ومن كتاب له عليه السلام إلى أبي موسى الأشعري وهو عامله على الكوفة ، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل : من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس . أما بعد ، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك ، فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك ، واشدد مئزرك ، واخرج من جحرك ، واندب من معك ، فإن حققت فانفذ ، وإن تفشلت فابعد . وأيم الله لتؤتين حيث أنت ، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك وذائبك بجامدك ، وحتى تعجل عن قعدتك ، وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك . وما هي بالهوينى التي ترجو ، ولكنها الداهية الكبرى ، يركب جملها ويذل صعبها ، ويسهل جبلها . فاعقل عقلك واملك أمرك ، وخذ نصيبك وحظك ، فإن كرهت فتنح إلى غير رحب ولا في نجاة ، فبالحري لتكفين وأنت نائم ، حتى لا يقال أين فلان . والله إنه لحق مع محق ، وما نبالي ما صنع الملحدون . والسلام ) .
--------------------------- 60 ---------------------------
8 . في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 337 ) : ( أرسل الحسن وعمارً إلى الكوفة وكتب : من عبد الله ووليه علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار وسنام العرب ، ثم ذكر فيه قتل عثمان وفعل طلحة والزبير وعائشة ثم قال : إن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل ، وقامت الفتنة على القطب فأسرعوا إلى أميركم ، وبادروا عدوكم . فلما بلغا الكوفة قال أبو موسى الأشعري : يا أهل الكوفة اتقوا الله : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا . فسكته عمار ، فقال أبو موسى : هذا كتاب عائشة تأمرني أن تكف أهل الكوفة فلا تكونن لنا ولا علينا ، ليصل إليهم صلاحهم . فقال عمار : إن الله تعالى أمرها بالجلوس فقامت وأمرنا بالقيام لندفع الفتنة فنجلس ؟
فقام زيد بن صوحان ومالك الأشتر في أصحابهما وتهددوه . فلما أصبحوا قام زيد بن صوحان وقرأ : ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . ثم قال : أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وانفروا إليه أجمعين ، تصيبوا الحق راشدين .
ثم قال عمار : هذا ابن عم رسول الله يستنفركم فأطيعوه . في كلام له . وقال الحسن بن علي عليهما السلام : أجيبوا دعوتنا ، وأعينونا على ما بلينا به ) .
( وسار علي بمن معه حتى نزل بذي قار ، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسرالى الكوفة يستنفران الناس ، فسارا عنها ومعهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف ، وقيل ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً ) . ( مروج الذهب : 2 / 359 ) .
9 . وفي نهج البلاغة ( 3 / 111 ) : ( ومن كتاب له عليه السلام إلى طلحة والزبير : أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني ، وإنكما ممن أرادني وبايعني ، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر ، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب ، وإن كنتما بايعتماني كارهيْن فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية ، ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان ، وإن دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه ، كان
--------------------------- 61 ---------------------------
أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به . وقد زعمتما أني قتلت عثمان ، فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة ، ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل . فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما ، فإن الآن أعظم أمركما العار ، من قبل أن يجتمع العار والنار . والسلام ) .
10 . في كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي ( 1 / 240 ) : ( وكتب علي عليه السلام إلى عايشة : أما بعد فإنك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين الناس ، فخبريني ما للنساء وقَوْدُ العساكر !
وزعمت أنك طالبة بدم عثمان ، وعثمان رجل من بني أمية ، وأنت امرأة من بني تيم بن مرة ! ولعمري إن الذي عرضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان ، وما غضبت حتى أغضبت ، ولاهجت حتى هيجت ، فاتقي الله يا عايشة وارجعي إلى منزلك ، واسبلي عليك سترك . والسلام ) .
فأجابته عائشة : ( يا ابن أبي طالب جل الأمر عن العتاب ، ولن ندخل في طاعتك أبداً ، فاقض ما أنت قاض . والسلام ) .
[ فأجابه طلحة والزبير : إنك سرت مسيراً له ما بعده ، راجعاً وفي نفسك منه حاجة ، فامض لأمرك ، أما أنت فلست راضياً دون دخولنا في طاعتك ، ولسنا بداخلين فيها أبداً ، فاقض ما أنت قاض ] .
ثم دعا ابن عباس فقال له : انطلق إليهم فناشدهم وذكَّرهم العهد الَّذي لي في رقابهم ، فجاءهم ابن عباس فبدأ بطلحة فوقع بينهما كلام كثير فأبى طلحة إلَّا إثارة الفتنة ، قال ابن عباس : فخرجت إلى عليّ عليه السلام وقد دخل البيوت بالبصرة ، فقال : ما وراءك ؟ فأخبرته الخبر فقال عليه السلام : اللَّهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين ) .
11 . وفي نهج البلاغة ( 1 / 77 ) : ( ومن كلام له عليه السلام لابن العباس لما أرسله إلى
--------------------------- 62 ---------------------------
الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل : لاتلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه ، يركب الصعب ويقول هو الذلول ! ولكن إلق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له : يقول لك ابن خالك : عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا ) ! أقول : هو أول من سمعت منه هذه الكلمة أعني : فما عدا مما بدا .
12 . قال الطبري ( 3 / 544 ) : ( وكتب علي بالفتح إلى عامله بالكوفة : من عبد الله علي أمير المؤمنين . أما بعد ، فإنا التقينا في النصف من جمادى الآخرة بالخريبة ، فناء من أفنية البصرة ، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين ، وقتل منا ومنهم قتلى كثيرة ، وأصيب ممن أصيب منا ثمامة بن المثنى ، وهند بن عمرو ، وعلباء بن الهيثم ، وسيحان وزيد ابنا صوحان ، و [ ابن ] مخدوج . وكتب عبد الله بن رافع . وكان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة في جمادى الآخرة ) .
13 . ومن رسائله عليه السلام بعد النصرعلى أصحاب الجمل ( الجمل للمفيد / 211 ) : ( رجع إلى خيمته واستدعى عبد الله بن رافع وقال : أكتب إلى أهل المدينة : بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله علي بن أبي طالب : سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو ، فإن الله بمنه وفضله وحسن بلائه عندي وعندكم حَكَمٌ عَدْلٌ ، وقد قال سبحانه في كتابه وقوله الحق : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ . وإني مخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة ، ومن سار إليهم من قريش وغيرهم ، مع طلحة والزبير ونكثهما عليَّ ما قد علمتم من بيعتي ، وهما طايعان غير مكرهين ، فخرجت من عندكم بمن خرجت ممن سارع إلى بيعتي وإلى الحق ، حتى نزلت ذا قار ، فنفر معي من نفر من أهل الكوفة ، وقدم طلحة والزبير البصرة ، وصنعا بعاملي عثمان بن حنيف ما صنعا ، فقدمت إليهم الرسل وأعذرت كل الإعذار ، ثم نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء ، وقدمت الحجة وأقلت العثرة والزلة ، واستعتبتهما ومن معهما ممن نكث بيعتي ونقض عهدي ، فأبوا إلا قتالي وقتال من معي والتمادي في الغي ، فلم أجد بداً في مناصفتهم
--------------------------- 63 ---------------------------
بالجهاد ، فقتل الله من قتل منهم ناكثاً ، وولى من ولى منهم ، وأغمدتُ السيوف عنهم ، وأخذتُ بالعفو فيهم ، وأجريت الحق والسنة في حكمهم ، واخترت لهم عاملاً واستعملته عليهم وهوعبدالله بن عباس .
وإني سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى . وكتب عبد الله بن أبي رافع في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة ) .
14 . وكتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أم هاني بنت أبي طالب : سلام عليك ، أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد ، فإنا التقينا مع البغاة والظلمة في البصرة فأعطانا الله تعالى النصرعليهم بحوله وقوته ، وأعطاهم سنة الظالمين فقتل كل من طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عتاب ، وجمع لا يحصى ، وقتل منا بنومخدوع وابنا صوحان وعلبا وهندٌ وثمامة فيمن يعد من المسلمين رحمهم الله . والسلام ) .
15 . ولما كتب أمير المؤمنين عليه السلام بالفتح قام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وآله ، ثم قال : أما بعد فإن الله غفور رحيم ، عزيز ذو انتقام ، جعل عفوه ومغفرته لأهل طاعته ، وجعل عذابه وعقابه لمن عصاه وخالف أمره ، وابتدع في دينه ما ليس منه ، وبرحمته نال الصالحون ، وقد أمكنني الله منكم يا أهل البصرة ، وأسلمكم بأعمالكم ، فإياكم أن تعودوا إلى مثلها ، فإنكم أول من شرع القتال والشقاق ، وترك الحق والإنصاف ) .
16 . وفي رواية الواقدي ( الجمل / 215 ) : ( لما فرغ من قسمة المال قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أيها الناس : إني أحمد الله على نعمه . قتل طلحة والزبير وهربت عائشة ، وأيم الله لو كانت عايشة طلبت حقاً وهانت باطلاً ، لكان لها في بيتها مأوى . وما فرض الله عليها الجهاد . وإن أول خطئها في نفسها . وكانت والله على القوم أشأم من ناقة الصخرة ، وما ازداد عدوكم بما صنع الله إلا حقداً ، وما زادهم الشيطان إلا طغياناً ، ولقد جاؤوا مبطلين وأدبروا ظالمين ، إن
--------------------------- 64 ---------------------------
إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا ، يرجون مغفرة الله ، وإننا لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل ، ويجمعنا الله وإياهم يوم الفصل . وأستغفر الله لي ولكم .
ثم روى عن عامر الأسدي قال : إن علياً عليه السلام كتب بعد فتح البصرة مع عمر بن سلمة الأرحبي إلى أهل الكوفة : من عبد الله علي بن أبي طالب إلى قرضة بن كعب ومن قبله من المسلمين . سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو . أما بعد ، فإنا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا المفرقين لجماعتنا الباغين علينا من أمتنا ، فحاججناهم إلى الله فنصرنا الله عليهم ، وقتل طلحة والزبير ، وقد تقدمت إليهما بالنذر ، وأشهدت عليهما صلحاء الأمة ومكنتهما في البيعة ، فما أطاعا المرشدين ولا أجابا الناصحين ، ولاذ أهل البغي بعائشة ، فقتل حولها جم لا يحصي عددهم إلا الله ، ثم ضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا ، فما كانت ناقة الحجر بأشأم منها على أهل ذلك المصر ، مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها لربها ونبيها صلى الله عليه وآله ، واغترار من اغتر بها ، وما صنعته من التفرقة بين المؤمنين ، وسفك دماء المسلمين ، لابينة ولا معذرة ولا حجة لها ، فلما هزمهم الله أمرت أن لا يقتل مدبر ولا يجهز على جريح ولا يهتك ستر ولا يدخل دار إلا بإذن أهلها ، وقد آمنت الناس .
واستشهد منا رجال صالحون ضاعف الله لهم الحسنات ورفع درجاتهم وأثابهم ثواب الصابرين ، وجزاهم من أهل مصر عن أهل بيت نبيهم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ، ودعيتم فأجبتم ، فنعم الإخوان والأعوان على الحق أنتم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . كتب عبد الله بن أبي رافع في رجب سنة ست وثلاثين ) .
--------------------------- 65 ---------------------------

الفصل الثالث والخمسون : حركة عائشة إلى حرب علي عليه السلام

مسير عائشة من مكة إلى البصرة

قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 357 ) : ( وسارالقوم نحوالبصرة في ست مائة راكب ، فانتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب يعرف بالحَوْأب ، عليه ناس من بني كلاب ، فَعَوَتْ كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما اسم هذا الموضع ؟ فقال لها السائق لجملها : الحوأب ، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك ، فقالت : رُدُّوني إلى حرم رسول الله ، لا حاجة لي في المسير !
فقال الزبير : با لله ما هذا الحوأب ، ولقد غلط فيما أخبرك به ، وكان طلحة في سَاقَةِ الناس ، فلحقها فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب ، وشهد معهما خمسون رجلاً ممن كان معهم ، فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الإسلام !
فأتوا البصرة فخرج إليهم عثمان بن حُنَيْف فمانَعَهم ، وجرى بينهم قتال ، ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كف الحرب إلى قدوم علي ، فلما كان في بعض الليالي بَيَّتوا عثمان بن حنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته ، ثم إن القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنَيف وغيره من الأنصار ، فخلوا عنه .
وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزان والموكلون به وهم السبابجة ، فقُتل منهم سبعون رجلاً غير من جرح ، وخمسون من السبعين ضربت رقابهم صبراً من بعد الأسر ، وهؤلاء أول من قُتل ظلماً في الإسلام وصبراً .
--------------------------- 66 ---------------------------
وقتلوا حكيم بن جَبَلة العبدي ، وكان من سادات عبد القيس وزُهَّاد ربيعة ونُسَّاكها ، وتشاحَّ طلحة والزبير في الصلاة بالناس ، ثم اتفقوا على أن يصلي بالناس عبد الله ابن الزبير يوماً ، ومحمد بن طلحة يوماً ! في خطب طويل كان بين طلحة والزبير ، إلى أن اتفقا على ما وصفنا ) .
أقول : المسافة بين مكة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر ، مسير نحو عشرين يوماً .

أراد أمير المؤمنين عليه السلام أن يقبض عليهم في الحجاز

1 . قال الطبري ( 3 / 473 ) : ( جاء علياً الخبر عن طلحة والزبير وأم المؤمنين ، فأمَّر على المدينة تمام بن العباس وبعث إلى مكة قثم بن العباس ، وخرج وهو يرجو أن يأخذهم بالطريق ، وأراد أن يعترضهم ، فاستبان له بالربذة أن قد فاتوه ، وجاءه بالخبر عطاء بن رئاب مولى الحارث بن حزن ) .
2 . وقال ابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 456 ) : ( كتبت أم الفضل بنت الحارث إلى علي رضي الله عنه : بسم الله الرحمن الرحيم : لعبد الله علي أمير المؤمنين ، من أم الفضل بنت الحارث ، أما بعد فإن طلحة والزبيروعائشة قد خرجوا من مكة يريدون البصرة ، وقد استنفروا الناس إلى حربك ، ولم يخفَّ معهم إلى ذلك إلا من كان في قلبه مرض ، ويد الله فوق أيديهم . والسلام .
قال : ثم دفعت أم الفضل هذا الكتاب إلى رجل من جهينة له عقل ولسان ، يقال له ظفر ، فقالت : خذ هذا الكتاب وانظرأن تقتل في كل مرحلة بعيراً وعليَّ ثمنه ، وهذه مائة دينار قد جعلتها لك ، فجدَّ السير حتى تلقى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فتدفع إليه كتابي هذا . قال : فسار الجهني سيراً عنيفاً حتى لحق أصحاب علي رضي الله عنه وهم على ظهر المسير ، فلما نظروا إليه نادوه من كل جانب : أيها الراكب : ما عندك ؟ قال : فنادى الجهني بأعلى صوته شعراً يخبر فيه قدوم عائشة وطلحة والزبير قال : فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له : ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عز وجل أن تقر فيه ، وأخرجت معها طلحة
--------------------------- 67 ---------------------------
والزبير ، يريدان البصرة لشقاقي وفراقي !
فقال له محمد : يا أمير المؤمنين ، لا عليك ، فإن الله معك ولن يخذلك ، والناس بعد ذلك ناصروك ، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله .
قال : فعندها نادى علي رضي الله عنه في أصحابه فجمعهم ثم قال : أيها الناس ! إن الله تبارك وتعالى بعث كتاباً ناطقاً لا يهلك عنه إلا هالك ، وإن المبتدعات المشتبهات هن المهلكات المرديات ، إلا من حفظ الله ، وإن في سلطان الله عصمة
أمركم ، فأعطوه طاعتكم . ألا ، وتهيؤوا لقتال الفرقة الذين يريدون تفريق جماعتكم ، فلعل الله تعالى يصلح بكم ما أفسد أهل الشقاق . ألا إن طلحة والزبير قد تمالآعليَّ بسخط إمارتي ودعوا الناس إلى مخالفتي ، وأنا سائر إليهم ومنابذهم حتى يحكم الله بيني وبينهم . والسلام . قال : فأجابه الناس إلى ذلك ) .
3 . في الكافئة في رد توبة الخاطئة / 18 : ( ثم نودي من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله : الصلاة جامعة ، فخرج الناس وخرج أمير المؤمنين عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وآله قلنا : نحن أهل بيته وعصبته وورثته وأوليائه وأحق الخلق به ، لاننازع حقه وسلطانه ، فبينما نحن كذلك إذ نفرالمنافقون وانتزعوا سلطان نبينا منا وولوه غيرنا ! فبكت والله لذلك العيون والقلوب منا جميعاً معاً ، وخشنت له الصدور ، وجزعت النفوس منا جزعاً أرغم . وأيم الله لولا مخافتي الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود أكثرهم إلى الكفر ويُعَوَّر الدين ، لكنا قد غيرنا ذلك ما استطعنا .
وقد بايعتموني الآن وبايعني هذان الرجلان طلحة والزبير على الطوع منهما ومنكم والإيثار ، ثم نهضا يريدان البصرة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم ! اللهم فخذهما لغشهما لهذه الأمة ، وسوء نظرهما للعامة . ثم قال : انفروا رحمكم الله في طلب هذين الناكثين القاسطين الباغيين ، قبل أن يفوت تدارك ما جنياه ) .
4 . وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 358 ) : ( وسار علي من المدينة في سبع
--------------------------- 68 ---------------------------
مائة راكب منهم أربع مائة من المهاجرين والأنصار ، منهم سبعون بدرياً ، وباقيهم من الصحابة ، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري ، فانتهى إلى الرَّبَذة بين الكوفة ومكة من طريق الجادة ، وفاته طلحة وأصحابه ، وقد كان عليٌّ أرادهم ، فانصرف حين فاتوه إلى العراق في طلبهم ) .
5 . وقال العيني في عمدة القاري ( 15 / 49 ) : ( خرج في آخر شهر ربيع الآخر في سنة ست وثلاثين من المدينة في تسع مائة مقاتل وقيل . . فيهم أربع مائة ممن بايعوا تحت الشجرة ، وثمان مائة من الأنصار ورايته مع ابنه محمد بن الحنفية ، وعلى ميمنته الحسن بن علي ، وعلى ميسرته الحسين بن علي ، وعلى الخيل عمار بن ياسر ، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر الصديق ، وعلى مقدمته عبد الله بن عباس .
ثم اجتمعوا كلهم عند قصر عبيد الله بن زياد ونزل الناس في كل ناحية وقد اجتمع مع علي رضي الله تعالى عنه عشرون ألفاً ، والتفَّت على عائشة رضي الله تعالى عنها ومن معها ، نحوٌ من ثلاثين ألفاً ) .
أقول : الصحيح أن جيش أمير المؤمنين عليه السلام لم يزد على اثني عشر ألفاً ، وجيش عائشة كان أكثر من ثلاثين ألفاً .
6 . وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 358 ) : وسار علي من المدينة بعد أربعة أشهر وقيل غير ذلك ، في سبع مائة راكب ، منهم أربع مائة من المهاجرين والأنصار ، منهم سبعون بدرياً ، وباقيهم من الصحابة ، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري ، فانتهى إلى الرَّبَذة بين الكوفة ومكة من طريق الجادة ، وفاته طلحة وأصحابه وقد كان عليٌّ أرادهم ، فانصرف حين فاتوه إلى العراق في طلبهم ، ولحق بعلي من أهل المدينة جماعة من الأنصار فيهم خُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأتاه من طيّئ ست مائة راكب ، وكاتَبَ علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفر الناس فثبطهم أبو موسى وقال : إنما هي فتنة ، فنمي ذلك إلى علي عليه السلام ، فولَّى على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري ، وكتب إلى أبي موسى :
--------------------------- 69 ---------------------------
اعتزل عملنا يا ابن الحائك مذموماً مدحوراً ، فما هذا أول يومنا منك ، وإن لك فينا لهناتٍ وهنيات .
وسار علي بمن معه حتى نزل بذي قار ، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسرالى الكوفة يستنفران الناس ، فسارا عنها ومعهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف ، وقيل ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً ) .
7 . خافت عائشة وطلحة والزبير أن يدركهم علي عليه السلام فأغذوا السير أي أسرعوا ولما نبحتهم كلاب الحوأب وتيقنت عائشة أنها صاحبة الحوأب التي حذرها النبي صلى الله عليه وآله نزلت عن جملها وقالت : ردوني ردوني ، وبقيت يومين ترفض السير .
قال العيني في عمدة القاري ( 15 / 49 ) : ( فقالت أنا والله صاحبة الحوأب ، ردوني ردوني ، تقول ذلك ! فأناخوا حولها وهم على ذلك وهي تأبى المسير ، حتى إذا كانت الساعة التي أناخت فيها من الغد جاءها عبد الله بن الزبير فقال : النجاء النجاء ، فقد أدرككم علي بن أبي طالب ! فعند ذلك رحلوا ) !
ومعناه : أنهم احتالوا عليها ، فجاء ابن الزبير مسرعاً وقال لها إركبي ياخالتي جاءنا علي ! ومن خوفهم سلكوا غير الطريق العام : ( فخرجوا حتى إذا انتهوا إلى جبال أوطاس تيامنوا وسلكوا طريقاً نحو البصرة ، وتركوا طريقها يساراً ) . ( الطبري : 3 / 477 ) .

ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها

1 . في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 336 ) : ( ذكر ابن الأعثم في الفتوح ، والماوردي في أعلام النبوة ، وشيرويه في الفردوس ، وأبو يعلى في المسند ، وابن مردويه في فضايل أمير المؤمنين ، والموفق في الأربعين ، وشعبة ، والشعبي ، وسالم بن أبي الجعد في أحاديثهم ، والبلاذري والطبري في تاريخيهما : أن عائشة لما سمعت نباح الكلاب قالت أي ماء هذا ؟ فقالوا الحوأب ، قالت إنا لله وإنا إليه راجعون ، إني لهيَهْ ! قد سمعت رسول الله وعنده نساؤه يقول : ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب !
--------------------------- 70 ---------------------------
وفي رواية الماوردي : أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب [ وهي في فئة باغية ] يقتل من يمينها ويسارها قتلى كثيرة وتنجو بعد ما كادت تقتل ) !
2 . شهد الذهبي بصحة حديث الحوأب وارتضى أنه معجزة للنبي صلى الله عليه وآله . قال في سيره ( 2 / 198 ) : ( أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، يقتل حولها قتلى كثيرة ، وتنجو بعد ما كادت . قال ابن عبد البر : هذا الحديث من أعلام النبوة ، وعصام ثقة ) .
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1 / 767 ) : أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب . أخرجه أحمد ( 6 / 52 ) عن يحيى وهو ابن سعيد و ( 6 / 97 ) عن شعبة , وأبو إسحاق الحربي في غريب الحديث ( 5 / 78 / 1 ) عن عبدة وابن حبان في صحيحه ( 1831 - موارد ) عن وكيع وعلي بن مسهر وابن عدي في الكامل ( ق 223 / 2 ) عن ابن فضيل , والحاكم ( 3 / 120 ) عن يعلى بن عبيد , كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنني إلا راجعة , إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لنا . . فذكره . ولفظ يحيى قال : لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً نبحت الكلاب قالت : أي ماء هذا قالوا : ماء الحوأب , قالت : ما أظنني إلا أني راجعة , فقال بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم , قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لها ذات يوم : كيف بإحداكن تنبح . . .
قلت : وإسناده صحيح جداً , رجاله ثقات أثبات من رجال الستة : الشيخين والأربعة رواه السبعة من الثقات عن إسماعيل بن أبي خالد ، وهو ثقة ثبت ، كما في التقريب .
ثم رد الألباني كلام من ضعفه وقال : وعلى هذا فالحديث من أصح الأحاديث ولذلك تتابع الأئمة على تصحيحه قديماً وحديثاً . الأول : ابن حبان فقد أخرجه في صحيحه كما سبق . الثاني : الحاكم بإخراجه إياه في المستدرك كما تقدم ولم يقع في المطبوع منه التصريح بالتصحيح منه , ولا من الذهبي , فالظاهرأنه سقط من الطابع أو الناسخ ، فقد نقل الحافظ في الفتح ( 13 / 45 ) عن الحاكم أنه صححه , وهو اللائق به لوضوح صحته .
الثالث : الذهبي فقد قال في ترجمة السيدة عائشة من كتابه العظيم سير النبلاء : هذا حديث صحيح الإسناد , ولم يخرجوه . الرابع : الحافظ ابن كثير ، فقال في البداية بعد أن عزاه
--------------------------- 71 ---------------------------
كالذهبي لأحمد في المسند : وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه .
الخامس : الحافظ ابن حجر فقد قال في الفتح بعد أن عزاه لأحمد وأبي يعلى والبزار . وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح .
فهؤلاء خمسة من كبار أئمة الحديث صرحوا بصحة هذا الحديث وذلك ما يدل عليه النقد العلمي الحديثي كما سبق تحقيقه ) . ثم انتقد الألباني يحيى بن سعيد القطان لتضعيفه له ، وابن العربي في القواصم ومحب الدين الخطيب ، لإنكارهما الحديث .
3 . في شرح النهج ( 6 / 225 و 9 / 310 ) : ( نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها فقال قائل من أصحابها : ألا ترون ما أكثر كلاب الحواب وما أشد نباحها ! فأمسكت زمام بعيرها وقالت : وإنها لكلاب الحوأب ! ردوني ردوني فإني سمعت رسول الله يقول . . فقال لها الزبير : مهلاً يرحمك الله فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة ، فقالت : أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب ؟ فلفق لها الزبيروطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ! فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام ) !
وفي رواية أبي الفداء ( 1 / 173 ) ونهاية الأرب ( 20 / 31 ) وعمدة القاري ( 15 / 49 ) : ( فصرخت عائشة بأعلى صوتها واسترجعت وقالت : إني لهيه ! ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ، وقالت : ردوني ! أنا والله صاحبة ماء الحوأب ! فأناخوا حولها يوماً وليلة ! فقال لها عبد الله بن الزبير : إنه كذب ، وليس هو ماء الحوأب !
ولم يزل بها وهي تمتنع ، حتى قال لها : النجاءَ النجاء ، قد أدرككم علي بن أبي طالب ! فعند ذلك رحلوا ) .
وفي فتح الباري ( 13 / 45 ) : ( يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة ، وتنجو من بعد ما كادت . . رجاله ثقات ) . أقول : تنجو من القتل ، وليس في الآخرة .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 60 ) : ( فقال لها محمد بن طلحة : تقدمي رحمك الله ودعي هذا القول ) ! أي لا تهتمي بتحذير النبي صلى الله عليه وآله ! ويقولون كان محمد بن طلحة عابداً ، فأي عابد هذا يقول لعائشة : لاتهتمي بقول النبي صلى الله عليه وآله وتقدمي !
--------------------------- 72 ---------------------------
4 . وقال أبو جعفر الإسكافي في المعيار والموازنة / 56 : ( يقول علي رضي الله عنه وهو بالمدينة : ستنبحها كلاب الحوأب ، وتقول هي لما نبحتها كلاب الحوأب : سمعت النبي يقول : كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت على امرأة من نسائي ، وهي في فئة باغية ، ثم قال : لعلك أنت يا حميراء ، قالت : ثم دعا علياً فناجاه بما شاء ! هل يكون بيان أوضح من هذا بأن علياً لم يقدم ولم يحجم ، ولم يقل ولم يسكت ، إلا بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله ! فليعتبر من به حياة ، وليذكر من كان له قلب ! واعلموا أن مثل هذه الأخبار لا تكون مفتعلة ) .
5 . كان خروج عائشة لحرب الجمل بعد ربع قرن من إخبار النبي صلى الله عليه وآله ، ولم تنبح كلاب طريق غيرها ، فتعين أن تكون هي صاحبة الحوأب ، فهل نكذب الواقع والنبي صلى الله عليه وآله والمؤرخين والمحدثين ، لنصدق طلحة والزبير وشهودهم بالأجرة !
وكيف نثق بصحابي يستأجر شهود الزور !
لكن القوم أشربوا حب عائشة وطلحة والزبير ، وحب كل من أبغض علياً عليه السلام !
6 . لا تنفر الإبل عادة من نباح الكلاب إلا في حالات استثنائية ، والإبل الصعبة أقل تأثراً بنباح الكلاب ، وقد نفرت إبل عائشة حتى الصعبة لكثرة كلاب الحوأب وشدة نباحها وهجومها عليهم . ( شرح النهج : 6 / 225 ) وكأن هذه الكلاب جنٌّ جمعهم الله لتحقيق الآية التي أخبر بها رسوله صلى الله عليه وآله ! وكانت إبل عائشة ست مئة ومعنى نفرتها أنها هربت في كل جهة ، ولم يسيطروا عليها إلا بصعوبة !
7 . قال الصدوق في من لا يحضره الفقيه ( 3 / 75 ) : ( قال الإمام الصادق عليه السلام : أول شهادة شهد بها بالزور في الإسلام : شهادة سبعين رجلاً حين انتهوا إلى ماء الحوأب ، فنبحتهم كلابها فأرادت صاحبتهم الرجوع وقالت : سمعت رسول الله يقول لأزواجه : إن إحداكن تنبحها كلاب الحوأب ، في التوجه إلى قتال وصيي علي بن أبي طالب عليه السلام ، فشهد عندها سبعون رجلاً أن ذلك
--------------------------- 73 ---------------------------
ليس بماء الحوأب ، فكانت أول شهادة شهد بها في الإسلام بالزور ) .
وفي رسائل المرتضى ( 4 / 64 ) : ( فكسوهم أكسية ، وأعطوهم دراهم ) .
أقول : معنى قولهم أنها أول شهادة زور في الإسلام ، أنها أول قسامة بسبعين رجلاً أو خمسين ، وإلا فقد كانت شهادة الزور قبل الحوأب كما قال أمير المؤمنين عليه السلام ( الكافي ( 8 / 29 ) : ( ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان ، رجعوا عن ذلك وقالوا : إن رسول الله مضى ولم يستخلف ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله الطيب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام ) !
8 . في رواية الصدوق أن النبي صلى الله عليه وآله قال لها : ( تنبحها كلاب الحوأب في التوجه إلى قتال وصيي علي بن أبي طالب ) . وفي رواية الإسكافي : ( في فئة باغية ) .
وقد حذف رواة السلطة الفقرتين ليبعدوا صفة الفئة الباغية عن مقاتلي علي عليه السلام !
9 . فسر الخليل حوأب بالمكان المقعر الواسع ، قال ( 3 / 310 ) : ( الحوأب : موضع ، وذلك حيث نبحت الكلاب على عائشة مَقْبَلُها إلى البصرة ) .
وقال ابن فارس ( 2 / 145 ) : ( الوادي الواسع العرض ، والحاء فيه زائدة ، وإنما الأصل الوأب ، والوأب الواسع المقعر من كل شئ ) .
10 . من تناقضاتهم أنهم قبلوا رواية الحوأب ثم شككوا في تطبيقها على عائشة . لكن لا حوأب إلا ذلك المكان ، ولا صاحبة لكلاب الحوأب إلا عائشة !
11 . في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 335 ) : ( شعبة والشعبي والأعثم وابن مردويه وخطيب خوارزم في كتبهم ، بالأسانيد عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وقتادة ، وقيس بن أبي حازم ، وأم سلمة ، وميمونة ، وسالم بن أبي الجعد ، واللفظ له : أنه ذكر النبي صلى الله عليه وآله خروج بعض نسائه فضحكت عائشة فقال : أنظري يا حميراء لاتكونين هي . ثم التفت إلى علي فقال : يا أبا الحسن إن وليت
--------------------------- 74 ---------------------------
من أمرها شيئاً فارفق بها . فقال الزاهي :
كم نهيت عن تبرجٍ فعصت * وأصبحت للخلاف متبعهْ
قال لها الله في البيوت قري * فخالفته العفيفة الورعهْ
وقال السوسي :
وما للنساء وحرب الرجال * فهل غلبت قط أنثى ذكر
ولو أنها لزمت بيتها * ومغزلها لم ينلها ضرر
وقال الحميري :
جاءت مع الأشقيْن في هودج * تزجي إلى البصرة أجنادها
كأنها في فعلها هرةٌ * تريد أن تأكل أولادها
وقال الأحنف بن قيس :
حجابك أخفى للذي تسترينه * وصدرك أوعى للتي لا أقولها
فلا تسلكِن الوعر صعباً مجازُه * فتغبرُّ من سُحْب الملاء ذيولها )

الشبه بين عائشة وصفورة زوجة موسى عليه السلام

1 . استفاضت الأحاديث بأن صفيراء زوجة موسى حاربت وصيه يوشع عليه السلام . فقد روى الطبري في بشارة المصطفى / 428 : ( عن عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الله بن مسعود قال : قلت للنبي صلى الله عليه وآله : يا رسول الله من يغسلك إذا متَّ ؟ قال : يغسل كل نبي وصيه ، قلت : فمن وصيك يا رسول الله ؟ قال : علي بن أبي طالب . قلت : كم يعيش بعدك يا رسول الله ؟ قال : ثلاثين سنة ، فإن يوشع بن نون وصي موسى عاش من بعده ثلاثين سنة ، وخرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى فقالت : أنا أحق بالأمر منك فقاتلها فقتل مقاتلها وأسرها فأحسن أسرها ، وإن ابنة أبي بكر ستخرج على علي في كذا وكذا ألفاً من أمتي ، فيقاتلها فيقتل
--------------------------- 75 ---------------------------
مقاتلها ويأسرها فيحسن أسرها ! وفيها أنزل الله عز وجل : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ، يعني صفراء ابنة شعيب ) .
أقول : وعاش شمعون الصفا وصي عيسى ، بعد عيسى عليهما السلام ثلاثين سنة .
وفي إثبات الوصية للطبري ( 1 / 66 ) : ( خرجت صفورا بنت شعيب امرأة موسى على يوشع وركبت الزرافة وكان ظهر الزرافة كالسرج فلما حاربت حجة الله وظفر بها ومن عليها صير الله ظهر الزرافة كالزلاقة وحماه .
فكانت الحرب لها أول النهار إلى قبل زوال الشمس ، ثم صارت له إلى آخر النهار فظفر بها ، وأشار عليه بعض من معه بقتلها ، فقال لهم : قد عرفني موسى أمرها وخروجها وأمرني أن أحفظه فيها وأحسن صونها ، فوكل بها نساء متلثمات أركبهن الخيل في زي الرجال ووجه بهن . فلما صارت هناك جمعت النساء والرجال وقالت : إن يوشع بن نون أسرني وبعث بي مع رجال ليس فيهم محرم إلى هذا المكان . فكشف النساء اللثام حتى نظر بنو إسرائيل إليهن وكذبنها ) .
2 . في كمال الدين للصدوق / 154 : ( فصاح صائح من السماء : مات موسى كليم الله وأي نفس لا تموت ، فحدثني أبي عن جدي عن أبيه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عن قبر موسى أين هو ؟ فقال : هوعند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر . ثم إن يوشع بن نون قام بالأمر بعد موسى عليهما السلام صابراً من الطواغيت على اللأواء والضراء والجهد والبلاء ، حتى مضى منهم ثلاث طواغيت ، فقوي بعدهم أمره ، فخرج عليه رجلان من منافقي قوم موسى بصفراء بنت شعيب امرأة موسى في مائة ألف رجل ، فقاتلوا يوشع بن نون عليه السلام فقتلهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وهزم الباقين بإذن الله تعالى ذكره ، وأسر صفراء بنت شعيب وقال لها : قد عفوت عنك في الدنيا إلى أن ألقى نبي الله موسى عليه السلام فأشكو إليه ما لقيت منك ومن قومك ! فقالت صفراء : واويلاه ، والله لو أبيحت لي الجنة لاستحييت أن أرى فيها رسول الله وقد هتكت حجابه وخرجت على وصيه بعده ! فاستتر
--------------------------- 76 ---------------------------
الأئمة بعد يوشع بن نون إلى زمان داود عليه السلام أربع مائة سنة ، وكانوا أحد عشر ، وكان قوم كل واحد منهم يختلفون إليه في وقته ويأخذون عنه معالم دينهم ، حتى انتهى الأمر إلى آخرهم فغاب عنهم ، ثم ظهرلهم فبشرهم بداود عليه السلام ) .
3 . قال المفيد في مسار الشيعة / 41 : ( وفيه ( 18 ذي الحجة ) نصب موسى يوشع بن نون عليهما السلام وصيه ، ونطق بفضله على رؤوس الأشهاد . وفيه أظهر عيسى بن مريم وصيه شمعون الصفا عليهما السلام . وفيه أشهد سليمان بن داود سائر رعيته على استخلاف آصف بن برخيا عليهما السلام وصيه ، ودل على فضله بالآيات والبينات . وهو يوم عظيم ، كثير البركات ) .
( قال : فمن كان وصي موسى ؟ قال صلى الله عليه وآله : يوشع بن نون . قال : فمن كان وصى : عيسى ؟ قال : شمعون بن حمون الصفا ، ابن عم [ عمة ] مريم عليها السلام ) . ( البصائر / 119 ) .
وفي مجمع الزوائد ( 9 / 102 ) : ( عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله قال : السُّبَّقُ ثلاثة : السابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين ، والسابق إلى محمد صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب . رواه الطبراني وفيه حسين بن حسن الأشقر ، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله حديثهم حسن أو صحيح ) .
أقول : لاعذر لهم في تضعيفه بحسين الأشقر ، لأن الحاكم الحسكاني رواه ( 2 / 294 ) عن ابن أبي السري ، وقال : فذكرته لحسين الأشقر فقال : سمعناه من ابن عيينة ) .
4 . قال الأنصاري الحلبي في الأعلاق الخطيرة ( 1 / 111 ) : ( كفر مندة : قرية ، قيل إنها مدين شرقي طور سينا . وبهذه القرية قبرصفوراء بنت شعيب زوجة موسى وبها الجب الذي قلع الصخرة من عليه وسقى منها أغنام شعيب . والصخرة باقية هناك . وبها اثنان من أولاد يعقوب ، وهما أشير ونفتالي ) .
وفي النجوم الزاهرة ( 5 / 109 ) : ( حِطِّين : قرية غربي طبرية ، ويقال إن قبر شعيب عليه السلام بها ، وبنته صفوراء زوجة موسى عليه السلام أيضاً بها ) .
--------------------------- 77 ---------------------------
ملاحظات
1 . تدل الأحاديث على أن البرنامج الرباني لأوصياء موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليه وآله وعليهم ، واحدة في يوم نصب الوصي ، ومدة حياته بعد نبيه عليهم السلام . فكان نصبهم في الثامن عشر من ذي الحجة ، وعاش كل منهم بعد نبيه ثلاثين سنة .
2 . كما نلاحظ الشبه التام بين بني إسرائيل والمسلمين ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لوسلكوا جحر ضب لسلكتموه ! قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ) ؟ ! ( البخاري : 4 / 144 ) .
وقد عزل اليهود وصي موسى يوشع بن نون عليهما السلام ، ونصبوا خليفة لموسى منهم من القضاة ، ونظام القضاة الذي ابتدعوه نفس نظام الخلفاء في أمتنا !
وبقي يوشع عليه السلام معزولاً حتى مضى ثلاثة من القضاة ، كما بقي علي عليه السلام معزولاً حتى مضى ثلاثة من خلفاء قريش . ولما اضطر بنو إسرائيل لأن يبايعوا يوشع عليه السلام خرجت عليه الصفورة أو الصفراء أو الصفيراء زوجة موسى عليه السلام ، وكذلك لما اضطروا إلى بيعة علي عليه السلام خرجت عليه عائشة ! فكان ذلك شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع !
3 . لا تجد أحداً من أتباع السلطة القرشية يتعظ بمعجزة النبي صلى الله عليه وآله وإخباره بالمغيبات في هذه الأمة ! بل تجدهم يتسابقون في إغماض عيونهم وتغميض عيون الناس عنها ، وتبرير ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وآله ومدح المخالفين لعترة النبي صلى الله عليه وآله ، بل مدح قاتليهم !
4 . كما نلاحظ الشبه شبراً بشبر بين المحدثين المسلمين أتباع سلطة خلفاء قريش ، ومحدثي اليهود أتباع سلطة قضاة بني إسرائيل ، وشبه صحاح الحديث ونصوص التلمود في التبرير للحكام ، وتغييب الحقائق وإخفاء المعارضة !
--------------------------- 78 ---------------------------
لاحظ نص قاموس الكتاب المقدس / 735 ، عن نظام القضاة وعلاقتهم بالنبي والوصي . قال : ( قام رؤساء للشعب بعد موسى من أبطالهم الغيورين للرب وللشعب ، ولُقبوا بالقضاة لأنهم كانوا يقضون للناس . ولكن الله كان مرجعهم الأخير . فكان الملك هوالقاضي العظيم وشيوخ المدينة يقضون تحت يده . وكان يسمح لأحقر شخص أن يصل إلى الملك ليرفع إليه شكواه وليستأنف دعواه . فكانوا يأتون إلى داود من سائر الأسباط ( 2 صم 15 : 2 ) وكان على الملك أو القاضي الحاكم أن يستشيرالنبي أو الكاهن العظيم . ( عد 27 : 21 و 1 صم 22 : 15 ) .
فرؤساء الشعب قاموا بعد موسى عليه السلام ونصبوا أنفسهم حكاماً ، ولم يكن عندهم علم فكانوا يستشيرون النبي والكاهن العظيم ، مثل يوشع ! وكذلك خلفاء النبي صلى الله عليه وآله !
وقال في قاموس الكتاب المقدس / 552 : ( صموئيل : اسم عبري معناه اسم الله أو اسمه إيل أي الله . هو أول أنبياء العبرانيين بعد موسى وآخر القضاة ، وكان أبوه القانة لاويا ، وينتسب إلى صوفاي أو صوف . ( 1 صم 1 : 1 و 1 أخبار 6 : 26 و 35 ) .
فصموئيل الذي جاء بعد موسى عليه السلام هو أبو بكر ، أما صفورة فقد أخفوا خروجها على يوشع عليه السلام ! قال في قاموس الكتاب المقدس / 544 : ( صفورة : اسم مدياني معناه عصفورة ، ابنة يثرون الكاهن المدياني ، اقترنت بموسى وولدت له ابنين ( خر 2 : 21 و 22 ) ولعلها ذهبت إلى أبيها مع ولديها في ذلك الوقت ، ولكن الأرجح أنها رافقت موسى إلى مصر ، وبعد الخروج فيما كان قائد بني إسرائيل يدنو من جبل سيناء أرسلت إلى يثرون لتعلمه بما صنع الله لموسى ولبني إسرائيل ، وكيف أن الرب أخرجه من مصر ( خر 18 : 1 ) وقد عاد معهم يثرون إلى رفيديم . ( خر 18 : 2 - 6 ) .
--------------------------- 79 ---------------------------

الفصل الرابع والخمسون : وصول عائشة إلى البصرة وسيطرتها عليها

عسكرت عائشة في حفر أبي موسى قرب البصرة

قال في شرح النهج ( 9 / 311 ) : ( عن ابن عباس ، أن الزبير وطلحة أغذَّا السير بعائشة حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى وهو قريب من البصرة ( يبعد عنها أربعة أميال ، نحو 6 كيلومتر : معجم البلدان : 2 / 277 ) وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهوعامل علي على البصرة : أن أَخْلِ لنا دار الامارة ! فلما وصل كتابهما إليه بعث إلى الأحنف بن قيس فقال له : إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله والناس إليها سراع كما ترى ! فقال الأحنف : إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان وهم الذين ألبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه ! وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا ! وأظنهم والله سيركبون منك خاصة مالا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة ، فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع ، فسر إليهم بالناس ، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك ! فقال عثمان بن حنيف : الرأي ما رأيت لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به ، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به . ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من بني عمرو بن وديعة ، فأقرأه كتاب طلحة والزبيرفقال له مثل قول الأحنف ، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف ، فقال له حكيم : فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام وإلا نابذتهم على سواء . فقال عثمان : لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي . قال حكيم : أما
--------------------------- 80 ---------------------------
والله إن دخلوا عليك هذا المصر لتنتقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا وأنت أعلم . فأبى عليه عثمان ! قال : وكتب علي عليه السلام إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف : أما بعد ، فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا ، وتوجهوا إلى مصرك ، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به ، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً ، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه ، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف ، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين . وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة ، وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله . وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين . قال : فلما وصل كتاب علي عليه السلام إلى عثمان ، أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي ، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم ، وما الذي أقدمهم ؟ فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم ، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها وأذكراها وناشداها الله ، فقالت لهما : إلقيا طلحة والزبير . فقاما من عندها ولقيا الزبيرفكلماه فقال لهما : إنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم .
فقالا له : إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها ، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم ، وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه ، وأعظمهم إغراء بدمه ، فأقيدوا من أنفسكم ! وأما إعادة أمرالخلافة شورى فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين ! وأنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله وأنت آخذ قائم سيفك ، تقول : ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه ، وامتنعت من بيعة أبي بكر ! فأين ذلك الفعل من هذا القول ! فقال لهما : إذهبا فالقيا طلحة ، فقاما إلى طلحة فوجداه خشن الملمس ، شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب ، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه ، وقال له أبو الأسود :
--------------------------- 81 ---------------------------
يا ابن حنيف قد أُتِيتَ فانفرْ * وطاعن القوم وجالدْ واصبرْ
وابرز لها مستلئماً وشمرْ
فقال ابن حنيف : إي والحرمين لأفعلن ، وأمر مناديه فنادى في الناس : السلاح
السلاح ! فاجتمعوا إليه ، وقال أبو الأسود :
أتينا الزبير فدانى الكلام * وطلحة كالنجم أو أبعدُ
وأحسن قوليهما فادحٌ * يضيق به الخطبُ مستنكد
وقد أوعدونا بجهد الوعيد * فأهون علينا بما أو عدوا
فقلنا ركضتم ولم ترملوا * وأصدرتم قبل أن توردوا
فإن تلقحوا الحرب بين الرجا * ل فملقحها حده الأنكد
وإن علياً لكم مصحرٌ * ألا إنه الأسد الأسود
أما إنه ثالث العابدين * بمكة والله لا يعبد
فَرَخُّوا الخناق ولا تعجلوا * فإن غداً لكم موعد ) .
أقول : الأحنف بن قيس رئيس بني تميم ، وحكيم بن جبلة رئيس بني عبد القيس رحمهما الله ، وكان رأيهما أن يبادر والي البصرة ويخرج بجنده إلى عائشة وجماعتها في حفر أبي موسى ، الذي يبعد عن البصرة عدة أميال ، ويدعوهم إلى طاعة أمير المؤمنين عليه السلام والوفاء ببيعتهم ، فإن أبوا قاتلهم . وكان رأيه كذلك ، لكن أمير المؤمنين عليه السلام أمره أن يتركهم ما داموا خارج البصرة ، فإذا أرادوا دخولها منعهم وقاتلهم .
قال له في رسالته : ( فإذا قدموا عليك ، فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه ، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف ، فناجزهم القتال ) .
وفي رسالة أخرى : ( فإن قدموا مصرك ، فادعهم إلى الحق والرجوع إلى الوفاء
--------------------------- 82 ---------------------------
بعهد الله والميثاق الذي بايعوا عليه ، فإن فعلوا فأحسن جوارهم ، ومرهم بالانصراف إلى المكان الذي أقبلوا منه ، وإن أبوا وتمسكوا بحبل النكث ، فقاتلهم حتى يحكم الله بينك وبينهم ، وهو خير الحاكمين ) .
وفهم ابن حنيف من رسائل علي عليه السلام أنهم ما داموا خارج البصرة ، في حفر أبي موسى أو في الخريبة ، فلا تقاتلهم ، وإذا دخلوا إلى مربد البصرة وهو ساحة متصلة بالمدينة فلا تقاتلهم ، حتى يهاجموك ويقصدوا احتلال المدينة .
وهذا ينسجم مع سياسة أمير المؤمنين عليه السلام مع الخوارج عليه بأن يتركهم ولو جمعوا الأنصار ضده ، ويترك من أراد أن يلتحق بهم !
وقد فهمت عائشة هذه السياسة ، فدعت الناس إلى التجمع في مربد البصرة ، وكان تجمعاً حاشداً ، لأن الناس يريدون رؤية زوجة نبيهم صلى الله عليه وآله وسماع كلامها .
واعتبر الأحنف وحكيم ذلك خطأ من الوالي ، خاصة أن عائشة بخطبتها قسمت الناس وجذبت كثيراً من أتباع الوالي إلى صفها وجندها !
لكن فهم ابن حنيف لسياسة أمير المؤمنين عليه السلام كان أصوب ، وقد كتب هو عليه السلام بهذه السياسة أيضاً إلى سهل بن حنيف والي المدينة فقال له : ( بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللون إلى معاوية ، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ، ويذهب عنك من مددهم . فكفى لهم غياً ولك منهم شافياً ، فرارهم من الهدى والحق ، وإيضاعهم إلى العمى والجهل . وإنما هم أهل دنياً مقبلون عليها ومهطعون إليها ، قد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه ، وعلموا أن الناس عنده في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة ! فبعداً لهم وسحقاً ) !
وقد طبق ابن حنيف سياسة أمير المؤمنين عليه السلام بدقة ، فأعطى عائشة الحرية ، وجمع جنوده بعد المربد على مداخل البصرة ، وأفواه سككها ، ليمنعها من دخولها .
وأصل سياسة أمير المؤمنين عليه السلام قاعدة عمل بها النبي صلى الله عليه وآله تقول : دعوا مقادير الله تمضي . أي إصبروا حتى يخرج ما بالقوة فيهم إلى ما بالفعل ، فيعرفهم الناس !
--------------------------- 83 ---------------------------

لماذا لم يقاتلهم ابن حنيف قبل دخولهم البصرة ؟

قد يقال : كان الواجب على عثمان بن حنيف أن يأخذ برأي الأحنف بن قيس وحكيم بن جبلة وأبي الأسود الدؤلي ، وغيرهم ، ويقصد بجيشه عائشة وجماعتها قبل أن يدخلوا البصرة ، ويعرض عليهم إما الوفاء ببيعتهم لأمير المؤمنين عليه السلام وإما القتال ، ولا يسمح لهم بدخول البصرة وخداع الناس وكسبهم إلى جيشهم . وقد قال له الأحنف : إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان ، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه ! وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا ! وأظنهم والله سيركبون منك خاصة مالا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة ، فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع ، فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة ، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك !
فقال عثمان بن حنيف : الرأي ما رأيت ، لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به ، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين عليه السلام ورأيه فأعمل به . وقال له حكيم بن جبلة : فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام وإلا نابذتهم على سواء .
فقال عثمان : لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي ! فلم يبادرهم ابن حنيف ، ولا سمح لحكيم بن جبلة أن يبادرهم ، وحكيم لا يقل عن الزبير في شجاعته . فقد فهم الوالي من أمير المؤمنين عليه السلام أن لايقاتلهم إلا إذا هاجموا دار الإمارة !
فقد يقال : ما بال أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يلحق بهم هو في الحجاز ويقاتلهم ؟
وجوابه : أن المكان كان الحجاز وطرفهم نفس علي عليه السلام الذي نكثوا بيعته ، فلو التقى بهم لاحتج عليهم بما لا يستطيع ابن حنيف أن يحتج به عليهم .
وقد يقال : ما الفرق بينهم وبين أهل خَرَبْتَا في مصر ، الذين لم يبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام فأمر واليه قيس بن سعد أن يناجزهم القتال ، فلم يقبل ، فعزله .
قال الثقفي في الغارات ( 1 / 206 ) : ( وثب مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري ،
--------------------------- 84 ---------------------------
فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه ، فأرسل إليه قيس : ويحك أعليَّ تثب . . فأرسل إليه مسلمة أني كافٌّ عنك ، ما دمت أنت والي مصر ) .
وقال الطبري ( 3 / 553 ) : « فلما بلغ ذلك علياً اتهم قيساً ، وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا ، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف ، فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم وكتب إلى علي : فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم ، فأبى علي إلا قتالهم وأبى قيس أن يقاتلهم ، فكتب قيس إلى علي : إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك ، وابعث إليه غيري . فبعث علي الأشتر أميراً إلى مصر ) .
والجواب : أن عثمان بن حنيف لو هاجمهم خارج البصرة وانتصر عليهم وقتل منهم وأسر ، وهرب الباقون ، لقال الناس إنه معتدٍ وعائشة وجماعتها مظلومون لم يسمح لهم بدخول البصرة ، وقتلهم ، وأن هدفهم لم يكن القتال والبغي .
لكن صبر علي عليه السلام أظهرهم على واقعهم وكشف أنهم بغاة قتلة ، يريدون السيطرة على البصرة والتسلط على أهلها ، وقتل من خالفهم !
إن الألف قتيل الذين قتلتهم عائشة في معارك الجمل الصغرى ، ومعاملتها الوحشية لعثمان بن حنيف وغيره ممن خالفها ، صارت ورقة ظلامة مهمة بيد أمير المؤمنين عليه السلام ، ومبرراً عند الناس لحربه لهم .
أما أهل خربتا فكانوا جيشاً لهم فئة يرجعون إليها هو معاوية ، فيجري عليهم حكم الخوارج المسلحين المقاتلين ، كما بينا في كتاب : مصر وأهل البيت عليهم السلام .
--------------------------- 85 ---------------------------

حرب الجمل الصغرى والجمل الكبرى

معركة الجمل قسمان : الجمل الصغرى ، وكانت ثلاثة أيام بين عائشة وأصحابها وعثمان بن حنيف والي البصرة من قبل أمير المؤمنين عليه السلام .
فقد خطبت عائشة في مربد البصرة وحشَّدت الناس ، ثم هاجمت دارالإمارة داخل المدينة ، فاشتبكت مع المدافعين في أفواه السكك على مدى يومين ، ولما كثرت القتلى من الطرفين ولم يتحقق نصرلعائشة ، اتفقوا على الصلح ، وأن تبقى دار الإمارة وبيت المال وحكم المدينة لعثمان بن حنيف ، وأن يكون لعائشة وأصحابها الحرية في التجول في البصرة ، وتحشيد الناس معهم .
وبعد أيام قليلة غدروا بابن حنيف وهاجموا المسجد فجراً فاحتلوه ، وأسروا ابن حنيف ، وأخذوا بيت المال ، فكانت يوماً ثالثاً من الحرب .
وبعد أيام جاء حكيم بن جبلة بثلاث مئة من بني عبد القيس ، وقاتل عائشة وأصحابها ، فغلبوه وقتلوه وأحكموا سيطرتهم على البصرة . فكان هذا اليوم الرابع من الجمل الصغرى . وبلغ القتلى في الأيام الأربعة نحو ألف قتيل .
قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( فوالله لو لم يقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحلَّ لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش لرضاهم بقتل من قتل ! دع أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم ) . وقد دخلوا البصرة بست مئة مقاتل وقيل سبع مئة .
أما معركة الجمل الكبرى ، فبدأت بدخول أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة ، وقد أمهلهم ثلاثة أيام ، وأرسل إلى عائشة وطلحة والزبيرالرسائل والرسل ، وطلبهما للحضور بين الصفين للمناقشة فجاءا وناقشهما ، فاقتنع الزبير أنه ظالم ، وانسحب من المعركة ، وفكر طلحة أن ينسحب ، فقتله مروان بن الحكم غيلةً .
وأرسل إليهم أمير المؤمنين عليه السلام ابن عباس فناقشهم ، ثم أرسل شاباً يدعوهم إلى كتاب الله تعالى ، فنشر المصحف ودعاهم اليه ، فقالت عائشة : أشجروه بالرماح قبحه الله ، فقتلوه ! ورشقوا جيش أمير المؤمنين عليه السلام بالسهام ، فقتل ابن
--------------------------- 86 ---------------------------
بديل بن ورقاء الخزاعي وغيره ، فأذن أمير المؤمنين عليه السلام بقتالهم .
وقال ابن قتيبة إن حرب الجمل استمرت سبعة أيام وهو الصحيح ، وفي اليوم السابع نشرأمير المؤمنين عليه السلام راية رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله عليه النصر ، وسقط الجمل وانهزمت عائشة .
وقد روى ابن أبي شيبة أن المعركة كانت نصف يوم ، بعد ظهر الخميس ، وهذا لا يصح ، لأن أحداث المعركة وقتلاها لا يسعها نصف يوم ، ولأن الروايات نصت على أحداث منها في اليوم الثاني والثالث والرابع .
وغرض أتباع السلطة تصغيرالمعركة ، بل حاولوا نفيها من أصلها لتبرئة عائشة وطلحة والزبير ، فقالوا إنهم ما قصدوا القتال ، لكن السبئية أتباع عبد الله بن سبأ والصبيان والأوباش ، أنشبوا المعركة ، فاضطرت عائشة للدفاع عن نفسها ، واضطر طلحة والزبير للدفاع ، وكذا علي عليه السلام اضطر للدفاع !

خطبت عائشة في المربد ثم هاجمت دار الإمارة !

قال الآبي في نثر الدرر ( 4 / 9 ) : ( روي أنه لما كان يوم الجمل قامت عائشة فتكلمت فقالت : أيها الناس ، إن لي عليكم حق الأمومة وحق الموعظة ، لايتهمني إلا من عصى ربه ! قبض رسول الله بين سحري ونحري ، وأنا إحدى نسائه في الجنة ، له ادخرني ربي ، وخصني من كل بضع ، وبي ميز مؤمنكم من منافقكم ، وفيَّ رخص لكم في صعيد الأبواء . وأبي رابع أربعة من المسلمين ، وأول مسمىً صديقاً ، قبض رسول الله وهو عنه راض ، فوقذ النفاق ، وأغاض نبع الردة ، وأطفأ ما حشت يهود ، وأنتم حينئذ جحظ تنتظرون العدوة ، وتستمعون الصيحة ، فرأب الثأي وأوذم العطلة ، وامتاح من المهواة ، واجتهر دفن الرواء ، فقبضه الله واطئاً على هامة النفاق ، مذكياً نار حرب المشركين ، يقظان في نصرة الإسلام ، صفوحاً عن الجاهلين ) .
أي : لا يتهمني في عملي إلا عاصٍ كالذين اتهموني في عرضي ، وإن رسول الله توفي على صدري ، وقد اختارني الله زوجته في الدنيا والآخرة ، وإن أباها رتق الفتق ، واستقى من
--------------------------- 87 ---------------------------
البئر العميقة ، وهو رابع المسلمين والصديق ، وهو الذي أطفأ الردة وأنتم جالسون تتفرجون ! وكلها دعاوى بلا دليل ، بل الدليل على عكسها ، كما بينا في قراءة جديدة في حروب الردة . وقد أخذت عائشة كلامها من خطبة فاطمة عليها السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله !
وروي أن عائشة قالت : تبرأت إلى الله من خطب جمع شمل الفتنة ، وفرق أعضاء ما جمع القرآن . أنا نصب المساءلة عن مسيري هذا ، ألا وإني لم أجرد إثماً أدرعه ، ولم أدلس فتنة أوطأتكموها . أقول قولي هذا صدقاً وعذراً واعتذاراً وتعذيراً ، وأسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله ، وأن يخلفه في أمته أفضل خلافة المرسلين قال : فانطلق رجل بمقالتها هذه إلى الأحنف فقال الأحنف أبياتاً فيها :
فلو كانت الأكنان دونكِ لم يجد * عليك مقالاً ذو أذاة يقولها
فبلغ عائشة مقالته فقالت : لقد استفرغ حلم الأحنف هجاؤه إياي ، إليَّ كان يستجم مثابة سفهه ؟ إلى الله أشكو عقوق أبنائي ) ! أي : ذهب هجاء الأحنف لي بحلمه !
قال بعضهم : شهدت عائشة يوم الجمل وقد ثاب إليها الناس فقالوا : يا أم المؤمنين أخبرينا عن عثمان ، فقالت : إنا نقمنا على عثمان ثلاثاً : إمرة الفتى ، وضرب السوط ، وموقع الغمامة المتحاماة ، حتى إذا أعتبنا منهن مَصْتُمُوهُ مَوْصَ الثوب بالصابون ، ثم عدوتم به الفواقر أو الفقرالثلاث : حرمة الإسلام ، وحرمة الخلافة ، وحرمة الشهر الحرام . والله لعثمان كان أتقاهم للرب ، وأوصلهم للرحم ، وأعفَّهم للفرج ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) .
أي : نقمنا عليه تأمير صغار السن من بني أمية ، وضربه الناس ، وحميه الحمى للرعي ، وأنتم غسلتموه بتأنيبكم إياه ، ثم قتلتموه ظلماً !
وفي رواية الفائق للزمخشري ( 2 / 126 ) : ( إن لي حرمة الأمومة ، وحق الصحبة ، لايتهمني منكم إلا من عصى ربه ، وقبض رسول الله بين سحري ونحري وحاقنتي وذاقنتي ، وأنا إحدى نسائه في الجنة ، وبه حصنني ربي من كل وضيع ، وبي ميز مؤمنكم من منافقكم . . وإني أقبلت أطلب بدم الإمام المركوبة منه الفقر
--------------------------- 88 ---------------------------
الأربع ، فمن ردنا عنه بحق قبلناه ، ومن ردنا عنه بباطل قاتلناه ، فربما ظهرالظالم على المظلوم والعاقبة للمتقين . فأُخبر الأحنف بما قالت ، فأنشأ فيها أبياتاً :
فلو كانت الأكنان دونك لم يجد * عليك مقالاً ذو أذاة يقولها
وقفت بمستنِّ السيول وقلَّ من * يُثَوِّي بها إلا علاهُ بليلها
مخضتِ سِقائَيْ غدرةٍ وملامةٍ * وكلتاهما كادت يغولك غولها
أي : لو كنت في حجابك لما وجد أحد عليك سبيلاً ، لكنك وقفت في مسيل الوادي ، وطبيعي أن يصيبك البلل . وغدرتِ ، ففتحت عليك الباب ! فلما بلغتها مقالته قالت : إلى الله أشكو عقوق أبنائي ! ثم أنشأت تقول :
بُنَيَّ اتعظْ إن المواعظ سهلة * ويوشك أن تختار وعراً سبيلها
فلا تنسين في الله حق أمومتي * فإنك أولى الناس ألا تقولها
[ ولا تنطقن في أمةٍ لي بالخنى * حنيفية قد كان بعلي رسولها )
أي : إتعظ يا أحنف ، ولا تنس حق أمومتي ، وأنا زوجة رسول هذه الأمة العظيمة .
وتابع في الفائق : السَّحَر : الرئة ، والمراد الموضع المحاذي للسحَر من جسدها . قال الأصمعي : هو الذقن بعينه حيث اشتجر طرفا اللحيين من أسفل . وقيل : هو التشبيك تريد أنها ضمته بيديها إلى نحرها مشبكة بين أصابعها . الحاقنة : النقرة بين الترقوة ، وحبل العاتق . الذاقنة : طرف الحلقوم . والمعنى : أنه قبض وهي ملازمته وضامته إلى هذه المواضع من جسدها ) .
وفي جواهر المطالب ( 2 / 7 ) : ( فلما قدم طلحة والزبير بن العوام وعائشة تلقاهم الناس بأعلى المربد ، وازدحموا حتى لو رمي بحجر لما وقع إلا على رأس إنسان . فتكلم طلحة وعائشة وكثر اللغط فجعل طلحة يقول : أيها الناس أنصتوا فجعلوا يرهجون ولا ينصتون ، فقال : أف أف ! فراشُ نار وذُباب طمع ) .
وروى المفيد في كتاب الجمل / 165 ، إعجاب موسى بن طلحة بخطبة عائشة : ( قال : لقد شهدت عائشة يوم الجمل ، وقد سألها الناس عن عثمان ، فما رأيت أفصح منها
--------------------------- 89 ---------------------------
لساناً ، ولا أربط منها جناناً ، فاستجلبت الناس بيديها ، ثم حمدت الله وأثنت عليه وقالت : أيها الناس إنا نقمنا على عثمان لخصال ثلاثة . . . )
وقال المفيد / 149 : ( لما بلغ عائشة رأي ابن حنيف في القتال ركبت الجمل وأحاط بها القوم ، وسارت حتى وقفت بالمربد ، واجتمع إليها الناس حتى امتلأ المربد بهم ، فقالت وهي على الجمل : صه صه ، فسكت الناس وأصغوا إليها ، فحمدت الله تعالى وقالت : أما بعد فإن عثمان بن عفان قد كان غير وبدل ، فلم يزل يغسله بالتوبة حتى صار كالذهب المصفى ، فعدَوْا عليه وقتلوه في داره ، وقتل ناس معه في داره ظلماً وعدواناً ، ثم آثروا علياً فبايعوه من غيرملاءمة من الناس ولاشورى ولا اختيار ، فابتزَّ والله أمرهم ، وكان المبايعون له يقولون خذها إليك واحذرن أبا حسن .
إنا غضبنا لكم على عثمان من السوط ، فكيف لانغضب لعثمان من الغصب ! إن الأمر لا يصح حتى يرد الأمر إلى ما صنع عمر من الشورى ، فلا يدخل فيه أحد سفك دم عثمان . تقصد علياً عليه السلام !
فقال بعض الناس : صدقَتْ ، وقال بعض الناس : كَذَبَتْ ، واضطربوا بالنعال ، وتركتهم وسارت ، حتى أتت الدباغين وقد تحيز الناس بعضهم مع طلحة والزبير وعائشة ، وبعضهم متمسك ببيعة أمير المؤمنين عليه السلام والرضا به ، فسارت من موضعها ومن معها واتبعها على رأيها طلحة والزبير ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير ، حتى أتوا دار الإمارة ، فسألوا عثمان بن حنيف الخروج عنها فأبى عليهم ذلك ، واجتمع إليه أنصاره وزمرة من أهل البصرة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى زالت الشمس ، وأصيب يومئذ من عبد القيس خاصة خمس مائة شيخ مخضوب من أصحاب عثمان بن حنيف وشيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، سوى من أصيب من ساير الناس ، وبلغ الحرب بينهم التزاحف إلى مقبرة بني مازن ، ثم خرجوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الزابوقة ، وهي ساحة دار الرزق ، فاقتتلوا قتالاً شديداً كثر فيه القتلى والجرحى من الفريقين !
--------------------------- 90 ---------------------------
ثم إنهم تداعوا إلى الصلح ودخل بينهم الناس ، لما رأوا من عظيم ما ابتلوا به ، فتصالحوا على أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والمسجد وبيت المال ، ولطلحة والزبير وعائشة ما شاؤوا من البصرة ولا يهاجوا ، حتى يقدم أمير المؤمنين عليه السلام ، فإن أحبوا عند ذلك الدخول في طاعته وإن أحبوا أن يقاتلوا ، وكتبوا بذلك كتاباً بينهم وأوثقوا فيه العهود وأكدوها ، وأشهدوا الناس على ذلك ، ووضع السلاح ، وآمن عثمان بن حنيف على نفسه ، وتفرق الناس عنه ) .

