سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام - ج 5

--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام عليه السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الخامس
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام عليه السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الخامس
الطبعة الأولى
1440 - 2018
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
سر شناسه ، كورانى ، على ، 1944 - م . / Kurani Ali
عنوان ونام پديد آور : سيره أمير المؤمنين ( ع ) / على الكوراني العاملي .
مشخصات نشر : قم : دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 - مشخصات ظاهري : ج .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 154 ج 5
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
يادداشت : عربى .
مندرجات : ج . 5 . غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام ( ع )
موضوع : علي بن أبي طالب ( ع ) ، امام أول ، 23 قبل از هجرت - 40 ق .
موضوع : 600 - 661 ، Ali ibn abi - Talib , Imam I
رده بندى كنگره : BP 37 / ك 85 س 13969
رده بندى ديويى : 297 / 951
شماره كتابشناسى ملى : 4992656


سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام ( ع )
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ربيع الثاني 1440 - 2018 Nov
المطبعة : باقري - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 2000 نسخة .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 15 - 4
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------

الفصل السادس والثمانون: وضع دولة الإمام ( ( ع ) ) بعد التحكيم

الفرق بين وضع الأمة في حرب الجمل وفي صفين وبعده

1 . كانت دعوة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى حرب الجمل ثقيلة على الناس ، واستجابتهم بطيئة قليلة ، فبالكاد استطاع ( عليه السلام ) أن يجمع اثني عشرألفاً .
بينما جندت عائشة والزبير وطلحة بسهولة مئة وعشرين ألفاً ، كما نص البلاذري وسُليم ، وإن كان أكثرهم أحداثاً ، حسب تعبير عائشة .
أما دعوة الإمام ( عليه السلام ) إلى حرب معاوية في صفين ، فقد كانت خفيفة على الناس ، وكانت استجابتهم واسعة ، فاستطاع أن يجمع سبعين ألفاً بسهولة لأن صفين جاءت بعد انتصاره في حرب الجمل ، وبعد نقله العاصمة إلى الكوفة ، فكان أهل العراق يشعرون بأن حرب معاوية حربهم ، لأن عاصمة الإسلام عندهم ويجب إخضاع البغاة من أهل الشام لعاصمتهم .
2 . أما بعد صفين وبعد تحكيم الحكمين ، فقد اتضح للرأي العام خيانة الحكمين ، وأن عمرو العاص لعب لعبة الشيطان على أبي موسى ! فسبَّبَ ذلك غضباً شديداً عند أهل العراق ، وكان رأي أكثرهم العودة إلى قتال معاوية لإرغامه على قبول الحق ، والدخول في بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لكن عوامل طرأت على الأمة سببت تثاقلهم عن الحرب ، وهي :
الأول : أنهم تعبوا في حرب صفين لتقارب القوتين وكثرة الخسائر ، ولذلك سكتوا أمام خيانة الأشعث وكندة ومن معهم وضغطهم على الإمام ( عليه السلام ) لإنهاء المعركة والقبول بالتحكيم ، ثم أصيبوا بالإحباط من التحكيم وشيطنة عمرو العاص على ممثلهم أبي موسى الأشعري !
--------------------------- 6 ---------------------------
وكان المفروض فيهم بعد انكشاف اللعبة أن يخفوا في الاستجابة ، لكنهم تباطؤوا واستثقلوا الحرب ، لأن خسائرها وجحيمها ما زال ماثلاً في ذاكرتهم ، فهم يخافون أن تكون الحرب الثانية كالأولى !
والثاني : أن أهل العراق تفرقوا ، وظهرفيهم الخوارج المخالفون للإمام ( عليه السلام ) !
والثالث : خسارة مصر وانضمامها إلى حكم معاوية ، فكان الناس يرون ذلك خسارة استراتيجية لعلي ( عليه السلام ) ، وانتصاراً بارزاً لمعاوية .
والرابع : شهادة عمار والأشتر وهاشم المرقال رضوان الله عليهم ، وقد كانوا وزراء أقوياء محركين للناس وأصحاب نفوذ وهيبة فيهم .
وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال ( الطبري ( 2 / 72 ) : « إن علياً وجَّهَ الأشتر إلى مصرفادعوا الله أن يكفيكموه ، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر ! وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر ، فقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قَطعتُ إحداهما يوم صفين يعني عمار بن ياسر ، وقَطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر » .
والخامس : قوَّى معاوية عملاءه في العراق ، وعلى رأسهم الأشعث بن قيس ، فكانوا يراسلونه باستمرار ويذهبون اليه سراً ، وكان يمدهم بالمال والخطط ! وقد صرح هو بذلك ، قال البلاذري ( 2 / 383 ) : ( إن معاوية لما بويع وبلغه قتال عليٍّ أهل النهروان ، كاتب وجوه من معه مثل الأشعث بن قيس وغيره ، ووعدهم ومنَّاهم وبذل لهم حتى مالوا إليه ، وتثاقلوا عن المسير مع علي ، فكان يقول فلا يلتفت إلى قوله ، ويدعو فلا يسمع لدعوته ، فكان معاوية يقول : لقد حاربت علياً بعد صفين بغير جيش ولا عناء ) .
وبهذه العوامل رأى السياسيون من رؤساء القبائل ، أن ميزان القوى أخذ يميل إلى معاوية ، لطاعة أهل الشام له ، وأغلبهم إنما يقاتلون مع الأقوى على أمل النصر ، ويمتنعون عن القتال مع مقابله أو يتثاقلون .
والسادس : أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخبرهم بأنه سوف يستشهد ، وأن معاوية سيغلب ويحكم بعده ، فكانت دعوته إلى الحرب دعوة إلى إتمام الحجة والمعذرة إلى الله تعالى ،
--------------------------- 7 ---------------------------
قبل وقوع قدر محقق ! وطبيعي في هذا الجو أن يتباطأ الناس ويتثاقلوا ، إلا الفئة الممتازة المملوءة غيرة وتديناً .
وهذا بعكس حربهم للخوارج التي كانت نتيجتها برأيهم محسومة لمصلحة الإمام وجمهور المسلمين ، وإن كانت صعبة عليهم نفسياً .
أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فكان يرى أنه يجب أن يخبر المسلمين بما يكون في المستقبل ، وأن نفع ذلك في تثبيت الدين في الأمة وترشيدها أكثر من ضرره !
وقد أجاب على رسالة أخيه عقيل ( شرح النهج : 2 / 120 ) التي تقدمت في ترجمة عقيل : ( فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه ، فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس معي عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة ، لأنني محق والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت على الحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقاً . وأما ما عرضت به من مسيرك إليَّ ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك ، فأقم راشداً محموداً ، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت ، ولا تحسبن ابن أمك ولو أسلمه الناس متخشعاً ولا متضرعاً ، إنه لكما قال أخو بني سليم :
فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب ) .
والخلاصة : أنه كان مع علي ( عليه السلام ) العصبة للنبي ( ( عليهما السلام ) ) والإسلام ، متمثلة بالمهاجرين والأنصار . ومعه العصبة العراقية لكنها كانت عصبة ناشئة ممزوجة بالعصبة اليمانية ، وكانت كندة ثقل اليمانيين مطيعة للأشعث ، كما كانت مذحج مطيعة للأشتر رضي الله عنه . وكانت العصبة العراقية لربيعة والقبائل العربية الأخرى ، أصفى عناصرالعصبة للعراق ، لكن الثقل كان لليمانيين ، وهم لا يرون لربيعة وزناً ، والقبائل العراقية أقل منها .
وصف نصر بن مزاحم / 227 ، تعبئة معاوية للقبائل بصفين فقال : ( فجاء بحمير فجعلهم بإزاء ربيعة على قرعة أقرعها ، فقال ذو الكلاع : بإستك من سهم لم تبغ الضراب ! كأنه أَنِفَ من أن تكون حمير بإزاء ربيعة ، فبلغ ذلك الخندف الحنفي ،
--------------------------- 8 ---------------------------
فحلف بالله لئن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه ) .
فأعانه الله عليه ، وقتله ! قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 2 / 469 ) : ( فأتى ابنُ ذي الكلاع سعدَ بن قيس قائد ميمنة علي ( عليه السلام ) فأذن له في أبيه ، فأتاه فوجده قد رُبط برجله طنب فسطاط ، فأتى أصحاب الفسطاط فسلَّم عليهم وقال : أتأذنون في طنب من أطناب فسطاطكم ، قالوا : نعم ومعذرة إليك ، ولولابغيه علينا ما صنعنا به ما ترون . فنزل إليه وقد انتفخ وكان عظيماً جسيماً وكان مع ابن ذي الكلاع أسود له فلم يستطيعا رفعه ، فقال ابنه : هل من معاون ؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي يدعى الخندف فقالوا : تنحوا . فقال ابن ذي الكلاع : ومن يرفعه ؟ قال : يرفعه الَّذي قتله ! فاحتمله حتى رمى به على ظهر البغل ثم شده بالحبل ، وانطلقا به إلى عسكرهم ) .
والنتيجة : أن التنوع في قبائل العراق وتعدد جذورها ومشاربها ، ومكر الأشعث بن قيس ، كانت عاملاً في إضعاف طاعة العراقيين لعلي ( عليه السلام ) ، مقابل وحدة العصبة الشامية ، وطاعة رؤسائهم المطلقة لمعاوية !
فقداجتمع لمعاوية التعصب الشامي ، والتعصب القرشي ، فكانت قريش كلها معه ضد علي وبني هاشم والمسلمين ، كما كانت مع أبيه أبي سفيان ضدالنبي ( ( عليهما السلام ) ) وبني هاشم والمسلمين !
كما اجتمع لمعاوية تعصب بعض اليمانيين فالتفوا حول شرحبيل بن السمط الكندي ، وذي الكلاع الحميري ، وكندة وحمير هما بيتا الملك في اليمن .

استنهاض الإمام ( ( ع ) ) للأمة وتثاقلها عن الجهاد

استنهاض الإمام ( ( ع ) ) للأمة وتثاقلها عن الجهاد
لا يتسع الكتاب لاستقصاء خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكلماته في حض المسلمين على الجهاد ، لكنا هنا اخترنا بعضها ، وذكرنا عدداً منها في محالها .
1 . قال البلاذري ( 2 / 365 ) : ( لما هرب أبو موسى إلى مكة ، ورجع ابن عباس والياً على البصرة ، وأتت الخوارج النهروان ، خطب علي الناس بالكوفة فقال : الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح ، والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) . أما بعد ، فإن معصية الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة ، وتُعقب
--------------------------- 9 ---------------------------
الندم . وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ونخلت لكم رأيي لو يطاع لقصير رأي ، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم فكنت وأنتم كما قال أخو هوازن :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوا * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن الرجلين الذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات القرآن ، ثم اختلفا في حكمهما ، فكلاهما لايرشد ولايسدد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إن شاء الله ) .
2 . وفي الإرشاد للمفيد ( 1 / 275 ) : ( ومن كلامه ( عليه السلام ) لما نقض معاوية شرط الموادعة ، وأقبل يشن الغارات على أهل العراق فقال بعد حمد الله والثناء عليه : ما لمعاوية قاتله الله ! لقد أرادني على أمر عظيم ، أراد أن أفعل كما يفعل ، فأكون قد هتكت ذمتي ونقضت عهدي ، فيتخذها عليَّ حجة ، فتكون عليَّ شيناً إلى يوم القيامة كلما ذكرتُ . فإن قيل له : أنت بدأت ! قال : ما علمت ولا أمرت ، فمن قائل يقول : قد صدق ، ومن قائل يقول : كذب ! أما والله ، إن الله لذو أناة وحلم عظيم ، لقد حلم عن كثير من فراعنة الأولين وعاقب فراعنة ، فإن يمهله الله فلن يفوته ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، فليصنع ما بدا له ، فإنا غير غادرين بذمتنا ، ولا ناقضين لعهدنا ، ولا مروعين لمسلم ولا معاهد ، حتى ينقضي شرط الموادعة بيننا ) .
3 . قال البلاذري ( 2 / 367 ) : ( وبعث علي إلى الخوارج أن سيروا إلى حيث شئتم ولا تفسدوا في الأرض ، فإني غير هائجكم ما لم تحدثوا حدثاً . فساروا حتى أتوا النهروان ، وأجمع عليٌّ على إتيان صفين ، وبلغ ذلك معاوية فسارحتى أتى صفين .
وكتب علي إلى الخوارج بالنهروان : أما بعد فقد جاءكم ما كنتم تريدون ، قد تفرق الحكمان على غيرحكومة ولا اتفاق ، فارجعوا إلى ما كنتم عليه ، فإني أريد
--------------------------- 10 ---------------------------
المسير إلى الشام . فأجابوه أنه لا يجوز لنا أن نتخذك إماماً وقد كفرت ، حتى تشهد على نفسك بالكفر وتتوب كما تبنا ، فإنك لم تغضب لله ، إنما غضبت لنفسك ) !
4 . قال في الدر النظيم / 369 : ( فنزل علي ( عليه السلام ) الأنبار ، فخطب الناس وحضهم على الجهاد وقال لهم : سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار ، ألا إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أمرني بقتل القاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم ، والناكثين وهم الذين فرغنا منهم ، والمارقين ولم نلقهم بعد ، فسيروا إلى القاسطين فهم أهم من الخوارج ، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ، يتخذهم الناس أرباباً ، ويتخذون عباد الله خَوَلاً . فأبوا أن يسيروا إلا إلى الخوارج ) .
وفي فضائل ابن عقدة / 85 : ( صعد علي ( عليه السلام ) المنبر يوم جمعة فقال : أنا عبد الله وأخو رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ، ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . أمرني رسول الله بقتال الناكثين طلحة والزبير ، والقاسطين معاوية وأهل الشام ، والمارقين وهم أهل النهروان ، ولوأمرني بقتال الرابعة لقاتلتهم ) .
5 . قال ابن الأعثم ( 4 / 256 ) : ( ثم ساروا ( الخوارج ) حتى دخلوا النهروان في اثني عشر ألفاً من بين فارس وراجل . قال : وبلغ ذلك علياً فنادى في الناس فجمعهم في المسجد فخطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إن الله عز وجل بعث محمداً ( ( عليهما السلام ) ) نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وشهيداً على هذه الأمة بالتحريم والتحليل ، وأنتم يا معشرالعرب إذ ذاك في شرِّدارٍ وعلى شردين ، تبيتون على حجارة خُشن ، وحيات صُم ، وشوك مبثوث في البلاد ، تشربون الأجاج ، وتأكلون الخبيث من الطعام ، سبلكم خائفة ، والأنصاب فيكم منصوبة : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ . فمنَّ الله عليكم بمحمد ( ( عليهما السلام ) ) فبعثه إليكم رسولاً من أنفسكم ، وقال تبارك وتعالى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ . وقال عز وجل : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ . فكنتم أنتم وهو رسوله إليكم ، تعرفون حسبه ونسبه ، وشرفه وفضله ، وكان يتلو عليكم الآيات ، ويأمركم بصلة الأرحام ، وحقن الدماء ،
--------------------------- 11 ---------------------------
وإصلاح ذات البين ، وينهاكم عن التظالم والتغاشم والتقاذف والتباهت ، ويأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر . وكلُّ خير يدني من الجنة ويبعد من النار فقد أمركم به ، وكلُّ شر يدني من النار فقد نهاكم عنه ، فلما استكمل ( ( عليهما السلام ) ) مدته توفاه الله إليه مشكوراً سعيه ، مرضياً عمله ، مغفوراً له ذنبه ، كريماً عند الله نزله . فيا لها من مصيبة خصت وعمت المؤمنين ، لم يصابوا بمثلها قبلها ولايعاينون بعدها مثلها .
وبعد ، فقد علمتم ما كان من هؤلاء القوم من الإقدام والجرأة على سفك الدماء ، وهم قوم فساق مراق ، عماة جفاة ، يريدون فراقي وشقاقي ، وفيهم من قد عضه بالأمس السلاح ، ووجد ألم الجراح . فجِدُّوا رحمكم الله ، وخذوا آلة الحرب فإني سائر إليهم إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله .
قال : ثم نزل عن المنبر ولم يجبه إلا اليسير من أهل الكوفة ، ودخل إلى منزله وغضب لذلك ! ثم خرج إلى الناس وخطبهم ثانياً ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيتها الفئة المجتمعة أبدانهم ، المتفرقة أديانهم ! إنه والله ماعزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح من قاساكم ، كلامكم يوهن الصم الصلاب ، وفعلكم يطمع فيه عدوكم ! إذا أدعوكم إلى أمر فيه صلاحكم ، والذب عن حريمكم ، اعتراكم الفشل وجبنتم بالعلل ، ثم قلتم كيْت وكيت وذيْتَ وذيت ، أعاليل وأضاليل وأقوال أباطيل ، ثم سألتموني التأخير دفاع ذي الدَّيْن المَطُول !
هيهات إنه لا ينفع الصم الدليل ، ولا يدرك الحق إلا بالجد ، فخبروني يا أهل العراق مع أي إمام بعدي تقاتلون ، أم أية دار تمنعون ؟ الذليل والله من نصرتموه ، والمغرور من غررتموه ، لقد أصبحت لا أطمع في نصركم ، ولا أصدق قولكم ، فرق الله بيني وبينكم ، وأبدلكم بي غيري ، وأبدلني بكم من هو خير لي منكم ! أما إنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرةً قبيحة ، يتخذها الظالمون عليكم سنة ، فتبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنون في بعض حالاتكم أنكم رأيتموني فنصرتموني ، وأرقتم دماءكم دوني ، فلا يبعد الله إلا من قد ظلم !
--------------------------- 12 ---------------------------
يا أهل الكوفة ! أعظكم فلا تتعظون ، وأوقظكم من سنتكم فلا تنتبهون ، إن من فاز بكم فقد فاز بالخيبة ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل ! أفٍّ لكم ! لقد لقينا منكم ترحاً ، يوماً أناديكم ويوماً أناجيكم ، فلا أحرار عند النداء ، ولا إخوان صدق عند المصائب ، فيا لله ماذا منيت به منكم ، لقد منيت بصُمٍّ لا يسمعون ، وكُمْهٍ لا يبصرون ، وبُكْمٍ لا يعقلون ، أما والله لولا أني حين أمرتكم بأمري حملتكم على المكروه منه ، فإن استقمتم هديتم ، وإن أبيتم عليَّ بدأتُ بكم ، وكانت الزلفى ، ولكني تراخيت لكم ، وتوانيت عنكم ، وتماديت في غفلتكم ، فكنت أنا وأنتم كما قال الأول :
أمرتكم أمري بمنقطع اللوى * فلم تستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
اللهم إن دجلة والفرات نهران أصمان أبكمان ، اللهم فأرسل عليهما ماء بحرك ، وانزع منهم ماء نصرك . حبذا إخواني الصالحون ! إن دعوا إلى الإسلام قبلوه ، أو قرأوا القرآن أحكموه ، أو ندبوا إلى الجهاد طلبوه ، فحقق اللهم لهم الثناء الحسن ، واشوقاه إلى تلك الوجوه ! قال : ثم ذرفت عيناه ونزل عن المنبر !
وقام إليه نافع بن طريف فقال : إنا لله إلى ما صرت إليه يا أمير المؤمنين ! فقال علي : نعم : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إلى ما صرت إليه ، صرت إلى قوم إن أمرتهم خالفوني ، وإن اتبعتهم تفرقوا عني ، جعل الله لي منهم فرجاً عاجلاً !
قال : ثم وثب فدخل إلى منزله مغموماً ، ودخل إليه جماعة من فرسان أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين ! لايسوؤك الله ، ها نحن بين يديك ، فسر بنا إلى أعداء الله إذا شئت لترى منا ما تحب . قال : ثم تقدم إليه رجل من أصحابه فقال : يا أمير المؤمنين !
إن الناس قد ندموا على ما كان من تثبطهم وقعودهم عن نصرتك ، على أن الحظ في ذلك لهم ، فلو عاودتهم بالخطبة لعلهم كانوا يرتدعون ، ويرجعون إلى محبتك . قال : فلما كان من غد خرج علي ( عليه السلام ) حتى دخل المسجد الأعظم وهو غاص بأهله ، وأصحابه متواترون ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أيها الناس ! ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقضت ، وإلى بلادكم تغزى ، وأنتم ذووا عدد جم ، وشوكة شديدة ؟ فما بالكم اليوم ، لله أبوكم ، من أين تؤتون ، ومن أين تسحرون ،
--------------------------- 13 ---------------------------
وأنى تؤفكون ، إنتبهوا رحمكم الله ، وأنبهوا نائمكم ، وتجردوا لحرب عدوكم ، فقد أبدت الرغوة عن الصريح ، وقد أضاء الصبح لذي عينين ، فاسمعوا قولي هداكم الله إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فوالله لئن أطعتموني لم تغووا ، وإن عصيتموني لن ترشدوا ، وخذوا للحرب أهبتها وأعدوا لها عدتها ، واجمعوا آلتها ، فقد شبت وأوقدت نارها ، وتجرد لكم الفاسقون ، لكي يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويغزوا عباد الله ، فوالله لولاقيتهم وحدي وهم أضعاف ما هم عليه ، لما كنت بالذي أخافهم ولا أهابهم ، ولا أستوحش منهم . لأني من ضلالتهم والحق الذي أنا عليه لعلى بصيرة ويقين ، وإني إلى لقاء ربي مشتاق ، ولحسن ثوابه منتظر ، وهذا القلب الذي ألقاهم به الذي لقيت به الكفار مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، وهو القلب الذي لقيت به أهل الجمل وأهل صفين وليلة الهرير ، فإذا أنا أنفرتكم فانفروا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . ولا تثاقلوا إلى الأرض فيفروا بالحيف ، فإن أخا الحرب من إن نام عنها لم تنم عيناه ، ومن غفل أوذي ، ومن ضعف ذل ، ومن ترك الجهاد في الله كان المغبون المهين ، اللهم اجمعنا على التقوى ، وجنبنا وإياهم البلوى ، واجعل الآخرة لنا ولهم خيراً من الأولى .
قال : فلما فرغ من خطبته أجابه الناس سراعاً ، فاجتمع إليه أربعة آلاف رجل أو يزيدون فخرج بهم من الكوفة ، وبين يديه عدي بن حاتم الطائي يرفع صوته ،
وهو يقول :
نسير إذا ما كاع قوم وبلدوا * برايات صدق كالنسور الخوافق
إلى شر قوم من شراة تحزبوا * وعادوا إله الناس رب المشارق
طغاة عماة مارقين عن الهدى * وكل لعين قوله غير صادق
وفينا علي ذو المعالي يقودنا * إليهم جهارا بالسيوف البوارق
قال : وسار علي رضي الله عنه حتى نزل على فرسخين من النهروان ، ثم دعا بغلامه فقال له : إركب إلى هؤلاء القوم وقل لهم عني : ما الذي حملكم على
--------------------------- 14 ---------------------------
الخروج عليَّ ؟ ألم أقصد في حكمكم ، ألم أعدل في قسمكم ، ألم أقسم فيكم فيأكم ؟ ألم أرحم صغيركم ، ألم أوقر كبيركم ، ألم تعلموا أني لم أتخذكم خولاً ، ولم أجعل مالكم نفلاً ؟ وانظرماذا يردون عليك ! وإن شتموك فاحتمل ، وإياك أن ترد على أحد منهم شيئاً . قال : فأقبل غلام علي حتى أشرف على القوم بالنهروان ، فقال لهم ما أمره به ، فقالت له الخوارج : إرجع إلى صاحبك ، فلسنا نجيبه إلى شئ يريده أبداً ، وإنا نخاف أن يردنا بكلامه الحسن كما رد إخواننا بحروراء عبد الله بن الكواء وأصحابه ، والله تعالى يقول : بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ، ومولاك عليٌّ منهم فارجع إليه ، وخبره بأن اجتماعنا ههنا لجهاده ومحاربته لا لغير ذلك .
قال : فرجع الغلام إلى علي وأخبره بما سمع من القوم ، قال : فعند ذلك كتب إليهم علي كرم الله وجهه : بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله وابن عبده أمير المؤمنين وأجير المسلمين أخي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وابن عمه ، إلى عبد الله بن وهب وحرقوص بن زهير ، المارقين من دين الإسلام ! أما بعد ، فقد بلغني خروجكما واجتماعكما هنالك بغيرحق كان لكما ، ولأبويكما من قبلكما ، وجمعكما لهذه الجموع الذين لم يتفقهوا في الدين ، ولم يعطوا في الله اليقين ! إلزما الحق فإن الحق يلزمكما منزلة الحق ، ثم لا يقضى إلا بالحق ، ولا تزيغا فيزيغ من معكما من أتباعكما ، فيكون مثلكما ومثلهم كمثل غنم نفشت في أرض ذات عشب ، فرعت وسمنت ، وإنما حتفها في سمنها ، وقد علمنا بأن الدنيا كعروتين سفلاً وعلواً ، فمن تعلق بالعلو نجا ، ومن استمسك بالسفل هلك ، والسعيد من سعدت به رعيته ، والشقي من شقيت به رعيته ، وخيرالناس خيرهم لنفسه وشرهم شرهم لنفسه ، وليس بين الله وبين أحد قرابة ، وكل نفس بما كسبت رهينة . والكلام كثير وإنما نريد منه اليسير ، فمن لم ينتفع باليسير ضره الكثير ، وقد جعلتموني في حالة من ضل وغوى ، وعن طريق الحق هوى ، خرجتم علي مخالفين بعد أن بايعتموني طائعين غير مكرهين ، فنقضتم عهودكم ونكثتم أيمانكم ، ثم لم يكفكم ما أنتم فيه من العمى وشق العصا ، حتى وثبتم على عبد الله بن خباب فقتلتموه ، وقتلتم أهله وولده بغير ترة كانت منه إليكم ولا ذحل ، وهو ابن صاحب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ،
--------------------------- 15 ---------------------------
ولن يغني القعود عن الطلب بدمه فادفعوا إلينا من قتله وقتل أهله وولده ، وشرك في دمائهم ، ولا تقتلوا أنفسكم على عمى وجهل ، فتكونوا حديثاً لمن بعدكم . وبالله أقسم قسماً صادقاً لئن لم تدفعوا إلينا قاتل صاحبنا عبد الله بن خباب ، لم أنصرف عنكم دون أن أقضي فيكم إربي ، وبالله أستعين وعليه أتوكل ، والسلام والرحمة من الواحد الخلاق ، على النبيين وعلى عباده الصالحين )
ويأتي جوابهم وعنادهم في فصل معركة النهروان .
6 . ومن خطبة له ( عليه السلام ) في ذم أصحابه : أحمد الله على ما قضى من أمر وقدر من فعل ، وعلى ابتلائي بكم أيها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم تجب . إن أمهلتم خضتم ، وإن حوربتم خرتم . وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم . وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم . لا أباً لغيركم ! ما تنتظرون نصركم والجهاد على حقكم ؟ الموت أوالذل لكم ، فوالله لئن جاء يومي وليأتيني ، ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قالٍ ، وبكم غير كثير . لله أنتم ! أما دين يجمعكم ؟ ولا حمية تشحذكم ؟ أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء . وأنا أدعوكم وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس إلى المعونة وطائفة من العطاء ، فتفرقون عني وتختلفون علي . إنه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه ، ولا سخط فتجتمعون عليه ، وإن أحب ما أنا لاقٍ إليَّ الموت . قد دارستكم الكتاب ، وفاتحتكم الحجاج ، وعرفتكم ما أنكرتم ، وسوغتكم ما جمعتم ، لو كان الأعمى يلحظ ، أو النائم يستيقظ . وأقرب بقوم من الجهل بالله قائدهم معاوية ، ومؤدبهم ابن النابغة ) . ( نهج البلاغة : 2 / 100 ) .
7 . ومن خطبة له ( عليه السلام ) في استنفار الناس إلى أهل الشام : أفٍّ لكم لقد سئمت عتابكم . أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً . وبالذل من العز خلفاً !
إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ، يرتج عليكم حواري فتعمهون . فكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون . ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي ، وما أنتم بركن يمال بكم ولا زوافر
--------------------------- 16 ---------------------------
عز يفتقر إليكم ، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها ، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر ، لبئس لعمرالله سُعْر نار الحرب أنتم تكادون ولا تكيدون ، وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون ، لايُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون .
أيها الناس : إن لي عليكم حقاً ولكم عليَّ حق . فأما حقكم عليَّ فالنصيحة لكم . وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا .
وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة ، والنصيحة في المشهد والمغيب . والإجابة حين أدعوكم . والطاعة حين آمركم ) . ( نهج البلاغة : 1 / 82 ) .
8 . ومن كلام له ( عليه السلام ) : ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أني لم أردَّ على الله ولا على رسوله ساعة قط . ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وتتأخر فيها الأقدام ، نجدةً أكرمني الله بها . ولقد قبض رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وإن رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي . ولقد وليت غسله ( ( عليهما السلام ) ) والملائكة أعواني ، فضجت الدار والأفنية ملأٌ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم ، يُصلون عليه حتى واريناه في ضريحه . فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً ؟ فانفذوا على بصائركم ، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم ، فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق ، وإنهم لعلى مزلة الباطل . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ) . ( نهج البلاغة : 2 / 171 ) .
9 . ومن خطبة له ( عليه السلام ) : ( ولئن أمهل الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، وبموضع الشجى من مساغ ريقه ! أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ليس لأنهم أولى بالحق منكم ، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقي ! ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي ! إستنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا . أشهودٌ كغُيَّاب ، وعبيد كأرباب ؟ أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها ، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر القول حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ، ترجعون
--------------------------- 17 ---------------------------
إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم ! أقومكم غدوة وترجعون إلي عشية كظهر الحية ، عجز المقوم وأعضل المقوم ! أيها الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم . صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ! لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم .
يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين : صم ذووا أسماع ، وبكم ذووا كلام ، وعمي ذووا أبصار . لا أحرار صدق عند اللقاء ولاإخوان ثقة عند البلاء . تربت أيديكم ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلما جمعت من جانب تفرقت من جانب آخر ! وإني لعلى بينة من ربي ، ومنهاج من نبيي ، وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً . أنظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى . فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا . لقد رأيت أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) فما أرى أحداً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً ، وقد باتوا سجداً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم . إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجريوم الريح العاصف ، خوفاً من العقاب ورجاء للثواب ) . ( نهج البلاغة : 1 / 187 ) .
10 . ومن كلام له ( عليه السلام ) يحثُّ فيه أصحابه على الجهاد : ( والله مستأديكم شكره ومورثكم أمره ، وممهلكم في مضمار محدود ، لتتنازعوا سبقه ، فشدوا عقد المآزر ، واطووا فضول الخواصر ، ولا تجتمع عزيمة ووليمة ! ما أنقض النوم لعزائم اليوم ، وأمحى الظلم لتذاكير الهمم ) . ( نهج البلاغة : 2 / 233 ) .
11 . آخرخطبة خطبها ( عليه السلام ) يحث فيها على الجهاد ويدعوهم للعودة إلى صفين : قال نوف البكالي : خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، وعليه مدرعة من صوف ، وحمائل
--------------------------- 18 ---------------------------
سيفه ليف ، وفي رجليه نعلان من ليف ، وكأن جبينه ثفنة بعير ، فقال ( عليه السلام ) :
الحمد الله الذي إليه مصائر الخلق ، وعواقب الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ونير برهانه ، ونوامي فضله وامتنانه ، حمداً يكون لحقه قضاءً ولشكره أداءً ، وإلى ثوابه مقرباً ولحسن مزيده موجباً .
ونستعين به استعانة راجٍ لفضله ، مؤملٍ لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطول ، مذعن له بالعمل والقول . ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً ، وأناب إليه مؤمناً ، وخنع له مذعناً ، وأخلص له موحداً ، وعظمه ممجداً ، ولاذ به راغباً مجتهداً .
لم يلد سبحانه فيكون في العز مشاركاً ، ولم يولد فيكون موروثاً هالكاً ، ولم يتقدمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم ، فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد ، قائمات بلا سند ، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكئات ولا مبطئات ، ولولا إقرارهن له بالربوبية وإذعانهن بالطواعية لما جعلهن موضعاً لعرشه ، ولا مسكناً لملائكته ، ولا مصعداً للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه . جعل نجومها أعلاماً يستدل بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن ترد ما شاع في السماوات من تلألؤ نور القمر . فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، ولا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات ، ولا في يفاع السفع المتجاورات ، وما يتجلجل به الرعد في أفق السماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء ، ويعلم مسقط القطرة ومقرها ، ومسحب الذرة ومجرها ، وما يكفي البعوضة من قواتها ، وما تحمل الأنثى في بطنها . الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جان أو إنس . لا يدرك بوهم ، ولا يقدر بفهم . ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل ولا يبصر بعين ، ولا يحد بأين ، ولا يوصف بالأزواج ، ولا يخلق بعلاج . ولا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس . الذي كلم موسى تكليماً ، وأراه من آياته عظيماً . بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات ،
--------------------------- 19 ---------------------------
بل إن كنت صادقاً أيها المتكلف لوصف ربك فصف جبرائيل وميكائيل وجنود الملائكة المقربين في حجرات القدس مرجحنين ، متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين . فإنما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء ، فلا إله إلا هو ، أضاء بنوره كل ظلام ، وأظلم بظلمته كل نور .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش ، وأسبغ عليكم المعاش . ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلماً ، أو إلى دفع الموت سبيلاً ، لكان ذلك سليمان بن داود ( عليه السلام ) الذي سخر له ملك الجن والإنس ، مع النبوة وعظيم الزلفة ، فلما استوفى طعمته ، واستكمل مدته ، رمته قسي الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية ، والمساكن معطلة ، وورثها قوم آخرون .
وإن لكم في القرون السالفة لعبرة . أين العمالقة وأبناء العمالقة ، أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ، أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفؤوا سنن المرسلين ، وأحيوا سنن الجبارين ، وأين الذين ساروا بالجيوش ، وهزموا الألوف ، وعسكروا العساكر ، ومدنوا المدائن .
( منها في وصف المهدي ( عليه السلام ) ) : قد لبس للحكمة جنتها ، وأخذها بجميع أدبها من الإقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها ، وهي عند نفسه ضالته التي يطلبها ، وحاجته التي يسأل عنها ، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، وضرب بعسيب ذنبه ، وألصق الأرض بجرانه . بقيةٌ من بقايا حججه ، خليفة من خلائف أنبيائه .
ثم قال ( عليه السلام ) : أيها الناس : إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء ( عليهم السلام ) بها أممهم . وأديت إليكم ما أدت الأوصياء ( عليهم السلام ) إلى من بعدهم . وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا ، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا . لله أنتم ! أتتوقعون إماماً غيرى يطأ بكم الطريق ، ويرشدكم السبيل ؟ ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً ، وأقبل منها ما كان مدبراً ، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار ، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثيرمن الآخرة لا يفنى .
ما ضرَّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين ، أن لا يكونوا اليوم أحياء ؟
--------------------------- 20 ---------------------------
يسيغون الغصص ويشربون الرنق ، قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم ، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم . أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ؟
أين عمار ، وأين ابن التيهان ، وأين ذو الشهادتين ، وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية ، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة .
( ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثم قال ( عليه السلام ) : أوهٍ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنة وأماتوا البدعة ، دُعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتبعوه .
ثم نادى بأعلى صوته : الجهاد الجهاد عباد الله . ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى الله ، فليخرج .
قال نوف : وعقد للحسين ( عليه السلام ) في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد ( رحمه الله ) في عشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم ، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كل مكان ) !