بعد معركة اليوم الأول نزلت عائشة في السبخة

1 . قال في شرح النهج ( 9 / 318 ) : ( قال أبو مخنف : فلما أقبل طلحة والزبير من المربد ، يريدان عثمان بن حنيف ، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك ، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين ، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف ، فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلة ، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك ، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة ، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن ، فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم ، ثم أخذوا على مسناة البصرة ، حتى انتهوا إلى الزابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها ) .
2 . بعد فشلها في السيطرة على دار الإمارة في اليوم الأول ، جمعت عائشة أنصارها في السبخة ، وكان اجتماع مناظرة وتجميع قوى ، ثم استأنفت القتال في اليوم التالي !
قال في شرح النهج ( 9 / 318 ) : ( وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه فقال لطلحة : يا أبا محمد ، أما هذا كتبك إلينا ؟ قال : بلى ، قال : فكنت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله ، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه ! فلعمري ما هذا رأيك ، لا تريد إلا هذه الدنيا ! فهلا إذ كان هذا رأيك فلم قبلت من عليٍّ ما عرض عليك من البيعة ، فبايعته طائعاً راضياً ، ثم نكثت بيعتك ، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك ! فقال : إن علياً دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس ، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه عليَّ لم تتم لي ، ثم يغري بي من معه ) !
--------------------------- 91 ---------------------------
3 . وروى المفيد في كتاب الجمل / 162 ، وصف معسكر عائشة في السبخة ، فقال : ( روى الواقدي عن عبد بن السلام بن حفص قال : حدثني المنهال بن سلم البصري قال : قام طلحة في الناس خطيباً ، فنعى إليهم عثمان بن عفان وذكر قاتليه ، وأكثر الذم لهم والشتم ، وعزا قتله إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وأنصاره ، وذكر أن علياً عليه السلام أكره الناس على البيعة له ، فقال فيما قال : يا معشر المسلمين إن الله قد منحكم بأم المؤمنين وقد عرفتم حقها ومكانتها من رسول الله ، ومكان أبيها من الإسلام ، فهذه هي تشهد لنا أنا لم نكذبكم فيما خبرناكم به ، ولا غررناكم فيما دعوناكم إليه من قتال ابن أبي طالب وأصحابه ، الصادين عن الحق ، ولسنا نطلب خلافة ولا ملكاً ( ! ) وإنا نحذركم أن تُغلبوا على أمركم وتقصروا دون الحق ، وقد رجونا أن يكون عندكم عون لنا على طاعة الله وصلاح الأمة ، فإنا أحق من عناه أمرالمسلمين ومصلحتهم ، وإن علياً لو عمل الجد في نصرة أمكم لاعتزل هذا الأمر حتى تختار الأمةلأنفسها من ترضاه !
فقال أهل البصرة : مرحباً وأهلاً وسهلاً بأم المؤمنين والحمد الله الذي أكرمنا بها ، وأنتم عندنا رضاً وثقة ، وأنفسنا مبذولة لكم ونحن نموت على طاعتكم ورضاكم . ثم انصرفوا وساروا إلى عائشة فسلموا عليها ، وقالوا قد علمنا أن أمنا لم تخرج إلينا إلا لثقتها بنا ، وأنها تريد الإصلاح وحقن الدماء وإطفاء الفتن والألفة بين المسلمين ، وإنا ننتظر أمرها في ذلك ، فإن أبى عليها أحد فيه قاتلناه حتى يفئ إلى الحق !
4 . بلغ كلام طلحة مع أهل البصرة إلى عبد بن حكيم التميمي فصار إليه وقال له : يا طلحة ، هذه كتبك وصلت إلينا بعيب عثمان بن عفان ، وخبرك عندنا بالتأليب عليه حتى قتل ، وبيعتك علياً في جماعة الناس ونكثك بيعته من غير حدث كان منه فيما بلغني عنك . فبمَ جئت بعد الذي عرفناه من رأيك في عثمان ؟ فقال له طلحة : أما عيبي لعثمان وتأليبي عليه فقد كان ، فلم نجد لنا من الخلاص منه سبيلاً إلا التوبة فيما اقترفناه من الجرم له ، والأخذ بدمه .
فأما بيعتي له ، فإني أكرهت على ذلك وخشيت منه أن يؤلب علي إن امتنعت
--------------------------- 92 ---------------------------
من بيعته ، ويغري بي من أغراه بعثمان حتى قتله ! فقال له عبد الله بن حكيم : هذه معاذير يعلم الله باطن الأمر فيها ، وهو المستعان على ما نخاف من عاقبة أمرها .
5 . وروى عبد الله بن عبيدة قال : لما كان من كلام عبد الله بن حكيم ما كان ، قام طلحة فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن رسول الله توفي وهو عنا راض ، وكنا مع أبي بكر حتى توفاه الله فمات وهو عنا راض ، ثم كان عمر بن الخطاب فسمعناه وأطعناه حتى قبض وهو عنا راض ، فأمرنا بالتشاور في أمرالخلافة من بعده واختار ستة نفر ورضيهم للأمر ، فاستقام أمرنا على رجل من الستة وليناه واجتمع رأينا عليه وهو عثمان ، وكان أهلاً لذلك فبايعناه وسمعنا له وأطعناه ، فأحدث بعد ذلك أحداثاً لم تكن على عهد أبي بكر وعمر فكرهها الناس منه ، ولم يكن لنا بد مما صنعناه . وأخذ هذا الرجل الأمر دوننا من غير مشورتنا ، وتغلب عليه ونحن فيه وهو شرع سواء ، فأتى بنا إليه ونحن أكره الناس إليه واللج على أعناقنا ، فبايعناه كرهاً !
والذي نطلب منه أيها الناس الآن أن يدفع إلى ورثة عثمان قاتليه ، فإنه قتل مظلوماً ، ويخلع هذا الأمر ويعتزله ، ليتشاورالمسلمون فيمن يكون إماماً كسنة عمر بن الخطاب ، فإذا استقام رأينا ورأي أهل الإسلام على رجل بايعناه .
فلما فرغ من كلامه قام عظيم من عظماء عبد القيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس : إنه قد كان والي هذا الأمر وقوامه المهاجرون والأنصار بالمدينة ولم يكن لأحد من أهل الأمصار أن ينقضوا ما أبرموا ولايبرموا مانقضوا ، فكانوا إذا رأوا رأياً كتبوا به إلى الأمصار فسمعوا لهم وأطاعوا . وإن عائشة وطلحة والزبير كانوا أشد الناس على عثمان حتى قتل وبايع الناس علياً عليه السلام وبايعه في جملتهم طلحة والزبير ، فجاءنا نبأهما ببيعتهما له فبايعناه . فوالله لا نخلع خليفتنا ولا ننقض بيعتنا ! فصاح عليه طلحة والزبير ، وأمرا بقرض لحيته فنتفوها حتى لم يبق منها شئ !
6 . وقام رجل من بني جشم فقال : أيها الناس أنا فلان بن فلان فاعرفوني وإنما انتسب لهم ليعلموا أن له عشيرة تمنعه ، فلا يعجل عليه من لا يوافقه كلامه ، قال : أيها
--------------------------- 93 ---------------------------
الناس إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوكم يطلبون بدم عثمان ، فوالله ما نحن قتلنا عثمان ، وإن كانوا جاؤكم خائفين فوالله ما جاؤوا إلا من حيث يأمن الطير ، فلا تغتروا بهم واسمعوا قولي وأطيعوا أمري ، وردوا هؤلاء القوم إلى مكانهم الذي منه أقبلوا ، وأقيموا على بيعتكم لإمامكم وأطيعوا أميركم . فصاح عليه الناس من جوانب المسجد ، وقذفوه بالحصى !
7 . ثم قام رجل آخر من متقدمي عبد القيس فقال : أيها الناس أنصتوا حتى أتكلم فقال له عبد الله بن الزبير : ويلك ما لك وللكلام ! فقال : ما لي وله ؟ أنا والله للكلام به وفيه ، ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه ، وقال : يا معاشر المهاجرين كنتم أول الناس إسلاماً ، بعث الله محمداً نبيه بينكم فدعاكم فأسلمتم وأسلمنا لإسلامكم ، فكنتم فيه القادة ونحن لكم تبع . ثم توفي رسول الله فبايعتم رجلاً منكم لم تستأذنونا في ذلك فسلمنا لكم ، ثم إن ذلك الرجل توفي واستخلف عمر بن الخطاب فوالله ما استشارنا في ذلك ، فما رضيتم به رضينا وسلمنا ، ثم إن عمر جعلها شورى في ستة نفر فاخترتم منهم واحداً ، فسلمنا لكم واتبعناكم .
ثم إن الرجل أحدث أحداثاً أنكرتموها فحصرتموه وخلعتموه وقتلتموه وما استشرتمونا في ذلك ، ثم بايعتم علي بن أبي طالب وما استشرتمونا في بيعته فرضينا وسلمنا وكنا لكم تبعاً ، فوالله ما ندري بماذا نقضتم عليه ؟ هل أستأثر بمال ، أو حكم بغير ما أنزل الله ، أو أحدث منكراً ؟ فحدثونا به نكن معكم ، فوالله ما نراكم إلا قد ضللتم بخلافكم له ! فقال له ابن الزبير : ما أنت وذاك ، وأراد أهل البصرة أن يثبوا عليه ، فمنعتهم عشيرته .
8 . وروى إسرافيل بن يونس عن أبي إسحاق الهمداني قال : جاء جليد بن زهير الجشمي وعبد الله
--------------------------- 94 ---------------------------
بن عامر التميمي فدخلا على عائشة فسلما عليها فقالت : من هذان الرجلان ؟ فقيل لها : هذا زهير بن جليد صاحب خراسان ، وهذا عبد الله بن عامر التميمي . فقالت : هما معنا أم علينا ؟ فقالا : لا معك ولا عليك حتى يتبين لنا الأمر ، فقالت : كفى بالاعتزال نصرة .
9 . وروى عمر بن صباح قال : اجتمع نفر من وجوه البصرة إلى طلحة والزبير فقالوا لهما : فإن ولاة عثمان غيركما فدعوا ولاته يطالبون بدمه ، والله ما نراكما أنصفتما رسول الله صلى الله عليه وآله في حبيسته عرضتماها للرياح والشموس والقتال ، وقد أمرها الله أن تقر في بيتها ، وتركتما نساءكما في الأكنان والبيوت ، هلا جئتم بنسائكما معكما ؟ فقال لهم طلحة : أعزبوا عنا ، قبحكم الله !
10 . وجاء عمرو بن حصين إلى عائشة فقال لها : قد كان لك يا عائشة في أخواتك عبرة ، وفي أمثالك من أمهات المؤمنين أسوة أما سمعت الله تعالى يقول : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ . فلواتبعت أمرالله كان خيراً لك فقالت : له يا عمرو قد كان ما كان ، فهل عندك عون لنا ، وإلا فاحبس عنا لسانك . قال : أعتزل علياً . قالت : رضيت بذلك منك ) .
11 . قال الطبري ( 3 / 479 ) : ( ونادى عثمان في الناس وأمرهم بالتهيؤ ، ولبسوا السلاح واجتمعوا إلى المسجد الجامع . . وأقبلت عائشة فيمن معها حتى إذا انتهوا إلى المربد ، ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا . . فتكلمت عائشة وكانت جهورية يعلو صوتها كثرةً ، كأنه صوت امرأة جليلة ، فحمدت الله عز وجل وأثنت عليه وقالت : كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ، ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم ، ويرون حسناً من كلامنا في صلاح بينهم ، فننظر في ذلك فنجده برياً تقياً وفياً ، ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون ، فلما قووا على المكاثرة كاثروه فاقتحموا عليه داره ، واستحلوا الدم الحرام والمال الحرام والبلد الحرام ، بلا ترة ولا عذر ! ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله عز وجل : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ . فافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين ، فقالت فرقة :
--------------------------- 95 ---------------------------
صدقت والله وبرت وجاءت والله بالمعروف . وقال الآخرون : كذبتم والله ما نعرف ما تقولون ، فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا . فلما رأت ذلك عائشة انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين ، وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا ، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان ، على فم السكة .
وأقبل جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح ! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك ، إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك ! إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس ! قال فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال : أما أنت يا زبير فحواري رسول الله ، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك ، وأرى أمكما معكما ، فهل جئتما بنسائكما ؟ قالا : لا ، قال : فما أنا منكما في شئ ، واعتزل ، وقال السعدي في ذلك :
صنتم حلائلكم وقدتم أمكمْ * هذا لعمرك قلة الإنصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها * فهوت تشق البيد بالإيجاف
غرضاً يقاتل دونها أبناؤها * بالنبل والخطي والأسياف
هتكت بطلحة والزبير ستورها * هذا المخبِّرُ عنهم والكافي
وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة ، وكان محمد رجلاً عابداً فقال : أخبرني عن قتلة عثمان ؟ فقال : نعم دم عثمان ثلاث أثلاث : ثلث على صاحبة الهودج يعني عائشة ، وثلث على صاحب الجمل الأحمر يعني طلحة ، وثلث على علي بن أبي طالب ، وضحك الغلام وقال : ألا أراني على ضلال ! ولحق بعلي ، وقال في ذلك شعراً :
سألت ابن طلحة عن هالك * بجوف المدينة لم يقبرِ
--------------------------- 96 ---------------------------
فقال ثلاثة رهط همُ * أماتوا ابن عفان واستعبرِ
فثلثٌ على تلك في خدرها * وثلثٌ على راكب الأحمرِ
وثلثٌ على ابن أبي طالب * ونحن بِدُويَةٍ قرقرِ
فقلت صدقت على الأوليْن * وأخطأت في الثالث الأزهرِ .
والأرض الدوية القرقر : الموبوءة الملساء ، يُزلق فيها .

لم تستطع عائشة أن تأخذ دارالإمارة واضطرت للصلح !

قال في شرح النهج ( 9 / 318 ) : ( ثم أصبحا من غدٍ فصفَّا للحرب ، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه فناشدهما الله والإسلام ، وأذكرهما بيعتهما علياً عليه السلام فقالا : نطلب بدم عثمان ، فقال لهما : وما أنتما وذاك ، أين بنوه ؟ أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم !
كلا والله ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه ، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له ! وهل كان أحد أشد على عثمان قولاً منكما !
فشتماه شتماً قبيحاً وذكرا أمه ! فقال للزبير : أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله صلى الله عليه وآله فإنها أدنتك إلى الظل ، وأن الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة ، يعني طلحة أعظم من القول ، لأعلمتكما من أمركما ما يسوؤ كما . اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين ! ثم حمل عليهم واقتتل الناس قتالاً شديداً ، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكُتب :
هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما ، أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر ، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة ، ولا يضار بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق ، حتى يقدم أمير المؤمنين
--------------------------- 97 ---------------------------
علي بن أبي طالب ، فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة ، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من قتال أو سلم ، أو خروج أو إقامة ، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه ، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه ، من عهد وذمة . وخُتم الكتاب .
ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه : إلحقوا رحمكم الله بأهلكم ، وضعوا سلاحكم ، وداووا جرحاكم ، فمكثوا كذلك أياماً ) .

ثم أفتت لهم عائشة بالغدر ونقض الصلح !

قال في شرح النهج ( 9 / 319 ) : ( ثم إن طلحة والزبير قالا : إن قدم عليٌّ ونحن على هذه الحال من القلة والضعف ، ليأخذن بأعناقنا ! فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ، فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرياسة والشرف ، يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان وخلع عليٍّ وإخراج ابن حنيف من البصرة . فبايعهم على ذلك الأزد وضبة وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة ، كرهوا أمرهم فتواروا عنهم ، وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فجاءه طلحة والزبير إلى داره فتوارى عنهما ، فقالت له أمه : ما رأيت مثلك ، أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما ! فلم تزل به حتى ظهر لهما ، وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة ، إلا بني يربوع فإن عامتهم كانوا شيعة علي . وبايعهم بنو دارم كلهم ، إلا نفراً من بني مجاشع ذوي دين وفضل ) .
وقال في شرح النهج ( 9 / 320 ) : ( فلما استوسق لطلحة والزبيرأمرهما ، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما ، قد ألبسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب ، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر ، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه ، وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير ، وقدموا الزبير فجاءت السبابجة وهم الشرط حرس بيت المال ، فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان ، فغلبهم أصحاب الزبيرفقدموا الزبيروأخروا عثمان ، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع ، وصاح بهم أهل المسجد : ألا تتقون يا أصحاب محمد وقد طلعت الشمس ! فغلب الزبير فصلى بالناس ، فلما
--------------------------- 98 ---------------------------
انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلحين : أن خذوا عثمان بن حنيف فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما ، فلما أُسِرَ ضُرب ضرب الموت ، ونتف حاجباه وأشفار عينيه ، وكل شعرةٍ في رأسه ووجهه ! وأخذوا السبابحة وهم سبعون رجلاً ، فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة ، فقالت لأبان بن عثمان : أخرج إليه فاضرب عنقه ، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله . فنادى عثمان : يا عائشة ويا طلحة ويا زبير ، إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة ، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحداً منكم ! فكفوا عنه ، وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة ، فتركوه !
وأرسلت عائشة إلى الزبيرأن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك . قال : فذبحهم والله الزبيركما يذبح الغنم ، وليَ ذلك منهم عبد الله ابنه وهم سبعون رجلاً ! وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال ، قالوا : لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين ، فسار إليهم الزبير في جيش ليلاً فأوقع بهم ، وأخذ منهم خمسين أسيراً ، فقتلهم صبراً . قال أبو مخنف : فحدثنا الصقعب بن زهير قال : كانت السبابجة القتلى يومئذ أربع مائة رجل !
قال : فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام ، وكان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً !
قال : وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي فاختار الرحيل فخلوا سبيله ، فلحق بعلي عليه السلام فلما رآه بكى وقال له : فارقتك شيخاً وجئتك أمرد ! فقال عليٌّ عليه السلام : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ! قالها ثلاثاً ) . ودعا عليهم : ( اللهم إنك تعلم أنهم اجترأوا عليك واستحلوا حرماتك ، اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي ، وعجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي ) . ( الجمل / 152 ) .
قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 358 ) : ( ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كف الحرب إلى قدوم علي . فلما كان في بعض الليالي بَيَّتوا عثمان بن حنيف فأسروه وضربوه
--------------------------- 99 ---------------------------
ونتفوا لحيته ، ثم إن القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنَيف وغيره من الأنصار ، فخلوا عنه . وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزان والموكلون به وهم السبابجة ، فقتل منهم سبعون رجلاً غير من جرم ، وخمسون من السبعين ضربت رقابهم صبراً ، من بعد الأسر ، وهؤلاء أول من قُتل ظلماً في الإسلام وصبراً .
وقتلوا حكيم بن جَبَلة العبدي ، وكان من سادات عبد القيس وزُهَّاد ربيعة ونُسَّاكها ، وتشاحَّ طلحة والزبير في الصلاة بالناس ، ثم اتفقوا على أن يصلي بالناس عبد الله بن الزبير يوماً ، ومحمد بن طلحة يوماً ، في خطب طويل كان بين طلحة والزبير ، إلى أن اتفقا على ما وصفنا ) .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 152 : ( رجع طلحة والزبير ونزلا دار الإمارة وغلبا على بيت المال ، فتقدمت عائشة وحملت مالاً منه لتفرقه على أنصارها ، فدخل عليها طلحة والزبير في طائفة معهما واحتملا منه شيئاً كثيراً ، فلما خرجا نصبا على أبوابه الأقفال ، ووكلا به من قبلهما قوماً ، فأمرت عائشة بختمه فبرز لذلك طلحة ليختمه فمنعه الزبير ، وأراد أن يختمه الزبير دونه فتدافعافبلغ عائشة ذلك فقالت : يختمها عني ابن أختي عبد الله بن الزبير ، فختم يومئذ بثلاثة ختوم !
قال أبو الأسود الدؤلي : ورأيت علياً بعد ذلك وقد دخل بيت مال البصرة ، فلما رأى ما فيه قال : يا صفراء بيضاء غري غيري ، المال يعسوب الظلمة وأنا يعسوب المؤمنين ، فلا والله ما التفت إلى ما فيه ، ولا فكر فيما رآه منه ، وما وجدته عنده إلا كالتراب هواناً . فتعجبت من القوم ومنه عليه السلام فقلت أولئك ممن يريد الدنيا ، وهذا ممن يريد الآخرة وقويت بصيرتي فيه ) .
وقال الطبري ( 3 / 485 ) : ( عن سهل بن سعد قال : لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى عائشة يستشيرونها في أمره قالت : أقتلوه ! فقالت لها امرأة : نشدتك بالله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله ! قالت : ردوا أباناً فردوه فقالت : إحبسوه ولا تقتلوه . قال أبان : لوعلمت أنك تدعينني لهذا
--------------------------- 100 ---------------------------
لم أرجع ! فقال لهم مجاشع بن مسعود : اضربوه وانتفوا شعر لحيته ، فضربوه أربعين سوطاً ، ونتفوا شعر لحيته ورأسه ، وحاجبيه وأشفار عينيه ، وحبسوه ) !
أقول : حكم عائشة بقتل ابن حنيف بعثمان ، حكم الجاهلية ، فقد عللته بأن قومه الأنصار قتلوا عثمان ! والصحيح أنها حقدت عليه لإعتراضه على بيعة أبيها ، فقد كان من الاثني عشر الذين خطبوا في المسجد وأدانوا أبا بكر ووبّخوه !
وقال الطبري ( 3 / 485 ) : ( فشهرالزط والسبابجة السلاح ثم وضعوه فيهم ، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد وصبروا لهم ، فأناموهم وهم أربعون . . فأخرجوا الحرس الذين كانوا مع عثمان في القصر ، ودخلوه ) .
وقال في الدر النظيم ( 1 / 338 ) : ( ولما حصل طلحة والزبير في البصرة تناقشا في الصلاة بالناس ، فخاف كل واحد منهما أن يصلي خلف صاحبه فيصير ذلك له حجة عليه ، فأصلحت بينهما على أن يصلي بالناس مرة محمد بن طلحة ومرة عبد الله بن الزبير . فقال العوام بن مالك الأزدي : تالله ما رأيت كاليوم قط شيخان يصلي بهما غلامان ، وفارقهما الأزدي ولحق بعلي عليه السلام وأنشأ يقول :
تبارى الغلامان إذ صليا * وشح على الملك محياهما
فصال ابن طلحة وابن الزبير * لقدِّ الشراك هما ما هما
فكل لابنه يرتضيها * ولم يضبط الأمر ابناهما
فهذا الإمام وهذا الإمام * ويعلى بن منية دلاهما
يعلى بن منية هو الذي اشترى جمل عائشة ، وكان جملاً منكراً ، وكان يلقب عسكراً لشدته . قالت امرأة من ضبة قتل أيمها يوم الجمل :
شهدت الحروب فشيبنني * فلم أر يوماً كيوم الجمل
أشد على مؤمن فتنة * وأقتل منه لخرق بطل
--------------------------- 101 ---------------------------
فليت الظعينة في بيتها * وليتك عسكر لم ترتحل
وقال بعض الشعراء :
ألا أيها الناس عندي الخبر * بأن أخاكم زبيراً غدر
وطلحة أيضاً حذا نعله * ويعلى بن منية فيمن أمر ) .

حكيم بن جبلة يثأر لعثمان بن حنيف

1 . قال في شرح النهج ( 9 / 321 ) : ( قال أبو مخنف : فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف ، خرج في ثلاث مائة من عبد القيس مخالفاً لهم ومنابذاً ، فخرجوا إليه وحملوا عائشة على جمل ، فسمى ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر ، ويوم عليٍّ عليه السلام يوم الجمل الأكبر ، وتجالد الفريقان بالسيوف ، فشد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها ، ووقع الأزدي عن فرسه ، فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه ، ثم دب إليه فقتله متكئاً عليه خانقاً له حتى زهقت نفسه ، فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه ، فقال : من فعل بك ؟ قال : وسادي ، فنظر فإذا الأزدي تحته ، وكان حكيم شجاعاً مذكوراً . قال : وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة ، وقتل أصحابه كلهم وهم ثلاث مائة من عبد القيس ، والقليل منهم من بكر بن وائل ، فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنها ، اختلفا في الصلاة وأراد كل منهما أن يؤم بالناس ، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليماً له ورضاً بتقدمه ، فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس ، هذا يوماً وهذا يوماً !
قال أبو مخنف : ثم دخلا بيت المال بالبصرة ، فلما رأوا ما فيه من الأموال قال الزبير : وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ، فنحن أحق بها من أهل البصرة فأخذا ذلك المال كله ، فلما غلب علي عليه السلام رد تلك الأموال إلى بيت المال وقسمها في المسلمين ) .
--------------------------- 102 ---------------------------
2 . وقال المفيد في الجمل / 152 : ( واجتمع الناس إلى حكيم بن جبلة فقال للقوم : أما ترون ما صنعوا بأخي عثمان بن حنيف ما صنعوا ؟ لست بأخيه إن لم أنصره ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إن طلحة والزبير لم يريدا بما عملا القربة منك ، وما أرادا إلا الدنيا . اللهم اقتلهما بمن قتلا ولا تعطهما ما أملا . ثم ركب فرسه وأخذ بيده الرمح واتبعه أصحابه ، وأقبل طلحة والزبير ومن معهما ، وهم في كثرة من الناس قد انضم إليهم الجمهور ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت بينهم الجرحى والقتلى . وبرز إلى حكيم بن جبلة رجل من القوم فضربه بالسيف فقطع رجله ، فتناولها حكيم بيده ورماه بها فصرعه . ثم صار إلى حكيم أخوه المعروف بالأشرف فقال : مَن أصابك ؟ فأشار إلى الذي ضربه فأدركه الأشرف فخبطه بالسيف حتى قتله ، وتكاثر الناس عليه وعلى أخيه حتى قتلوهما ) .
3 . قال الطبري في تاريخه ( 3 / 487 ) : ( فكان حكيم بحيال طلحة ، وذريح بحيال الزبير ، وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب ، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلاث مائة رجل ، وقتل ذريح ومن معه ، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه ، فلجأوا إلى قومهم ، ونادى منادى الزبير وطلحة بالبصرة : ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة ( في وفد البصرة إلى عثمان ) فليأتنا بهم ، فجئ بهم كما يجاء بالكلاب فقتلوا ، فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعاً إلا حرقوص بن زهير ، فإن بني سعد منعوه ! وكان من بني سعد فمسهم في ذلك أمر شديد ، وضربوا لهم فيه أجلاً ، وخشنوا صدور بني سعد ، وإنهم لعثمانية حتى قالوا : نعتزل ) !
معناه أن عائشة قتلت كل الوفد البصري الذين جاؤوا إلى المدينة مطالبين عثمان بتغيير والي البصرة ! وأن بني سعد حموْا حرقوصاً مع أنه كان من وفد البصرة الذين حاصروا عثمان ، وهددوهم إن أصروا على تسليم حرقوص أن لا يقاتلوا مع عائشة !
--------------------------- 103 ---------------------------
4 . قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 1 / 367 ) : ( لما غدر ابن الزبير بعثمان بن حنيف بعد الصلح الذي كان عقده عثمان بن حنيف مع طلحةوالزبير ، أتاه ابن الزبير ليلاً في القصر ، فقتل نحو أربعين رجلاً من الزط على باب القصر ، وفتح بيت المال ، وأخذ عثمان بن حنيف فصنع به ما قد ذكرته في غير هذا الموضع ، وذلك قبل قدوم علي رضي الله عنه ، فبلغ ما صنع ابن الزبير بعثمان بن حنيف حكيم بن جبلة ، فخرج في سبع مائة من ربيعه فقاتلهم حتى أخرجهم من القصر ، ثم كروا عليه فقاتلهم حتى قطعت رجله ، ثم قاتل ورجله مقطوعة حتى ضربه سحيم الحداني على العنق فقطع عنقه ، واستدار رأسه في جلدة عنقه حتى سقط وجهه على قفاه . وقال أبو عبيدة : قطعت رجل حكيم بن جبلة يوم الجمل ، فأخذها ثم زحف إلى الذي قطعها ، فلم يزل يضربه بها حتى قتله ، وقال :
يا نفس لن تراعي * رعاك خير راعي
إن قطعت كراعي * إن معي ذراعي
قال أبو عبيدة : وليس يعرف في جاهلية ولا إسلام أحدٌ فعل مثل فعله ) .
5 . في أسد الغابة ( 2 / 40 ) : ( وكان رجلاً صالحاً له دين ، مطاعاً في قومه وهو الذي بعثه عثمان على السند فنزلها ، ثم قدم على عثمان فسأله عنها فقال : ماؤها وشل ، ولصها بطل ، وسهلها جبل ، إن كثر الجند بها جاعوا ، وإن قلوا بها ضاعوا ! فلم يوجه عثمان أحداً حتى قتل . وقيل إن طلحة والزبير لما قدما البصرة استقر الحال بينهم وبين عثمان بن حنيف أن يكفوا عن القتال إلى أن يأتي علي . ثم إن عبد الله بن الزبير بيَّتّ عثمان فأخرجه من القصر ، فسمع حكيم فخرج في سبع مائة من ربيعة فقاتلهم حتى أخرجهم من القصر ، ولم يزل يقاتلهم حتى قطعت رجله ، فأخذها وضرب بها الذي قطعها فقتله ، ولم يزل يقاتل ورجله مقطوعة وهو يقول : يا ساق لن تراعى . إن معي ذراعي ، حتى نزفه الدم ، فاتكأ على الرجل الذي
--------------------------- 104 ---------------------------
قطع رجله وهو قتيل ، فقال له قائل : من فعل بك هذا ؟ قال وسادتي . فما رؤى أشجع منه ) .
( كان الذي فتح مكران ( بلوشستان ) حكيم بن جبلة العبدي ) . ( معجم البلدان : 5 / 179 ) .
6 . وفي إمتاع الأسماع للمقريزي ( 13 / 236 ) : ( وقال لأصحابه : لست في شك من قتال هؤلاء القوم ، فمن كان في شك فلينصرف ، وتقدم فقاتلهم . فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ومع حكيم أربعة قواد ، فكان حكيم بحيال طلحة ، وذريح بحيال الزبير ، وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب ، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام . . ولما قُتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال لهم : أَمَا إن سهلاً بالمدينة فإن قتلتموني انتصر ، فخلوا سبيله فقصد علياً . . وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي ، وتحثهم على طلب قتلة عثمان ، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضاً ، وسيرت الكتب ، وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ) .
7 . وفي كتاب الديارات للشابشتي ( 1 / 51 ) : ( وحكيم هو الشهيد بالبصرة ، الذي منع عائشة وطلحة والزبيرالدخول إليها وحاربهم حتى قتل . وكان من خبره ومقتله أنه لما تمكن طلحة والزبيرمن البصرة ، وقتلوا حرس بيت المال وهم سبعون رجلاً من غير ذنب ولا سبب ، وأخذوا عثمان بن حنيف الأنصاري ، عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، ونتفوا لحيته وأرادوا قتله ، قام حكيم في قومه خطيباً فقال لهم : يا قوم ، إن ابن حنيف دم مصون وأمانة مؤداة . والله لو لم يكن علينا أميراً لمنعناه لحق الجوار ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وآله ، فكيف وله الحق والولاية . ألا إن الحي ميت والميت مسؤول ، فإما أن تموتوا كراماً وإما أن تعيشوا أحراراً . فأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، وقال في ذلك أبو أمية الأصم ، وكان فارس القوم :
معاشر عبد القيس موتوا على التي * تسر علياً واحذروا سُبَّة الغدر
ولا ترهبوا في الله لومة لائم * وموتوا كراماً فهو أشرفُ للذكر
وغدا حكيم في ثلاث مائة رجل من أصحابه إلى العدو وهو عائشة ، فخرج
--------------------------- 105 ---------------------------
طلحة والزبير ، وحملا عائشة على الجمل ، وذلك اليوم يسمى يوم الجمل الأصغر . فقاتل حكيم قتالاً شديداً ، وجعل يقول : إنما تريدان أن تصيباً من الدنيا حظاً ، اللهم اقتلهما بمن قتلا ولا تعطهما ما سألا ، ولا تبلغهما ما أملا ، ولا تغفر لهما أبداً . وحمل عليهما وهم في اثني عشرألف وهو في ثلاث مائة ، فهزمهم حتى أدخلهم سكة . وشد رجل من الأزد على حكيم وهو غافل ، فضربه على ساقه فقطع رجله . فأخذ حكيم رجله فضرب بها الأزدي فصرعه ، ثم جاء فقتله ، وأنشأ يقول : يا نفس لا تراعي . . . الخ . وقتل هو وثلاثة إخوة له ، ومن شعر يموت بن المزرع في ابنه مهلهل :
مهلهل ساقني صغرك * وأسبل أدمعي عسرك
لدى أكناف شامهم * أموت فيمَّحي أثرك
ولو سامحت في عمري * لجل لديهم خطرك
فوا أسفي على لِمَةٍ * يطول إليهمُ سفرك
وإن أهلك فإن الله * دون الخلق لي وزرك
وشعره وشعر ابنه مهلهل كثير في سائر فنون الشعر . وإنما ذكرنا ما احتمله الكتاب ، واقتضاه الشرط ) .
8 . وفي تجارب الأمم لابن مسكويه ( 1 / 480 ) : ( فتكلَّم يومئذ وإنه لقائم على رِجْل ، وإن السيوف لتأخذهم فما يُتعتع : إنا خلَّفنا هذين وقد بايعا علياً وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين يطلبان بدم عثمان ، وهما كاذبان ! وإنما أرادا المال والإمرة » .
9 . في الكافئة للمفيد / 18 : ( رووا أنه عليه السلام لما بلغه وهو بالربذة خبر طلحة والزبير وقتلهما حكيم بن جبلة ورجالاً من الشيعة وضربهما عثمان بن حنيف وقتلهما السبابجة ، قام على الغرائر فقال : إنه أتاني خبر متفظع ونبأ جليل : أن طلحة والزبير وردا البصرة فوثبا على عاملي فضرباه ضرباً مبرحاً ، وتُرك لا يُدرى
--------------------------- 106 ---------------------------
أحيٌّ هو أم ميت ، وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في عدة من رجال المسلمين الصالحين ، لقوا الله موفين ببيعتهم ماضين على حقهم ، وقتلا السبابجة خزان بيت المال الذي للمسلمين ، قتلوهم صبراً ، وقتلوا غدراً .
فبكى الناس بكاء شديداً ورفع أمير المؤمنين عليه السلام يديه يدعو ويقول : اللهم اجز طلحة والزبير جزاء الظالم الفاجر ، والخفور الغادر ) .
10 . قال الطبري ( 3 / 496 ) : ( عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة قالا : ولما نزل علي الثعلبية أتاه الذي لقيَ عثمان بن حنيف وحرسه ، فقام وأخبرالقوم الخبر وقال : اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبيرمن قتل المسلمين ، وسلمنا منهم أجمعين ، ولما انتهى إلى الأسآد أتاه ما لقيَ حكيم بن جبلة وقتلة عثمان بن عفان فقال : الله أكبرماينجيني من طلحة والزبير إذ أصابا ثأرهما أو ينجيهما وقرأ : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا . وقال :
دعا حكيم دعوة الزماعْ * حلَّ بها منزلة النزاعْ
( الزميع والزماع : الحكيم الشجاع ) ولما انتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعر ، فلما رآه عليٌّ نظر إلى أصحابه فقال : انطلق هذا من عندنا وهو شيخ فرجع إلينا وهوشاب ، فلم يزل بذي قار يتلوم ( ينتظر رسله إلى الكوفة ) محمداً ومحمداً ، وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس ونزولهم بالطريق ، فقال : عبد القيس خير ربيعة ، وفي كل ربيعة خير ، وقال :
يا لهف نفسي على ربيعه * ربيعة السامعة المطيعه
قد سبقتني فيهم الوقيعهْ * دعا عليٌّ دعوة سميعه
حلوا بها المنزلة الرفيعة ) .
وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 369 ) : ( واشتد حزن عليٍّ على من قتل من ربيعة قبل وروده البصرة ، وهم الذين قتلهم طلحة والزبير من عبد القيس وغيرهم من ربيعة ، وجدد حزنه قتل زيد بن صوحان العبدي ، قتله في ذلك اليوم عمرو بن سبرة ،
--------------------------- 107 ---------------------------
وكان علي يكثر من قوله :
يا لهْفَ نفساه على ربيعهْ * ربيعةُ السامعةُ المطيعه
11 . قال البلاذري ( 2 / 227 ) : ( وركب حكيم بن جبلة العبدي حتى انتهى إلى الزابوقة ، وهو في ثلاث مأة ، منهم من قومه سبعون ، وقال إخوة له وهم الأشرف والحكيم والزعل ، فسار إليهم طلحة والزبير فقالا : يا حكيم ما تريد ؟ قال : أريد أن تحلُّوا عثمان بن حنيف وتقروه في دار الإمارة وتسلموا إليه بيت المال ، وأن ترجعا إلى قدوم علي . فأبوا ذلك واقتتلوا ، فجعل حكيم يقول :
أضربهم باليابسْ - ضرب غلام عابسْ - من الحياة آيس
فضربت رجله فقطعت ، فحبا وأخذها فرمى بها ضاربه فصرعه ، وجعل يقول :
يا نفس لن تراعي * رعاك خير راعي
إن قطعت كراعي * إن معي ذراعي
وجعل يقول أيضاً :
ليس عليّ في الممات عار * والعار في الحرب هو الفرار
والمجد أن لا يفضح الذمار
فقتل حكيم في سبعين من قومه ، وقتل إخوته الثلاثة ) .
12 . وكان حكيم بليغاً ، فقد أرسله عثمان والياً على السند : ( سأله عن حال البلاد فقال : يا أمير المؤمنين ، ماؤها وَشَل ، وتمرها دَقَل ، ولصها بطل ، إن قل الجيش بها ضاعوا ، وإن كثروا جاعوا ! فقال عثمان : أخابرٌ ، أنت أم تسجع ، قال : بل خابر ، فلم يُغزها أحداً ) . ( كتاب الخراج لقدامة بن جعفر : 1 / 414 )
وقال ابن خلدون ( 2 ق 2 / 142 ) إن حكيم بن جبلة طرد عبد الله بن سبأ من البصرة ، وهذا ردٌّ كافٍ على من يتهم الشيعة بأنهم يثقون بعبد الله بن سبأ ، وعلى ما كذبوه من دوره في حرب الجمل .
--------------------------- 108 ---------------------------
13 . وهوحكيم بن جبلة بن الحصين بن أسود بن كعب بن عامر بن الحارث بن الديل بن عمرو بن غنم بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس . كان رجلاً صالحاً شجاعاً ، مطاعاً في قومه عبد القيس . وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، مشهور بولائه والنصح له ، وفيهم يقول عليه السلام :
يا لهف نفساه على ربيعه * ربيعة السامعة المطيعه
قد سبقتني فيهم الوقيعه * دعا حكيمٌ دعوة سميعه
حلوا بها المنزلة الرفيعة ) .
( أنساب الأشراف : 1 / 234 ، وأعيان الشيعة : 6 / 214 ) .
14 . وقد مدحه أمير المؤمنين عليه السلام مرات ، منها قوله عليه السلام : ( فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوه في سبعين رجلاًمن عباد أهل البصرة ومخبتيهم ، يسمَّوْنَ المثفنين كأن راح أكفهم ثفنات الإبل ) .

تزوير رواة السلطة معركة الجمل الأصغر

من أمثلة تزويرهم رواية الطبري ( 3 / 480 ) قال : ( وأقبل حكيم بن جبلة وقد خرج وهو على الخيل فأنشب القتال وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليمسكوا فلم ينته ولم يثن ، فقاتلهم وأصحاب عائشة كافون إلا ما دافعوا عن أنفسهم ، وحكيم يذمرخيله ويركبهم بها ويقول : إنها قريش ليردينها جبنها والطيش . واقتتلوا على فم السكة ، وأشرف أهل الدور ممن كان له في واحد من الفريقين هوى ، فرموا باقي الآخرين بالحجارة ، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن ، فوقفوا بها ملياً ، وثار إليهم الناس فحجز الليل بينهم ، فرجع عثمان إلى القصر ورجع الناس إلى قبائلهم ، وجاء أبو الجرباء أحد بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم إلى عائشة وطلحة والزبير ، فأشار عليهم بأمثل من مكانهم فاستنصحوه وتابعوا رأيه ، فساروا من مقبرة بني مازن ، فأخذوا على مسناة البصرة من قبل الجبانة ، حتى انتهوا
--------------------------- 109 ---------------------------
إلى الزابوقة ، ثم أتوا مقبرة بني حصن وهي متنحية إلى دار الرزق ، فباتوا يتأهبون وبات الناس يسيرون إليهم ، وأصبحوا وهم على رِجْلٍ في ساحة دار الرزق .
وأصبح عثمان بن حنيف فغاداهم وغدا حكيم بن جبلة وهو يبربر وفي يده الرمح فقال له رجل من عبد القيس : من هذا الذي تسب وتقول له ما أسمع ؟ قال : عائشة . قال : يا ابن الخبيثة ألأم المؤمنين تقول هذا ؟ فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله . ثم مر بامرأة وهو يسبها يعني عائشة فقالت : من هذا الذي ألجأك إلى هذا ؟ قال : عائشة . قالت : يا ابن الخبيثة ألأُم المؤمنين تقول هذا ! فطعنها بين ثدييها فقتلها ، ثم سار فلما اجتمعوا واقفوهم فاقتتلوا بدار الرزق قتالاً شديداً ، من حين بزغت الشمس إلى أن زال النهار ، وقد كثر القتلى في أصحاب ابن حنيف وفشت الجراحة في الفريقين ، ومنادي عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكف فيأبون ، حتى إذا مسهم الشر وعضهم ، نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح والمتات ، فأجابوهم ، وتوعدوا وكتبوا بينهم كتاباً ) .
ملاحظات
1 . هاجمت عائشة دار الإمارة ، ومع ذلك صورتها رواية الطبري بأنها معتدى عليها ، وأنها كانت كافة عن القتال ، وصورت حكيم بن جبلة معتدياً ساباً لعائشة ، وأنه قتل رجلاً وامرأة اعترضا عليه لسبه عائشة !
لكن ذهاب عائشة من المربد إلى مداخل البصرة وأفواه السكك ، يعني أنها أرادت احتلال المدينة بالقوة ، فهي المعتدية !
2 . صورت بعض روايات الطبري الصلح بأنه كان على إرسال كعب بن سور رئيس الأزد إلى المدينة ليعرف هل أكره علي عليه السلام طلحة والزبيرعلى بيعته ، فتكون غير شرعية ويجب على واليه في البصرة أن يسلمهم المدينة ، أم كانت طوعاً فيجب عليهما طاعة علي عليه السلام . وتدعي أن كعباً رجع بتصديق قولهم ، وأن أسامة بن زيد شهد أن علياً أكرههما ، لذلك هاجما دار الإمارة ! وهذه كذبة مفضوحة ، لأن
--------------------------- 110 ---------------------------
مهاجمتهم دار الإمارة وأسرهم الوالي كانت بعد أيام قليلة من الصلح ، لا تتسع لرواح أحد إلى المدينة ورجوعه !
ثم إن كعب بن سور قرر اعتزال الفريقين ، ولم ينقلوا عنه حرفاً عن سفره إلى المدينة ! وكان مصراً على الاعتزال حتى ذهبت عائشة إلى بيته وبكت له ! فلو ثبت له إكراه علي طلحة والزبير لما اعتزل .
والصحيح أن الصلح لم يكن على إرسال كعب ، بل على أن تبقى البصرة بيد الوالي ابن حنيف حتى يصل علي عليه السلام ، ثم نقضوا الصلح والعهد وغدروا بالوالي ليلاً ! واخترعوا قصة التحقق في الإكراه على البيعة !
3 . ردوا شهادة علي عليه السلام المكررة وشهادة غيره من الصحابة بأن طلحة والزبير بايعا مختارين ، وتشبثوا بما نسبوه إلى أسامة بن زيد بأنه قال إنهما كانا مكرهين ، ولو صح ذلك فلماذا لم يُكره علي عليه السلام أسامة نفسه وغيره على بيعته ، وبقي أسامة غير مبايع . ثم هل تبطل الخلافة بإكراه شخصين على البيعة بعد بيعة كبار المهاجرين والأنصار ؟
ثم ، ما بالهم لم يطرحوا ملف إكراه عمر لأهل الشورى أن يبايعوا من يختاره ابن عوف تحت التهديد بالقتل بمحمد بن مسلمة وجماعته المسلحين على الباب ، ولا ملف إكراه أبي بكر للمسلمين على بيعة عمر ، ولا ملف إكراه المسلمين على بيعة أبي بكر ، وقول عمر إنها كانت فلتة ، فمن فعل مثلها وابتز المسلمين أمرهم فاقتلوه !
فلماذا إذا وصل الأمر إلى علي عليه السلام صاروا أتقياء يتكلمون في حرية الإنسان ، وبيعة الاختيار والإكراه ! فالبيعة لعلي يجب أن تكون بكامل الرضا والاختيار ، أما لغيره فتصح بالسيف وحرق البيوت ، والتهديد ؟ لك الله يا علي !
قال إمامهم عبد الرزاق في المصنف ( 5 / 456 ) : ( حتى إذا قتل عثمان رحمه الله بايع الناس علي بن أبي طالب فأرسل إلى طلحة والزبير : إن شئتما فبايعاني وإن شئتما بايعت أحدكما ، قالا : بل نبايعك . ثم هربا إلى مكة ! وبمكة عائشة زوج النبي تتكلم بما يتكلمان به فأعانتهما على رأيهما ، فأطاعهم ناس كثير من قريش ، فخرجوا قِبَل البصرة يطلبون بدم ابن عفان ، وخرج معهم عبد الرحمن بن أبي بكر ، وخرج معهم عبد الرحمن بن
--------------------------- 111 ---------------------------
عتاب بن أسيد ، وعبد الله بن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، في أناس من قريش كلموا أهل البصرة وحدثوهم أن عثمان قتل مظلوماً ، وأنهم جاءوا تائبين مما كانوا غلوا في أمر عثمان ، فأطاعهم عامة أهل البصرة ) .
4 . ذكر المؤرخون نص كتاب الصلح وأخفاه بعضهم ، ففي الإستيعاب ( 1 / 367 ) : « لما غدر ابن الزبير بعثمان بن حنيف بعد الصلح الذي كان عقده . . وأن يكفوا عن الحرب ويبقى هو في دار الإمارة خليفة لعلي حتى يقدم علي ، فلما كان بعد أيام جاء عبد الله بن الزبير في ليلة ذات ريح وظلمة ، فطوقوا عثمان بن حنيف في دار الإمارة ، فأخذوه ، وأخذوا ما في بيت المال إلى عائشة ، فقالت عائشة : أقتلوا عثمان بن حنيف » !
وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 358 ) : ( ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كف الحرب إلى قدوم علي عليه السلام ، فلما كان في بعض الليالي بَيَّتوا عثمان بن حنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته ، ثم إن القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنَيف وغيره من الأنصار ، فخلوا عنه ) .
( فمزقواكتاب الصلح وغدروا في ليلة مظلمة ذات رياح ) . ( ابن الأعثم : 2 / 457 ) .
« فكتبوا بينهم وبينه كتاباً أنهم لا يحدثون حدثاً إلى قدوم علي ، وأن كل فريق منهم آمن من صاحبه ) . ( اليعقوبي : 2 / 181 ) .
5 . نصَّ البلاذري على كتاب الصلح وغَدْر الزبير وطلحة ! قال ( 2 / 226 ) : ( وتأهبوا للقتال فانتهوا إلى الزابوقة ، وأصبح عثما بن حنيف فزحف إليهم فقاتلهم أشد قتال ، فكثرت منهم القتلى وفشت فيهم الجراح . ثم إن الناس تداعوا إلى الصلح فكتبوا بينهم كتاباً بالموادعة إلى قدوم علي على أن لا يعرض بعضهم لبعض في سوق ولا مشرعة ، وأن لعثمان بن حنيف دار الإمارة وبيت المال والمسجد ، وأن طلحة والزبير ينزلان ومن معهما حيث شاؤوا ، ثم انصرف الناس وألقوا السلاح .
--------------------------- 112 ---------------------------
وتناظر طلحة والزبيرفقال طلحة : والله لئن قدم علي البصرة ليأخذن بأعناقنا . فعزما على تبييت ابن حنيف وهو لا يشعر وواطآ أصحابهما على ذلك ، حتى إذا كانت ليلة ريح وظلمة جاؤوا إلى ابن حنيف وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة فأخذوه ، وأمروا به فوطئ وطئاً شديداً ، ونتفوا لحيته وشاربيه . .
وبعثا عبد الله بن الزبير في جماعة إلى بيت المال وعليه قوم من السبابجة يكونون أربعين ويقال أربع مائة فامتنعوا من تسليمه دون قدوم علي ، فقتلوهم ورئيسهم أبا سلمة الزطي ، وكان عبداً صالحاً . وأصبح الناس وعثمان بن حنيف محبوس ، فتدافع طلحة والزبير الصلاة ، وكانا بويعا أميرين غير خليفتين ، وكان الزبير مقدماً ، ثم اتفقا على أن يصلِّي هذا يوماً وهذا يوماً ) !
--------------------------- 113 ---------------------------

الفصل الخامس والخمسون : حركة أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة

كتبت أم سلمة إلى علي عليه السلام بحركة عائشة

قال ابن الأعثم ( 2 / 454 ) : ( كتبت أم سلمة إلى علي بن أبي طالب : لعبد الله علي أمير المؤمنين ، من أم سلمة بنت أبي أمية ، سلام عليك ورحمة الله وبركاته .
أما بعد ، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال ، خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة ، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً وأنهم يطلبون بدمه ! والله كافيكهم ، وجاعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى . وتالله لولا ما نهى الله عز وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن ، وما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله عند وفاته لشخصت معك . . وتقدم ذكر رسالتها .

حاول ( بعضهم ) أن يثنوا علياً عليه السلام عن مواجهة عائشة

1 . في أمالي الطوسي / 716 : ( فأزمع المسير فبلغه تثاقل سعد وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة ، فقال سعد : لا أشهر سيفاً حتى يعرف المؤمن من الكافر ، وقال أسامة : لا أقاتل رجلاً يقول : لا إله إلا الله ، ولوكنتَ في فم الأسد لدخلت فيه معك ! وقال محمد بن مسلمة : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله سيفاً وقال : إذا اختلف المسلمون فاضرب به عرض أُحُد والزم بيتك . وتخلف عنه عبد الله بن عمر فقال عمار بن ياسر : دع القوم ، أما عبد الله فضعيف ، وأما سعد فحسود ، وأما محمد بن مسلمة فذنبك إليه أنك قتلت قاتل أخيه ، مرحباً . ثم قال عمار لمحمد بن مسلمة : أما تقاتل المحاربين ؟ فوالله لو مال علي جانباً لملت مع علي !
--------------------------- 114 ---------------------------
وقال كعب بن مالك : يا أمير المؤمنين إنه بلغك عنا معشر الأنصار ، ما لو كان غيرنا لم يقم معك ، والله ما كل ما رأينا حلالاً حلال ، ولا كل ما رأينا حراماً حرام ، وفي الناس من هو أعلم بعذر عثمان ممن قتله ، وأنت أعلم بحالنا منا ، فإن كان قتل ظالماً قبلنا ، وإن كان قتل مظلوماً فاقبل قولنا ، فإن وكلتنا فيه إلى شبهة فعجب ليقيننا وشكك ، وقد قلت لنا : عندي نقض ما اجتمعوا عليه ، وفصل ما اختلفوا فيه . وقال :
كان أولى أهل المدينة بالنص‍ * ر علياً وآل عبد مناف
للذي في يديه من حرم الله * وقرب الولاء بعد التصافي
وكان كعب بن مالك شيعة لعثمان ! وقام الأشتر إلى علي عليه السلام فكلمه بكلام يحضه على أهل الوقوف فكره ذلك علي عليه السلام حتى شكاه ، وكان من رأي علي عليه السلام ألا يذكرهم بشئ . فقال الأشتر : يا أمير المؤمنين إنا وإن لم نكن من المهاجرين والأنصار فإنا فيهم ، وهذه بيعة عامة والخارج منها عاص والمبطئ عنها مقصر ، فإن أدبهم اليوم باللسان وغداً بالسيف ، وما مَن ثقل عنك كمن خف معك ، وإنما أرادك القوم لأنفسهم فأردهم لنفسك . فقال علي عليه السلام : يا مالك دعني ، وأقبل علي عليه السلام عليهم فقال : أرأيتم لو أن من بايع أبا بكر أو عمر أو عثمان ثم نكث بيعته ، أكنتم تستحلون قتالهم ؟ قالوا : نعم . قال : فكيف تَحَرَّجُونَ من القتال معي وقد بايعتموني ؟ قالوا : إنا لا نزعم أنك مخطئ ، وأنه لا يحل لك قتال من بايعك ثم نكث بيعتك ، ولكن نشك في قتال أهل الصلاة . فقال الأشتر : دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك . فقال له علي عليه السلام : كفَّ عني ، فانصرف الأشتر وهو مغضب .
ثم إن قيس بن سعد لقي مالكاً الأشتر في نفرمن المهاجرين والأنصار ، فقال قيس للأشتر : يا مالك ، كلما ضاق صدرك بشئ أخرجته ، وكلما استبطأت أمراً استعجلته ، إن أدب الصبر التسليم ، وأدب العجلة الأناة ، وإن شرالقول ما ضاهى العيب ، وشر الرأي ما ضاهى التهمة ، وإذا ابتليت فاسأل ، وإذا أمرت فأطع ، ولاتسأل قبل البلاء ، ولا تكلف قبل أن ينزل الأمر ، فإن في أنفسنا ما في نفسك ، فلا تشق على صاحبك ؟ فغضب الأشتر ، ثم إن الأنصار مشوا إلى الأشتر في ذلك فرضوه عن غضبه فرضي .
--------------------------- 115 ---------------------------
فلما همَّ علي عليه السلام بالنهوض قام إليه أبو أيوب خالد بن زيد صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا أمير المؤمنين ، لوأقمت بهذه البلدة فإنها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وبها قبره ومنبره ، فإن استقامت لك العرب كنت كمن كان قبلك ، وإن وكلت إلى المسير فقد أعذرت . فأجابه علي عليه السلام بعذره في المسير ) .
2 . ( ومن كلام له عليه السلام لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال : والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم ( الصوت المنتظم ) حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها . ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً ، حتى يأتي علي يومي . فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي ، مستأثراً عليَّ منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله حتى يوم الناس هذا ) . ( نهج البلاغة : 1 / 41 ) .
أقول : رد الإمام عليه السلام بذلك على كعب بن مالك الأنصاري ومحمد بن مسلمة ، وهما عثمانيان ، وعلى سعد بن أبي وقاص ، وهو حسود كما قال عمار .
أما أبو أيوب فكان فيه بساطة وسذاجة ، وكذلك أسامة ، هذا إذا لم نسئ الظن في أسامة ونقول إنه وقع تحت تأثير العثمانيين ، كما وقع من قبل تحت تأثير عمر .
وقد كانت سياسة أمير المؤمنين عليه السلام مع مخالفيه في المدينة وغيرها حكيمة بأن يتركهم ويجاهد الخارجين عليه من أهل الفتنة والضلال . وإنما استشارهم لأنه أراد أن يشرك أصحابه في الرأي ، ويكشف بعض المتخلفين والمعادين .
وقد كشفت مواقف المخالفين لعلي عليه السلام والذين دعوه إلى عدم قتال الناكثين لبيعته ، أنهم مع ثورة قريش عليه ، أو يقفون على الحياد . وهذا يدلك على مدى فعالية قريش في المدينة لتخذيل الناس عن نصرته عليه السلام .
3 . وقد ناقش ابن عباس أسامة ، ففي كتاب الجمل للمفيد / 128 : ( لما اجتمع القوم على ما ذكرناه من شقاق أمير المؤمنين والتأهب للمسير إلى البصرة ، واتصل الخبر إليه ، وجاءه كتاب يخبره بخبرالقوم ، دعا ابن عباس ومحمد بن أبي
--------------------------- 116 ---------------------------
بكر وعمار بن ياسر وسهل بن حنيف ، وأخبرهم بذلك وبما عليه القوم من المسير فقال محمد بن أبي بكر : ما يريدون يا أمير المؤمنين ؟ فتبسم عليه السلام وقال يطلبون بدم عثمان ! فقال محمد : والله ما قتله غيرهم !
ثم قال علي : أشيروا علي بما أسمع منكم القول فيه ، فقال عمار : الرأي أن نسير إلى الكوفة ، فإن أهلها لنا شيعة وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة . وقال ابن عباس : الرأي عندي يا أمير المؤمنين أن نقدم رجالاً إلى الكوفة فيبايعوا لك ، وتكتب إلى الأشعري أن يبايع لك ، ثم بعده المسيرحتى نلحق بالكوفة فنعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة ، وتكتب إلى أم سلمة فتخرج معك فإنها لك قوة .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : بل أنهض بنفسي ومن معي في اتباع الطريق وراء القوم فإن أدركتهم بالطريق أخذتهم ، وإن فاتوني كتبت إلى الكوفة واستمددت الجند من الأمصار وسرت إليهم . وأما أم سلمة فإني لا أرى إخراجها من بيتها ، كما رأى الرجلان إخراج عائشة . فبينما هم في ذلك إذ دخل عليهم أسامة بن زيد وقال لأمير المؤمنين : فداك أبي وأمي لاتسروحدك ، وانطلق إلى ينبع ، وخلف على المدينة رجلاً وأقم بمالك ، فإن العرب لهم جولة ثم يصيرون إليك . فقال له ابن عباس : إن كان هذا القول منك يا أسامة على غير غِلٍّ في صدرك فقد أخطأت وجه الرأي منه ، ليس هذا برأي ! يكون والله كهيئة الضبع في مغارتها ! فقال أسامة : فما الرأي ؟ قال : ما أشرت به إليه ما رأى أمير المؤمنين لنفسه .
ثم نادى أمير المؤمنين عليه السلام في الناس : تجهزوا للمسير فإن طلحة والزبيرقد نكثا البيعة ونقضا العهد ، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة وسفك دماء أهل القبلة ، ثم رفع يديه إلى السماء فقال : اللهم إن هذين الرجلين قد بغيا عليَّ ، ونكثا عهدي ، ونقضا عقدي ، وشاقاني بغير حق سوغهما ذلك . اللهم خذهما بظلمهما ، وأظفرني بهما ، وانصرني عليهما . ثم خرج في سبع مائة رجل من المهاجرين والأنصار ) .
4 . وفي الكافئة / 19 : ( لما اتصل بأمير المؤمنين صلوات الله عليه مسيرعائشة وطلحة والزبيرمن مكة إلى البصرة ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد سارت عائشة وطلحة
--------------------------- 117 ---------------------------
والزبيركل منهما يدعي الخلافة دون صاحبه ! ولا يدعي طلحة الخلافة إلا أنه ابن عم عائشة ، ولا يدعيها الزبير إلا أنه صهر أبيها !
والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربن الزبيرعنق طلحة ، وليضربن طلحة عنق الزبير ينازع هذا على الملك هذا ! ولقد علمت والله الراكبة الجمل أنها لا تحل عقدة ، ولا تسير عقبة ولا تنزل منزلة ، إلا إلى معصية الله ، حتى تورد نفسها ومن معها مورداً يقتل ثلثهم ، ويهرب ثلثهم ، ويرجع ثلثهم ! والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان ، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه .
والله لتنبحنها كلاب الحوأب ! فهل يعتبر معتبر ويتفكر متفكر ، لقد قامت الفئة الباغية ، فأين المحسنون ؟ مالي ولقريش ! أما والله لأقتلنهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين ، وإني لصاحبهم بالأمس . وما لنا إليها من ذنب غيرأنا خُيِّرنا عليها فأدخلناهم في حيزنا ! أما والله لا أترك الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إن شاء الله . فلتضجَّ مني قريش ضجيجاً ) !
5 . في شرح نهج البلاغة ( 1 / 309 ) عن الكلبي قال : ( لما أراد علي عليه السلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وآله : إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ، فرأيت أن الصبرعلى ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوَطْب يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقل خُلف . فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهاداً ثم انتقلوا إلى دار الجزاء ، والله ولي تمحيص سيئاتهم والعفوعن هفواتهم . فما بال طلحة والزبير وليسا من هذا الأمر بسبيل ! لم يصبرا عليَّ حولاً ولا شهراً حتى وثَبا ومرَقا ، ونازعاني أمراً لم يجعل الله لهما إليه سبيلاً ، بعد أن بايعا طائعَين غير مكرهَين ، يرتضعان أُماً قد فطمت ، ويُحييان بدعة قد أُميتت .
أدمَ عثمان زعما ! والله ما التبعة إلا عندهم وفيهم ، وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم ، وأنا راضٍ بحجة الله عليهم وعمله فيهم ، فإن فاءا وأنابا فحظهما
--------------------------- 118 ---------------------------
أحرزا وأنفسهما غنما ، وأعظِم بها غنيمة ! وإن أبَيا أعطيتهما حد السيف وكفى به ناصراً لحقٍّ ، وشافياً لباطل . ثمّ نزل ) .
أقول : هدف أمير المؤمنين عليه السلام من هذه الخطبة ، إدانة سقيفة قريش وخلفائها ، وأنهم طمعوا واستأثروا بما ليس لهم ، وغصبوا حق عترة النبي صلى الله عليه وآله ، والآن رجع الحق إلى نصابه ، ومع إدانته لأبي بكر وعمر فقد ليَّنَ القول معهما حتى لا يثير أنصارهما ! ثم ذكر الطامعيْن الجديدين طلحة والزبير بغصب حق العترة ، وأعلن عليه السلام أنه لن يتساهل معهما ، وسيقاتلهما لأنه مأمور بذلك من النبي صلى الله عليه وآله ، وأن الظرف اختلف عن ظرف سكوته على الحكام السابقين !
6 . قال عليه السلام في طلحة والزبير : ( كل واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه ، لايَمُتَّان إلى الله بحبل ، ولا يمدان إليه بسبب . كل واحد منهما حامل ضبٍّ لصاحبه ، وعما قليل يكشف قناعه به . والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعن هذا نفس هذا ، وليأتين هذا على هذا .
قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون ! فقد سنت لهم السنن وقدم لهم الخبر ، ولكل ضلة علة ، ولكل ناكث شبهة . والله لا أكون كمستمع اللدم ، يسمع الناعي ويحضرالباكي ، ثم لا يعتبر ) . ( نهج البلاغة : 2 / 32 ) .
7 . وقال عليه السلام لرئيس حاخامات اليهود ( الخصال / 377 ) : ( وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المبايعين لما لم يطمعوا في ذلك مني ، وثبوا بامرأة عليَّ أنا ولي أمرها والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري ، وتنبح عليها كلاب الحوأب وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعلى كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله حتى أتت أهل بلدة ، قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم ، عازبة آراؤهم جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم بغير علم ، يرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ، إن كففت لم يرجعوا ولم يقلعوا ، وإن أقمت
--------------------------- 119 ---------------------------
كنت قد صرت إلى الذي كرهت ، فقدمت الحجة بالإعذار والإنذار ودعوت المرأة إلى بيتها والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي ، والترك لنقضهم عهد الله عز وجل فيَّ ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع وذكرته فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك ، فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً ، فلما أبوا إلا هي ركبتها منهم ، فكانت عليهم الدبرة ، وبهم الهزيمة ولهم الحسرة وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني فيه أولاً ، من الإغضاء والإمساك ورأيتني إن أمسكت كنت معيناً لهم بإمساكي على ما صاروا إليه ، وطمعوا فيه من تناول الأطراف وسفك الدماء ، وقتل الرعية وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال ، كعادة بني الأصفرومن مضى من ملوك سبأ والأمم الخالية ، فأصير إلى ما كرهت أولاً وآخراً ، وقد أهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس وألقى ما حذرت ، ولم أهجم على الأمرإلا بعد ما قدمت وأخرت وتأنيت وراجعت وراسلت وشافهت وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ التمسوه مني ، بعد أن عرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك أقدمت فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيداً . ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ) .

إنها بدرٌ جديدة فإما القتال وإما الكفر !

1 . روى الجميع أحاديث وصححوها بأن النبي صلى الله عليه وآله أخبرقريشاً بأن علياً عليه السلام سيقاتل بعد وفاته صلى الله عليه وآله على تأويل القرآن ، كما قاتلهم هو على تنزيله !
ففي مستدرك الحاكم ( 2 / 138 ) : ( لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك ، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم
--------------------------- 120 ---------------------------
رغبة في الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا ! فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله ! فقال لعمر : ما ترى ؟ فقال مثل قول أبي بكر ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان ، فيضرب رقابكم على الدين ! فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا . قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد ! وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها . هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ) .
أقول : بحثنا ذلك في كتاب : آيات الغدير ، وبينا أن النبي صلى الله عليه وآله لما فتح مكة جعل عليها حاكماً أموياً هو عتاب بن أسيد ، فغضبت قريش وعزلت أبا سفيان من قيادتها لأنه كان ليناً مع النبي صلى الله عليه وآله ، واتهمته أنه اتفق معه لأنهما من عبد مناف ! وزعَّمت مكانه سهيل بن عمر ، فكان أمره نافذاً في مكة ، وأهملوا حاكم النبي صلى الله عليه وآله !
وجاء سهيل إلى المدينة يطالب النبي صلى الله عليه وآله بأن يرجع إليهم أبناءهم وغلمانهم الذين جاؤوه إلى المدينة ، فنزل سهيل عند عمر وأيد مطلبه هو وأبو بكر ، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وهدد قريشاً ، وأخبرهم بما يكون بعده ، وأن علياً عليه السلام سيقاتلهم على التأويل !
2 . وفي مجمع الزوائد ( 7 / 238 ) : ( عن علي قال : عهد إليَّ رسول الله ( ص ) في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين . رواه البزار والطبراني في الأوسط ، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح ، غير الربيع بن سعيد ووثقه ابن حبان ) .
وروى البزار : ( عن علي بن ربيعة قال : سمعت علياً على المنبر وأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما لي أراك تستحل الناس استحلال الرجل إبله ؟ أبعهد من رسول الله أو شيئاً رأيته ؟ قال : والله ما كذبت ولا كذبت ولا ضللت ولا ضل بي ، بل عهد من رسول الله عهده إليَّ وقد خاب من افترى ، عهد إلي النبي أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين . ( البزار ، ع ) . ( كنز العمال : 11 / 327 ) .
وفي تاريخ بغداد ( 13 / 189 ) : ( عن سليمان بن مهران الأعمش قال : حدثنا إبراهيم عن
--------------------------- 121 ---------------------------
علقمة والأسود قالا : أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين ، فقلنا له : يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنزول محمد وبمجيئ ناقته تفضلاً من الله وإكراماً لك حتى أناخت ببابك دون الناس ، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله ؟ فقال : يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله ، وإن رسول الله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي ، بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين . فأما الناكثون فقد قاتلناهم أهل الجمل طلحة والزبير ، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم يعني معاوية وعمراً ، وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات ، وأهل السعيفات ، وأهل النخيلات ، وأهل النهروانات ، والله ما أدري أين هم ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله ، قال : وسمعت رسول الله يقول لعمار : يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك ، يا عمار بن ياسر إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ، فإنه لن يدليك في ردى ، ولن يخرجك من هدى . يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در ، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار ! قلنا : يا هذا حسبك رحمك الله ، حسبك رحمك الله ) !
3 . وفي الأخبار الطوال / 188 : ( فقال علي : يا هذا ، إني قد ضربت أنف هذا الأمر وعينيه ، فلم أجده يسعني إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد ، إن الله لا يرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت لايأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ، فوجدت القتال أهون من معالجة الأغلال في جهنم ) .
4 . وقال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1117 ) : ( ويروى من وجوه عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر أنه قال : ما آسى على شئ إلَّا أني لم أقاتل مع عليٍّ الفئة الباغية . وقال الشعبي : ما مات مسروق حتى تاب إلى الله عن تخلَّف عن القتال مع عليّ . ولهذه الأخبار طرق صحاح قد ذكرناها في .
ورويَ من حديث عليّ ، ومن حديث ابن مسعود ، ومن حديث أبي أيوب
--------------------------- 122 ---------------------------
الأنصاري أنه أُمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين . وروي عنه أنه قال : ما وجدت إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله ) .
5 . في أنساب الأشراف للبلاذري ( 2 / 236 ) : ( عن عمرو بن طارق بن شهاب قال : قال الحسن بن علي لعليّ بالربذة وقد ركب راحلته وعليها رحل له رثّ : إني لأخشى أن تقتل بمضيعة ! فقال : إليك عنّي فوالله ما وجدت إلا قتال القوم أو الكفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله ، أو قال : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله ) .
6 . وفي تاريخ دمشق ( 42 / 439 و 473 ) : ( عن يحيى بن عروة المرادي قال : سمعت علي بن أبي طالب قال : قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أرى أني أحق الناس بهذا الأمر فاجتمع الناس على أبي بكر فسمعت وأطعت ! ثم إن أبا بكر حضر فكنت أرى أن لا يعدلها عني ، فولى عمر فسمعت وأطعت ! ثم إن عمر أصيب فظننت أنه لايعدلها عني ، فجعلها في ستة أنا أحدهم فولاها عثمان فسمعت وأطعت !
ثم إن عثمان قتل فجاؤوني فبايعوني طائعين غيرمكرهين ، فوالله ما وجدت إلا السيف أو الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله ) !
7 . وفي وقعة صفين لابن مزاحم المنقري / 474 : ( ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلا القتال أوالكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله . إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنم ) .
8 . وفي المعرفة للفسوي المتوفى 277 ( 2 / 688 ) : ( قال علي : إني والله قد ضربت في هذا الأمر رأسه وعينيه ، فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله ) .
إلى عشرات المصادر الأخرى كالمعيار للإسكافي / 145 ، وأسد الغابة ( 4 / 31 ) .
--------------------------- 123 ---------------------------