تثبيط الأشعث ساعد على تثاقل الناس !

تثبيط الأشعث ساعد على تثاقل الناس !
كتبنا في ترجمة الأشعث أنه كان رأس المنافقين ، والعدو الأول للإمام ( عليه السلام ) في عصره ، وقد بلغت وقاحته أنه طلب من الإمام ( عليه السلام ) أن يسكت كما سكت عثمان ! روى المفيد في الأمالي / 145 ، عن جندب بن عبد الله الأزدي ، ورواه ابن قتيبة ( الإمامة والسياسة : 1 / 128 ) بتفصيل ، قال : ( ولما أراد علي الانصراف من النهروان ، قام خطيباً فحمد الله ثم قال : أما بعد فإن الله قد أحسن بلاءكم ، وأعز نصركم ، فتوجهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . فقالوا ( والقائل الأشعث ) : يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا ، وكلت أذرعنا ، وتقطعت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، فارجع بنا نحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة ، فإن ذلك أقوى لنا على عدونا .
فأقبل عليٌّ بالناس حتى نزل بالنخيلة ، فعسكر بها وأمرالناس أن يلزموا معه
--------------------------- 21 ---------------------------
عسكرهم ، ويوطنوا أنفسهم على الجهاد ، وأن يقلوا من زيارة أبنائهم ونسائهم ، حتى يسيروا إلى عدوهم من أهل الشام ، فأقاموا معه أياماً ، ثم رجعوا يتسللون ويدخلون الكوفة ، ويتلذذون بنسائهم وأبنائهم ولذاتهم ، حتى تركوا علياً وما معه إلا نفرمن وجوه الناس يسيروتُرك العسكر خالياً .
فقام علي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله ، ودرك الوسيلة عنده ، فأعدوا له ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، وتوكلوا على الله ، وكفى به وكيلاً ، ثم تركهم أياماً ، ودعا رؤساءهم ووجوههم ، فسألهم عن رأيهم ، وما الذي ثبطهم ؟ فمنهم المعتل ومنهم المتكره ، وأقلهم من نشط ، فقال لهم علي : عباد الله ، مالكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلاً ، ورضيتم بالذل والهوان من العز خلفاً ، كلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم ، كأنكم من الموت في سكرة ، وكانت قلوبكم قاسية ، فأنتم لا تعقلون ، وكأن أبصاركم كُمْهٌ فأنتم لاتبصرون ! لله أنتم ، ما أنتم إلا أسود رواعة ، وثعالب رواغة عند البأس ، تُكادون ولا تكيدون وتنتقص أطرافكم فلا تحاشون ، وأنتم في غفلة ساهون : إن أخا الحرب ليقظان .
أما بعد فإن لي عليكم حقاً ، ولكم علي حق . . فإن يرد الله بكم خيراً تنزعوا عما أكره ، وترجعوا إلى ما أحب ، تنالوا بذلك ما تحبون ، وتدركوا ما تأملون .
أيها الناس : المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ، كلامكم يوهي الصم ، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم ، إذا أمرتكم بالمسير قلتم كيت وكيت ، أعاليل بأضاليل ، هيهات ، لا يدرك الحق إلا بالجد والصبر ، أيَّ دار بعد داركم تمنعون ؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ! أصبحت لا أطمع في نصرتكم ، ولا أصدق قولكم ، فرق الله بيني وبينكم ، وأعقبني بكم من هو خير لي ، وأعقبكم بعدي من هو شرلكم مني ، أما إنكم
--------------------------- 22 ---------------------------
ستلقون بعدي ذلاً شاملاً وسيفاً قاتلاً ، وأثرةً يتخذها الظالمون بعدي عليكم سنة تفرق جماعتكم ، وتُبكي عيونكم ، وتدخل الفقر بيوتكم . تمنون والله عندها أن لو رأيتموني ونصرتموني ! وستعرفون ما أقول لكم عما قليل !
إستنفرتكم فلم تنفروا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، وأسمعتكم فلم تعوا ، فأنتم شهود كأغياب ، وصم ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة ، وأعظكم بالموعظة النافعة ، وأحثكم على جهاد المحلين ، الظلمة الباغين ، فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين ، إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقاً عزين ، تضربون الأمثال ، وتناشدون الأشعار ، تربت أيديكم ، وقد نسيتم الحرب واستعدادها ، وأصبحت قلوبكم فارغة عن ذكرها ، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل ! فقام إليه الأشعث بن قيس الكندي فقال : يا أمير المؤمنين فهلا فعلت كما فعل عثمان ؟
قال له علي : ويلك وما فعل عثمان ، رأيتني عائذاً بالله من شرما تقول ، والله إن الذي فعل عثمان لمخزاةٌ على من لا دين له ، ولا حجة معه ، فكيف وأنا على بينة من ربي ، والحق معي ، والله إن امرأ أمكن عدوه من نفسه ، فنهش عظمه وسفك دمه ، لعظيم عجزه ، ضعيف قلبه !
أنت يا ابن قيس فكن ذلك ، فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفي يطير له فراش الرأس ، وتطيح منه الأكف والمعاصم ، وتجدُّ به الغلاصم ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .
والله يا أهل العراق ، ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشام إلاظاهرين عليكم ! فقالوا : أبعلم تقول ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : نعم ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إني أرى أمورهم قد علت ، وأرى أموركم قد خبت ، وأراهم جادين في باطلهم ، وأراكم وانين في حقكم ، وأراهم مجتمعين وأراكم متفرقين ، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين ، وأراكم لي عاصين !
أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي لتجدنهم أرباب سوء ، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم ، وحملوا إلى بلادهم منكم ، وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش
--------------------------- 23 ---------------------------
الضباب ، لا تأخذون لله حقاً ، ولا تمنعون له حرمة ، وكأني أنظر إليهم يقتلون صلحاءكم ، ويخيفون علماءكم ، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم ، ويدينون الناس دونكم فلو قد رأيتم الحرمان ، ولقيتم الذل والهوان ، ووقع السيف ونزل الخوف ، لندمتم وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم ، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية ، حين لا ينفعكم التذكار .
فقال الناس : قد علمنا يا أمير المؤمنين أن قولك كله وجميع لفظك يكون حقاً ، أترى معاوية يكون علينا أميراً ؟
فقال : لا تكرهوا إمرة معاوية ، فإن إمرته سلم وعافية ، فلو قد مات رأيتم الرؤوس تندر عن كهولها كأنها الحنظل ، وعداً كان مفعولاً ، فأما إمرة معاوية فلست أخاف عليكم شرها ، ما بعدها أدهى وأمر !
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال : إن أمير المؤمنين أكرمه الله قد أسمع من كانت له أذن واعية وقلب حفيظ ، إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها ، حيث نزل بين أظهركم ابن عم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وخيرالمسلمين وأفضلهم وسيدهم بعده ، يفقهكم في الدين ، ويدعوكم إلى جهاد المحلين فوالله لكأنكم صم لا تسمعون ، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون ! عباد الله ، أليس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس ، وقد شمل العباد ، وشاع في الإسلام ، فذو حق محروم ، ومشتوم عرضه ، ومضروب ظهره ، وملطوم وجهه ، وموطوء بطنه ، وملقى بالعراء ، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحق ونشرالعدل وعمل بالكتاب ، فاشكروا نعمة الله عليكم ، ولاتتولوا مجرمين ، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ! إشحذوا السيوف ، وجددوا آلة الحرب ، واستعدوا للجهاد ، فإذا دعيتم فأجيبوا ، وإذا أمرتم فأطيعوا تكونوا بذلك من الصادقين .
قال : ثم قام رجال من أصحاب علي فقالوا : يا أمير المؤمنين أعط هؤلاء هذه الأموال ، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي ، ممن يتخوف خلافه على الناس وفراقه . وإنما قالوا له هذا الذي كان معاوية يصنعه بمن أتاه ،
--------------------------- 24 ---------------------------
وإنما عامة الناس همهم الدنيا ولها يسعون وفيها يكدحون ، فأعط هؤلاء الأشراف فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من القسم .
فقال علي : أتأمروني أن أطلب النصربالجور فيمن وليت عليه من الإسلام ؟ فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم ، والله لو كان لهم مال لسويت بينهم فكيف وإنما هي أموالكم ! والله لقد أحببت أن يدال هؤلاء القوم عليكم بإصلاحهم في أرضهم ، وفسادكم في أرضكم ، وأدائهم الأمانة لمعاوية وخيانتكم ، وبطاعتهم له ومعصيتكم لي ، واجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم !
وأيم الله لا يدعون بعدي محرماً إلا استحلوه ، ولا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا أدخلوه ظلمهم ، حتى يقوم الباكيان منكم : باكٍ لدينه وباك لدنياه ، وحتى تكون نصرة أحدكم كنصرة العبدلسيده : إذا شهد أطاعه وإذا غاب سبه . فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، أتظن ذلك كائناً ؟ قال : ما هو بالظن ولكنه اليقين ) !
ورواه سليم / 213 ، بفروق ، وفيه : ( ويلك يا ابن قيس ! المؤمن يموت بكل موتة غيرأنه لا يقتل نفسه ، فمن قدر على حقن دمه ، ثم خلى بينه وبين قاتله فهوقاتل نفسه ! ويلك يا ابن قيس ! إن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة فرقة واحدة منها في الجنة واثنتان وسبعون في النار ، وشرها وأبغضها إلى الله وأبعدها منه السامرة الذين يقولون : لاقتال وكذبوا ، قد أمر الله عز وجل بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ، وكذلك المارقة .
وفي رواية : فقال الأشعث : فما يمنعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو تيم وأخوعدي وأخو بني أمية بعدهما ، أن تقاتل وتضرب بسيفك ؟
فقال له علي ( عليه السلام ) : يا ابن قيس ، قلت فاسمع الجواب : لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية لقاء ربي ، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها ، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعهده إلي !
أخبرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بما الأمة صانعة بي بعده ، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أشد يقيناً مني بما
--------------------------- 25 ---------------------------
عاينت وشهدت ! فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إلي إذا كان ذلك ؟ قال ( ( عليهما السلام ) ) : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعوانا . وأخبرني ( ( عليهما السلام ) ) أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري ، وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه ، والعجل ومن تبعه ) !
ولم يكتف الأشعث بمؤامرته في صفين ولا بتثبيطه الناس عن الجهاد بعدها ، بل عمل لقتل الإمام ( عليه السلام ) مع معاوية والخوارج ، فكان محور تآمرهم ، كما يأتي .

صحوة في أهل الكوفة قبيل شهادةالإمام ( ( ع ) )

صحوة في أهل الكوفة قبيل شهادةالإمام ( ( ع ) )
قال في الغارات ( 2 / 636 ) : ( عن أبي عبد الرحمن السلمي : أن الناس تلاقوا وتلاوموا ومشت الشيعة بعضها إلى بعض ، ولقي أشراف الناس بعضهم بعضاً ) .
وقال البلاذري ( 2 / 477 ) وما بين المعقوفين من رواية الثقفي : ( قالوا : لما استنفرعلي أهل الكوفة فتثاقلوا وتباطؤوا ، عاتبهم ووبخهم ، فلما تبين منهم العجزوخشي منهم التمام على الخذلان ، جمع أشراف أهل الكوفة ودعا شيعته الذين يثق بمناصحتهم وطاعتهم ، فخطبهم فقال :
الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) . أما بعد أيها الناس ، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردّكم عنها ، ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها ، فتوثب عليّ متوثبون ، كفى الله مؤنتهم وصرعهم لخدودهم ، وأتعس جدودهم ، وجعل دائرة السوء عليهم ، وبقيت طائفة تحدث في الإسلام أحداثاً ، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق ، ليست بأهل لما ادعت ، وهم إذا قيل لهم تقدموا قدماً تقدموا ، وإذا قيل لهم أقبلوا أقبلوا ، لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل ، ولايبطلون الباطل كإبطالهم الحق . أما إني قد سئمت من عتابكم وخطابكم فبينوا لي ما أنتم فاعلون ، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وأحب ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرى رأيي .
فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا
--------------------------- 26 ---------------------------
وبينهم وهو خير الحاكمين لأدعونّ الله عليكم ، ثم لأسيرنّ إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة ! أأجلاف أهل الشام وأعرابها أصبر على نصرة الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم ؟ ما بالكم ، ما دواؤكم ؟ إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة .
فقام إليه سعيد بن قيس الهمداني فقال : يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك ، والله ما يكبر جزعنا على عشائرنا إن هلكت ، ولا على أموالنا إن نفدت في طاعتك ومؤازرتك [ والله لو أمرتنا بالمسير إلى قسطنطينية ورومية مشاة حفاة على غير عطاء ولا قوة ، ما خالفتك أنا ولا رجل من قومي . [ قال : فصدقتم جزاكم الله خيراً ] .
وقام إليه زياد بن خصفة فقال : يا أمير المؤمنين أنت والله أحق من استقامت له طاعتنا ، وحسنت مناصحتنا ، وهل ندخر طاعتنا بعدك لأحد مثلك ، مرني بما أحببت مما تمتحن به طاعتي [ نحن شيعتك يا أمير المؤمنين التي لا نعصيك ولا نخالفك فقال : أجل أنتم كذلك ، فتجهزوا إلى غزو الشام ] .
وقام إليه سويد بن الحرث التيمي من تيم الرباب فقال : يا أمير المؤمنين مر الرؤساء من شيعتك فليجمع كل امرئ منهم أصحابه فيحثهم على الخروج معك ، وليقرأ عليهم القرآن ، ويخوفهم عواقب الغدر والعصيان ، ويضم إليه من أطاعه وليأخذهم بالشخوص .
فلقي الناس بعضهم بعضاً وتعاذلوا وتلاوموا ، وذكروا ما يخافون من استجابة دعائه عليهم إن دعا ، فأجمع رأي الناس على الخروج . وبايع حجر بن عدي أربعة آلاف من الشيعة على الموت ، وبايع زياد بن خصفة البكري نحو من ألفي رجل ، وبايع معقل بن قيس نحو من ألفي رجل ، وبايع عبد الله بن وهب السمني ( كذا ) نحو من ألف رجل .
وأتى زياد بن خصفة علياً فقال له : أرى الناس مجتمعين على المسيرمعك ، فأحمد الله يا أمير المؤمنين ، فحمد الله ثم قال : ألا تدلوني على رجل حسيب صليب يحشر الناس علينا من السواد ونواحيه ، فقال سعيد بن قيس : أنا والله أدلك عليه : معقل بن قيس الحنظلي ، فهو الحسيب الصليب الذي قد جربته وبلوته ، وعرفناه وعرفته !
--------------------------- 27 ---------------------------
فدعاه علي وأمره بتعجيل الخروج لحشر الناس ، فإن الناس قد انقادوا للخروج . ثم قال زياد بن خصفة : يا أمير المؤمنين قد اجتمع لي من قد اجتمع فأذن لي أن أخرج بأهل القوة منهم ، ثم ألزم بشاطئ الفرات حتى أغير على جانب من الشام وأرضها ، ثم أعجل الانصراف قبل وقت الشخوص واجتماع من بعث أمير المؤمنين في حشره ، فإن ذلك مما يرهبهم ويهدهم . قال : فامض على بركة الله ، فلا تظلمن أحداً ، ولا تقاتلن إلا من قاتلك ، ولا تعرضن للأعراب .
فأخذ زياد على شاطئ الفرات فأغار على نواحي الشام ، ثم انصرف .
ووجه معاوية عبد الرحمان بن خالد بن الوليد في طلبه ففاته ، وقدم زياد هيت فأقام بها ينتظر قدوم علي . وخرج معقل لما وجه له ، فلما صار بالدسكرة بلغه أن الأكراد قد أغارت على شهر زور ، فخرج في آثارهم فلحقهم حتى دخل الجبل فانصرف عنهم ، ثم لما فرغ من حشر الناس وأقبل راجعاً ، فصار إلى المدائن بلغه نعي علي ( عليه السلام ) ، فسار حتى دخل الكوفة ورجع زياد من هيت .
عن عوانة بن الحكم قال : خطب علي الناس ودعاهم إلى الخفوق إلى غزو أهل الشام ، وأمرالحرث الأعور بالنداء فيهم فلم يوافه إلا نحو من ثلاث مأة ، فخطبهم ووبخهم فاستحيوا ، فاجتمع منهم ألوف فتعاقدوا على الشخوص معه وأجمع رأيهم على الإقامة شتوتهم ثم الخروج في الفصل ، فإنهم على ذلك إذا أصيب علي ( عليه السلام ) .
وقال أبو مسعود : قال عوانة : قال عمرو بن العاص حين بلغه ما عليه عليّ من الشخوص إلى الشام وأن أهل الكوفة قد انقادوا له :
لا تحسبني يا عليّ غافلا * لأوردن الكوفة القبائلا

  • ستين ألفاً فارساً وراجلا ) .
    أقول : هذه أفضل استجابة روتها المصادر ، ومعناها أن هدف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الأول كان مواصلة الجهاد على تأويل القرآن ، والقضاء على رأس المحرفين !
  • *
    --------------------------- 28 ---------------------------

الفصل السابع والثمانون: غزو معاوية لمصر

1 . تفضيل النبي ؟ ص ؟ مصر على غيرها

روى البخاري ( 4 / 98 ) عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) تفضيل أهل اليمن على أهل نجد ، قال : « الإيمان يمانٍ . ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين ، عند أصول أذناب الإبل ، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر » .
كما فضل رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مصرعلى غيرها ، فقد روى الحاكم ( 4 / 448 ) : « عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه ، عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال : ستكون فتنة أسلم الناس فيها ، أو قال لخير الناس فيها الجند الغربي . فلذلك قدمت مصر . هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه » . والطبراني في المعجم الأوسط : 8 / 315 ، والكبير : 8 / 315 ، والبخاري الكبير : 6 / 313 ، ومجمع الزوائد : 5 / 281 ، وغيرها .
وقال السيوطي في شرح مسلم : 4 / 513 : « روى الطبراني والحاكم وصححه وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في مسند الصحابة الذين دخلوا مصر ، وزاد فيه : وأنتم الجند الغربي ، فهذه منقبة لمصر في صدر الملة ، واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة ، لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار ، وما زالت معدن العلم والدين ، ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال ، ولابلد الآن في سائرالأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيه من شعائر الدين ما هو ظاهر في مصر » .
أقول : تفسير عمرو بن الحمق للجند الغربي بمصر بقوله : « ولذلك قدمت عليكم مصر » حجةٌ ، لأنه تفسيرصحابيٍّ عاصرصدور النص . ومعنى الحمِق : خفيف اللحية ، وهو صحابي جليل يشبه أويساً القرني رضي الله عنهما ، أخبرعنه النبي ( ( عليهما السلام ) ) قبل أن يسلم ، وبعث اليه سلامه
--------------------------- 29 ---------------------------
فأسلم وجاء إلى النبي ( ( عليهما السلام ) ) . وحديثه في تفضيل مصر على الشام لم يعجبهم ! فتبنوا تفضيل كعب للشام على العالمين !
وقد استوفى السيوطي في كتابه : ( حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ) الأحاديث النبوية في فضل مصر ، وأشهرها حديث مسلم ( 7 / 190 ) عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : « قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط ، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها ، فإن لهم ذمة ورحماً » .
ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ( 11 / 101 ) عن أم سلمة : « الله في القبط ، فإنكم ستظهرون عليهم ، ويكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله » .

2 . تفضيل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) مصر على بلاد الشام

2 . تفضيل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) مصر على بلاد الشام
روى الثقفي في الغارات : 1 / 288 ، وهومعاصر للطبري وأوثق منه ، عن جندب بن عبد الله قال : « والله إني لعند عليٍّ ( عليه السلام ) جالس ، إذ جاءه عبد الله بن قعين جد كعب يستصرخ من قبل محمد بن أبي بكر ، وهو يومئذ أميرعلى مصر ، فقام علي فنادى في الناس : الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر ، وقد سار إليهم ابن النابغة عدو الله وعدوكم ، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت ، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم ، فكأنكم بهم قد بدؤوكم وإخوانكم بالغزو ، فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر . عباد الله إن مصر أعظم من الشام خيراً ، وخير أهلاً ، فلا تُغلبوا على مصر ، فإن بقاء مصر في أيديكم عزٌّ لكم ، وكبت لعدوكم . أخرجوا إلى الجرعة ( بين الكوفة والحيرة ) لنتوافى هناك كلنا غداً ، إن شاء الله » .
أي أن مصر خير للمسلمين بمواردها الاقتصادية ، وشعبها خير من أهل الشام .
--------------------------- 30 ---------------------------

3 . مدح نهر النيل

3 . مدح نهر النيل
في كامل الزيارات / 111 : بسند صحيح عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) قال : « نهران مؤمنان ، ونهران كافران ، نهران كافران : نهر بلخ ، ودجلة . والمؤمنان : نيل مصر ، والفرات ، فحنكوا أولادكم بماء الفرات » .
وفي الخصال / 291 ، قال الصادق ( عليه السلام ) : « إن جبرئيل كرى برجله خمسة أنهار ولسان الماء يتبعه : الفرات ، والدجلة ، ونيل مصر ، ومهران ، ونهر بلخ » .

4 . فتحت مصر بدون قتال

4 . فتحت مصر بدون قتال
وثقنا في كتاب « قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية » أن المصريين طلبوا من ملكهم المقوقس أن يعقد اتفاقية مع المسلمين ، بعد أن هزموا الروم في فلسطين وسوريا ، وانسحب هرقل إلى القسطنطينية ، وسحب قواته من الشام ومصر . فدخل عمرو العاص إلى مصر في جيش صغير ، واستقبله ملكها المقوقس ووقَّع معه عهد الصلح على أن يدفع عن كل مصري دينارين سنوياً ، ويدفع مبلغاً فعلاً . وقد تم ذلك بدون ضربة سيف ولاسوط ، وحكم المسلمون مصر بدل الروم ، وأخذوا يأتون إليها للسكنى ، وأسلم قسم من أهلها .
قال المؤرخ المصري القرشي المتوفى 257 ه - . في كتابه فتوح مصر / 131 ، ونحوه اليعقوبي ( 2 / 147 ) : « قال : يا أمير المؤمنين إئذن لي أن أسير إلى مصر ، وحرضه عليها وقال : إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعوناً لهم ، وهي أكثرالأرض أموالاً ، وأعجزها عن القتال والحرب . فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين وكره ذلك ، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها ، حتى ركن عمر لذلك ، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عكّ ويقال بل ثلاثة آلاف وخمسمائة » .
وقال القرشي في فتوح مصر / 152 : « وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتاباً يعلمه على وجه الأمر كله ، فكتب إليه ملك الروم يُقَبِّحُ رأيه ويُعَجِّزُه ويَرُدُّ عليه ما فعل ، ويقول في كتابه إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفاً وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا
--------------------------- 31 ---------------------------
يحصى ، فإن كان القبط كرهوا القتال ، وأحبوا أداء الجزية إلى العرب ، واختاروهم علينا ، فإن عندك من بمصر من الروم ، وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف ، معهم السلاح والعدة والقوة ، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت ، فعجزت عن قتالهم ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم والقبط أذلاء ! ألا تقاتلهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظهر عليهم ، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم ، كأكْلة !
وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتاباً إلى جماعة الروم ! فقال المقوقس لما أتاه كتاب ملك الروم : والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا ، وإن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا ، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل ، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ولا ولده ، ويرون أن لهم أجراً عظيماً فيمن قتلوه منا ، ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة وليس لهم رغبة في الدنيا ، ولا لذة إلا على قدر بلغة العيش من الطعام واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها ، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء ، وكيف صبرنا معهم !
واعلموا معشر الروم والله إني لا أخرج مما دخلت فيه ، ولا مما صالحت العرب عليه ، وإني لأعلم أنكم سترجعون غداً إلى رأيي وقولي ، وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني ! وذلك أني قد عاينت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره . ويْحكم ! أمايرضى أحدكم أن يكون آمناً في دهره على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة ! ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له : إن الملك قد كره ما فعلتُ وعجَّزني ، وكتب إليَّ وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتكم ، وأمرهم بقتالكم حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ! ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه ، وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني ، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم ، ولم يأت من قبلهم نقض ، وأنا متم لك على نفسي ، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم ) . ونهاية الإرب : 19 / 301 .
--------------------------- 32 ---------------------------
أقول : إن أي عاقل يقرأ هذه الحقائق ، يرفض ما ادعاه عمرو العاص ورواة السلطة بعد ذلك ، من معارك مخترعة في فتح مصر ! والعجب من بعض الباحثين كيف يخالف عقله ، فيسرد معارك وبطولات مزعومة لعمرو العاص ، مصدقاً بأنها وقعت في فتح مصر مع القبط أو الروم ، مع أنه يروي ما ينفيها !