قتال البغاة فريضة مشددة

1 . استفاض الحديث عندنا بأن قتال البغاة عهد من النبي صلى الله عليه وآله إلى علي عليه السلام وفريضةٌ مشددة ، وأن قريشاً ما أسلمت ولكن استسلمت ، وأنها انقلبت بعد النبي صلى الله عليه وآله على عترته وأخذت دولته ، ولما وصلت رئاسة الدولة إلى علي عليه السلام ثارت قريش لإرجاعها !
ففي نهج البلاغة ( 3 / 16 ) : ( كان عليه السلام يقول لأصحابه عند الحرب : لاتشتدن عليكم فرَّةٌ بعدها كرة ، ولاجولة بعدها حملة ، وأعطوا السيوف حقوقها ، ووطئوا للجنوب مصارعها ، واذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي والضرب الطلحفي ، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل . فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه ) !
والطعن الدعسي : مركز يدعس في القلب . والضرب الطلحفي : شديد قوي .
وكان عمار بن ياسر ينادي : ( أيها الناس : والله ما أسلموا ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر ! فلما وجدوا أعواناً أظهروه ) ! ( علل الشرائع : 1 / 222 ، وشرح الأخبار : 2 / 157 ) .
2 . في الكافي ( 5 / 38 ) : ( عن أبي صادق قال : سمعت علياً عليه السلام يحرض الناس في ثلاثة مواطن : الجمل وصفين ويوم النهر ، يقول : عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار ، واخفضوا الأصوات ، وأقلوا الكلام ، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجادلة والمبارزة والمناضلة والمنابذة والمعانقة والمكادمة ، واثبتوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَلاتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَمَعَ الصَّابِرِينَ ) .
3 . قال الصدوق في الإعتقادات / 105 : ( اعتقادنا فيمن قاتل علياً عليه السلام قول النبي صلى الله عليه وآله : من قاتل علياً فقد قاتلني ، ومن حارب علياً فقد حاربني ، ومن حاربني فقد حارب الله . وقوله صلى الله عليه وآله لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام : أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم ) .
4 . في من لا يحضره الفقيه ( 4 / 419 ) : ( عن الأصبغ بن نباتة قال : قال
--------------------------- 124 ---------------------------
أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه : أيها الناس إسمعوا قولي واعقلوه عني ، فإن الفراق قريب : أنا إمام البرية ووصي خيرالخليقة ، وزوج سيدة نساء الأمة ، وأبوالعترة الطاهرة والأئمة الهادية . أنا أخو رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه ووليه ، ووزيره وصاحبه وصفيه ، وحبيبه وخليله . أنا أمير المؤمنين ، وقائد الغرالمحجلين وسيد الوصيين ، حربي حرب الله ، وسلمي سلم الله ، وطاعتي طاعة الله ، وولايتي ولاية الله ، وشيعتي أولياء الله ، وأنصاري أنصار الله . والذي خلقني ولم أك شيئاً ، لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أن الناكثين والقاسطين والمارقين ملعونون على لسان النبي الأمي ، وقد خاب من افترى ) .
5 . في شرح نهج البلاغة ( 14 / 24 ) : ( واختلف المتكلمون في حالها وحال من حضر واقعة الجمل ، فقالت الإمامية : كفر أصحاب الجمل كلهم ، الرؤساء والأتباع . وقال قوم من الحشوية والعامة : اجتهدوا فلا إثم عليهم ، ولا نحكم بخطئهم ولا خطأ علي عليه السلام وأصحابه . وقال قوم من هؤلاء : بل نقول أصحاب الجمل أخطأوا ولكنه خطأ مغفور كخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند من قال بالأشبه ، وإلى هذا القول يذهب أكثر الأشعرية ) .
وقال في شرح النهج ( 1 / 9 ) : ( أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا ( المعتزلة ) هالكون كلهم إلا عائشة وطلحة والزبير فإنهم تابوا ، ولولا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي . وأما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار ، لإصرارهم على البغي وموتهم عليه ، رؤساؤهم والأتباع جميعاً . وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه ، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار .
وجملة الأمر أن أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه ، ولا ريب في أن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهه أو بغير شبهه فاسق ، وليس هذا مما يخصون به علياً عليه السلام ، فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الإسلام العدول لكان حكمهم حكم من خرج على علي صلوات الله عليه ) .
--------------------------- 125 ---------------------------
6 . وفي جواهر الكلام ( 21 / 325 ) : ( وعن علي عليه السلام أنه قال : أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، ففعلت ما أمرت . وعن الباقر عليه السلام أنه ذكرالذين حاربهم علي عليه السلام فقال : أما إنهم أعظم جرماً ممن حارب رسول الله صلى الله عليه وآله ، قيل له : وكيف ذلك يا ابن رسول الله ؟ قال : لأن أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرؤوا القرآن وعرفوا فضل أهل الفضل ، فأتوا ما أتوا بعد البصيرة ) ! وفي رواية حرب عليٍّ عليه السلام شرٌّ من حرب رسول الله صلى الله عليه وآله ( الكافي 8 / 252 ) .
7 . قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين / 215 : ( كنا مع علي بصفين ، فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح ، فقال ناس : هذا لواء عقده له رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يزالوا كذلك حتى بلغ علياً عليه السلام فقال : هل تدرون ما أمر هذا اللواء ؟ إن عدو الله عمرو أخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الشقة فقال : من يأخذها بما فيها ؟ فقال عمرو : وما فيها يا رسول الله ؟ قال : فيها أن لا تقاتل به مسلماً ، ولا تفر به من كافر ! فأخذها فقد والله فرَّ به من المشركين ، وقاتل بها اليوم المسلمين ! والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً رجعوا إلى عداوتهم لنا ، إلا أنهم لم يدعوا الصلاة ) .
وهكذا كان عليٌّ عليه السلام مأموراً من رسول الله صلى الله عليه وآله بقتالهم ، كما كان النبي صلى الله عليه وآله مأموراً من الله تعالى بقتال أولئك !
8 . وفي المعيار والموازنة للإسكافي / 102 ، ومطالب السؤول لمحمد بن طلحة / 217 : ( لما انقضت وقعة الجمل وندمت عائشة على ما كان ، ورحلت إلى المدينة وسكنت النائرة ، ورحل علي عليه السلام إلى الكوفة ، قام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي فقال : يا أمير المؤمنين أرأيت القتلى الذين قتلوا حول الجمل بماذا قتلوا ؟ فقال علي عليه السلام : قتلوا بما قتلوا من شيعتي وعمالي بلا ذنب كان منهم إليهم ، ثم صرت إليهم وأمرتهم أن يدفعوا لي قتلة أصحابي فأبوا عليَّ وقاتلوني وفي أعناقهم
--------------------------- 126 ---------------------------
بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من أصحابي من المسلمين ! أفي شك أنت من ذلك يا أخا الأزد ؟ فقال : الآن استبان لي خطؤهم وأنك أنت المحق المصيب ) .
9 . ( لما التقى أمير المؤمنين عليه السلام أهل البصرة يوم الجمل . . قال له الزبير : أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي : أنه سمع رسول الله يقول : عشرة من قريش في الجنة ؟ قال علي عليه السلام : سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته ، فقال الزبير : أفتراه كذب على رسول الله ؟ فقال له علي : لست أخبرك بشئ حتى تسميهم . قال الزبير : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن عمرو بن نفيل . فقال له علي عليه السلام : عددت تسعة فمن العاشر ؟ قال له : أنت . قال علي عليه السلام : قد أقررت أني من أهل الجنة ، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فأنا به من الجاحدين الكافرين ! قال له : أفتراه كذب على رسول الله ؟ قال : ما أراه كذب ، ولكنه والله اليقين . فقال علي عليه السلام : والله إن بعض من سميته لفي تابوتٍ في شِعْبٍ في جُبٍّ في أسفل دركٍ من جهنم ، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة ! سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك ! وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دماءكم على يدي وعجل أرواحكم إلى النار ! فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي ) . ( الإحتجاج : 1 / 237 ) .
فهذه مباهلة من علي عليه السلام بأنه إن انتصر على طلحة والزبير وقُتلا ، يكونان من أهل النار ، وتكون العشرة المبشرة كما أخبر عنهم عليه السلام .
10 . في أمالي الصدوق / 463 ، عن الصادق عليه السلام قال : ( بلغ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله أن مولى لها يتنقص علياً عليه السلام ويتناوله فأرسلت إليه ، فلما أن صار إليها قالت له : يا بنيَّ بلغني أنك تتنقص علياً وتتناوله ! قال لها : نعم يا أماه . قالت : أقعد ثكلتك أمك حتى أحدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله ثم اخترلنفسك . إلى أن قالت : فدخلتُ وعليٌّ جاثٍ بين يديه وهو يقول : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، إذا كان كذا وكذا ، فما
--------------------------- 127 ---------------------------
تأمرني ؟ قال : آمرك بالصبر . ثم أعاد عليه القول الثانية ، فأمره بالصبر ، فأعاد عليه القول الثالثة ، فقال له : يا علي يا أخي ، إذا كان ذاك منهم فسُلَّ سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قُدُماً قدماً ، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم !
ثم التفت صلى الله عليه وآله إليَّ فقال لي : ما هذه الكآبة يا أم سلمة ؟ قلت : للذي كان من ردك لي يا رسول الله . فقال لي : والله ما رددتك من مَوْجَدة وإنك لعلى خير من الله ورسوله ، لكن أتيتني وجبرئيل عن يميني وعليٌّ عن يساري ، وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي ، وأمرني أن أوصي بذلك علياً ! يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب ، أخي في الدنيا وأخي في الآخرة .
يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب ، وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة . يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب ، حامل لوائي في الدنيا وحامل لوائي غداً في القيامة . يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي ، وقاضي عداتي ، والذائد عن حوضي .
يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب ، سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين .
قلت : يا رسول الله من الناكثون ؟ قال : الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة . قلت : من القاسطون ؟ قال : معاوية وأصحابه من أهل الشام . قلت : من المارقون ؟ قال : أصحاب النهروان . فقال مولى أم سلمة : فرجتِ عني فرج الله عنك ، والله لا سببت علياً أبداً ) !
11 . طاف علي عليه السلام على القتلى فمر بكعب بن سور قاضى البصرة وهو قتيل فقال : ويل أمك كعب ابن سور ! لقد كان لك علم لو نفعك ، ولكن الشيطان أضلك فأزلك ، فعجلك إلى النار .
ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلاً ، فقال : ويل أمك طلحة ! لقد كان لك قَدم لو نفعك ! ولكن الشيطان أضلك فأزلك ، فعجلك إلى النار ) ! ( شرح النهج : 1 / 248 ) .
--------------------------- 128 ---------------------------
12 . وصف قتاله إياهم بأنه جهاد وثوابه عظيم ، وأن بقتالهم فقأَ عين الفتنة ، فقال عليه السلام ( كشف الغمة : 1 / 244 ) : ( أنا فقأت عين الفتنة ، ولولا أنا ما قتل أهل النهروان وأهل الجمل ، ولولا أنني أخشى أن تتركوا العمل لأنبأتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله لمن قاتلهم مستبصراً ضلالهم ، عارفاً للهدى الذي نحن عليه . وقال علي عليه السلام يوم الجمل : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ . ثم حلف حين قرأها أنه ما قوتل عليها منذ نزلت حتى اليوم ) !
13 . وفي قرب الإسناد للحميري / 96 ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( دخل عليَّ أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير ، فقلت لهم : كانا من أئمة الكفر ، إن علياً عليه السلام يوم البصرة لما صف الخيول قال لأصحابه : لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله عز وجل وبينهم . فقام إليهم فقال : يا أهل البصرة هل تجدون علي جوراً في حكم ؟ قالوا : لا . قال فحيفاً في قسم ؟ قالوا : لا . قال : فرغبة في دنياً أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم ، فنقمتم علي فنكثتم بيعتي ؟ قالوا : لا . قال : فأقمت فيكم الحدود وعطلتها عن غيركم ؟ قالوا : لا . قال : فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لاتنكث ! إني ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف . ثم ثنى إلى صاحبه فقال : إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ . فقال أمير المؤمنين عليه السلام : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، واصطفى محمداً بالنبوة ، إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت ) .
14 . وقال الفضل بن شاذان الأزدي في الإيضاح / 79 : ورويتم عن أبي الفضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث قال : سمعت أم هاني بنت أبي طالب تقول : لقد علم من جرت عليه المواسي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي . وقد خاب من افترى .
--------------------------- 129 ---------------------------
ورويتم عن أبي معاوية ، عن الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري الطائي ، عن حذيفة بن اليمان أنه قيل له : حدثنا يا أبا عبد الله قال : أرأيتكم إن حدثتكم عن أمكم تسير إليكم تقاتلكم أكنتم تصدقوني ؟ قالوا : سبحان الله ومن يصدق بها ! قال : والله ما كذبت ، ولتفعلن هذا أو هذه ، أو كل هذا .
ورويتم عن جرير ، عن يزيد بن أبي داود قال : حلفت عائشة أن لا تكلم عبد الله بن الزبير ، لصنيعته حين زين لها الخروج إلى البصرة ) .
15 . قال الإمام الصادق عليه السلام ( الكافي : 8 / 179 ) إن مقاتلي علي عليه السلام هم الفئة الباغية ، قال : ( في قول الله عز وجل : مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُو سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ . قال : نزلت هذه الآية في فلان وفلان ، وأبي عبيدة الجراح ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمغيرة بن شعبة ، حيث كتبوا الكتاب بينهم وتعاهدوا وتوافقوا : لئن مضى محمد لا تكون الخلافة في بني هاشم ولا النبوة أبداً ، فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية . قال قلت : قوله عز وجل : أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ . أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ . قال : وهاتان الآيتان نزلتا فيهم ذلك اليوم ، قال أبو عبد الله عليه السلام : لعلك ترى أنه كان يوم يشبه يوم كتب الكتاب إلا يوم قتل الحسين عليه السلام وهكذا كان في سابق علم الله عز وجل الذي أعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله أنه إذا كتب الكتاب قتل الحسين ، وخرج الملك من بني هاشم ، فقد كان ذلك كله !
قلت : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الآخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِيئَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ قال : إنما جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة ، وهم أهل هذه الآية ، وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه السلام ، فكان الواجب عليه قتالهم وقتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ، ولو لم يفيئوا لكان الواجب عليه فيما أنزل الله أن لا يرفع السيف عنهم حتى يفيئوا ويرجعوا عن رأيهم ، لأنهم بايعوا طائعين غير كارهين . وهي الفئة
--------------------------- 130 ---------------------------
الباغية كما قال الله تعالى ، فكان الواجب على أمير المؤمنين عليه السلام أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة ، إنما منَّ عليهم وعفا ، وكذلك صنع أمير المؤمنين عليه السلام بأهل البصرة حيث ظفر بهم ، مثلما صنع النبي صلى الله عليه وآله بأهل مكة حذو النعل بالنعل . قال قلت : قوله عز وجل : وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ؟ قال : هم أهل البصرة ، هي المؤتفكة . قلت : وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ؟ قال : أولئك قوم لوط ، ائتفكت عليهم : انقلبت عليهم ) .
أقول : يدل هذا الحديث على أن ائتفاك البصرة معنوياً بمعنى انهزامهم ، وانتصار أمير المؤمنين عليه السلام عليهم . بينما ائتفاك المؤتفكات مادي ومعنوي .
16 . وقال الشيخ الطوسي في الإقتصاد / 226 : ( ظاهر مذهب الإمامية أن الخارج على أمير المؤمنين عليه السلام والمقاتل له كافر ، بدليل إجماع الفرقة المحقة على ذلك . .
وروي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي : حربك يا علي حربي وسلمك سلمي ، وحرب النبي كفر بلا خلاف . فإن قيل : لو كان ذلك كفراً لجرى عليهم أحكام الكفر من منع الموارثة والمدافنة والصلاة عليهم وأخذ الغنيمة واتباع المدبر والإجازة على المجروح . والمعلوم أنه عليه السلام لم يجر ذلك عليهم ، فكيف يكون كفراً ؟
قلنا : أحكام الكفرمختلفة كحكم الحربي والمعاهد والذمي والوثني ، فمنهم من تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم ، ومنهم من لا يقبل ، ومنهم من يناكح وتؤكل ذبيحته ، ومنهم من لا تؤكل عند المخالف . ولا يمتنع أن يكون من كان متظاهراً بالشهادتين وإن حكم بكفره حكمه مخالف لأحكام الكفار ، كما تقول المعتزلة في المجبرة والمشبهة وغيرهم من الفرق الذين يحكمون بكفرهم ، وإن لم تجر هذه الأحكام عليهم .
فأما من خالف الإمامية فمنهم من يحكم عليهم بالفسق ، ومنهم من يقول هو خطأ مغفور ، ومنهم من يقول إنهم مجتهدون وكل مجتهد مصيب . فمن حكم بفسقهم من المعتزلة وغيرهم منهم من يدعي توبة القوم ورجوعهم .
والذي يدل على بطلان ما يدعونه من التوبة ، أن الفسق معلوم ضرورة ، وما يدعونه من التوبة طريقه الآحاد ، ولا نرجع عن المعلوم إلى المظنون .
--------------------------- 131 ---------------------------
وأيضاً فكتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل الكوفة والمدينة بالفتح يتضمن فسق القوم ، وأنهم قتلوا على خطاياهم ، وأنهم قتلوا على النكث والبغي ، ومن مات تائباً لا يوصف بذلك .
وروى حبة العرني قال : سمعت علياًيقول : والله لقد علمت صاحبة الهودج أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي ، وقد خاب من افترى .
وروى محمد بن إسحاق أنها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة ولم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين عليه السلام وكتبت إلى معاوية وأهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرضهم عليه . فأي توبة مع ما ذكرناه ) . ( الإحتجاج : 1 / 241 ) .
أقول : لم يستطع محبوا عائشة أن يدافعوا عنها في خروجها على علي عليه السلام ، فادعوا أنها ندمت وتابت ، وقد ألف الشيخ المفيد في الرد عليهم كتاب : الكافئة في رد توبة الخاطئة أورد فيها الأدلة على عدم توبتها ، ويكفينا أن توبتها لم تثبت بشكل قطعي .
17 . قال المفيد في كتاب الجمل / 40 : ( قد ثبت بتواتر الأخبار وتظاهر الحديث والآثار أن أمير المؤمنين عليه السلام كان معتزلاً للفتنة بقتل عثمان ، وأنه بعد عن منزله في المدينة لئلا لاتتطرق عليه الظنون برغبته في البيعة بالأمر على الناس ، وأن الصحابة لما كان من أمرعثمان ما كان التمسوه وبحثوا عن مكانه حتى وجدوه ، فصاروا إليه وسألوه القيام بأمرالأمة وشكوا إليه ما يخافونه من فساد الأمة ، فكره إجابتهم إلى ذلك على الفور والبدأ ، لعلمه بعاقبة الأمور ، وإقدام القوم على الخلاف عليه والمظاهرة له بالعداوة له والشنآن ، فلم يمنعهم إباؤه من الإجابة عن الإلحاح فيما دعوه إليه ذكروه بالله عز وجل ، وقالوا له إنه لا يصلح لإمامة المسلمين سواك ، ولا نجد أحداً يقوم بهذا الأمرغيرك ، فاتق الله في الدين وكافة المسلمين . فامتحنهم عند ذلك بذكر من نكث بيعته بعد أن أعطاها بيده على الإيثار ، وأومأ لهم إلى مبايعة أحد الرجلين ، وضمن النصرة لهما متى أراد إصلاح الدين وحياطة الإسلام ، فأبى القوم عليه تأمير من سواه والبيعة لمن عداه ، وبلغ ذلك طلحة والزبير فصارا إليه راغبين في بيعته ، منتظرين للرضا
--------------------------- 132 ---------------------------
بتقدمه عليهما وإمامته عليهما ، فامتنع فألحا عليه في قبول بيعتهما له ، واتفقت الجماعة كلها على الرضا به وترك العدول عنه إلى سواه ، وقالوا إن تجبنا إلى ما دعوناك إليه من تقليد الأمر وقبول البيعة ، وإلا انفتق من الإسلام ما لا يمكن رتقه ، وانصدع في الدين ما لا يستطاع شعبه .
فلما سمع ذلك منهم بعد الذي ذكرناه من الإباء عليهم والامتناع لتأكيد الحجة لنفسه ، بسط يده لبيعتهم فتداكوا عليه تداك الإبل على حياضها يوم ورودها ، حتى شقوا أعطافه ووطأوا ابنيه الحسن والحسين بأرجلهم لشدة ازدحامهم عليه ، وحرصهم على البيعة له والصفقة بها على يده ، رغبة بتقديمه على كافتهم وتوليته أمر جماعتهم لا يجدون عنه معدلاً ولا يخطر ببالهم سواه لهم موئلاً ، فتمت بيعة المهاجرين والبدريين والأنصار العقبيين المجاهدين في الدين والسابقين إلى الإسلام من المؤمنين وأهل البلاء الحسن مع النبي صلى الله عليه وآله ، من الخيرة البررة الصالحين ، ولم تكن بيعته عليه السلام مقصورة على واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوها في العدد ، كما كانت بيعة أبي بكر مقصورة عند بعض أصحابه على بشر بن سعد فتمت بها عنده ، ثم تابعه عليها من تابعه عليها من الناس . وقال بعضهم : بل تمت ببشر بن سعد وعمر بن الخطاب . وقال بعضهم : بل تمت بالرجلين المذكورين وأبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة : واعتمدوا ذلك على أن البيعة لا تتم بأقل من أربعة نفر من المسلمين . وقال بعضهم : بل تمت بخمسة نفر : بشير بن سعد وأسيد بن خضير من الأنصار ، وعمر وأبو عبيدة وسالم من المهاجرين ، ثم تابعهم الناس بعدها بالخمسة المذكورين . ومن ذهب إلى هذا المذهب الجبائي وأبوه والبقية من أصحابهما ، في هذا الزمان .
وقالوا في بيعة عمر بن الخطاب مثل ذلك ، فزعم من يذهب إلى أن البيعة تتم بواحد من الناس ، وهم جماعة من المتكلمين ، منهم الخياط والبلخي وابومجالد ومن ذهب مذهبهم من أصحاب الاختيار ، إلى أن الإمامة تمت لعمر بأبي بكر وحده ، وعقد له إياها دون من سواه . وكذلك قالوا في عثمان بن عفان والعقد له ، أنه تم بعبد الرحمن بن عوف خاصة . وخالفهم على ذلك من أضاف إلى المذكورين غيرهما في العقد وزعم
--------------------------- 133 ---------------------------
أن بيعة عمر انفردت من الاختيار له من الإمام ، وعثمان إنما تم له الأمر ببيعة بقية أهل الشورى وهم خمسة نفر ، أحدهم عبد الرحمن ، فاعترفت الجماعة من مخالفينا بما هو حجة عليهم في الخلاف على أئمتهم ، وبشذوذ العاقدين لهم ، وانحصار عددهم بمن ذكرناه !
وثبتت البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام بإجماع من حوته مدينة الرسول صلى الله عليه وآله من المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ، ومن انضاف إليهم من أهل مصر والعراق في تلك الحال من الصحابة والتابعين بإحسان ، ولم يدَّعِ أحد من الناس أنه تمت له بواحد مذكور ولا إنسان مشهور ، ولا بعدد يحصى محصور ، فيقال تمت بيعته بفلان واحد وفلان وفلان ، كما قيل في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان . وإذا ثبت بالإجماع من وجوه المسلمين وأفاضل المؤمنين والأنصار والمهاجرين العقد على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام والبيعة له على الطوع والإيثار ، وكان العقد على الوجه الذي ثبت به إمامة الثلاثة قبله عند الخصوم بالاختيار ، وعلى أوكد منه بما ذكرناه في الرغبة إليه في ذلك والإجماع عليه ، ممن سميناه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، حسبما بيناه ، ثبت فرض طاعته ، وحرم على كل أحد من الخلق التعرض لخلافه ومعصيته ، ووضح الحق في الحكم على مخالفيه ومحاربيه بالضلال عن هدايته ، والقضاء بباطل مخالفة أمره ، وفسقهم بالخروج عن طاعته ، لما أوجب الله تعالى من طاعة أولياء أمره في محكم كتابه حيث يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ ، فقرن طاعة الأئمة بطاعته ، ودل على أن المعصية لهم كمعصيته على حد سواء في حكمه وقضيته .
وأجمع أهل القبلة مع من ذكرناه على فسق محاربي أئمة العدل وفجورهم ، بما يرتكبونه من حكم السمع والعقل ، وإذا لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام أحدث بعد البيعة العامة له بحدث يخرجه عن العدالة ، ولا كان قبلها على ظاهر بخيانة في الدين ، ولا خرج عن الإمامة ، كان المارق عن طاعته ضالاً ، فكيف إذا أضاف له بذلك حرباً واستحلالاً لدمه ودماء المسلمين معه ،
--------------------------- 134 ---------------------------
ويبغي بذلك في الأرض فساداً يوجب عليه التنكيل بأنواع العقاب المذكور في نص من قوله تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . وهذا بيِّنٌ إن لم يحجبه الهوى ، ويصده عن فهمه العمى ) .
18 . أورد السيد محمد مهدي الخرسان في موسوعة عبد الله بن عباس ( 3 / 170 ) مجموعة مواقف لعلماء المذاهب في البغاة الخارجين على علي عليه السلام ، نوردها ملخصة ، قال : ( وإلى القارئ شهادات أعلام المسلمين من أئمة المذاهب بأن علياً كان على الحق في قتاله أهل الجمل ، ومن حاربه كان باغياً ظالماً له :
1 - قال أبو حنيفة : ما قاتل أحد عليّاً إلا وعليٌّ أولى بالحق منه ، ولولا ما سار عليّ فيهم ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين ، ولا شك أن علياً إنما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه ، وفي يوم الجمل سار عليّ فيهم بالعدل ، وهو علَّم المسلمين ، فكانت السنة في قتال أهل البغي .
2 - قال سفيان الثوري : ما قاتل عليٌّ أحداً إلاّ كان عليٌّ أولى بالحقّ منه .
3 - قال أحمد بن حنبل : لم يزل عليُّ بن أبي طالب مع الحق والحق معه حيث كان .
4 - قال أبو منصور الماتريدي البغدادي : أجمعوا على أن علياً كان مصيباً في قتال أهل الجمل طلحة والزبير وعائشة بالبصرة ، وأهل صفين معاوية وعسكره .
5 - قال النووي : وكان عليّ هو المحق المصيب في تلك الحروب . هذا مذهب أهل السنّة . وقال في حديث عمار تقتله الفئة الباغية : قال العلماء : هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً كان محقاً مصيباً .
6 - قال الإمام عبد القاهر الجرجاني : أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي أهل الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المسلمين والمتكلمين ، على أن علياً مصيب في قتاله لأهل صفين ، كما هو مصيب في أهل
--------------------------- 135 ---------------------------
الجمل ، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون لكن لا يكفرون ببغيهم .
7 - قال ابن العربي المالكي : فكل من خرج على عليٍّ باغٍ ، وقتال الباغي واجب حتى يفيئ إلى الحق وينقاد إلى الصلح .
8 - قال ابن الهمام الحنفي : كان عليٌّ على الحقّ في قتال أهل الجمل وقتال معاوية .
9 - قال ابن حجر العسقلاني : كان الإمام عليّ بن أبي طالب على الحقّ ، والصواب في قتال من قاتله في حروبه الجمل وصفين وغيرهما .
10 - قال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي : وأما القول في البغاة عليه فهو على ما أذكره لك : أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا . . إلى آخر ما تقدم .
11 - وقال ابن تيمية بعد ذكر حديث عمار تقتله الفئة الباغية : وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة عليّ ووجوب طاعته ، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة ، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولاً ، وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال عليٍّ ، وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولاً ، أو باغٍ بلا تأويل وهو أصح القولين لأصحابنا . وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً ، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين .
12 - قال الذهبي : لا نرتاب أن علياً أفضل ممن حاربه ، وأنه أولى بالحق .
13 - قال القرطبي : فتقرر عند علماء المسلمين أن علياً كان إماماً وأن كل من خرج عليه باغٍ ، وأن قتاله واجب حتى يفيئ إلى الحق ، وينقاد إلى الصلح .
14 - قال الآلوسي : وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد ، احتجاجاً بأن علياً اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد .
15 - قال أبو بكر الجصاص : قاتل عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر ، من قد علم مكانهم ، وكان محقاً في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلاّ الفئة الباغية التي قابلته وأتباعها .
--------------------------- 136 ---------------------------
ثم قال السيد الخرسان : فهذه جملة من أقوال أئمة أهل السنة على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ، أدانوا مَن حارب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام سواء أهل الجمل أو صفين أو الخوارج ، فكلهم بغاة ، وكان الحق معه في قتالهم والضلال معهم في قتاله .
فكان الأحرى بطه حسين ومَن على شاكلته أن يكون متحرراً من رواسب الموروث ، وينظر إلى رموز أهل الجمل وإلى عائشة خاصة نظرة جد ، ولا تأخذه بهرجة التبرير ، وتزييف الأعذار ، فهي خاصة تتحمل من مسؤولية الحرب بقدر نشاطها فيها ، ومواقفها لا تخفى . وقال عبد الوهاب النجار : أما عائشة أم المؤمنين فما كان لها أن تتولى كبر هذا الأمر ولا أن تطالب كما تزعم بدم عثمان ، فإن أولياء دم عثمان كثيرون . .
16 - وقال ناصر الدين الألباني : إن الحديث صحيح الإسناد ولا إشكال في متنه . . فإن غاية ما فيه أن عائشة رضي الله عنها لما علمت بالحوأب كان عليها أن ترجع ، والحديث يدل أنها لم ترجع ، وهذا مما لا يليق أن ينسب إلى أم المؤمنين ، وجوابنا على ذلك : أنه ليس كل ما يقع من الكُمّل يكون لائقاً بهم ، إذ لا عصمة إلاّ لله وحده ، والسني لا ينبغي له أن يغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصاف أئمة الشيعة المعصومين ، ولا نشك أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله ، ولذلك همت بالرجوع حين علمت بتحقيق نبوءة النبيّ عند الحوأب ، ولكن الزبير أقنعها بترك الرجوع بقوله : عسى الله أن يصلح بك بين الناس ، ولا نشك أنه كان مخطئاً في ذلك ، والعقل يقطع بأنه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ولا شك أن عائشة هي المخطئة لأسباب كثيرة وأدلة واضحة ، ومنها ندمها ، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها ، وذلك مما يدل على أن خطأها من الخطأ المغفور بل المأجور .
ثم قال السيد الخرسان : ولئن جانب الصواب في آخر كلامه لأنه لم يتخلص من عقدة الموروث ، فقد كان غيره أشد غيرة على أمه ، لكنه أكثر صراحة وصرامة في لومه لها .
17 - قال عبد الكريم الخطيب : أحصى المحصون عدد قتلى هذه الحرب من المسلمين .
--------------------------- 137 ---------------------------
وأياً كان الخلاف في هذه المرويات ، فإن دماء غزيرة جرت في هذا الالتحام ، وأرواحاً كثيرة طيبة أزهقت في تلك المعركة . وما نريد أن نلقي تبعة كل هذا على أم المؤمنين ، فقد كانت دوافع جانبية كثيرة ، تحرك هذه الحرب ، ولكن الذي لا شك فيه أن زمام الموقف كلّه كان في يد السيدة عائشة ، وأنها لو أشارت بيدها إلى الجيش المجتمع حولها إشارة سلام وانصراف ، لما بقي أحد في أرض المعركة .
18 - قال سعيد الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة : أما السيدة عائشة فنقدها عثمان كان أشد عليه لما لها من الحرمة والإجلال ونفاذ الكلمة ، وقد عرف الأمويون وطلحة والزبير ما يكون لدعواهم من القوة إذا نهضت بها معهم عائشة ، وعرفوا ما تكنُّ من الكره لخلافة علي ، فما زالوا يفتلون لها في الذروة والغارب حتى نهضت لما أنهضوها ، وحملت من هذه الفتنة نصيبها .
وقال السيد الخرسان : جميع هذه الأقوال تدفع ما ذكره طه حسين من تبادل الاستغفار بينها وبين علي عليه السلام ليسدل الستار على تلك المشاهد المروعة من القتلى والجرحى وما خلفته الحرب من دمار .
19 - وقال محمّد بن إسحاق بن خزيمة : عهدت مشايخنا يقولون : إنا نشهد بأن كل من نازع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في خلافته ، فهو باغ .
20 - قال أبو منصور عبد القاهر البغدادي : أجمع أهل الحقّ على صحة إمامة عليّ وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان ، وأنه كان محقاً مصيباً في التحكيم وفي قتال أصحاب الجمل ، وأصحاب معاوية بصفين .
21 - وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي : وقاتل علي أهل البصرة يوم الجمل وقاتل معاوية بصفين والخوارج بالنهروان استدل بذلك على قتال من خرج عن طاعة الإمام .
22 - وقال إمام الحرمين : كان عليّ بن أبي طالب إماماً حقاً ، ومقاتلوه بغاة .
--------------------------- 138 ---------------------------
23 - وقال الكاساني الحنفي : قاتل سيدنا علي أهل حروراء بالنهروان بحضرة الصحابة تصديقاً لقوله صلى الله عليه وآله لسيدنا علي : إنك تقاتل على التأويل كما تقاتل على التنزيل ودل الحديث على إمامة سيدنا عليّ لأن النبي شبه قتال سيدنا عليّ بقتاله على التنزيل ، فلزم أن يكون سيدنا عليٌّ محقاً في قتاله بالتأويل .
24 - وقال الزيلعي : كان الحق بيد عليّ في نوبته فالدليل عليه قول النبي لعمّار : تقتلك الفئة الباغية .
25 - وقال ابن مفلح : كان عليّ أقرب إلى الحق من معاوية ، وأكثر المصنفين في قتال أهل البغي يرى القتال من ناحية علي ، ومنهم من يرى الإمساك .
26 - وقال ابن هبيرة : فأما ما جرى بعده فلم يكن لأحد من المسلمين التخلف عن عليّ . ولما تخلف عنه سعد وابن عمر وأسامة ومحمّد بن مسلمة ومسروق والأحنف ندموا ، وكان عبد الله بن عمر يقول عند الموت : إنّي لم أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة إلاّ تخلفي عن علي ، وكذا روي عن مسروق .
27 - وقال محمد بن الحسن الشيباني : لو لم يقاتل معاوية علياً ظالماً له متعدياً باغياً ، كنا لا نهتدي لقتال أهل البغي .
28 - وقال الشافعي : السكوت عن قتلى صفين حسن ، وإن كان عليٌّ أولى بالحقّ من كل من قاتله » .
في الختام : فقد كثرت مكذوباتهم على علي عليه السلام في حرب الجمل في مصادرهم ! فقالوا إن ولده الحسن عليه السلام وبخه لماذا قاتل عائشة ، فأقرعلي عليه السلام بأنه أخطأ ، وتمنى أنه مات قبل ذلك ، تماماً كما تمنت عائشة أنها ماتت قبل عشرين سنة !
وقالوا إن علياً عليه السلام صلى على القتلى من أصحابه وأصحاب عائشة ! وقالوا إنه شهد لهم أنهم في الجنة ، وأنه وطلحة والزبير في الجنة على سرر متقابلين !
والصحيح أن علياً عليه السلام كان على يقين من رسول الله صلى الله عليه وآله بأن الحق معه ، وأن مخالفيه
--------------------------- 139 ---------------------------
على الباطل ، وأن قادتهم من أئمة الدعاة إلى النار ، وجنودهم بشكل عام ذباب طمع وفراش يتهافت في النار . وما تقدم من النصوص يكفي .
وقد عقدنا فصلاً للحديث عن كثرة مكذوباتهم في حرب الجمل .

أمير المؤمنين عليه السلام يصل إلى الربذة

1 . قال البلاذري ( 2 / 233 ) : ( قال أبو مخنف في إسناده : لما بلغ علياً وهو بالمدينة شخوص طلحة والزبيروعائشة إلى البصرة ، استنفر الناس بالمدينة ودعاهم إلى نصره فخفت معه الأنصار ، وجعل حجاج بن غزية يقول :
سيروا أبابيل وحُثُّوا السيرا * كي تلحقوا التَّيْمِيَّ والزبيرا
إذ جلبا شراً وعافا خيراً * يا رب أدخلهم غداً سعيرا
فخرج علي من المدينة في سبع مائة من الأنصار ، وورد الربذة ) .
وقال الطبري ( 3 / 494 ) : ( وأمير المؤمنين على ناقة له حمراء يقود فرساً كميتاً ، فتلقاهم بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة بن عامر يدعى مرة ، فقال : من هؤلاء ؟ فقيل : أمير المؤمنين . فقال : سفرة فانية فيها دماء من نفوس فانية ! فسمعها علي فدعاه فقال : ما اسمك ؟ قال : مرة . قال : أمرَّ الله عيشك كاهنٌ سائر اليوم ! قال : بل عائف . فلما نزل بفيد أتته أسد وطيئ فعرضوا عليه أنفسهم ، فقال : إلزموا قراركم في المهاجرين كفاية . وقال الطبري : خرج علي من المدينة في آخرشهر ربيع الآخر سنة 36 ، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد العزى بن عبد شمس :
لاهُمَّ فاعقر بعليٍّ جَمَلَهْ * ولا تبارك في بعير حمله
إلا علي بن عدي ليس له ) .
وقال الطبري : « كان علي في هم من توجه القوم لا يدري إلى أين يأخذون ، وكان أن يأتوا البصرة أحب إليه ، فلما تيقن أن القوم يعارضون طريق البصرة سُرَّ بذلك وقال : الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم . فقال له ابن عباس : إن الّذي يسرّك من ذلك ليسؤوني ، إن الكوفة فسطاط فيه أعلام من أعلام العرب ، ولا
--------------------------- 140 ---------------------------
يحملهم عِدة القوم ، ولا يزال فيهم من يسمو إلى أمر لا يناله فإذا كان كذلك ، شغب على الذي قد نال حتى يفثأه فيفسد بعضهم على بعض . فقال علي عليه السلام : إن الأمر ليشبه ما تقول ، ولكن الأثرة لأهل الطاعة ) .
( وسار مجداً في السيرحتى بلغ الربذة فوجد القوم قد فاتوا فنزل بها قليلاً ، ثم توجه نحو البصرة ، والمهاجرون والأنصار عن يمينه وشماله محدقون به ، مع من سمع بمسيرهم فاتبعهم ، حتى نزل بذي قار فأقام بها ) . ( الجمل للمفيد / 128 ) .
2 . وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 247 ) : ( ولما توجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة ، نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج ، فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه وهو في خبائه . قال ابن عباس : فأتيته فوجدته يخصف نعلاً فقلت له : نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع ، فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبتها ثم قال لي : قَوِّمها فقلت : ليس لها قيمة ، قال : على ذاك ، قلت : كسر درهم ، قال : والله لهي أحب إلي من أمركم هذا ، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً !
قلت : إن الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك ، فتأذن لي أن أتكلم ، فإن كان حسناً كان منك ، وإن كان غير ذلك كان مني . قال : لا ، أنا أتكلم ، ثم وضع يده في صدري ، وكان شثن الكف فآلمني ، ثم قام فأخذت بثوبه فقلت : نشدتك الله والرحم ، قال : لا تنشدني . ثم خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وليس في العرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة ، فساق الناس إلى منجاتهم ، أمَا والله ما زلت في ساقتها ما غيرت ولا خنت ، حتى تولت بحذافيرها . ما لي ولقريش ، أمَا والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين ، وإن مسيري هذا عن عهد إلي فيه .
أمَا والله لأبقرن الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته . ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا . وأنشد :
أدمت لعمري شربك المحض خالصاً * وأكلك بالزبد المقشرة البُجرا
--------------------------- 141 ---------------------------
ونحن وهبناك العلاء ولم تكن * علياً وحُطنا حولك الجُرد والسمرا ) .
3 . ثم سار عليه السلام إلى ذي قار ، والمسافة من المدينة إلى ذي قار ثمانية أيام ، وبقي فيها خمسة عشرة يوماً إلى أوائل جمادى الثانية ، وجاءه جيشه من الكوفة فتحرك بهم إلى البصرة فوصل إليها في عاشرجمادى الآخرة ( تاريخ خليفة : 1 / 135 ) .
وفاوض عائشة والزبير وطلحة أياماً فأصروا على الحرب ، فبدأت الحرب في نصف جمادى الآخرة وليس في العاشر كما ذكرت بعض المصادر ، فالعاشر يوم وصوله عليه السلام إلى البصرة ، وليس بداية المعركة .

أرسل رسله إلى الكوفة وعالج عصيان أبي موسى

قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 358 ) : ( وسارعلي من المدينة بعد أربعة أشهر ، وقيل غير ذلك ، في سبع مائة راكب منهم أربع مائة من المهاجرين والأنصار ، منهم سبعون بدرياً ، وباقيهم من الصحابة ، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري ، فانتهى إلى الرَّبَذة بين الكوفة ومكة من طريق الجادة وفاته طلحة وأصحابه وقد كان عليٌّ أرادهم ، فانصرف حين فاتوه إلى العراق في طلبهم ، ولحق بعلي من أهل المدينة جماعة من الأنصار فيهم خُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأتاه من طيّئ ست مائة راكب .
وكاتَبَ علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفرالناس ، فثبطهم أبو موسى وقال إنما هي فتنة ، فنمي ذلك إلى علي عليه السلام ، فولَّى على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري ، وكتب إلى أبي موسى : اعتزل عملنا يا ابن الحائك مذموماً مدحوراً ، فما هذا أول يومنا منك ، وإن لك فينا لهنات وهنيات .
وسار علي بمن معه حتى نزل بذي قار ، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسرالى الكوفة يستنفران الناس ، فسارا عنها ومعهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف ، وقيل ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً ، معهم الأشتر ، فانتهى علي
--------------------------- 142 ---------------------------
إلى البصرة ، وراسل القوم وناشدهم الله ، فأبوا إلا قتاله ) .
وقال المفيد في الجمل / 130 : ( دعا هاشم بن عتبة المرقال وكتب معه كتاباً إلى أبي موسى الأشعري . . وتقدم نصه في رسائل الإمام عليه السلام وخطبه .
ثم أرسل ابنه الإمام الحسن عليه السلام وعمار بن ياسر مستنفرين لأهلها ، وكان في كتابه معهم : بسم الله الرحمن الرحيم . من علي بن أبي طالب إلى أهل الكوفة ، أما بعد فإني أخبركم من أمرعثمان حتى يكون أمره كالعيان لكم : إن الناس طعنوا عليه فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل عتابه ، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما إليه الوجيف ، وقد كان من عائشة فيه فلتة غضب ، فلما قتله الناس بايعاني غير مستكرهين طائعين مختارين ، وكان طلحة والزبيرأول من بايعني على ما بايعا به من كان قبلي ، ثم استأذناني في العمرة ولم يكونا يريدان العمرة ، فنقضا العهد وأذنا بالحرب ، وأخرجا عائشة من بيتها يتخذانها فتنة ، فسارا إلى البصرة واخترت المسير إليهم معكم . ولعمري ما إياي تجيبون ، إنما تجيبون الله ورسوله صلى الله عليه وآله ، والله ما قاتلتهم وفي نفسي شك . وقد بعثت إليكم ولدي الحسن وعماراً وقيساً مستنفرين لكم ، فكونوا عند ظني بكم . والسلام .
ولما نزل الحسن عليه السلام وعمار وقيس الكوفة ومعهم كتاب أمير المؤمنين عليه السلام ، قام فيهم الحسن عليه السلام فقال : أيها الناس قد كان من أمير المؤمنين عليه السلام ما يكفيكم جملته وقد أتيناكم مستنفرين لكم ، لأنكم جبهة الأنصار وسنام العرب ، وقد نقض طلحة والزبير بيعتهما ، وخرجا بعائشة وهي من النساء وضعف رأيهن كما قال الله تعالى : الرَّجِالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّسَاء ، أما والله لئن لم تنصروه لينصرنه الله ، يتبعه من المهاجرين والأنصار وسائر الناس ، فانصروا ربكم ينصركم .
ثم قام عمار بن ياسر فقال : يا أهل الكوفة إن كانت هانت عندكم الدنيا ، فقد انتهت إليكم أمورنا وأخبارنا ، إن قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس من قتله ، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجيهم فيه ، وقد كان طلحة والزبير أول من طعن عليه ، وأول
--------------------------- 143 ---------------------------
من أمر بقتله وسعى في دمه ، فلما قتل بايعا علياً طوعاً واختياراً ، ثم نكثا على غير حدث كان منه . وهذا ابن رسول الله وقد عرفتم أنه أنفذه إليكم يستنفركم ، وقد اصطفاكم على المهاجرين والأنصار .
ثم قام قيس بن سعد فقال : أيها الناس إن هذا الأمر لواستقبلنا به الشورى لكان علي أحق الناس به لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وآله وكان قتال من أبى ذلك حلالاً ، فكيف بالحجة على طلحة والزبير ، وقد بايعاه طوعاً ثم خلعا حسداً وبغياً ، وقد جاءكم علي في المهاجرين والأنصار ، ثم أنشأ يقول :
رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا * علياً وأبناء الرسول محمدِ
وقلنا لهم أهلاً وسهلاً ومرحباً * نمد يدينا من هدى وتودد
فما للزبير الناقض العهد حرمة * ولا لأخيه طلحة من يد
أتاكم سليل المصطفى ووصيه * وأنتم بحمد الله عارضة الندي
فمن قائم يرجى بخيل إلى الوغى * وضم العوالي والصفيح المهند
يسود من أدناه غير مدافع * وإن كان ما نقضيه غير مسود
فإن يك ما نهوى فذاك نريده * وإن نخط ما نهوى فغير تعمد
فلما فرغ القوم من كلامهم ، قام أبو موسى الأشعري فقال : أيها الناس إن تطيعوا الله بادياً وتطيعوني ثانياً ، تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، يأوي إليكم المضطر ويأمن فيكم الخائف ، إن علياً إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين ، وأنا أعلم بهذه الفتن ، إنها إذا أقبلت شبهت وإن أدبرت أسفرت ، وإن هذه الفتنة نافذة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب ، وتشتبك أحياناً فلا ندري ما تأتي .
أشيموا سيوفكم وقصروا رماحكم وقطعوا أوتاركم ، والزموا البيوت . خلوا قريشاً إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم بالأمرة ، ترتق فتقها
--------------------------- 144 ---------------------------
وتشعب صدعها ، فإن فعلت فلنفسها ، وإن أبت فعليها ماجنت ، سمنها في أديمها . إستنصحوني ولا تستغشوني يسلم لكم دينكم ودنياكم ، ويشقى بهذه الفتنة من جناها .
فقام زيد بن صوحان وكانت يده قطعت يوم جلولاء ، ثم قال : يا أبا موسى تريد أن ترد الفرات عن أدراجه ، إنه لا يرجع من حيث بدأ ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد . ويلك : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لايُفْتَنُونَ ، ثم قال : أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين وأطيعوا ابن سيد المرسلين ، وانفروا إليه أجمعون ، تصيبوا الحق وتظفروا بالرشد ، قد والله نصحتكم فاتبعوا رأيي ترشدون .
ثم قام عبد خير وقال لأبي موسى : أخبرني يا أبا موسى هل كان هذان الرجلان بايعا لعلي فيما بلغك وعرفت ؟ قال : نعم ، قال : فهل جاء علي عليه السلام بحدث يحل عقدة بيعته حتى ترد بيعته كما ردت بيعة عثمان ؟ قال أبو موسى : لا أعلم . قال له عبد خير : لا دريت ! نحن غير تاركيك حتى تدري حينئذ ! خبرني يا أبا موسى هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة التي تزعم أنها عمياء تحذر الناس منها ؟ أما تعلم أنها أربع فرق : علي عليه السلام بظهر الكوفة ، وطلحة والزبير بالبصرة ، ومعاوية بالشام ، وفرقة أخرى بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو .
فقال أبو موسى : الفرقة القاعدة عن القتال خير الناس . فقال عبد خير : غلبك عليك غشك يا أبا موسى ! فقام رجل من بجيلة فقال شعراً :
وحاجك عبد خير يا ابن قيس * فأنت اليوم كالشاة الربيض
فلا حقاً أصبت ولا ضلالاً * فأنت اليوم تهوي بالحضيض
أبا موسى نظرت برأي سوء * تؤول به إلى قلب مريض
وتهت فليس تفرق بين خير * ولا شر ولا سود وبيض
وتذكر فتنة شملت وفيها * سقطت وأنت ترزح بالجريض
قال : وبلغ أمير المؤمنين ما كان من أمر أبي موسى وتخذيله الناس عن نصرته ، فقام إليه مالك الأشتر رحمه الله فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد بعثت إلى الكوفة رجلاً قبل هذين
--------------------------- 145 ---------------------------
فلم أره أحكم شيئاً ، وهذان أخلق من بعثت أن ينشب بهم الأمرعلى غير ما تحب ، ولست أدري ما يكون ، فإن رأيت جعلت فداك أن تبعثني في أثرهم ، فإن أهل الكوفة أحسن لي طاعة ، وإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إلحق بهم على اسم الله ، فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة ، وقد اجتمع الناس بالمسجد الأعظم فأخذ لا يمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم وقال لهم : إتبعوني إلى القصر ، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس ، فاقتحم القصر وأبو موسى في المسجد الأعظم يخطب الناس ويثبطهم عن نصرة علي عليه السلام وهو يقول : أيها الناس هذه فتنة عمياء تطأ خطامها ، النائم فيها خيرمن القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي فيها خيرمن الساعي والساعي فيها خير من الراكب .
وعمار والحسن وقيس يقولون له : اعتزل عملنا لا أم لك ، وتنح عن منبرنا ، وأبو موسى يقول لعمار : هذه يدي بما سمعت من رسول الله يقول : ستكون بعدي فتنة ، القاعد فيها خيرمن القائم . فقال له عمار : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لك خاصة : ستكون فتنة أنت فيها يا أبا موسى قاعداً خير منك قائماً !
فبينا هم في الكلام إذ دخل غلمان أبي موسى ينادون : يا أبا موسى ، هذا الأشتر ! أخرج من المسجد . ودخل عليه أصحاب الأشتر فقالوا له : أخرج من المسجد يا ويلك ، أخرجَ الله روحك ، إنك والله لمن المنافقين ! فخرج أبو موسى وأنفذ إلى الأشتر أن أجلني هذه العشية . قال : قد أجلتك ولا تَبِتْ في القصرهذه الليلة واعتزل ناحية عنه ، ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى ، فأتبعهم الأشتر بمن أخرجهم من القصروقال لهم : إني أجلته ، فكف الناس عنه .
ثم صعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر جده النبي صلى الله عليه وآله فصلى عليه ، ثم ذكر فضل أمير المؤمنين عليه السلام وأنه أحق بالأمر من غيره ، وأن من خالفه على ضلال . ثم نزل . فصعد عمار فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال : أيها الناس إنا لما خشينا على هذا الدين أن يهدم جوانبه ، وأن يتعرى أديمه نظرنا
--------------------------- 146 ---------------------------
لأنفسنا ولديننا ، فاخترنا علياً عليه السلام خليفة ورضيناه إماماً ، فنعم الخليفة ونعم المؤدب ، مؤدب لا يُؤَدَّب وفقيه لايُعَلَّم ، وصاحب بأس لا ينكر ، وذو سابقة في الإسلام ليس لأحد من الناس غيره ، وقد خالفه قوم من أصحابه حاسدون له وباغون عليه ، وقد توجهوا إلى البصرة ، فأخرجوا إليهم رحمكم الله ، فإنكم لو شاهدتموهم وحاججتموهم ، تبين لكم أنهم ظالمون .
ثم خرج الأشتر رحمه الله وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إصغوا لي بأسماعكم ، وافهموا لي بقلوبكم ، إن الله عز وجل قد أنعم عليكم بالإسلام نعمة لا تقدرون قدرها ، ولا تؤدون شكرها ، كنتم أعداء يأكل قويكم ضعيفكم ، وينتهب كثيركم قليلكم ، وتنتهك حرمات الله بينكم والسبيل مخوف ، والشرك عندكم كثير ، والأرحام عندكم مقطوعة ، وكل أهل دين لكم قاهرون ، فمنَّ الله عليكم بمحمد صلى الله عليه وآله فجمع شمل هذه الفرقة ، وألف بينكم بعد العداوة ، وكثركم بعد أن كنتم قليلين ، ثم قبضه الله وحوله إليه ، فحوى بعده رجلان ثم ولي بعدهما رجل نبذ كتاب الله وراء ظهره ، وعمل في أحكام الله بهوى نفسه ، فسألناه أن يعتزل لنا نفسه فلم يفعل ، وأقام على إحداثه ، فاخترنا هلاكه على هلاك ديننا ودنيانا ، ولا يبعد الله إلا القوم الظالمين . وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكاناً ، وأعظمهم في الإسلام سهماً ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأفقه الناس في الدين ، وأقرئهم للكتاب ، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس ، وقد استنفركم فما تنتظرون : أسعيداً أم الوليد ؟ الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر وهو سكران ، واستباح ما حرمه الله فيكم ، أي هذين تريدون قبح الله من له هذا الرأي ، ألا فانفروا مع الحسن بن بنت نبيكم ، ولا يتخلف رجل له قوة ، فوالله ما يدري رجل منكم ما يضره وما ينفعه ، وإني لكم ناصح شفيق عليكم ، إن كنتم تعقلون أو تبصرون .
أصبحوا إن شاء الله غداً عادين مستعدين ، وهذا وجهي إلى ما هناك بالوفاء . ثم قام حجر بن عدي الكندي وقال : أيها الناس هذا الحسن بن أمير المؤمنين وهو من عرفتم ، أحد أبويه النبي صلى الله عليه وآله والآخر الإمام الرضي ، المأمون الوصي صلى الله عليهما ،
--------------------------- 147 ---------------------------
الذين ليس لهم شبيه في الإسلام ، سيد شباب أهل الجنة ، وسيد سادات العرب ، أكملهم صلاحاً ، وأفضلهم علماً وعملاً ، وهو رسول أبيه إليكم ، يدعوكم إلى الحق ويسألكم النصر .
السعيد من ودهم ونصرهم ، والشقي من تخلف عنهم بنفسه عن مواساتهم ، فانفروا معه رحمكم الله خفافاً وثقالاً ، واحتسبوا في ذلك الأجر ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . فأجاب الناس بأجمعهم بالسمع والطاعة .

وسارالإمام عليه السلام من الربذة إلى فيد قرب جبال طيئ

قال المفيد في كتاب الجمل / 140 : ( ولما سار عليه السلام من المدينة انتهى إلى فيد وكان قد عدل إلى جبال طيئ حتى سار معه عدي بن حاتم في ست مئة رجل من قومه ) .
وقال البلاذري ( 2 / 234 ) : ( ارتحل علي بن أبي طالب من الربذة حتى نزل بفيد ، فأتته جماعة طيئ ، ووجه ابنه الحسن بن علي ، وعمار بن ياسر إلى الكوفة لاستنفار أهلها ) .
وكان عدي بن حاتم رضي الله عنه في المدينة لما خرجت عائشة وطلحة والزبير على علي عليه السلام ، فبادر إلى طيئ يستنفرهم لنصرة الإمام عليه السلام .
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 55 ) : « ذكروا أن ابن حاتم قام إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، لو تقدمت إلى قومي أخبرهم بمسيرك وأستنفرهم ، فإن لك من طيئ مثل الذي معك . فقال علي : نعم فافعل ، فتقدم عدي إلى قومه فاجتمعت إليه رؤساء طيئ فقال لهم : يا معشر طيئ ، إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله في الشرك ، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردة ، وعلي قادم عليكم وقد ضمنت له مثل عدة من معه منكم ، فخفوا معه ، وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا فقاتلوا في الإسلام على الآخرة ، فإن أردتم الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ، وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة ، وقد ضمنت عنكم الوفاء وباهيت بكم الناس ، فأجيبوا قولي فإنكم أعز العرب داراً ، لكم فضل معاشكم
--------------------------- 148 ---------------------------
وخيلكم ، فاجعلوا أفضل المعاش للعيال وفضول الخيل للجهاد .
وقد أظلكم علي والناس معه من المهاجرين والبدريين والأنصار ، فكونوا أكثرهم عدداً ، فإن هذا سبيل للحي فيه الغنى والسرور ، وللقتيل فيه الحياة والرزق ، فصاحت طيئ : نعم نعم ، حتى كاد أن يصم من صياحهم » !
وروى المفيد في الأمالي / 295 ، عن الإمام الحسين عليه السلام قال : « لما توجه أمير المؤمنين من المدينة إلى الناكثين بالبصرة نزل الربذة ، فلما ارتحل منها لقيه عبد الله بن خليفة الطائي وقد نزل بمنزل يقال له قديد ، فقربه أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عبد الله : الحمد لله الذي رد الحق إلى أهله ووضعه في موضعه ، كره ذلك قوم أو سروا به ، فقد والله كرهوا محمداً عليه السلام ونابذوه وقاتلوه ، فرد الله كيدهم في نحورهم ، وجعل دائرة السوء عليهم . ووالله لنجاهدن معك في كل موطن حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وآله . فرحب به أمير المؤمنين عليه السلام وأجلسه إلى جنبه وكان له حبيباً وولياً ، وأخذ يسائله عن الناس ، إلى أن سأله عن أبي موسى الأشعري ، فقال : والله ما أنا أثق به ، ولا آمن عليك خلافه إن وجد مساعداً على ذلك .
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما كان عندي مؤتمناً ولا ناصحاً ، ولقد كان الذين تقدموني استولوا على مودته ، وولوه وسلطوه بالإمرة على الناس ، ولقد أردت عزله فسألني الأشتر فيه أن أقره فأقررته على كره مني له ، وتحملت على صرفه من بعد . قال : فهو مع عبد الله في هذا ونحوه ، إذ أقبل سواد كبير من قبل جبال طيئ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أنظروا ما هذا ؟ فذهبت الخيل تركض فلم تلبث أن رجعت فقيل : هذه طيئ قد جاءتك تسوق الغنم والإبل والخيل ، فمنهم من جاءك بهداياه وكرامته ، ومنهم من يريد النفور معك إلى عدوك . فقال أمير المؤمنين عليه السلام : جزى الله طيئاً خيراً : وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ، فلما انتهوا إليه سلموا عليه .
قال عبد الله بن خليفة : فسرني والله ما رأيت من جماعتهم وحسن هيئتهم ، وتكلموا فأقروا والله عيني ، ما رأيت خطيباً أبلغ من خطيبهم ، قام عدي بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأديت
--------------------------- 149 ---------------------------
الزكاة على عهده ، وقاتلت أهل الردة من بعده . أردت بذلك ما عند الله ، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى . وقد بلغنا أن رجالاً من أهل مكة نكثوا بيعتك وخالفوا عليك ظالمين ، فأتيناك لننصرك بالحق ، فنحن بين يديك فمرنا بما أحببت ، ثم أنشأ يقول :
ونحن نصرنا الله من قبل ذاكم * وأنت بحق جئتنا فستنصرُ
سنكفيك دون الناس طراً بأسرنا * وأنت به من سائر الناس أجدرُ
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : جزاكم الله من حي عن الإسلام وأهله خيراً ، فقد أسلمتم طائعين ، وقاتلتم المرتدين ، ونويتم نصر المسلمين .
وقام سعيد بن عبيد البحتري ، من بني بحتر ( بطن من طيئ ) فقال : يا أمير المؤمنين إن من الناس من يقدر أن يعبر بلسانه عما في قلبه ، ومنهم من لا يقدر أن يبين ما يجده في نفسه بلسانه ، فإن تكلف ذلك شق عليه ، وإن سكت عما في قلبه برح به الهم والبرم . وإني والله ما كل ما في نفسي أقدر أن أؤديه إليك بلساني ، ولكن والله لأجهدن على أن أبين لك والله ولي التوفيق : أما أنا فإني ناصح لك في السر والعلانية ، ومقاتل معك الأعداء في كل موطن ، وأرى لك من الحق ما لم أكن أراه لمن كان قبلك ، ولا لأحد اليوم من أهل زمانك ، لفضيلتك في الإسلام وقرابتك من الرسول صلى الله عليه وآله ، ولن أفارقك أبداً حتى تظفر أو أموت بين يديك .
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : يرحمك الله ، فقد أدى لسانك ما يجن ضميرك لنا ، ونسأل الله أن يرزقك العافية ، ويثيبك الجنة . وتكلم نفر منهم ، فما حفظت غير كلام هذين الرجلين ، ثم ارتحل أمير المؤمنين عليه السلام : فاتبعه منهم ست مائة رجل حتى نزل ذا قار ، فنزلها في ألف وثلاث مائة رجل » .
وقال ابن قتيبة في المعارف ( 1 / 56 ) : أقبل شيخ من طيئ قد هرم من الكبر ، فرفع له من حاجبيه فنظر إلى علي فقال له : أنت ابن أبي طالب ؟ قال : نعم . قال : مرحباً بك وأهلاً ، قد جعلناك بيننا وبين الله ، وعدياً بيننا وبينك ، ونحن بينه وبين الناس .
--------------------------- 150 ---------------------------
لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك ، لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله أيامك الصالحة ، ولئن كان ما يقال فيك من الخيرحقاً إن في أمرك وأمر قريش لعجباً ، إذ أخرجوك وقدموا غيرك ! سِرْ ، فوالله لا يتخلف عنك من طيئ إلا عبد أو دعي ، إلا بإذنك . فشخص معه من طيئ ثلاثة آلاف راكباً » .
أقول : في العبارة الأخيرة تصحيف ، لأن مقاتلي طيئ وجديلة في الحروب ثلاثة آلاف وكان جيش علي عليه السلام في حرب الجمل كله اثني عشر ألفاً . فرواية أمالي المفيد بأنهم ست مئة هي المعتمدة ، ويضاف إليهم طيئ الذين جاؤوا من الكوفة .

ثم سار الإمام عليه السلام إلى ذي قار وبقي فيها أسبوعين

قال الطبري ( 3 / 471 ) : ( وخرج فسار حتى نزل ذا قار ، وكان مسيره إليها ثمان ليال ومعه جماعة من أهل المدينة ) .
وقال في شرح النهج ( 2 / 187 ) : ( فحدث ابن إسحاق قال : نفر إلى علي عليه السلام إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبر ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً . وأقام علي بذي قار خمسة عشر يوماً ، حتى سمع صهيل الخيل ، وشحيح البغال حوله ) .
ونزل عليه السلام في المكان الذي بنوا فيه مقاماً ومسجداً باسمه عليه السلام ، ويقع اليوم في منطقة المنصورية غربي مدينة الناصرية ، وهو قرب مكان موقعة ذي قار التي كانت بين العرب والفرس ، في السنة الثانية للهجرة .
وفي كتاب الجمل للمفيد / 156 : ( ولما صار عثمان بن حنيف إلى ذي قار أقام بها مع أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو مريض يعالج حتى ورد على أمير المؤمنين عليه السلام أهل الكوفة ) .

أشاعوا أنه تأخر بذي قار لأنه خاف من جيش عائشة !

تقدم في رسالة عائشة إلى حفصة : ( أما بعد ، فإنا نزلنا البصرة ، ونزل علي بذي قار والله داقٌّ عنقه كدق البيضة على الصفا ! إنه بذي قار بمنزلة الأشقر ، إن تقدم نحر ، وإن تأخر عقر ! فلما وصل الكتاب استبشرت ودعت صبيان بني تيم وعدي ، وأعطت
--------------------------- 151 ---------------------------
جواريها دفوفاً وأمرتهن أن يضربن بالدفوف ويقلن : ما الخبر ما الخبر ! عليٌّ كالأشقر ! إن تقدم نحر ! وإن تأخر عقر ! فبلغ أم سلمة . . الخ .

وأصيب الزبير بالغرور ثم أصيب بالتخبط

وفي الجمل للمفيد / 154 : ( أمرت عائشة الزبيرأن يستنفر الناس إليه ، فخطبهم الزبير وأمرهم بالجد والاجتهاد ، وقال لهم : إن عدوكم قد أظلكم ، والله لئن ظفر بكم لا ترك بكم عيناً تطرف ، فانهضوا إليه حتى نكبس عليه قبل أن تلحقه أنصاره ، وقال لهم : إمضوا فخذوا أعطيتكم ، فلما رجع إلى منزله قال له ابنه عبد الله : أمرت الناس أن يأخذوا أعطيتهم ليتفرقوا بالمال قبل أن يأتي علي بن أبي طالب فتضعف ، بئس الرأي الذي رأيت ! فقال له الزبير : أسكت ويلك ما كان غير الذي قلت . فقال طلحة : صدق عبد الله وما ينبغي أن يسلَّم هذا المال حتى يقرب منا علي فنضعه في موضعه فيمن يدفعه عنا . فغضب الزبير وقال : والله لو لم يبق إلا درهم واحد لأعطيته فلامته عائشة على ذلك ، ووافق رأيها برأي الرجلين ، فقال الزبير : والله لتدَعوني أو ألحق بمعاوية فقد بايع [ لي ] في الشام الناس . فأمسكوا عنه !
وفي الطبري ( 3 / 492 ) وفتح الباري ( 12 / 67 ) : ( عن قتادة ، عن أبي عمرة مولى الزبير قال : لما بايع أهل البصرة الزبيروطلحة قال الزبير : ألا ألفُ فارس أسير بهم إلى علي ، فإما بيتُّه وإما صبحته ، لعلي أقتله قبل أن يصل إلينا ؟ فلم يجبه أحد فقال : إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها ! فقال له مولاه : أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟ قال : ويحك إنا نبصر ولا نبصر ! ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه غير هذا الأمر ، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر !
فقال له ابنه عبد الله : والله ما بك هذا وإنما تتعامى ، فما يحملك على هذا القول إلا أنك أحسست برايات ابن أبي طالب قد أظلت وعلمت أن الموت الناقع تحتها ، فقال له : أعزب ويحك ، فإنك لا علم لك بالأمور !
وروى الحرث بن الفضل عن أبي عبد الله الأغر ، أنالزبير بن العوام قال لابنه
--------------------------- 152 ---------------------------
يومئذ : ويلك لا تدعُنا على حال ، أنت والله قطعت بيننا وفرقت ألفتنا بما بليت به من هذا المسير . وما كنتُ مبالياً من ولي هذا الأمر وقام به ، فما أصنع بهذا المسير وضرْب الناس بعضهم ببعض ! فقال عبد الله ابنه : أفتدع علياً يستولي على الأمر ؟ [ قال ] : أنت تعلم أنه كان أحسن أهل الشورى عند عمر بن الخطاب ؟ ولقد أشار عمر وهو مطعون يقول لأهل الشورى : ويلكم ، أطمعوا علياً فيها لايفتق في الإسلام فتقاً عظيماً ، ومنُّوه حتى تُجمعوا على رجل سواه .
وفي الدر النظيم لابن حاتم ( 1 / 343 ) : ( أقام علي عليه السلام بذي قار ينتظرمن يقدم عليه ، فأشاع طلحة والزبير أنه إنما أقام للذي بلغه من جدنا وعددنا وعدتنا ، وتباشروا بذلك ، فكتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر كتاباً . . . وقد ذكرنا خبره .
ولما نزل عليه السلام بذي قار في قلة من الناس ، صعد الزبير منبرالبصرة وقال : ألا ألف فارس أوخمس مائة فارس أسيربهم إلى علي لعلي آتيه بياتاً أو أصبحه صباحاً قبل أن يأتيه مدده من الكوفة . فلم يجبه أحد ، فنزل وهو يقول : هذه والله الفتنة التي كنا نتحدث بها ! فقال له مولى : رحمك الله أبا عبد الله تسميها الفتنة ثم تقاتل فيها ! فقال له الزبير : ويحك والله انا لنبصر ولكنا لا نبصر ! فاسترجع المولى ، فلما كان من الليل لحق بعلي عليه السلام بذي قار فأخبره الخبر ، فضحك وقال : اللهم عليك به . ثم إن طلحة أتى الزبير في منزله وعنده مروان بن الحكم ، فقال له : يا أبا عبد الله إن علياً رجل مستخف وهولأمرنا محتقر فلوأصبتُ ست مائة فارس ألقاه فيهم . فضحك مروان وطمع فيها فقال : والله يا أبا محمد لقد استطاب هذا منك ، ولو كان علي مكانك لم يبدها حتى ينتهزها منك . قال الزبير : أخرجتم والله الرأي ، أمِن ابن أبي طالب تُصاب الفرصة ! أو مثلك يصبح مفقوداً يقال فيه الأقاويل ! إلقه كما يلقاك . قال طلحة : ما الرأي إلا رأي مروان .
فخرج طلحة ليلاً فإذا غلام من بني تميم إلى جانب منزله وهو يقول :
يا طلحُ يا ابن عبيد الله ما ظفرت * كفاك إن رمت في عرنينه أسدا
--------------------------- 153 ---------------------------
لا تطمع اليوم مرواناً وصحبته * في تلك منك ولا تندب لها أحدا
أو قل لمروان رمها من أبي حسن * إن كنت تطلب منه غِرَّةً أبدا
فإن أجاب فقد تمت نصيحته * أو لايجبك فقد أبدى لك الحسدا
إني رأيت علياً من يبارزه * عين اليقين تزايل روحه الجسدا
ليثاً متى ما يزر يوماً بغيطلة * تلق الأسود له من زأره بددا
قد جاش في الليل من قوم مجاهرة * والأوس والخزرج البحران قد حشدا
فالْبُد بأرضك حتى تستحلهم * إن الخمول لهذا الأمر من لبدا ) .
وقال المفيد في الجمل / 156 : ( روى الواقدي عن عامر بن كليب ، عن أبيه قال : لما قتل عثمان ما لبثنا إلا قليلاً حتى قدم طلحة والزبير البصرة ، ثم ما لبثنا بعد ذلك إلا يسيراً حتى أقبل علي بن أبي طالب بذي قار ، فقال شيخان من الحي : إذهب بنا إلى هذا الرجل فلننظر ما يدعو إليه . فلما أتيناه قدمنا على أذكى العرب فوالله لدخل على نسب قومي فجعلت أقول هو أعلم به مني وأطوع فيهم ، فقال : مَن سيد بني راسب ؟ فقلت : فلان ، قال : فمن سيد بني قدامة ؟ قلت : فلان لرجل آخر ، فقال : أنت مبلغهما كتابين مني ؟ قلت : نعم . قال : أفلا تبايعوني ؟ فبايعه الشيخان اللذان كانا معي ، وتوقفت عن بيعته فجعل رجال عنده قد أكل السجود وجوههم يقولون : بايع بايع ، فقال : دعوا الرجل ، فقلت : إنما بعثني قومي رائداً وسأنهي إليهم ما رأيت ، فإن بايعوا بايعت وإن اعتزلوا اعتزلت . فقال لي : أرأيت لو أن قومك بعثوك رائداً فرأيت روضة وغديراً فقلت يا قومي : النجعة النجعة فأبوا ، ما كنت بمستنجع بنفسك ؟ فأخذت بإصبع من أصابعه فقلت : أبايع على أن أطيعك ما أطعت الله ، فإذا عصيته فلا طاعة لك علينا ، فقال : نعم ، وطول صوته ، فضربت على يده .
ثم التفت إلى محمد بن حاطب وكان من ناحية القوم فقال : إذا انطلقت إلى
--------------------------- 154 ---------------------------
قومك فأبلغهم كتبي وقولي . فتحول إليه محمد حتى جلس بين يديه فقال : إن قومي إذا أتيتهم يقولون ما يقول صاحبك في عثمان ، فسب عثمان الذين حوله فرأيت علياً قد كره ذلك حتى رشح جبينه وقال : أيها القوم كفوا ، ما إياكم يسأل ولاعنكم ساءل ، قال : فلم أبرح عن العسكر حتى قدم على علي أهل الكوفة فجعلوا يقولون تُرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا !
وجعلوا يضحكون ويعجبون ويقولون : والله لو التقينا لتعاطينا الحق ، كأنهم يرون أنهم لايقتتلون . وخرجت بكتاب علي عليه السلام فأتيت أحد الرجلين فقبل الكتاب وأجابه ، ودللت على الآخر وكان متوارياً فلو أنهم قالوا له كليب ما أذن لي ، فدخلت عليه ودفعت الكتاب إليه وقلت : هذا كتاب علي وأخبرته الخبر وقلت : إني أخبرت علياً أنك سيد قومك ، فأبى أن يقبل الكتاب ، ولم يجبه إلى ما سأله وقال : لا حاجة لي اليوم في السؤدد ! فوالله إني لبالبصرة ما رجعت إلى علي حتى نزل العسكر ، ورأيت الغر الذين مع علي عليه السلام وطلع القوم ) .
ورواه عبد الرزاق ( 8 / 703 ) برواية فيها تصحيف وفي آخرها : ( فوالله ما رجعت إلى علي حتى إذا العسكران قد تدانيا فاستبَّ عبدانهم ، فركب القراء الذين مع علي حين أطعن القوم . وما وصلت إلى علي حتى فرغ القوم من قتالهم ) .
وفي الدر النظيم لابن حاتم ( 1 / 339 ) : ( قال عبد الله بن جنادة : أقبلت مع علي من المدينة حتى انتهينا إلى الربذة ونزلنا بها ، فلما خرج علي عليه السلام منها متوجهاً إلى ذي قار قلت في نفسي : ألا أمضي مع هذا الرجل القريب القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله الفقيه في دين الله ، الحسن البلاء ، لعل الله أن يأجرني ، فخرجت معه على غير طمع ولا ديوان ، فما سرت يوماً واحداً حتى لحق بنا المحاربي ، فسألته عما جاء به ، فحدثني أنه جاء به الذي جاء بي ، فقلت له : هل لك في الصحبة والمرافقة ؟ قال : نعم ، فوالله ما صحبت من الناس أحداً قط كان خير صحبة منه ولامرافقة ، فانتهينا إلى ماء من مياه العرب فعرضت علينا غنم نشتريها ، فاشتريت أنا وصاحبي في رجال معنا كبشاً
--------------------------- 155 ---------------------------
سميناً ، واشترى طائفة أخرى من تلك الغنم ، فوقع لي ولصاحبي كبش ساج ، واشترى آخرون من أصحابنا كبشاً سميناً . فقال قائل من القوم لم أعرفه : إن كبشنا هذا طلحة وكبشكم الزبير فاذبحوهما يرح الله منهما الأمة ، ثم وثب على كبشه فذبحه ، ووثب بعض أصحابنا على كبشنا فذبحه . فقال المحاربي : بالله ما رأيت عجباً كاليوم قط ! أي أخي ، إسمع مني ما أقول لك ، والله ما نرجع من وجهنا هذا حتى يقتل الرجلان . فقال رجل من ناحية القوم : صدق قولك ، وسعد طائرك ، قُتلا ) .

وصل اليه خبر شهادة حكيم بن جبلة رضي الله عنه

( وصل خبر مقتل حكيم بن جبلة إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو في ذي قار ( والصحيح الربذة ) فقرأ قوله تعالى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، ثم قام على غرائرالأحمال فقال : إنه أتاني خبر فظيع ونبأ جليل ، أن طلحة والزبير وردا البصرة فوثبا على عاملي فضرباه ضرباً مبرحاً ، وتُرك لا يُدرى أهو حيٌّ أم ميِّت ! وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في عدة من رجال مسلمين صالحين ، لقوا الله موفين ببيعتهم ماضين على حقهم ، وقتلا السبابجة خزان بيت المال للمسلمين ، قتلوا منهم طائفة صبراً وأخرى غدراً ! فبكى الناس بكاءاً شديداً .
وأتاه خبر ربيعة وخروج عبد القيس ونزولهم على الطريق ينتظرونه ليلحقوا به فقال عليه السلام : عبد القيس خير ربيعة ، وفي كل ربيعة خير ) . ( موسوعة اليوسفي : 4 / 548 )

أخبر أصحابه بالنصر وبعدد من يأتيه من الكوفة

روى الفضل في الإيضاح / 452 ، والطوسي في الأمالي / 113 : ( عن المنهال بن عمرو الأسدي قال : أخبرني رجل من بني تميم قال : نزلنا مع علي ذا قار ونحن نرى أنا سنختطف من يومنا ، فقال : والله لتَظْهَرُن على هذه القرية ولتَقْتُلُن هذين الرجلين يعني طلحة والزبير ، ولتستبيحن عسكرهما . فقال التميمي : فأتيت
--------------------------- 156 ---------------------------
ابن عباس فقلت : أما ترى ابن عمك ما يقول ! والله ما نرى أن نبرح حتى نختطف من يومنا ! فقال ابن عباس : لا تعجل حتى ننظرما يكون . فلما كان من أمر البصرة ما كان أتيته فقلت : لا أرى ابن عمك إلا قد صدق ، فقال : ويحك إنا كنا نتحدث أصحاب محمد أن النبي صلى الله عليه وآله عهد إليه ثمانين عهداً ، ولعل هذا مما عهد إليه ) .
[ قال الفضل ] : فهذا الدليل على أنه لم يَقتل من قَتل ، ولم يجرد السيف في المسلمين إلا بعهد عهده إليه رسول الله صلى الله عليه وآله ، إلا أنكم أردتم أن تلزموه الخطأ في الأمر العظيم وتصرفون ذلك عن غيره ، تعدياً وظلماً وجرأةً على الله ! فبعداً للقوم الظالمين ) .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 157 : ( عن الأجلح عن زيد بن علي قال : لما أبطأ على علي عليه السلام خبر أهل البصرة وكنا في فلاة ، قال عبد الله بن عباس : فأخبرت علياً بذلك فقال لي : أسكت يا ابن عباس فوالله ليأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف وست مائة رجل ، وليُغلبن أهل البصرة ، وليُقتلن طلحة والزبير ! فوالله إني استشرف الأخبار وأستقبلها حتى أتى راكب فاستقبلته واستخبرته فأخبرني بالعدة التي سمعتها من علي عليه السلام لم تنقص برجل واحد ) !
وأخرج الطبراني ( 10 / 305 ) : « عن الأجلح بن عبد الله . . نحوه وفيه : قال ابن عباس : فوقع ذلك في نفسي ، فلما أتى أهل الكوفة خرجت فقلت لأنظرن فإن كان كما تقول فهو أمر سمعه ، وإلا فهي خديعة حرب . قال ابن عباس : وهو مما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره » .
وفي شرح النهج ( 2 / 187 ) : ( عن أبي صالح . . قال ابن عباس : فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله ، وقلت في نفسي : والله إن قدموا لأعدنهم ! فإن كانوا كما قال ، وإلا أتممتهم من غيرهم ، فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله !
قال : فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلاً ، ولا ينقصون رجلاً ، فقلت : الله أكبر ! صدق الله ورسوله ! ثم سرنا ) .
وفي الملاحم لابن طاووس / 234 : ( قال ابن عباس : فأتيت علياً وقلت : ألا ترى أن
--------------------------- 157 ---------------------------
الناس قد فشا فيهم هذا الكلام ؟ إنما نحن أكلة رأس ، نسير إلى مائة ألف كلهم يقاتل عن دم عثمان ، فخطب الناس عند ذلك فقال في خطبته : والذي نفسي بيده ليقتلن طلحة والزبير ، وليهزمن أهل البصرة ، وليخرجن إليكم من أهل الكوفة ستة آلاف وست مائة ) .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 512 ) : ( عن أبي الطفيل قال : فقعدت على نجفة ذي قار فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ، ولا نقصوا رجلاً .
عن أبي ليلى قال : خرج إلى علي اثنا عشرألف رجل وهم أسباع ، على قريش وكنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي ، وسبع قيس عليهم سعد بن مسعود الثقفي ، وسبع بكر بن وائل وتغلب عليهم وعلة بن مخدوج الذهلي ، وسبع مذحج والأشعرين عليهم حجر بن عدي ، وسبع بجيلة وأنمار وخثعم والأزد ، عليهم مخنف بن سليم الأزدي ) .
أقول : اختلط على الراوي عدد جيش الإمام عليه السلام في البصرة ، بمن جاء من الكوفة .