  • *

5 . أول حركة محاسبة للخلافة كانت مصرية

5 . أول حركة محاسبة للخلافة كانت مصرية
وفى المصريون بمعاهدتهم مع المسلمين ، لكنهم كانوا أول من طالب عمر بتطبيق القرآن ، وهذا يدل على أنهم قرؤوا القرآن وتدبروه ، ونظروا في سياسة عمر وعماله ، فرأوا أن أكثر القرآن لا يطبق ، فذهبوا اليه يطالبونه بتطبيقه لكن عمر أحبط مسعاهم وهددهم ! فقد روى السيوطي في الدر المنثور ( 2 / 145 ) والطبري في تفسيره ( 5 / 63 ) وابن كثير في تفسيره ( 4 / 497 ) وكنز العمال ( 2 / 330 ) : « أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصرفقالوا : نرى أشياء من كتاب الله أمَر أن يُعمل بها لايُعمل بها ! فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه فلقي عمرفقال : يا أمير المؤمنين أن ناساً لقوني بمصرفقالوا إنا نرى أشياء من كتاب الله أمرأن يعمل بها لا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال : إجمعهم لي . قال : فجمعتهم له فأخذ أدناهم رجُلاً فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ قال : اللهم لا . قال : ولو قال نعم لخصمه . قال : فهل أحصيته في بصرك ، هل أحصيته في لفظك ، هل أحصيته في أثرك ؟ قال : ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمرأمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ! قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات قال : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ . هل عَلِم أهل المدينة ، أو قال هل علم أحدٌ ، بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم » !
ومعناه أنهم سألوه عن آيات فيها أوامر إلهية إدارية وسياسية ومالية واجتماعية ، لا يرون تطبيقها في دولته ! فهاجمهم بالجواب بأن القرآن عظيم لا يمكن لأحد أن يطبقه ! لأنه لا يمكنه أن يحصي كلماته وحروفه فيراها كلها دفعة واحدة ، أو يستحضرها في ذهنه دفعة
--------------------------- 33 ---------------------------
واحدة وكل دستور لا يرى الحاكم سطوره وكلماته حروفه دفعة واحدة ، يسقط عنه تطبيقه ! ويكفي أن يطبق عضه ! ثم هددهم إن انتقدوه ! فخاف الوفد المصري وجمعوا متاعهم وعادوا إلى مصرمبهوتين !

6 . مصر في عهد عثمان

6 . مصر في عهد عثمان
كان والي مصر في زمن عمر بن الخطاب عمرو العاص ، فعزله عثمان وعين أخاه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح ، ونقم منه أهل مصر سوء سيرته ، وأحبوا محمد بن أبي بكر الذي كان يتردد إليها مع صديقه محمد بن أبي حذيفة الأموي رضي الله عنهما ، وقد شاركا في فتح إفريقيا الذي انطلق من مصر ، ولما هاجم الروم مصركان المحمدان القائدين الميدانيين في معركة ذات الصواري البحرية ، وسخر الله للمسلمىن الريح فانهزم الروم .
وقد روينا في ابن أبي سرح ( الكافي : 8 / 201 ) أنه كان يكتب لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فإذا أنزل الله عز وجل : إن الله عزيز حكيم . كتب : إن الله عليم حكيم » !
وروى أبو داود ( 2 / 328 ) والنسائي ( 7 / 107 ) أنه كفر وهرب فهدر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) دمه !
وذكرنا أن وفد المصريين إلى عثمان طالبوا أن يولي عليهم محمد بن أبي بكر ، ثم تصاعد اعتراضهم فبايعوا ابن أبي حذيفة ، وطردوا والي عثمان ! ( الطبري : 3 / 548 )
وكتبوا رسالة إلى عثمان ( تاريخ المدينة : 3 / 1120 ) يحذرونه أن يسلط أقاربه على رقاب المسلمين ، فلم ينفع نصحهم فجاءوا وفداً في سبع مئة مقاتل وفاوضوه ، وحاصروه . قال ابن حجر في الإصابة ( 6 / 10 ) : « ثم جهزابن أبي حذيفةالذين ثاروا على عثمان وحاصروه إلى أن كان من قتله ما كان » .

7 . هتف المصريون وأهل المدينة باسم علي ( ( ع ) )

7 . هتف المصريون وأهل المدينة باسم علي ( ( ع ) )
جاء علي إلى المدينة فوجد عثمان قد قتل : « وجاء الناس كلهم يهرعون إلى عليٍّ ( عليه السلام ) حتى دخلوا عليه داره فقالوا له : نبايعك فمُدَّ يدك فلا بد من أمير . فقال علي :
--------------------------- 34 ---------------------------
ليس ذلك إليكم ، إنما ذلك لأهل بدر ، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة ، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً فقالوا : ما نرى أحداً أحق بها منك ، مد يدك نبايعك فقال : أين طلحة والزبير ؟ فكان أول من بايعه طلحة بلسانه وسعد بيده ، فلما رأى ذلك علي خرج إلى المسجد فصعد المنبر فكان أول من صعد إليه طلحة فبايعه بيده ، ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب النبي ( ( عليهما السلام ) ) .

تولية قيس بن سعد بن عبادة على مصر

تولية قيس بن سعد بن عبادة على مصر
1 . بعث علي ( عليه السلام ) قيس بن سعد بن عبادة والياً على مصرفبايعه أهلها ، إلا جماعة متعصبة لعثمان ، فأمره الإمام ( عليه السلام ) أن يُلزمهم بالطاعة أويقاتلهم ، لكن قيساً ارتكب خطأ قاتلاً فأطلق سراح شخصين سفَّاكين للدماء : معاوية بن حديج السكوني وبُسر بن أبي أرطاة ، كان محمد بن أبي حذيفة ( رحمه الله ) حبسهما لئلا يفسدا مصر
( تاريخ دمشق : 39 / 423 ) فأطلقهما قيس ، فجعلا قرية خَرَبْتَا قاعدة أموية ! ثم أمدهم معاوية فتكاثروا وقووا ، فعزل الإمام قيساً ، وولى مكانه محمد بن أبي بكر . فقد تصور قيس أنه بسكوته عنهما كف عدواً ، لكن شيطنة معاوية الأموية غلبت سذاجته الأنصارية ، وحاول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يفهِّم قيساً ، لكنه أصرَّ على موقفه ، ثم ندم قيس لما ثاروا على خلفه محمد بن أبي بكر وقتلوه ، كما قتلوا مالك الأشتر ، الذي سارع لنجدة مصر ، قتلوه غيلة ثم حاربوا محمد بن أبي بكر وقتلوه ! فتسلط عمرو العاص والأمويون مجدداً على مصر .
قال الطبري : 3 / 553 : « فلما بلغ ذلك علياً اتهم قيساً ، وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا ، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم وكتب إلى علي إنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم وأهل الحفاظ منهم ، وقد رضوا مني أن أومن سربهم وأجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ، وقد علمت أن هواهم مع معاوية ، فلست مكايدهم بأمرأهون علي وعليك من الذي أفعل بهم ، ولو أني غزوتهم كانوا لي قرناً وهم أسود العرب ، ومنهم بسر بي أرطاة ومسلمة بن مخلد ومعاوية بن خديج ، فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم ! فأبى علي إلاقتالهم وأبى قيس أن يقاتلهم ، فكتب قيس إلى
--------------------------- 35 ---------------------------
علي إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك ، وابعث إليه غيري ! فبعث علي الأشتر أميراً إلى مصرحتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه ، فبلغ ذلك معاوية وعمرو بن العاص ، فقال عمرو بن العاص : إن لله جنوداً من عسل ) !
أقول : كان رأي علي ( عليه السلام ) هو الصحيح ولو أطاعه قيس لخلص مصرمن الوباء الأموي ، لكنه فوت الفرصة ووقع في خطأ قاتل غفر الله له !
2 . قالت رواية الطبري : إنه بعث محمد بن أبي بكر بعد وفاة الأشتر ، وهو اشتباهٌ لأن محمداً كان الوالي ، فأرسل الإمام ( عليه السلام ) الأشتر بدله فقتل قبل أن يتسلم عمله ! ففي الغارات ( 1 / 301 ) : « عن مالك بن الجون الحضرمي أن علياً ( عليه السلام ) قال : رحم الله محمداً كان غلاماً حدثاً ، أما والله لقد كنت أردت أن أولي المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مصر ، والله لو أنه وليها لما خلَّى لعمرو بن العاص وأعوانه العرصة ، ولما قُتل إلاوسيفه في يده ، بلا ذم لمحمد بن أبي بكر ، فلقد أجهد نفسه وقضى ما عليه . قال : فقيل لعلي ( عليه السلام ) : لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين . قال : وما يمنعني ؟ إنه كان لي ربيباً ، وكان لبنيَّ أخاً ، وكنت له والداً ، أعده ولداً » .
قد يقال : لماذا نصب محمد بن أبي بكرعلى مصر ، ولم يولِّ هاشم المرقال أو الأشتر ، وهو يعلم خطورة جماعة معاوية ؟ والجواب : أن أهل مصرطلبوا محمد بن أبي بكر ، وكان الإمام ( عليه السلام ) بحاجة إلى الأشتر والمرقال في حرب صفين . والأئمة ( عليهم السلام ) لا يفعلون إلا ما يؤمرون به من النبي ( ( عليهما السلام ) ) أو بإلهام الله لهم .
قال بريدة : « فوقعت في علي حتى فرغت ، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غضب غضباً لم أره غضب مثله ، فنظر إلي فقال : يا بريدة أحب علياً ، فإنما يفعل ما يؤمر به » .
( المعجم الأوسط : 5 / 117 ، وأحمد ) .
3 . كان قيس بن سعد بن عبادة وعامة الأنصار ، ثابتين في ولائهم لعلي ( عليه السلام ) وقد شاركوا معه بفعالية في حروبه ، ولم يشارك منهم مع معاوية إلا شخصان من صبيانهما العاديين : النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد !
--------------------------- 36 ---------------------------
وفي مقاتل الطالبيين / 47 : « ولما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد بن عبادة يدعوه إلى البيعة ، فلما أرادوا أن يدخلوه إليه قال : إني قد حلفت أن لا ألقاه إلا بيني وبينه الرمح أو السيف ! فأمر معاوية برمح أو سيف ، فوضع بينه وبينه ، ليبرَّ يمينه » !

رسائل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) إلى أهل مصر وواليهم

رسائل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) إلى أهل مصر وواليهم
كان الإمام ( عليه السلام ) حريصاً على أن يخاطب أهل مصر مباشرة ، فخاطبهم في عهوده لولاته ، وأرسل إليهم رسائل خاصة وأمر الوالي أن يقرأها عليهم .
قال الحارث بن كعب : كنت مع محمد بن أبي بكر حيث قدم مصرفلما أتاها قرأ عليهم عهده : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر ، أمره بتقوى الله في السر والعلانية ، وخوف الله في المغيب والمشهد ، وباللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذمة ، وبالإنصاف للمظلوم ، وبالشدة على الظالم ، وبالعفو عن الناس ، وبالإحسان ما استطاع ، والله يجزي المحسنين . وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة ، فإن لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه .
وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ، ولا ينتقص منه ولايبتدع فيه ، ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل . وأمره أن يلين لهم جناحه ، وأن يساوي بينهم في مجلسه ووجهه ، وليكن القريب والبعيد عنده في الحق سواء . وأمره أن يحكم بين الناس بالحق ، وأن يقوم بالقسط ، ولا يتبع الهوى ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، فإن الله مع من اتقاه وآثر طاعته على ما سواه ، والسلام .
وكتبه عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لغرة رمضان سنة ست وثلاثين
وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني / 176 ، ومنهاج البراعة للخوئي : 19 / 73 :
« لما ولَّى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب محمد بن أبي بكر مصروأعمالها كتب له كتاباً وأمره أن يقرأه على أهل مصرويعمل بما وصاه به ، فكان الكتاب :
بسم الله الرّحمن الرّحيم . من عبد الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى أهل
--------------------------- 37 ---------------------------
مصرومحمد بن أبي بكر : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلَّا هو ، أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون ، فإنّ الله تعالى يقول : كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، ويقول : ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَه وإِلَى الله الْمَصِيرُ . ويقول : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ .
واعلموا عباد الله أن الله عزَّ وجلَّ سائلكم عن الصغير من أعمالكم والكبير ، فإن يعذِّب فنحن أظلم ، وإن يعفُ فهو أرحم الرّاحمين .
يا عباد الله : إن أقرب ما يكون العبدإلى المغفرة والرحمة حين يعمل لله بطاعته وبنصحه في التوبة . عليكم بتقوى الله ، فإنها تجمع الخير ولا خير غيرها ، ويدرك بها من الخيرما لا يدرك بغيرها ، من خير الدنيا والآخرة قال الله عز وجل : وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِه الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ .
إعلموا يا عباد الله أن المؤمن يعمل من الثواب لثلاث : أما الخير فإن الله يثيبه بعمله في دنياه ، قال الله سبحانه لإبراهيم : وآتَيْناه أَجْرَه فِي الدُّنْيا وإِنَّه فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، فمن عمل لله تعالى أعطاه أجره في الدّنيا والآخرة وكفاه المهم فيهما ، وقد قال الله تعالى : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِه الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأَرْضُ الله واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة ، قال الله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ ، والحسنى هي الجنة ، والزيادة هي الدنيا .
وإن الله تعالى يكفِّر بكل حسنة سيئة ، قال الله عزَّ وجلَّ : إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ، حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، قال الله عز وجل : جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ، وقال : إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ . فارغبوا في هذا رحمكم الله واعملوا له وتحاضّوا عليه .
واعلموا يا عباد الله ، أن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في
--------------------------- 38 ---------------------------
دنياهم ، ولهم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، أباحهم في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ، قال الله عزَّ اسمه : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِه والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، سكنوا الدنيا بأفضل ماسكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون ، وشربوا من طيبات ما يشربون ، ولبسوا من أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون ، وركبوا من أفضل ما يركبون . أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ، وهم غداً جيران الله ، يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون ، لا يردُّ لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيباً من اللَّذة . فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل ويعمل بتقوى الله ، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله .
يا عباد الله ، إن اتقيتم وحفظتم نبيكم في أهل بيته ، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد ، وذكرتموه بأفضل ما ذكر ، وشكرتموه بأفضل ما شكر ، وأخذتم بأفضل الصبر والشكر ، واجتهدتم أفضل الإجتهاد ، وإن كان غيركم أطول منكم صلاة وأكثر منكم صياماً ، فأنتم أتقى لله منه وأنصح لأولي الأمر .
إحذروا يا عباد الله الموت وسكرته ، فأعدُّوا له عُدَّته فإنه يفجؤكم بأمر عظيم : بخير لا يكون معه شرٌّ أبداً ، أو بشرٍّ لا يكون معه خيرٌ أبداً ، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها ، ومن أقرب إلى النار من عاملها . إنه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أيِّ المنزلتين يصير إلى الجنة أم النار ، أعدوٌّ هو لله أو وليٌّ ، فإن كان وليّاً لله فُتحت له أبواب الجنة ، وشُرعت له طرقها ، ورأى ما أعدَّ الله له فيها ، ففرغ من كل شغل ، ووضع عنه كل ثقل . وإن كان عدوَّاً لله فتحت له أبواب النار ، وشرع له طرقها ، ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها ، فاستقبل كل مكروه ، وترك كل سرور .
كل هذا يكون عند الموت وعنده يكون بيقين ، قال الله تعالى : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . ويقول : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ .
--------------------------- 39 ---------------------------
عباد الله : إن الموت ليس منه فوت ، فاحذروا قبل وقوعه ، وأعدوا له عدته فإنكم طرداء الموت : إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، وهو ألزم لكم من ظلِّكم ، الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تُطوى خلفكم ، فأكثروا ذكرالموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات ، وكفى بالموت واعظاً . وكان رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كثيراً ما يوصي أصحابه بذكرالموت فيقول : أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذّات ، حائل بينكم وبين الشهوات .
يا عباد الله : ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت : القبر . فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته ، إن القبر يقول كل يوم : أنا بيت الغربة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدُّود والهوام . والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، إن العبدالمؤمن إذا دفن قالت له الأرض مرحباً وأهلاً ، قد كنت من أحبُّ أن تمشي على ظهري ، فإذْ وليتُك فستعلم كيف صنيعي بك ، فيتسع له مدَّ البصر .
وإن الكافر إذا دفن قالت له الأرض : لامرحباً بك ولا أهلاً ، لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري ، فإذا وليتُك فستعلم كيف صنيعي بك ، فتضمُّه حتى تلتقي أضلاعه !
وإن المعيشة الضنك الَّتي حذَّر الله منها عدوه عذاب القبر أنه يسلِّط على الكافر في قبره تسعةً وتسعين تنيناً فينهشن لحمه ويكسرن عظمه ، ويترددن عليه كذلك إلى يوم البعث ، لو أن تنيناً منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعاً !
يا عباد الله : إن أنفسكم الضعيفة ، وأجسادكم الناعمة الرقيقة التي يكفيها اليسير ، تضعف عن هذا ، فإن استطعتم أن تجزعوا لأجسادكم وأنفسكم مما لا طاقة لكم ولا صبر لكم عليه ، فاعملوا بما أحبَّ الله واتركوا ما كره الله .
يا عباد الله : إن بعد البعث ما هو أشدُّ من القبر ، يومٌ يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، ويسقط فيه الجنين ، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، يوم عبوس قمطرير ، يوم كان شره مستطيراً .
--------------------------- 40 ---------------------------
إن فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشق السماء فهي يومئذ واهية ، وتصير وردة كالدهان ، وتكون الجبال كثيباً مهيلاً بعد ما كانت صُمّاً صِلاباً ، وينفخ في الصور فيفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن ، إن لم يغفر الله له ويرحمه من ذلك اليوم ، لأنه يقضي ويصير إلى غيره ، إلى نار قعرها بعيد ، وحرها شديد ، وشرابها صديد ، وعذابها جديد ، ومقامعها حديد . لا يفتر عذابها ، ولا يموت سكانها . دار ليس فيها رحمة ، ولا يسمع لأهلها دعوة .
واعلموا يا عباد الله ، أن مع هذا رحمة الله التي لاتعجز عن العباد ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ للَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ، خيرٌ لا يكون معها شرٌّ أبداً ، لذَّاتها لاتمل ، ومجتمعها لايتفرق ، سكانها قد جاوروا الرحمن وقام بين أيديهم الغلمان ، بصحاف من الذهب فيها الفاكهة والريحان .
ثم اعلم يا محمد بن أبي بكر ، أني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي : أهل مصر ، فإذْ وليتك ما وليتك من أمر الناس ، فأنت حقيق أن تخاف منه على نفسك ، وأن تحذر منه على دينك ، فإن استطعت أن لا تسخط ربك عز وجل برضا أحد من خلقه فافعل ، فإن في الله عز وجل خلفاً من غيره ، وليس في شئ سواه خلف منه . إشتدَّ على الظالم وخذ عليه ، ولن لأهل الخير وقربهم ، واجعلهم بطانتك وإخوانك . وانظر إلى صلاتك كيف هي ، فإنك إمام القوم ينبغي لك أن تتمها ولاتخففها ، فليس من إمام يصلي بقوم يكون في صلاتهم نقصان إلا كان عليه . وتممها وتحفظ فيها يكن لك مثل أجورهم ، ولا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً .
ثم انظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة ، وتمضمض ثلاث مرات ، واستنشق ثلاثاً ، واغسل وجهك ، ثم يدك اليمنى ، ثم يدك اليسرى ، ثم امسح رأسك ورجليك ، فإني رأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يصنع ذلك . واعلم أن الوضوء نصف الإيمان . ثم ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ، ولا تعجل بها قبله لفراغ ، ولا تؤخرها عنه لشغل ،
--------------------------- 41 ---------------------------
فإن رجلاً سأل رسول الله عن أوقات الصلاة فقال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : أتاني جبرئيل ( عليه السلام ) فأراني وقت الصلاة فصلى الظهر حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن ، ثم أراني وقت العصر فكان ظل كل شئ مثله ، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس ، ثم صلى العشاء الآخرة حين غاب الشفق ، ثم صلى الصبح فغلس بها والنجوم مشتبكة . فصل لهذه الأوقات ، والزم السنة المعروفة ، والطريق الواضح . ثم انظر ركوعك وسجودك ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كان أتم الناس صلاة ، وأخفهم عملاً فيها . واعلم أن كل شئ من عملك تبعٌ لصلاتك ، فمن ضيع الصلاة ، فإنه لغيرها أضيع .
أسأل الله الذي يرى ولا يرى وهو بالمنظر الأعلى ، أن يجعلنا وإياك ممن يحب ويرضى ، حتى يعيننا وإياك على شكره وذكره وحسن عبادته وأداء حقه ، وعلى كل شئ اختار لنا في دنيانا وآخرتنا .
وأنتم يا أهل مصر ، فليصدق قولكم فعلكم ، وسركم علانيتكم ، ولا تخالف ألسنتكم قلوبكم ، واعلموا أنه لا يستوي إمام الهدى وإمام الردى ، ووصي النبي وعدوه . وقد قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً ، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه وأما المشرك فيخزيه الله ويقمعه بشركه ولكني أخاف عليكم كل منافق حلو اللسان ، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون ، ليس به خفاء . وقد قال النبي ( ( عليهما السلام ) ) : من سرته حسناته وساءته سيئاته فذلك المؤمن حقاً . وكان يقول ( ( عليهما السلام ) ) : خصلتان لا يجتمعان في منافق : حسن سمت وفقه في سنة .
يا محمد بن أبي بكر ، إعلم أن أفضل الفقه الورع في دين الله ، والعمل بطاعته ، وإني أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيتك وعلى أي حال كنت عليه . الدنيا دار بلاء ، والآخرة دار الجزاء ودار البقاء ، فاعمل لما يبقى ، واعدل عما يفنى ، ولا تنس نصيبك من الدنيا .
إني أوصيك بسبع هن جوامع الإسلام : تخشى الله عز وجل ولاتخشى الناس في الله ، وخير القول ما صدقه العمل ، ولاتقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين
--------------------------- 42 ---------------------------
فيختلف أمرك وتزيغ عن الحق ، وأحب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، فإن ذلك أوجب للحجة وأصلح للرعية ، وخض الغمرات إلى الحق ولا تخف في الله لومة لائم ، وانصح المرء إذا استشارك ، واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم . وأمر بالمعروف وَانْهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك ، إن ذلك من عزم الأمور .
جعل الله عز وجل مودتنا في الدين ، وحلانا وإياكم حلية المتقين ، وأبقى لكم طاعتكم ، حتى يجعلنا وإياكم بها إخواناً ، على سرر متقابلين .
أحسنوا أهل مصر مؤازرة محمد أميركم ، واثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيكم ( ( عليهما السلام ) ) . أعاننا الله وإياكم على ما يرضيه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » .
أقول : تضمنت الرسالة حقائق هامة عن عقيدة الإسلام ، ونظرته إلى الحياة والحياة الآخرة ، والتعامل معهما . وهدف أمىر المؤمنىن ( عليه السلام ) تثبيت الإسلام في نفوس المصريين . ونلاحظ أنه يخاطبهم كما يخاطب خاصة المسلمين ، لأنهم أهلٌ لاستيعاب حقائق الإسلام والقرآن ، وسلوك الأبرارالأتقياء . ولا شك أن للحضارة المصرية والديانة المسيحية في مصر ، تأثيرهما في رفع مستوى المصريين .
فحريٌّ بالمصري أن يقرأ هذه الرسالة ويتدبر فيها ، لأن أمير المؤمنين خاطبه فيها !
هذا ، وقد أرسل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأهل مصر رسالة مع قيس بن سعد ، كما ستأتي رسالته الىهم مع الأشتر رضي الله عنه ، وعهده المفصل اليه .