وأخبر الإمام عليه السلام أنه سيأتيه ألف رجل يبايعونه على الموت

قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 315 ) : ( قال عليه السلام لابن عباس : إن الله تعالى سيرد كيدهما ويظفرني بهما . فكان الأمر كما قال . وقال عليه السلام بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة : يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل ، لا يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً ، يبايعوني على الموت ! قال ابن عباس : فجزعت لذلك ، وخفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدوا عليه فيفسد الأمر علينا ، ولم أزل مهموماً دأبي إحصاء القوم حتى ورد أوائلهم فجعلت أحصيهم ، فاستوفيت عددهم تسع مائة رجل وتسعة وتسعين رجلاً ، ثم انقطع مجئ القوم ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا حمله على ما قال ؟ فبينا أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصاً قد أقبل حتى دنا فإذا هو راجل عليه قباء صوف معه سيفه وترسه وإداوته ، فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : أمدد يدك أبايعك ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : وعلى مَ تبايعني ؟ قال : على السمع والطاعة
--------------------------- 158 ---------------------------
والقتال بين يديك حتى أموت أو يفتح الله عليك ! فقال له : ما اسمك ؟ قال : أويس ، قال : أنت أويس القرني ؟ قال : نعم ، قال : الله أكبر ، أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله أني أدرك رجلاً من أمته يقال له أويس القرني ، يكون من حزب الله ورسوله ، يموت على الشهادة ، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر . قال ابن عباس : فسُرِّيَ عني ) .
وفي خصائص الأئمة عليهم السلام للشريف الرضي / 53 : ( عن الأصبغ بن نباتة قال : كنت مع أمير المؤمنين بصفين فبايعه تسعة وتسعون رجلاً ، ثم قال : أين تمام المائة ؟ فقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله أنه يبايعني في هذا اليوم مائة رجل ! قال فجاء رجل عليه قباء صوف متقلد سيفين فقال : هلم يدك أبايعك . فقال : على مَ تبايعني ؟ قال : على بذل مهجة نفسي دونك ! قال : ومن أنت ؟ قال : أويس القرني ، فبايعه فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قتل ، فوجد في الرجالة مقتولاً ) .
ملاحظات
1 . هذا يدل على فقه أويس رضي الله عنه ، وأنه ملهمٌ من الله تعالى ، لأنه قال في بيعته لأمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل : ( على السمع والطاعة والقتال بين يديك حتى أموت ، أو يفتح الله عليك ) فكان الفتح . بينما قال يوم صفين : ( على بذل مهجة نفسي دونك ) ولم يذكر الفتح . ( راجع سيرة أويس القرني في أول المجلد الرابع من كتابنا : العقائد الإسلامية ) .
2 . يظهر أن مبايعة الألف على الموت كانت في ذي قار ، أما مبايعة المئة فنرجح أنها كانت ليلة السابع من معركة الجمل ، يوم نشر راية رسول الله عليه السلام ونزل النصر .
3 . وقد تفاوتت روايتهم في عدد من أتى من الكوفة ، بين اثني عشر ألفاً وخمسة آلاف وست مئة ، وستة آلاف وست مئة . ويرجع التفاوت إلى ضعف حفظ الرواة .
لكنه لا يضر بأصل المطلب وهو أن الإمام عليه السلام أخبر بعددهم ، فكان الأمر كما أخبر ، لأن علمه من علم رسول الله صلى الله عليه وآله .
4 . ذكرت الروايات خوف ابن عباس أن لا يأتي العدد الذي أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام
--------------------------- 159 ---------------------------
فقال مرة : فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله ! وقال : لماذا قال ذلك أمير المؤمنين ! وقال مرة : إذا نقص عددهم عما قاله أكملتهم من غيرهم ! وهذا من ضعف يقينه ، وفي نفس الوقت من حرصه على إنجاح خلافة ابن عمه لأنه من بني هاشم !
وفي الدر النظيم ( 1 / 346 ) : ( قال ابن عباس : لما نزلنا بذي قار مع أمير المؤمنين قلت له : يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فما أظن . فقال : والذي بعث محمداً بالحق لتأتيني منهم ستة آلاف وخمس مائة وستون رجلاً لا يزيدون ولا ينقصون رجلاً ! قال : فدخلني من ذلك شك شديد وعظم عليَّ فقلت في نفسي : والله لئن قدموا لأعدنهم ! فلما وردوا قعدت على الجسرلاعتبار ما قاله علي عليه السلام فوجدتهم كما قال ستة آلاف وخمس مائة وستين رجلاً لا يزيدون ولا ينقصون ، فعجبت من ذلك وذكرته لعلي عليه السلام وسألته : من أين علم ذلك ؟ فذكر أن النبي صلى الله عليه وآله أخبره بذلك » .
وفي شرح النهج ( 2 / 187 ) : ( حدث ابن إسحاق قال : أقام علي بذي قار خمسة عشر يوماً ، حتى سمع صهيل الخيل وشحيح البغال حوله . قال : فلما سار بهم منقلةً قال ابن عباس : والله لأعدنهم ، فإن كانوا كما قال وإلا أتممتهم من غيرهم ) !
أقول : هذا من ضعف يقينه رحمه الله . وقوله : وإلا أتممتهم من غيرهم ، حيلة لا يحسن أن تصدر منه ، وحرص منه على إنجاح خلافة علي ، لأنه من قبيلته بني هاشم !
ولابن عباس كثير أمثالها ، ولهذا نعده شيعياً بالمعنى العام وليس الخاص ! ولو كان ميثم التمار أو المقداد أو رشيد الهجري وأمثالهم رضوان الله عليهم ، لما شكوا في قول أمير المؤمنين عليه السلام لأنهم على يقين بأنه معصوم مفترض الطاعة ، مؤيد من الله تعالى ، وعلمه من النبي صلى الله عليه وآله ، ومن عطاء ربه مباشرة .
5 . نلاحظ أن أمير المؤمنين عليه السلام اهتم بقول بعض أصحابه بأنهم قلة وأعداؤهم كثرة ، والقائل ابن عباس ! فبادر عليه السلام إلى الخطبة لتقوية عزيمتهم ، وأخبرهم بالنصر ، ثم أخذ منهم البيعة ، أي التعهد بطاعته ونصرته والقتال معه .
--------------------------- 160 ---------------------------

وصول جيش أمير المؤمنين عليه السلام من الكوفة وخطبته فيهم

قال الطبري ( 3 / 501 ) : ( تلقاهم عليٌّ في أناس فيهم ابن عباس ، فرحب بهم وقال : يا أهل الكوفة ، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم ، وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم ، فأغنيتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم ، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة ، فإن يرجعوا فذاك ما نريد ، وإن يَلِجُّوا داويناهم بالرفق وبايناهم حتى يبدأونا بظلم ، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد ، إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله .
فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان ، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرون مرور عليٍّ بهم وهم آلاف . وفي الماء ألفان وأربع مائة ) .
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 249 ) : ( وقد روى عبد الحميد بن عمران العجلي ، عن سلمة بن كهيل قال : لما التقى أهل الكوفة وأمير المؤمنين عليه السلام بذي قار ، رحبوا به وقالوا : الحمد لله الذي خصنا بجوارك وأكرمنا بنصرتك . فقام أمير المؤمنين عليه السلام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين ، وأقصدهم تقويماً ، وأعدلهم سنة ، وأفضلهم سهماً في الإسلام ، وأجودهم في العرب مركباً ونصاباً . أنتم أشد العرب وُدّاً للنبي ولأهل بيته . وإنما جئتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبيروخلعهما طاعتي ، وإقبالهما بعائشة للفتنة ، وإخراجهما إياها من بيتها حتى أقدماها البصرة ، فاستغووا طغامها وغوغاءها ، مع أنه قد بلغني أن أهل الفضل منهم وخيارهم في الذين قد اعتزلوا ، وكرهوا ما صنع طلحة والزبير . ثم سكت عليه السلام فقال أهل الكوفة : نحن أنصارك وأعوانك على عدوك ، ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير ، ورجوناه .
فدعا لهم أمير المؤمنين عليه السلام وأثنى عليهم ، ثم قال : قد علمتم معاشر المسلمين أن طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين ، ثم استأذناني في العمرة فأذنت لهما ، فسارا إلى البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنكر . اللهم إنهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألبا
--------------------------- 161 ---------------------------
الناس علي ، فاحلل ما عقدا ، ولا تحكم ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما فعلا ) .
وقال البلاذري ( 2 / 262 ) : ( عن ابن الحنفية . . فاستنفرا أهل الكوفة ، فنفرمعهما تسعة آلاف وكنا عشرة آلاف إلا مائة ، ولحقنا من أهل البصرة من عبد القيس قريب من ألفين ، فكنا اثني عشر ألفاً إلا مائة ) . وهي الرواية الأكثر معقولية .
وقال البلاذري ( 2 / 34 ) : ( قال أبو مخنف وغيره : وكانوا يدعون في خلافة عثمان وعلي أسباعاً ، حتى كان زياد بن أبي سفيان فصيرهم أرباعاً ، فكانت همدان وحمير سبعاً ، عليهم سعيد بن قيس الهمداني ، ويقال بل أقام سعيد بالكوفة وكان على السبع غيره وإقامته بالكوفة أثبت . وكانت مذحج والأشعريون سبعاً ، عليهم زياد بن النضر الحارثي ، إلا أن عدي بن حاتم ، كان على طيئ مفرداً ، دون صاحب سبع مذحج والأشعرين . وكانت قيس عيلان وعبد القيس سبعاً ، عليهم سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد الثقفي . وكانت كندة وحضرموت وقضاعة ومهرة سبعاً ، عليهم حجر بن عدي الكندي . وكانت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار سبعاً ، عليهم مخنف بن سليم الأزدي . وكانت بكر بن وائل وتغلب وسائر ربيعة غير عبد القيس سبعاً ، عليهم ابن مخدوج الذهلي . وكانت قريش وكنانة وأسد وتميم وضبة والرباب ومزينة سبعاً ، عليهم معقل بن قيس الرياحي . فشهد هؤلاء الجمل وصفين والنهر ، وهم هكذا ) .
وقال ابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 461 ) : ( ونفر من أهل الكوفة تسعة آلاف ومائتا رجل ، فأخذ بعضهم في البر وبعضهم في البحر حتى قدموا على علي بن أبي طالب ، فاستقبلهم علي رضي الله عنه ورحب بهم وأدناهم وحياهم . . قال : فاجتمع الناس بذي قار مع علي بن أبي طالب ستة آلاف من أهل المدينة وأهل مصر وأهل الحجاز وتسعة آلاف من أهل الكوفة ، وجعل الناس يجتمعون حتى صاروا في تسعة عشر ألف رجل من فارس وراجل ، وسار علي رضي الله عنه عن ذي قار
--------------------------- 162 ---------------------------
يريد البصرة في جميع أصحابه والناس يتلاحقون به من كل أوب ) .
أقول : تفاوتت الرواية في عدد جيش أمير المؤمنين عليه السلام وعدد جيش عائشة ، وعدد قتلى حرب الجمل ، بسبب تفاوت دقة الرواة ومصادرهم ، وقد ذكرنا أن عدد جيش أمير المؤمنين عليه السلام الذين وزع عليهم العطاء في البصرة كان اثني عشر ألفاً .
أما جيش عائشة فأوصلته بعض الروايات إلى مئة وعشرين ألفاً ، وقد روى أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله أنه يقتل ثلثهم ويهرب ثلثهم ويتوب ثلثهم ، وكان القتلى أكثر من عشرين ألفاً ، والقتلى من جيش علي عليه السلام دون الألفين .

من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وكلماته في ذي قار

فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً !

قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 249 ) : ( ولما نزل بذي قار أخذ البيعة على من حضره ، ثم تكلم فأكثر من الحمد لله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال :
( قد جرت أمور صبرنا فيها وفي أعيننا القذى ، تسليماً لأمرالله تعالى فيما امتحننا به ، رجاء الثواب على ذلك ، وكان الصبرعليها أمثل من أن يتفرق المسلمون وتسفك دماؤهم . نحن أهل بيت النبوة ، وأحق الخلق بسلطان الرسالة ، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الأمة . وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة ، ولا من ذرية الرسول ، حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر ، فلم يصبرا حولاً واحداً ، ولا شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما ، ليذهبا بحقي ، ويفرقا جماعة المسلمين عني ! ثم دعا عليهما ) !
وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما !
في شرح النهج ( 1 / 309 ) : ( عن زيد بن صوحان ، قال : شهدت علياً عليه السلام بذي قار وهو معتم بعمامة سوداء ، ملتف بساجٍ ( أخضر ) يخطب فقال في خطبته : الحمد لله على كل أمر وحال ، في الغدو والآصال ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ،
--------------------------- 163 ---------------------------
ابتعثه رحمةً للعباد ، وحياةً للبلاد ، حين امتلأت الأرض فتنة ، واضطرب حبلها ، وعبد الشيطان في أكنافها ، واشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها ، فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها ، وأخمد به شرارها ، ونزع به أوتادها ، وأقام به ميلها إمام الهدى ، والنبي المصطفى صلى الله عليه وآله ، فلقد صدع بما أمر به ، وبلغ رسالات ربه ، فأصلح الله به ذات البين ، وآمن به السبل ، وحقن به الدماء ، وألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور ، حتى أتاه اليقين ، ثم قبضه الله إليه حميداً .
ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده ، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده ، ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم ونلتم منه ، حتى إذا كان من أمره ما كان ، أتيتموني لتبايعوني فقلت : لا حاجة لي في ذلك ودخلت منزلي فاستخرجتموني ، فقبضت يدي فبسطتموها ، وتداككتم عليَّ حتى ظننت أنكم قاتليَّ وأن بعضكم قاتل بعض ، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ، ولا جذل . وقد علم الله سبحانه أني كنت كارهاً للحكومة ، بين أمة محمد صلى الله عليه وآله ولقد سمعته يقول : ما من والٍ يلي شيئاً من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عنقه على رؤوس الخلائق ثم ينشر كتابه ، فإن كان عادلاً نجا ، وإن كان جائراً هوى . حتى اجتمع عليَّ ملؤكم وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في أوجههما والنكث في أعينهما ، ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان ، فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها ، وشخص معهما أبناء الطلقاء ، فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين ، وفعلوا المنكر !
ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليَّ ! هما يعلمان أني لست دون أحدهما ، ولو شئت أن أقول لقلت ، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه فكتماه عني ، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان ، والله ما أنكرا عليَّ منكراً ، ولا جعلا بيني وبينهم نصفاً ، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما ! يا خيبة الداعي إلى مَ دعا ، وبما ذا أجيب !
--------------------------- 164 ---------------------------
والله إنهما لعلى ضلالة صماء ، وجهالة عمياء ، وإن الشيطان قد ذمر لهما حزبه ، واستجلب منهما خيله ورجله ، ليعيد الجور إلى أوطانه ، ويرد الباطل إلى نصابه .
ثم رفع يديه فقال : اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني وألَّبا عليَّ ونكثا بيعتي ، فاحلل ما عقدا ، وانكث ما أبرما ، ولا تغفر لهما أبداً ، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا ! قال أبو مخنف : فقام إليه الأشتر فقال : الحمد لله الذي منَّ علينا فأفضل ، وأحسن إلينا فأجمل ، قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين ، ولقد أصبت ووفقت ، وأنت ابن عم نبينا وصهره ووصيه ، وأول مصدق به ومصل معه ، شهدت مشاهده كلها ، فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة ، فمن اتبعك أصاب حظه واستبشر بفلجه ، ومن عصاك ورغب عنك ، فإلى أمه الهاوية ! لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل ، ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه ، وفارقا على غير حدث أحدثت ، ولا جور صنعت ، فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألَّب عليه وأغرى الناس بدمه ! وأشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان فإن سيوفنا في عواتقنا وقلوبنا في صدورنا ، ونحن اليوم كما كنا أمس . ثم قعد ) .

من خطبة له عليه السلام أجاب فيها طلحة

في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 423 : قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له ( وكان طلحة قام خطيباً فقال : يا أيها الناس إنا أخطأنا في أمرعثمان خطيئة لايخرجنا منها إلا الطلب بدمه ! وعلي قاتله وعليه القود ، وقد نزل ذا قار مع نساجي اليمن وقصابي ومنافقي مصر .
فلما بلغني ذلك كتبت إليه أناشده بحق محمد صلى الله عليه وآله : ألست أتيتني في أهل مصر ، وقد حصروا عثمان فقلت : إنهض بنا إلى هذا الرجل ، فإنا لا نستطيع قتله إلا بك ألا تعلم أنه سيَّر أبا ذر ، وفتق بطن عمار ، وآوى الحكم بن العاص طريد رسول الله ، واستعمل الفاسق في كتاب الله الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد ضرب في الخمر ، وسلط خالد بن الوليد على عرفطة العذري ، وأنحى على كتاب الله يحرفه ويحرقه !
--------------------------- 165 ---------------------------
فقلت : لا أرى قتله اليوم . وأنت اليوم تطلب بدمه ! معكما عمرو وسعيد فخليا عنهما يطلبان بدم أبيهما ، متى كانت أسد وتيم أولياء دم بني أمية ) !

خطبته عليه السلام لما أراد المسير من ذي قار إلى البصرة

قال المفيد في كتاب الجمل / 144 : ( لما أراد عليه السلام المسير من ذي قار تكلم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( إن الله عز وجل بعث محمداً للناس كافة ورحمة للعالمين ، فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه ، فلم الله به الصدع ورتق به الفتق ، وآمن به السبيل ، وحقن به الدماء ، وألف به بين ذوي الأحقاد والعداوة الواغرة في الصدور ، والضغائن الكامنة في القلوب ، فقبضه الله عز وجل إليه حميداً ، وقد أدى الرسالة ونصح للأمة ، فلما مضى صلى الله عليه وآله لسبيله ، دَفعنا عن حقنا من دفعنا وولوا من ولوا سوانا ، ثم ولاها عثمان بن عفان فنال منكم ونلتم منه ، حتى إذا كان من أمره ما كان ، أتيتموني فقلتم بايعنا ، فقلت لكم لا أفعل ، فقلتم بلى لا بد من ذلك ، فقبضتم يدي فبسطتموها ، وتداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى لقد خفت أنكم قاتليَّ ، أو بعضكم قاتل بعض ! فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل . وقد علم الله سبحانه إني كنت كارهاً للحكومة بين أمة محمد ، ولقد سمعته يقول : ما من وال يلي شيئاً من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رؤوس الخلائق ، ثم ينشر كتابه ، فإن كان عادلاً نجا ، وإن كان جائراً هوى !
ثم اجتمع عليَّ ملؤكم وبايعني طلحة والزبير ، وأنا أعرف الغدر في وجهيهما ، والنكث في عينيهما ، ثم استأذناني في العمرة ، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها ، وشخص معها أبناء الطلقاء ، فقدموا البصرة ، وهتكوا بها المسلمين وفعلوا المنكر !
ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليَّ ، وهما يعلمان أني لست دون أحدهما ، ولو شئت أن أقول لقلت ، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا
--------------------------- 166 ---------------------------
يخدعهما فيه فكتماه عني ، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان ! والله ما أنكرا علي منكراً ، ولا جعلا بيني وبينهما نصفاً ، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما . يا خيبة الداعي إلى ما دعى ؟ وبماذا أجيب !
والله إنهما لفي ضلالة صماء وجهالة عمياء ، وإن الشيطان قد دبر لهما حزبه واستجلب منهما خيله ورجله ، ليعيد الجور إلى أوطانه ، ويرد الباطل إلى نصابه . ثم رفع يديه وقال : اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي ، فاحلل ما عقدا ، وانكث ما أبرما ، ولا تغفر لهما أبداً ، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا .
فقام الأشتر رضي الله عنه فقال : خفض عليك يا أمير المؤمنين فوالله ما أمر طلحة والزبير علينا بمحيل ، لقد دخلا في هذا الأمر اختياراً ، ثم فارقانا على غير جور عملناه ، ولا حدث في الإسلام أحدثناه . ثم أقبلا يثيران الفتنة علينا تائهين جائرين ، ليس معهما حجة ترى ، ولا أثر يعرف ، لقد لبسا العار ، وتوجها نحو الديار ، فإن زعما أن عثمان قتل مظلوماً فليستقد آل عثمان منهما ! فأشهد أنهما قتلاه ، وأشهد الله يا أمير المؤمنين لئن لم يدخلا فيما خرجا منه ، ولم يرجعا إلى طاعتك وما كانا عليه ، لنلحقنّهما بابن عفان .
وقام أبو الهيثم بن التيهان وقال : يا أمير المؤمنين صبحهم الله بما يكرهون ، فإن أقبلوا قبلنا منهم ، وإن أدبروا لنجاهدنهم ، فلعمري ما قوم قتلوا النفس التي حرم الله قتلها ، وأخذوا الأموال ، وأخافوا أهل الإيمان ، بأهل أن يكف عنهم ، فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام على عدي بن حاتم فقال له : يا عدي أنت شاهد لنا وحاضر معنا وما نحن فيه . فقال عدي : شهدتك أو غبت عنك فأنا عندما أحببت ! هذه خيولنا معدة ، ورماحنا محددة ، وسيوفنا محددة ، فإن رأيت أن نتقدم تقدمنا ، وإن رأيت أن نحجم أحجمنا ، نحن طوع لأمرك ، فأمر بما شئت نسارع إلى امتثال أمرك .
وقام أبو زينب الأزدي فقال : والله إن كنا على الحق إنك لأهدانا سبيلاً وأعظمنا في الخير نصيباً ، وإن كنا على الضلال والعياذ بالله أن نكون عليه ، لأنك أعظمنا وزراً
--------------------------- 167 ---------------------------
وأثقلنا ظهراً ، وقد أردنا المسير إلى هؤلاء القوم وقطعنا منهم الولاية وأظهرنا منهم البراءة وظاهرناهم بالعداوة ، ونريد بذلك ما يعلمه الله عز وجل ، وإنا ننشدك الله الذي علمك ما لم تكن تعلم ، ألسنا على الحق وعدونا على الضلال ؟ فقال عليه السلام : أشهد لئن خرجت لدينك ناصراً صحيح النية ، قد قطعت منهم الولاية وأظهرت منهم البراءة كما قلت ، أنك لفي رضوان الله فأبشر يا أبا زينب ، فإنك والله على الحق فلا تشك فإنك إنما تقاتل الأحزاب فأنشأ أبو زينب :
سيروا إلى الأحزاب أعداءالنبي * فإن خير الناس أتباع علي
هذا أوان طاب سلُّ المشرفي * وقَوْدُنا الخيل وهزُّ السمهري
ولما استقرأمر أهل الكوفة على النهوض لأمير المؤمنين عليه السلام وخف بعضهم لذلك بادر ابن عباس ومن معه من الرسل فيمن اتبعهم من أهل الكوفة إلى ذي قار للإلتحاق بأمير المؤمنين ، وإخباره بما عليه القوم من الجد والاجتهاد في طاعته ، وأنهم لاحقون به غير متأخرين عنه ، وإنما تقدمهم ليستعد للسفر ) .

إن الله فرض الجهاد وعظَّمه

روى في الإرشاد ( 1 / 251 ) : ( من كلامه عليه السلام حين نهض من ذي قار متوجهاً إلى البصرة ، بعد حمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله : أما بعد : فإن الله فرض الجهاد وعَظَّمَهُ ، وجعله نصرة له ، والله ما صلحت دنيا قط ولا دين إلا به . وإن الشيطان قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ، وشبه في ذلك وخدع ، وقد بانت الأمور وتمخضت . والله ما أنكروا عليَّ منكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً ، انهم ليطلبون حقاً تركوه ، ودماً هم سفكوه ، ولئن كنت شركتهم فيه إن لهم لنصيبهم منه ، ولئن كانوا ولوه دوني ، فما تبعته إلا قبلهم ، وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم ، وإني لعلى بصيرتي ما لبست علي ، وإنها للفئة الباغية فيها الحمي ، ولحمة قد طالت هلبتها وأمكنت درتها ، يرضعون أماً فطمت ، ويحيون بيعة
--------------------------- 168 ---------------------------
تركت ليعود الضلال إلى نصابه . ما أعتذر مما فعلتُ ، ولا أتبرأ مما صنعت ، فياخيبة الداعي ومن دعا لو قيل له : إلى من دعواك ، وإلى من أجبت ، ومن إمامك ، وما سنته ؟ إذاً لزاح الباطل عن مقامه ولصمت لسانه فما نطق . لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه ، لا يصدرون عنه ولا يلقون بعده رياً أبداً ، وإني لراض بحجة الله عليهم وعذره فيهم ، إذ أنا داعيهم فمعذر إليهم ، فإن تابوا وأقبلوا فالتوبة مبذولة والحق مقبول ، وليس على الله كفران ، وإن أبوا أعطيتهم حد السيف ، وكفى به شافياً من باطل ، وناصراً لمؤمن ) .

من أقوى انتقاداته عليه السلام لقريش وأهل السقيفة !

( قال عبد الله بن عباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله فقلت له : نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع ! فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبتها ، فقال لي عليه السلام : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها . فقال عليه السلام : والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً ، أو أدفع باطلاً . ثم خرج أمير المؤمنين عليه السلام فخطب الناس فقال :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله الأول قبل كل أول ، والآخر بعد كل آخر ، وبأوليته وجب أن لا أول له ، وبآخريته وجب أن لا آخر له .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بكتاب فصله وأحكمه وأعزه ، حفظه بعلمه ، وأحكمه بنوره ، وأيده بسلطانه ، وكلأه من أن يبتزه هوى ، أو تميل به شهوة ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . وهو الذي لا يخلقه طول الرد ، ولا تزيغ عنه العقول ، ولاتلتبس منه الألسن . لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به ، ولا يعلم علم مثله . فيه شفاء لمشتفٍ ، وكفاءٌ لمكتف .
هو الذي لما سمعه الجن ولوا إلى قومهم منذرين فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَباً ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ . من قال به صدق ، ومن زال عنه عدا ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن خاصم به فلج ، ومن قاتل به نصر ، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم . وفي
--------------------------- 169 ---------------------------
القرآن نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم . أنزله بعلمه ، وأشهد الملائكة بتصديقه . قال الله جل وجهه : لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلأَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً . فجعله نوراً يهدي للتي هي أقوم ، فقال : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي للَّتِى هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيراً . وقال : فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ . وقال : إِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ . وقال : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .
هو الفصل ليس بالهزل ، هو الناطق بالعدل ، والآمر بالفصل . من تركه من الجبارين قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله . ففي اتباع ما جاءكم من الله الفوز العظيم ، وفي تركه الخطأ المبين . وقال تعالى : قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ . فجعل في اتباعه كل خير يرجى في الدنيا والآخرة .
أما بعد ، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ، ولا يدعي نبوة ولا وحياً ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم ، وبلغهم منجاتهم ، وبادر بهم الساعة أن تنزل بهم ، يحسر الحسير ، ويقف الكسير ، فيقيم عليه حتى يلحقه غايته ، إلا هالكاً لا خير فيه . فاستدارت رحاهم ، واستقامت قناتهم ، واطمأنت صفاتهم .
وأيم الله ، لقد كنت من ساقتها ، حتى تولت بحذافيرها ، واستوسقت في قيادها ، ما عجزتُ ولا ضعفتُ ، ولا جبنتُ ولا وهنتُ ، ولا خِنت .
وإن مسيري هذا لمثلها ، عن عهد إليَّ فيه ، وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إن شاء الله . فقل لقريش فلتضج مني ضجيجاً !
ما لي ولقريش ! أما والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنهم مفتونين ، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم .
والله ما تنقم منا قريش إلا أنا أهل بيت شيد الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا ، واختارنا عليهم ، فنقموا على الله أن اختارنا عليهم ،
--------------------------- 170 ---------------------------
وسخطوا ما رضي الله ، وأحبوا ما كره الله .
فلما اختارنا الله عليهم شركناهم في حريمنا ، وأدخلناهم في حيزنا ، فعرفناهم الكتاب والسنة ، وعلمناهم الفرائض والسنن ، وديَّناهم الدين والإسلام ، فوثبوا علينا ، وجحدوا فضلنا ، ومنعونا حقنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر ، ومن عمى الضلالة ، وغيِّ الجهالة ، وبي أنقذوا من الفتنة الظلماء ، والمحنة العمياء . ويلهم ! ألم أخلصهم من نير الطغاة ، وسيوف البغاة ، وكره العتاة ، ووطأة الأسد . أليس بي تسنموا الشرف ، ونالوا الحق والنصف ، ألست آية نبوة محمد صلى الله عليه وآله ودليل رسالته ، وعلامة رضاه وسخطه ، وبي كان يبري جماجم البُهَم ( الشجعان ) وهام الأبطال ، إذا فزعت تيمٌ إلى الفرار ، وعديٌّ إلى الإنتكاص ! ولوأسلمتُ قريشاً للمنايا والحتوف ، لحصدتهم سيوف العرازم ( الفرسان ) ووطأتهم خيول الأعاجم ، وطحنتهم سنابك الصافنات ، وحوافر الصاهلات ، عند إطلاق الأعنة ، وبريق الأسنة ، ولما بقوا لظلمي ، ولا عاشوا لهضمي ، ولما قالوا : إنك لحريص متهم .
يا معاشر المهاجرين والأنصار ! أين كانت سبقة تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة ! ألا كانت يوم الأبواء ، إذ تكاثفت الصفوف ، وتكاثرت الحتوف ، وتقارعت السيوف ! أم هلَّا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ود وقد نفخ بسيفه ، وشمخ بأنفه ، وطمح بطرفه ! ولمَ لم يشفقا على الدين وأهله يوم بواط ، إذ اسودَّ لون الأفق ، وأعوج عظم العنق ، وانحلَّ سَيْل الغرق !
ولمَ لم يُشفقا يوم رضوى ، إذ السهام تطير ، والمنايا تسير ، والأسد تزير !
وهلا بادرا يوم العشيرة ، إذ الأسنان تصطك ، والآذان تستك ، والدروع تهتك ! وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر ، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي ، والجياد بالصناديد ترتدي ، والأرض بدماء الأبطال ترتوي !
ولمَ لم يُشفقا على الدين يوم بدر الثانية ، والدعاس ترعب ، والأوداج تشخب ،
--------------------------- 171 ---------------------------
والصدور تخضب ! وهلَّا بادرا يوم ذات الليوث ، وقد أمجَّ التَّوْلَب ، واصطلم الشَّوْقب ، وادلهمَّ الكوكب . ولم لا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الأكدر ، والعيون تدمع ، والمنية تلمع ، والصفائح تنزع . أنا صاحب هذه المشاهد ، وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال الحميدة ) . ( نقلنا هذه الخطبة من كتاب : تمام نهج البلاغة ( 1 / 437 ) وبيّنا في الملاحظات أنها من عدّة خطب )
ملاحظات حول هذه الخطبة
1 . رواها في شرح نهج البلاغة ( 1 / 81 ) إلى قوله : وَحُطْنَا حولك الجردَ والسمرا .
ورواها في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 46 ) وقال : إلى آخر الخطبة ، قال الناشي :
فَلِمْ لم يثوروا ببدر وقد * تَبِلْتَ من القوم إذ بارزوكا
ولمْ عردوا إذا شجيت العدى * بمهراس أحد ولمْ نازلوكا
ولم أحجموا يوم سلع وقد * ثبتَّ لعمرو ولمْ أسلموكا
ولم يوم خيبر لم يثبتوا * صحابةُ أحمد واستركبوكا
فلاقيت مرحب والعنكبوت * وأسداً يحامون إذا واجهوكا
فدكدكت حصنهم قاهراً * وطوحت بالباب إذ حاجزوكا
ولم يحضروا بحنين وقد * صككت بنفسك جيشاً صكوكا
فأنت المقدم في كل ذاكا * فلله درُّك لِمْ أخروكا
روت مقاطع من هذه الخطبة مصادر أخرى ، وأكمل روايتها في العدد القوية / 189 ، لعلي بن يوسف أخ العلامة الحلي ، عن كتاب الإرشاد لكيفية طلب أئمة العباد ، لمحمد بن الحسن الصفار ، وهو من كبار أصحاب الأئمة عليهم السلام توفي سنة 290 ، ولم ينص على أنها في ذي قار . ويكفي نص رواية النهج وشرحه ( 2 / 185 ) على ذلك . وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 247 ) خطبها في الربذة في طريقه إلى البصرة ، ولعله سهو .
--------------------------- 172 ---------------------------
ونورد هنا رواية العُدد أيضاً لأهميتها ، وفروقها عن غيرها ، قال الصفار رحمه الله : ( وقد كفانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه المؤونة في خطبة خطبها ، أودعها من البيان والبرهان ما يجلي الغشاوة عن أبصار متأمليه ، والعمى عن عيون متدبريه ، وحلينا الكتاب بها ليزداد المسترشدون في هذا الأمر بصيرة ، وهي مِنَّةُ الله جل ثناؤه علينا وعليهم ، يجب شكرها ، خطب صلوات الله عليه فقال :
ما لنا ولقريش ! وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيد الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا ، واختارنا الله عليهم ، فنقموا على الله أن اختارنا عليهم ، وسخطوا ما رضي الله ، وأحبوا ما كره الله . فلما اختارنا الله عليهم شركناهم في حريمنا ، وعرفناهم الكتاب والنبوة ، وعلمناهم الفرض والدين ، وحفظناهم الصحف والزبر ، وديَّناهم الدين والإسلام ، فوثبوا علينا ، وجحدوا فضلنا ومنعونا حقنا ، وأَلَتُونا أسباب أعمالنا وأعلامنا .
اللهم فإني أستعديك على قريش ، فخذ لي بحقي منها ولا تدع مظلمتي لديها ، وطالبهم يا رب بحقي فإنك الحكم العدل ، فإن قريشاً صغرت عظيم أمري ، واستحلت المحارم مني ، واستخفت بعرضي وعشيرتي ، وقهرتني على ميراثي من ابن عمي ، وأغرَوْا بي أعدائي ، ووتروا بيني وبين العرب والعجم ، وسلبوني ما مهدت لنفسي من لدن صباي ، بجهدي وكدي ، ومنعوني ما خلفه أخي وجسمي وشقيقي ، وقالوا : إنك لحريص متهم !
أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر ، ومن عمى الضلالة ، وغي الظلماء .
أليس أنقذتهم من الفتنة الصماء ، والمحنة العمياء .
ويلهم ! ألم أخلصهم من نيران الطغاة ، وكرَّة العتاة ، وسيوف البغاة ، ووطأة الأُسْد ، ومقارعة الطماطمة ، ومماحكة القماقمة ، الذين كانوا عُجْم العرب وغُنْم الحروب ، وقُطب الإقدام ، وجبال القتال ، وسهام الخطاب ، وسلَّ السيوف . أليس بي تسنموا الشرف ، وبي نالوا الحق والنصف ، ألست آية نبوة محمد ، ودليل رسالته ، وعلامة رضاه وسخطه . أليس بي كان يَقطع الدروع الدلاص ، ويصطلم الرجال الحراص .
--------------------------- 173 ---------------------------
وبي كان يفري جماجم البهم ، وهام الأبطال ، إذا فزعت تيمٌ إلى الفرار ، وعديٌّ إلى الإنتكاص .
أما وإني لو أسلمت قريشاً للمنايا والحتوف ، وتركتها فحصدتها سيوف الغوانم ، ووطأتها الأعاجم ، وكَرَّات الأعادي ، وحملات الأعالي ، وطحنتهم سنابك الصافنات ، وحوافر الصاهلات ، في مواقف الأزْل والهزْل ، في ظلال الأعنة ، وبريق الأسنة ، مابقوا لهضمي ، ولا عاشوا لظلمي ، ولما قالوا إنك لحريص متهم . اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل . اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، فإني مهدت مهاد نبوة محمد صلى الله عليه وآله ، ورفعت أعلام دينك ، وأعلنت منار رسولك ، فوثبوا علي وغالبوني ، ونالوني ووتروني !
فقام إليه أبو حازم الأنصاري فقال : يا أمير المؤمنين أبو بكر وعمر ظلماك أحقك أخذا ، وعلى الباطل مضيا ، أعلى حق كانا ؟ أعلى صواب أقاما ؟ أم ميراثك غصبا ؟ أفهمنا لنعلم باطلهم من حقك ، أو نعلم حقهما من حقك . أبَزَّاك أمرك ؟ أم غصباك إمامتك ، أم غالباك فيها عزاً ، أم سبقاك إليها عجلاً ؟ فجرت الفتنة ولم تستطع منها استقلالاً ، فإن المهاجرين والأنصار يظنان أنهما كانا على حق ، وعلى الحجة الواضحة مضيا .
فقال صلوات الله عليه : يا أخا اليمن لا بحق أخذا ، ولا على إصابة أقاما ، ولا على دين مضيا ، ولا على فتنة خشيا ، يرحمك الله ! اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل ، أتعلمون يا إخواني أن بني يعقوب على حق ومحجة كانوا ، حين باعوا أخاهم ، وعقوا أباهم ، وخانوا خالقهم ، وظلموا أنفسهم ، فقالوا : لا .
فقال : يرحمكم الله أيعلم إخوانك هؤلاء أن ابن آدم قاتل الأخ كان على حق ومحجة وإصابة ، وأمره من رضا الله ؟ فقالوا : فقال : لا . فقال : أوليس كلٌّ فعل بصاحبه ما فعل ، لحسده إياه وعدوانه وبغضانه له ؟ فقالوا : نعم .
قال : وكذلك فعلابي ما فعلا حسداً ، ثم إنه لم يتب على ولد يعقوب إلا بعد
--------------------------- 174 ---------------------------
استغفار وتوبة وإقلاع ، وإنابة وإقرار ، ولو أن قريشاً تابت إليَّ ، واعتذرت من فعلها لاستغفرت الله لها ! ثم قال : إنما أُنطق لكم العجماء ذات البيان ، وأفصح الخرساء ذات البرهان ، لأني فتحت الإسلام ، ونصرت الدين ، وعززت الرسول ، وثبتُّ أركان الإسلام ، وبينت أعلامه ، وأعليت مناره ، وأعلنت أسراره ، وأظهرت آثاره وحاله ، وصفيت الدولة ، ووطأت للماشي والراكب ، ثم قدتها صافية ، على أني بها مستأثر .
ثم قال عليه السلام بعد كلام : ثم سبقني إليه التيمي والعدوي ، كسباق الفرس ، احتيالاً واغتيالاً ، وخدعةً وغلبةً .
ثم قال عليه السلام بعد كلام : اليوم أنطق الخرساء ذات البرهان ، وأفصح العجماء ذات البيان ، فإنه شارطني رسول الله صلى الله عليه وآله في كل موطن من مواطن الحروب ، وصافقني على أن أحارب لله وأحامي لله ، وأنصر رسول الله صلى الله عليه وآله جهدي وطاقتي وكدحي وكدي ، وأحامي عن حريم الإسلام ، وأرفع عن أطناب الدين ، وأعز الإسلام وأهله ، على أن مافُتحت وبُنيت عليه دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وقُرئت فيه المصاحف ، وعُبد فيه الرحمن ، وفُهم به القرآن ، فلي إمامته وحله وعقده وإصداره وإيراده ، ولفاطمة فدك ، ومما خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله النَّصَف ، فسبقاني إلى جميع نهاية الميدان يوم الرهان .
وما شككت في الحق منذ رأيته ، هلك قوم أرجفوا عني . إنه لم يوجس موسى في نفسه خيفة ، ارتياباً ولا شكاً فيما آتاه من عند الله . ولم أشك فيما آتاني من حق الله ، ولا ارتبت في إمامتي ، وخلافة ابن عمي ووصية الرسول ، وإنما أشفق أخي موسى من غلبة الجهال ، ودول الضلال ، وغلبة الباطل على الحق .
ولما أنزل الله جل وعز : وَآتِ ذَا القُربى حَقَّه ، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فنحلها فدك . وأقامني للناس علماً وإماماً ، وعقد لي وعهد إلي ، فأنزل الله عز وجل : أطِيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر مِنْكُم . فقاتلت حق القتال ، وصبرت حق الصبر ، على أنه أعز تيماً وعدياً على دين أتت به تيم وعدي ، أم على دين أتى به ابن عمي وصنوي وجسمي ، على أن أنصر تيماً وعدياً ، أم أنصر ابن عمي وحقي وديني وإمامي .
--------------------------- 175 ---------------------------
وإنما قمت تلك المقامات ، واحتملت تلك الشدائد ، وتعرضت للحتوف ، على أن نصيبي من الآخرة موفوراً ، وأني صاحب محمد وخليفته ، وإمام أمته بعده ، وصاحب رايته في الدنيا والآخرة . اليوم أكشف السريرة عن حقي ، وأُجلي القذى عن ظلامتي ، حتى يظهر لأهل اللب والمعرفة أني مذلل ، مضطهد مظلوم ، مغصوب مقهورمحقور ، وأنهم ابتزوا حقي ، واستأثروا بميراثي . اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل ، من وثق بما لم يضم ، من استودع خائناً فقد غش نفسه ، من استرعا ذئباً فقد ظلم . من ولَّى غشوماً فقد اضطهد . هذا موقف صدق ، ومقام أنطق فيه بحقي ، وأكشف الستر والغمة عن ظلامتي .
يا معشر المجاهدين المهاجرين والأنصار ، أين سبقت تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة ، ألا كانت يوم الأبواء ، إذ تكانفت الصفوف ، وتكاثرت الحتوف ، وتقارعت السيوف ! أم هلَّا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ود ، وقد نفخ بسيفه ، وشمخ بأنفه وطمح بطرفه ! وَلِمَ لمْ يشفقا على الدين وأهله يوم بواط ، إذ اسودَّ لون الأفق ، واعوجَّ عظم العنق ، وانحلَّ سيل العرق !
ولم يشفقا يوم رضوى ، إذ السهام تطير ، والمنايا تسير ، والأُسد تزأر !
وهلا بادرا يوم العشيرة ، إذ الأسنان تصطك ، والآذان تستك ، والدروع تهتك ! وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر ، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي ، والجياد بالصناديد ترتدي ، والأرض من دماء الأبطال ترتوي !
وَلِمَ لمْ يشفقا على الدين يوم بدر الثانية ، والرعابيب ترعب ، والأوداج تشخب ، والصدورتخضب ! أم هلا بادرا يوم ذات الليوث ، وقد أبيح التَّوْلب ، واصطلم الشوْقب ، وادلهمَّ الكوكب ! ولم لا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الكد ، والعيون تدمع ، والمنية تلمع ، والصفايح تنزع !
ثم عدد وقائع النبي صلى الله عليه وآله كلها على هذا النسق ، وقرعهما بأنهما في هذه المواقف كلها كانا مع النظارة والخوالف والقاعدين ، فكيف بادرا الفتنة بزعمهما يوم السقيفة ، وقد توطأ الإسلام بسيفه ، واستقر قراره ، وزال حذاره . ثم قال بعد ذلك :
--------------------------- 176 ---------------------------
ما هذه الدهماء والدهياء ، وردت علينا من قريش . أنا صاحب هذه المشاهد ، وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال .
يا معشر المهاجرين والأنصار : إني على بصيرة من أمري ، وعلى ثقة من ديني . اليوم أنطقتُ الخرساء البيان ، وفَهَّهْتُ العجماء الفصاحة ، وأتيتُ العمياء بالبرهان . هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ، قد توافقنا على حدود الحق والباطل ، وأخرجتكم من الشبهة إلى الحق ، ومن الشك إلى اليقين . فتبرؤوا رحمكم الله ممن نكثوا البيعتين ، وغلب الهوى بهم فضلوا . وأبعدوا رحمكم الله ممن أخفى الغدر ، وطلب الحق من غير أهله فتاه ! والعنوا رحمكم الله من انهزم الهزيمتين إذ يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ . وقال : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًاوَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ .
أغضبوا رحمكم الله على من غضب الله عليهم ، وتبرؤوا رحمكم الله ممن يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله : ترتفع يوم القيامة ريح سوداء تخطف من دوني قوماً من أصحابي من عظماء المهاجرين ، فأقول : أصيحابي فيقال : محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . وتبرؤوا رحمكم الله من النفْس الضالة : مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ، فيقولوا : رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ ، ومن قبل أن يقولوا : يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أو يقولوا : وَمَا أَضَلَّنَا إِلا أَلْمُجْرِمُونَ ، أو يقولوا : رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا .
إن قريشاً طلبت السعادة فشقيت ، وطلبت النجاة فهلكت ، وطلبت الهداية فضلت . إن قريشاً قد أضلت أهل دهرها ، ومن يأتي من بعدها من القرون ، إن الله تبارك اسمه وضع إمامتي في قرآنه فقال : الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا للَّمُتَّقِينَ إِمَامًا . وقال : الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الآمُورِ ) . ثم قال الصفار رحمه الله : وهي خطبة طويلة ! وأقول : ليته رواها كاملة ، لصراحتها وبلاغتها .
--------------------------- 177 ---------------------------

صحيفة النبي صلى الله عليه وآله بما يجري على أهل بيته عليهم السلام

في الروضة لشاذان بن جبرئيل / 140 ، بإسناده عن سليم بن قيس ، وفي كتاب سُليم / 434 : ( لما قتل الحسين بن علي عليه السلام بكى ابن عباس بكاء شديداً ثم قال : ما لقيت هذه الأمة بعد نبيها ! اللهم إني أشهدك أني لعلي بن أبي طالب وليٌّ ولولده ، ومن عدوه وعدوهم برئ ، وإني أسلِّم لأمرهم .
لقد دخلت على علي عليه السلام بذي قار فأخرج إلي صحيفة وقال لي : يا ابن عباس ، هذه صحيفة أملاها عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وخطي بيدي . فقلت : يا أمير المؤمنين ، إقرأها علي فقرأها ، فإذا فيها كل شئ كان منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلى مقتل الحسين عليه السلام وكيف يُقتل ، ومن يقتله ومن ينصره ومن يستشهد معه .
فبكى بكاء شديداً وأبكاني ، فكان فيما قرأه علي كيف يصنع به ، وكيف تُستشهد فاطمة ، وكيف يُستشهد الحسن ابنه ، وكيف تغدر به الأمة .
فلما أن قرأ كيف يقتل الحسين ومن يقتله أكثر البكاء ، ثم أدرج الصحيفة ، وقد بقي ما يكون إلى يوم القيامة . وكان فيها فيما قرأ أمر أبي بكر وعمر وعثمان ، وكم يملك كل إنسان منهم ، وكيف بويع علي عليه السلام ، ووقعة الجمل ، وسيرعائشة وطلحة والزبير ، ووقعة صفين ومن يقتل فيها ، ووقعة النهروان وأمر الحكمين ، وملك معاوية ومن يقتل من الشيعة ، وما يصنع الناس بالحسن ، وأمر يزيد بن معاوية حتى انتهى إلى قتل الحسين .
فسمعت ذلك ، ثم كان كل ما قرأ لم يزد ولم ينقص . فرأيت خطه أعرفه في صحيفة لم تتغير ولم تصفر . فلما أدرج الصحيفة قلت : يا أمير المؤمنين ، لو كنت قرأت علي بقية الصحيفة ؟ قال عليه السلام : لا ، ولكني محدثك ، ما يمنعني فيها ما نلقى من أهل بيتك وولدك ، وهو أمر فظيع من قتلهم لنا وعداوتهم إيانا ، وسوء ملكهم وشوم قدرتهم . فأكره أن تسمعه فتغتم ويحزنك .
ولكني أحدثك : أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله عند موته بيدي ففتح لي ألف باب من العلم ، يُفتح كل باب ألف باب ، وأبو بكر وعمر ينظران إليَّ ، وهو يشير إلى
--------------------------- 178 ---------------------------
ذلك . فلما خرجت قالا لي : ما قال لك ؟ فحدثتهما بما قال فحركا أيديهما ثم حكيا قولي ، ثم وليا يرددان قولي ويخطران بأيديهما .
يا ابن عباس ، إن الحسن يأتيك من الكوفة بكذا وكذا ألف رجل ، غير رجل . يا ابن عباس ، إن ملك بني أمية إذا زال كان أول ما يملك من بني هاشم ولدك ، فيفعلون الأفاعيل ! فقال ابن عباس : لأن يكون نَسَّخَني ذلك الكتاب أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ) .

خطبة له بذي قار يصف فيها القرآن وترك المسلمين له

قال في الكافي ( 8 / 386 ) : ( خطب أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ، ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته ، بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، عوداً وبدءً وعذراً ونذراً ، بحكم قد فصله ، وتفصيل قد أحكمه ، وفرقان قد فرقه ، وقرآن قد بينه ، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه ، وليقروا به إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه ، فتجلى لهم سبحانه في كتابه ، من غير أن يكونوا رأوه ، فأراهم حلمه كيف حلم ، وأراهم عفوه كيف عفا ، وأراهم قدرته كيف قدر ، وخوفهم من سطوته ، وكيف خلق ما خلق من الآيات ، وكيف محق من محق من العصاة بالمثلات ، واحتصد من احتصد بالنقمات ، وكيف رزق وهدى وأعطى ، وأراهم حكمه كيف حكم وصبر ، حتى يسمع ما يسمع ويرى . فبعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله بذلك .
ثم إنه سيأتي عليكم من بعدي ، زمان ليس في ذلك الزمان شئ أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبْوَرُ من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً ، من الكتاب إذا حُرِّف عن مواضعه ، وليس في العباد ولا في البلاد شئ هو أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، وليس فيها فاحشة أنكر ولا عقوبة أنكى من
--------------------------- 179 ---------------------------
الهدى عند الضلال في ذلك الزمان .
فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ، حتى تمايلت بهم الأهواء ، وتوارثوا ذلك من الآباء ، وعملوا بتحريف الكتاب كذباً وتكذيباً ، فباعوه بالبخس ، وكانوا فيه من الزاهدين ، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان طريدان منفيان ، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد ، لايأويهما مؤو ، فحبذا ذانك الصاحبان ، واهاً لهما ولما يعملان له ، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ، ومعهم وليسوا معهم ، وذلك لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ، وقد اجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا عن الجماعة ، قد ولوا أمرهم وأمر دينهم من يعمل فيهم بالمكر والمنكر ، والرشا والقتل ، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، لم يبق عندهم من الحق إلا اسمه ، ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه وزبره ! يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن ، فلايطمئن جالساً حتى يخرج من الدين ، ينتقل من دين ملك إلى دين ملك ، ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك ، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك ، ومن عهود ملك إلى عهود ملك ، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون ، وإن كيده متين ، بالأمل والرجاء ، حتى توالدوا في المعصية ، ودانوا بالجور ، والكتاب لم يضرب عن شئ منه صفحاً ، ضُلَّالاً ، تائهين ، قد دانوا بغير دين الله عز وجل ، وأدانوا لغير الله . مساجدهم في ذلك الزمان عامرةٌ من الضلالة ، خربةٌ من الهدى ، فقراؤها وعمارها أخائب خلق الله وخليقته !
من عندهم جرت الضلالة وإليهم تعود ، فحضور مساجدهم والمشي إليها كفر بالله العظيم ، إلا من مشى إليها وهو عارف بضلالهم ، فصارت مساجدهم من فعالهم على ذلك النحو خربة من الهدى عامرة من الضلالة ، قد بدلت سنة الله ، وتُعديت حدوده . لا يدعون إلى الهدى ولا يقسمون الفيئ ولا يوفون بذمة ، يدعون القتيل منهم على ذلك شهيداً ، قد أتوا الله بالافتراء والجحود ، واستغنوا بالجهل عن العلم ، ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل
--------------------------- 180 ---------------------------
مثلة ، وسموا صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة ، وقد بعث الله عز وجل إليكم رسولاً : مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ صلى الله عليه وآله ، وأنزل عليه كتاباً عزيزاً : لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ . لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ . فلا يلهينكم الأمل ولا يطولن عليكم الأجل ، فإنما أهلك من كان قبلكم أمد أملهم ، وتغطية الآجال عنهم ، حتى نزل بهم الموعود ، الذي ترد عنه المعذرة ، وترفع عنه التوبة ، وتحل معه القارعة والنقمة ، وقد أبلغ الله عز وجل إليكم بالوعد ، وفصل لكم القول ، وعلمكم السنة ، وشرح لكم المناهج ليزيح العلة ، وحث على الذكر ودل على النجاة ، وإنه من انتصح لله واتخذ قوله دليلاً هداه للتي هي أقوم ، ووفقه للرشاد ، وسدده ويسره للحسنى ، فإن جار الله آمن محفوظٌ ، وعدوه خائف مغرور .
فاحترسوا من الله عز وجل بكثرة الذكر ، واخشوا منه بالتقى ، وتقربوا إليه بالطاعة ، فإنه قريب مجيب . قال الله عز وجل : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ . فاستجيبوا لله وآمنوا به ، وعظموا الله الذي لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم ، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمة الله ، أن يتواضعوا له ، وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له ، وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله أن يستسلموا له ، فلا ينكرون أنفسهم بعد حد المعرفة ، ولا يضلون بعد الهدى ، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب ، والبارئ من ذي السقم .
واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولم تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه ، ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى ، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى ، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ، ورأيتم الفرية على الله وعلى رسوله والتحريف لكتابه ، ورأيتم كيف هدى الله من هدى ، فلا يُجهلنكم الذين لا يعلمون .
إن علم القرآن ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه ، فعلم بالعلم جهله ، وبصر به عماه ،
--------------------------- 181 ---------------------------
وسمع به صممه ، وأدرك به علم ما فات ، وحيي به بعد إذ مات ، وأثبت عند الله عز ذكره الحسنات ، ومحى به السيئات ، وأدرك به رضواناً من الله تبارك وتعالى ، فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة ، فإنهم خاصة نور يستضاء به ، وأئمة يقتدى بهم ، هم عيش العلم وموت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق ، فهم من شأنهم شهداء بالحق ومخبر صادق ، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، قد خلت لهم من الله السابقة ، ومضى فيهم من الله عز وجل حكم صادق ، وفي ذلك ذكرى للذاكرين . فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية ، ولا تعقلوه عقل رواية ، فإن رواة الكتاب كثير ورعاته قليل . والله المستعان ) .
وروى الفقرة الأخيرة في النهج ( 2 / 232 ) . وروى منه ابن شعبة في تحف العقول / 227 .

رسائله عليه السلام من ذي قار إلى عائشة وطلحة والزبير

قال المفيد في كتاب الجمل / 167 : ( ولما سار أمير المؤمنين عليه السلام من ذي قار ، قَدَّمَ صعصعة بن صوحان بكتاب إلى طلحة والزبير وعائشة ، يعظم عليهم حرمة الإسلام ، ويخوفهم فيما صنعوه ، وقبيح ما ارتكبوه ، من قتل من قتلوا من المسلمين ، وما صنعوا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله عثمان بن حنيف رحمه الله ، وقتلهم المسلمين صبراً . ووعظهم ودعاهم إلى الطاعة .
قال صعصعة رحمه الله : فقدمت عليهم فبدأت بطلحة ، وأعطيته الكتاب وأديت الرسالة ، فقال : الآن حين عضت ابن أبي طالب الحرب تَرَفَّقَ لنا !
ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة ، ثم جئت إلى عائشة فوجدتها أسرع الناس إلى الشر ، فقالت : نعم قد خرجت للطلب بدم عثمان ، والله لأفعلن وأفعلن ! فعدت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فلقيته قبل أن يدخل البصرة ، فقال : ما وراءك يا
--------------------------- 182 ---------------------------
صعصعة ؟ قلت يا أمير المؤمنين ، رأيت قوماً ما يريدون إلا قتالك ! فقال : الله المستعان ) .

وأرسل إليهم ابن عباس فأدى الرسالة

وتابع المفيد : ( ثم دعا عبد الله بن عباس فقال : انطلق إليهم فناشدهم وذكرهم العهد الذي لي في رقابهم . قال ابن عباس : جئتهم فبدأت بطلحة فذكرته العهد فقال لي : يا ابن عباس ، والله لقد بايعت علياً واللجُّ على رقبتي ! فقلت له : أنا رأيتك بايعت طايعاً ، أولم يقل لك عليٌّ قبل بيعتك له : إن أحببت أبايعك ؟ فقلت : لا بل نحن نبايعك ؟ فقال طلحة : إنما قال لي ذلك ، وقد بايعه قوم فلم أستطع خلافهم . والله يا ابن عباس إن القوم الذين معه يغرونه وإن لقيناه فسيسلمونه . أما عملت يا ابن عباس أني جئت إليه والزبير ولنا من الصحبة ما لنا مع رسول الله والقدم في الإسلام ، وقد أحاط به الناس قياماً على رأسه بالسيف فقال لنا يهزل : إن أحببتما بايعت لكما ، فلو قلنا : نعم ، أفتراه يفعل ؟ وقد بايع الناس له فليخلع نفسه ويبايعنا ، لا والله ما كان يفعل ، وخشينا أن يغري بنا من لا يرى لنا حرمة ، فبايعناه كارهين . وقد جئنا نطلب بدم عثمان ، فقل لابن عمك : إن كان يريد حقن الدماء وإصلاح أمر الأمة ، فليمكننا من قتلة عثمان ، فهم معه ، ويخلع نفسه ويرد الأمر ليكون شورى بين المسلمين ، فيولوا من شاؤوا ، فإنما علي رجل كأحدنا . وإن أبى أعطيناه السيف ، فما له عندنا غير هذا .
قال ابن عباس : يا أبا محمد لست تنصف ! ألم تعلم أنك حصرت عثمان حتى مكث عشرة أيام يشرب ماء بئره وتمنعه من شرب الماء ، حتى كلمك علي في أن تخلي الماء له ، وأنت تأبى ذلك ! ولما رأى أهل مصر فعلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه ، ثم بايع الناس رجلاً له من السابقة والفضل والقرابة برسول الله صلى الله عليه وآله ، والبلاء العظيم ما لا يدفع ، وجئت أنت وصاحبك طائعين غير مكرهين حتى بايعتما ثم نكثتما ، فعجب والله إقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة ، ووثوبك على ابن أبي طالب ، فوالله ما علي عليه السلام دون أحد منكم . وأما قولك يمكنني من قتلة عثمان فما يخفي عليك من قتل عثمان ، وأما قولك إن أبى
--------------------------- 183 ---------------------------
علي عليه السلام فالسيف فوالله إنك لتعلم أن علياً لا يُخوف . فقال طلحة : إيهاً الآن ، دعنا من جدالك .
قال فخرجت إلى علي وقد دخل البيوت بالبصرة فقال : ما وراءك ؟ فأخبرته الخبر ، فقال اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين .
ثم قال : إرجع إلى عائشة واذكر لها خروجها من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وَخَوِّفْهَا من الخلاف على الله عز وجل ، ونبذها عهد النبي صلى الله عليه وآله وقل لها إن هذه الأمور لا تصلحها النساء ، وإنك لم تؤمري بذلك فلم ترضيْ بالخروج عن أمر الله في تبرجك ، وبيتك الذي أمرك النبي بالمقام فيه ، حتى سرت إلى البصرة فقتلت المسلمين ، وعمدت إلى عمالي فأخرجتهم ، وفتحت بيت المال ، وأمرت بالتنكيل بالمسلمين ، وأبحت دماء الصالحين ! فارعي وراقبي الله عز وجل ، فقد تعلمين أنك كنت أشد الناس على عثمان ، فما عدا مما بدا !
قال ابن عباس فلما جئتها وأديت الرسالة إليها وقرأت كتاب علي عليه السلام عليها ، قالت : يا ابن عباس ابن عمك يرى أنه قد تملك البلاد ، لا والله ما بيده منها شئ إلا وبيدنا أكثر منه . فقلت : يا أماه إن أمير المؤمنين عليه السلام له فضل وسابقة في الإسلام وعظم غَنَاء . قالت : ألا تذكر طلحة وغناءه يوم أحد ؟ قال : فقلت لها والله ما نعلم أحداً أعظم غناء من علي عليه السلام . قالت : أنت تقول هذا ، ومع علي أشياء كثيرة ، قلت : الله الله في دماء المسلمين ! قالت : وأي دم يكون للمسلمين إلا أن يكون علي يقتل نفسه ومن معه !
قال ابن عباس : فتبسمت ، فقالت : ممَّ تضحك يا ابن عباس ؟ فقلت : والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه . قالت : حسبنا الله ونعم الوكيل .
قال : وقد كان أمير المؤمنين أوصاني أن ألقى الزبير وإن قدرت أن أكلمه وابنه ليس بحاضر . فجئت مرة أو مرتين كل ذلك أجده عنده ، ثم جئت مرة أخرى فلم أجده عنده ، فدخلت عليه وأمرالزبير مولاه سرجس أن يجلس على الباب ويحبس عنا الناس ، فجعلت أكلمه فقال : عصيتم إن خولفتم ، والله لتعلمن عاقبة
--------------------------- 184 ---------------------------
ابن عمك ، فعلمت أن الرجل مغضب ، فجعلت ألاينه فيلين مرة ويشتد أخرى ! فلما سمع سرجس ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير وكان عند طلحة ، فدعاه فأقبل سريعاً حتى دخل علينا ، فقال : يا ابن عباس دع بنيات الطريق ، بيننا وبينكم عهد خليفة ودم خليفة ، وانفراد واحد واجتماع ثلاثة وأم مبرورة ، ومشاورة العامة . فأمسكت ساعة لا أكلمه ، ثم قلت : لو أردت أن أقول لقلت . فقال ابن الزبير : ولم تؤخر ذلك ؟ وقد حُمَّ الأمر وبلغ السيل الزبى .
قال ابن عباس : فقلت : أما قولك عهد خليفة ، فإن عمر جعل الشورى إلى ستة نفر ، فجعل النفر أمرهم إلى رجل منهم يختار لهم منهم ويخرج نفسه منها ، فعرض الأمر على علي وعثمان ، فحلف عثمان وأبى علي أن يحلف ، فبويع عثمان . فهذا عهد خليفة .
وأما دم خليفة ، فدمه عند أبيك لا يخرج أبوك من خصلتين : إما قتل وإما خذل !
وأما انفراد واحدٍ واجتماع ثلاثة ، فإن الناس لما قتلوا عثمان فزعوا إلى علي فبايعوه طوعاً ، وتركوا أباك وصاحبه ، ولم يرضوا بواحد منهما !
وأما قولك إن معكم أماً مبرورة ، فإن هذه الأم أنتما أخرجتماها من بيتها ، وقد أمرها الله تعالى أن تقر فيه ، فأبيت أن تدعها ! وقد علمت أنت وأبوك أن النبي صلى الله عليه وآله حذرها من الخروج ، وقال لها : يا حميرا إياك أن تنبحك كلاب الحوأب ، وكان منها ما قد رأيت ! وأما دعواك مشاورة العامة ، فكيف يشاور فيمن قد اجتمع عليه ، وأنت تعلم أن أباك وطلحة بايعا طائعين غير كارهين .
فقال ابن الزبير : الباطل والله ما تقول يا ابن عباس . وقد سئل عبد الرحمن بن عوف عن أصحاب الشورى ، فكان صاحبكم أخيبهم عنده ، وما أدخله عمر في الشورى إلا وهو يقرفه ، ولكنه خاف فتقه في الإسلام .
وأما قتل خليفة فصاحبك كتب إلى الآفاق حتى قدموا عليه ثم قتلوه ، وهو في داره بلسانه ويده ، وأنا معه في الدار أقاتل دونه ، حتى جرحت بضعة عشر جرحاً . وأما قولك إن علياً بايعه الناس طايعين ، فوالله ما بايعوه إلا كارهين والسيف على رقابهم ، غصبهم أمرهم !
--------------------------- 185 ---------------------------
فقال الزبير : دع عنك ما ترى يا ابن عباس ، جئتنا لتوفينا . فقال له ابن عباس : أنتم طلبتم هذا ، والله ما عددناك قط إلا منا بني هاشم ، لأنهم أخوالك ومحبتك لهم ، حتى أدرك ابنك هذا فقطع الأرحام ! فقال الزبير : دع عنك هذا .
ولما عادت رسل أمير المؤمنين من طلحة والزبير وعائشة ، بإصرارهم على خلافه ، وإقامتهم على نكث بيعته والمباينة له ، والعمل على حربه ، واستحلال دماء شيعته ، وأنهم لا يتعظون بوعظ ، ولا ينتهون عن الفساد بوعيد . كتَّب الكتائب ، ورتَّب العساكر ) .
وأرسل إليهم أنس بن مالك فلم يؤد الرسالة
1 . في نهج البلاغة ( 4 / 74 ) : ( وقال عليه السلام : لأنس بن مالك وقد كان بعثه إلى طلحة والزبير لما جاء إلى البصرة يذكرهما شيئاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله في معناهما ، فلوى عن ذلك ، فرجع إليه فقال : إني أنسيت ذلك الأمر ! فقال عليه السلام : إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة ، يعني البرص ، فأصاب أنساً هذا الداء فيما بعد في وجهه ، فكان لا يرى إلا مبرقعاً ) .
قال في شرح النهج ( 19 / 217 ) : ( المشهورأن علياً عليه السلام ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة ، فقال : أنشدكم الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع : من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ؟ فقام رجال فشهدوا بذلك ، فقال عليه السلام لأنس بن مالك : لقد حضرتها فما بالك ! فقال : يا أمير المؤمنين كبرت سني وصار ما أنساه أكثر مما أذكره ، فقال له : إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة ، فما مات حتى أصابه البرص . فأما ما ذكره الرضي من أنه بعث أنساً إلى طلحة والزبير فغير معروف ، ولو كان قد بعثه ليذكرهما بكلام يختص بهما من رسول الله صلى الله عليه وآله لما أمكنه أن يرجع فيقول إني أنسيته ، لأنه ما فارقه متوجهاً نحوهما إلا وقد أقر بمعرفته وذكره ، فكيف يرجع بعد ساعة أو يوم فيقول إني أنسيته ، فينكر بعد الاقرار ! هذا مما لا يقع .
--------------------------- 186 ---------------------------
وقد ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة التي دعا بها أمير المؤمنين عليه السلام على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص من أعيان الرجال ، وابن قتيبة غير متهم في حق علي عليه السلام على المشهور من انحرافه عنه ) .
أقول : يمكن أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام بعث أنس بن مالك إلى طلحة والزبير برسالة فلم يبلغ الرسالة ، ثم ناشد في الكوفة من سمع حديث الغدير ، فقال أنس ما قال .
2 . وقال في شرح النهج ( 4 / 74 ) : ( وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي عليه السلام قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلاً مع الدنيا وإيثاراً للعاجلة ، فمنهم أنس بن مالك ناشد علي عليه السلام في رحبة القصر : أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : من كنت مولاه فعلى مولاه ؟ فقام اثنا عشر رجلاً فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم . . . وروى عثمان بن مطرف أن رجلاً سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب فقال : إني آليت ألا أكتم حديثاً سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتقين يوم القيامة ، سمعته والله من نبيكم ) .
وقد وثق أحمد والهيثمي وغيرهما حديث المناشدة ، ولم يذكروا دعاءه عليه بالبرص . قال أحمد ( 1 / 88 ) : ( حدثني زياد بن أبي زياد : سمعت علي بن أبي طالب ينشد الناس فقال : أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله يقول يوم غدير خم ما قال ، فقام اثنا عشر بدرياً فشهدوا ) . ووثقه في مجمع الزوائد ( 9 / 106 ) .
وفي الفضائل لشاذان بن جبرئيل / 164 : ( عن سالم بن أبي جعدة قال : قام إليه رجل فقال : يا صاحب رسول الله ما هذه النمثة التي أراها بك ؟ فإني حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : البرص والجذام لايبلو الله تعالى به مؤمناً ! قال : فعند ذلك أطرق أنس بن مالك إلى الأرض وعيناه تذرفان بالدمع ، ثم قال : دعوة العبد الصالح علي بن أبي طالب نفذت فيَّ ، فعند ذلك قام الناس من حوله وقصدوه وقالوا : يا أنس حدثنا ما كان السبب ؟ فقال لهم : إلهوا عن هذا ) !
--------------------------- 187 ---------------------------
3 . وروينا أن أنساً كان يكذب في حياة النبي صلى الله عليه وآله ، فقد أهدي للنبي صلى الله عليه وآله طائر فدعا : اللهم ابعث لي أحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء علي عليه السلام ورده أنس مرات يقول له إن رسول الله مشغول ! ولما كشف ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسأله لماذا ، قال : أردت أن يأتي أحد من قومي فيأكل معك !
كما كان أنس يتقرب إلى الحكام بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ! قال الإمام الباقر عليه السلام : ( إن أول ما استحل الأمراء العذاب ، لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله صلى الله عليه وآله أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط ، ومن ثم استحل الأمراء العذاب ) ! ( علل الشرائع : 2 / 541 ) . ( وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله : أبو هريرة ، وأنس بن مالك ، وامرأة .

وفي طريق الإمام إلى البصرة نزل عند عبد القيس في الشطرة

تبعد ذو قار عن البصرة مئة وستين كيلو متراً ، والظاهر أن منازل عبد القيس كانت في الشطرة بين ذي قار والبصرة ، في المكان الذي يعرف بالصديف وأم النخل ، وتعرف اليوم بالصديفة ، وهي تبعد عن ذي قار نحو 40 كيلو متراً ، وعن البصرة مئة وعشرين كلم . وقد نزل فيها أمير المؤمنين عليه السلام في طريقه من ذي قار إلى البصرة . وقد أخبرني أحد الأصدقاء الأسديين أنه يوجد مقام لأمير المؤمنين عليه السلام في الشطرة .
قال الطبري ( 3 / 501 ) : ( عن الشعبي قال : لما التقوا بذي قارتلقاهم علي في أناس فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال . . . فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان ، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ، ينتظرون مرور علي بهم وهم آلاف ) .
وقال الطبري ( 3 / 508 ) : ( وأصبح عليٌّ على ظهر فمضى الناس حتى إذا انتهى إلى عبد القيس نزل بهم ، وبمن خرج من أهل الكوفة وهم أمام ذلك ، ثم ارتحل حتى نزل على أهل الكوفة وهم أمام ذلك ، والناس متلاحقون به وقد قطعهم ) .
وروي أن عدد العبديين الذين انضموا إلى الإمام عليه السلام يوم الجمل كان أربعة آلاف ( الغارات : 2 / 785 ) والرواية الأقوى أنهم ألفان . ( أنساب الأشراف : 2 / 262 ) .
--------------------------- 188 ---------------------------
وفي مناقب محمد بن سليمان ( 2 / 337 ) : ( عن منذر الثوري قال : سمعت محمد بن الحنفية يقول : لما أن توجه طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة قال : سمع بذلك علي وهو في المدينة قال : فأقبل وأقبلنا معه في تسع مائة ، فلما نزل بذي قار قريباً من البصرة قال : بعث عماراً والحسن إلى الكوفة فاستنفرهم فنفرمعه تسعة آلاف قال : فمنهم من أخذ البر ومنهم من أخذ الماء . قال : ولحق بنا من أهل البصرة من عبد القيس ألفان ، فكنا اثني عشرألفاً إلا مائة وكانوا أكثر منا ) .
وقال الهمداني في البلدان / 233 : ( وقالوا : بالبصرة أربع بيوتات ليس بالكوفة مثلها : بيت بني المهلَّب ، وبيت بني مسلم بن عمرو الباهلي من قيس ، وبيت بني مسمع من بكر بن وائل ، وبيت آل الجارود من عبد القيس ) .
ولما اصطف الجيشان جعل الإمام عليه السلام ربيعة البصرة والكوفة ومنهم عبد القيس في الميمنة ، وجعل عليهم علباء بن الهيثم السدوسي ، ومضر البصرة والكوفة في الميسرة وعليهم ولده الحسن السبط عليه السلام ، وثبت هو بالبقية في القلب ، وكان على الخيل عمار بن ياسر ، وعلى الرجالة ربيبه محمد بن أبي بكر . ( تاريخ خليفة / 134 ) .
ولم يبدأهم بقتال فأرسل ابن عباس يناشدهم حقن الدماء ، لكنهم أصروا على القتال !
--------------------------- 189 ---------------------------

السادس والخمسون : وصول أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة

وصف دخول أمير المؤمنين عليه السلام وجيشه إلى البصرة

قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 359 ) : ( عن المنذر بن الجارود قال : لما قدم علي رضي الله عنه البصرة دخل مما يلي الطفَّ فأتى الزاوية ، فخرجتُ أنظر إليه فورد موكب في نحوألف فارس يتقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلد سيفاً ومعه راية ، وإذا تيجان القوم الأغلبُ عليها البياضُ والصفرة ، مدججين في الحديد والسلاح ، فقلت : من هذا ؟ فقيل : هذا أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهؤلاء الأنصار ، وغيرهم .
ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض ، متقلد سيفاً ، متنكبٌ قوساً معه راية ، على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت : من هذا ؟ فقيل : هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ، ذو الشهادتين .
ثم مر بنا فارسٌ آخر على فرسٍ كُمَيْتٍ معتمٌّ بعمامة صفراء ، من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قَبَاء أبيض مصقول ، متقلد سيفاً ، متنكب قوساً في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية ، فقلت : من هذا ؟ فقيل لي : أبوقَتَادة بن ربعي .
ثم مر بنا فارس آخر على فرس أشهب ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء ، قد سَدَلها من بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن ، متقلد سيفاً متنكب قوساً ، معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلفي التيجان ، حوله مشيخة وكهول وشباب ، كأنما قد أوقفوا للحساب ، أثَرُ السجود قد أثر في جباههم ، فقلت : من هذا ؟ فقيل :
--------------------------- 190 ---------------------------
عمار بن ياسر ، في عدة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم .
ثم مر بنا فارس على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض ، وقلنسوة بيضاء ، وعمامة صفراء ، متنكب قوساً متقلد سيفاً ، تخط رجلاه في الأرض ، في ألف من الناس الغالبُ على تيجانهم الصفرة والبياض ، معه راية صفراء ، قلت : من هذا ؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عُبَادة في عدة من الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان .
ثم مر بنا فارس على فرس أشهل ، ما رأينا أحسن منه ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء ، قد سَدَلها من بين يديه بلواء ، قلت : من هذا ؟ قيل : هو عبد الله بن العباس في وفده ، وعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله .
ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين ، قلت : من هذا ؟ قيل : عبيد الله بن العباس . ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين ، قلت : من هذا ؟ قيل : قُثَم بن العباس ، أو معبد بن العباس .
ثم أقبلت المواكب والرايات ، يقدم بعضها بعضاً ، واشتبكت الرماح .
ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد ، مختلفو الرايات ، في أوله راية كبيرة ، يقدمهم رجل كأنما كُسِرَ وجُبِرَ - قال ابن عائشة : وهذه صفة رجل شديد الساعدين ، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق ، كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه كسر وجبر - كأنما على رؤوسهم الطير ، وعن يمينه شاب حسن الوجه ، وعن يساره شاب حسن الوجه ، وبين يديه شاب مثلهما ، قلت : من هؤلاء ؟ قيل : هذا علي بن أبي طالب ، وهذان الحسن والحسين عليهما السلام عن يمينه وشماله ، وهذا محمد بن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ، وهذا الذي خَلْفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشايخ هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار . فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلى أربع ركعات ، وعفر خديه على التراب ، وقد خالط ذلك دموعه ، ثم رفع يديه يدعو : اللهم رب السماوات وما أظلت ، والأرضين وما أقلت ، ورب العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرها ، اللهم أنزلنا
--------------------------- 191 ---------------------------
فيها خير منزل وأنت خير المنزلين ، اللهم إن هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي ، وبغوا علي ، ونكثوا بيعتي ، اللهم احقن دماء المسلمين ) .
وفي كتاب الجمل للمفيد / 158 : ( وروى إسماعيل بن عبد الملك بن يحيى بن شبل عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال : لما سار علي من ذي قار قاصداً البصرة ، نزل الخريبة في اثني عشر ألف ، وعلى الميمنة عمار بن ياسر في ألف رجل ، وعلى الميسرة مالك الأشتر في ألف رجل ، ومعه في نفسه عشرة آلاف رجل ، وخرج إليه من البصرة ألفا رجل ، خرجت إليه ربيعة كلها إلا مالك بن مسمع منها ، وجاءته عبد القيس بأجمعها سوى رجل واحد تخلف عنها ، وجاءته بنو بكر يرأسهم شقيق بن ثور السدوسي ، ورأس عبد القيس عمرو بن جرموز العبدي ، وأتاه المهلب بن أبي صفرة فيمن تبعه من الأزد . وبعث إليه الأحنف بن قيس يقول له : إني مقيم على طاعتك في قومي فإن شئت أتيتك في مائتين من أهل بيتي فعلت ، وإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد . فبعث إليه أمير المؤمنين عليه السلام : بل احبس وكُفَّ . فجمع الأحنف قومه فقال : يا بني سعد كفوا عن هذه الفتنة واقعدوا في بيوتكم ، فإن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم لم يهيجوكم ، وإن ظهر علي عليه السلام سلمتم ، فكفوا وتركوا القتال ) .

مكذوبات في أصل المعركة ومدتها

الصحيح أن حرب الجمل كانت حرباً شديدة ، وكانت مدتها سبعة أيام ، لكنهم كذبوا فجعلوها وقعت عن غير قصد ولمدة ساعات !
قال ابن حجر ( 13 / 46 ) : ( وأخرج أيضاً ( ابن أبي شيبة ) بسند صحيح عن زيد بن وهب قال : فكف علي يده حتى بدؤوه بالقتال ، فقاتلهم بعد الظهر ، فما غربت الشمس وحول الجمل أحد ) .
لكن ابن أبي شيبة نفسه روى في شدة القتال ( 7 / 534 ) : ( قال فطر بن خليفة :
--------------------------- 192 ---------------------------
شهدت يوم الجمل فما دخلت دار الوليد إلا ذكرت يوم الجمل ، ووقع السيوف على البيْض قال : كنت أرى علياً يحمل فيضرب بسيفه حتى ينثني ، ثم يرجع فيقول : لا تلوموني , ولوموا هذا , ثم يعود فيقومه ) ! وقد اشتهر قول الشاعر :
شهدت الحروب فشيبنني * فلم أر يوماً كيوم الجمل
[ أشد على مؤمن فتنة * وأقتل منهم لحرق بطل ] [ فليت الظعينة في بيتها * ويا ليت عسكر لم يرتحلل ] وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 72 ) إنها دامت سبعة أيام قال : ( فاقتتل القوم حوله حتى حال بينهم الليل . وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيام ، وإن علياً خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم ، وأُسرت عائشة ، وأسرمروان بن الحكم ، وعمرو بن عثمان ، وموسى بن طلحة . . ) .
وقد يفهم من قول ابن قتيبة : ( وإن علياً خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم ) أن هزيمتهم كانت في اليوم الثامن ، لكن مقصوده اليوم السابع .
أما ما ورد في مصادرنا مما يوهم أنها ليوم واحد ، فالمقصود به الحملة الأخيرة التي كان فيها النصر ، كقول ابن شهرآشوب ( المناقب : 2 / 346 ) : ( ووقع القتال بعد الظهر وانقضى عند المساء ) . ويقصد به آخر معارك وقعة الجمل .

بدأت المعركة في النصف من جمادى الآخرة يوم الخميس

ذكرت أكثر المصادر أن معركة الجمل بدأت في العاشر من جمادى الأولى أو الثانية سنة 36 ، والصحيح أن هذا تاريخ وصول أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة ، وقد أمهلهم أياماً ، وأجرى معهم مراسلات ومفاوضات ، وبدأت المعركة يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة ، كما كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عامله على الكوفة قَرَظة بن كعب الأنصاري ( الطبري : 3 / 544 ) : ( من عبد الله علي أمير المؤمنين . أما بعد ، فإنا التقينا في النصف من جمادى الآخرة بالخريبة ، فناء من أفنية البصرة ، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين ، وقتل منا ومنهم قتلى كثيرة ، وأصيب ممن أصيب منا ثمامة بن المثنى ، وهند بن عمرو ،
--------------------------- 193 ---------------------------
وعلباء بن الهيثم ، وسيحان وزيد ابنا صوحان ، ومخدوج . وكتب عبد الله بن رافع . وكان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة ، في جمادى الآخرة ) .
وكذلك ذكرت مصادر أخرى كالطبري ( 3 / 514 ) وعمدة القاري ( 24 / 205 ) والضبي في وقعة الجمل / 182 ، وتاريخ خليفة / 138 ، والأغاني ( 18 / 297 ) والمقريزي في إمتاع الأسماع ( 13 / 241 ) وإرشاد الساري ( 10 / 196 ) .
ويؤيده أن العاشر من جمادى الأولى والثانية لم يكن يوم خميس ، بل كان الخميس منتصف جمادى الثانية ، كما يدل برنامج تحويل التاريخ الهجري .
ويؤيده أن أمير المؤمنين عليه السلام بقي بعد الحرب في أرض المعركة ثلاثة أيام ، ثم دخل البصرة يوم الاثنين ، فتكون بداية الحرب يوم الخميس إلى الخميس التالي .

أمهلهم الإمام عليه السلام ثلاثة أيام للمفاوضات

قال الطبري ( 3 / 513 ) : ( فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال ، يرسل إليهم عليٌّ ويكلمهم ، ويردعهم ) .
وفي مصنف ابن أبي شيبة ( 8 / 710 ) : ( ضُرب فسطاط بين العسكرين يوم الجمل ثلاثة أيام ، فكان علي والزبير وطلحة يأتونه ، فيذاكرون فيه ما شاء الله ) .
وفي الفصول المهمة لابن الصباغ ( 1 / 402 ) : ( وأقاموا ثلاثة أيام ، لم يكن بينهم شئ إلاّ الصلح وهم يتراسلون ) .
وفي كشف الغمة للإربلي ( 1 / 240 ) : ( وكتب عليه السلام إلى عايشة : أما بعد فإنك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله تطلبين أمراًكان عنك موضوعاً ، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين الناس ، فخبريني ما للنساء وقَوْدُ العساكر ! وزعمت أنك طالبة بدم عثمان ، وعثمان رجل من بني أمية ، وأنت امرأة من بني تيم بن مرة ! ولعمري إن الذي عرضك للبلاء ، وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتله عثمان ، وما غضبتِ حتى أُغضبت ، ولاهِجْتِ حتى هُيِّجْتِ ،
--------------------------- 194 ---------------------------
فاتقي الله يا عايشة ، وارجعي إلى منزلك ، وأسبلي عليك سترك . والسلام .
فجاء الجواب إليه : ( يا ابن أبي طالب ، جلَّ الأمر عن العتاب ، ولن ندخل في طاعتك أبداً ، فاقض ما أنت قاض . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 111 ) .
وقال المفيد في الجمل / 177 : ( وبلغ أمير المؤمنين عليه السلام لغط القوم واجتماعهم على حربه ، فقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال : أيها الناس إن طلحة والزبير قدما البصرة وقد اجتمع أهلها على طاعة الله وبيعتي ، فدعواهم إلى معصية الله تعالى وخلافي ، فمن أطاعهما منهم فتنوه ، ومن عصاهما قتلوه ، وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم ، وقتلهم السبابجة ، وفعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عليكم ، وقد كشفوا الآن القناع وآذنوا بالحرب ، وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم ، وقد أرعد وصاحبه وأبرقا ، وهذان امرءان معهما الفشل . وقد خرجوا من هدى إلى ضلال ، ودعوناكم إلى الرضا ودعوكم إلى السخط ، فحل لنا ولكم ردهم إلى الحق ، وحل لهم بقصاصهم القتل ، وقد والله مشوا إليكم ضراراً ، وأذاقوكم أمس من الجمر ، فإذا لقيتم القوم غداً فاعذروا في الدعاء ، واستعينوا بالله واصبروا ، إن الله مع الصابرين . فقام إليه حكيم بن مناف حتى وقف بين يديه ، وقال :
أبا حسن أيقظت من كان نائماً * وما كل من يُدعى إلى الحق يسمعُ
وما كل من يعطى الرضايقبل الرضا * وما كل من أعطيته الحق يقنع
وأنت امرؤٌ أعطيت من كل وجهة * محاسنها والله يعطي ويمنع
وما منك بالأمر المؤلم غلظة * وما فيك للمرء المخالف مطمع
وإن رجالاً بايعوك وخالفوا * هداك وأجروا في الضلال فضيعوا
لأهل لتجريد الصوارم فيهم * وسمر العوالي والقنا تتزعزع
فإني لأرجو أن تدور عليهم * رحى الموت حتى يسكنوا ويصرعوا
--------------------------- 195 ---------------------------
وطلحة فيها والزبير قرينه * وليس لما لا يدفع الله مدفع
فإن يمضيا فالحرب أضيق حلقة * وإن يرجعا عن تلك فالسلم أوسع
وما بايعوه كارهين لبيعة * وما بسطت منهم على الكره إصبع
ولا بطيا عنها فراقاً ولا بدا * لهم أحد بعد الذين تجمعوا
على نقضها ممن له شد عقدها * فقصراهما منه أصابع أربع
خروجٌ بأم المؤمنين وغدرهم * وعيبٌ على من كان في القلب أشجع
وذكرهم قتل ابن عفان خدعةً * وهم قتلوه والمخادع يخدع
فعُودُ عليٍّ نبعةٌ هاشمية * وعودهما فيما هما فيه خَرْوَعُ
ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام أنظرهم وأنذرهم ثلاثة أيام ، ليكفوا ويرعووا ، فلما علم إصرارهم على الخلاف قام في أصحابه وقال : عباد الله ، إنهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم ، فإنهم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي ، ونكلوا بعاملي وأخرجوه من البصرة ، بعد أن آلموه بالضرب المبرح والعقوبة الشديدة ، وهو شيخ من وجوه الأنصار والفضلاء ، ولم يرعوا له حرمة . وقتلوا السبابجة رجالاً صالحين ، وقتلوا حكيم بن جبلة ظلماً وعدواناً لغضبه لله تعالى ، ثم تتبعوا شيعتي بعد أن ضربوهم وأخذوهم في كل عايبة ، وتحت كل رابية ، يضربون أعناقهم صبراً ! ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون !
فانهدوا إليهم عباد الله ، وكونوا أسوداً عليهم فإنهم شرار ، ومساعدوهم على الباطل شرار ، فالقوهم صابرين محتسبين ، موطنين أنفسكم أنكم منازلون ومقاتلون ، قد وطنتم أنفسكم على الضرب والطعن ومنازلة الأقران ، فأي امرئ أحس من نفسه رباطة جأش عند الفزع وشجاعة عند اللقاء ، ورأى من أخيه فشلاً أو وهناً ، فليذب عن أخيه الذي فضله الله عليه ، كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله . فقام إليه شداد بن شمرالعبدي ، فحمد الله
--------------------------- 196 ---------------------------
وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإنه لما كثر الخطاؤون وتمرد الجاحدون ، فزعنا إلى آل نبينا صلى الله عليه وآله الذين بهم ابتدأنا بالكرامة ، وهدانا من الضلالة ، إلزموهم رحمكم الله ، ودعوا من أخذ يميناً وشمالاً ، فإن أولئك في غمرتهم يعمهون ، وفي ضلالهم يترددون ) .
وفي كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي ( 1 / 244 و 240 ) : ( عن زر ، أنه سمع علياً يقول : أنا فقأت عين الفتنة ، ولولا أنا ما قتل أهل النهروان وأهل الجمل ، ولولا أنني أخشى أن تتركوا العمل لأنبأتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله لمن قاتلهم مستبصراً ضلالهم ، عارفاً للهدى الذي نحن عليه . وقال علي عليه السلام يوم الجمل : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ . ثم حلف حين قرأها أنه ما قوتل عليها منذ نزلت حتى اليوم ) !

وأرسلت عائشة رجلاً ناصبياً إلى علي عليه السلام

روى في بصائر الدرجات / 263 ، بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( إن عايشة قالت : إلتمسوا لي رجلاً شديد العداوة لهذا الرجل حتى أبعثه إليه . قال : فأُتِيَتْ به فمثُل بين يديها فرفعت إليه رأسها فقالت : ما بلغ من عداوتك لهذا الرجل ؟ قال فقال لها : كثيراً ما أتمنى على ربي أنه وأصحابه في وسطي ، فضربته ضربة بالسيف فسبق السيف الدم . قالت : فأنت له ، فاذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعناً رأيته أو مقيماً ، أما إنك إن رأيته راكباً على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله متنكباً قوسه معلقاً كنانته بقربوس سرجه ، وأصحابه خلفه كأنهم طير صواف ، فتعطيه كتابي هذا ، وإن عرض عليك طعامه وشرابه فلا تناولنَّ منه شيئاً ، فإن فيه السحر ! قال : فاستقبلته راكباً فناولته الكتاب ففض خاتمه ثم قرأه ، فقال : تبلغ إلى منزلنا فتصيب من طعامنا وشرابنا ، ونكتب جواب كتابك ، فقال هذا والله ما لا يكون ! قال فسار خلفه فأحدق به أصحابه ، ثم قال له : أسألك ؟ قال : نعم . قال : وتجيبني ؟ قال : نعم . قال : فنشدتك الله هل قالت : إلتمسوا لي رجلاً شديداً عداوته لهذا الرجل فأتوها بك فقالت لك : ما بلغ من عداوتك لهذا الرجل ؟ فقلت : كثيراً ما أتمنى على ربي أنه وأصحابه في وسطي وأني ضربته ضربة بالسيف يسبق
--------------------------- 197 ---------------------------
السيف الدم ؟ قال : اللهم نعم . قال : فنشدتك الله ، أقالت لك إذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعناً كان أو مقيماً ، أما إنك إن رأيته راكباً بغلة رسول الله متنكباً قوسه معلقاً كنانته بقربوس سرجه ، وأصحابه خلفه كأنهم طير صواف ، فتعطيه كتابه هذا . فقال : اللهم نعم . قال : فنشدتك بالله هل قالت لك : إن عرض عليك طعامه وشرابه فلاتناولن منه شيئاً فإن فيه السحر ؟ قال : اللهم نعم . قال : فمبلغ أنت عني ؟ قال : اللهم نعم ، فإني أتيتك وما في الأرض خلق أبغض إليّ منك ، وأنا الساعة ما في الأرض خلق أحب إليَّ منك ، فمرني بما شئت ! قال : إرجع إليها بكتابي هذا ، وقل لها : ما أطعت الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله حيث أمرك الله بلزوم بيتك ، فخرجت ترددين في العساكر . وقل لهم : ما أنصفتم الله ولا رسوله حيث خلفتم حلايلكم في بيوتكم ، وأخرجتم حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله ! قال : فجاء بكتابه حتى طرحه إليها ، وأبلغها مقالته ثم رجع إليه ، فأصيب بصفين ، فقالت : ما نبعث إليه بأحد إلا أفسده علينا ) !
ورواه في المناقب ( 2 / 96 ) والثاقب / 263 ، والخرائج ( 2 / 724 ) وفيه دلالة على ضغن عائشة ، وأن عقيدتها في السحر والجن عقيدة عرب الجزيرة ، وأن تهمتها لعلي هي نفس تهمة قريش للنبي صلى الله عليه وآله وأبي طالب ، ثم اتهموا بها علياً عليه السلام .

وأرسل اليه طلحة والزبير رجلاً ناصبياً !

في الكافي ( 1 / 343 ) بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( بعث طلحة والزبير رجلاً من عبد القيس يقال له : خداش إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وقالا له : إنا نبعثك إلى رجل طال ما كنا نعرفه وأهل بيته بالسحر والكهانة ، وأنت أوثق من بحضرتنا من أنفسنا من أن تمتنع من ذلك ، وأن تحاجه لنا حتى تقفه على أمر معلوم ، واعلم أنه أعظم الناس دعوى فلا يكسرنك ذلك عنه ، ومن الأبواب التي يخدع الناس بها الطعام والشراب والعسل والدهن ، وأن يخالي الرجل ، فلا تأكل له طعاماً ، ولا تشرب له شراباً ، ولا تمس له عسلاً ولا دهناً ولا تخل معه
--------------------------- 198 ---------------------------
واحذر هذا كله منه ، وانطلق على بركة الله فإذا رأيته فاقرأ آية السخرة ، وتعوذ بالله من كيده وكيد الشيطان . فإذا جلست إليه فلا تمكنه من بصرك كله ولا تستأنس به . ثم قل له : إن أخويك في الدين وابني عمك في القرابة يناشدانك القطيعة ، ويقولان لك : أما تعلم أنا تركنا الناس لك وخالفنا عشائرنا فيك منذ قبض الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله فلما نلت أدنى منال ، ضيعت حرمتنا وقطعت رجاءنا ، ثم قد رأيت أفعالنا فيك وقدرتنا على النأي عنك ، وسعة البلاد دونك .
وإن من كان يصرفك عنا ، وعن صلتنا كان أقل لك نفعاً وأضعف عنك دفعاً منا ، وقد وضح الصبح لذي عينين ، وقد بلغنا عنك انتهاك لنا ودعاء علينا ، فما الذي يحملك على ذلك ؟ فقد كنا نرى أنك أشجع فرسان العرب ، أتتخذ اللعن لنا ديناً ، وترى أن ذلك يكسرنا عنك .
فلما أتى خداش أمير المؤمنين عليه السلام صنع ما أمراه ، فلما نظر إليه علي عليه السلام وهو يناجي نفسه ضحك وقال : هاهنا يا أخا عبد قيس ، وأشار له إلى مجلس قريب منه ، فقال : ما أوسع المكان ، أريد أن أؤدي إليك رسالة ، قال : بل تطعم وتشرب وتحل ثيابك وتدهن ثم تؤدي رسالتك . قم يا قنبرفأنزله قال : ما بي إلى شئ مما ذكرت حاجة ، قال : فأخلو بك ؟ قال : كل سر لي علانية .
قال : فأنشدك بالله الذي هو أقرب إليك من نفسك ، الحائل بينك وبين قلبك ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، أتقدم إليك الزبير بما عرضت عليك ؟ قال : اللهم نعم . قال : لو كتمت بعدما سألتك ما ارتد إليك طرفك ، فأنشدك الله هل علمك كلاماً تقوله إذا أتيتني ؟ قال : اللهم نعم . قال علي عليه السلام : آية السخرة ؟ قال : نعم . قال : فاقرأها ، وجعل علي عليه السلام يكررها ويرددها ويفتح عليه إذا أخطأ حتى إذا قرأها سبعين مرة ، قال الرجل : ما يرى أمير المؤمنين أمره بترديدها سبعين مرة . ثم قال له : أتجد قلبك اطمأن ؟ قال : إي والذي نفسي بيده . قال : فما قالا لك ؟ فأخبره . فقال : قل لهما : كفى بمنطقكما حجة عليكما ، ولكن الله لا يهدي القوم الظالمين ، زعمتما أنكما أخواي في الدين وابنا عمي في النسب ، فأما النسب فلا أنكره وإن كان النسب مقطوعاً إلا ما
--------------------------- 199 ---------------------------
وصله الله بالإسلام ، وأما قولكما إنكما أخواي في الدين ، فإن كنتما صادقين فقد فارقتما كتاب الله عز وجل ، وعصيتما أمره بأفعالكما في أخيكما في الدين ، وإلا فقد كذبتما وافتريتما بادعائكما أنكما أخواي في الدين . وأما مفارقتكما الناس منذ قبض الله محمداً صلى الله عليه وآله فإن كنتما فارقتماهم بحق ، فقد نقضتما ذلك الحق بفراقكما إياي أخيراً ، وإن فارقتماهم بباطل فقد وقع إثم ذلك الباطل عليكما مع الحدث الذي أحدثتما ، مع أن صفقتكما بمفارقتكما الناس لم تكن إلا لطمع الدنيا ، زعمتما وذلك قولكما : ت رجاءنا : لا تعيبان بحمد الله من ديني شيئاً ، وأما الذي صرفني عن صلتكما ، فالذي صرفكما عن الحق وحملكما على خلعه من رقابكما كما يخلع الحرون لجامه ، وهو الله ربي لا أشرك به شيئاً ، فلا تقولا : أقل نفعاً وأضعف دفعاً ، فتستحقا اسم الشرك مع النفاق ! وأما قولكما : إني أشجع فرسان العرب ، وهربكما من لعني ودعائي ، فإن لكل موقف عملاً إذا اختلفت الأسنة وماجت لبود الخيل ، وملأ سحرا كما أجوافكما فثم يكفيني الله بكمال القلب .
وأما إذا أبيتما بأني أدعو الله ، فلا تجزعا من أن يدعو عليكما رجل ساحر من قوم سحرة زعمتما ! اللهم أقعص الزبير بشر قتلة ، واسفك دمه على ضلالة ، وعرف طلحة المذلة وادخر لهما في الآخرة شراً من ذلك ، إن كانا ظلماني وافتريا علي وكتما شهادتهما ، وعصياك وعصيا رسولك فيَّ . قل : آمين ، قال خداش : آمين .
ثم قال خداش لنفسه : والله ما رأيت لحية قط أبين خطأ منك ، حامل حجة ينقض بعضها بعضاً ، لم يجعل الله لها مساكاً ، أنا أبرأ إلى الله منهما ! قال علي عليه السلام : إرجع إليهما وأعلمهما ما قلت ، قال : لا والله حتى تسأل الله أن يردني إليك عاجلاً وأن يوفقني لرضاه فيك ، ففعل ، فلم يلبث أن انصرف وقتل معه يوم الجمل ) .
أقول : آية السخرة التي أوصياه أن يقرأها هي قوله تعالى في سورة الأعراف : 54 : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وهي تقرأ لدفع شر السحر ، وبعض الر وايات تضيف إليها آيتين هما : أدْعُوا
--------------------------- 200 ---------------------------
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .

واستمرت قريش في اتهام بني هاشم بالسحر

كانت قريش تتهم النبي صلى الله عليه وآله بأنه ساحر ، فلما دخلوا في الإسلام توقفوا عن تهمتهم له ، لكنهم واصلوا تهمتهم لبيت أبي طالب وعلي عليه السلام بأنهم بيت سحر !
وقد وردت هذه التهمة على لسان عائشة وطلحة والزبير كما رأيت ، وقبلهما على لسان عمر بن الخطاب ! فقد صح عندنا ( بصائر الدرجات / 294 ) : ( عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن أمير المؤمنين عليه السلام لقي أبا بكر فاحتج عليه ثم قال له : أما ترضى برسول الله صلى الله عليه وآله بيني وبينك ؟ قال : فكيف لي به ؟ فأخذ بيده وأتى مسجد قُبا فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله فيه ، فقضى على أبي بكر ، فرجع أبو بكر مذعوراً ، فلقي عمر فأخبره فقال : مالك ! أما علمت سحر بني هاشم ) !
وفي الخرائج للقطب الراوندي ( 1 / 233 ) : ( عن سلمان الفارسي أن علياً عليه السلام بلغه عن عمر ذكره لشيعته ( أنه يريد قتلهم ) فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد علي عليه السلام قوس عربية ، فقال علي : يا عمر بلغني عنك ذكر شيعتي فقال : إربع على ظلعك ( أي إقبل وامش بعرجك ) قال علي : إنك لها هنا ! ثم رمى بالقوس إلى الأرض ، فإذا هي ثعبان كالبعيرفاغرٌ فاهُ ، وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه ! فصاح عمر : الله الله يا أبا الحسن لاعدت بعدها في شئ ! وجعل يتضرع إليه ، فضرب علي يده إلى الثعبان ، فعادت القوس كما كانت ، فمضى عمر إلى بيته مرعوباً ! قال سلمان : فلما كان في الليل دعاني علي عليه السلام فقال : صِرْ إلى عمر فإنه حُمل إليه مال من ناحية المشرق ولم يعلم به أحد ، وقد عزم أن يحتبسه فقل له : يقول لك علي : أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من جعل لهم ، ولا تحبسه فأفضحك ! قال سلمان : وأديت إليه الرسالة فقال : حيرني أمر صاحبك ، فمن أين علم هو به ؟ قلت : وهل يخفى عليه مثل هذا ! فقال : يا سلمان إقبل مني ما أقول لك : ما علي إلا ساحر ، وإني لمشفق عليك منه ،
--------------------------- 201 ---------------------------
والصواب أن تفارقه وتصير في جملتنا ! قلت : بئسما قلت ، لكن علياً قد ورث من آثار النبوة ما قد رأيت منه وما هو أكبر منه . قال : إرجع إليه فقل له : السمع والطاعة لأمرك ! فرجعت إلى علي عليه السلام فقال : أحدثك بما جرى بينكما ؟ فقلت : أنت أعلم به مني ، فتكلم بكل ما جرى بيننا ، ثم قال : إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت ) !
أقول : عقيدتنا أن علياً وأئمة العترة عليهم السلام عندهم علم الظاهر والباطن ، فعندهم الاسم الأعظم ، ولكنهم لا يستعملون العلم الباطن إلا إذا أمروا بذلك ، بالإلهام ، أو تحدثهم الملائكة . وهذه الرواية تعني أن علياً عليه السلام استعمل قدرته مع عمر لتخويفه بالثعبان ، ليرده عن اضطهاد شيعته وإبادتهم !

وأتم الإمام الحجة فأرسل ابن عباس يدعوهم إلى القرآن

قال المفيد في كتاب الجمل / 179 : ( ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشرمضين من جمادى الأولى ، وعلى ميمنته الأشتر ، وعلى ميسرته عمار بن ياسر ، وأعطى الراية محمد بن الحنفية ابنه ، وسار حتى وقف موقفاً ، ثم نادى في الناس : لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم .
ودعا عبد الله بن العباس فأعطاه المصحف وقال : إمض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلى ما فيه ، وقل لطلحة والزبير : ألم تبايعاني مختارين ، فما الذي دعاكما إلى نكث بيعتي ، وهذا كتاب الله بيني وبينكما !
قال عبد الله بن العباس : فبدأت بالزبير وكان عندي أبقاهما علينا ، وكلَّمته في الرجوع وقلت له : إن أمير المؤمنين عليه السلام يقول لك : ألم تبايعني طائعاً ، فبمَ تستحل قتالي ؟ وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه . قال : إرجع إلى صاحبك فإنا بايعنا كارهين ، وما لي حاجة في محاكمته . فانصرفت عنه إلى طلحة والناس يشتدون والمصحف في يدي ، فوجدته قد لبس الدرع وهومحتبٍ بحمائل سيفه ودابته واقفة ، فقلت له : إن أمير المؤمنين يقول لك : ما حملك على
--------------------------- 202 ---------------------------
الخروج وبمَ استحللت نقض بيعتي والعهد عليك ؟ قال : خرجت أطلب بدم عثمان ، أيظن ابن عمك أنه قد حوى على الأمر حين حوى على الكوفة ، وقد والله كتبت إلى المدينة تؤخذ لي بمكة . فقلت له : إتق الله يا طلحة فإنه ليس لك أن تطلب بدم عثمان ، وولده أولى بدمه منك ، هذا أبان بن عثمان ما ينهض في طلب دم أبيه ؟ قال طلحة : نحن أقوى على ذلك منه ، قتله ابن عمك وابتز أمرنا ! فقلت له : أذكرك الله في المسلمين وفي دمائهم ، وهذا المصحف بيننا وبينكم ، والله ما أنصفتم رسول الله إذ حبستم نساءكم في بيوتكم وأخرجتم حبيسة رسول الله ! فأعرض عني ونادى بأصحابه : ناجزوا القوم فإنكم لاتقومون لحجاج ابن أبي طالب ! فقلت : يا أبا محمد أبالسيف تخوف ابن أبي طالب ! أما والله ليعاجلنك للسيف ! فقال : ذلك بيننا وبينكم !
قال فانصرفت عنهما إلى عائشة وهي في هودج ، وقد دفف بالدروع على جملها عسكر ، وكعب بن سور القاضي آخذ بخطامه وحولها الأزد وضبة ، فلما رأتني قالت : ما الذي جاء بك يا ابن عباس ؟ والله لاسمعت منك شيئاً ! إرجع إلى صاحبك وقل له : ما بيننا وبينك إلا السيف ! وصاح مَن حولها : إرجع يا ابن عباس لئلا يسفك دمك . فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته الخبر وقلت : ما تنتظر ، والله لايعطيك القوم إلا السيف ، فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك . فقال عليه السلام : نستظهر بالله عليهم .
قال ابن عباس : فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليَّ نَشّابهم كأنه جراد منتشر ، فقلت : أما ترى يا أمير المؤمنين ، إلى ما يصنع القوم ! مُرْنا ندفعهم ) !
في الكافي ( 5 / 53 ) : ( أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب يوم الجمل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني أتيت هؤلاء القوم ودعوتهم واحتججت عليهم ، فدعوني إلى أن أصبر للجلاد وأبرز للطعان ، فلأمهم الهبل وقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب ، أنصف القارة من راماها ! فلغيري فليبرقوا وليرعدوا ، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم ، وفرقت جماعتهم ، وبذلك القلب ألقى عدوي ، وأنا على ما وعدني ربي من النصر والتأييد والظفر ، وإني لعلى يقين من ربي ، وغير شبهة من أمري .
أيها الناس : إن الموت لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب ، ليس عن الموت محيص ،
--------------------------- 203 ---------------------------
ومن لم يمت يقتل ، وإن أفضل الموت القتل ، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على فراش .
واعجباً لطلحة ألب الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعاً ، ثم نكث بيعتي ! اللهم خذه ولا تمهله . وإن الزبيرنكث بيعتي وقطع رحمي وظاهر علي عدوي ، فاكفنيه اليوم بما شئت ) .

انسحب الزبير وقتل وهو راجع إلى المدينة

1 . نصت الروايات على أن علياً دعا طلحة والزبير إلى ما بين الصفين فجاءا وكلمهما ، ثم طلب أن يكلم الزبير على حدة فانفردا . وعاد طلحة إلى قرب معسكرهم ، وبعد أن قرر الزبير ترك المعركة ، نادى علي عليه السلام طلحة وكلمه مرة ثانية بعد الظهر ، فأراد أن ينسحب ، فرماه مروان بسهم وقتله .
ففي الإحتجاج ( 1 / 237 ) : ( عن سليم بن قيس الهلالي قال : لما التقى أمير المؤمنين عليه السلام أهل البصرة يوم الجمل ، نادى الزبيرَ يا أبا عبد الله أخرج إليَّ ، فخرج الزبير ومعه طلحة ، فقال لهما : والله إنكما لتعلمان وأولوا العلم من آل محمد وعائشة بنت أبي بكرأن كل أصحاب الجمل ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله ، وقد خاب من افترى ! قالا : كيف نكون ملعونين ونحن أصحاب بدر وأهل الجنة ! فقال عليه السلام : لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم ، فقال له الزبير : أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل ، وهو يروي أنه سمع رسول الله يقول : عشرة من قريش في الجنة ؟ قال علي عليه السلام : سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته ! فقال الزبير : أفتراه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال له علي عليه السلام : لستُ أخبرك بشئ حتى تسميهم ؟ قال الزبير : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن عمرو بن نفيل . فقال له علي عليه السلام : عددتَ تسعة فمن العاشر ؟ قال له : أنت ! قال علي عليه السلام : قد أقررتَ أني من أهل الجنة ، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك
--------------------------- 204 ---------------------------
فأنا به من الجاحدين الكافرين ! قال له : أفتراه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ! قال عليه السلام : ما أراه كذب ، ولكنه والله اليقين ! فقال علي عليه السلام : والله إن بعض من سميته لفي تابوتٍ في شِعْبٍ في جُبٍّ في أسفل دركٍ من جهنم ، على ذلك الجُب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة ! سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك ! وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دماءكم على يدي ، وعجل أرواحكم إلى النار ! فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي ) !
أقول : هذه مباهلة أن يَقتل الله المبطل منهما ، وقد استجاب الله فقُتل طلحة والزبير .
2 . قال الطبري ( 3 / 514 ) : ( فالتقوا عند موضع قصرعبيد الله بن زياد في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 ، يوم الخميس ، فلما تراءى الجمعان خرج الزبيرعلى فرس عليه سلاح فقيل لعلي هذا الزبير ، قال : أما إنه أحرى الرجلين إن ذُكِّرَ بالله أن يذكر . وخرج طلحة فخرج إليهما علي فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال علي : لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتما عند الله عذراً فاتقيا الله سبحانه ، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً .
ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دماءكما ، فهل من حدثٍ أحل لكما دمي ؟ قال طلحة : ألبت الناس على عثمان . قال علي عليه السلام : يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَالْحَقُّ الْمُبِينُ . يا طلحة تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان ! يا زبيرأتذكر يوم مررتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بني غنم فنظر إليَّ فضحك وضحكتُ إليه فقلتَ : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ! فقال لك رسول الله صلى الله عليه وآله : صه إنه ليس به زهو ، ولتقاتلنه وأنت له ظالم ! فقال : اللهم نعم ، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا . والله لا أقاتلك أبداً ! فانصرف علي إلى أصحابه فقال : أما الزبير فقد أعطى الله عهداً ألا يقاتلكم ! ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها : ما كنت في موطن منذ عقلت إلاوأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا ! قالت : فما تريد أن تصنع ؟ قال : أريد أن أدعهم وأذهب . فقال له ابنه عبد الله : جمعت بين هذين الغارين ( الجمعين ) حتى إذا حدد بعضهم لبعض ، أردت أن تتركهم وتذهب ، أحسست رايات ابن أبي طالب ، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد !
--------------------------- 205 ---------------------------
قال : إني قد حلفت ألا أقاتله ، وأحفظه ما قال له . فقال : كَفِّر عن يمينك وقاتله ، فدعا بغلام له يقال له مكحول فأعتقه ، فقال عبد الرحمن بن سليمان :
لم أر كاليوم أخا إخوان * أعجب من مكفر الأيْمان
بالعتق في معصية الرحمن !
وقال رجل من شعرائهم :
يعتق مكحولاً لصون دينه * كفارةً لله عن يمينه
والنكث قد لاحَ على جبينه ) .
3 . وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 362 ) : ( وخرج علي بنفسه حاسراً على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله لاسلاح عليه فنادى : يا زبير أخرج إليّ ، فخرج اليه الزبير شاكياً في سلاحه ، فقيل ذلك لعائشة فقالت : وا ثَكْلَكِ يا أسماء ! فقيل لها : إن علياً حاسر فاطمأنت ، واعتنق كل واحد منهما صاحبه فقال له علي : ويحك يا زبير ، ما الذي أخرجك ؟ قال : دم عثمان ، قال : قتَلَ الله أولانا بدم عثمان ! أما تذكر يوم لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله في بني بيَاضة وهو راكب حماره فضحك إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وضحكت اليه وأنت معه ، فقلت أنت : يا رسول الله ما يدع عليٌّ زَهْوه فقال لك : ليس به زهو ، أتحبه يا زبير ؟ فقلت : إني والله لأحبه ، فقال لك : إنك والله ستقاتله وأنت له ظالم ! فقال الزبير : أستغفر الله ، والله لو ذكرتها ما خرجت ! فقال له : يا زبير إرجع ، فقال : وكيف أرجع الآن وقد التقت حَلقَتَا البِطان ، هذا والله العار الذي لا يغسل ! فقال : يا زبير إرجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار ! فرجع الزبير وهو يقول :
إخترت عاراً على نار مؤجَّجَةٍ * ما إنْ يقوم لها خلق من الطين
نادى عليٌّ بأمر لست أجهله * عارٌ لعمرك في الدنيا وفي الدين
فقلت حسبك من عَذلٍ أبا حسن * فبَعْض هذا الذي قد قلت يكفيني
فقال ابنه عبد الله : أين تذهب وتدعنا ؟ فقال : يا بني أذكرَني أبو الحسن بأمر
--------------------------- 206 ---------------------------
كنت قد أنسيته . فقال : لا والله ، ولكنك فررت من سيوف بني عبد المطلب ، فإنها طوال حِدَاد ، تحملها فتية أنجاد ! قال : لا والله ، ولكني ذكرت ما أنسانيه الدهر فاخترت العار على النار ، أبالجبن تعيرني لا أباً لك ! ثم أمال سنانه وشدَّ في الميمنة فقال علي عليه السلام : أفرجوا له فقد هاجوه ، ثم رجع فشد في الميسرة ، ثم رجع فشد في القلب ، ثم عاد إلى ابنه ، فقال : أيفعل هذا جبان ؟ ثم مضى منصرفاً ، حتى أتى وادي السباع والأحنَفُ بن قيس معتزل في قومه من بني تميم ، فأتاه آت فقال له : هذا الزبير ماراً ، فقال : ما أصنع بالزبير وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضاً وهو مارٌّ إلى منزله سالماً ! فلحقه نفرمن بني تميم ، فسبقهم اليه عمرو بن جُرموز وقد نزل الزبير إلى الصلاة ، فقال : أتؤُمُّني أو أَؤُمُّك ؟ فأمه الزبير فقتله عمرو في الصلاة .
وقتل الزبير وله خمس وسبعون سنة ، وقد قيل إن الأحنف بن قيس قتله بإرساله من أرسل من قومه . وقد رثته الشعراء وذكرت غدْرَ عمرو بن جُرْموز به ، وممن رثاه زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفَيْل أخت سعيد بن زيد ، فقالت :
غدَرَ ابن جرموزٍ بفارس بُهْمةٍ * يوم اللقاء وكان غير مسدَّدِ
يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد
هَبِلتْك أمك إن قتلت لمسلماً * حلت عليك عقوبة المتعمد
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * فيمن مضى ممن يروح ويغتدي
وأتى عمرو علياً بسيف الزبيروخاتمه ورأسه . وقيل إنه لم يأت برأسه ، فقال علي : سيفٌ طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله لكنه الحينُ ومصارع السوء ، وقاتل ابن صفية في النار ! ففي ذلك يقول عمرو بن جرموز التميمي :
أتيت علياً برأس الزبير * وقد كنت أرجو به الزلفة
فبشر بالنار قبل العِيان * وبئس بشارة ذي التحفة
لسيَّان عندي قتل الزبير * وضرطة عنز بذي الجحفة
4 . وفي الدر النظيم ( 1 / 346 ) : ( وأكثر علي عليه السلام مراسلة طلحة والزبير وعائشة مراراً
--------------------------- 207 ---------------------------
كثيرة ، يدعوهم إلى التوبة ويأمرهم بالرجوع إلى الطاعة . وتكلم الزبير بكلام يدل على أنه ينصرف عن القتال فأنكره عليه ابنه عبد الله ، وقال له كلاماً معناه : قد جبنت لما رأيت رايات علي ، وهِبت سيوف بني عبد المطلب . فحمل الزبير فرسه على العسكر مراراً ليعلم الناس أنه ليس بجبان ، ثم انصرف ) !
5 . ترك الزبير المعركة بعد اصطفاف الصفوف للحرب ، لكنه كان وفياً لعائشة أخت زوجته وخالة ابنه عبد الله ! فبعد لقائه المؤثر مع علي عليه السلام اكتفى بالقول لعائشة إنه يشك ولا يرى نفسه على الحق ، وإنه قرر الانسحاب والعودة إلى المدينة ! ولما سأله ابنه عبد الله كما روى ابن قتيبة : ( فما يردُّك ؟ قال : يردني ما إن علمته كَسَرَك ) ! فقد أراد من ابنه وعائشة وطلحة أن يواصلوا المعركة ضد علي ! ولذا لم يخبرهم بحديث النبي صلى الله عليه وآله الذي ذكَّره به علي عليه السلام ، ولا طلب منهم تجنب إراقة دماء المسلمين والصلح مع علي عليه السلام !
وقد حاولت عائشة وابنه عبد الله أن يثيروا نخوته فاتهموه بالجبن أمام سيوف بني عبد المطلب ! لكنه لم يخضع لذلك ، وأجابهم أني سأثبت لكم الآن أني لست جباناً ، وركب فرسه وأغار على جيش علي عليه السلام فعرف علي عليه السلام أنه هجوم لإثبات الشجاعة ! فأمر الجيش أن يفتحوا له الطريق ولا يقاتلوه ، فشق الزبير الجيش وأكمل طريقه عائداً إلى المدينة ! وخسرت عائشة به ركناً من أركانها ، ولكنها تعزت بولده عبد الله ، فهو أشد بغضاً لعلي وبني هاشم !
6 . روى البلاذري ( 2 / 251 ) انسحاب الزبير ومقتل طلحة بشكل آخر ، فقال ملخصاً : ( فلما تواقفوا قال عليّ لطلحة : خبأت عرسك في خدرها وجئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وآله تقاتل بها ! ويحك أما بايعتني ؟ قال بايعتك والسيف على عنقي . ثم قال علي للزبير : يا زبير قف بنا حجزةً ، فتواقفا حتى اختلفت أعناق فرسيهما فقال : ويحك يا زبير أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لي : أما إن ابن عمتك هذا سيبغي عليك ويريد قتالك ظالماً ؟ قال : اللهم بلى . فرجع عن قتاله وسار
--------------------------- 208 ---------------------------
من البصرة ليلة فنزل ماء لبني مجاشع فأتبعه عمرو بن جرموز ، وفضيل بن عابس ونفيل بن حابس من بني تميم فركضوا أفراسهم في أثره ، وقد كان النعر بن زمام المجاشعي لقيه فأجاره ، وأجاره أيضاً رجل من بني سعد يكنى أبا المضرحي ، فلما لحقه ابن جرموز وصاحباه خرجا هاربين فقال لهما الزبير : إلى أين ؟ إلي إنما هم ثلاثة ونحن ثلاثة . فأسلماه ولحقه القوم فعطف عليهم فحمل عليه ابن جرموز ، فنصب له الزبير فانصرف عنه ، وحمل عليه الاثنان من ورائه فالتفت إليهما ، وحمل عليه ابن جرموز فطعنه فوقع فاعتوروه فقتلوه ، واحتز ابن جرموز رأسه فجاء به إلى الأحنف ، ثم أتاه علياً فقال قولوا لأمير المؤمنين : قاتل الزبير بالباب . فقال : بشروا قاتل ابن صفية بالنار ! وجاءه ابن جرموز بسيفه فقال علي : سيف طال ما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ولكنه الحين ومصارع السوء . ثم أقبل علي وولده يبكون ، فقال ابن جرموز : ظننت أني قتلت عدواً له ، ولم أظن أني إنما قتلت له ولياً حميماً ) !
7 . وروى ابن شعبة عن الإمام الهادي في تحف العقول / 480 : ( وأما قول علي عليه السلام : بشر قاتل ابن صفية بالنار ، فهو لقول رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان ممن خرج يوم النهروان . فلم يقتله أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة ، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان ) .
8 . ثم روى البلاذري رواية أخرى ، قال : فتواقفا فقال له علي : ما جاء بك ؟ قال : جاء بي أني لا أراك لهذا الأمرأهلاً ولا أولى به منا . فقال علي : لست أهلاًلها بعد عثمان ! قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى نشأ ابنك ابن السوء ففرق بيننا وبينك ! وعظَّم عليه أشياء ، وذكره أن النبي صلى الله عليه وآله مرَّ عليهما فقال لعلي : ما يقول ابن عمتك ، ليقاتلنك وهو لك ظالم ! فانصرف عنه الزبير وقال : فإني لا أقاتلك !
ثم قال البلاذري : ثم جاء فارسان إلى الأحنف فأكبا عليه يناجيانه ، فرفع الأحنف رأسه فقال : يا عمرو بن جرموز ، يا فلان ، فأتياه فأكبا عليه فناجاهما ساعة ثم انصرفا ، ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف فقال : أدركته في وادي السباع فقتلته . فكان قرة
--------------------------- 209 ---------------------------
بن الحرث يقول : والذي نفسي بيده ، إنْ صاحب الزبير إلا الأحنف . ثم قال البلاذري : وأتى ابن جرموز علياً برأسه ، فأمر أن يدفن مع جسده بوادي السباع ) .
9 . وفي كتاب الجمل للمفيد / 209 : ( فاحتز رأسه وجاء به إلى الأحنف فأنفذه إلى أمير المؤمنين عليه السلام فلما رأى رأس الزبير وسيفه قال : ناولني السيف فناوله فهزه وقال : سيف طالما قاتل به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ! ولكنه الحين ومصارع السوء . ثم تفرس في وجه الزبير وقال : لقد كان لك برسول الله صلى الله عليه وآله صحبة ، ومنه قرابة ، ولكن دخل الشيطان منخرك ، فأوردك هذا المورد ) !
أقول : ذكر كثير من المؤرخين والمحدثين أن مقتل الزبير كان يوم الجمل في العاشر من جمادى الأولى ، لكن المعركة بدأت الخميس منتصف جمادى الثانية ، وانسحب الزبير يومها ، والمرجح أنه قتل في اليوم الثاني ، لأن قبره يبعد عن مكان المعركة مسافة ، وقد انسحب في وسط النهار . كما أنه لم يصح عندنا توبة الزبير ولا طلحة قبل موتهما ، وما جاء في رواية البلاذري فهو على مذهب الحكومات في مدح طلحة والزبير ، وتبريرخروجهما على علي عليه السلام .

مقتل طلحة بعد أن فكر بالإنسحاب من المعركة

1 . قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 363 ) : ( ثم نادى علي رضي الله عنه طلحة حين رجع الزبير : يا أبا محمد ، ما الذي أخرجك ؟ قال : الطلب بدم عثمان ، قال علي : قتل الله أولانا بدم عثمان ! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأنت أول من بايعني ثم نكثت ، وقد قال الله عز وجل : وَمَنْ نَكَثَ فإنَّما يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ . فقال : أستغفرالله ، ثم رجع ! فقال مروان بن الحكم : رجع الزبير ويرجع طلحة ! ما أبالي رميت هاهنا أم هاهنا ، فرماه في أكحلهِ فقتله ! فمر به علي عليه السلام بعد الوقعة في موضعه في قنطرة قرة ، فوقف عليه فقال : إنا لله وإنا اليه راجعون والله لقد كنت كارهاً لهذا . أنت والله كما قال القائل :
--------------------------- 210 ---------------------------
فتىً كان يُدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويُبْعِدُه الفقر
كأن الثريَّا عُلِّقت في يمينه * وفي خده الشعرى وفي الآخر البدر
وذكر أن طلحة رضي الله عنه لما ولَّى ، سُمع وهو يقول :
ندامة ما ندمت وضل حلمي * ولهفي ثم لهف أبي وأمي
ندمت ندامة الكُسَعِيِّ لما * طلبت رضا بني جَرْم بزعمي
وهو يمسح عن جبينه الغبار ويقول : وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً . وقيل إنه سُمع وهو يقول هذا الشعر وقد جرحه في جبهته عبد الملك ، ورماه مروان في أكحله وقد وقع صريعاً يجود بنفسه ) .
أقول : من البعيد أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام استشهد بهذا البيت لطلحة .
2 . في المناقب للموفق الخوارزمي / 181 ، بسنده عن إياس الضبي قال : ( عن مجزأة السدوسي قال : ( مررت بطلحة وهو صريع بآخر رمق فقال : من أنت ؟ فإني أرى وجهك كالقمرليلة البدر ؟ قال قلت : رجل من أصحاب أمير المؤمنين ، قال : فمد يدك أبايعك لأمير المؤمنين ، فبسطت يدي فبايعني ، ثم قضى نحبه ، فأتيت علياً فأخبرته بمقالته ، فقال : الله أكبر صدق الله ورسوله ، أبى الله أن يدخله الجنة إلا وبيعتي في عنقه ) .
أقول : وهذه الرواية أيضاً على مذهب السلطة ، تزعم أن طلحة تاب وأنه في الجنة ، ويردها تصريحات أمير المؤمنين عليه السلام بهلاكه وهلاك الزبير .
3 . قال القاضي المغربي في شرح الأخبار ( 1 / 402 ) : عن نافع مولى ابن عمر أن طلحة قال لعلي بعد أن ذكره بحديث النبي صلى الله عليه وآله : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ؟ قال طلحة : اللهم نعم . قال : لا أقاتلك بعد هذا ! ثم روى أن سفيان الثوري كان يقول بأعلى صوته : والله ما أشك ، لقد بايع طلحة والزبيرعلياً ولقد نكثا عليه ، والله ما وجدا فيه لا علة في دين ، ولا خيانة في مال ) !
--------------------------- 211 ---------------------------
4 . في الإستيعاب ( 2 / 766 و 768 ) : ( زعم بعض أهل العلم أن علياً دعاه فذكَّره أشياء من سوابقه وفضله ، فرجع طلحة عن قتاله على نحو ما صنع الزبير ، واعتزل في بعض الصفوف فرميَ بسهم فقطع من رجله عرق النسا ، فلم يزل دمه ينزف حتى مات . . ولا يختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة يومئذ وكان في حزبه . عن يحيى بن سعيد : قال طلحة يوم الجمل :
ندمت ندامة الكُسَعَيِّ لما * شريت رضا بني جرم برغمي
وروى حصين عن عمرو بن جاوان قال : سمعت الأحنف يقول : لما التقوا كان أول قتيل طلحة بن عبيد الله . عن يحيى بن سعيد عن عمه قال : رمى مروان طلحة بسهم ، ثم التفت إلى أبان بن عثمان فقال : قد كفيناك بعض قتلة أبيك ) ! وروى نحوه الطبري في الرياض النظرة ( 4 / 264 ) . وفي الإصابة ( 3 / 430 ) عن مصادر بأسانيد صحيحة . وعن ابن أبي شيبة بسند صحيح ( 7 / 256 و : 8 / 716 ) .
5 . وقال البلاذري ( 2 / 246 ) : ( أحيط بطلحة عند المساء ومعه مروان بن الحكم يقاتل فيمن يقاتل ، فلما رأى مروان الناس منهزمين قال : والله لا أطلب ثاري بعثمان بعد اليوم أبداً ، فانتحى لطلحة بسهم فأصاب ساقه فأثخنه ، والتفت إلى أبان بن عثمان فقال له : قد كفيتك أحد قتلة أبيك ! وجاء مولى لطلحة ببغلة له فركبها وجعل يقول لمولاه : أما من موضع نزول ؟ فيقول : لاقد رهقك القوم . فيقول : ما رأيت مصرع شيخ أضيع ، وأدخل داراً من دور بني سعد فمات فيها ) .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 205 : ( قال لغلامه : التمس لي مكاناً أدخل فيه ، فقال الغلام : ما أدري أين أدخلك ! قال الحسن ( البصري ) : وقد كان قبل ذلك جاهد جهاداً مع رسول الله ووقاه بيده فضيع أمر نفسه ، ولقد رأيت قبره مأوى الشقاء فيضع عنده قريبه ثم يقضي عنده حاجته ، فما رأيت أعجب من هؤلاء القوم !
وأما الزبير فإنه أتى حياً من أحياء العرب فقال : أجيروني وقد كان قبل ذلك يجير ولا يجار عليه ! ثم قال الحسن : وما الذي أخافك والله ما أخافك إلا ابنك !
--------------------------- 212 ---------------------------
قال فاتَّبعه ابن جرموز في تلول من أتاليل العرب ، والله ما رأيت مثله قط ضاع دمه ! وهذا قبره بوادي السباع مخراة للثعالب ! فخرجا ولم يدركا ما طلبا ، ولم يرجعا إلى ما تركا ، فعز عليَّ هذه الشقوة التي كتبت عليهما ) !
6 . وفي المصابيح لأحمد بن إبراهيم ( 1 / 305 ) : ( قال الحسن البصري : سمعت بعضهم يقول : واعجباً لطلحة والزبيرالناكثين على علي عليه السلام من غيرحدث فقتلا ضيعة ، وجعلت قبورهما مخرأة ) !
7 . وقال ابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 479 ) : ( وجعل طلحة ينادي بأعلى صوته : عباد الله ! الصبر الصبر ! إن بعد الصبرالنصروالأجر ، قال : فنظر إليه مروان بن الحكم فقال لغلام له : ويلك يا غلام ! والله إني لا أعلم أنه ما حرض على قتل عثمان يوم الدار أحد كتحريض طلحة ، ولا قتله سواه ! ولكن أسترني فأنت حر ، قال : فستره الغلام ورمى مروان بسهم مسموم لطلحة بن عبيد الله فأصابه به ، فسقط طلحة لما به وقد أغمي عليه ، ثم أفاق فنظر إلى الدم يسيل منه فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أظن والله أننا عنينا بهذه الآية من كتاب الله عز وجل إذ يقول : وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ، قال : ثم أقبل على غلامه وقد بلغ منه الجهد ، قال : ويحك يا غلام ! أطلب لي مكاناً أدخله فأكون فيه ، فقال الغلام : لا والله ما أدري أين أنطلق بك ! فقال طلحة : يا سبحان الله ! والله ما رأيت كاليوم قط دم قرشي أضيع من دمي ، وما أظن هذا السهم إلا سهماً أرسله الله ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً . فلم يزل طلحة يقول ذلك حتى مات . ثم وضع في مكان يقال له السبخة ، ودخل من ذلك على أهل البصرة غم عظيم ، وكذلك على عائشة لأنه ابن عمها ، وجاء الليل فحجز بين الفريقين ) .
8 . قال الخلال في كتابه السنة ( 2 / 425 ) : ( وهذا طلحة بن عبيد الله انتزع له مروان بن الحكم سهماً وهو معهم واقف يوم الجمل في الصف وقال : لا أطلب بدم عثمان أحداً غيرك ، فرماه بسهم فقتله ) .
--------------------------- 213 ---------------------------
9 . أقول : يظهر من بعض هذه النصوص أن طلحة قد انسحب من المعركة أو كاد ، وأن قتله كان في آخر اليوم الأول للمعركة ، وكان أول قتيل بقول الأحنف ، ومعناه أن عائشة وحدها قادت المعركة بعده ستة أيام ، حتى قتل جملها وأخذها أخوها محمد إلى دار ابن خلف ، والذي قُتل في سبيلها في تلك المعركة . والمعتمد عندي رواية ابن الأعثم ، وأن طلحة كان يقاتل ويحرض كما يشير اليه قول أمير المؤمنين عليه السلام : ( سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك ! وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دماءكم على يدي ، وعجل أرواحكم إلى النار ) !
بل تدل عليه رواية البلاذري ( 2 / 245 ) : ( وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ قتالاً شديداً فشدّ عليه جندب بن عبد الله الأزدي ، فلما أمكنه أن يطعنه تركه كراهة لأن يقتله ) !
أقول : كان جندب صديق الأشتر وشبيهه رضي الله عنهما ، ولعله لم يقتل طلحة لما تمكن منه بوصية أمير المؤمنين عليه السلام ، لأنه يعلم أن مروان سيقتله ، ويكون دمه برقبته !

قادت عائشة المعركة وحدها ستة أيام !

ما ورد في اليوم الأول والثاني من حرب الجمل

قال المفيد في كتاب الجمل / 171 : ( لما عادت رسل أمير المؤمنين من طلحة والزبير وعائشة ، بإصرارهم على خلافه والعمل على حربه . . كتَّب الكتائب ورتَّب العساكر ، واستعمل على مقدمته عبد الله بن عباس ، وعلى ساقته هند المرادي ثم الجملي ، وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب سيد أهل الكوفة اسمه اسم امرأة . واستعمل على كافة الخيل عمار بن ياسر ، وعلى جميع الرجالة محمد بن أبي بكر ، وفرق الرايات من بعده ، فجعل على خيل مذحج خاصة هند الجملي ، وعلى رجالتها شريح بن هاني الحارثي ، وعلى خيل همدان سعيد بن قيس ، وعلى رجالتها زياد بن كعب بن مرة ، وعلى خيل كندة حجر بن عدي ، وعلى خيل بجيلة ورجالتها رفاعة بن شداد ، وعلى خيل قضاعة ورجالتها عدي بن حاتم ،
--------------------------- 214 ---------------------------
وعلى خيل خزاعة وأفناء اليمن عبد الله بن زيد ، وعلى رجالتها عمرو بن الحمق الخزاعي ، وعلى خيل الأزد جندب بن زهير ، وعلى رجالتها أبا زينب ، الذي شهد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر وكان سبب صرفه وإقامة الحد عليه ، وعلى خيل بكر بن وائل عبد الله بن هاشم السدوسي ، وعلى رجالتها حسان بن مخدوع الذهلي ، وعلى خيل عبد القيس من أهل الكوفة زيد بن صوحان العبدي ، وعلى رجالتها الحرث بن مرة العبدي ، وعلى خيل بكر بن وائل من أهل البصرة سفيان بن ثور السدوسي ، وعلى رجالتها الحصين بن المنذر ، وهو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفين :
لمن راية سوداء يخفق ظلها * إذا قيل قدمها حصينٌ تقدما
وعلى المهازم خاصة جوهر بن جابر الخفر ، وعلى الذهليين خالد بن المعمر السدوسي ، وعلى خيل عبد القيس من أهل البصرة المنذر بن الجارود العبدي ، وعلى خيل أسد قبيصة بن جابر الأسدي ، وعلى رجالتها العكبر بن وائل الأسدي ، وهو الذي قتل محمد بن طلحة في ذلك اليوم ، وعلى خيول أهل الكوفة من بني تميم عمير بن عطارد ، وعلى رجالتها معقل بن قيس ، وهو الذي سبى بني ناجية ، وعلى خيل قيس غيلان من أهل الكوفة عبد الله بن الطفيل البكالي ، وعلى رجالتها قرة بن نوفل الأشجعي صاحب النخيلة ، وعلى خيل قريش وكنانة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال ، وعلى رجالتها هاشم بن هاشم ، وعلى من صار إليه من تميم البصرة جارية بن قدامة السعدي ، وعلى رجالتها أعين بن ضبيعة ، فأحاط العسكر يومئذ من الفرسان المعروفين والرجالة المشهورين على ستة عشر ألف رجل ) . ولكن رواية الاثني عشرألفٍ ، أقوى .
وقال الذهبي في تاريخه ( 3 / 484 ) : ( قال سعيد بن جبير : كان مع علي يوم وقعة الجمل ثمان مائة من الأنصار ، وأربع مائة ممن شهدوا بيعة الرضوان . عن السدي : شهد مع علي يوم الجمل مائة وثلاثون بدرياً وسبع مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وقتل بينهما ثلاثون ألفاً ، لم تكن مقتلة أعظم منها .
وكان لواء طلحة والزبير مع عبد الله بن حكيم بن حزام ، وعلى الخيل طلحة ، وعلى
--------------------------- 215 ---------------------------
الرجالة عبد الله بن الزبير ، وعلى الميمنة عبد الله بن عامر بن كريز ، وعلى الميسرة مروان بن الحكم . وكانت الوقعة يوم الجمعة خارج البصرة ، عند قصر عبيد الله بن زياد ) .
أقول : تقدم أن المعركة بدأت يوم الخميس نصف جمادى الثانية . وكانت عائشة وحدها تقود جيشها الجرار من هودجها على الجمل ، تعطي الأوامر للقادة المحيطين بجملها ، أو تقصد مجموعة مقاتلين هنا أو هناك ، وتشجعهم وتضمن لهم الجنة !
فاعجب لأتباعها الذين حرموا على المرأة قيادة السيارة ، وأمهم قادت جيشاً جراراً ! على أنه روي أن قتل طلحة كان يوم الجمعة أي ثاني أيام الجمل ( النهاية : 7 / 275 ) ولو صح ذلك تكون عائشة قادت الحرب وحدها خمسة أيام لا ستة ، لكنه بعيد !

ثم أتم علي عليه السلام عليهم الحجة ثانيةً

قال المفيد في كتاب الجمل / 181 : ( قال ابن عباس : فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليَّ نشابهم كأنه جراد منتشر ، فقلت : أما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم ! مرنا ندفعهم . فقال عليه السلام : حتى أعذر إليهم ثانية ، ثم قال : من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليه وهو مقتول ، وأنا ضامن له على الله الجنة ؟ فلم يقم أحد إلا غلامٌ عليه قباء أبيض ، حدث السن من عبد القيس يقال له مسلم ، كأني أراه فقال : أنا أعرضه يا أمير المؤمنين عليهم ، وقد احتسبت نفسي عند الله !
فأعرض عنه إشفاقاً ، ونادى ثانية : من يأخذ هذا المصحف ويعرضه على القوم وليعلم أنه مقتول وله الجنة ، فقام مسلم بعينه وقال : أنا أعرضه .
ونادى ثالثةً ولم يقم غير الفتى ، فدفع المصحف إليه وقال : إمض إليهم واعرضه عليهم وادعهم إلى ما فيه ، فأقبل الغلام حتى وقف بإزاء الصفوف ونشر المصحف وقال : هذا كتاب الله ، وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه . فقالت عائشة : أشجروه بالرماح قبحه الله ! فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كل جانب ، وكانت أمه حاضرة فصاحت وطرحت نفسها عليه وجَرَّته من موضعه ، ولحقها جماعة من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام أعانوها على حمله حتى طرحته بين يدي
--------------------------- 216 ---------------------------
أمير المؤمنين عليه السلام وهي تبكي وتقول :
يا رب إن مسلماً دعاهمُ * يتلو كتاب الله لا يخشاهمُ
فخضبوا من دمه قناهمُ * وأمهم قائمةٌ تراهمُ
تأمرهم بالقتل لا تنهاهمُ ) !
وقال الموفق الخوارزمي / 181 : ( ثم دعا عليٌّ بالدرع فأفرغها عليه وتقلد بسيفه واعتجر بعمامته ، واستوى على بغلة النبي صلى الله عليه وآله ثم دعا بالمصحف فأخذه بيده وقال : يا أيها الناس من يأخذ هذا المصحف فيدعو هؤلاء القوم إلى ما فيه ؟ قال فوثب غلام . . وذكر نحو ما تقدم ) .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 182 : ( ثم رُمِيَ ابن عبد الله بن بديل فقتل ، فحمله أبوه عبد الله ومعه عبد الله بن العباس حتى وضعاه بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام فقال : عبد الله بن بديل : حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلوننا رجلاً رجلاً ، قد والله أعذرت إن كنت تريد الإعذار .
قال محمد بن الحنفية : فقال أمير المؤمنين عليه السلام : رايتَك يا بني قدمها ، وبعث في الميمنة والميسرة ، ودعا بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله فلبسه ، وحزم بطنه بعصابة أسفل من سرته ، ودعا ببغلته الشهباء وهي بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله فاستوى على ظهرها ، ووقف أمام صفوف أصحابه ، فوقفت بين يديه باللواء ، وهو للحرب مستعد ، فجاء قيس بن عبادة ، وأنشأ يقول :
هذا اللواء الذي كنا نحف به * حول النبي وجبريلٌ لنا مددا
ما ضرمن كانت الأنصار عيبته * أن لا يكون له من غيرها أحدا
قوم إذا حاربوا طالت أكفهم * بالمشرفية حتى يفتحوا البلدا ) .
--------------------------- 217 ---------------------------
وانتظر علي عليه السلام وعد النبي صلى الله عليه وآله ونزول الملائكة !
( قال علي : لقد أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله بنبأ فقال : إن الله تعالى يمدك يا علي يوم الجمل بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) . ( الإحتجاج : 1 / 241 )
في أمالي الطوسي / 209 ، عن أبي عبد الله العنزي ، قال : ( إنا لجلوس مع علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل إذ جاءه الناس يهتفون به : يا أمير المؤمنين ، لقد نالنا النبل والنشاب ، فسكت ثم جاء آخرون فذكروا مثل ذلك فقالوا : قد جرحنا ! فقال علي عليه السلام : يا قوم من يعذرني من قوم يأمروني بالقتال ولم تنزل بعد الملائكة . فقال : إنا لجلوس ما نرى ريحاً ولا نحسها إذ هبت ريح طيبة من خلفنا ، والله لوجدت بردها بين كتفيَّ من تحت الدرع والثياب ، قال : فلما هبت صب أمير المؤمنين عليه السلام درعه ، ثم قام إلى القوم ) .
وفي الكافي ( 8 / 331 ) قال الإمام الصادق عليه السلام : ( درع رسول الله صلى الله عليه وآله ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها ، وحلقتان من ورق في مؤخرها ، وقال : لبسها علي عليه السلام يوم الجمل . شد علي عليه السلام على بطنه يوم الجمل بعقال أبرق ، نزل به جبرئيل عليه السلام من السماء ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يشد به على بطنه إذا لبس الدرع ) .
وفي كتاب الجمل / 183 : ( وصفَّ أصحاب عائشة صفوفهم ، وجاؤا بالجمل وعليه الهودج وفيه عائشة ، وخطامه في يد كعب بن سور وقد تقلد بالمصحف ، والأزد وبنو ضبة قد أحاطوا بالجمل ، وعبد الله بن الزبير بين يدي عائشة ، ومروان بن الحكم عن يمينها ، والزبير يدبر العسكر ( قبل انسحابه ) وطلحة على الفرسان ( قبل إصابته ) ومحمد بن طلحة على الرجالة .
فقال محمد بن الحنفية : قال لي أبي حين رأى القوم قد زحفوا نحونا : قدم اللواء فقدمته ، وزحف المهاجرون والأنصار ، فلما رأى القوم قد زحفت باللواء بارزاً عن أصحابي رشقوني رشقة رجل واحد ، فوقفت مكاني واتقيت منهم وقلت : ينقضي رشقهم في مرة أو مرتين ثم أتقدم ، فلم أشعر إلا وأمير المؤمنين عليه السلام قد
--------------------------- 218 ---------------------------
ضرب بين كتفي بيده ثم أخذ اللواء مني بيده ونادى : يا منصور أمت ، فوالله ما سمعت القوم حتى رأيتهم قد زلزلت أقدامهم ، وارتعدت فرائصهم والتقى بعضهم ببعض ، وتزايلوا لترى عائشة موضع كل فريق منهم .
وتقدم عمار ومالك الأشتر مصلتين سيفهما نحو القوم ، ونادى أمير المؤمنين عليه السلام يا محمد بن أبي بكر إن صرعت عائشة فوارها وتول أمرها ! فتضعضع القوم حين سمعوا ذلك واضطربوا ، وأمير المؤمنين عليه السلام واقف في موضعه .
ثم تراجعوا بعد تضعضعهم ورجعت إليهم نفوسهم ، ونادوا البراز ، فتقدم رجل من بني عدي أمام الجمل وبيده السيف ، وهو يقول :
أضربكم ولو أرى عليا * عممته أبيض مشرفيا
أريحُ منه قومنا عديا
فشد عليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام يقال له أمية العبدي ، وهو يقول :
هذا علي والهدى سبيله * والرشد فيه والتقى دليله
من يتبع الحق يكن خليله
ثم اختلفت بينهما ضربتان فأخطأه العدوي وضربه العبدي فقتله . فقام مقامه رجل يقال له أبو الجرباء عاصم بن مرة من أصحاب الجمل ، وهو يقول :
أنا أبو الجربا وإسمي عاصم * وأمنا أم لها محارم
فشد عليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول :
إليك إني تابع عليا * وتارك أمكم مليا
إذ عصت الكتاب والنبيا * وارتكبت من أمرها فريا
وضربه فقتله ، فقام مقامه رجل يقال له الهيثم بن كليب الأزدي ، وهو يقول :
نحن نوالي أمنا الرضية * وننصر الصحابة المرضية
فشد عليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول :
وليِّكُم عجلُ بني أمية * وأمكم خاسرةٌ شقيه
هاويةٌ في فتنة عمية
--------------------------- 219 ---------------------------
وضربه ففلق هامته ، وخر صريعاً إلى الأرض . وبرز من بعده عمرو بن يثربي وكان من شياطين أصحاب الجمل فنادى : هل من مبارز ؟ فبرز إليه علباء بن الهيثم ، فاختلفت بينهما ضربتان فقُتل علباء رحمه الله ، فقام مقامه هند بن المرادي ، فبادره بالسيف فاتقاه ، وضربه عبد الله بن الزبير وشغله بنفسه ، وثناه هند بن يثربي فقتلاه جميعاً . فبرز مقامه زيد بن صوحان العبدي فتضاربا ، وجاء فارس من أصحاب الجمل ووقف بجنب عمرو يحميه ، فطعنه زيد في خاصرته طعنة أثخنه بها ، وبدر إليه عمرو فضربه فقضى منها . وبدأ عمرو يفتخر ويقول :
أنا لمن ينكرني ابن يثربي * قاتل علباء وهند الجملي
وابنٍ لصوحانٍ على دين علي
فبرز إليه مالك الأشتر فضربه على وجهه ضربة وقع بها على الأرض ، وحماه أصحابه فنهض وقد تراجعت نفسه وهو يقول : لابد من الموت فدلوني على علي بن أبي طالب فلئن بصرت به لأملأن سيفي من هامته ! فبرز إليه عمار وهو يقول :
لا تبرح العرصة يا ابن يثربي * حتى أقاتلك على دين علي
نحن وبيت الله أولى بالنبي
وضربه ضربة هلك منها وخر صريعاً ، فأكب قومه عليه فاحتملوه ) .
أقول : الرواية الأقوى في قتل ابن يثربي رواية ابن عمر الضبي في وقعة الجمل / 161 ، والطبري ( 3 / 525 ) : ( لما رأت الكماة من مضرالكوفة ومضرالبصرة الصبر تنادوا في عسكرعائشة وعسكرعلي : يا أيها الناس طرفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر : فجعلوا يتوجؤون الأطراف الأيدي والأرجل ، فما رؤيت وقعة قط قبلها ولا بعدها ولا يسمع بها : أكثر يداً مقطوعة ورجلاً مقطوعة منها ، لا يدري من صاحبها ! وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتاب يومئذ قبل قتله . وكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب شئ من أطرافه استقتل إلى أن يقتل . . فقالت عائشة
--------------------------- 220 ---------------------------
لمن عن يسارها : مَنِ القومُ ؟ قال صبرة بن شيمان : بنوك الأزد ، قالت : يا آل غسان حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به ، وتمثلت :
وجالد من غسان أهل حفاظها * وهنب وأوس جالدت وشبيب
وقالت لمن عن يمينها : من القوم ؟ قالوا : بكر بن وائل ، قالت : لكم يقول القائل :
وجاءوا إلينا في الحديد كأنهم * من العزة القعساء بكر بن وائل
إنما بازائكم عبد القيس ، فاقتِلوا أشد من قتالهم قبل ذلك .
وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت : من القوم ؟ قالوا : بنو ناجيه ، قالت : بخٍ بخ سيوف أبطحية ، وسيوف قرشية ، فجالدوا جلاداً يتفادى منه .
ثم أطافت بها بنو ضبة فقالت : ويهاً جمرة الجمرات ! حتى إذا رَقُّوا ( قلوا من القتل ) خالطهم بنو عدي وكثروا حولها ، فقالت : من أنتم ؟ قالوا : بنو عدي خالطنا إخواننا ، فقالت : ما زال رأس الجمل معتدلاً حتى قتلت بنو ضبة حولي ! فأقاموا رأس الجمل ، ثم ضربوا ضرباً ليس بالتعذير ولايعدلون بالتطريف ، حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعاً ، راموا الجمل وقالوا : لا يزال القوم أو يُصرع ، وأرَزَتْ مجنبتا عليٍّ فصارتا في القلب وفعل ذلك أهل البصرة ، وكره القوم بعضهم بعضاً وتلاقوا جميعاً بقلبيهم ، وأخذ ابن يثربي برأس الجمل وهو يرتجز :
أنا لمن ينكرني ابن يثربي * قاتل علباء وهند الجملي
وابنٍ لصوحانٍ على دين علي
فناداه عمار : لقد لعمري لُذْتَ بحريز ( بعائشة ) وما إليك سبيل ، فإن كنت صادقاً فأخرج من هذه الكتيبة إليَّ ، فترك الزمام في يد رجل من بني عدي ، حتى كان بين أصحاب عائشة وأصحاب علي ، فزحم الناس عماراً حتى أقبل إليه فاتقاه عمار بدرقته فضربه ، فانتشب سيفه فيها فعالجه فلم يخرج ، فخرج عمار إليه لا يملك من نفسه شيئاً ، فأسفَّ عمار لرجليه فقطعهما فوقع على استه . . وعمار يومئذ ابن تسعين سنة ، عليه فروٌ قد شد وسطه بحبل من ليف ) .
وفي رواية شرح النهج ( 1 / 253 ) : ( فاختلفاضربتين فنشب سيف ابن يثربي في حجفة
--------------------------- 221 ---------------------------
عمار ، فضربه عمار على رأسه فصرعه ، ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى علي عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين إستبقني أجاهد بين يديك ، وأقتل منهم مثلما قتلت منكم ! فقال له علي عليه السلام : أبعد زيد وهند وعلباء أستبقيك ! لاها الله إذاً ! قال : فأدنني منك أسارك . قال له : أنت متمرد وقد أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالمتمردين وذكرك فيهم ! فقال : أما والله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك . فأمر به عليه السلام فضربت عنقه ) .
أقول : في الرواية إشارة إلى أن مبارزة ابن يثربي لم تكن في اليوم الأول ، وهي قول عائشة : ما زال رأس الجمل معتدلاً حتى قتلت بنو ضبة حولي ! ويحتمل أنها قالتها بعد ذلك ، ورواها الراوي وهو يتحدث عن اليوم الأول .
وقال الطبري ( 3 / 526 ) : ( ولما أصيب ابن يثربي ترك ذلك العدوي الزمام ، ثم خرج فنادى من يبارز ؟ وبرز إليه ربيعة العقيلي أشد الناس صوتاً ، وهو يقول :
يا أمَّنا أعقُّ أمٍّ نعلمُ * والأمُّ تغذو ولدها وتَرحمُ
ألا ترين كم شجاع يُكلمُ * وتُختلى منه يدٌ ومعصمُ
اضطربا ، فأثخن كل واحد منهما صاحبه ، فماتا ) .
( وقتل يومئذ ثمامة بن المثنى بن حارثة الشيباني ، فقال الأعورالشني :
يا قاتل الله أقواماً هم قتلوا * يوم الخريبة علباءً وحسَّانا
وابن المثنى أصاب السيف مقتله * وخير قرائهم زيد بن صوحانا ) .
وحسان الذي ذكره : حسَّان بن مخدوج بن بشر بن خوط ، كان معه لواء بكر بن وائل ، فقتل فأخذه أخوه حذيفة بن مخدوج فأصيب ، ثم أخذه بعده عدة من الحوطيين فقتلوا ) . ( البلاذري : 2 / 244 ) .
وفي الفتوح لابن الأعثم 2 / 474 : ( فتقدم محمد ثم وقف بالراية لايبرح بها ، فصاح به علي : اقتحم لا أم لك ، فحمل محمد بالراية وطعن بها في أصحاب الجمل طعناً
--------------------------- 222 ---------------------------
منكراً وعلي عليه السلام ينظر فأعجبه ما رأى من فعاله ، فجعل يقول عليه السلام :
إطعن بها طعن أبيك تُحْمَدِ * لا خير في الحرب إذا لم تُوقد
قال فقاتل بالراية محمد بن الحنفية ساعة ، ثم رجع . .
ثم تقدم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبد الله بن يثربي فجعل يرتجز :
يا رب أني طالبٌ أبا الحسن * ذاك الذي يُعرف حقاً بالفتن
ذاك الذي نطلبه على الإحن * ونقضه شريعةً من السنن
قال فخرج إليه علي عليه السلام وهو يقول :
إن كنت تبغى أن ترى أبا حسن * وكنت ترميه بإيثار الفتن
فاليوم تلقاه ملياً فاعلمن * بالضرب والطعن عليماً بالسنن
قال ثم شد عليه علي بالسيف فضربه ضربة هتك بها عاتقه ، فسقط قتيلاً ، فوقف عليه علي عليه السلام وقال : قد رأيت أبا الحسن فكيف رأيته !
قال وخرج أخوه عبد الله بن يبرى ، وهو يرتجز ، ويقول :
أضربكم ولو أرى عليا * عممته أبيض مشرفيا
وأسمراً عطنطناً خطيا * أبكى عليه الولد والوليا
قال : فخرج إليه علي عليه السلام متنكراً وهو يقول : قال :
يا طالباً في حربه عليا * يمنحه أبيض مشرفيا
أثبت لتلقاه بها عليا * مهذباً سميدعاً كميا
ثم حمل عليه علي فضربه ضربه على وجهه فرمى بنصف رأسه ) .
ووصف الطبري قتالهم في اليوم الأول والثاني فقال ( 3 / 524 ) : ( كان القتال الأول يستحر إلى انتصاف النهار ، وأصيب فيه طلحة وذهب فيه الزبير ، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلا القتال ، ولم يريدوا إلا عائشة ذمرتهم عائشة ( حثتهم بشدة ) فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا ، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا ، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة . فاقتتلوا
--------------------------- 223 ---------------------------
صدر النهار مع طلحة والزبير وفي وسطه مع عائشة ، وتزاحف الناس فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة وربيعة البصرة ربيعة الكوفة ، ونهد علي بمضرالكوفة إلى مضر البصرة ، وقال إن الموت ليس منه فوت ، يدرك الهارب ، ولا يترك المقيم ) !
فقد خرج طلحة والزبير من المعركة في اليوم الأول ، لكنهما قاتلا إلى الظهر ، ثم ذمرت عائشة الجيش أي حثتهم وشجعتهم فقاتلوا بعد الظهر أيضاً !
هذا ، وقد تضمنت روايات المفيد رحمه الله وغيره مشاهد من أيام حرب الجمل السبعة ، ولم يميزوا أحداث كل يوم عن غيرها . لكن المؤكد أن قتلهم الشاب الذي حمل القرآن وابن بديل الخزاعي في اليوم الأول ، ثم كان ما دل عليه السياق . أما سقوط الجمل فكان في اليوم السابع .