غزو معاوية لمصر بعد معركة صفين

غزو معاوية لمصر بعد معركة صفين
روى الثقفي في الغارات ( 1 / 270 ) عن عبد الله بن حوالة الأزدي : « إن أهل الشام لما انصرفوا من صفين كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان . فما كان لمعاوية همٌّ إلا مصر ، قال : فدعا معاوية من كان معه من قريش : عمرو بن العاص السهمي ، وحبيب بن مسلمة الفهري ، وبسر بن أرطاة العامري ، والضحاك بن قيس الفهري ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، ودعا من غير قريش نحو شرحبيل بن السمط ، وأبي الأعور السلمي ، وحمزة بن مالك الهمداني ، فقال : أتدرون لماذا دعوتكم ؟ قالوا : لا ، قال :
--------------------------- 43 ---------------------------
فإني دعوتكم لأمر مهم ! قال : فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري ، وإلى معاوية بن حديج الكندي ، وكانا قد خالفا علياً ( عليه السلام ) :
بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإن الله عز وجل قد ابتعثكما لأمرعظيم أعظم به أجركما ورفع به ذكركما وزينكما به في المسلمين ، طلبتما بدم الخليفة المظلوم ، وغضبتما لله إذ ترك حكم الكتاب ، وجاهدتما أهل الظلم والعدوان ، فأبشرا برضوان الله ، وعاجل نصرة أولياء الله ، والمواساة لكما في دار الدنيا وسلطاننا ، حتى ينتهي ذلك إلى ما يرضيكما ويؤدى به حقكما ، فالزما أمركما ، وجاهدا عدوكما ، وادعوا المدبرين عنكما إلى هداكما ، فكأن الجيش قد أظل عليكما فانقشع كل ما تكرهان ، ودام كل ما تهويان ، والسلام عليكما . وبعث بالكتاب مع مولى له يقال له : سبيع فخرج الرسول بكتابه حتى قدم به عليهما بمصر ، ومحمد بن أبي بكر يومئذ أميرها قد ناصبه هؤلاء النفر الحرب بها ، وهم عنه متنحون يهابون الإقدام عليه ، فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد ، فلما قرأه قال له : إلق به معاوية بن حديج ، ثم إلقنى به حتى أجيب عني وعنه . فانطلق الرسول بكتاب معاوية فأقرأه إياه ، ثم قال له : إن مسلمة قد أمرني أن أرد الكتاب إليه لكي يجيب معاوية عنك وعنه . قال : قل له فليفعل ، فأتى مسلمة بالكتاب فكتب مسلمة الجواب عنه وعن معاوية بن حديج : إلى معاوية بن أبي سفيان : أما بعد فإن هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا وابتعثنا الله به على عدونا ، أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر على من خالفنا ، وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا ، وطأطأ الركض في جهادنا . ونحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي ، وأنهضنا من كان بها من أهل القسط والعدل ، وقد ذكرت مؤازرتك في سلطانك وذات يدك وبالله إنه لا من أجل مال غضبنا ولا إياه أردنا ، فإن يجمع الله لنا ما نريد ونطلب ، ويؤتنا ما نتمنى فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين ، وقد يؤتيهما الله معاً عالماً من خلقه ، كما قال في كتابه : فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
--------------------------- 44 ---------------------------
عجل علينا بخيلك ورجلك ، فإن عدونا قد كان علينا حرباً ، وكنا فيهم قليلاً ، وقد أصبحوا لنا هائبين وأصبحنا لهم منابذين فإن يأتنا مدد من قبلك يفتح الله عليك . ولا قوة إلا به وهو حسبنا ونعم الوكيل .
قال : فجاء هذا الكتاب معاوية وهو يومئذ بفلسطين . . قال معاوية : فتجهز إليها يا أبا عبد الله يعني عمرو بن العاص ، فبعثه في ستة آلاف رجل ، فخرج يسير وخرج معه معاوية يودعه فقال له معاوية عند وداعه إياه : أوصيك بتقوى الله يا عمرو ، وبالرفق فإنه يمن ، وبالتؤدة فإن العجلة من الشيطان ، وبأن تقبل من أقبل ، وأن تعفوعمن أدبر ، أنظره فإن تاب وأناب قبلت منه ، وإن أبى فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ في الحجة وأحسن في العاقبة ، وادع الناس إلى الصلح والجماعة ، فإن أنت ظفرت ، فليكن أنصارك آثر الناس عندك ، وكلَّ الناس فأوْلِ حسناً .
قال : فسار عمرو في الجيش حتى دنا من مصرفاجتمعت إليه العثمانية فأقام وكتب إلى محمد بن أبي بكر : أما بعد فتنحَّ عني بدمك يا ابن أبي بكر ، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر ، وإن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ، ورفض أمرك ، وندموا على اتباعك ، وهم مُسْلِمُوكَ لو قد التقت حلقتا البطان ، فأخرج منها إني لك من الناصحين . والسلام .
قال : وبعث عمرو أيضاً مع هذا الكتاب بكتاب معاوية إليه وفيه :
أما بعد فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال ، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا ، والتبعة الموبقة في الآخرة ، وما نعلم أحداً كان أعظم على عثمان بغياً ، ولا أسوأ له عيباً ، ولا أشد عليه خلافاً منك . سعيت عليه في الساعين ، وساعدت عليه مع المساعدين ، وسفكت دمه مع السافكين ، ثم أنت تظن أني عنك نائم ، ثم تأتي بلدة فتأمن فيها وجل أهلها أنصاري ، يرون رأيي ويرقبون قولي ويستصرخونني عليك .
وقد بعثت إليك قوماً حناقاً عليك ، يستسفكون دمك ، ويتقربون إلى الله بجهادك ، قد أعطوا الله عهداً ليقتلنك ، ولو لم يكن منهم إليك ما قالوا لقتلك الله بأيديهم أو بأيدي
--------------------------- 45 ---------------------------
غيرهم من أوليائه ، فأحذرك وأنذرك ، وأحب أن يقتلوك بظلمك ووقيعتك وعدوانك على عثمان يوم الدار ، تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه وأوداجه ، ولكني أكره أن تقتل ولن يسلمك الله من القصاص أين كنت . والسلام .
فطوى محمد بن أبي بكر كتابيهما وبعث بهما إلى علي ( عليه السلام ) وكتب إليه : أما بعد فإن العاصي ابن العاص قد نزل أداني مصر ، واجتمع إليه من أهل البلد كل من كان يرى رأيهم ، وقد جاء في جيش جرار ، وقد رأيت ممن قبلي بعض الفشل فإن كان لك في أرض مصرحاجة فامددني بالأموال والرجال . فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أما بعد فقد جاءني رسولك بكتابك تذكر أن ابن العاص قد نزل أداني مصرفي جيش جرار ، وأن من كان على مثل رأيه قد خرج إليه ، وخروج من كان يرى رأيه خير لك من إقامته عندك ، وذكرت أنك قد رأيت ممن قبلك فشلاً ، فلا تفشل وإن فشلوا ! حصن قريتك ، واضمم إليك شيعتك وأذك الحرس في عسكرك ، واندب إلى القوم كنانة بن بشرالمعروف بالنصيحة والتجربة والبأس ، وأنا نادب إليك الناس على الصعب والذلول ، فاصبر لعدوك وامض على بصيرتك ، وقاتلهم على نيتك ، وجاهدهم محتسباً لله ، وإن كانت فئتك أقل الفئتين ، فإن الله يعز القليل ويخذل الكثير . وقد قرأت كتابي الفاجرين المتحابين على المعصية ، والمتلائمين على الضلالة والمرتشيين الذين استمتعا بخلاقهما ، فلايهدنك إرعادهما وإبراقهما ، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله ، فإنك تجد مقالاً ما شئت . والسلام .
قال : فكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية جواب كتابه : أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر من أمر عثمان أمراً لا أعتذر إليك منه ، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح ، وتخوفني بالمثلة كأنك علي شفيق ، وأنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم وأن يهلككم الله في الواقعة ، وأن ينزل بكم الذل وأن تولوا الدبر ، فإن يكن لكم الأمر في الدنيا فكم وكم لعمري من ظالم قد نصرتم ، وكم من مؤمن قد قتلتم ومثلتم به ، وإلى الله المصير ، وإليه ترد الأمور ، وهو أرحم الراحمين ، والله المستعان على ما تصفون .
--------------------------- 46 ---------------------------
قال : وكتب محمد بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص جواب كتابه : أما بعد فقد فهمت كتابك وعلمت ما ذكرت ، وزعمت أنك لا تحب أن يصيبني منك ظفر ، فأشهد بالله إنك لمن المبطلين ، وزعمت أنك لي ناصح ، وأقسم أنك عندي ظنين ، وزعمت أن أهل البلد قد رفضوني وندموا على اتباعي ، فأولئك حزبك وحزب الشيطان الرجيم ، حسبنا الله رب العالمين ونعم الوكيل ، وتوكلت على الله العزيز الرحيم ، رب العرش العظيم .
قال : وأقبل عمرو بن العاص فقصد مصر ، فقام محمد بن أبي بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : أما بعد يا معشر المؤمنين فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة ، وينعشون الضلالة ، ويشبون نار الفتنة ، ويستطيلون بالجبرية ، قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجالدهم في الله . إنتدبوا إلى هؤلاء رحمكم الله ، مع كنانة بن بشر ، ومن يجيب معه من كندة . فانتدب معه ألفا رجل ، وخرج محمد في نحو ألفين ، واستقبل عمرو كنانة وهو على مقدمة محمد ، فأقبل عمرو نحو كنانة ، فلما دنا منه سرح نحوه الكتائب كتيبة بعد كتيبة ، فجعل كنانة لا يأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام ، إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يلحقها بعمرو ، ففعل ذلك مراراً ، فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي ، فأتاه في مثل الدهم فلما رأى كنانة ذلك الجيش ، نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه ، فضاربهم بسيفه وهو يقول : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ . ثم ضاربهم بسيفه حتى استشهد ( رحمه الله ) . وإن عمرو بن العاص لما قتل كنانة أقبل نحو محمد بن أبي بكر ، وقد تفرق عنه أصحابه ، فلما رأى ذلك محمد خرج يمضي في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها .
وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط ، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر ، حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم : هل مر بكم أحد تنكرونه ؟ قالوا : لا ، فقال أحدهم : إني دخلت تلك الخربة فإذا أنا فيها برجل جالس . فقال ابن حديج : هو هو ورب الكعبة ، فانطلقوا يركضون حتى دخلوا عليه
--------------------------- 47 ---------------------------
واستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً ، فأقبلوا به نحو الفسطاط . قال : ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص ، وكان في جنده فقال : والله لا يقتل أخي صبراً ، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه عن قتله ! فأرسل عمرو إلى معاوية أن إئتني بمحمد ، فقال معاوية : أقتلتم كنانة بن بشر ابن عمي وأخلي عن محمد ! هيهات ، أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ! فقال محمد : إسقوني قطرة من الماء .
فقال معاوية : لاسقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً ، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه ظامياً محرماً فسقاه الله من الرحيق المختوم ، والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن ، فيسقيك الله من الحميم والغسلين !
فقال له محمد بن أبي بكر : يا ابن اليهودية النساجة : ليس ذلك إليك ولا إلى من ذكرت ، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه ، وهم أنت وقرناؤك ، ومن تولاك وتوليته . والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم ! فقال له معاوية بن حديج : أتدري ما أصنع بك ! أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار !
فقال محمد : لئن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله ، وأيم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها عليَّ برداً وسلاماً ، كما جعلها على إبراهيم خليله ، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه ، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك يعني معاوية بن أبي سفيان ، وهذا وأشار إلى عمرو بن العاص بنار تلظى عليكم ، كلما خبت زادها الله سعيراً . فقال له معاوية : إني لا أقتلك ظلماً إنما أقتلك بعثمان . فقال له محمد : وما أنت وعثمان ؟ إن عثمان عمل بغير الحق وبدل حكم القرآن وقد قال الله عز وجل : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . وأولئك هم الظالمون ، وأولئك هم الفاسقون ، فنقمنا عليه أشياء عملها ، فأردناأن يختلع من عملنا فلم يفعل ، فقتله من قتله من الناس ، فغضب معاوية بن حديج فقدمه فضرب عنقه ، ثم ألقاه في جوف حمار
--------------------------- 48 ---------------------------
وأحرقه بالنار !
فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ، وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها ، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها .
عن عبد الله بن شداد ، قال : حلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً فما أكلت شواءً بعد مقتل محمد حتى لحقت بالله ، وما عثرت قط إلا قالت : تعس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج .
عن أبي إسحاق : أن أسماء بنت عميس لما أتاها نعي محمد بن أبي بكر وما صُنع به ، كظمت حزنها وقامت إلى مسجدها ، حتى تشخبت دماً .
قال : دخل معاوية بن حديج على الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) مسجد المدينة فقال له الحسن : ويلك يا معاوية أنت الذي تسب أمير المؤمنين علياً ( عليه السلام ) ! أما والله لئن رأيته يوم القيامة وما إن أظنك تراه ، لترينه كاشفاً عن ساق يضرب وجوه المنافقين ضرب غريبة الإبل .
قال : وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان عند قتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر : أما بعد فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر ، فدعوناهم إلى الكتاب والسنة فعصوا الحق وتهوكوا في الضلال ، فجاهدناهم فاستنصرنا الله عليهم فضرب الله وجوههم وأدبارهم ومنحنا أكتافهم ، فقتل محمد بن أبي بكر ، وكنانة بن بشر ، والحمد لله رب العالمين . والسلام » .
وفي الغارات ( 2 / 756 ) : ( فدخلوا إليه وربطوه بالحبال وجروه على الأرض وأمر به أن يحرق بالنار في جيفة حمار ! ودفن في الموضع الذي قتل فيه .
فلما كان بعد سنة من دفنه ، أتى غلامه وحفر قبره ، فلم يجد فيه سوى الرأس ، فأخرجه ودفنه في المسجد تحت المنارة ) .
وفي المواعظ للمقريزي : 3 / 75 : ( فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر ، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر ، سنة ثمان وثلاثين ) .
--------------------------- 49 ---------------------------
وقال اليعقوبي ( 2 / 194 ) : ( وجه معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرط له ، فقدمها سنة 38 ، ومعه جيش عظيم من أهل الشام ، فكان على دمشق يزيد بن أسد البجلي ، وعلى أهل فلسطين شمير الخثعمي ، وعلى أهل الأردن أبوالأعور السلمي ، ومعاوية بن حديج الكندي على الخارجة ، فلقيهم محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة ، فحاربهم محاربة شديدة ، وكان عمرو يقول : ما رأيت مثل يوم المسناة ، وقد كان محمد استذم إلى اليمانية ، فمايل عمرو بن العاص اليمانية ، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده ، فجالد ساعة ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة ، واتبعه ابن حديج الكندي فأخذه وقتله ، وأدخله جيفة حمار ، وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف . وبلغ علياً ضعف محمد بن أبي بكر ، وممالأة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص ، فقال : ما أُتيَ محمد من حَرَض » !
معناه : ما غلبه أعداؤه لضعف دينه أو عقله ، ولكنها المقادير .
وقال الدكتور إبراهيم حسن في : تاريخ عمرو بن العاص / 268 : « قال المقريزي : إن الموقعة المذكورة كانت في مدينة يقال لها المنشأة . وقد ذكرها اليعقوبي المسناة ، أما المنشأة فقد ذكرها المرحوم علي مبارك باشا في خططه فقال : يوجد من هذا الاسم عدة قرى أكبرها وأشهرها منشأة أخميم ، ثم منشأة بكار ، من مديرية الجيزة ، ومنشأة سدود من مديرية المنوفية ، ومنشأة سيوط ، ومنشأة عاصم ، وهي قرية من مديرية الدقهلية بمركز دكرنس على الشاطئ الشرقي للبحر الصغير . والظاهر أن الواقعة كانت في هذه القرية وباسمها سميت » .
وقال الأستاذ الورداني في كتاب الشيعة في مصر / 109 : « يقع مرقده في بلدة ميت دمسيس التابعة للمنصورة ، وهناك قبر ناحية الفسطاط يقال له محمد الصغير ، والعامة يعتقدون أنه محمد بن أبي بكر ، إلا أن الراجح أن مرقده ناحية المنصورة » .
--------------------------- 50 ---------------------------

محاولة علي ( ( ع ) ) نصرة محمد بن أبي بكر رضي الله عنه

محاولة علي ( ( ع ) ) نصرة محمد بن أبي بكر رضي الله عنه
تسلم محمد رضي الله عنه حكم مصرمن قيس بن سعد ، وأخذ يعالج مشكلة جماعة معاوية ، التي كبرت وصارت ألوف المقاتلين ! وتفاقم الخطر عليه فكتب إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليمده بجيش ، فتباطأ المسلمون عن إجابته . ثم أرسل الإمام ( عليه السلام ) الأشتر رضي الله عنه ، لكن معاوية وأنصاره دبَّروا له السم عند مشارف القاهرة ، فاستشهد قبل أن يتسلم عمله . ونشط الحزب الأموي في خَرَبْتَا ، بقيادة مسلمة بن مخلد ، ومعاوية بن حديج ، وبسر بن أرطاة ، لحرب محمد ، ووعدهم معاوية أن يرسل لهم جيشاً .
روى الثقفي في الغارات ( 1 / 288 ) عن جندب بن عبد الله قال : « والله إني لعند عليٍّ ( عليه السلام ) جالس ، إذْ جاءه عبد الله بن قعين جد كعب يستصرخ من قبل محمد بن أبي بكر وهو يومئذ أميرٌ على مصرفقام علي ( عليه السلام ) فنادى في الناس : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : أما بعد ، فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر . . إلى آخر ما تقدم ، وقال فيه : أخرجوا إلى الجرعة ( قرية بين الكوفة والحيرة ) لنتوافى هناك كلنا غداً ، إن شاء الله .
فلما كان الغد خرج يمشي فنزلها بكرةً فأقام بها حتى انتصف النهار يومه ذلك فلم يوافه منهم مائة رجل فرجع ، فلما كان العشي بعث إلى الأشراف فجمعهم فدخلوا عليه القصر وهو كئيب حزين فقال :
الحمد لله على ما قضى من أمر ، وقدر من فعل ، وابتلاني بكم أيتها الفرقة التي لاتطيع إذا أمرتُ ، ولا تجيب إذا دعوتُ ! لا أباً لغيركم ما تنتظرون بنصركم ربكم والجهاد على حقكم : الموتَ ، أو الذلَّ لكم في هذه الدنيا في غيرالحق ! والله لئن جاءني الموت ، وليأتيني فليفرقن بيني وبينكم وإني لصحبتكم لقال . ألا دينٌ يجمعكم ، ألاحميةٌ تغضبكم إذْ أنتم سمعتم بعدوكم ينتقص بلادكم ، ويشن الغارة عليكم !
أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الظلمة الطغام فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة ، فيجيبونه في السنة المرة والمرتين والثلاث ، إلى أي وجه شاء . ثم إني أدعوكم
--------------------------- 51 ---------------------------
وأنتم أولوا النهى وبقية الناس ، على المعونة وطائفة منكم على العطاء ، فتختلفون وتتفرقون عني ، وتعصونني وتخالفون عليَّ .
فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي فقال : يا أمير المؤمنين أندُب الناس معي فإنه لاعطر بعد عروس ، لمثل هذا اليوم كنت أدخر نفسي ، وإن الأجر لا يأتي إلا بالكره . ثم التفت إلى الناس وقال : اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوكم ، وأنا أسير إليهم يا أمير المؤمنين .
قال : فأمر عليٌّ مناديه سعداً مولاه فنادى : ألا سيروا مع مالك بن كعب إلى مصر ، وكان وجهاً مكروهاً ، فلم يجتمعوا إليه شهراً ، فلما اجتمع له منهم ما اجتمع ، خرج بهم مالك بن كعب فعسكر بظاهر الكوفة ، ثم إنه خرج وخرج معه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فنظروا فإذا جميع من خرج معه نحو من ألفي رجل ، فقال علي ( عليه السلام ) : سيروا على اسم الله ، فوالله ما إخالكم تدركون القوم حتى ينقضي أمرهم ! قال : فخرج مالك بهم ، وسار بهم خمس ليال . ثم إن الحجاج بن غزية الأنصاري قدم على علي ( عليه السلام ) من مصر ، وقدم عليه عبد الرحمن بن المسيب الفزاري من الشام ، فأما الفزاري فكان عينه ( عليه السلام ) بالشام ، وأما الأنصاري فكان مع محمد بن أبي بكر بمصرفحدثه الأنصاري بما عاين وشهد بهلاك محمد ، وحدثه الفزاري أنه لم يخرج من الشام حتى قدمت البشرى من قبل عمرو بن العاص تترى يتبع بعضها على أثر بعض بفتح مصر ، وقتل محمد بن أبي بكر ، وحتى أذَّن معاوية بقتله على المنبر ، فقال له : يا أمير المؤمنين ما رأيت يوماً قط سروراً مثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم هلاك ابن أبي بكر ! فقال علي ( عليه السلام ) : أما إن حزننا على قتله على قدر سرورهم به ، لا بل يزيد أضعافاً . قال : فسرح علي ( عليه السلام ) عبد الرحمن بن شريح الشامي إلى مالك بن كعب ، فرده من الطريق » .
وفي نهاية الإرب للنويري ( 1 / 112 ) : « فبعث إلى مالك بن كعب فرده من الطريق ، وذلك لأنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر .
فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس وهو نائبه على البصرة ، يشكو إليه ما يلقاه
--------------------------- 52 ---------------------------
من الناس من المخالفة » .