ما ورد في اليوم الثاني من حرب الجمل

في شرح النهج ( 1 / 262 ) : ( قالوا : استدار الجمل كما تدور الرحا ، وتكاثفت الرجال من حوله ، واشتد رغاؤه واشتد زحام الناس عليه ، ونادى الحتات المجاشعي : أيها الناس ، أمكم أمكم ! واختلط الناس فضرب بعضهم بعضاً ، وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل والرجال دونه كالجبال كلما خف قوم جاء أضعافهم ، فنادى علي عليه السلام : ويحكم ! أرشقوا الجمل بالنبل ، أعقروه لعنه الله ! فرشق بالسهام ، فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل ، وكان متجفجفاً فتعلقت السهام به فصار كالقنفذ . ونادت الأزد وضبة : يا لثارات عثمان فاتخذوها شعاراً . ونادى أصحاب علي : يا محمد فاتخذوها شعاراً ، واختلط الفريقان ونادى علي عليه السلام بشعار رسول الله صلى الله عليه وآله : يا منصور أمت . وهذا في اليوم الثاني من أيام الجمل ، فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم ، وذلك وقت العصر بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر . قال الواقدي . . ثم تحاجز الفريقان والقتل فاشٍ فيهما ، إلا أنه في أهل البصرة أكثر ، وأمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة ) .
--------------------------- 224 ---------------------------
وفي شرح النهج ( 1 / 262 ) : ( خرج عبد الله بن خلف الخزاعي ، وهو رئيس البصرة وأكثر أهلها مالاً وضياعاً ، فطلب البراز وسأل ألا يخرج إليه إلا علي عليه السلام وارتجز فقال :
أبا ترابٍ ادنُ مني فِتْرا * فإنني دانٍ إليك شِبْرا
وإنَّ في صدري عليك غَمرا
فخرج إليه علي عليه السلام ، فلم يمهله أن ضربه ففلق هامته ) .
وفي مناقب الخوارزمي / 188 : ( وانصرف علي يريد إلى أصحابه ، فصاح به صائح من ورائه ، والتفت فإذا بعبد الله بن خلف الخزاعي وهو صاحب منزل عائشة بالبصرة ، فلما رآه علي عليه السلام عرفه فنادى : ما تشاء يا ابن خلف ؟ قال هل لك في المبارزة ؟ قال علي عليه السلام : ما أكره ذلك ولكن ويحك يا ابن خلف ، ما راحتك في القتل ، وقد علمت من أنا ! فقال عبد الله بن خلف : ذرني من بذخك يا ابن أبي طالب ، وادنُ مني لترى أينا يقتل صاحبه ! فثنى إليه علي عليه السلام عنان فرسه ، قال : والتقيا للضراب فبدره عبد الله بن خلف بضربة دفعها علي عليه السلام بجحفته ، ثم ضربه ضربة رمى بيمينه ، ثم ثناه بأخرى ، فأطار قِحْفَ رأسه ) !
وروي أن مقتل ابن خلف كان يوم الجمعة أي اليوم الثاني . ( تجارب الأمم : 1 / 504 ) .

ما ورد في اليوم الثالث من حرب الجمل

قال ابن أبي الحديد ( 1 / 263 ) : ( ثم تواقفوا في اليوم الثالث ، فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير ، ودعا إلى المبارزة فبرز إليه الأشتر فقالت عائشة : من برز إلى عبد الله ؟ قالوا : الأشتر ، فقالت : وا ثكل أسماء ! فضرب كل منهما صاحبه فجرحه ، ثم اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله ، وقعد على صدره ، واختلط الفريقان : هؤلاء لينقذوا عبد الله وهؤلاء ليعينوا الأشتر . وكان الأشترطاوياً ثلاثة أيام لم يطعم وهذه عادته في الحرب ، وكان أيضاً شيخاً عالي السن ، فجعل عبد الله ينادي : أقتلوني ومالكاً ، فلو قال : أقتلوني والأشتر لقتلوهما ، إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما ، لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض ، وأفلت ابن الزبير من تحته أو لم يكد ، فذلك قول الأشتر :
--------------------------- 225 ---------------------------
أعائش لولا أنني كنت طاوياً * ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادى والرجال تحوزه * بأضعف صوت أقتلوني ومالكا
فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه * خدب عليه في العجاجة باركا
فنجاه مني أكله وشبابه * وأني شيخ لم أكن متماسكا
وروى أبو مخنف عن الأصبغ بن نباتة قال : دخل عمار بن ياسر ومالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل ، فقالت عائشة : يا عمار ، من معك ؟ قال : الأشتر ، فقالت : يا مالك ، أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت ؟ قال : نعم ، ولولا أني كنت طاوياً ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه ! فقالت : أما علمت أن رسول الله قال : لا يحل دم مسلم إلا بأحد أمور ثلاث : كفر بعد إيمان أو زناً بعد إحصان ، أو قتل نفس بغيرحق ! قال الأشتر : على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين ، وأيم الله ما خانني سيفي قبلها ولقد أقسمت ألايصحبني بعدها . قال أبو مخنف : ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه :
وقالت على أي الخصال صرعته * بقتل أتى أم ردة لا أبا لكا
أم المحصن الزاني الذي حل قتله * فقلت لها لا بد من بعض ذلكا
قال أبو مخنف : وانتهى الحارث بن زهيرالأزدي من أصحاب علي عليه السلام إلى الجمل ورجل آخذ بخطامه لا يدنو منه أحد إلا قتله ، فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف وارتجز ، فقال لعائشة :
يا أمنا أعق أم نعلمُ * والأمُّ تغذو وُلْدها وترحمُ
أما ترين كم شجاع يُكْلَم * وتختلى هامته والمعصم !
فاختلف هو والرجل ضربتين فكلاهما أثخن صاحبه . قال جندب بن عبد الله الأزدي : فجئت حتى وقفت عليهما وهما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا .
قال : فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة فقالت : من أنت ؟ قلت :
--------------------------- 226 ---------------------------
رجل من أهل الكوفة ، قالت : هل شهدتنا يوم البصرة ؟ قلت : نعم ، قالت : مع أي الفريقين ؟ قلت : مع علي ، قالت : هل سمعت مقالة الذي قال : يا أمنا أعق أم نعلم ؟ قلت : نعم وأعرفه ، قالت : ومن هو ؟ قلت : ابن عم لي . قالت : وما فعل ؟ قلت : قُتل عند الجمل وقَتَل قاتله ، قال : فبكت حتى ظننت والله أنها لا تسكت ثم قالت : لوددت والله أنني كنت مت قبل ذلك اليوم بعشرين سنة ) !
وقال البلاذري ( 2 / 245 ) : ( قال : جعل جندب بن زهير يرتجز يومئذ ، ويقول :
قلنا لها وهي على مهواة * إن لنا سواك أمهات
في مسجد الرسول ثاويات ) .
أقول : معنى طاوياً ثلاثاً : أنه كان لا يأكل إلا السوائل والعسل مثلاً ، ففي الدر النظيم لابن حاتم / 353 : ( وقد روي عن ابن الزبيرأنه قال : كان الأشتر طاوياً ثلاثاً ، وكذلك كانت تفعل فرسان العرب إذا أرادوا القتال ، لأنهم كانوا يكرهون الشبع في الحرب ، كراهة أن يطعن أحدهم في بطنه ، فيظهر منه شئ يكرهه ) !
وفي كتاب الجمل للمفيد / 185 : ( ولما رأى أمير المؤمنين عليه السلام جرأة القوم على القتال وصبرهم على الهلاك ، نادى أصحاب ميمنته أن يميلوا على ميسرة القوم ، ونادى أصحاب ميسرته أن يميلوا على ميمنتهم ، ووقف عليه السلام في القلب . فما كان بأسرع من أن تضعضع القوم ، وأخذت السيوف من هاماتهم مآخذها فانكشفوا وقد قتل منهم ما لا يحصى كثرةً ، وأصيب من أصحاب أمير المؤمنين نفر كثير ، وأحاطت الأزد بالجمل يقدمهم كعب بن سور وخطام الجمل بيده ، واجتمع إليهم من كان انفتل بالهزيمة ونادت عائشة :
يا بَنِيَّ الكرةَ الكرةَ ، إصبروا فإني ضامنة لكم الجنة !
فحفوا بها من كل جانب ، واستقدموا حتى دنوا من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام ولَفَّتْ عائشة نفسها ببردة كانت معها ، وقلبت يمينها على منكبها الأيسروالأيسر إلى الأيمن
--------------------------- 227 ---------------------------
كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفعل عند الاستسقاء ، ثم قالت : ناولوني كفاً من تراب فناولوها فحثت به وجوه أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وقالت : شاهت الوجوه ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله بأهل بدر ! قال : وجَرَّ كعب بن سور بالخطام وقال : اللهم إن أردت أن تحقن الدماء وتطفي هذه الفتنة فاقتل علياً . فقال عليه السلام : وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى ! وليعودن وباله عليك إن شاء الله . وأنشدت أم ذريح العبدية :
عائش إن جئت لتهزمينا * وتنثري البر لتغلبينا
وتقذفي بالحصبات فينا * تصادفي ضرباً وتنكرينا
بالمشرفيات إذا غزينا * نسفك من دمائكم ماشينا )

ما ورد في اليوم الرابع من حرب الجمل

قال ابن حاتم في الدر النظيم ( 1 / 348 ) : ( ثم إن علياً عليه السلام لما رأى القوم قد حادُّوه القتال ، وصمدوا للحرب بعث إلى محمد بن الحنفية وكانت الراية بيده ، أن أقدم يا ابن خولة واقتحم على القوم . قال : نعم . فأرسل إليه ثانية أن أقحم يا ابن خولة ، قال : نعم ، وكان بإزاء محمد قوم من الرماة فرموه وحادُّوه ، فتأخرمحمد وقال لأصحابه : إن القوم قد رموكم فجرحوكم وإنهم يبددون نبلهم في رشق آخر ، ثم احملوا عليهم . فبعث علي عليه السلام إليه ثالثة فقال له : يا ابن خولة أقحم لا أم لك . قال : نعم . فلما أبطأ عليه تحول من بغلته إلى فرسه وسل سيفه وركض نحوه ، فأتاه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه اليمنى ، ثم رفعه حتى أشاله من سرجه وقال : لا أم لك . قال محمد : والذي لا إله إلا هو ما ذكرت ذلك منه قط إلا كأني أجد ريح نفسه ! فيأخذ الراية من يديه ، ثم حمل على القوم وذلك عند زوال الشمس من يوم الأحد ، فأنشأ وهو يطعنهم ويقول :
إطعن بها طعن أبيك تحمد * لا خير في الحرب إذا لم تُوقد
بالمشرفي والقنا المبدد * والضرب بالخطيِّ والمهند
ثم حمل عليهم حتى توسطهم وغاص فيهم ، فاقتتل الناس قتالاً شديداً ، ثم
--------------------------- 228 ---------------------------
خرج من ناحية القوم وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته ، واجتمع حوله أصحابه فقالوا : نحن نكفيك يا أمير المؤمنين ، فما يجيب أحداً منا ، فإنه لطامح ببصره نحوهم ، ثم حمل الثانية حتى توسطهم وغاب فيهم ، فسمعنا له تكبيرة بعد حين وله همهمة كزئير الأسد ، ثم تكشف الناس عنه وانقشعوا حوله ، فوصلنا إليه وإنه لواقف قد أزبد كالجمل الهائج والأسد الحامي ، وقد وقعت الرؤوس والسواعد والجيف حوله أعكاماً ! فقلنا : يا أمير المؤمنين نحن نكفيك ، فقال : والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة !
ثم انصرف وأعطى محمداً الراية وقال : هكذا فاصنع يا ابن خولة . قال محمد : فحملت وحمل أصحابي معي ، فما زلت أطعنهم برمحي وأضربهم بسيفي حتى انقشع الناس من حولي ، فانتهيت إلى رجل لأطعنه فلما برزت له بالرمح قال : فأنشدك الله فإني على دين علي بن أبي طالب عليه السلام ! فعرفت أنه إنما يرد بذلك عن نفسه ، فرفعت عنه الرمح حتى نجا ، فنظرت فإذا هو محمد بن طلحة !
قال محمد : خرج محمد بن خلف الخزاعي فأخذ بخطام الجمل ونادى بعلي عليه السلام فبرز إليه وشد علي عليه فضربه بذي الفقار ضربة على بيضته ففلق به البيضة والهامة والعنق والصدر ، حتى وصلت ظبة السيف إلى قربوس سرجه ، لم ينهْنِهْهُ سلاح ، ولم تثبت عليه جُنَّة ) !
أقول : محمد بن خلف هذا أخ عبد الله الذي طلب مبارزة علي عليه السلام فضربه وأطار قحف رأسه . ومحمد بن طلحة طلب المبارزة فبرز اليه الأشتر فهرب منه ، فلحقه ليقتله فاستغاث به ، فعفا عنه وأركبه على فرسه وأرسله ، لكنه مات من طعنة الأشتر .
وفي مناقب محمد بن سليمان ( 2 / 337 ) : ( عن منذر الثوري قال : سمعت محمد بن الحنفية يقول . . وحملت يومئذ على رجل من أهل البصرة ، فلما غشيته بالرمح قال : أنا على دين [ عمر ] بن أبي طالب ، فلما عرفت الذي أراد كففت عنه ) .
وفي شرح النهج ( 1 / 257 ) : ( زحف علي عليه السلام نحوالجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار ، وحوله بنوه : حسن وحسين ومحمد عليهم السلام ، ودفع الراية إلى محمد ،
--------------------------- 229 ---------------------------
وقال : أقدم بها حتى تركزها في عين الجمل ، ولا تقفن دونه ! فتقدم محمد فرشقته السهام فقال لأصحابه : رويداً حتى تنفد سهامهم ، فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان . فأنفذا إليه علي عليه السلام يستحثه ويأمره بالمناجزة ، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه ، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن ، وقال له : أقدم لا أم لك ! فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكي ويقول : لكأني أجد ريح نفسه في قفاي ، والله لا أنسى ذلك أبداً . ثم أدركت علياً عليه السلام رقة على ولده ، فتناول الراية منه بيده اليسرى ، وذو الفقار مشهور في يمنى يديه ثم حمل فغاص في عسكر الجمل ، ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته . فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار : نحن نكفيك يا أمير المؤمنين ، فلم يجب أحداً منهم ولا رد إليهم بصره . . ثم حمل حملة ثانية وحده ، فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدماً قدماً ، والرجال تفرمن بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة ، حتى خضب الأرض بدماء القتلى ، ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته ، فاعصوصب به أصحابه ، وناشدوه الله في نفسه وفي الإسلام ، وقالوا : إنك إن تصب يذهب الدين ، فأمسك ونحن نكفيك . فقال : والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة ! ثم قال لمحمد ابنه : هكذا تصنع يا ابن الحنفية ، فقال الناس : من الذي يستطيع ماتستطيعه يا أمير المؤمنين ) !
أقول : لا يبعد أن أمير المؤمنين عليه السلام مر بحملاته من قرب الجمل ، لكنه لا يريد أن يضربه هو .

ما ورد في اليوم الخامس من حرب الجمل

قال ابن حاتم في الدر النظيم / 354 : ( وانفلق عمود الصبح ليلة الاثنين فصلى علي عليه السلام بأصحابه ثم قال : يا قنبر علي بدرعي فأتاه بها فصبها عليه ، وهي درع رسول الله صلى الله عليه وآله ذات الفضول وتقلد ذا الفقار ، وتعمم بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله السحاب ، ثم خرج من فسطاطه وركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله الدلدل ، ثم سل سيفه وهزه ونادى : يا معشر المهاجرين والأنصار أبرزوا لله ، وجِدُّوا في قتال عدوكم رحمكم الله . ثم دعا محمداً ابنه وقال له : إركب فرسك فركبها ، ودفع إليه
--------------------------- 230 ---------------------------
الراية من يده وهي العقاب راية رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ، وقال له : يا محمد تقدم أمام الكتيبة ، فتقدم محمد والراية بيده تخفق فوق رأسه وكانت سوداء .
ثم سار علي عليه السلام بالناس والحسن عن يمينه والحسين عن يساره ، وعبد الله بن جعفر الطيار في الجنة أمامه ، ومحمد وعون ابنا جعفر من ورائه ، وعبد الله والفضل وعبيد الله وقثم بنو العباس بن عبد المطلب بعضهم عن يمينه وبعضهم عن يساره ، والمهاجرون والأنصار قد احتوشوه وأحدقوا به . وأمرهم ألا يبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوهم به ، وأنشأ عدي بن حاتم يقول :
يا ربنا سلم لنا عليا * سلم لنا المبارك التقيا
المؤمن المسترشد الرضيا * واجعله هادي أمة مهديا
لا خطل الرأي ولا غويا * واحفظه ربي واحفظ البنيا
فيه فقد كان لنا وليا * ثم ارتضاه بعده وصيا
وقال هذا لكم وليا * من بعد إذ كان بكم حفيا
وأرسل علي عليه السلام إلى الأشتر فقال له : يا مالك لا تبدأ القوم بقتال حتى يبدؤوك ، واعذر إليهم واجعل الحجة عليهم . فوقفوا ساعة من النهار يهللون ويكبرون وينظرون أي الفريقين يكون البادئ ، فتقدم محمد بن طلحة فأخذ الخطام فقبَّله فقالت له عائشة : من أنت ؟ قال : أنا محمد بن طلحة فما تأمريني يا أمه ؟ قالت : آمرك أن تكون خير ابني آدم . فخرج بسيفه يدعو للبراز ، فخرج إليه المعكبر بن حدير فاختلفا ضربتين ، فضربه محمد بن طلحة على هامته فقتله ، وعاد إلى الخطام فقبَّله ، ثم تقدم فدعا للبراز ، فثار إليه الأشترمسرعاً كأنه أسد حُلَّ من رباطه ، فلما نظرطلحة أن الأشتر قد أقبل نحو ابنه دنا منه وأخذه بيده وقال : إرجع يا بني عن هذا الأسد الضاري ، أما سمعت قول الله : وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ، فلم يطعه ، وبرز إلى الأشتر فلما غشيه الأشتر بالرمح ولى هارباً ، فتبعه الأشتر حتى لحقه فطعنه في صلبه طعنة أكبه بها لوجهه ، ونزل إليه ليضرب عنقه فقال له محمد : أذكرك الله يا مالك ، فرفع عنه
--------------------------- 231 ---------------------------
السيف وحمله على دابته ووجهه إلى عسكره ، فمات من يومه ، ورجع الأشترالى موقفه وهو يقول :
وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الكرى مما ترى العين مسلم
يذكرني حاميم والرمح شاجر * فهلا تلا حاميم قبل التقدم
هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعاً لليدين وللفم
على غير شئ غير أن ليس تابعاً * علياً ومن لا يتبع الحق يندم ) .

مكذوباتهم في محمد بن طلحة التيمي !

زعموا أن محمد بن طلحة كان شاباً صالحاً عابداً ، وأن النبي صلى الله عليه وآله سماه محمداً ، وأنه كان يسمى السجاد ، وكان يسجد كل يوم ألف سجدة ! وأن الصحابة كانوا يتبركون به لصلاحه ! وكان يلبس البرنس علامة الزهد والانقطاع عن الدنيا ، وقال بعضهم كان هواه مع علي عليه السلام لكنه جاء طاعة لأبيه فقتله بره بأبيه . وقالوا إن علياً عليه السلام نهى عن قتله فقال : لا تقتلوا صاحب البرنس .
وقال النووي في المجموع ( 19 / 202 ) إن علياً عليه السلام أظهر الندم وتمنى أنه مات قبل حرب الجمل ، كما تمنت عائشة تماماً ، لأنه قُتل فيها مثل محمد بن طلحة !
قال : ( فأبصرالحسن بن علي قتيلاً مكبوباً على وجهه فأكبه على قفاه ، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون . هذا فرع قريش والله ، فقال له أبوه : ومن هو يا بني ، فقال : محمد بن طلحة ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إن كان ما علمته لشاباً صالحاً ، ثم قعد كئيباً حزيناً ! فقال له الحسن : يا أبت ، قد كنت أنهاك عن هذا المسير فغلبك على رأيك فلان وفلان ، قال قد كان ذلك يا بني ، فلوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة ) !
أقول : المفروض أن يكون ابن طلحة هذا ملتزماً بدين وشرع ، لكن لما وصلت عائشة إلى الحوأب ونبحتها كلابه ، فقالت ردوني إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله حتى لا
--------------------------- 232 ---------------------------
تكون قائدة الفئة الباغية ، وامتنعت يومين عن المسير . قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 60 ) : ( فقال لها محمد بن طلحة : تقدمي رحمك الله ، ودعي هذا القول ! أي لا تهتمي بتحذير النبي صلى الله عليه وآله ! فأي عابد هذا يقول لعائشة : دعي قول النبي صلى الله عليه وآله وتقدمي !
وأي عابد يقاتل طلباً بدم عثمان ، وهو يشهد أن ثلثي دمه على من يقاتل معهم !
قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ( 4 / 1174 ) : ( قال له عبد الله بن أذينة : فأخبرني عن قتل عثمان . قال : أخبرك : إن دم عثمان ثلاثة أثلاث ، ثلث على صاحبة الخدر يعني عائشة ، فلما سمعته يقول ذلك شتمته وأساءت له القول ، فقال : يغفر الله لك يا أمتاه ! وثلث على علي بن أبي طالب . وثلث على صاحب الجمل الأحمر ميمنة القوم يعني أباه طلحة ، فلما سمعه أبوه أقبل إليه سريعاً وقال : ويحك هل تاب رجل بأشد من أن جاد بنفسه ) .
يعني هل تريد توبة من شراكتي بدم عثمان أكثر من أني بذلت نفسي في طلب ثأره !
وفي الإمامة والسياسة ( 1 / 62 ) : ( فضحك الجهيني ، ولحق بعلي بن أبي طالب ، وبلغ طلحة قول ابنه محمد ، وكان محمد من عباد الناس فقال له : يا محمد ، أتزعم عنا قولك إني قاتل عثمان ، كذلك تشهد على أبيك ؟ كن كعبد الله بن الزبير ، فوالله ما أنت بخير منه ، ولا أبوك بدون أبيه ، كف عن قولك ، وإلا فارجع فإن نصرتك نصرة رجل واحد ، وفسادك فساد عامة ! فقال محمد : ما قلت إلا حقاً ، ولن أعود ) !
وفي رواية الطبري ( 3 / 482 ) ( ضحك الغلام وقال : ألا أراني على ضلال ! ولحق بعلي . وفي أمالي محمد بن المبارك اليزيدي ( 1 / 25 ) المتوفى سنة 310 : ( فسمعت ذلك عائشة فأقبلت عليه تشتمه وهو يقول : يغفر الله لك يرحمك الله . وسمع أبوه كلامه فأقبل إليه على بعيره فقال : ويحك فهل تاب رجل بأشد من أن جاد بنفسه ) !
ثم رأى هذا العابد أن المعسكرين وقفا عن الشروع في القتال لئلا يكون أحدهما البادئ ، فقام وتقدم يطلب المبارزة ، وقتل مؤمناً من الفئة المبغي عليها . ثم لما حمل عليه الأشتر هرب منه كالجارية ، ثم توسل اليه أن لا يقتله فعفا عنه ، فصار عبداً للأشتر !
--------------------------- 233 ---------------------------
فكيف نفسر سلوكه إلا أنه صاحب شخصية بدوية تفكر بغريزة القبيلة ، وبفهم الخوارج للدين ، فقد رفض الالتزام بالنص النبوي ، ورفض سماع نصيحة عائشة ، فقد قالت له كما زعموا : كن كخير ولدي آدم أي لا تبدأ بقتال ، وكن كهابيل الذي قال : لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ ، وبعد أن سمع كلامها قبَّلَ خطام جملها وكسر توقف الحرب ، وبرز ، فلم تنهه ! فأي عابد هذا ؟ وهل تكون عبادته إلا لإثبات الذات !
قال في أسد الغابة ( 4 / 322 ) : ( وكان محمد بن طلحة يلقب السجاد لكثرة صلاته وشدة اجتهاده في العبادة . وقتل يوم الجمل مع أبيه سنة ست وثلاثين ، وكان هواه مع علي ، إلا أنه أطاع أباه . فلما رآه علي قتيلاً قال : هذا السجاد قتله بره بأبيه ، وكان سيد أولاد طلحة ، ونهى علي عن قتله ذلك اليوم فقال : إياكم وصاحب البرنس . قيل إن أباه أمره بالقتال وكان كارهاً للقتال فتقدم ونثل درعه بين رجليه ، وقام عليها ( انفرط درعه فوقف عليه ) وجعل كلما حمل عليه رجل قال : نشدتك بحاميم ، حتى شد عليه رجل فقتله ) وفسر ابن حجر مناشدته بالحواميم فقال ( فتح الباري : 8 / 426 ) : ( يقال كان مراد محمد بن طلحة بقوله : أذكرك حم ، أي قوله تعالى في حم عسق : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . كأنه يذكره بقرابته ليكون ذلك دافعاً له عن قتله .
ومعناه أنه ناشده بأنه من قربى الرسول صلى الله عليه وآله ! ومعناه أنه كان يزعم أن آية المودة في القربى تشمله ، ويدعي ما لم يدعه أحد من بني تيم . فأي عابد هذا ؟ !
كان محمد بن طلحة من أصحاب البرانس الذين قال فيهم حذيفة : ( أرأيتم لو أخبرتكم أن أصحاب البرانس أصحاب الأساطير شراركم ، كنتم تصدقوني ؟ قالوا : سبحان الله ! قال : أرأيتم لو أخبرتكم أن أمكم الحميراء عائشة تقاتلكم كنتم تصدقوني ؟ قالوا : سبحان الله ! قال : كأني سأنظر إليهم مستمسكون بالسوابير والذنب كأني أراكم صرعى حولها ، لا تغني عنهم من الله شيئاً ) ! ( مناقب ابن سليمان : 2 / 349 ) .
قد يقال : إن هذه الرواية تفترض وجود طلحة يوم الاثنين ، أي اليوم الخامس من
--------------------------- 234 ---------------------------
الحرب ، وقد قتل في اليوم الأول عصراً . لكن القرائن توجب الاطمئنان بصحة الرواية فلا بد أن يكون المقصود بأن الأشتر أرسله إلى أبيه أي إلى معسكره . وأن حواره مع أبيه في شراكته في دم عثمان كان في أول الحرب قبل قتل طلحة . راجع : المغني لابن قدامة : 10 / 55 ، والإصابة : 6 / 16 ، والحاكم : 3 / 374 . وسير الذهبي : 1 / 40 .

في اليوم السابع نشر أمير المؤمنين عليه السلام راية رسول الله صلى الله عليه وآله

كان جيش عائشة أضعاف جيش أمير المؤمنين عليه السلام ، فجيشه عليه السلام اثنا عشر ألفاً ، وجيش عائشة ومشجعوهم مئة وعشرون ألفاً .
وكانت قتلى جيش عائشة ستة أضعاف قتلى جيش علي عليه السلام لكن النقص كان يظهرعلى جيش الإمام عليه السلام بمن يقتل منهم لقلة عددهم نسبياً ، بينما لا يظهر النقص في جيش عائشة ، لكثرتهم . وقد روي عن بداية الحرب أن أمير المؤمنين عليه السلام أعطى الراية لابنه محمد وقال له : هذه راية رسول الله صلى الله عليه وآله ، والظاهر أنه لم ينشرها قبل اليوم السابع ، فقد كان مأموراً بما يفعله من النبي صلى الله عليه وآله ، وكأنه أمره إن لم ينتصرعلى عائشة في ستة أيام ، أن ينشر رايته في اليوم السابع .
فقد تقدم قوله عليه السلام في جواب المتمرد ابن يثربي : يا أمير المؤمنين إستبقني أجاهد بين يديك وأقتل منهم مثلما قتلت منكم . فقال له علي عليه السلام : أبعد زيد وهند وعلباء أستبقيك ! لاها الله إذاً ! وقال له : أنت متمرد ، وقد أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالمتمردين وذكرك فيهم ) . ( شرح النهج : 1 / 253 ) .
فإذا كان أخبره بابن يثربي فلا بد أنه أخبره بشدة المعركة ومدتها ومتى ينشر الراية فيها . بل يدل كلامه عليه السلام على أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بكل ما يجري معه ووجهه . قال عليه السلام : ( أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بما الأمة صانعة بي بعده ، فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت ) . ( كتاب سليم بن قيس / 215 ) .
قال الإمام الصادق عليه السلام ( غيبة النعماني / 319 ) : ( لما التقى أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البصرة
--------------------------- 235 ---------------------------
نشر الراية راية رسول الله صلى الله عليه وآله فزلزلت أقدامهم ، فما اصفرت الشمس حتى قالوا : آمنا يا ابن أبي طالب ! فعند ذلك قال : لاتقتلوا الأسرى ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تتبعوا مولياً ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . ولما كان يوم صفين سألوه نشر الراية فأبى عليهم ، فتحملوا عليه بالحسن والحسين عليهما السلام وعمار بن ياسر فقال للحسن : يا بنيَّ إن للقوم مدةً يبلغونها ، وإن هذه رايةٌ لا ينشرها بعدي إلا القائم صلوات الله عليه ) .
وقال الإمام الصادق عليه السلام : ( لا يخرج القائم عليه السلام حتى يكون تكملة الحلقة . قلت : وكم الحلقة ؟ قال : عشرة آلاف ، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، ثم يهز الراية ويسير بها ، وهي راية رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بها جبرئيل يوم بدر .
ثم قال : يا أبا محمد وما هي والله قطن ولا كتان ولا قز ولا حرير ، قلت : فمن أي شئ هي ؟ قال : من ورق الجنة ، نشرها رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ، ثم لفها ودفعها إلى علي عليه السلام فلم تزل عند علي حتى إذا كان يوم البصرة نشرها أمير المؤمنين عليه السلام ففتح الله عليه ، ثم لفها . وهي عندنا هناك ، لاينشرها أحد حتى يقوم القائم ، فإذا هو قام نشرها فلم يبق أحد في المشرق والمغرب إلا لعنها ، ويسير الرعب قدامها شهراً ووراءها شهراً وعن يمينها شهراً وعن يسارها شهراً ) .
وقال الباقر عليه السلام ( غيبة النعماني / 321 ) : ( كأني بقائم أهل بيتي قد أشرف على نجفكم هذا ، وأومأ بيده إلى ناحية الكوفة ، فإذا هو أشرف على نجفكم نشر راية رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإذا هو نشرها انحطت عليه ملائكة بدر . قلت : وما راية رسول الله ؟ قال : عمودها من عمد عرش الله ورحمته ، وسائرها من نصر الله ، لا يهوي بها إلى شئ إلا أهلكه الله . قلت : فمخبوءة عندكم حتى يقوم القائم عليه السلام فيجدها أم يؤتى بها ؟ قال : لا ، بل يؤتى بها . قلت : من يأتيه بها ؟ قال : جبرئيل عليه السلام ) .
وفي رواية : ( يأتيه بها جبرائيل ، عمودها من عمد عرش الله ، وسائرها من نصر الله ، لا يهوي بها إلى شئ إلا أهلكه الله ، يهبط بها تسعة آلاف ملك وثلاث مائة وثلاثة
--------------------------- 236 ---------------------------
عشر ملكاً . فقلت له : جعلت فداك ، كل هؤلاء معه ؟ قال : نعم ، هم الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة ، والذين كانوا مع إبراهيم عليه السلام حيث القي في النار ، وهم الذين كانوا مع موسى عليه السلام لما فلق له البحر ، والذين كانوا مع عيسى عليه السلام لما رفعه الله إليه ، وأربعة آلاف مسومين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وثلاث مائة وثلاثة عشر ملكاً كانوا معه يوم بدر ) .
وإنما يلعنها أهل المشرق والمغرب ، لأنهم يعرفون أن المهدي عليه السلام يريد تحرير المشرق والمغرب من الظلم . وقوله عليه السلام : يأتيه بها جبرئيل عليه السلام : لا ينافي أنها عند أهل البيت عليهم السلام مع مواريث الأنبياء عليهم السلام ، والمعنى يسلمه إياها جبرئيل عليه السلام ويأمره بنشرها .
وقد روى الجميع أن جبرئيل يكون مع المهدي عليهما السلام ، قال ابن حماد في الفتن ( 1 / 356 ) : ( عن كعب قال : قادة المهدي خير الناس ، أهل نصرته وبيعته من أهل كوفان واليمن وأبدال الشام ، مقدمته جبريل وساقته ميكائيل ، محبوب في الخلائق ، يطفئ الله تعالى الفتنة العمياء ، وتأمن الأرض حتى إن المرأة لتحج في خمس نسوة ما معهن رجل ، لا تتقي شيئاً إلا الله ، تعطي الأرض زكاتها والسماء بركتها ) .
وقال القرطبي في التذكرة ( 2 / 700 ) : عن النبي صلى الله عليه وآله قال : ( فلو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يأتيهم رجل من أهل بيتي ، تكون الملائكة بين يديه ) .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 190 : ( وروى الواقدي عن هشام بن سعد عن شيخ من مشايخ أهل البصرة قال : لما صف علي بن أبي طالب عليه السلام صفوفه أطال الوقوف والناس ينتظرون أمره ، فاشتد عليهم ذلك فصاحوا : حتى متى ؟ فصفق بإحدى يديه على الأخرى ، ثم قال : عباد الله لا تعجلوا فإني كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وآله يستحب أن يحمل إذا هبت الرياح . قال : فأمهل حتى زالت الشمس وصلى ركعتين ، ثم قال : ادعوا ابني محمداً فدعي له محمد بن الحنفية فجاء ، وهو يومئذ ابن تسع عشرة سنة ، فوقف بين يديه ودعا بالراية فنصبت ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما هذه الراية لم ترد قط ولا ترد أبداً ، وإني واضعها اليوم في أهلها . ودفعها إلى ولده محمدٍ وقال : تقدم يا بني ، فلما رآه القوم قد أقبل والراية بين يديه تضعضعوا ، فما هو إلا أن التقوا
--------------------------- 237 ---------------------------
ونظروا إلى غرة أمير المؤمنين عليه السلام ووجدوا مس السلاح ، حتى انهزموا ) .
وقد وصف ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 96 ) المعركة فقال : ( وأقبل علي وعمار والأشتر والأنصار معهم يريدون الجمل فاقتتل القوم حوله ، حتى حال بينهم الليل ! وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيام .
وإن علياً خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم . . ثم تقدم عليٌّ فنظر إلى أصحابه يهزمون ويقتلون ، فلما نظر إلى ذلك صاح بابنه محمد ومعه الراية أن اقتحم فأبطأ وثبت ، فأتى عليٌّ من خلفه فضربه بين كتفيه ، وأخذ الراية من يده ثم حمل فدخل عسكرهم ، وإن الميمنتين والميسرتين تضطربان ، في إحداهما عمار ، وفي الأخرى عبد الله بن عباس ومحمد بن أبي بكر ، قال : فشق عليٌّ في عسكرالقوم يطعن ويقتل ، ثم خرج وهو يقول : الماء الماء ، فأتاه رجل بإداوة فيها عسل فقال له : يا أمير المؤمنين أما الماء فإنه لا يصلح لك في هذا المقام ، ولكن أذوقك هذا العسل فقال : هات ، فحسا منه حسوة ثم قال : إن عسلك لطائفي ! قال الرجل : لعجباً منك والله يا أمير المؤمنين لمعرفتك الطائفي من غيره في هذا اليوم ، وقد بلغت القلوب الحناجر ! فقال له علي : إنه والله يا ابن أخي ما ملأ صدر عمك شئ قط [ من أمر الدنيا ] ولا هابه شئ !
ثم أعطى الراية لابنه وقال : هكذا فاصنع ، فتقدم محمد بالراية ، ومعه الأنصار حتى انتهى إلى الجمل والهودج وهزم ما يليه ، فاقتتل الناس ذلك اليوم قتالاًشديداً حتى كانت الواقعة والضرب على الركب ) .
وفي شرح النهج ( 2 / 244 ) : ( دفع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه وقد استوت الصفوف وقال له : إحمل فتوقف قليلاً ، فقال له : إحمل فقال : يا أمير المؤمنين ، أما ترى السهام كأنها شآبيب المطر ! فدفع في صدره فقال : أدركك عرق من أمك ، ثم أخذ الراية فهزها ، ثم قال :
--------------------------- 238 ---------------------------
أطعن بها طعن أبيك تحمدِ * لا خير في الحرب إذا لم توقد
بالمشرفي والقنا المسدد
ثم حمل وحمل الناس خلفه ، فطحن عسكر البصرة !
وقيل لمحمد : لمَ يُغرِّر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين ؟ فقال : إنهما عيناه وأنا يمينه ، فهو يدفع عن عينيه بيمينه ) !
قال البلاذري ( 2 / 240 ) : ( ثم أمر علي محمد بن الحنفية أن يحمل فحمل وحمل الناس فانهزم أهل البصرة ، وقتلوا قتلاً ذريعاً وذلك عند المساء ، فكانت الحرب من الظهر إلى غروب الشمس ) . لابد أن البلاذري يقصد آخر معارك حرب الجمل .
وفي كتاب الجمل للمفيد / 196 : ( وروى محمد بن عبد الله بن عمر بن دينار قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام لابنه محمد خذ الراية وامض ، وعلي عليه السلام خلفه فناداه يا أبا القاسم ؟ فقال لبيك يا أبهْ ، فقال : يا بني لايستفزنك ما ترى ، قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوِّي ، وذلك أني لم أبارز أحداً إلا حدثتني نفسي بقتله ، فحدث نفسك بعون الله تعالى بظهورك عليهم ، ولا يخذلك ضعف النفس من اليقين ، فإن ذلك أشد الخذلان . قال : قلت يا أبَهْ ، أرجو أن أكون كما تحب إن شاء الله . قال فالزم رأيتك فإن اختلفت الصفوف قف في مكانك وبين أصحابك ، فإن لم تَبَيَّنْ من أصحابك فاعلم أنهم سيرونك .
قال محمد : والله إني لفي وسط أصحابي فصاروا كلهم خلفي وما بيني وبين القوم أحد يردهم عني ، وأنا أريد أن أتقدم في وجوه القوم فما شعرت إلا بأبي خلفي قد جرد سيفه وهو يقول لا تَقَدَّمْ حتى أكونَ أمامك ، فتقدم بين يديَّ يهرول ومعه طائفة من أصحابه ( الذين بايعوه على الموت ) فضرب الذين في وجهه حتى نهضوهم ، ولحقتهم بالراية فوقفوا وقفة ، واختلط الناس وكدَّت السيوف ساعة ، فنظرت إلى أبي يفرج الناس يميناً وشمالاً ، ويسوقهم أمامه ) .
أقول : ورد أنه يومها وجه ابنه محمدا رضي الله عنه بكلامه المشهور .
--------------------------- 239 ---------------------------
ففي نهج البلاغة ( 1 / 43 ) : ( ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل : تزول الجبال ولا تزل . عَضَّ على ناجذك . أَعِرِ الله جمجمتك . تِدْ في الأرض قدمك . إرمِ ببصرك أقصى القوم . وغُض بصرك ، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه ) .
أما قوله عليه السلام : قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوُّي ، فأول ما حمل علي عليه السلام الراية يوم بدر ، وكان عمره على الأقل خمساً وعشرين سنة ، لأنه عند البعثة ابن عشر سنين ، وكانت بدر بعد البعثة بنحو خمس عشرة سنة ، فقوله عليه السلام لمحمد : وأنا أصغر منك ، يدل على أن عمر محمد كان يوم الجمل أكثر من خمس وعشرين سنة . فيكون مولد محمد سنة وفاة النبي صلى الله عليه وآله أو في حياته .
وقد أشاع محبوا أبي بكر أن أمه خولة الحنفية من سبي اليمامة وان علياً أخذ من سبي في عهد أبي بكر فهو اعتراف بخلافته ! لكن روى البلاذري وغيره أنه سباها بنو أسد وباعوها في المدينة فاشتراها علي عليه السلام . وقد تكون الزهراء أجازت له عليهما السلام فأعتقها وتزوج بها ، وولدت محمداً في حياة النبي صلى الله عليه وآله .
كما روي أنه أخذها سبية في اليمن في حياة النبي صلى الله عليه وآله ، وهذا هو الصحيح عندي . ولا يتعارض هذا مع ما صحَّ عندنا من أن الله حرّم على عليٍّ عليه السلام النساء ما دامت فاطمة عليها السلام حيَّة لأنه تسرِّن بإذنها .
--------------------------- 240 ---------------------------

الفصل السابع والخمسون : هزيمة جيش عائشة وسُمُوُّ علي عليه السلام ونُبله

سقط جمل عائشة فانتهت الحرب !

1 . قال في شرح النهج ( 1 / 265 ) : ( فلما رأى علي عليه السلام أن الموت عند الجمل ، وأنه ما دام قائماً فالحرب لا تطفأ ، وضع سيفه على عاتقه وعطف نحوه ، وأمرأصحابه بذلك ، ومشى نحوه والخطام مع بني ضبة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ، واستحر القتل في بني ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وخلص علي عليه السلام في جماعة من النخع وهمدان إلى الجمل ، فقال لرجل من النخع اسمه بجير : دونك الجمل يا بجير ، فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه ، وضرب بجرانه الأرض وعجَّ عجيجاً لم يسمع بأشد منه ، فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرَّت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب ، واحتملت عائشة بهودجها ، فحملت إلى دار عبد الله بن خلف . وأمر علي عليه السلام بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح وقال عليه السلام : لعنه الله من دابة ! فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ، ثم قرأ : وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) .
وقال في شرح النهج ( 6 / 228 ) : ( قال علي عليه السلام لما فني الناس على خطام الجمل وقطعت الأيدي وسالت النفوس : ادعوا لي الأشتر وعماراً ، فجاءا فقال : إذهبا فاعقرا هذا الجمل فإن الحرب لايبوخُ ضرامها ما دام حياً ، إنهم قد اتخذوه قبلة ! فذهبا ومعهما فتَيَان من مراد يعرف أحدهما بعمر بن عبد الله ، فما زالا يضربان الناس حتى خلصا إليه فضربه المرادي على عرقوبيه فأقعى وله رغاء ، ثم وقع لجنبه وفر الناس من حوله ! فنادى علي عليه السلام : إقطعوا أنساع الهودج ، ثم قال لمحمد بن أبي بكر : إكفني أختك فحملها محمد حتى أنزلها دار عبد الله بن
--------------------------- 241 ---------------------------
خلف ) . أقول : لا تنافي بين الروايتين ، والصحيح أن علياً عليه السلام قاد المجموعة التي عقرت الجمل وقد قالت ذلك عائشة ، ووصفت المشهد بأحسن وصف ، كما يأتي .
2 . في كتاب الجمل للمفيد / 196 : ( قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه : فما شعرت إلا بأبي خلفي قد جرد سيفه وهو يقول : لا تَقَدَّمْ حتى أكون أمامك ، فتقدم بين يديَّ يهرول ومعه طائفة من أصحابه . . فنظرت إلى أبي يفرج الناس يميناً وشمالاً ويسوقهم أمامه ، فأردت أن أجول فكرهت خلافه ووصيته لي لا تفارق الراية ، حتى انتهى إلى الجمل وحوله أربعة آلاف مقاتل من بني ضبة والأزد وتميم وغيرهم وصاح : إقطعوا البطان ، فأسرع محمد بن أبي بكر فقطعه ، واطَّلع على الهودج فقالت عائشة : من أنت ؟ قال : أبغض أهلك إليك ! قالت : ابن الخثعمية ؟ قال : نعم ، ولم تكن دون أمهاتك ! قالت : لعمري بل هي شريفة ، دع عنك هذا الحمد لله الذي سلمك . قال قد كان ذلك ما تكرهين ! قالت : يا أخي لو كرهته ما قلتُ ما قلت ! قال : كنت تحبين الظفر وأني قتلت . قالت : قد كنت أحب ذلك ، لكنه لما صرنا إلى ما صرنا لقرابتي منك ، فاكفف ولا تعقب الأمور ، وخذ الظاهر ولا تكن لَوَمة ولا عَذَلة . قال وجاء علي عليه السلام فقرع الهودج برمحه ، وقال : يا شعيراء ! بهذا وصاك رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قالت : يا ابن أبي طالب ، قد ملكت فاسجح .
وجاءها عمار فقال لها : يا أماه كيف رأيت ضرب بنيك اليوم دون دينهم بالسيف ؟ فصمتت ولم تجبه . وجاءها مالك الأشتر وقال لها : الحمد لله الذي نصر وليه وكبت عدوه : جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ، كيف رأيت صنع الله بك يا عائشة ؟ فقالت : من أنت ثكلتك أمك ؟ فقال : أنا ابنك الأشتر ، قالت : كذبت لستُ بأمك . قال : بلى وإن كرهت ! فقالت : أنت الذي أردت أن تثكل أختي أسماء بابنها ، فقال : المعذرة إلى الله وإليك ، والله لولا أنني كنت طاوياً ثلاثاً لأرحتك منه ، وأنشأ يقول بعد الصلاة على الرسول :
أعائش لولا أنني كنت طاوياً * ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي والرجال تحوزه * بأضعف صوت أقتلوني ومالكا
--------------------------- 242 ---------------------------
فركبت وقالت : فَخِرتم وغلبتم : وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً . ونادى أمير المؤمنين محمد بن أبي بكر فقال : سلها هل وصل إليها شئ من الرماح والسهام ؟ فسألها قالت : نعم ، وصل إليَّ سهم خدش رأسي وسلمت من غيره . الله بيني وبينكم . فقال محمد : والله ليحكمن عليك يوم القيامة ما كان بينك وبين أمير المؤمنين عليه السلام حين تخرجين عليه وتؤلبين الناس على قتاله ، وتنبذين كتاب الله وراء ظهرك ! فقالت : دعنا يا محمد ، وقل لصاحبك يحرسني ! وكان الهودج كالقنفذ من النبل ، فرجعتُ إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأخبرته بما جرى بيني وبينها وما قلت وما قالت . فقال عليه السلام : هي امرأة والنساء ضعاف العقول ، فتول أمرها واحملها إلى دار عبد الله بن خلف حتى ننظر في أمرها . فحملتها إلى الموضع ، وإن لسانها لا يفتر من السب لي ولعلي عليه السلام ، والترحم على أصحاب الجمل ) !
وفي أمالي المفيد / 59 : ( حدثنا الأعمش ، عن حبة العرني قال : سمعت حذيفة بن اليمان قبل أن يقتل عثمان بن عفان بسنة وهو يقول : كأني بأمكم الحميراء قد سارت يساق بها على جمل وأنتم آخذون بالشوى والذنب ، معها الأزد أدخلهم الله النار ، وأنصارها بنوضبة جذَّ الله أقدامهم . قال : فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أمير المؤمنين صلوات الله عليه : لا يبدأن أحد منكم بقتال حتى آمركم . قال : فرموا فينا فقلنا يا أمير المؤمنين قد رمينا ، فقال : كفوا ، ثم رمونا فقتلوا منا ، قلنا يا أمير المؤمنين قد قتلونا ، فقال : احملوا على بركة الله . قال : فحملنا عليهم فأنشب بعضنا في بعض الرماح حتى لو مشى ماش لمشى عليها ، ثم نادى منادي علي عليه السلام : عليكم بالسيوف فجعلنا نضرب بها البيض فتنبو لنا ، فنادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام : عليكم بالأقدام .
قال : فما رأينا يوماً كان أكثر قطع أقدام منه . قال : فذكرت حديث حذيفة : أنصارها بنو ضبة جذَّ الله أقدامهم ، فعلمت أنها دعوة مستجابة .
ثم نادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام : عليكم بالبعير فإنه شيطان . قال : فعقره رجل برمحه ، وقطع إحدى يديه رجل آخر فبرك ورغا ، وصاحت عائشة صيحة شديدة ، فولى الناس منهزمين ، فنادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام : لاتجيزوا على جريح ، ولا تتبعوا
--------------------------- 243 ---------------------------
مدبراً ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ) .
وفي بشارة المصطفى للطبري / 281 : ( فلما نزلت جاءها عمار بن ياسرفقال لها : يا أم كيف رأيت ضرب بنيك دون دينهم بالسيف ؟ فقالت : إستبصرت يا عمار من أجل أنك غلبت ، قال أنا أشد استبصاراً من ذلك ، أما والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل ! فقالت له عائشة : هكذا يخيل إليك ، إتق الله يا عمار فإن سنك قد كبر ، ودق عظمك ، وفني أجلك وأذهبت دينك لابن أبي طالب ! فقال عمار : إني والله اخترت لنفسي في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فرأيت علياً أقرأهم لكتاب الله عز وجل ، وأعلمهم بتأويله ، وأشدهم تعظيماً لحرمته ، وأعرفهم بالسنة ، مع قرابته من رسول الله وعظم عنائه وبلائه في الإسلام . فسكتت ) .
3 . وفي كتاب الجمل / 198 : ( وروى الواقدي قال : حدثنا هشام بن سعد عن عباس بن عبد الله بن معبد عن معاذ بن عبد الله التميمي قال : لما قدمنا البصرة مع عائشة وأقمنا ما أقمنا ندعو الناس إلى نصرتنا والقيام معنا ، فالقابل لما ندعوا إليه والآبي له ، ونحن على ما نحن عليه نقول ، لا نقاتل علي بن أبي طالب أبداً ، إلى أن قيل قد نزل علي فما أدري حتى نشبت الحرب أنشبها الصبيان وأوقدها العبيد ، وإذا الجمل رحل والناس يهوون إلى القتال ، وإذا عسكر علي قد تحرك ، فبادر أصحابنا فرموا وجلبوا وصيحوا وأكثروا ، فسمعت عائشة تقول : هذا أول الفشل ، وعلي عليه السلام وعسكره لا يثنون ، ثم صف علي أصحابه وولى الرايات مواضعها ، وأعطى ابنه محمداً الراية العظمى راية بيضاء تملأ الرمح ، ثم وقف علي عليه السلام في القلب وحمل سرعان الميمنة والميسرة ، وحمل سرعان القلب فأسمع علياً ينادي محمداً : تقدم بالراية وتوسط القلب ، فيكر من تقدمك وإن جالوا أو دفعوا يلحقك من خلفك ، ثم سمعته يقول : أصحابك أمامك تقدم تقدم . وتقدم علي والراية بين كتفيه وجرد سيفه وضرب رجلاً فأبان زنده ، ثم انتهى
--------------------------- 244 ---------------------------
إلى الجمل ، وقد اجتمع الناس حوله واختلطوا ، وأحدقوا به من كل جانب واستجن الناس تحت بطان الجمل ، فأنظر والله إلى علي عليه السلام يصيح بمحمد بن أبي بكر : اقطع البطان ، وأرى علياً قد قتل ممن أخذ بخطام الجمل عشرة بيده ، وكلما قتل رجلاً مسح سيفه في ثيابه ! ثم جاوزه حتى صرنا في أيديهم كأننا أغنام نساق ، فانصرفنا حينئذ وتلاومنا وندمنا ) !
أقول : إن قول هذا التميمي وهو من جماعة عائشة : أنشبها الصبيان وأوقدها العبيد ، هو الرواية الرسمية التي ترددها عائشة وأنصارها . وقد تناسوا رعدهم وبرقهم وتهديدهم لعلي عليه السلام وإصرارهم على الحرب ، وتخيلهم أنهم يقتلونه أو يأخذونه أسيراً !
4 . وفي كتاب الجمل / 199 : ( روى الواقدي : قال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام : كنت أنا والأسود ابن أبي البختري وعبد الله بن الزبير قد تواعدنا وتعاهدنا بالبصرة ، لئن لقينا القوم لنموتن أو لنقتلن علياً . وأصحاب علي لم يكونوا عَدَّلُوا صفوفهم ، ثم نظرنا إليهم وقد عدلوا صفوفهم ميمنة وميسرة .
قال عبد الرحمن : كنت واقفاً عند عبد الله بن الزبير والأسود بن البختري فقلت : ما وراءكما ؟ قالا نحن على ما كنا عليه إلى أن مالت ميسرته على ميمنتنا فهزموهم ، ومالت ميمنته على ميسرتنا ففعلوا مثل ذلك ورأيت علياً وراء ابنه محمد ، وقد تقدم يحمل علماً أسود عظيماً وعلي شاهر سيفه ، فلقى رجلاً من ضبة فقتله ثم ضرب آخر فقتله ، ثم خلص إلينا ووقف عند رجلين ، فلاذ كلٌّ منا بصاحبه ، وجعل الأسود يقول : هل من مهرب !
وتقدم ابن الزبير فأخذ الجمل فكان آخر من أخذه ، فأنظرُ إلى علي وقد انتهى إلى الجمل والسيف يرعف دماً ، وهو واضعه على عاتقه وهو يصيح بحمد بن أبي بكر : اقطع البطان فكانت الهزيمة ) .
5 . وفي الأخبار الطوال / 150 : ( قالوا : ولما رأى علي لَوْثَ أهل البصرة بالجمل ، وأنهم كلما كشفوا عنه عادوا فلاثوا به ، قال لعمار وسعيد بن قيس وقيس بن سعد بن
--------------------------- 245 ---------------------------
عبادة والأشتر وابن بديل ومحمد بن أبي بكر ، وأشباههم من حماة أصحابه : إن هؤلاء لا يزالون يقاتلون ما دام هذا الجمل نصب أعينهم ، ولو قد عقر فسقط لم تثبت لهم ثابتة ، فقصدوا بذوي الجد من أصحابه قصد الجمل حتى كشفوا أهل البصرة عنه ، وأفضى إليه رجل من مراد الكوفة ، يقال له أعين بن ضبيعة فكشف عرقوبه بالسيف ، فسقط وله رغاء ، فغرق في القتلى ، ومال الهودج بعائشة ، فقال علي لمحمد بن أبي بكر : تقدم إلى أختك فدنا محمد فأدخل يده في الهودج ، فنالت يده ثياب عائشة فقالت : إنا لله ، من أنت ثكلتك أمك ، فقال : أنا أخوك محمد ! ونادى علي رضي الله عنه في أصحابه : لا تتبعوا مولياً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تنتهبوا مالاً ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . قال : فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم والمتاع فلا يعرض له أحد إلا ما كان من السلاح الذي قاتلوا به ، والدواب التي حاربوا عليها ! فقال له بعض أصحابه : يا أمير المؤمنين كيف حلَّ لنا قتالهم ولم يحلَّ لنا سبيهم وأموالهم ؟ قال علي : ليس على الموحدين سبي ، ولا يغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه ، فدعوا مالا تعرفون ، والزموا ما تؤمرون ) .
6 . وفي الدر النظيم ( 1 / 355 ) : ( فقصد الأشتر نحوه أول الناس فضربه على عرقوبيه وعنقه سبع ضربات فلم يصنع شيئاً ، فانصرف وقال : إن الله قد أعد لقتل هذا غيري . ثم حمل عمار بن ياسرعلى الجمل فلم يصنع شيئاً ، وجعل الناس يضربونه فلا يصنعون شيئاً ، حتى حمل عمر بن عبد الله المرادي فضربه على عرقوبه الأيمن فأبانه ، ثم ضرب عرقوبه الأيسر فأقعى ، وقام على يديه وله رغاء وعجيج شديد ، ثم ضرب يديه فأبانهما حتى صرعه لجنبه وله عجيج ورغاء ، فضربه على عنقه ورأسه وعينيه حتى قتله ) !
7 . وفي الكافئة في رد توبة الخاطئة / 34 : ( عن الأصبغ بن نباته قال : لما عقر الجمل وقف علي عليه السلام على عائشة فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : ذَيْتَ
--------------------------- 246 ---------------------------
وذيت ! ( أي كذا وكذا ، وكيت وكيت ) فقال : أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد ملأتِ أذنيك من رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ! أما أحياؤهم فيقتلون في الفتنة ، وأما أمواتهم ففي النار على ملة اليهود ) !
8 . قال البلاذري ( 2 / 249 ) : ( عن ابن حاطب قال : أقبلت مع علي يوم الجمل إلى الهودج وكأنه شوك قنفذ من النبل ، فضرب الهودج ثم قال : إن حميراء إرم هذه أرادت أن تقتلني كما قتلت عثمان بن عفان ! فقال لها أخوها محمد : هل أصابك شئ ؟ فقالت : مشقص في عضدي ، فأدخل رأسه ثم جرها إليه فأخرجه .
قال لي علي : يا ابن حاطب هل في قومك جراح ؟ قلت : إي والله . قال : مرهم بالسمن ، فإني لم أر علولاً مثل السمن للجرح ) .
أقول : يبدو أن أمير المؤمنين عليه السلام سمع من النبي صلى الله عليه وآله مداواة الجراح بالسمن ، وهو بقوله ذلك يريد تغيير الموضوع . أما وصفه عليه السلام لعائشة بأنها حميراء إرم ، وأخت إرم ، فروي أنها امرأة من ثمود شجعت عاقر ناقة صالح عليه السلام وأعطته بنتها ، والعرب تسمي ثموداً عاداً . وروي أنها امرأة اسمها الكلبة .
قال في معجم البلدان ( 1 / 157 ) : ( إرم الكلبة بلفظ الأنثى من الكلاب : موضع قريب من النباج بين البصرة والحجاز . والكلبة اسم امرأة ماتت ودفنت هناك ، فنسب إليها الإرم وهو العلم . ويوم إرم الكلبة من أيام العرب ، قتل فيه بجير بن عبد الله بن سلمة بن قشير القشيري ، قتله قعنب الرياحي ) .
وفي العمدة لابن رشيق / 202 : ( يوم المَرُوت : وهو يوم إرم الكلبة ، قريب من النباج ) .
والغريب في هذا النص أن الإمام عليه السلام اتهم عائشة بأنها قتلت عثمان ، ومعناه أنها كانت أشد المحرضين عليه الذين سببوا قتله ! وقد تكون لها صلة بمن شاركوا في قتله !
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 538 ) : ( أمر علي نفراً بحمل الهودج من بين القتلى ، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير ، فوضعاه إلى جنب البعير فأقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه نفر فأدخل يده فيه فقالت : من هذا ؟ قال : أخوك البر . قالت : عقوق ! وأبرزوها بهودجها من القتلى ووضعوها ليس قربها أحد وكأن هودجها فرخ
--------------------------- 247 ---------------------------
مقضب مما فيه من النبل . وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعي حتى اطلع في الهودج فقالت : إليك لعنك الله ! فقال : والله ما أرى إلا حميراء ! قالت : هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك . فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ، ورمي به عرياناً في خربة من خربات الأزد . فانتهى إليها علي فقال : إي أمه يغفر الله لنا ولكم . قالت : غفر الله لنا ولكم ) .
أقول : يريدون إثبات كرامة لعائشة ، وأن الله انتقم ممن استهزأ بها وقال حميراء ! وأنها عفت عنه بكرمها ! وزعموا أن القضية سويت بينها وبين علي عليه السلام بالاستغفار ، وكأن الاستغفار يساوي دفع دية ثلاثين ألف قتيل !
9 . وفي الكافئة / 36 : ( قال أبو رافع : سأحدثكم بحديث سمعته أذناي لا أحدثكم عن غيري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي : قاتل الله من قاتلك وعادى الله من عاداك . فقالت عائشة : يا رسول الله من يقاتله ومن يعاديه ؟ قال : أنتِ ومن معك ، أنتِ ومن معك ) .

بقي أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة أيام في أرض المعركة

1 . في نهج البلاغة ( 2 / 203 ) : ( ومن كلام له عليه السلام لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل : لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريباً ! أمَا والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب . أدركت وتري من بني عبد مناف ، وأفلتتني أعيان بني جمح ، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوُقِصوا دونه ) . أي ماتوا ولم يبلغوه !
2 . وفي شرح النهج ( 1 / 248 ) : ( الأصبغ بن نباتة : لما انهزم أهل البصرة ركب علي بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله الشهباء وكانت باقية عنده ، وسار في القتلى يستعرضهم ، فمر بكعب بن سور القاضي قاضي البصرة وهو قتيل فقال : أجلسوه فأجلس ، فقال له : ويل أمك كعب بن سور ! لقد كان لك علم لو نفعك ، ولكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار ، أرسلوه . ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلاً ، فقال :
--------------------------- 248 ---------------------------
أجلسوه ، فأجلس ، قال أبو مخنف في كتابه : فقال : ويل أمك طلحة ! لقد كان لك قدم لو نفعك ! ولكن الشيطان أضلك فأزلك ، فعجلك إلى النار ) .
3 . قال العيني في عمدة القاري بشرح البخاري ( 15 / 50 ) : ( ثم إن علياً رضي الله تعالى عنه أقام بظاهر البصرة ثلاثة أيام وصلى على القتلى من الفريقين . وقال ابن الكلبي : قتل من أصحاب عائشة ثمانية آلاف وقيل ثلاثة عشر ألفاً ، ومن أصحاب علي ألف . . وكان في جملة القتلى طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة . عليٌّ البصرة يوم الاثنين ) .
أقول : لم يصلِّ علي عليه السلام على قتلى عائشة لأنهم خوارج ، ولما التقى بطلحة والزبير بين الصفين وذكرا حديث العشرة المبشرة ، كذَّب علي عليه السلام هذا الحديث بضرس قاطع !
4 . قال ابن الأثير في الكامل ( 3 / 255 ) : ( فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً ، وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم ، وطاف علي في القتلى ، فلما أتى علي كعب بن سور قال : أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون !
وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال : هذا يعسوب القوم ، يعني أنهم كانوا يطيفون به ، واجتمعوا على الرضا به لصلاتهم . ومر على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال : لهفي عليك يا أبا محمد ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى ! أنت والله كما قال الشاعر :
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر ) .
أقول : كل ما روي في أن علياً عليه السلام مدح طلحة والزبير وعائشة فهو موضوع عليه .
5 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 246 ) : ( ومن كلامه عليه السلام عند تطوافه على القتلى : هذه قريش ! جدعتُ أنفي وشفيت نفسي ، لقد تقدمت إليكم أحذركم عض السيوف وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ، ولكنه الحين وسوء المصرع ، فأعوذ بالله من سوء المصرع ! ثم مر على معبد بن المقداد فقال : رحم الله أبا هذا ، أما إنه لو كان حياً لكان رأيه أحسن من رأي هذا ، فقال عمار بن ياسر : الحمد لله الذي أوقعه
--------------------------- 249 ---------------------------
وجعل خده الأسفل ، إنا والله يا أمير المؤمنين ما نبالي من عند عن الحق من ولد ووالد . فقال أمير المؤمنين عليه السلام : رحمك الله ، وجزاك عن الحق خيراً .
ومرَّ بعبد الله بن ربيعة بن دراج وهو في القتلى فقال : هذا البائس ما كان أخرجه ، أدين أخرجه أم نصر لعثمان ! والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن .
ثم مر بمعبد بن زهير بن أبي أمية ، فقال : لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام ، والله ما كان فيها بذي نحيزة ( أي لم يكن من أهل في الحرب ) ولقد أخبرني من أدركه وإنه ليولول فرقاً من السيف !
ثم مر بمسلم بن قرظة فقال : البرأخرج هذا ! والله لقد كلمني أن أكلم له عثمان في شئ كان يدعيه قبله بمكة ، فأعطاه عثمان وقال : لولا أنت ما أعطيته ، إن هذا ما علمت بئس أخو العشيرة ، ثم جاء المشوم للحين ينصرعثمان !
ثم مر بعبد الله بن حميد بن زهير فقال : هذا أيضاً ممن أوضع في قتالنا ، زعم يطلب الله بذلك ، ولقد كتب إلي كتباً يؤذي فيها عثمان فأعطاه شيئاً فرضي عنه .
ومر بعبد الله بن حكيم بن حزام فقال : هذا خالف أباه في الخروج ، وأبوه حيث لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا ، وإن كان قد كف وجلس حيث شك في القتال ، وما ألوم اليوم من كف عنا وعن غيرنا ، ولكن المليم الذي يقاتلنا .
ثم مر بعبد الله بن المغيرة بن الأخنس فقال : أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار ، فخرج مغضباً لمقتل أبيه ، وهو غلام حدث حين قتله .
ثم مر بعبد الله بن أبي عثمان بن الأخنس بن شريق فقال : أما هذا فإني أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف هارباً يعدو من الصف ، فنهنهت عنه فلم يَسمع من نهنهت حتى قتله . وكان هذا مما خفي على فتيان قريش ، أغمارٌ لاعلم لهم بالحرب ، خُدعوا واستُزلوا ، فلما وقفوا وقعوا فقتلوا .
ثم مشى قليلاً فمر بكعب بن سور فقال : هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف ، يزعم أنه ناصر أمه ، يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعلم ما فيه ، ثم استفتح وخاب كل جبار عنيد ! أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتلة الله . أجلسوا كعب
--------------------------- 250 ---------------------------
بن سور فأجلس ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا كعب ، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ؟ ثم قال : أضجعوا كعباً . ومر على طلحة بن عبيد الله فقال : هذا الناكث بيعتي ، والمنشئ الفتنة في الأمة ، والمجلب عليَّ ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي . أجلسوا طلحة ، فأجلس ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا طلحة بن عبيد الله ، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعد ربك حقاً ؟ ثم قال : أضجعوا طلحة وسار . فقال له بعض من كان معه : يا أمير المؤمنين ، تُكلم كعباً وطلحة بعد قتلهما ؟ قال : أمَا والله ، إنهما لقد سمعا كلامي ، كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ) .
6 . وقال البلاذري في أنساب الأشراف ( 2 / 264 ) : ( وقال أبو مخنف وغيره : قتل مع عائشة عبد الرحمان بن عتاب بن أسيد ، وعلي بن عدي بن ربيعة بن عبد شمس ، ومسلم بن قرظة من بني نوفل بن عبد مناف ، وعبد الله بن حكيم بن حزام ، ومعبد بن المقداد بن الأسود ، وأمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وهو الذي مرَّ به علي فقال : لا جزاك الله من ابن أخت خيراً ) .

بنا تسنمتم الشرف

من كلامه عليه السلام حين قتل طلحة ، وانفض أهل البصرة ( الإرشاد : 1 / 254 ) : ( بنا تسنمتم الشرفاء ، وبنا انفجرتم عن السرار ، وبنا اهتديتم في الظلماء ؟ وَقَرَ سَمْعٌ لم يفقه الواعية ، كيف يراع للنبأة من أصمته الصيحة ، رُبِطَ جنانٌ لم يفارقه الخفقان ما زلت أتوقع بكم عواقب الغدر ، وأتوسمكم بحلية المغترين ، سترني عنكم جلباب الدين ، وبصرنيكم صدق النية ، أقمت لكم الحق حيث تعرفون ولا دليل ، وتحتفرون ولا تميهون .
اليوم أُنطِقُ لكم العجماء ذات البيان ، عزب فهم امرئ تخلف عني ، ما شككت في الحق منذ رأيته . كان بنو يعقوب على المحجة العظمى حتى عقوا أباهم وباعوا أخاهم ، وبعد الإقرار كانت توبتهم ، وباستغفار أبيهم وأخيهم غفر لهم ) .
أقول : يبدو أنها فقرة من خطبته صلوات الله عليه في ذي قار ، التي رواها في العدد القوية عن كتاب الصفار رضي الله عنهم ، وقد أوردنا ما وجدناه منها في محله .
--------------------------- 251 ---------------------------

عدد الجيشين وعدد القتلى من الطرفين

تفاوتت الرواية في عدد الجيشين والقتلى ، لكنها اتفقت على أن عدد جيش عائشة كان ضعفي جيش علي عليه السلام أو أضعافه وكذلك عدد قتلاها . فقد وصلت رواية سُليم بجيش عائشة إلى مئة وعشرين ألفاً ، روى ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه للأشعث بن قيس لما سأله : ما دمت وصي النبي صلى الله عليه وآله وصاحب الحق ، فلماذا لم تقاتل أبا بكر وعمر ؟ فقال عليه السلام : ( أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بما الأمة صانعة بي بعده ! فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت . فقلت : يا رسول الله فما تعهد إليَّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدتَ أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً . . .
ويلك يا ابن قيس ، كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان إذ وجدت أعواناً ؟ هل رأيت مني فشلاً أو تأخراً أو جبناً أو تقصيراً في وقعتي يوم البصرة ، وهم حول جملهم الملعون من معه ، الملعون من قتل حوله ، الملعون من رجع بعده لا تائباً ولا مستغفراً ، فإنهم قتلوا أنصاري ونكثوا بيعتي ومثلوا بعاملي وبغوا عليَّ ! فسرت إليهم في اثني عشرألفاً وهم نيفٌ على عشرين ومائة ألف ! فنصرني الله عليهم ، وقتلهم بأيدينا ، وشفى صدور قوم مؤمنين ) !
وكذا في كتاب سليم رحمه الله / 325 : ( قال أبان : سمعت سليم بن قيس يقول : شهدت يوم الجمل علياً عليه السلام وكنا اثني عشر ألفاً وكان أصحاب الجمل زيادةً على عشرين ومائة ألف ! وكان مع علي عليه السلام من المهاجرين والأنصار نحو من أربعة آلاف ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا والحديبية ومشاهده ، وسائر الناس من أهل الكوفة إلا من تبعه من أهل البصرة والحجاز ليست له هجرة ممن أسلم بعد الفتح . وجل الأربعة آلاف من الأنصار . ولم يكره أحداً من الناس على البيعة ولا على القتال ، إنما ندبهم فانتدب من أهل بدر سبعون ومائة رجل ، وجلهم من الأنصار ممن شاهد أُحُداً والحديبية ، ولم يتخلف عنه أحد . وليس
--------------------------- 252 ---------------------------
أحد من المهاجرين والأنصار إلا وهواه معه ، يتولونه ويدعون له بالظفر والنصر ) .
وروى الحضيني في الهداية / 141 ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : ( ومسيرها من مكة إلى البصرة ، وإشعالها حرباً قتل فيه طلحة والزبير وخمسة وعشرون ألفاً من المسلمين ، وقد علمتم أن الله عز وجل يقول : وَمَنْ يَقْتُلْ مؤمناً متعمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عذاباً عَظِيماً ) .
وفي الإرشاد ( 1 / 247 ) الكافئة / 19 ، والمعيار والموازنة / 53 ، وشرح النهج ( 1 / 233 ) ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : ( وقد والله علمت أنها الراكبة الجمل لا تحل عقدة ولا تسير عقبة ولا تنزل منزلاً إلا إلى معصية ، حتى تورد نفسها ومن معها مورداً يقتل ثلثهم ، ويهرب ثلثهم ، ويرجع ثلثهم . والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان ، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه . والله لتنبحنها كلاب الحوأب ، فهل يعتبر معتبر ، أو يتفكر متفكر ! ثم قال : قد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون ؟ ) .
هذا هو المرجح عندنا ، فيكون عدد القتلى أربعين ألفاً وأكثر من جيش عائشة ، وروي أنه قتل ألف وكسر من جيش أمير المؤمنين عليه السلام ، وتكون الروايات التي تقلل عدد الجيشين متأثرة بسياسة الحكومات التي أرادت أن تهون من أمر حرب الجمل وتقول إنها كانت معركة واحدة أنشبها الصبيان والأوباش ، وكان القتلى فيها قليلين ! فكل رواية تقلل من شأن المعركة ومن عدد قتلاها ، محل شك .
لاحظ ما رواه الطبري ( 3 / 543 ) : ( كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف ، نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة ) .
فقد ساوى بينهم حتى في عدد القتلى ، لأنهم كلهم سواء مرضيون عند الراوي !
وقال في العقد الفريد / 74 : ( عن قتادة قال : قتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفاً ، منهم ثمان مائة من بني ضبة . وقتل من أصحاب علي خمس مائة رجل ) .
وهي أقرب إلى الصحة من رواية الطبري . ونحوها رواية البلاذري ( 2 / 264 ) : ( وكان
--------------------------- 253 ---------------------------
جميع من قتل من الناس من أهل البصرة عشرون ألفاً ) .
لكن البلاذري روى أن جيشها مئة وعشرين ألفاً ، وروينا أنه يقتل ثلثهم .
وفي تاريخ خليفة / 139 ، عن جدة المعلى أبي حاتم قالت : ( خرجنا إلى قتلى الجمل فعددناهم بالقصب عشرين ألفاً . . عن خالد بن العاص عن أبيه قال : قتل ثلاثة عشر ألفاً . من أصحاب علي ما بين الأربع مائة إلى الخمس مائة ) .
ولو كانوا عدوهم بالقصب لاشتهر ذلك ورواه غير جدة المعلى ! ولا نطيل في سرد رواياتهم المتناقضة ، بعد أن رجحنا أن جيش عائشة نحو مئة وعشرين ألفاً قتل ثلثهم .
أما جيش علي عليه السلام فكانوا اثني عشر ألفاً إلا مئة ، كما قال ابن الحنفية ( البلاذري : 2 / 262 ) وقد قسموا بينهم بيت مال البصرة ، فأصاب الواحد خمس مئة .
قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 370 ) : ( ودخل عليٌّ بيت مال البصرة في جماعة من المهاجرين والأنصار ، فنظر إلى ما فيه من العين والورق فجعل يقول : يا صفراء غُرِّي غيري ، ويا بيضاء غُري غيري ، وأدام النظر إلى المال مفكراً ثم قال : إقسموه بين أصحابي ومن معي خمس مائة خمس مائة ، ففعلوا فما نقص درهم واحد ، وعدد الرجال اثنا عشر ألفاً ) .
وفي الدر النظيم ( 1 / 357 ) : ( وأخذ علي لنفسه خمس مائة ، فجاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أعطني من الفئ ، فأعطاه الخمس مائة » . فالذين أخذوا العطاء اثنا عشر ألفاً ، والمرجح أن الشهداء من ضمنهم ، أخذوا لهم سهمهم .

سبب كثرة القتلى من جيش عائشة

قال أمير المؤمنين عليه السلام عن فتيان قريش ( الإرشاد : 1 / 246 ) : ( أغمار لاعلم لهم بالحرب خُدعوا واستُزلوا ، فلما وقفوا وقعوا فقتلوا ) .
وقالت عائشة كما في حديث الواقدي عن كبشة بنت كعب ( الجمل للمفيد / 201 ) : ( وكان من معنا فتيان أحداث من قريش ، لاعلم لهم بالقتال ، ولم يشهدوا الحرب فكانوا جَزْراً للقوم ، فإني لعلى ما نحن فيه وقد كان الناس كلهم حول جملي ،
--------------------------- 254 ---------------------------
فسكتوا ساعة فقلت : خيراً أم شراً ذا سكوتكم ، ضَرُس القتال ! وإذا ابن أبي طالب أنظر إليه يباشرالقتال بنفسه ، وأسمعه يصيح : الجمل الجمل ! فقلت : أرادوا والله قتلي ! فإذا هو علي بن أبي طالب ، ومعه محمد بن أبي بكر أخي ، ومعاذ بن عبد الله التميمي ، وعمار بن ياسر ، وقطعوا البطان واحتملوا الهودج فهوى على أيدي الرجال يرفلون به ، وهرب من كان معنا فلم أحس لهم خبراً ! ونادى منادي علي بن أبي طالب : لا يُتبع مدبر ، ولا يُجهز على جريح ، ومن طرح السلاح فهو آمن . فرجعت إلى الناس أرواحهم ) !
أقول : كان القرشيون مع عائشة قادة الحرب ، وكانوا قلة ، وعندما يقود المعركة أغرار يغررون بألوف الجنود ويطعمونهم للسيوف ! أما سبب زيادة عدد جنود عائشة فهو أنها أحدثت موجة نصرة زوجة النبي صلى الله عليه وآله أم المؤمنين ، وكانت تعطي الجندي ضعفين ، فتهافت شباب البصرة ومحيطها على الجندية معها .

رسالة من قتيل من بني ضبة إلى عائشة !

قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 370 ) : ( وقد ذكر المدائني أنه رأى بالبصرة رجلاً مصطلم الأذن ، فسأله عن قصته فذكر أنه خرج يوم الجمل ينظر إلى القتلى ، فنظر إلى رجل منهم يخفض رأسه ويرفعه وهو يقول :
لقد أوردتنا حومة الموتِ أمُّنا * فلم تنصرف إلا ونحن رِوَاءُ
أطعنا بني تَيمٍ لشقوة جِدنا * وما تيمُ الا أعبُدٌ وإماء
فقلت : سبحان الله أتقول هذا عند الموت ؟ قل لا إله الا الله ، فقال : يا ابن اللخناء إياي تأمر بالجزع عند الموت ؟ فوليت عنه متعجباً منه ، فصاح بي : أدْنُ مني ولقِّنِّي الشهادة ، فصرت اليه فلما قربت منه استدناني ، ثم التقم أذني فذهب بها فجعلت ألعنه وأدعو عليه ، فقال : إذا صرت إلى أمك فقالت من فعل هذا بك ؟ فقل : عمير بن الأهلب الضبي ، مخدوع المرأة التي أرادت أن تكون أمير المؤمنين ) !
وروت هذه القصة مصادر عديدة ، وفي الفتوح لابن الأعثم ( 2 / 485 ) : ( وانفلت الهمداني بغير أذن ، ثم انْكَرَّ عليه بسيفه حتى قطعه إرباً إرباً ) .
--------------------------- 255 ---------------------------

رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل الكوفة بالنصر

1 . في الكافئة / 29 ) : ( عن أبي مخنف لوط بن يحيى ، عن عبد الله بن عاصم ، عن محمد بن بشير الهمداني ، قال : ورد كتاب أمير المؤمنين عليه السلام مع عمرو بن سلمة الأرحبي إلى أهل الكوفة ، فكبر الناس تكبيرة سمعها عامة الناس ، واجتمعوا لها في المسجد ونودي : الصلاة جمعاً ، فلم يتخلف أحد وقرئ الكتاب فكان فيه : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أمير المؤمنين إلى قرظة بن كعب ومن قِبَله من المسلمين : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو .
أما بعد ، فإنا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا ، والمفارقين لجماعتنا ، الباغين علينا في أمتنا ، فحججناهم فحاكمناهم إلى الله ، فأدالنا عليهم ، فقتل طلحة والزبير ، وقد تقدمت إليهما بالمعذرة ، وأقبلت إليهما بالنصيحة ، واستشهدت عليهما صلحاء الأمة ، فما أطاعا المرشدين ، ولا أجابا الناصحين .
ولاذ أهل البغي بعائشة ، فقتل حولها من أهل البصرة عالم جم ، وضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا . فما كانت ناقة الحجر بأشأم عليهم منها على أهل ذلك المصر ، مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها ربها ونبيها ، واغترارها في تفريق المسلمين وسفك دماء المؤمنين ، بلا بينة ولا معذرة ، ولا حجة ظاهرة . فلما هزمهم الله أمرت أن لا يتبع مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولا تكشف عورة ، ولا يهتك ستر ، ولا يدخل دار إلا بإذن ، وآمنت الناس .
وقد استشهد منا رجال صالحون ضاعف الله حسناتهم ورفع درجاتهم وأثابهم ثواب الصادقين الصابرين . وجزاكم الله من أهل مصرعن أهل بيت نبيكم صلى الله عليه وآله أحسن جزاء العاملين بطاعته ، والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم وأجبتم إذا دعيتم ، فنعم الإخوان والأعوان على الحق أنتم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . كتب عبيد الله بن أبي رافع في رجب سنة ست وثلاثين ) .
--------------------------- 256 ---------------------------
2 . وأرسل الإمام عليه السلام رسالة إلى أهل الكوفة يشرح فيها لهم الوضع ، ويبدو أنها بعد رسالته إلى عامله قرظة بن كعب . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 258 ) : ( ثم كتب عليه السلام بالفتح إلى أهل الكوفة : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإن الله حكم عدل : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ . أخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة ، ومن تأشب إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ، ونكثهم صفقة أيمانهم ، فنهضت من المدينة حين انتهى إلي خبر من سار إليها وجماعتها ، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف . . وتقدمت في رسائله عليه السلام .

دخول أمير المؤمنين عليه السلام مدينة البصرة

1 . قال الطبري ( 3 / 543 ) : ( دخل علي البصرة يوم الاثنين ، فانتهى إلى المسجد فصلى فيه ، ثم دخل البصرة فأتاه الناس ، ثم راح إلى عائشة على بغلته ، فلما انتهى إلى دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة ، وجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف مع عائشة ، وصفية ابنة الحارث مختمرة تبكي ، فلما رأته قالت : يا علي يا قاتل الأحبة ، يا مفرق الجمع ، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت ولد عبد الله منه ! فلم يرد عليها شيئاً ، ولم يزل على حاله حتى دخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها وقال لها : جبهتنا صفية ! أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم . فلما خرج علي أقبلت عليه فأعادت عليه الكلام ، فكفَّ بغلته وقال : أمَّا لهممتُ ، وأشار إلى الأبواب من الدار أن أفتح هذا الباب وأقتل من فيه ، ثم هذا فأقتل من فيه ، ثم هذا فأقتل من فيه ! وكان أناس من الجرحى قد لجؤوا إلى عائشة فأُخبر علي بمكانهم عندها فتغافل عنهم . فسكتت .
فخرج علي فقال رجل من الأزد : والله لا تفلتنا هذه المرأة ! فغضب وقال : صَهْ لا تهتكن ستراً ، ولا تدخلن داراً ، ولاتهيجن امرأة بأذى ، وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم ، فإنهن ضعاف ، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات ، وإن الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضرب فيعير بها عقبه من بعده ، فلايبلغني عن أحد عَرَضَ لامرأة ، فأُنَكِّلُ به شرار الناس .
--------------------------- 257 ---------------------------
ومضى علي عليه السلام فلحق به رجل فقال : يا أمير المؤمنين قام رجلان ممن لقيت على الباب ، فتناولا من هو أمضُّ لك شتيمة من صفية . قال : ويحك لعلها عائشة ؟ قال : نعم ، قام رجلان منهم على باب الدار ، فقال أحدهما : جزيت عنا أمنا عقوقاً ، وقال الآخر : يا أمنا توبي فقد خطيتِ . . هما رجلان من أزد الكوفة يقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله , فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه ، فأحالوا على رجلين فقال : أضربُ أعناقهما ، ثم قال : لأنهكنهما عقوبة فضربهما مائة مائة ، وأخرجهما من ثيابهما ) .
أقول : كثرت مكذوباتهم في أن أمير المؤمنين عليه السلام دافع عنها ، ولوصحت هذه الرواية ، وأنه عاقب هذين ، فعقابهما ليس لذمهما عائشة ، بل لأنهما تصرفا بدون إذنه ، في ذلك الظرف الإستثنائي .
كما أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يزر عائشة ابتداء منه ، بل كان ذلك بطلبها كما تأتي روايته .
2 . وفي الكامل ( 3 / 256 ) : ( ثم دخل عليٌّ البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة ، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضاً ، فقال له علي : ما عمل المتربص المتقاعد بي أيضاً ، يعني أباه أبا بكرة ؟ فقال : والله إنه لمريض وإنه على مسرتك لحريص . فقال علي : إمش أمامي فمشى معه إلى أبيه فلما دخل عليه عليٌّ قال له : تقاعدت بي وتربصت ! ووضع يده على صدره وقال : هذا وجعٌ بين ، واعتذر إليه فقبل عذره ، وأراده على البصرة فامتنع وقال : رجل من أهلك يسكن إليه الناس ، وسأشيرعليه فاتفقا على ابن عباس ، وولى زياداً على الخراج وبيت المال ، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع ، وكان زياد معتزلاً ) . أقول : أبو بكرة بن عبيد أخ زياد بن عبيد ، وأمهما سمية الفارسية التي أعطاها كسرى للحارث بن كلدة لما عالجه من السم ، فزوجها غلامه عبيد .
وكانا يجيدان الفارسية من أمهما ، وقد نجح زياد في التعامل مع الفرس في البصرة وفارس ، فكان والياً ناجحاً ، وكذلك أخوه أبو بَكَرة ، وسمي بهذا لأن النبي صلى الله عليه وآله لما حاصر الطائف أعلن أن من جاءه مسلماً من
--------------------------- 258 ---------------------------
العبيد فهو حر ، فنزل هذا عن سور الطائف بحبل وبكرة ، فسمي أبا بكرة ، وأسلم وأعتقه النبي صلى الله عليه وآله .
3 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 258 ) : ( ومن كلامه عليه السلام بالبصرة حين ظهر على القوم بعد حمد الله والثناء عليه . أما بعد : فإن الله ذو رحمة واسعة ، ومغفرة دائمة ، وعفو جم ، وعقاب أليم ، قضى أن رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه ، وبرحمته اهتدى المهتدون ، وقضى أن نقمته وسطواته وعقابه على أهل معصيته من خلقه ، وبعد الهدى والبينات ما ضل الضالون .
فما ظنكم يا أهل البصرة وقد نكثتم بيعتي ، وظاهرتم عليَّ عدوي ؟ فقام إليه رجل فقال : نظن خيراً ، ونراك قد ظفرت وقدرت ، فإن عاقبت فقد اجترمنا ذلك ، وإن عفوت فالعفو أحب إلى الله . فقال عليه السلام : قد عفوت عنكم فإياكم والفتنة ، فإنكم أول الرعية نكث البيعة ، وشق عصا هذه الأمة . قال : ثم جلس للناس فبايعوه ) .
--------------------------- 259 ---------------------------

الفصل الثامن والخمسون

إسكان عائشة ثم ترحيلها إلى المدينة

أنزل علي ( عليه السلام ) عائشة في أكبر قصر في البصرة

وصف البخاري ( 1 / 83 ) والمفيد ( الجمل / 83 ) بيت ابن خلف بالبصرة بأنه قصر . وقال الطبري ( 3 / 543 ) : ( دخل علي البصرة يوم الاثنين فانتهى إلى المسجد فصلى فيه ، ثم دخل البصرة فأتاه الناس . ثم راح إلى عائشة على بغلته ، فلما انتهى إلى دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة ، وجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف قُتلامع عائشة ، وصفية ابنة الحارث . . إلى آخر ما تقدم .
وصفية هذه أم طلحة الطلحات ، بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار ( تهذيب التهذيب : 12 / 380 ) . وقد أجابها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقوله : ( إني لا ألومك أن تبغضيني يا صفية ، وقد قتلت جدك يوم بدر ، وعمك يوم أحد ، وزوجك الآن ، ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه البيوت ) ! ( مناقب آل أبي طالب ( 2 / 98 ) .
وقد قتل علي ( عليه السلام ) جدها طلحة في بدر بأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان أسيراً . وقتل عمها طلحة بن أبي طلحة يوم أحد وكان حامل لواء المشركين . وقتل زوجها ابن خلف الخزاعي لما تحداه وأراد قتله : ففي كشف الغمة ( 1 / 2 42 ) : ( فسمع صائحاً من ورائه فالتفت فرأى ابن أبي خلف الخزاعي من أصحاب الجمل فقال : هل لك في المبارزة يا عليّ ؟ فقال عليّ ( عليه السلام ) : ما أكره ذلك ، ولكن ويحك يا ابن أبي خلف ، ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا ؟ فقال : ذرني يا ابن أبي طالب من بذخك بنفسك ، وادنُ مني لترى أيُّنا يقتل صاحبه ! فثنى عليٌّ ( عليه السلام ) عنان فرسه إليه ، فبدره
--------------------------- 260 ---------------------------
ابن خلف بضربة فأخذها علي في جحفته ، ثم عطف عليه بضربة أطار بها يمينه ، ثم ثنى بأخرى أطار بها قحف رأسه ) !
وقيل كان أخوه عثمان مع علي ( عليه السلام ) ، والصحيح أنه كان مع عائشة فبرز إلى علي ( عليه السلام ) فقتله أيضاً ، وكانت النسوة تبكيانهما معاً .
وقال القاضي المغربي في دعائم الإسلام ( 1 / 394 ) إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال لعائشة : ( ألا تبعدين هؤلاء الكلبات عني ! يزعمن أني قاتل الأحبة ، ولو قتلت الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ، ومن في هذه الحجرة ، وأومى إلى ثلاث حجرات ، فما بقي في الدار صائحة إلا سكتت ، ولا قائمة إلا جلست ! قال الأصبغ : وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها ، وفي الأخرى مروان بن حكم وشباب من قريش ، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله . فقيل له : فهلابسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم ؟ أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلمَ استبقاهم ؟ قال الأصبغ : قد ضربنا والله بأيدينا على قوائم السيوف ، وحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل ، ووسعهم عفوه ) !

وجمعت عائشة جرحاها والهاربين ، وزارها الناس

1 . قال الطبري ( 3 / 542 ) : ( وتسلل الجرحى في جوف الليل ودخلوا البصرة ، مَن كان يطيق الإنبعاث منهم ، وسألت عائشة يومئذ عن عدة من الناس ، منهم من كان معها ومنهم من كان عليها . وقد غشيها الناس وهي في دار عبد الله بن خلف ، فكلما نعيَ لها منهم واحد قالت : يرحمه الله . فقال لها رجل من أصحابها : كيف ذلك ؟ قالت : كذلك قال رسول‌الله : فلان في الجنة وفلان في الجنة ! وقال علي بن أبي طالب يومئذ : إني لأرجوألا يكون أحد من هؤلاء نقى قلبه ،
إلا أدخله الله الجنة ) .
أقول : لم يقل رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن القاتل والمقتول في الجنة ! لكن عائشة تريد أن تساوي قتلاها البغاة بشهداء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهذا ادعاء باطل ، وكل ما يروونه من ندم علي ( عليه السلام ) أو شهادته بالجنة لأصحاب عائشة فهو مكذوب . بل صح عنه العكس .
--------------------------- 261 ---------------------------
2 . قال العيني في عمدة القاري ( 15 / 50 ) : ( ولما كان آخر الليل خرج محمد بعائشة فأدخلها البصرة ، وأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي ، وبكت عائشة بكاءً شديداً وقالت : وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ! وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون عليها ) .
3 . وقال ابن الأعثم ( 2 / 485 ) : ( فقالت عائشة لأخيها : يا أخي ، أنشدك بالله إلا طلبت لي ابن أختك عبد الله بن الزبير ، فقال لها محمد : ولم تسألين عن عبد الله ؟ فوالله ما سامك أحد سواه ! فقالت عائشة : مهلاً يا أخي فإنه ابن أختك وقد كان ما ليس إلى رده سبيل ، فأقبل محمد إلى موضع المعركة فإذا هو بعبد الله بن الزبير جريحاً لما به ، فقال له محمد : أجلس يا ميشوم أهل بيته ! أجلس لا أجلسك الله ! قال : فجلس ابن الزبير وحمله محمد بين يديه وركب من خلفه ، وجعل يمسكه وهو يميل من الجراح التي به ، حتى أدخله على عائشة ، فلما نظرت إليه على تلك الحالة بكت ، ثم قالت لأخيها محمد : يا أخي ، استأمن له علياً وتمم إحسانك ، فقال لها محمد : لابارك الله لك فيه ! ثم سار إلى علي وسأله ذلك ، فقال علي ( عليه السلام ) : قد آمنته ، وآمنت جميع الناس ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 346 ) : ( أقسمت عليك أن تطلب عبد الله بن الزبير ، جريحاً كان أو قتيلاً . فقال : إنه كان هدفاً للأشتر . فوجده فقال : أجلس يا مشؤوم أهل بيته ! فأتاها به فصاحت وبكت ، ثم قالت : يا أخي إستأمن له . . ) .
4 . لكن الطبري ( 3 / 541 ) روى أن رجلاً آواه فكتم مكانه وأخبر به عائشة فبعثت أخاها محمداً فأتى بها ، قال : ( فخرج عبد الله ومحمد وهما يتشاتمان ! فذكر محمد عثمان فشتمه ، وشتم عبد الله محمداً ، حتى انتهى إلى عائشة في دار عبد الله بن خلف ! وأرسلت عائشة في طلب من كان جريحاً فضمت منهم ناساً وضمت مروان فيمن ضمت ، فكانوا في بيوت الدار ) .
وروى المفيد في كتاب الجمل / 192 ، عن عروة ، عن عبد الله قال : ( لم يأخذ
--------------------------- 262 ---------------------------
بزمام جمل عائشة يوم الجمل أحدٌ إلا قتل ، وكان كلما جاء إنسان يأخذ بخطام جملها قالت من أنت ؟ حتى أتيتها وكنت آخر من أخذه حين لم أجد أحداً يأخذه ، فقالت : من أنت ؟ فقلت : ابن أختك . فقالت : واثكل أسماء ! فأقبل الأشتر إلي فتصارعنا فجعلت أقول : أقتلوني ومالكاً معي ، وجعل يقول : أقتلوني وعبد الله ، ولو قال ابن الزبير لقتلت ، ولو قلت الأشتر لقتلنا جميعاً ، فأثقلتني الجراح حتى سقطت وأنا مجروح مطروح في القتلى ، فأتاني الأسود بن أبي البختري فوجدني صريعاً ، فأخذني بالعَرْض على فرسه وسار بي ، فجعل إذا أبصر إنساناً من أصحاب علي ألقاني وإذا لم يرأحداً حملني ، حتى مر به رجل يعرفني فحمل عليه فأخطأه وأصاب رِجل فرسه ، ثم حملني فانطلق بي حتى أنزلني على رجل من بني ضبة له امرأتان تميمية وبكرية من شيعة عثمان ، فغسلت جراحتي وحشتها كافوراً ) .
أقول : مهما يكن أمر ابن الزبير ، فإن تصرف محمد بن أبي بكر يدل على أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمره أن يتحمل من أخته عائشة سبها وشتمها ويلبي طلباتها ! وبهذا السلوك أجبرها على أن تحب محمداً ، وقد بكته لما قتل في مصر ولعنت معاوية وابن العاص ، وضمت أولاده إليها لترعاهم وتنفق عليهم !
5 . وقال سيف بن عمر الضبي في وقعة الجمل / 175 : ( وخرج عتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم ، يوم الهزيمة ، قد شُجِّجُوا ( جُرحوا ) في البلاد ، فلقوا عصمة بن أبيرالتيمي فقال : هل لكم في الجوار ، قالوا : من أنت ؟ قال عصمة بن أبير . قالوا : نعم ، قال : فأنتم في جواري إلى الحول ، فمضى بهم ثم حماهم وأقام عليهم حتى برئوا ، ثم قال : اختاروا أحب بلد إليكم أبلغكموه ، قالوا : الشام ، فخرج بهم في أربع مائة راكب من تيم الرباب ، حتى إذا وغلوا في بلاد كلب بدومة قالوا : قد وفيت ذمتك وذممهم ، وقضيت الذي عليك فرجع .
وأما ابن عامر فإنه خرج أيضاً مشججاً ، فتلقاه رجل من بني حرقوص يدعى مريا فدعاه للجوار فقال نعم ، فأجاره وأقام عليه وقال : أي البلدان أحب إليك ؟ قال : دمشق . فخرج به في ركب من بني حرقوص حتى بلغوا به دمشق . وقال حارثة بن
--------------------------- 263 ---------------------------
بدر وكان مع عائشة ، وأصيب في الوقعة ابنه أو أخوه زراع :
أتاني من الأنباء أن ابن عامر * أناخ وألقى في دمشق المراسيا
وأوى مروان بن الحكم إلى أهل بيت من عنزة يوم الهزيمة فقال لهم : أعلموا مالك بن مسمع بمكاني ، فأتوا مالكاً فأخبروه بمكانه ، فقال لأخيه مقاتل : كيف نصنع بهذا الرجل الذي قد بعث إلينا يعلمنا بمكانه ؟ قال : ابعث ابن أخي فأجره ، والتمسوا له الأمان من علي ، فإن آمنه فذاك الذي نحب ، وإن لم يؤمنه خرجنا به وبأسيافنا ، فإن عرض له جالدنا دونه بأسيافنا ، فإما أن نسلم ، وإما أن نهلك كراماً . وقد استشار غيره من أهله من قبل في الذي استشار فيه مقاتلاً فنهاه فأخذ برأي أخيه ، وترك رأيهم ، فأرسل إليه فأنزله داره ، وعزم على منعه إن اضطر إلى ذلك ، وقال : الموت دون الجوار وفاء ، وحفظ لهم بنو مروان ذلك بعد ، وانتفعوا به عندهم وشرفوهم بذلك .
ثم قال : ( وغشي الوجوه عائشة ( أي زارها الوجهاء ) وعلي في عسكره ، ودخل القعقاع بن عمرو على عائشة في أول من دخل فسلم عليها فقالت : إني رأيت رجلين بالأمس اجتلدا بين يدي وارتجزا بكذا ، فهل تعرف كوفيك منهما ؟
قال : نعم ، ذاك الذي قال : أعقُّ أمٍّ نعلم ! وكذب والله إنك لأبرُّ أم نعلم ، ولكن لم تطاعي ، فقالت : والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة .
وخرج فأتى علياً فأخبره أن عائشة سألته فقال : ويحك من الرجلان ؟ قال : ذلك أبو هالة الذي يقول : كيما أرى صاحبه عليا فقال : والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، فكان قولهما واحداً ) .
أقول : كل ما يدعونه من ندم علي ( عليه السلام ) وأنه شهد بالجنة لمن قاتله ، فغير صحيح ، بل الصحيح أنه شهد لهم بالنار ! .

أرسل لها ابن عباس وأمرها بالرجوع إلى المدينة ، فأبت !

1 . قال ابن الأعثم ( 2 / 486 ) : ( ثم دعا علي رضي الله عنه بعبد الله بن عباس فقال له : إذهب إلى عائشة فقل لها أن ترتحل إلى المدينة كما جاءت ولاتقيم
--------------------------- 264 ---------------------------
بالبصرة ، فأقبل إلى عائشة فاستأذن عليها فأبت أن تأذن له ، فدخل عبد الله بغيرإذن ، ثم التفت فإذا راحلة عليها وسائد ، فأخذ منها وسادة وطرحها ثم جلس عليها ، فقالت عائشة : يا ابن عباس أخطأت السنة ! دخلت منزلي بغير إذني ! فقال ابن عباس : لو كنت في منزلك الذي خلفك فيه رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما دخلت عليك إلا بإذنك ، وذلك المنزل الذي أمرك الله عز وجل أن تقري فيه فخرجت منه عاصية لله عز وجل
ولرسوله محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وبعد ، فهذا أمير المؤمنين يأمرك بالإرتحال إلى المدينة فارتحلي ولاتعصي ، فقالت عائشة : رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب ! فقال ابن عباس : وهذا والله أمير المؤمنين وإن رغمت له الأنوف واربدت له الوجوه ! فقالت عائشة : أبيتُ ذلك عليكم يا ابن عباس ! فقال ابن عباس : لقد كانت أيامك قصيرة المدة ظاهرة الشؤم ، بينة النكد ، وما كنت في أيامك إلا كقدر حلب شاة حتى صرت ما تأخذين وما تعطين ، ولا تأمرين ولا تنهين ، وما كنت إلا كما قال أخو بني أسد حيث يقول :
ما زال إهداء القصائد بيننا * شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن قولك عندهم * في كل محتفل طنين ذباب
قال : فبكت عائشة بكاء شديداً ، ثم قالت : نعم والله أرحل عنكم ! فما خلق الله بلداً هو أبغض إليَّ من بلد أنتم به يا بني هاشم ! فقال ابن عباس : ولم ذلك ؟ فوالله ما هذا بلاؤنا عندك يا بنت أبي بكر ! فقالت عائشة : وما بلاؤكم عندي يا ابن عباس ؟ فقال : بلاؤنا عندك أننا جعلناك أم المؤمنين وأنت بنت أم رومان ، وجعلنا أباك صديقاً وهو ابن أبي قحافة ، وبنا سميت أم المؤمنين لا بتيمٍ وعدي ! فقالت عائشة : يا ابن عباس ! أتمنون علي برسول الله ؟ فقال : ولم لانمن عليك بمن لو كانت فيك شعرة منه أو ظفر لمننت بها وفخرت ، ونحن منه وإليه لحمه ودمه ، وإنما أنت حِشْية من تسع حشيات خلَّفهن ، لست بأرشحهن عَرَقاً ، ولا بأنضرهن وَرَقاً ، ولا بأمَدَّهن ظلاً ، وإنما أنت كما قال أخو بني أسد :
--------------------------- 265 ---------------------------
مننت على قوم فأبدوا عداوة * فقلت لهم كفوا العداوة والشكرا
ففيه رضا من مثلكم لصديقه * وأحرى بكم أن تظهروا البغي والكفرا
قال : فسكتت . وانصرفت إلى علي صلوات الله عليه ، فأخبرته بما جرى بيني وبينها ، فقال : أنا كنت أعلم بك إذ بعثتك .
وتثاقلت عائشة بعد ذلك عن الخروج إلى بيتها ، فأرسل إليها علي صلوات الله عليه : والله لترجعن إلى بيتك أو لألفظن بلفظة لا يدعوك بعدها أحد من المؤمنين أماً ! فلما جاءها ذلك قالت : أرحِلوني أرحِلوني ، فوالله لقد أذكرني شيئاً لو ذكرته من قبل ما سرت مسيري هذا . فقال لها بعض خاصتها : ما هو يا أم المؤمنين ؟ قالت : إن رسول الله قد جعل طلاق نسائه إليه ، وقَطْعَ عصمتهن منه حياً وميتاً ، وأنا أخاف أن يفعل ذلك إن خالفته ) !
2 . وقال الفضل بن شاذان الأزدي في الإيضاح / 79 : ( ورويتم عن مقاتل بن حيان قال : كانت عمتي خادمة لعائشة فحدثتني قالت : بعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ابنه الحسن إلى عائشة فقال : إرتحلي إلى المدينة إلى البيت الذي خلفك رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمرك أن تقري فيه فقالت : لا أستطيع الخروج حتى أنظر إلى ما يصير حال المسلمين إليه ! فأرسل إليها الحسين ( عليه السلام ) فقال : قل لها : والله لترحلن أو لأبعثن إليك بالكلمات ! فلما جاء الحسين ( عليه السلام ) بالباب يستأذن قالت : جاء والله بكلام غير كلام الأول ، فلما دخل رحبت به وأجلسته إلى جنبها فقال لها : إن أبي يقول لك : إرجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن تقري فيه وخلفك فيه رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإلا بعثت إليك بالكلمات ! فقالت : يا بني قل لأبيك : إني أذكرك الله أن تذكر الكلمات أو تقول شيئاً ، نعم أرتحل ، ولكن أحتاج إلى جهاز وأريد أن يدخل عليَّ وألقاه ، قال : فأصبح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وجهزها ، ووجه معها خمسين امرأة يؤدينها ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 183 ) : ( فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب
--------------------------- 266 ---------------------------
الرجال ، حتى وافوا بها المدينة ) .
3 . وفي الكافئة / 29 : ( فقالت : لا أفعل . فقال لها : لئن لم تفعلي لأرسلن إليك نسوة من بكر بن وائل بشفار حداد يأخذنك بها . . فقال لها : يا شعيرا ، إرتحلي وإلا تكلمت بما تعلمينه . فقالت : نعم أرتحل . ثم قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا معشر عبد القيس أندبوا إليَّ الحرة الخيرة من نسائكم ، فإن هذه المرأة قد أبت أن تخرج لتحملوها احتمالاً . فلما علمت بذلك قالت لهم : قولوا له فليجهزني ! فأتوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فذكروا له ذلك ، فجهزها وبعث معها بالنساء ) .
أقول : الشعيرا : كثيرة الشَّعر ، وهو وصف ذم للمرأة . وكانت عائشة عالية الصوت خشنته ، وهذا يناسب أن تكون شعيراء كثيرة الشَّعر ، بما لا يناسب المرأة .
4 . في مصنف ابن أبي شيبة الكوفي ( 8 / 720 ) : ( سمعت الأحنف بن قيس يقول : لما ظهر علي على أهل البصرة أرسل إلى عائشة : إرجعي إلى المدينة وإلى بيتك ، قال : فأبت ، قال : فأعاد إليها الرسول : والله لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها ، فلما رأت ذلك خرجت ) .
أقول : تدل هذه النصوص على اضطراب رأيها ، وأنها كانت تقبل ثم ترفض ، حتى هددها بالطلاق من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقبلت !
5 . قالت رواية إن الإمام ( عليه السلام ) خطب في مسجد البصرة ثم زارها . والصحيح أنها طلبت لقاء الإمام ( عليه السلام ) فقالت كما في رواية الفضل بن شاذان : ( نعم أرتحل ، ولكن أحتاج إلى جهاز ، وأريد أن يدخل عليَّ وألقاه ) .
6 . وقال ابن الأعثم ( 2 / 483 ) : ( فدعا علي ( عليه السلام ) ببغلة رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاستوى عليها وأقبل إلى منزل عائشة ، ثم استأذن ودخل ، فإذا عائشة جالسة وحولها نسوة من نساء أهل البصرة وهي تبكي وهن يبكين معها ، قال : ونظرت صفية بنت الحارث الثقفية امرأة عبد الله بن خلف الخزاعي إلى علي ، فصاحت هي ومن كان معها هناك من النسوة وقلن بأجمعهن : يا قاتل الأحبة . . .
--------------------------- 267 ---------------------------
قال : فأقبل علي على عائشة فقال : ألا تنحين كلباتك هؤلاء عني . .
ثم أقبل على عائشة فجعل يوبخها ويقول : أمرك الله أن تقري في بيتك وتحتجبي بسترك ولاتبرجي ، فعصيته وخضت الدماء ، تقاتليني ظالمة وتحرضين عليَّ الناس ، وبنا شرفك الله وشرف آباءك من قبلك ، وسماك أم المؤمنين ، وضرب عليك الحجاب . قومي الآن فارحلي واختفي في الموضع الذي خلفك فيه رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إلى أن يأتيك فيه أجلك ، ثم قام علي ( عليه السلام ) فخرج من عندها .
قال : فلما كان من الغد بعث إليها ابنه الحسن ، فجاء الحسن فقال لها : يقول لك أمير المؤمنين : أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! لئن لم ترحلي الساعة لأبعثن عليك بما تعلمين ، قال : وعائشة في وقتها ذلك قد ضفرت قرنها الأيمن وهي تريد أن تضفر الأيسر ، فلما قال لها الحسن ما قال ، وثبت من ساعتها وقالت : رحلوني ! فقالت لها امرأة من المهالبة : يا أم المؤمنين ! جاءك عبد الله بن عباس فسمعناك وأنت تجاوبيه حتى علا صوتك ، ثم خرج من عندك وهو مغضب ، ثم جاءك الآن هذا الغلام برسالة أبيه فأقلقك ، وقد كان أبوه جاءك فلم نرمنك هذا القلق والجزع ! فقالت عائشة : إنما أقلقني لأنه ابن بنت رسول‌الله ، فمن أحب أن ينظر إلى رسول‌الله فلينظر إلى هذا الغلام ، وبعد فقد بعث إلي أبوه بما قد علمت ولا بد من الرحيل ، فقالت لها المرأة : سألتك بالله وبمحمد إلا أخبرتني بماذا بعث إليك علي ، فقالت عائشة : ويحك ! إن رسول‌الله أصاب من مغازيه نفلاً فجعل يقسم ذلك في أصحابه ، فسألناه أن يعطينا منه شيئاً وألححنا عليه في ذلك ، فلامنا علي وقال : حسبكن أضجرتن رسول‌الله فتجهمناه وأغلظنا له في القول ، فقال : عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ، فأغلظنا له أيضاً في القول وتجهمناه ، فغضب النبي من ذلك وما استقبلنا به علياً ، فأقبل عليه ثم قال : يا علي ، إني قد جعلت طلاقهن إليك ، فمن طلقتها منهن فهي بائنة ، ولم يوقت النبي في ذلك وقتاً في حياة ولا موت ، فهي تلك الكلمة ، وأخاف أن أبين من رسول‌الله ) .
--------------------------- 268 ---------------------------
ملاحظات
1 . رووا عن عائشة الضد والنقيض ، فقد ظهر بغضها لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورفضت أن تسميه أمير المؤمنين ، وأرادت البقاء في البصرة لتجمع أنصاراً وتحاربه مرة أخرى ! فقالت : لا أستطيع الخروج حتى أنظر إلى ما يصير حال المسلمين إليه !
ورووا عنها في المقابل ليونة ، وقالت جهزوني حتى أرحل ، وقالت في خطبتها وهي تودع أهل البصرة : والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه عندي على معتبتي ، لمن الأخيار !
فهي تبغض علياً ( عليه السلام ) وبني هاشم ، لكن الجو العام وإحسان علي ( عليه السلام ) إليها ، ألزمها بإخفاء بغضها وإظهار شكرها .
2 . كما ظهر منها حبها الشديد لابن الزبير ، ثم غضبها عليه ومقاطعته ، لأنه سبب مجيئها إلى البصرة وهزيمتها ! وهذا التقلب في مواقفها يتبع الجو السياسي ، فهي تحب أن تبقى وتجمع الأنصار ، لكن تهديدات علي ( عليه السلام ) ألزمتها بالرجوع .
وهي تحب ابن أختها عبد الله بن الزبير ، لكنها تحب نفسها أكثر وتراه أخطأ في حقها . وقد ساءت علاقتهما بعد هزيمتهما في البصرة ، ثم ساءت أكثر لما حكم عليها ابن الزبير بأنها سفيهة وأراد أن يحجر عليها التصرف في مالها ! فقد كان ابن الزبير بخيلاً ممسكاً وكانت عائشة تنفق بالآلاف ، فحكم بأنها سفيهة !
قال النووي في مجموعه ( 13 / 379 ) : ( كانت تنفق نفقة كثيرة ، فقال ابن الزبير : لتنتهين عائشة ، أو لأحجرن عليها ! فبلغها ذلك فحلفت أن لا تكلمه ، فأتاها ابن الزبير واعتذر إليها ، فكفرت عن يمينها وكلمته ، فلم ينكر عليه أحد ) !

لم يطلق عائشة ، لكن طلقها الحسين ( عليه السلام )

1 . تقدم قول عائشة ( ابن الأعثم : 2 / 483 ) إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي ( عليه السلام ) : ( يا علي ، إني قد جعلت طلاقهن إليك ، فمن طلقتها منهن فهي بائنة ، ولم يوقت النبي في ذلك وقتاً في حياة ولا موت ، فهي تلك الكلمة ، وأخاف أن أبين من رسول‌الله ) .
--------------------------- 269 ---------------------------
وقد روينا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أوصى علياً ( عليه السلام ) بنسائه فقال : ( إرفق بهن ما كان الرفق بهن أمثل ، فمن عصتك منهن فطلقها براءة من الله ورسوله في الدنيا والآخرة ) .
وفي المسترشد للطبري الشيعي / 354 ، والاحتجاج ( 1 / 200 ) : ( نشدتكم الله ، أفيكم أحد جعله رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في طلاق نسائه مثل نفسه ، غيري ؟ قالوا : اللهم لا ) .
2 . وفي شرح الأخبار ( 1 / 210 و 392 ) : ( إرجعي إلى بيتك فأبت ، ثم أرسل إليها ثانية : فأبت ، ثم أرسل إليها ثالثة : لترجعن أو لأتكلم بكلمة يبرأ الله بها منك ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) . . والله لترجعن إلى بيتك أو لألفظن بلفظة لا يدعوك بعدها أحد من المؤمنين أماً . فقالت : أرحِلوني أرحِلوني ) .
3 . وفي كمال الدين / 459 ، والمناقب ( 2 / 271 ) عن الإمام المهدي ( عليه السلام ) قال : ( جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة : إنك قد أرهجت على الإسلام وأهله بفتنتك ، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك ، فإن كففت عني غربك وإلا طلقتك . . قلت : فأخبرني يا ابن مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حكمه إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟ قال : إن الله تقدس اسمه عظَّمَ شأن نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخصهن بشرف الأمهات ، فقال ( ( عليهما السلام ) ) : يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق لهن ما دمن لله على الطاعة ، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك ، فأطلق لها في الأزواج ، وأسقطها من شرف أمومة المؤمنين ) !
4 . وفي الإحتجاج ( 1 / 241 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( لما كان يوم الجمل وقد رُشق هودج عائشة بالنبل ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله ما أراني إلا مطلقها ، فأنشدُ الله رجلاً سمع من رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد ؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فيهم بدريان فشهدوا أنهم سمعوا رسول‌الله يقول : يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي . قال : فبكت عائشة عند ذلك حتى سمعوا بكاءها ، فقال علي : لقد أنبأني رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنبأ فقال : إن الله تعالى يمدك يا علي يوم الجمل بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) .
--------------------------- 270 ---------------------------
أي أنبأه بخروج عائشة عليه . لكن لم يثبت عندي أنه صدر من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أكثر من التهديد ، لكن ثبت أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبر أن من نسائه من لا تراه في الآخرة ، وهي التي يطلقها الأوصياء . وهذا إخبار بأن من أوصيائه ( عليهم السلام ) من يطلقها ، فالمتعين أن يكون ما روي من أن الحسين ( عليه السلام ) طلقها ، صحيحاً .
5 . قال المسعودي في إثبات الوصية ( 1 / 163 ) : ( وكان الحسين ( عليه السلام ) قد عزم على دفنه ( أي الحسن ( عليه السلام ) ) مع رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمنعت عائشة من ذلك ، وركبت بغلة لها وخرجت تؤلب الناس عليه وتحرضهم ! فلما رأى الحسين ( عليه السلام ) ذلك دفنه بالبقيع مع أمه فاطمة ( أي بنت أسد ( عليها السلام ) ) . وروي أن ابن عباس لقيها منصرفة إلى منزلها فقال لها : أما كفاك أن يقال يوم الجمل حتى يقال يوم البغل !
يوماً على جمل ويوماً على بغل ، بارزة عن حجاب رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تريدين إطفاء نورالله ، والله متم نوره ولو كره المشركون ، إنا لله وإنا إليه راجعون . فقالت له : إليك عني ، أف لك . وروي أن الحسين ( عليه السلام ) عندما فعلت عائشة وجه إليها بطلاقها ، وكان رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعل طلاق أزواجه بعده إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام )
وجعله أمير المؤمنين بعده إلى الحسن وجعله الحسن إلى الحسين ( عليهم السلام ) . وقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن في نسائي من لا تراني يوم القيامة ! وتلك من يطلقها الأوصياء بعدي ) .
6 . قال الخصيبي في الهداية / 186 ( وافى مروان مسرعاً على بغلته إلى عائشة . . ونزل مروان عن بغلته وركبتها عائشة ولحقت القوم وقد وصلوا إلى حرم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فرمت بنفسها عن البغلة ، وأخذت بناصيتها ( أخرجت شعرها ومدته ! ) ووقفت بينهم وبين القبر وقالت : والله لا يدفن الحسن مع جده أو تُجَزُّ ناصيتي هذه ! فأراد بنو هاشم الكلام فقال الحسين ( عليه السلام ) : اللهَ اللهَ لا تضيعوا وصية أخي ، واعدلوا به إلى البقيع ، فإنه أقسم عليَّ إن منعت من دفنه مع جده رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا أخاصم أحداً ، وأن أدفنه في البقيع ، فعدلوا به إليه فدفنوه فيه . فقال عبد الله بن عباس : كم لنا منكم يا حميراء ! يوم على جمل ويوم على بغل ! فقالت : يا ابن عباس ليس قتالي لعلي بعجيب ، وقد رويتم أن صفراء
--------------------------- 271 ---------------------------
ابنة شعيب زوجة موسى بن عمران قاتلت بعده وصيه يوشع بن نون على زارفة ! فقال لها ابن عباس : هي والله صفراء وأنت حميراء ، إلا أنها بنت شعيب وأنت بنت عتيق بن عبد العزى ! قالت : إن لنا عندك يا ابن العباس ثاراً بثأر ، والمعاد لا تقول به ! فقال لها ابن عباس : والله أنت ومن أنت منه ، وحزبكم الضالون ) .
يقصد ابن عباس أنكم أنتم لا تؤمنون بالمعاد ! وهذا تصرف عجيب من عائشة أن تتمدد وتخرج شعرها أمام الألوف ! وقال اليعقوبي ( 2 / 225 ) : ( قالت : بيتي لا آذن فيه لأحد ! فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر ، فقال لها : يا عمة ! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء ) !
7 . قال ابن عبد البر في بهجة المجالس / 34 : ( لما مات الحسن أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأبت ذلك عائشة وركبت بغلة وجمعت الناس ! فقال لها ابن عباس : كأنك أردت أن يقال : يوم البغلة كما قيل يوم الجمل ! قالت : رحمك الله ذاك يوم نسي ! قال : لا يومَ أذكرُ منه على الدهر ) .
وقال البلاذري ( 10 / 106 ) : ( بعثت عائشة إلى ابن أبي عتيق تسأله أن يعيرها بغلة له لترسل عليها رسولاً في حاجة لها ، فقال لرسولها : قل لها والله ما غسلنا رؤسنا من عار يوم الجمل ، أفمن رأيك أن تأتينا بيوم البغلة ) !
وأخذه الشاعرابن الحجاج البغدادي فقال فيه بيتين ، وزاد عليهما الصقر البصري :
أيَا بنتَ أبي بكر * فلا كانَ ولا كنتِ
تجمَّلتِ تبغَّلتِ * ولو عشت تفيَّلتِ
لك التسعُ من الثمنِ * فبالكلِّ تحكمتِ
ويومَ الحسنِ الهادي * على بغلك أسرعتِ
ومايَسْتِ ومانعتِ * وخاصمتِ وقاتلتِ
وفي بيت رسول الله * بالظلم تحكَّمت
--------------------------- 272 ---------------------------
هل الزوجةُ أولى * بالمواريث من البنت
( راجع : مناقب آل أبي طالب : 3 / 204 )
7 . ورد عندنا أن زوجات الأئمة ( عليهم السلام ) يجري عليهن شبيه هذا الحكم ! ففي الكافي ( 3 / 181 ) أن الإمام الرضا ( عليه السلام ) طلق زوجة أبيه بعد وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ( طلقت أم فروة بنت إسحاق في رجب بعد موت أبي الحسن بيوم ! قلت : طلقتها وقد علمت بموت أبي الحسن ؟ قال : نعم . قلت : قبل أن يقدم عليك سعيد ؟ قال : نعم ) .
8 . واستعظم الآلوسي كبقية المخالفين ذلك فنقل في تفسيره رواية طلاقها ( 21 / 152 ) ثم قال : ( وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله بمكان ، وبطلانه أظهر من أن يخفى ، وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت ، ولا أظنه قولاً مرضياً عند من له أدنى عقل ، فلعن الله تعالى من اختلقه وكذا من يعتقده ) !
أقول : كلام الآلوسي انفعالي غير علمي ، وأحاديث الموضوع ليس في ألفاظها ركاكة ولا وقاحة ، بل يحق للنبي ( ( عليهما السلام ) ) ويصح منه أن يوكل علياً ( عليه السلام ) بأن يرفع الحصانة عمن تعصيه من نسائه ، وينزع عنها صفة أم المؤمنين ، ومن اعتقد أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعل ذلك فلاضير عليه . والظاهر أن الحسين ( عليه السلام ) فعل ذلك .

رواياتهم عن تجهيزعائشة وتوديعها

لما قبلت عائشة أن ترجع إلى المدينة ، طلبت أن يجهزها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فجهزها ، وأعجبها الجهاز فأكثروا من روايته !
قال الطبري ( 3 / 547 ) : ( وجهز عليٌّ عائشة بكل شئ ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع ) ! وقال البلاذري ( 2 / 249 ) : ( فسرحها إلى المدينة في جماعة من رجال ونساء ، وجهزها بإثني عشر ألفاً ) .
وقال ابن الجوزي في المنتظم ( 5 / 94 ) : ( وجهز عليٌّ عائشة بكل شئ ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع ، وأخرج معها كل من نجا ممن خرج معها إلامن أحب المقام
--------------------------- 273 ---------------------------
واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، وقال : تجهز يا محمد فبلَّغها ، فلما كان اليوم الَّذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها وحضر الناس ، فخرجت وودعوها وودعتهم وقالت : والله ما كان بيني وبين عليٍّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه عندي على معتبتي لمن الأخيار !
وقال عليّ رضي الله عنه : يا أيها الناس ، صدقت والله وبرَّت ، ما كان بيني وبينها إلا ذلك ، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة !
وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين ، وشيعها عليٌّ أميالاً ، وسرَّح بنيه معها يوماً . وقصدت عائشة مكة ، فأقامت بمكة إلى الحج ، ثم رجعت إلى المدينة ) .
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع ( 13 / 249 ) : ( وخرجت يوم السبت غرة رجب . . وقال لها عمار حين ودعها : ما أبعد هذا المسيرمن العهد الذي عهد إليك ! قالت : والله إنك ما علمت لقوال بالحق ، قال : الحمد لله الذي قضى على لسانك لي ) !
* *
وقال العيني في عمدة القاري ( 15 / 50 ) ومروج الذهب ( 2 / 370 ) : ( وشيعها علي أميالاً ، وسرح بنيه معها يوماً . وقد بعث معها علي أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس وهمدان وغيرهما ، ألبسهن العمائم وقلدهن السيوف ، وقال لهن : لا تُعلمْنَ عائشة أنكن نسوة وتلثَّمْنَ كأنكن رجال ، وكن اللاتي تلين خدمتها وحملها . وسارت عائشة على تلك الحالة حتى دخلت مكة وأقامت حتى حجت واجتمع إليها نساء أهل مكة يبكين وهي تبكي ، وسئلت عن مسيرها فقالت :
لقد أعطى علي فأكثر ، وبعث معي رجالاً ! وبلغ النساء فأتينها وكشفن عن وجوههن وعرفنها الحال ، فسجدت وقالت : والله ما يزداد ابن أبي طالب إلا كرماً ، وددتُ أني لم أخرج وإن أصابتني كيت وكيت من أمور ذكرتها شاقة ، وإنما قيل لي : تخرجين فتصلحين بين الناس ، فكان ما كان ) !
--------------------------- 274 ---------------------------

استهبال عائشة للعوام !

وفي تاريخ الطبري ( 3 / 547 ) : ( فخرجت على الناس وودعوها وودعتهم وقالت : يا بَنِيَّ ، تَعتُّبُ بعضنا على بعض استبطاءٌ واستزادة ، فلايَعْتَدَّنَّ أحد منكم على أحد بشئ بلغه من ذلك ، إنه والله ما كان بيني وبين عليٍّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار ) !
ومعنى كلامها : يا أولادي ، نحن الصحابة قد يعتب بعضنا على بعض ، لأنه يستبطئ منه ما يراه لازماً ، أو لأنه يريد منه المزيد من الخير الذي فعله ، فإن بلغكم من بعضنا غضب على بعض فلا تجعلوه سبباً للنزاع والحرب ! وأنا رغم عتبي على علي فهو عندي من الأخيار ، ولم يكن بيني وبينه إلا ما يكون بين الزوجة وأقارب زوجها من أمور عائلية صغيرة ! وقد سببت هذه الأمور الصغيرة حرباً قتلت منكم ثلاثين ألفاً ، لكن لا بأس ، فهم جميعاً في الجنة ، وأنا وعلي أيضاً في الجنة !
هكذا كلمت أم المؤمنين أولادها وبسطت لهم الصراع وحرب الجمل ، وكأنهم بُهل !
أما علي ( عليه السلام ) فكان يرى أن عائشة لا ترى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الآخرة ولا يراها ، وأن القتلى من أنصارها بغاة تهافتوا إلى النار ، وأنها والقادة معها من أئمة الدعاة إلى النار !
وقد ودعها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لكن لم يرسل معها الحسن والحسين ( عليه السلام ) كما رووا ! ولا محمد بن أبي بكر ، بل أرسل أخاها عبد الرحمن ، فرافقها كما روى المسعودي .
* *
--------------------------- 275 ---------------------------

الفصل التاسع والخمسون

من أخبار عائشة وجملها

من أخبار عائشة وقوة شخصيتها !

1 . كانت عائشة رجل العرب ، ولو كان لأبيها ذكر مثلها ما خرجت منه الخلافة أبداً !
قال أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة ( 1 / 399 ) : ( سأل الوزير : هل يقال في النساء رجلة ؟ فكان الجواب : حدثنا أبو سعيد السيرافي قال : كان يقال في عائشة بنت أبي بكرالصديق
رضي الله عنهما : كانت رجلة العرب . وإنما ضاعت هذه الصفة على مرالأيام بغلبة العجمان . فقال : إنها والله لكذلك ، لقد سمعت من يقول : كان يقال لو كان لأبيها ذكر مثلها لما خرج الأمر منه ) !
2 . كانت عائشة أقدر من زليخا على تصوير الأمور لمصلحتها ! فقد قصَّ الله تعالى كيف راودت زليخا يوسف ( عليه السلام ) عن نفسه فهرب منها ، فركضت وراءه وشقت قميصه . ولما تفاجأت بزوجها لدى الباب عكست الموضوع بلمح البصر واشتكت على يوسف ( عليه السلام ) بأنه راودها عن نفسها فهربت منه !
قال تعالى : وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ . وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ . وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِى عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا .
وكانت عائشة أقوى من زليخا ، فهي أول المحرضين على عثمان لما قطع مخصصاتها ، فقد كانت تقف في طريقه إلى المسجد وترفع قميص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتقول : هذا قميص رسول‌الله لم يَبْلَ
--------------------------- 276 ---------------------------
وقد أبلى عثمان سنته ! وتقول له : سماك رسول‌الله نعثلاً ، أقتلوا نعثلاً فقد كفر ! ولما كان محاصراً شجعت محاصريه وأولهم طلحة ، وكانت تتصور أن الناس سيبايعونه بعد عثمان !
وطلب منها مروان أن تؤخرحجها وتساعد عثمان ، فقالت : ( قد فرغت من جهازي وأنا أريد الحج . قال : فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين ! قالت : لعلك ترى أني في شك من صاحبك ؟ أما والله لوددت أنه مُقَطَّعٌ في غرارة من غرائري ، وأني أطيق حمله فأطرحه في البحر ) ! ( تاريخ اليعقوبي ( 2 / 175 ) .
ولما بلغها قتل عثمان فرحت وقالت : « بعداً لنعثل وسحقاً ، يا معشر قريش لا يسومنكم مقتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه ! ودعت الناس إلى بيعة طلحة ، وكانت تتوقع أن يتم ذلك ! وقالت إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع ، ثم أقبلت مسرعة إلى المدينة وهي لا تشك في أن طلحة صاحب الأمر ! ثم خرجت من مكة تريد المدينة ، فلما كانت بسَرَف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي ، فأخبرها بقتل عثمان واجتماع المسلمين على علي فقالت : ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك ، ردوني ردوني ! قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبن بدمه ! فقال لها ابن أم كلاب : ولمَ ؟ فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت ! ولقد كنت تقولين أقتلوا نعثلاً فقد كفر ! قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول . . إلى آخره . !
وقد أعدت عائشة تصويراً لمقتل عثمان لتقنع به العوام فقالت : ( إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول‌الله ، وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين ، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله ، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر ، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه ، وانتهبوا المال الحرام ، وأحلوا البلد الحرام ، والشهر الحرام ، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم ، وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم إن يأتوا في إصلاح هذا ) .
وأخفت عائشة موقفها في التحريض على عثمان والدعوة إلى قتله ! وأخفت أن المسلمين جاؤوا من الأمصار يشكون ظلم عماله ، وأنه مكر بهم فأرسل معهم الوالي الجديد إلى
--------------------------- 277 ---------------------------
مصر ، وأرسل إلى واليه الأموي أن يقتله ومن معه ! وأخفت أن الناس بايعوا علياً ، بأفضل مما بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان !
ومن سرعتها في تغيير الأمر أخذها آيات براءة مارية ، وزعمها أنها نزلت في براءتها ، مع أن قصتها التي اتهمت فيها وقعت في غزوة بني المصطلق في شعبان سنة خمس للهجرة ( إعلام الورى : 1 / 196 ) والآيات في براءة مارية نزلت في سنة ثمان للهجرة لما وَلَدت مارية إبراهيم بن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاتهمتها قريش : ( قالوا : من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره » ! ( الحاكم : 4 / 39 ) فنزلت آيات براءة مارية ، فقالت عائشة نزلت في براءتي من تهمتهم لي قبل ثلاث سنوات ! مع أن الآيات تصف المبرأة بأنها ساذجة غافلة : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وعائشة ليست غافلة ، بل الغافلة مارية ، لكن عائشة سارعت وجعلت الآيات لها . فهي التي اتهمت مارية ، ثم أخذت آيات براءتها وجعلتها لها !
راجع في قصة مارية : السيرة النبوية عند أهل البيت : 3 / 73 ) .
3 . وصف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عائشة بأنها رجلة وبأنها كالصفراء زوجة موسى ( عليه السلام ) التي خرجت على وصيه يوشع ( عليه السلام ) فحاربته بجيش وانهزمت ، فأسرها وعفا عنها !
قال القطب الراوندي في الخرائج ( 2 / 924 ) : ( قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما جرى في أمم الأنبياء قبلي شئ إلا ويجري في أمتي مثله ، وذكر خروج الصفراء بنت شعيب على يوشع وصي موسى ، ثم قال لأزواجه : وإن منكن من تخرج على وصيي وهي ظالمة ، ثم قال : يا حميراء لا تكونيها ! فأخبر بذلك قبل كونه ) .
وروى الصدوق في كمال الدين / 26 ، عن عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الله بن مسعود قال قلت للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( يا رسول‌الله من يغسلك إذا مت ؟ قال : يغسل كل نبي وصيه . قلت : فمن وصيك يا رسول‌الله ؟ قال : علي بن أبي طالب . قلت : كم يعيش بعدك يا رسول‌الله ؟ قال : ثلاثين سنة ، فإن يوشع بن نون وصي موسى عاش بعد موسى ثلاثين سنة ، وخرجتْ عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى فقالت :
--------------------------- 278 ---------------------------
أنا أحق منك بالأمر ، فقاتلها فقتل مقاتليها ، وأسرها فأحسن أسرها ، وإن ابنة أبي بكر ستخرج على علي في كذا وكذا ألفاً من أمتي ، فيقاتلها فيقتل مقاتليها ، ويأسرها فيحسن أسرها ، وفيها أنزل الله عز وجل : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولى .
يعنى صفراء بنت شعيب ) .
وروى في كمال الدين / 153 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( ثم إن يوشع بن نون ( عليه السلام ) قام بالأمر بعد موسى ( عليه السلام ) صابراً من الطواغيت على اللأواء والضراء والجهد والبلاء ، حتى مضى منهم ثلاث طواغيت ، فقوي بعدهم أمره ، فخرج عليه رجلان من منافقي قوم موسى ( عليه السلام ) بصفراء بنت شعيب امرأة موسى ( عليه السلام ) في مائة ألف رجل ، فقاتلوا يوشع بن نون ( عليه السلام ) فقتلهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وهزم الباقين بإذن الله تعالى ذكره ، وأسر صفراء بنت شعيب وقال لها : قد عفوت عنك في الدنيا إلى أن ألقى نبي الله موسى ( عليه السلام ) فأشكو إليه ما لقيت منك ومن قومك ! فقالت صفراء : واويلاه ، والله لو أبيحت لي الجنة لاستحييت أن أرى فيها رسول‌الله وقد هتكت حجابه ، وخرجت على وصيه بعده ) !
وفي الهداية الكبرى / 124 : ( وكانت صفراء ابنة شعيب النبي ( عليه السلام ) زوجة موسى بن عمران ( عليه السلام ) تقاتل يوشع بن نون ( عليه السلام ) مع المارقين من بني إسرائيل على زرافة ، كما قاتلت عائشة ابنة أبي بكر زوجة رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع المارقين من أمته ، على جمل ) .
وفي تاج العروس ( 14 / 263 ) : ( ويُقال لِلْمَرْأَةِ رَجُلَة إذا كانتْ مُتَشَبِّهَةً بالرَّجُلِ في بعضِ أحوالِها . قلت : ويُؤيِّدُهُ الحديثُ : إنَّ عائشةَ كانتْ رَجُلَةَ الرَّأْيِ ،
أي كانَ رَأْيُها رَأْيَ الرِّجالِ ) .
قال المناوي في فيض القدير ( 5 / 343 ) : ( لعن الله الرَّجُلة من النساء ، أي المترجلة التي تتشبه بالرجال في زيهم أو مشيهم أو رفع صوتهم ، أو غير ذلك . أما في العلم والرأي فمحمود ، ويقال : كانت عائشة رجُلَة الرأي ) . والحميدي ( 1 / 132 ) .
وفي الروض المعطار للحميري ( 1 / 206 ) : وكانت عائشة جهيرة الصوت .
--------------------------- 279 ---------------------------
وناداها رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرة يا عويش قال : ( يا عويش يا حميراء ، إن شر الناس عند الله يوم القيامة من يكرم اتقاء شره ) . ( تفسير الإمام العسكري × / 354 )
4 . وصفها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بحميراء إرم وأخت إرم ! وأخت الحجر ، وشعيراء ! وأنها أشأم من ناقة الحجر . قال البلاذري ( 2 / 250 ) : ( انتهى علي إلى الهودج فضربه برمحه وقال : كيف رأيت صنيع الله بك يا أخت إرم ؟ فقالت : ملكت فاسجح . ثم قال لمحمد بن أبي بكر : انطلق بأختك فأدخلها البصرة ، فأنزلها محمد في دار صفية بنت الحرث بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وهي أم طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف الخزاعي ، فمكثت بها أياماً ، ثم أمرها عليٌّ بالرحلة فاستأجلته أياماً فأجلها ، فلما انقضى الأجل أزعجها ، فخرجت إلى المدينة في نساء من أهل البصرة ورجال من قبله ، حتى نزلت المدينة ، وكانت تقول إذا ذكرت يوم الجمل : وددت أني متُّ قبله بكذا وكذا عاماً .
عن ابن حاطب قال : أقبلت مع علي يوم الجمل إلى الهودج وكأنه شوك قنفذ من النبل ، فضرب الهودج ثم قال : إن حميراء إرم هذه أرادت أن تقتلني كما قتلت عثمان بن عفان . فقال لها أخوها محمد : هل أصابك شئ ؟ فقالت : مشقص في عضدي . فأدخل رأسه ثم جرها إليه فأخرجه ) .
وفي الجمل للمفيد / 196 : ( قال محمد : والله ليحكمن عليك يوم القيامة ما كان بينك وبين أمير المؤمنين حين تخرجين عليه وتؤلبين الناس على قتاله ، وتنبذين كتاب الله وراء ظهرك ! فقالت : دعنا يا محمد ، وقل لصاحبك يحرسني ) !
ويقصد الإمام ( عليه السلام ) بحميراء إرم وأخت إرم ، أنهاجعلت جَعْلاً لمن قتله ، كما جعلت حميراء ثمود ابنتها جعلاً لمن قتل ناقة صالح ( عليه السلام ) ، ويسمى أحيمر ثمود ، وأحيمر عاد . ويظهر أن حمراء ثمود ، اسم للمرأة التي دفعته إلى ذلك .
وروى النسائي ( 5 / 153 ) وغيره أن رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ( ألا أحدثكم بأشقى الناس ؟ قلنا : بلى يا رسول‌الله قال : أحيمرثمود الذي عقرالناقة والذي يضربك
--------------------------- 280 ---------------------------
يا علي على هذه ، ووضع يده على قرنه ، حتى يبل منها هذه ، وأخذ بلحيته ) .
وروى المفسرون في قوله تعالى : فتعاطى فعقر ، أن اسم المرأة التي دفعته إلى ذلك عنيزة بنت غنيم . فشبهها الإمام ( عليه السلام ) بها ، والعرب تسمي ثموداً عاداً ، لأنهم بقيتهم . وتشبيه الإمام ( عليه السلام ) لعائشة بها لقوة قوم عاد وشدتهم ، أما تشبيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لها بالصفراء بنت شعيب التي خرجت على وصي موسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلأنهم أقرب زمناً ، ولأن شبهها بها أوضح لعامة الناس .
وقال العيني ( 15 / 274 ) : ( عاقرالناقة هو قدار بن سالف ، وذكر السهيلي : أنه كان ولد زنا وهو أحمر ثمود الذي يضرب به المثل في الشؤم ، وكان أحمر أشقر أزرق سناطاً قصيراً ، وقال الثعلبي : اسمه قديرة ، وقال الجوهري : اسمه قدار بالدال المهملة وهو الأصح . وقال وهب : وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فانضاف إليهم قدار فصاروا تسعة . وقال وهب : وكانت الثمانية حاكة وكان الذي تولى عقرها قدار بن سالف ، ورماها مصدع بن مهرج ، وذكرهم ابن دريد في الوشاح فقال : قدار بن سالف بن جدع . ومصدع بن مهرج بن هزيل بن المحيا . وهزيل بن عنز بن غنم بن ميلع . وسبيع بن مكيف بن سيحان . وعرام بن نهبى بن لقيط . ومهرب بن زهير بن سبيع . وسبيع بن رغام بن ملدع ، وعريد بن نجد ابن مهان ، ورعين بن عمر بن داعر ) .
كما وصفها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالشعيراء : ( فقرع الهودج برمحه وقال : يا شعيراء بهذا وصاك رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) ! ولما أبت أن ترتحل من البصرة قال لها : ( يا شعيرا ارتحلي ، وإلا تكلمت بما تعلمينه . فقالت : نعم أرتحل ) ! ( الكافئة للمفيد / 31 ) .
والشعيرا : كثيرة الشعر ، وهو وصف ذم للمرأة . وكانت عائشة عالية الصوت خشنته ، وهذا يناسب أن تكون شعيراء كثيرة الشعر ، على خلاف حالة المرأة .
5 . قال في شرح النهج ( 17 / 254 ) : ( ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به ، وشقت عصا الأمة عليه ، ثم ظفربها ، لقتلها ومزقها إرباً إرباً ، ولكن علياً ( عليه السلام ) كان حليماً كريماً ) .
--------------------------- 281 ---------------------------
6 . كانت عائشة مفرطة في ثقتها بنفسها ، ومغالية في حقها الذي يعطيها إياه كونها زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكانت ترى أن لها حق الطاعة على جميع المسلمين كحق الأم على أولادها ، تأمرهم وتنهاهم وعليهم الطاعة ، فقد سألها أبو الأسود الدؤلي عن مسيرها فقالت : ( أطلب بدم عثمان ! قال : إنه ليس بالبصرة من قتلة عثمان أحد ، قالت : صدقت ، ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله . أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم ! فقال لها : ما أنت من السوط والسيف ! إنما أنت حبيس رسول‌الله أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك ، وليس على النساء قتال ، ولا لهن الطلب بالدماء ، وإن علياً لأولى بعثمان منك وأمس رحماً ، فإنهما ابنا عبد مناف ! فقالت : لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت له ، أفتظن يا أبا الأسود أن أحداً يقدم على قتالي ! قال : أما والله لتقاتلن قتالاً أهونه الشديد ) ! ( شرح النهج : 6 / 226 ) .
7 . كانت عائشة عنيفة ، فكانت تضرب الطفل اليتيم حتى يفقد الوعي كلياً ! قال في الفايق في غريب الحديث ( 2 / 118 ) : ( عائشة رضي الله عنها كانت تضرب اليتيم يكون في حجرها حتى يسبط ، أي يمتد على وجه الأرض . يقال : دخلت على المريض فتركته مسبطاً ، أي لِقىً لا يتكلم ولا يتحرك ) .
وقال في ( 3 / 186 ) : ( كانت تضرب اليتيم وتلبطه ) . ولسان العرب ( 7 / 311 )
والزبيدي ( 10 / 274 ) .
وقتلت رجلاً وقالت إنه جان ! قال ابن عبد البر في التمهيد ( 11 / 118 ) : ( عن عائشة أم المؤمنين أنها قتلت جاناً فأوتيت فيما يرى النائم فقيل لها : أما والله لقد قتلت مسلماً ! فأصبحت فزعة فأمرت باثني عشر ألفاً فجعلت في سبيل الله ) !
وقال النووي في المجموع ( 20 / 39 ) : « وأخرج مالك عن عائشة أنها قطعت يد عبد لها ، وأخرج أيضاً أن حفصة قتلت جارية لها سحرتها » . وقتلت مع حفصة جواري ، وزعمتا أن الجواري الثلاث كتبن لهما سحراً ! ( المحلى : 11 / 395 )
أقول : وكان عادياً عندها أن تصدر أوامرها بالقتل ! فقد أمرت ببدء القتال في
--------------------------- 282 ---------------------------
البصرة لأخذ دار الإمارة وقاتلت ثلاثة أيام ، وأمرت بمهاجمة بيت المال وأمرت الزبير بذبح السبابجة حراس بيت المال ، لأنهم امتنعوا عن تسليم بيت المال لهم . وأسرت عثمان بن حنيف والي البصرة وأمرت بقتله !
وقبل حربها مع علي ( عليه السلام ) أمرت بقتل الفتى الذي رفع القرآن ودعاهم اليه وقالت : أشجروه بالرماح قبحه الله !
وكانت تتجول في المعركة وتحرض على القتال وسفك الدم وتضمن لهم الجنة !
ولما فقدت ركنيها الزبير وطلحة في أول يوم من المعركة قادت الحرب وحدها بجيش كبير ستة أيام ، من غرفة قيادتها على ظهرالجمل ، وقد نصبت عليه هودجاً ألبسته الدروع وصفائح الحديد ! وكانت تصدر أمرها إلى القادة والجنود من الهودج بصوتها الجهوري العالي ، وكان أركان حربها يحيطون بالجمل ، ويتبركون ببعره فيفتونه ويشمونه ويقولون : رائحة بعر جمل أمنا أطيب من رائحة المسك ! وكان الشجاع يتقدم فيأخذ خطامه هنيهة ويقبله ، ثم يتركه لآخر
ويبرز إلى جيش علي ( عليه السلام ) .
وكانت تأذن لمن تراه أهلاً أن يأخذ الخطام ، ولما أخذه عزيزها عبد الله بن الزبير قالت : ( واثكل أسماء ! أقسمت عليك لما تنحيت ففعل ، فأخذ الخطام بعض بني ضبة فقتل ) . ( أنساب الأشراف : 2 / 243 ) .
قال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 448 ، ملخصاً : ( وبرزت ربة الجمل والهودج إلى المعركة ، وقد عصفت في رأسها النخوة فأدركتها حمية منكرة ، وكانت أجرأ من ذي لبدة ، قد جمعت ثيابها على أسد ، تلهب حماسها في جيشها ، فتدفعهم به إلى الموت دون جملها ، وقد نظرت عن يسارها فقالت : من القوم عن يساري ؟ فأجابها صبرة بن شيمان : نحن بنوك الأزد . فقالت : يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به . فكان الأزد يأخذون بعرالجمل يشمونه ويقولون : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك !
وقالت لمن على يمينها : مَن القوم عن يميني ؟ قالوا : بكر بن وائل . . .
--------------------------- 283 ---------------------------
وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت : مَن القوم ؟ قالوا : بنو ناجية . قالت : بخ بخ سيوف أبطحية قرشية ، فجالدوا جلاداً يتفادى منه ! فكأنما أشعلت فيهم من الحماسة ناراً تلظى ، وتتابع حملة اللواء على خطام جملها مستميتين . .
وما زالت تستفز حميتهم حتى عقر الجمل وكانت الهزيمة بإذن الله .
ولولاعناية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ساعتئذ في حفظها ، ووقوفه بنفسه على صونها ، لكان ما كان مما أعاذها الله منه ، في هذه الفتنة العمياء التي شقت عصا المسلمين إلى يوم الدين ، وعلى أسسها كانت صفين والنهروان ومأساة كربلا وما بعدها . حتى نكبة فلسطين ، في عصرنا هذا .
لكن أخا النبي وأبا سبطيه ( عليه السلام ) وقف على الجمل بنفسه ، حين أطفئت الفتنة بعقره ، وما أن هوى بالهودج حتى آواه وفيه عائشة إلى وارف من ظله منيع ، وجعل معها أخاها محمداً ليقوم بمهامها في نسوة من الصالحات ، ومَنَّ على محاربيه وتفضل عليهم ، وأطلق الأسرى من أعدائه الألداء ، واختص عائشة من الكرامة بكل ما يناسب خلقه الكريم ، وفضله العميم ، وحكمته البالغة . وهذا كله معلوم بحكم الضرورة من كتب السير والأخبار .
هذا ، وقد كانت أم المؤمنين من أعلم الناس بأن علياً ( عليه السلام ) أخو رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووليه ووارثه ووصيه ، وأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى إلا في النبوة ، وقد سمعت رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله . اللهم ارحم علياً ،
اللهم أدر الحق معه حيث دار .
وقد شهدت حجة الوداع مع رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فرأته يوم الموقف يشيد بفضله آمراً أمته بالتمسك بثقليه تارة ، وبخصوص علي أخرى ، منذراً بضلال من لم يأخذ بهما معاً . ويوم الغدير رأته ( ( عليهما السلام ) ) وقد رقى منبر الحدائج يعهد إلى علي عهده ويوليه على الأمة بعده ، بمسمع ومنظر من تلك الألوف المؤلفة قافلة من حجة الوداع ، حيث تفترق بهم الطرق إلى بلادهم ) .
--------------------------- 284 ---------------------------
8 . كتبت عائشة إلى معاوية ( الطبري : 3 / 489 ) : ( فمكثنا ستاً وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده ، وهو حقن الدماء أن تهراق دون من قد حل دمه ، فأبوا واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها ، فخافوا وغدروا وخانوا وحشروا ، فجمع الله عز وجل لعثمان ثأرهم فأقادهم ، فلم يفلت منهم إلا رجل ) !
تصف بذلك حربها لأخذ المدينة ، ولم تذكر أنها عجزت واصطلحت مع عثمان بن حنيف ، ثم نقضت الصلح وهو يصلي الفجر ، وأخذته أسيراً . . الخ .
وتصف حملتها بعد أن سيطرت على البصرة لتقتيل الوفد الذي كان ذهب إلى المدينة يطالب عثمان بتغيير الوالي ، فجعلتهم قتلة عثمان ، وقتلتهم كلهم ، فلم يفلت منه إلا حرقوص بن زهير رئيس الخوارج ، حيث حمته عشيرته .
9 . في شرح النهج ( 1 / 264 ) : ( انتهى الحارث بن زهيرالأزدي من أصحاب علي إلى الجمل ، ورجل آخذ بخطامه ، لا يدنو منه أحد إلا قتله ، فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف وارتجز ، فقال لعائشة : يا أمَّنا أعقُّ أمٍّ نعلمُ . . الخ . ) .
وفي شرح النهج ( 1 / 265 ) : ( وأخذ خطام الجمل سبعون من قريش قتلوا كلهم ، ولم يكن يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه ، أو قطعت يده .
وجاءت بنو ناجية فأخذوا بخطام الجمل ، ولم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة : من هذا ؟ فسألت عنهم فقيل : بنو ناجية ، فقالت عائشة : صبراً يا بني ناجية ، فإني أعرف فيكم شمائل قريش . قالوا : وبنو ناجية مطعون في نسبهم إلى قريش ، فقتلوا حولها جميعاً ) !
وقال في الغارات ( 2 / 770 ) : ( بنو ناجية ينسبون أنفسهم إلى قريش ، وقريش تدفعهم ) ! وجعلتهم عائشة من قريش فتحمس المساكين وقتلوا كلهم في سبيلها !
10 . في الطبري ( 3 / 528 ) : ( عن عبد الله بن الزبيرقال : مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنة ، وما رأيت مثل يوم الجمل قط ! ما ينهزم منا أحد ، وما نحن إلا كالجبل الأسود ، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل ، فأخذه عبد
--------------------------- 285 ---------------------------
الرحمن بن عتاب فقتل ، فأخذه الأسود بن أبي البختري فصرع ، وجئت فأخذت بالخطام فقالت عائشة : من أنت ؟ قلت عبد الله بن الزبير ، قالت : واثكل أسماء ! ومر بي الأشتر فعرفته فعانقته فسقطنا جميعاً وناديت : أقتلوني ومالكاً . فجاء ناس منا ومنهم فقاتلوا عنا ، حتى تحاجزنا وضاع الخطام .
ونادى علي : أُعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا ، فضربه رجل فسقط ، فما سمعت صوتاً قط أشد من عجيج الجمل ، وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب عليها قبة ، وقال أنظر هل وصل إليها شئ ) .
وروى الطبري ( 3 / 529 ) : « وانتهى إلى الجمل الأشتر وعدي بن حاتم ، فخرج عبد الله بن حكيم بن حزام إلى الأشتر ، فمشى إليه الأشتر فاختلفا ضربتين فقتله » . « وقاتل عدي بن حاتم حتى فقئت إحدى عينيه » . ( الأخبار الطوال / 150 ) .
وقتل ابنه طريف . ( الجمل للمفيد / 196 ) وقال عدي بن حاتم :
أنا عديٌّ ونماني حاتمُ * هذا عليٌّ بالكتاب عالمُ
لم يعصه في الناس إلا ظالُم .
( المناقب : 2 / 346 ) .
11 . في شرح النهج ( 1 / 253 ) عن المدائني والواقدي : ( ما حفظ رجزٌ قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل ، وأكثره لبني ضبة والأزد ، الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه ، ولقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل ، والأيدي تطيح من المعاصم ، وأقتاب البطن تندلق من الأجواف ، وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل ولا تتزلزل ، حتى لقد صرخ ( عليه السلام ) بأعلى صوته : ويلكم أُعقروا الجمل فإنه شيطان ! ثم قال : أعقروه وإلا فنيت العرب ، لا يزال السيف قائماً وراكعاً هذا البعير إلى الأرض ، فصمدوا له حتى عقروه ، فسقط وله رغاء شديد ، فلما برك كانت الهزيمة ) .
--------------------------- 286 ---------------------------
12 . قال العيني في عمدة القاري ( 15 / 50 ) : ( وقال الواقدي : كان زمام الجمل بيد كعب بن سور ، وما كان يأخذ زمام الجمل إلا من هو معروف بالشجاعة ما أخذه أحد إلا قتل ، وحمل عليه عدي بن حاتم ولم يبق إلا عقره ، ففقئت عين عدي ، واجتمع بنو ضبة عند الجمل وقاتلوا دونه قتالاً لم يسمع مثله ، فقطعت عنده ألف يد ، وقتل عليه ألف رجل منهم .
وقال ابن الزبير : جرحتُ على زمام الجمل سبعة وثلاثين جراحة ، وما أحد أخذ برأسه إلا قتل ، أخذه عبد الرحمن بن عتاب فقتل ، ثم أخذه الأسود بن البحتري فقتل ، وعد جماعة ، وغلب ابن الزبير من الجراحات فألقى نفسه بين القتلى . ثم وصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين فجعلت تنادي : الله الله يا بنيَّ أذكروا يوم الحساب ، ورفعت يديها تدعو على أولئك القوم من قتلة عثمان ، فضج الناس معها بالدعاء ، وأولئك النفرلايقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ ، فجعلت الحرب تأخذ وتعطي ، فتارة لأهل البصرة وتارة لأهل الكوفة وقتل خلق كثير . ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة ، ثم حملت عليه السائبة والأشتر يقدمها . وحمل بجير بن ولجة الضبي الكوفي وقطع بطانه وعقره ، وقطع ثلاث قوائم من قوائمه ، فبرك ووقع الهودج على الأرض ) .
ثم حل العيني المشكلة على مذهبهم في حب عائشة ، فقال : ( ووقف عليها علي رضي الله تعالى عنه فقال : السلام عليك يا أماه ، فقالت : وعليك السلام يا بني ، فقال : يغفر الله لك ، فقالت : ولك . وانهزم من كان حوله من الناس ، وأمر علي رضي الله تعالى عنه أن يحملوا الهودج من بين القتلى ، وأمر محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يضربا عليه قبة ، ولما كان آخر الليل خرج محمد بعائشة فأدخلها البصرة ، وأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي ، وبكت عائشة بكاء شديداً وقالت : وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون عليها ) !
وهكذا زعموا أن الخلاف بين علي ( عليه السلام ) وعائشة انتهى باستغفار أحدهما للآخر ! ولو صح قولهم فما ذنب الألوف التي قتلت ، وهل تذهب دماؤهم هدراً !
--------------------------- 287 ---------------------------
والصحيح أن الحجة تمت على جيش الجمل قادةً وجنوداً ، وسماهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفئة الباغية ولعنهم ، وحذرهم من الخروج على علي ( عليه السلام ) ، ولا بد أن يلاقوا جزاءهم .
13 . انكسرت روحية عائشة لما نبحتها كلاب الحواب ، وأيقنت أنها قائدة الفئة الباغية التي حذر منها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبقيت يومين في الحوأب تفكر بين الرجوع وترك ما بيدها من مكانة وقيادة ، أو تمضي إلى هدفها الذي تراه في متناول اليد ولو نهاها عنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقد تخيلت أنها تصل إلى البصرة وتخطب فيلتف حولها الناس ، ثم يأتي علي فيقبضون عليه ويخلعونه أو يقتلونه ، وتنصب للمسلمين خليفة مكانه !
عاشت أزمة داخلية عنيفة في الحوأب ، ثم تجاوزتها وعادت إلى عنفوانها ، والى ما كتبته لأم سلمة : ( أما ما كنت تعرفينه من رأيي في عثمان فقد كان ، ولا أجد مخرجاً منه إلا الطلب بدمه . وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس ، فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف ، حتى يقضي الله ما هو قاض ) ! ( الجمل للمفيد / 128 ) .
فهي تأمر علياً ! فهو ابنها ولها أن تأمره وتنهاه وعليه أن يطيع ! أما شخصية علي ( عليه السلام ) وتاريخه والآيات وأقوال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيه وكل الوحي ، فيجب أن يخضع لحق عائشة !
* *
وتجاوزت عائشة حديث الحوأب ، كما تجاوزت من قبل قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن بيتها منبع الفتنة ! قال البخاري ( 4 / 46 ) : « قام النبي خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال : هاهنا الفتنة ! ثلاثاً ، من حيث يطلع قرن الشيطان » .
نعم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن الشيطان الذي له قرون يخرج من غرفتها ! لكنها تخرج على علي وتنتصر إن شاء الله ، ثم تتصدق وتستغفر ، فيغفر الله لها !

14 . أمير الشعراء احمد شوقي ينتقد عائشة بذكاء

لأميرالشعراء أحمد شوقي كتاب باسم : دول العرب وعظماء الإسلام ، نظم فيه عدداً من قضايا تاريخ الإسلام ، في أراجيز ، ومنها قصة حرب الجمل / 54 ، قال :
--------------------------- 288 ---------------------------
يا جبلاً تأبى الجبال ما حمَلْ *
ماذا رمت عليك ربَّةُ الجَملْ
أثأرُ عثمان الذي شجاها * أم غُصَّةٌ لم يُنتزع شجاها
قضيةٌ من دمه تبنيها * هبَّت لها واستنفرت بنيها
ذلك فتقٌ لم يكن بالبال * كيد النساء موهنُ الجبال
وإنّ أم المؤمنين لامرأهْ * وإن تك الطاهرة المبرأهْ
أخرجها من كنِّها وسنِّها * ما لم يُزل طول المدى من ضغنها
وشرُّ من عداك من تقيهِ * ومُلقي السلاح تلتقيه
جهّزها طلحة والزبيرُ * ثلاثة فيهم هدى وخير
صاحبة الهادي وصاحباهُ * فكيف يمضون لما يأباه
يا ليت شعري هل تعدوا وبغوا * أم دم ذي النورين بالحقّ بغوا
جاءت إلى العراق بالبنينا * قضاء حق الأم محسنينا
فانصدعت طائفتين البصرة * فريقُ خَذْلٍ وفريقٌ نُصره
أو ذادة البيعة والذمام * وقادة الفتنة والزمام
وانتهك الحيّ دماء الحيّ * من أجل ميت غابرٍ وحيّ
وجاء في الأُسْد أبو ترابِ * على متون الضمَّر العِراب
يرجو لصدع المؤمنين رأبا * وأمّهم تدفعه وتأبى
وعجز الرأي وأعيا الحِلْمُ * وخُطبت بالمرهفات السِلْمُ
من كلّ يوم سافك الدِماء * تعوذ منه الأرض بالسماءِ
تجرُّ ذات الطهر فيه عسكرا * وتذمُر الخيلَ وتغري العسكرا
ظل الخِطام من يدٍ إلى يدٍ * كالتاج للأصيد بعد الأصيد
--------------------------- 289 ---------------------------
مستلَماً توهى الغيوث دونه * وبالدماء أنهراً يفدونه
حتى أراد الله إمساك الدمِ * في كرم لسيفه المقدّم
وظفرت ألوية الإمامِ * وألقت البصرة بالزمام
فرُدّت الأم إلى مقرها * مبالَغاً في نقلِها وبِرِّها ) .

15 . أمير الشعراء الشيخ الأزري يصف عائشة

وقال الشاعر الشيخ كاظم الأزري في منظومته البليغة ( الأزرية / 141 ) :
يوم جاءت تقود بالجمل العسكر * لا تتقي ركوب خطاها
فألحَّت كلاب حوأب نبحاً * فاستدلَّت به على حوباها
يا ترى أي أمة لنبي * جاز في شرعها قتال نساها
أي أم للمؤمنين أساءت * ببنيها وفرقتهم سواها
شتتتهم في كل شعب وواد * بئس أم عتت على أبناها
نسيت آية التبرج أم لم * تدر أن الرحمن عنه نهاها
حفظت أربعين ألف حديثاً * ومن الذكر آية تنساها
ذكرتنا بفعلها زوج موسى * إذ سعت بعد فقده مسعاها
قاتلت يوشعاً كما قاتلته * لم تخالف حمراؤها صفراها
واستمرت تجر أردية اللهو * الذي عن إلاهها ألهاها
لا تلمني يا سعد في مقت قوم * ما وفت حق أحمد إذ وفاها
أوَما قال عترتي أهل بيتي * احفظوني في برها وولاها ؟
نازعوه حياً وخانوه ميتاً * يا لتلك الحظوظ ما أشقاها ) !
وقد عقدنا فصلاً لشعر حرب الجمل ، أوردنا فيه القصيدة المذهبة للسيد الحميري .
--------------------------- 290 ---------------------------
16 . وضعت عائشة خطة عسكرية للسيطرة على البصرة ، ثم نصب خليفة فكانت تتصور أن الناس يطيعونها ولايجرؤ أحد منهم على قتالها ، فإذا تجرأ علي قتلته ، أو قبضت عليه وخلعته ، ونصبت خليفة بدله . ولهذا كانت تأمره بخلع نفسه من الخلافة ، فتقول : وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس ، فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف ! وهذا ما فهمه من خطتها كل الناس فلا قيمة لادعائها أنها قصدت الإصلاح ، والنصيحة ولم تقصد الحرب .
قال أبو الهذيل العلاف : ( أقول : إن عايشة وطلحة والزبير إن كانوا قصدوا بقتالهم علي بن أبي طالب وأصحابه منعه من الاستبداد بالأمر من دون رضا العلماء به ، وأرادوا الطلب بدم عثمان والإقتصاص له من ظالميه برد الأمر شورى ليختار المسلمون من يرون ، فهم بذلك هداة أبرار مستحقون للثواب .
وإن كانوا أرادوا بذلك الدنيا والعصبية والإفساد في الأمر ، وتولي الأمر بغير رضا العلماء فهم بذلك ضلال مستحقون اللعنة والخلود في النار .
غير أنه لا دليل لي على أغراضهم فيه ولا حجة تظهر في معناه من أعمالهم ، ولذلك وقفت فيهم ، كما وقفت في علي وأصحابه كما بينت . وإن كان طلحة والزبير أحسن حالا من علي فيما أتاه ) . ( الجمل للمفيد / 27 ) .
17 . عسكرت عائشة في ضاحية البصرة ، في حفر أبي موسى ، وأرسلت إلى والي البصرة عثمان بن حنيف : أَخْلِ لنا دار الإمارة وسلمنا بيت المال ! فأرسل لهم رسولين فرأيا شدة كلامهم ، فرجعا وقالا له : إستعد للحرب فعائشة تريد أخذ البصرة ولو بقتالك ! وخاضت ثلاث معارك حتى سيطرت على البصرة ، وسميت هذه المعارك : الجمل الصغرى ، وكانت قبل وصول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 291 ---------------------------

18 . سبب موجة التأييد والحب والطاعة لعائشة

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( فمنيتُ بأطوع الناس في الناس عايشة بنت أبي بكر ، وبأشجع الناس الزبير ، وبأخصم الناس طلحة بن عبيد الله ) . ( كشف المحجة / 173 ) .
فوصف عائشة بأنها أطوع الناس في الناس ، بسبب قوة شخصيتها وتأثيرها عليهم وتهافتهم عليها ، فقد تربوا ربع قرن في ظل أنظمة الحكم السابقة على تمجيدها في المساجد وعند الكتاتيب ، وحفظ فضائلها على أنها جزء من الدين ! ومنها عشق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لها وهيامه بها ، ونزول جبرئيل ( عليه السلام ) بصورتها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على فوطة حرير ، ونزول جبرئيل بمدائحها ، وأنها زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا والآخرة ، ووجوب احترامها وطاعتها ، ورعاية حقها ، وأنها أم المؤمنين وحدها ، فلا يستعملون هذا اللقب لغيرها من أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إلى سلسلة طويلة من الفضائل المكذوبة وكلها عن لسان عائشة ومقولاتها ، كان يروج لها إعلام السلطة ويكررها رواتهم ، ويعادون من يكذبها أو يردها أو لا يقبل بها !
لذلك نرى أن عائشة دخلت البصرة بست مئة جندي ، فأحدثت موجة في أغلبية أهلها ، وجندت منهم في أقل من شهر عشرات الألوف ، يموتون في سبيلها ، واستعملت لذلك أساليب ، منها البكاء !
قال المفيد ( رحمه الله ) في كتاب الجمل / 172 : ( وتأخر عنهما الأزد لقعود كعب بن سور القاضي عنهما ، وكان سيد الأزد وأهل اليمن بالبصرة ، فأنفذا إليه رسوليهما يسألانه النصرة لهما والقتال معهما ، فأبى عليهما ، وقال أنا أعتزل الفريقين ، فقالا : لئن قعد عنا كعب خذلنا الأزد بأسرها ، ولا غنى لنا عنه ، فصارا إليه واستأذنا عليه فلم يأذن لهما وحجبهما ، فصارا إلى عائشة فخبراها خبره ، وسألاها أن تسير إليه فأبت وراسلته تدعوه إلى الحضور عندها ، فاستعفاها من ذلك . فقال طلحة والزبير : يا أم إن قعد عنا كعب قعدت عنا الأزد كلها وهي حي البصرة ، فاركبي إليه فإنك إن فعلت لم يخالفك وانقاد لرأيك ، فركبت بغلاً وأحاط بها نفر من أهل البصرة ، وصارت إلى كعب بن سور ، فاستأذنت عليه فأذن لها ورحب بها ،
--------------------------- 292 ---------------------------
فقالت : يا بني أرسلت إليك لتنصرالله عز وجل ، فما الذي أخرك عني ؟ فقال : يا أماه ، لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة . فقالت : يا بني أخرج معي وخذ بخطام جملي ، فإني أرجو أن يقربك بي إلى الجنة واستعبرت باكية ! فرقَّ لها كعب بن سور وأجابها ، وعلق المصحف في عنقه وخرج معها ) !
فلما خرج والمصحف في عنقه قال غلام من بني وهب ، وقد كان عرف امتناعه وتأنيه عن خوض هذه الفتنة ، يقول :
أيا كعب رأيك ذاك الجميل * أمثل من رأيك الخاطل
أتاك الزبير يدير الأمور * وطلحة بالنقل الثاكل
ليستدرجاك بما زخرفا * وأمك تهوي إلى نازل
وقد كانت الأم معصومة * فأضحت فرائس للآكل
تخط بها الأرض مرحولها * ترد الجواب على السائل
فألفيتها بين حي السباع * وعرضتها للشجى الثاكل
بحرب علي وأصحابه * فقد أزم الدهر بالكاهل
فأبديت للقوم ما في الضمير * وقلت لهم قولة الخاذل
فأخطاهما منك ما أملاه * وقد أخلفا أمل الآمل
وما لك من مضرٍ نسبة * وما لك في الحي من وائل
فلا تجزعن على هالك * من القوم حاف ومن ناعل
ولما نهض كعب بن سور مع عائشة في الأزد اجتمع رأي طلحة والزبير على تكتيب الكتائب ، واستقرالأمر معهما على أن الزبير أميرالعسكر خاصة ومديره ، وطلحة في القلب واللواء مع عبد الله بن حزام بن خويلد ، وكعب بن سور مع الأزد ، وعلى خيل الميمنة مروان بن الحكم ، وعلى رجالة الميمنة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، وعلى خيل الميسرة وهم بنو تميم وسائر قبائل قضاعة وهوازن هلال بن وكيع الدارمي ،
--------------------------- 293 ---------------------------
وعلى رجالة الميسرة عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، وقد ضم إليه الحباب يزيد ، وعلى خيل قيس غيلان مجاشع بن مسعود ، وعلى رجالتهم جابر بن النعمان الباهلي ، وعلى خيل الرباب عمرو بن يثربي ، وعلى رجالتهم خرشنة بن عمرو العتبي ، وعلى من انحاز إليهم من ثقيف عبد الله بن عامر بن كريز ، وعلى أفناء أهل المدينة عبد الله بن خلف الخزاعي ، وعلى رجالة مذحج الربيع بن زياد الحارثي ، وعلى رجالة قضاعة عبد الله بن جابر الراسبي ، وعلى من انحاز إليهم من ربيعة مالك بن مسمع ) .
وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 256 ) : ( ثم مشى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قليلاً فمرَّ بكعب بن سور ( قتيلاً ) فقال : هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف يزعم أنه ناصرأمه يدعو الناس إلى ما فيه ، وهو لا يعلم ما فيه ، ثم استفتح وخاب كل جبار عنيد ! أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله . أجلسوا كعب بن سور ، فأجلس فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا كعب ، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ؟ ثم قال : أضجعوا كعباً ) .

19 . وصف عائشة لمعركة الجمل !

قال المفيد في كتاب الجمل / 200 ، وضامن بن شدقم في كتابه / 48 : ( روى الواقدي عن رجاله العثمانية عن حميدة بنت بن رفاعة ، عن أمها كبشة بنت كعب قالت : كان أبي لقي على عثمان حزناً عظيماً وبكاه ، ولم يمنعه من الخروج إلا أن بصره ذهب . ولم يبايع علياً ولم يقر به بغضاً له ومقتاً ! وخرج علي من المدينة فلما قدمت عائشة منصرفة من البصرة ، جاءها أبي فسلم على الباب ، ثم دخل وبينها وبينه حجاب ، فذكرت له بعض الأمر ولم تشرحه له ، فلما أمسينا بعثنا إلى عائشة نستأذن عليها فأذنت لنا ، قالت كبشة : فدخلت في نسوة من الأنصار فحدثتنا بخروجها ، وأنها لم تظن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ، ثم قالت : لقد عمل لي على هودج على جملي ، ثم ألبس الحديد ودخلت فيه ، وقمت في وسط الناس أدعو إلى
--------------------------- 294 ---------------------------
الصلح وإلى الكتاب والسنة ، فليس أحد يسمع من كلامي حرفاً ، وعجل من لقينا القتال فرموا النبل ، وصرعهم القوم حتى قتل من أصحاب علي رجل ورجلان ، ثم تقارب الناس ولَحَمَ الشر وصار القوم ليس لهم همة إلا جملي ، ولقد دخلت عليَّ سهام فجرحتني ، فأخرجت ذراعها وأرتنا جرحاً على عضدها ، فبكت وأبكتنا !
قالت : وجعل كلما أخذ بخطام جملي رجل قتل ، حتى أخذه ابن أختي عبد الله فصحت به وناشدته بالرحم أن يتجافاني ، فقال : يا أم هو الموت يقتل الرجل وهو عظيم الغنى عن أصحابه على نيته خيرمن أن يدرك وقد فارقته نيته ، فصحت : واثكل أسماء ! فقال يا أم إلزمي الصمت وقد لحم ما ترين . فأمسكت ! وكان من معنا فتيان أحداث من قريش لاعلم لهم بالقتال ، ولم يشهدوا الحرب فكانوا جزراً للقوم ، فإني لعلى ما نحن فيه وقد كان الناس كلهم حول جملي فسكتوا ساعة ، فقلت : خيراً أم شراً ذا سكوتكم ، ضَرُسَ القتال ! وإذا ابن أبي طالب أنظر إليه يباشرالقتال بنفسه ، وأسمعه يصيح الجمل الجمل ، فقلت أرادوا والله قتلي فإذا هو علي بن أبي طالب ومعه محمد بن أبي بكر أخي ، ومعاذ بن عبد الله التميمي ، وعمار بن ياسر ، وقطعوا البطان واحتملوا الهودج ، فهوى على أيدي الرجال يرفلون به ، وهرب من كان معنا ، فلم أحس لهم خبراً ! ونادى منادي علي بن أبي طالب : لا يتبع مدبرٌ ولا يجهز على جريح ، ومن طرح السلاح فهو آمن ، فرجعت إلى الناس أرواحهم !
فمشوا على الناس واستحيوا من السعي ( مشوا على الجثث حول الجمل ولم يسرعوا ) فأدخلت منزل عبد الله بن خلف الخزاعي ، وإنه منزل رجل قد قتل وأهله مستعبرون عليه ، ودخل معي كل من خاف علياً ممن نصب له ، واحتمل ابن أختي عبد الله جريحاً .
فوالله إني لعلى ما أنا عليه وأنا أسأل ما فعل أبو محمد طلحة ، إذ قال قائل قتل ، فقلت : ما فعل أبو سليمان فقيل قد قتل ، فلقد رأيتني تلك الساعة جمدت عيناي فانقطعت من الحزن ، وأكثرت من الاسترجاع والندامة ، وذُكر من قتل فبكيت لقتلهم ، فنحن على ما نحن عليه وأنا أسأل عن عبد الله فقيل قتل ، فازددت غماً وهماً ، حتى كاد ينصدع قلبي ، فوالله لقد بقيت ثلاثة أيام بلياليهن ما دخل في فمي طعام ولا شراب ، وإني
--------------------------- 295 ---------------------------
عند قوم ما قصروا في ضيافتي ، وإن الخبز في منازلهم لكثير ، لكني أذهب أعالج الشبع من الطعام فما أقدر !
فنعوذ بالله من الفتنة . ولقد كنت ألبت على عثمان حتى نيل منه ما نيل ، فلما قتل ندمت ، وعلمت أن المسلمين لايستخلفون مثله أبداً ، كان والله أجلهم حلماً وأعبدهم عبادة ، وأبذلهم عند النائبة وأوصلهم للرحم !
قالت كبشة بنت كعب : فرجعت إلى أبي فقال : ما حدثتكم به عائشة ؟ فأخبرته بما قالت فقال : يرحم الله عائشة ويرحم الله أمير المؤمنين عثمان ، هي كانت أشد الناس عليه ، ولقد نزعت وتابت وأرادت أن تأخذ بثاره ، فجاء خلاف ما أرادت ، فرحمهم الله جميعاً ) !
وروى المفيد في الجمل / 199 ، عن عروة بن الزبير قال : ( خرجت عائشة يوم البصرة وهي على جملها عسكر قد اتخذت عليه خدراً ودقته بالدروع ، خشية أن يخلص إليها النبل ، وسار إليهم علي بن أبي طالب حتى التقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وأخذ بخطام الجمل يومئذ سبعون رجلاً من قريش كلهم قتل . وخرج مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير ورأيتهما جريحين ، فلما قتلت تلك العصابة من قريش ، أخذ رجال كثير من بني ضبة بخطام الجمل فقتلوا عن آخرهم ، ولم يأخذ بخطامه أحد إلا قتل ، حتى غرق الجمل بدماء القتلى ! وتقدم محمد بن أبي بكر فقطع بطان الجمل واحتمل الخدر ، ومعه أصحاب له وفيه عائشة ، حتى أنزلوها بعض دور البصرة ، وولى الزبير منهزماً فأدركه ابن جرموز فقتله ) .
20 . كانت عائشة تصيح وهي تحتضر : إني أحدثت بعد رسول‌الله فلا تدفنوني عنده ! يا ليتني لم أخلق ! لوددت أني كنت مدرة ، ولم أكن شيئاً مذكوراً !
وفي البخاري ( 6 / 10 ) : وددت أني كنت نسياً منسياً » .
وقال إسحاق بن راهويه ( 2 / 34 و 40 ) : ( لا ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل ، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ . . . وتابت من ذلك . على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة قاصدة للخير ! كما اجتهد طلحة
--------------------------- 296 ---------------------------
بن عبيد الله والزبير بن العوام وجماعة من الكبار رضي الله عن الجميع . وكانت إذا قرأت الآية : وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ . بكت حتى تبل دموعها خمارها . وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إذا مر ابن عمر فأرونيه ، فلما مر بها قيل لها : هذا ابن عمر فقالت : يا أبا عبد الرحمن : ما منعك أن تنهاني عن مسيري ؟ قال : رأيت رجلاً قد غلب عليك يعني ابن الزبير .
فكل هذه الروايات تدل على ندامة عائشة رضي الله عنها ندامة كاملة ، وحتى اعتبرت مسيرها حدثاً في حياتها ، وكان من نيتها أولاً أن تدفن في بيتها ، ثم انصرفت عن ذلك فقال : إني أحدثت ! فأوصت أن تدفن في البقيع رضي الله عنها . ومن خشيتها وشدة خوفها أنها كانت تقول : ليتني كنت شجرة ، وفي رواية أخرى عن عمرو بن سلمة قال : قالت عائشة : والله لوددت أني كنت شجرة ، والله لوددت أني كنت مدرة ، والله لوددت أن الله لم يكن خلقني شيئاً قط !
وكذا جاء عنها أنها قالت : يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة ، وقالت : وددت أني إذا مت كنت نسيا منسياً . وكانت تحدث أولاً نفسها أن تدفن في بيتها فقالت : إني أحدثت بعد رسول‌الله حدثاً ! أدفنوني مع أزواجه ، فدفنت بالبقيع .
وقال الذهبي : وتعني بالحدث مسيرها يوم الجمل ، فإنها ندمت ندامة كلية وتابت من ذلك ، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة ، قاصدة للخير ) .
21 . روى ابن قتيبة في عيون الأخبار / 202 : « دخلت أم أوفى العبدية على عائشة فقالت : يا أم المؤمنين ما تقولين في امرأة قتلت ابناً لها صغيراً ؟ قالت : وجبت لها النار ! قالت : فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابرعشرين ألفاً ! قالت : خذوا بيد عدوة الله » !
أقول : اتصل بي وهابي في برنامج مباشر وقال إنكم تسبون عائشة ، فقلت له : لانسبها لكن نقول إنها عصت ربها ونبيها ( ( عليهما السلام ) ) وخرجت على إمامها الخليفة الشرعي ، وسببت قتل أكثر من عشرين ألف مسلم ، ونريد منكم أنتم محبيها أن تعطوا دية هؤلاء الذين قتلتهم ! وأنتم في السعودية ميسورون ، فاجمعوا دياتهم ، لتساعدوا في حل المشكلة ! ومنهم سعوديون من الشريقة من ربيعة من بني عبد القيس ،
--------------------------- 297 ---------------------------
فهم أولى من غيرهم !
فسكت الوهابي ، ولا بد أنه أخذ جوابي إلى زملائه الشيوخ ، وأنهم سمعوه .
22 . قال الباقلاني في التمهيد / 552 ، عن طلحة والزبير وعائشة : « ومنهم من يقول إنهم تابوا من ذلك ويستدل برجوع الزبير وندم عائشة إذا ذكروا لها يوم الجمل وبكائها حتى تبل خمارها ! وقولها وددت أن لو كان لي عشرون ولداً من رسول‌الله كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأني ثكلتهم ولم يكن ما كان مني يوم الجمل ! وقولها : لقد أحدقت بي يوم الجمل الأسنة حتى صرت على البعير في مثل اللجة . وإن طلحة قال لشاب من عسكر علي وهو يجود بنفسه : أمدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين ، وما هذا نحوه ) !
لاحظ قول الباقلاني : ومنهم من يقول إنهم تابوا ، فهو قول لبعضهم ، وأمر لم يثبت !
لكن جزم به ابن رشد في البيان والتحصيل ( 17 / 361 ) فقال : ( ومن الناس من يقول إن من خالف علياً كان على الخطأ والعصيان ، إلا أنهم تابوا ورجعوا إلى موالاة علي رضي الله عنه قبل أن يموتوا ، واستدلوا على ذلك برجوع الزبير ، وندم عائشة وبكائها إذ ذكر لها يوم الجمل ، وقول طلحة لشاب من عسكر علي وهو يجود بنفسه : أمدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين . والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير ، هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده ، فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ، ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما ) .
23 . من اعترافات عائشة ، ما رواه الزمخشري في ربيع الأبرار ( 2 / 167 ) عن جميع بن عمير : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها : مَن كان أحب الناس إلى رسول‌الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : فاطمة . قلت : إنما أسألك عن الرجال ؟ قالت : زوجها ، وما يمنعه فوالله إن كان لصواماً قواماً ، ولقد سالت نفس رسول‌الله في يده فردها إلى فيه . قلت : فما حملك على ما كان ؟ فأرسلت خمارها على وجهها وبكت ، وقالت : أمر قُضِيَ عليَّ ) !
--------------------------- 298 ---------------------------
24 . قال ابن حجر ( 13 / 48 ) : ( أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد عن عبد الرحمن بن أبزى ( المصنف : 8 / 719 ) قال : انتهى عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة يوم الجمل وهي في الهودج ، فقال : يا أم المؤمنين أتعلمين اني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت : ما تأمريني ؟ فقلتِ : إلزم علياً ؟ فسكتَتْ ! فقال : أعقروا الجمل فعقروه ، فنزلت أنا وأخوها محمد فاحتملنا هودجها فوضعناه بين يدي علي ، فأمر بها فأدخلت منزل عبد الله بن بديل ، قال جعفر بن أبي المغيرة : وكانت عمتي عند عبد الله بن بديل ، فحدثتني عمتي أن عائشة قالت لها : أدخليني قالت : فأدخلتها وأتيتها بطشت وإبريق وأجفت عليها الباب ، قالت : فاطلعت عليها من خلل الباب وهي تعالج شيئاً في رأسها ، ما أدري شجة أو رمية .
وأخرج أيضاً بسند صحيح عن زيد بن وهب قال : فكف علي يده حتى بدؤه بالقتال ، فقاتلهم بعد الظهر فما غربت الشمس وحول الجمل أحد ) !
25 . من المؤكد أن ندم عائشة اختلط بالغيظ والتأسف على هزيمتها في البصرة قال في المعيار والموازنة / 62 : ( وهذه عائشة وما تظهر من ندامتها وبكائها ، وقولها : لوددت أن الله أماتني قبل ذلك بعشرين سنة . هذا مع قولها في عمار : سمعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إن الجنة تشتاق إلى أربعة : أحدهم عمار بن ياسر . فقال لها رجل من ثقيف : كيف كنت صانعة يا أم المؤمنين لو أنه قتل عند جملك ) !
وفي المناقب للموفق الخوارزمي بسنده / 181 : ( قالت عائشة : إذا ذكرت يوم الجمل أخذ مني هاهنا ، وتشير بيدها إلى حلقها ! عن عروة قال : ما ذكرت عائشة مسيرها إلا بكت حتى تبل خمارها ، وتقول : يا ليتني كنت نسياً منسياً ) .
26 . وكانت عائشة قدرية ، ترمي فعلها على القدر ! ( عن مطلب بن زياد عن كثير النوا قال : قال ابن عباس لعائشة : السلام عليك يا أمة ألسنا ولاة بعلك ؟ أوليس قد ضرب الله الحجاب عليك ؟ أوليس قد أوتيت أجرك مرتين ؟ قالت : بلى . قال : فما أخرجك علينا مع منافقي قريش ! قالت : كان قدراً يا ابن عباس . قال : وكانت أمنا تؤمن بالقدر !
--------------------------- 299 ---------------------------
وقال رجل لعائشة : يا أم المؤمنين لم خرجت على علي ؟ قالت له : أبوك لم تزوج بأمك ! قدر الله عز وجل . عن أبي إسحاق قال : كانت عائشة إذا سئلت عن خروجها على أمير المؤمنين قالت : كان شئ قدره الله علي ) ! ( البحار : 32 / 276 ) .
وإذا قدره الله فقد أجبرها عليه ، فهي غير مسؤولة عن دماء من قتل بسبب خروجها !
27 . عقيدتنا أن عائشة مسؤولة عن عملها ، ولو صح قولها بالقدر لاحتج به إبليس ! وعقيدتنا أنها لم تتب ، بل ظلت على عداوتها لعلي ( عليه السلام ) إلى آخر عمرها ! وقد ألف في رد توبتها الشيخ المفيد كتاب : الكافئة في رد توبة الخاطئة .
وقال الشيخ الطوسي في الإقتصاد / 228 : ( وروى الطبري في تاريخه أنه لما انتهى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى عائشة قالت :
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
ثم قالت : من قتله ؟ فقيل : رجل من مراد ، فقالت :
فإن يك ناعياً فلقد نعاه * غلام ليس في فيه التراب
وهذا كله صريح بالإصرار وفقد التوبة . وروى محمد بن إسحاق أنها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة ولم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكتبت إلى معاوية وأهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرضهم عليه ! ونظائر ذلك كثيرة ذكرنا منها في كتاب تلخيص الشافي ، فأي توبة مع ما ذكرناه ) !
28 . في الاحتجاج ( 1 / 241 ) : ( روي أن عمرو بن العاص قال لعائشة : لوددت أنك قتلت يوم الجمل ! فقالت : ولم ، لا أباً لك ! قال : كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ، ونجعلك أكبر التشنيع على علي ( عليه السلام ) ) .
* *
--------------------------- 300 ---------------------------

من أخبار جمل عائشة

1 . قال رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأزواجه : ( ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وشمالها خلق كثير كلهم في النار ، وتنجو بعد ما كادت ) . ( وقعة الجمل لضامن بن شدقم / 41 ) . ورواه الصدوق في معاني الأخبار / 304 . والمعنى أنها تنجو بعدما كادت تقتل ، أي نجاتها في الدنيا . وروى نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 8 / 711 ) . والحموي في معجم البلدان ( 2 / 314 ) ، وغيرهم .
2 . قالوا في صفة جمل عائشة ( الإستيعاب : 4 / 1587 ) : ( لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيراً أيْداً ( قوياً ) يحمل هودجها ، فجاءهم يعلى بن منية ببعيره المسمى عسكراً ، وكان عظيم الخلق شديداً ، فلما رأته أعجبها ، وأنشأ الجمال يحدثها بقوته وشدته ، ويقول في أثناء كلامه : عسكر ، فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت وقالت : ردوه لا حاجة لي فيه ، وذكرت حيث سئلت أن رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذكر لها هذا الاسم ونهاها عن ركوبه ، وأمرت أن يطلب لها غيره فلم يوجد لها ما يشبهه ، فغُيِّرَ لها بجِلالٍ غير جلاله ، وقيل لها : قد أصبنا لك أعظم منه خلقاً وأشد قوة ، وأتيت به ، فرضيت ) !
وفي المناقب ( 2 / 340 ) : ( وأُلبست عائشة درعاً ، وضُربت على هودجها صفايح الحديد ، وأُلبس الهودج درعاً ، وكان الهودج لواء أهل البصرة ، وهو على جمل يدعى عسكراً ) .
وفي شرح النهج ( 6 / 227 ) : ( قد ألبس الرفرف ، ثم ألبس جلود النمر ، ثم ألبس فوق ذلك دروع الحديد . كان الجمل لواء وعسكر البصرة ، لم يكن لواءٌ غيره ) والرفرف كساء أخضر . ( العين : 8 / 255 ) .
وفي مروج الذهب ( 2 / 362 ) : ( وعائشة على جَمَل في هَوْدج من دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقروجعلوا دونه اللبود ، وقد غشي على ذلك بالدروع ) .
وفي مصنف عبد الرزاق ( 5 / 457 ) : ( وهي في هودج قد ألبسته الدفوف يعني جلود البقر ، فقالت : إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني . . وكان القتال فقتل يومئذ سبعون من قريش ، كلهم يأخذ بخطام جمل عائشة حتى يقتل ، ثم حملوا الهودج حتى أدخلوه
--------------------------- 301 ---------------------------
منزلاً من تلك المنازل ، وجرح مروان جراحاً شديدة ) .
وقال المفيد في الجمل / 200 : ( عن أبي علقمة قال : جعلنا الهودج من خشب ، فيه مفاتيح الحديد ، وفوقه دروع من حديد وفوقها طيالسة من خز أخضر ، وفوق ذلك أدم أحمر ، وجعلنا لعائشة منه منظر العين ، فما أغنى ذلك عنها من القوم ) .
وفي شرح الإستيعاب 4 / 1587 : ( أعان يعلى بن أمية الزبير بأربع مائة ألف ، وحمل عائشة على جمل يقال له عسكر ، كان اشتراه بمائتي دينار . قال أبو عمر : كان يعلى بن أمية سخياً ، معروفاً بالسخاء ) .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 475 ) : ( عن العرني صاحب الجمل قال : بينما أنا أسيرعلى جمل إذ عرض لي راكب فقال : يا صاحب الجمل تبيع جملك ؟ قلت : نعم ، قال : بكم ؟ قلت : بألف درهم ! قال : مجنونٌ أنت ! جملٌ يباع بألف درهم ! قال قلت : نعم ، جملي هذا ! قال : وممَّ ذلك ؟ قلت : ما طلبت عليه أحداً قط إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد قط إلا فُتُّه . قال : لوتعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا . قال قلت : ولمن تريده ؟ قال : لأمك . قلت : لقد تركت أمي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً ! قال : إنما أريده لأم المؤمنين عائشة . قلت : فهو لك فخذه بغير ثمن ! قال : لا ، ولكن إرجع معنا إلى الرحل فلنعطك ناقة مهرية ونزيدك دراهم . قال : فرجعت فأعطوني ناقة لها مهرية وزادوني أربع مائة أو ست مائة درهم . فقال لي : يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق ؟ قال قلت : نعم ، أنا من أدرك الناس . قال : فسرمعنا فسرت معهم ، فلا أمرُّ على واد ولا ماء إلا سألوني عنه ، حتى طرقنا ماء الحوأب فنبحتنا كلابها ! قالوا : أي ماء هذا ؟ قلت : ماء الحوأب ! قال : فصرخت عائشة بأعلى صوتها ، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ثم قالت : أنا والله صاحبة كلاب الحوأب ، طروقاً ردوني ! تقول ذلك ثلاثاً ! فأناخت وأناخوا حولها ، وهم على ذلك وهي تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد ، فجاءها ابن الزبير فقال : النجاء النجاء ، فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب ! قال فارتحلوا وشتموني ، فانصرفت ، فما سرت إلا قليلاً ، وإذا أنا بعلي وركب معه نحو من ثلاث مائة ) .
--------------------------- 302 ---------------------------
ولعل العرني هذا ، دليل استأجروه مع عائشة ، فادعى كاذباً أنه صاحب الجمل !
3 . وصار الجمل كعجل بني إسرائيل ! قال الطبري ( 3 / 530 ) : ( أطافت ضبة والأزد بعائشة يوم الجمل ، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتونه ويشمونه ويقولون : بعرُ جمل أمنا ريحه ريح المسك ) !
وقال ابن الأعثم ( 2 / 481 ) : ( وجعلت بنو ضبة يأخذون بعر الجمل فيشمونه ويقول بعضهم لبعض : ألا ترون إلى بعر جمل أمنا كأنه المسك الأذفر ) .
وفي أخلاق الوزيرين للتوحيدي ( 1 / 153 ) : ( وبشيعتها الذين فتوا بعر جملها وتشافوا به ، وتحاثوا عليه ) .
( قال عبد الرزاق : 8 / 721 ) : ( قال إسحاق بن سويد العدوي : قتل منا ( بني عدي ) خمسون رجلاً حول الجمل ) .
4 . قال في شرح النهج ( 1 / 262 ) : ( استدار الجمل كما تدور الرحا ، وتكاثفت الرجال من حوله ، واشتد رغاؤه ، واشتد زحام الناس عليه ، ونادى الحتات المجاشعي : أيها الناس أمكم أمكم ! واختلط الناس فضرب بعضهم بعضاً ، وتقصَّد أهل الكوفة قصد الجمل والرجال دونه كالجبال ، كلما خف قوم جاء أضعافهم ، فنادى علي ( عليه السلام ) : ويحكم ! أرشقوا الجمل بالنبل أعقروه لعنه الله ! فرُشق بالسهام فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل ، وكان متجفجفاً ( مدرعاً ) فتعلقت السهام به ، فصار كالقنفذ ) .
5 . وصفت عائشة سقوط جملها ( مناقب ابن سليمان : 2 / 345 ) : ( قال أبو عبد الله الجدلي : فأذنت لي بالدخول فدخلتُ وسلمت عليها فانتحبت حينما رأتني حتى رحمتها ، ثم أنشأت تحدثني قالت : وزلق الجمل فبرك ، وجاء رجل حتى أدخل يده فقلت : ويلك من أنت ؟ فقال : أبغضُ أهلك إليك . قلت : محمد ؟ قال : نعم . قالت : فلا تسأل عن عذلٍ . قالت : ثم جاء عمار وجاء الأشتر فقلت لهما : فلا تسألا عن عذلٍ وشَتْمٍ ) ! أي لا تلوموني وتوبخوني .
--------------------------- 303 ---------------------------
6 . تقدمت رواية ابن أبي شيبة ( المصنف : 8 / 719 ) عن عبد الله بن بديل ، وأنه لما سقط الجمل ، ناقش عائشة وأفحمها ، فقال : إعقروا الجمل فعقروه ، قال : فنزلت أنا وأخوها محمد بن أبي بكر ، واحتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي علي ، فأمر به علي فأدخل في منزل عبد الله بن خلف .
7 . من أصح الروايات في سقوط الجمل ما تقدم من شرح النهج ( 1 / 262 ) : ( عن حبة العرني قال : فلما رأى علي ( عليه السلام ) أن الموت عند الجمل ، وأنه ما دام قائماً فالحرب لا تطفأ ، فوضع سيفه على عاتقه وعطف نحوه وأمر أصحابه بذلك ، ومشى نحوه والخطام مع بني ضبة فاقتتلوا قتالاً شديداً ، واستحرالقتل في بنى ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وخلص علي ( عليه السلام ) في جماعة من النخع وهمدان إلى الجمل فقال لرجل من النخع اسمه بجير : دونك الجمل يا بجير ، فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه ، وضرب بجرانه الأرض ، وعج عجيجاً لم يسمع بأشد منه ، فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطيرالجراد في الريح الشديدة الهبوب ، واحتملت عائشة بهودجها ، فحملت إلى دار عبد الله بن خلف ، وأمر علي ( عليه السلام ) بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح ! وقال ( عليه السلام ) : لعنه الله من دابة ! فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ، ثم قرأ : وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) .
وفي شرح الأخبار ( 1 / 388 ) : ( عن سلام قال : فنظرت إلى هودج عائشة ما شبهته إلا بقنفذ من النبل الواقعة عليه ، وهو يميل بها مرة ها هنا ومرة ها هنا ، حتى أحيط بها ، ولما أحيط بعائشة وانصرف الزبير وقتل طلحة ، وانهزم أهل البصرة ونادى منادي علي صلوات الله عليه : لا تتبعوا مدبراً ، ولا من ألقى سلاحه ، ولا تجهزوا على جريح ، فإن القوم قد ولوا وليست لهم فئة يلجؤون إليها . فجرت السنة بذلك في المسلمين في قتال أهل البغي ، وأخذ بذلك فقهاؤهم وأن أهل البغي إذا انهزموا ولم تكن لهم فئة يلجؤون إليها لم يجهزعلى جريحهم ولم يتبع مدبرهم ، وإن كان لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع مدبرهم وقتلوا . وبهذا حكم
--------------------------- 304 ---------------------------
علي صلوات الله عليه في أصحاب معاوية ، فأخذ فقهاء العامة ذلك عنه وأوجبوا أن حزبه حزب أهل العدل ، وحزب من حاربه حزب أهل البغي ) .
8 . قال الحسين ( عليه السلام ) لعائشة لما منعت دفن الحسن ( عليه السلام ) عند جده ( الهداية / 198 ) : ( تالله لقد أخبرك جدي رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنك تموتين بالداء والدبيلة ! فقالت : يا حسين متى قال هذا ؟ قال : أخبرك بعد لومك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإنشائك حرماً تجرين فيه عن بيتك متأمرة على جمل أحمر ممسوخ ، من مردة الجن يقال له عسكر تسفكين دم خمسة وعشرين ألفاً من المؤمنين ، الذين يزعمون أنك أمهم ! قالت له : جدك أخبرك بذلك أم هذا من غيبك ؟ قال : هذا من علم الله وعلم رسوله وعلم أمير المؤمنين ، فأعرضت عنه بوجهها ، وقالت بنفسها : والله لأتصدقن بأربعين ديناراً ، ونهضت ! فقال لها ( عليه السلام ) : والله لوتصدقت بأربعين قنطاراً ، ما كان ثوابك إلا النار ) !
9 . قال الشريف المرتضى في رسائله ( 4 / 62 ) : ( الحسين بن الضحاك قال : ذاكرني مروان بن أبي حفصة أمرالسيد بعد موت السيد ، وأنا أحفظ لشعر بشار والسيد فأنشدته قصيدته المذهبة ، التي منها :
أين التطرب بالولاء وبالهوى * أإلى الكواذب من بروق الخُلَّبِ
أإلى أمية ، أم إلى شِيَع التي * جاءت على الجمل الخِدَبِّ الشَّوْقبِ
حتى أتيت على آخرها ، فقال مروان : ما سمعت قط شعراً أفصح وأغزر معاني ، ولا أحسن من هذا الشعر . وأما الخِدَبُّ فهو الضخم ، يقولون : رجل خدب إذا كان عظيماً ، ورجل في خِدَب أي هوج ، وهو رجل أخدب . والشَّوْقَب : الطويل يقولون : حافر شوقب ، إذا كان واسعاً .
وقيل إن اسم هذا الجمل عسكر ، وشوهد من هذا الجمل في ذلك اليوم كل عجب ، كلما انْبَتَّتْ منه قائمة من قوائمه ثبت على أخرى ! حتى روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نادى : أقتلوا الجمل فإنه شيطان . وإن محمد بن أبي بكر وعماراً رحمة الله عليهما توليا عقره بعد طول زمانه . وروي أن هذا الجمل بقي باركاً ضارباً بجرانه سنة لا يأكل
--------------------------- 305 ---------------------------
منه سبع ولا طائر ) !
أقول : المرجح عندي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمر بحرق جثة الجمل ، وتذرية رماده في الهواء ، لأنه شبيه عجل بني إسرائيل ! كما روى في شرح النهج ( 1 / 266 ) ولعل الأمر بحرقه كان بعد أيام من قتله . ولعل وصفه بأنه شيطان على استعمال العرب : ( والعرب تسمي كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ، شيطاناً ) . ( معجم البلدان : 3 / 384 ) .
وفي رجال الكشي 1 / 58 عن الإما م الباقر ( عليه السلام ) قال : ( اشتروا عسكراً بسبعمائة درهم وكان شيطاناً ) .
* *
--------------------------- 306 ---------------------------

الفصل الستون: من أخبار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في البصرة

أمضى شهراً في البصرة وقام بأعمال عظيمة

1 - العفو العام عن جيش عائشة وعامة الناس .
2 - ترحيل عائشة إلى المدينة المنورة .
3 - تولية ابن عباس وأبي الأسود وزياد بن عبيد .
4 - إرسال جيش لاستكمال فتح خراسان .
5 - إرسال جيش لمواصلة فتح الهند .
6 - وضع علم النحو وعلم أبي الأسود أن يكمله .
7 - علَّمَ كميل بن زياد الدعاء المعروف باسمه .
8 - كتب رسائله وبعث رسله إلى الأمصار .
9 - قتل الزط الوثنيين الذين ألهوه ولم يتوبوا .
10 - حرص على توعية الأمة على مقام عترة نبيها ( ( عليهما السلام ) ) وتعريفها بالظالمين لهم .

أمضى الإمام ( عليه السلام ) شهراً في البصرة ثم غادر إلى الكوفة

1 . قال ابن حاتم في الدر النظيم / 358 : ( وكان مقام علي ( عليه السلام ) في البصرة شهراً ، وأمر مالك بن الحارث الأشتر أن يتقدمه في الخيل إلى الكوفة .
قال : فقدم علي ( عليه السلام ) إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين من الهجرة . وخرج قوم من أشياخ الكوفة مع قرظة بن كعب الأنصاري يتلقون
--------------------------- 307 ---------------------------
علياً ( عليه السلام ) في يوم ذي قر وهو يتصبب عرقاً وكسوته خفيفة . وقد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعا له ألا يصيبه حرٌّ ولا قَرّ . وكان مقام علي ( عليه السلام ) في حرب الجمل خمسة عشر يوماً ) .
أقول : خمسة عشر يوماً : منها ثلاثة أيام أو أربعة مهلة قبل المعركة ، راسلهم فيها وفاوضهم . ومنها سبعة أيام المعركة . ومنها ثلاثة أيام بعد المعركة ، أصدر فيها العفو العام ، وطاف على القتلى ، ورتب ما يجب ترتيبه .
ثم دخل إلى البصرة ، وعالج امتناع عائشة عن الرجوع إلى المدينة ، فأرسل لها ابن عباس ثم الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم قبلت بالرحيل ، وطلبت أن يزورها فزارها .
2 . قال في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 346 ) : ( فقال ( عليه السلام ) لمحمد بن أبي بكر : شأنك وأختك ، فلا يدنُ منها أحد سواك . فقال فقلت لها : ما فعلت بنفسك ؟ عصيت ربك ، وهتكت سترك ، ثم أبحت حرمتك ، وتعرضت للقتل . فذهب بها إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي فقالت : أقسمت عليك أن تطلب عبد الله بن الزبير جريحاً كان أو قتيلاً . فقال : إنه كان هدفاً للأشتر ! فانصرف محمد إلى العسكر فوجده فقال : أجلس يا ميشوم أهل بيته ، فأتاها به ، فصاحت وبكت ثم قالت : يا أخي استأمن له من علي ،
فأتى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاستأمن له منه ، فقال ( عليه السلام ) : أمنته وأمنت جميع الناس ) !
وكتب ( عليه السلام ) في رسالته إلى أهل الكوفة : ( فلما هزمهم الله ، أمرت أن لا يقتل مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولا يهتك ستر ، ولا يدخل دار إلا بإذن أهلها ، وقد آمنت الناس ) . ( كتاب الجمل للمفيد / 215 ) .
3 . قال ابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 485 ) : ( فقالت عائشة لأخيها : يا أخي ، أنشدك بالله إلا طلبت لي ابن أختك عبد الله بن الزبير . . ثم قالت لأخيها محمد : يا أخي ، استأمن له علياً وتمم إحسانك ، فقال لها محمد : لا بارك الله لك فيه !
ثم سار إلى علي وسأله ذلك ، فقال علي : قد آمنته ، وآمنت جميع الناس ) .
--------------------------- 308 ---------------------------
4 . وحرم أموال أعدائه وأعراضهم ولم يقبل بغنيمتها ، وأحل ما حواه معسكرهم فقط . قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 72 ) : ( فهزمهم . . وأُسرت عائشة ، وأسر مروان بن الحكم ، وعمرو بن عثمان ، وموسى بن طلحة ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، فقال عمار لعلي : يا أمير المؤمنين أقتل هؤلاء الأسرى . فقال علي : لا أقتل أسيرأهل القبلة إذا رجع ونزع . . ثم أمر المنادي فنادى : لايقتلن مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولكم ما في عسكرهم ، وعلى نسائهم العدة ، وما كان لهم من مال في أهليهم فهوميراث على فرائض الله .
فقام رجل فقال : يا أمير المؤمنين كيف تحل لنا أموالهم ولا تحل لنا نساؤهم ولا أبناؤهم ؟ فقال : لا يحل ذلك لكم . فلما أكثروا عليه قال : إقترعوا هاتوا سهامكم ، ثم قال : أيكم يأخذ أمكم عائشة في سهمه ؟ فقالوا : نستغفرالله ) .

مشى الإمام ( عليه السلام ) في سكك البصرة بدون سلاح ولا حماية !

روى الصدوق في التوحيد / 374 ، عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال : ( دخل الحسين بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على معاوية فقال له : ما حمل أباك على أن قتل أهل البصرة ، ثم دار عشياً في طرقهم في ثوبين ! فقال ( عليه السلام ) : حمله على ذلك علمه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ! قال : صدقت .
وقيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما أراد قتال الخوارج : لواحترزت ، فقال :
أي يومي من الموت أفر * يوم لم يُقَدَرْ أم يوم قُدِرْ
يوم ما قُدِّرَ لا أخشى الردى * وإذا قُدِّرَ لم يُغن الحذر )

ولى على البصرة ابن عباس وزياد بن عبيد

1 . أشار أبو بكرة بن عبيد على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يولي على البصرة ابن عباس فولاه ، وكان عمر ابن عباس يومها تسعاً وثلاثين سنة ، لأن عمره لما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو اثنتي عشرة سنة ( الإستيعاب : 3 / 934 ) وتوفي في الطائف وله إحدى وسبعون سنة ( مجمع الزوائد : 9 / 285 ) . وكان طويلاً مشرباً صفرةً ، جسيماً وسيماً ، صبيح الوجه ، له ضفيرتان .
--------------------------- 309 ---------------------------
( المعجم الكبير ( 10 / 233 ) . وقيل له جُمَّة ، وعليه إزار فيه بعض الإسبال . وقيل إنه صحب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سنة ونصفاً . ( سير الذهبي : 3 / 332 ) .
أقول : الصحيح أنه كان ذكياً نابغاً ، وكان يسمع من الصحابة ويكتب . لذلك فإن قول ابن عباس سمعت رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، معناه : سمعت من أثق به من الصحابة !
2 . واشتهر ابن عباس في خلافة عمر ، فقرَّبه على صغر سنه ، واتخذه مشاوراً ، ومفتياً وكاتباً ووزيراً . وكان محترماً في زمن عثمان ، لكنه فَقَد أكثر مكانته .
وقد بالغ عمر في مدح علمه لأنه أعلم منه ، وسماه حَبْر الأمة ، لأنه متأثر بألقاب اليهود لأنه كان يحضر دروسهم ! وسماه تُرجمان القرآن ، وتبعه الرواة والناس .
وقال له عمر : ( إني رأيت رسول‌الله دعاك يوماً فمسح رأسك ، وتَفَلَ في فِيك وقال : اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل ) . ( سير الذهبي : 3 / 337 ) .
ولم يقل عمر متى رأى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تفل في فمه ودعا له ! فعندما ولد ابن عباس في الشِّعب ، كان عمر كافراً ، ثم بقي ابن عباس في مكة مع أبيه ولم يهاجر .
والصحيح أن أصل حديث عمر أن أم عبد الله زعمت أنها لما ولدته أخذته إلى النبي ، فتفل في فمه ودعا له ، وهو بعيد لأن العباس لم يكن مسلماً .
قال الذهبي في سيره ( 3 / 331 ) : ( عبد الله بن عباس البحر ، حبرالأمة ، وفقيه العصر ، وإمام التفسير . . مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين . صحب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحواً من ثلاثين شهراً ، وحدث عنه بجملة صالحة ) !
والصحيح في علم ابن عباس ما رواه ابن سعد ( 2 / 371 ) قال : ( رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . سمعت ابن عباس يقول : كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المهاجرين والأنصار ، فأسألهم عن مغازي رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما نزل من القرآن في ذلك . وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سُرَّ بإتياني لقربي من رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فجعلت أسأل أبيَّ بن كعب يوماً ، وكان من الراسخين في العلم ، عما نزل من
--------------------------- 310 ---------------------------
القرآن بالمدينة ، فقال : نزل بها سبع وعشرون سورة ، وسائرها بمكة ) .
وفي سنن الدارمي ( 1 / 141 ، و 146 ) : ( عن ابن عباس قال : لما توفي رسول‌الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قلت لرجل من الأنصار : يا فلان هلمَّ فلنسأل أصحاب النبي فإنهم اليوم كثير ، فقال : واعجباً لك يا ابن عباس ، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من ترى ! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة ، فإنه كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهوقائل ( من القيلولة ) فأتوسد ردائي على بابه ، فتسفي الريح على وجهي التراب ، فيخرج فيراني فيقول : يا ابن عم رسول‌الله ما جاء بك ألا أرسلت إليَّ فآتيك . فأقول : أنا أحق أن آتيك . فأساله عن الحديث . قال : فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ ، فقال : كان هذا الفتى أعقل مني ) .
3 . كان ابن عباس مستبصراً في حق بني هاشم ، متعصباً لهم ، قوي الحجة في أمرهم ، وكان يداري عمر بن الخطاب ، ويناقشه أحياناً باحترام فيفحمه ، وكان عمر يتحمل منه لأنه يعرف أنه مخلص له . ثم كان عثمان يعتمد عليه في أمور كبيرة وقضايا خاصة ، ولما حوصرعثمان بعث ابن عباس أمير الحاج .
4 . ولما بايع المسلمون علياً ( عليه السلام ) كان ابن عباس إلى جنبه ، وكان معه في حروبه لكنه لم يكن مقاتلاً بل سياسياً . وولاه علي ( عليه السلام ) البصرة ، وولى أخاه عبيد الله اليمن ، وأخاه قثم مكة والطائف . ( الطبري : 4 / 69 ) .
قال ابن حجر في الإصابة ( 1 / 89 ) : ( قال أبو بكرة : قدم علينا البصرة ،
وما في العرب مثله ، حشماً ، وعلماً ، وبياناً ، وجمالاً ) .
5 . ابن عباس عالم كبير ، وهاشمي أصيل ، وصاحب موهبة في التعامل ومداراة الناس . وهو متعصب لبني هاشم ، خبير بظلامتهم ونقاط قوتهم ، ونقاط ضعف خصومهم ، ومتعصب بشكل خاص لأبيه العباس وأسرته ونفسه .
وله مناظرات مهمة جداً في الدفاع عن العترة النبوية ( عليهم السلام ) وإدانة خصومهم . فهو شيعي بالمعنى العام محب لعلي ( عليه السلام ) ومتعصب له ، وفي نفس الوقت ليس عنده يقين
--------------------------- 311 ---------------------------
بعصمته ، فقد أخبر علي ( عليه السلام ) بعدد من يأتيه من جيش الكوفة مثلاً فشك ابن عباس ، وخاف أن لا يكون العدد كما أخبر علي ( عليه السلام ) ! وله أمثالها .
6 . وقد اتهم في آخر خلافة علي ( عليه السلام ) بأنه سرق بيت مال البصرة فبعث اليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) برسالة توبيخ وتهديد ، والظاهر أنه تاب وأصلح الأمر ، وجاء إلى الكوفة في أيام شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وقد كتب صديقنا الباحث السيد جعفر مرتضى دفاعاً عن ابن عباس ، وأنكر الرسالة ، وشكك في دلالتها !
كما كتب صديقنا الباحث السيد محمد مهدي الخرسان ، موسوعة ابن عباس رضي الله عنه ، وأجاد فيها وأفاض في مدح ابن عباس .
وعندما أرى تعصبه وتعصبهما أقول : هذان السيدان الهاشميان من ذرية علي والزهراء ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فما بالهما يتعصبان لابن عباس تعصب قثم وعبيد الله ابني العباس !
وقد كتبت في ابن عباس بعنوان : العباسيون وأهل البيت ( عليهم السلام ) . ولم أنشره . وخلاصة رأيي : أن ابن عباس مجمع على توثيقه ، لكني أتوقف في أحاديثه التي موضوعها بين العباسيين والعلويين ، ولا أرى أنه كان شيعياً بالمعنى الخاص ، بل بالمعنى العام . ولا يمكن الدفاع عنه كلياً في قضية أموال بيت مال البصرة .
7 . فسر السيد الخرسان خطبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عند توليته ابن عباس على البصرة بأنها لتجليل ابن عباس ، والظاهر أنها لضبط الحكم في البصرة ، فقد كانت البصرة غير صافية للإمام ( عليه السلام ) ، ولم يكن في الخطبة مدح لابن عباس بل تحذير له ، خاصة مع سلب سلطته على بيت المال ، فقد جعل الوالي على بيت المال زياداً ، وأمر ابن عباس أن يطيعه ! ثم قال إنه يأمل فيه ، لكن إن ظهرت منه خيانة أو انحراف فسيعزله ! وفيه إشارة إلى أنه سيصدر منه شئ !

خطبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما ولى ابن عباس البصرة

قال المفيد في كتاب الجمل / 224 : « لما استعمل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عبد الله بن العباس على البصرة ، خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال :
--------------------------- 312 ---------------------------
معاشر الناس قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فاعلموا أني أعزله عنكم ، فإني أرجو أن أجده عفيفاً تقياً ورعاً ، وإني لم أوله