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على محمد بن أبي بكر

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على محمد بن أبي بكر
قال الثقفي في الغارات ( 1 / 295 ) : « وحزن علي ( عليه السلام ) على محمد بن أبي بكر حتى رؤيَ ذلك فيه وتبين في وجهه ، وقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
ألا وإن مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم ، الذين صدوا عن سبيل الله ، وبغوا الإسلام عوجاً .
ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد فعند الله نحتسبه . أما والله لقد كان ما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ، ويبغض شكل الفاجر ، ويحب هَيْن المؤمن . وإني والله ما ألوم نفسي على تقصير ولا عجز ، وإني بمقاساة الحرب لجد بصير ، وإني لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم ، وأقوم بالرأي المصيب فأستصرخكم معلناً ، وأناديكم نداء المستغيث معرباً ، فلاتسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً ، تُصَيِّرُون الأمور إلى عواقب المساءة ! فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار ، ولا تنقض بكم الأوتار !
دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين يوماً ، فجرجرتم عليَّ جرجرة الجمل الأشدق ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نية في جهاد العدو ، ولارأي له في اكتساب الأجر ! ثم خرج إلي منكم جُنيد متذائب ضعيف ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، فأفٍّ لكم ! ثم نزل ، فدخل رحله .
وكتب علي ( عليه السلام ) إلى عبد الله بن العباس وهو على البصرة : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن العباس : سلام عليك ورحمة الله وبركاته ، أما بعد فإن مصرقد افتتحت ، وقد استشهد محمد بن أبي بكر فعند الله عز وجل نحتسبه . وقد كنت كتبت إلى الناس وتقدمت إليهم في بدء الأمر ، وأمرتهم بإغاثته قبل الوقعة ، ودعوتهم سراً وجهراً ، وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتي كارهاً ، ومنهم المعتل كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً ! أسأل الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجاً ومخرجاً ، وأن يريحني منهم عاجلاً . فوالله لولا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة ، وتوطيني نفسي على المنية ، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً . عزم الله لنا ولك على الرشد ، وعلى
--------------------------- 53 ---------------------------
تقواه وهداه ، إنه على كل شئ قدير ) .
قال ابن أبي الحديد في شرحه ( 16 / 146 ) : « أنظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادَها وتُملكه زمامها . واعجب لهذه الألفاظ المنصوبة ، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه ، سلسةً سهلةً ، تتدفق من غير تعسف ولا تكلف ، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال : يوماً واحداً ، ولا التقي بهم أبداً . وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة ، جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة ، وتارة مجرورة ، وتارة منصوبة ، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثرٌ بين ، وعلامةٌ واضحة . وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ، ذكره عبد القاهر ، قال : أنظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة : الأولى منصوبة الفواصل ، والثانية ليس فيها منصوب أصلاً ، ولو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا ، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما . ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقةً بمقتضى البيان الطبيعي ، لا الصناعة التكلفية .
ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل ، كيف قال : ولداً ناصحاً وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً . ولو قال ولداً كادحاً ، وعاملاً ناصحاً ، وكذلك ما بعده لما كان صواباً ، ولا في الموقع واقعاً . فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة ! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ، ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء ، وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو ! ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية ، لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط ! ولم يربَّ بين الشجعان ، لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ، ولم يكونوا ذوي حرب ، وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض ! قيل لخلف الأحمر :
أيما أشجع عنبسة وبسطام أم علي ؟ فقال : إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة ! فقيل له : فعلى كل حال ؟ قال : والله لوصاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما !
--------------------------- 54 ---------------------------
وخرج أفصح من سحبان وقس ، ولم تكن قريش بأفصح العرب ، كان غيرها أفصح منها . قالوا : أفصح العرب جرهم ، وإن لم تكن لهم نباهة . وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفهم ، مع أن قريشاً ذووا حرص ومحبة للدنيا . ولا غرو فيمن كان محمد ( ( عليهما السلام ) ) مربيه ومخرجه ، والعناية الإلهية تمده وترفده ، أن يكون منه ما كان » !

حزن أسماء على ابنها وعائشة على أخيها محمد

حزن أسماء على ابنها وعائشة على أخيها محمد
قال الثقفي في الغارات ( 1 / 285 ) : « فلما بلغ ذلك عائشة أم المؤمنين جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت في دبركل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ، وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها ، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها .
عن أبي إسحاق : أن أسماء بنت عميس لما أتاها نعيُ محمد بن أبي بكر وما صنع به كظمت حزنها ، وقامت إلى مسجدها حتى تشخب ثدياها دماً » .
وفي الغارات ( 2 / 756 ) : ( ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دماً . ووَجَدَ ( حزن ) عليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وجْداً عظيماً وقال : كان لي ربيباً ، وكنت أعده ولداً ، ولبنيَّ أخاً » .
وفي مقابل حزن أسماء بنت عميس على ابنها ، وحزن عائشة على أخيها ، كانت فرحة ضرتها أم حبيبة « أم المؤمنين » بنت أبي سفيان أخت معاوية ، فقد ابتكرت بكيدها أسلوباً للشماتة بمقتل محمد !
في الغارات ( 2 / 757 ) : « لما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه سالم ومعه قميصه ، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء ! فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ( ( عليهما السلام ) ) بكبش فشُوِيَ ، وبعثت به إلى عائشة وقالت : هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت » ! وروى نحوه البلاذري ( 2 / 4 ) ورواه الدميري في الحيوان ( 1 / 404 ) .
وفي الغارات ( 1 / 287 ) : « حلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً ، فما أكلت شواءً بعد مقتل محمد حتى لحقت بالله ! وماعثرت قط إلا قالت : تعس معاوية بن أبي سفيان
--------------------------- 55 ---------------------------
عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج » .
لكن عائشة مع ذلك لم تُحرض على الثأر من معاوية ، كما فعلت في ثأر عثمان !
ففي سير الذهبي ( 2 / 186 ) والطبري : ( 4 / 205 ) : « إن معاوية لما حج قدم فدخل على عائشة ، فلم يشهد كلامها إلا ذكوان مولى عائشة فقالت لمعاوية : أأمنتَ أن أخبئ لك رجلاً يقتلك بأخي محمد ؟ قال : صدقت » !
وفي شرح الأخبار ( 2 / 171 ) قال معاوية : « لا أخاف ذلك لأني في دار أمان ، لكن كيف أنا في حوائجك ؟ قالت : صالح . قال : فدعيني وإياهم حتى نلتقي عند الله » .
ومعناه : أنه أرضاها بالمال ، فسكتت ! وكذلك سكت أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر عن أخذ ثأر أخيه سكوتاً ذليلاً ، فقد كان في جيش عمرو العاص ، واعترض على قتل أخيه محمد ، لكن ابن حديج أصر عليه لأنهم قتلوا كنانة بن بشر ، وهو كندي من قبيلته ! فسكت عبد الرحمن ولم يقل شيئاً ! وكذلك سكت بنو تَيْم عن الأخذ بثأرهم من بني أمية ، مع أن القبائل لا تسكت عادة عن ثأر ابنها ، وحتى عن ثأر حليفها وغلامها ! وبذلك تعرف ضعفهم وذلتهم ، وأن الثأر عندهم انتقائي ،
والذل غير انتقائي !

معاوية خال المؤمنين ومحمد بن أبي بكر ليس خالهم !

معاوية خال المؤمنين ومحمد بن أبي بكر ليس خالهم !
قال إمام المعتزلة أبو جعفر الإسكافي في كتابه المعيار والموازنة / 21 ، ملخصاً : « وأبين من هذا في جهل الأنعام الضالة والحمُر المستنفرة ، أن عائشة عندهم في أزواج النبي ( ( عليهما السلام ) ) أفضل من بنت أبي سفيان وأكثر في الشهرة والمعرفة ، فإذا ذكر معاوية بسوء غضبوا وأنكروا ولعنوا ، وعلتهم أنه خال المؤمنين ! وإذا ذكرمحمد بن أبي بكر بسوء رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره وخؤولته ظاهرة . وقد نفرت قلوبهم من علي ( عليه السلام ) لأنه حارب معاوية وقاتله ، وسكنت قلوبهم عند قتل معاوية عماراً ومحمد بن أبي بكر ، وله حرمة الخؤولة ، وهو أفضل من معاوية ، وأبوه خير من أب معاوية .
فتدبروا فيما ذكرناه ، لتعلموا أن علة القوم الخديعة والجهالة ، وإلا فما بالهم
--------------------------- 56 ---------------------------
لايستنكرون قتل محمد بن أبي بكر ، ولا يذكرون خؤولته للمؤمنين ؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون . وقد مالوا عن إمامة علي وضعفوها ، وبعضهم نفاها بما كان من خلاف عائشة وطلحة والزبير ، وقعود ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد ، وهؤلاء النفرالذين أوجبوا الشك في علي عندهم وضعفوا إمامته بقولهم ، هم الذين طعنوا على عثمان وألبوا عليه وذكروه بالتبديل والإستيثار ، وأولهم بادرةً عليه عائشة ، كانت تخرج قميص رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وهو على المنبر وتقول : يا عثمان هذا قميص رسول الله لم يَبْلَ وقد أبليت سنته ! فوالله ما قدح الشك في قلوبهم في عثمان بقولهم ولا قصروا عن تفصيله وتقديمه بطعنهم ، ولا أثر ذلك في صدورهم !
وكيف تمت بيعة أبي بكر عندكم بأبي عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب ،
مع خلاف سعد وامتناعه من البيعة وخلاف الأنصار ، وأبو بكر الساعي إليها والداعي لها ! ولم تتم بيعة علي بالمهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإيمان ، وهم الطالبون له والمجتمعون عليه ، وليس له نظير في زمانه يشاكله ويعادله ! أفٍّ لهذا من مقال ، ما أبين تناقضه ، وأقل حياء الدائن به » !
وقال الكراجكي في كتابه : التعجب من أغلاط العامة / 104 : ( ومن عجيب أمر الحشوية ووقاحتهم في العناد والعصبية ، أنهم يقولون : إن معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين ! فلم لا يسمون محمد بن أبي بكر خال المؤمنين ، ويكون أحق بذلك من معاوية بن أبي سفيان . وكيف يجب أن تحفظ أم حبيبة في أخيها معاوية ، ولم يجب أن تحفظ عائشة في أخيها محمد » ! ؟
وقال ابن كثير في تفسيره : 3 / 477 : ( وهل يقال لمعاوية وأمثاله : خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء ، ونص الشافعي على أنه لا يقال ذلك . وهل يقال لهن أمهات المؤمنات فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليباً ؟ فيه قولان ، صح عن عائشة أنها قالت لا يقال ذلك ، وهذا أصح في مذهب الشافعي » .
--------------------------- 57 ---------------------------

أجوبة أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مسائل محمد بن أبي بكر

أجوبة أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مسائل محمد بن أبي بكر
في كتاب الغارات للثقفي ( 1 / 230 ) : « كتب محمد بن أبي بكر إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وهو إذ ذاك بمصر يسأله جوامع من الحرام والحلال والسنن والمواعظ ، فكتب إليه : لعبد الله أمير المؤمنين من محمد بن أبي بكر : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو .
أما بعد ، فإن رأى أمير المؤمنين أرانا الله وجماعة المسلمين فيه أفضل سرورنا وأملنا فيه ، أن يكتب لنا كتاباً فيه فرائض وأشياء مما يبتلى به مثلي من القضاء بين الناس ، فعل ، فإن الله يعظم لأمير المؤمنين الأجر ويحسن له الذخر .
فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر .
سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فقد وصل إلي كتابك فقرأته وفهمت ما سألتني عنه ، وأعجبني اهتمامك بما لابد لك منه ، وما لا يصلح المسلمين غيره ، وظننت أن الذي دلك عليه نية صالحة ورأي غير مدخول ولا خسيس . وقد بعثت إليك أبواب الأقضية جامعاً لك فيها ، ولا قوة إلا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكتب إليه عما سأله من القضاء ، وذكر الموت ، والحساب ، وصفة الجنة والنار ، وكتب في الإمامة ، وكتب في الوضوء ، وكتب إليه في مواقيت الصلاة ، وكتب إليه في الركوع والسجود ، وكتب إليه في الأدب ، وكتب إليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكتب إليه في الصوم والاعتكاف ، وكتب إليه في الزنادقة ، وكتب إليه في نصراني فجر بامرأة مسلمة ، وكتب إليه في أشياء كثيرة لم يحفظ منها غير هذه الخصال ، وحدثنا ببعض ما كتب إليه . قال إبراهيم : فحدثنا يحيى بن صالح . . . عن عباية أن علياً ( عليه السلام ) كتب إلى محمد بن أبي بكر ، وأهل مصر :
أما بعد ، فإني أوصيك بتقوى الله في سرأمرك وعلانيته ، وعلى أي حال كنت عليها ، واعلم أن الدنيا دار بلاء وفناء ، والآخرة دار بقاء وجزاء ، فإن استطعت
--------------------------- 58 ---------------------------
أن تؤثر ما يبقى على ما يفنى فافعل ، فإن الآخرة تبقى وإن الدنيا تفنى ، رزقنا الله وإياك بصراً لما بصرنا ، وفهماً لما فهمنا ، حتى لانقصر عما أمرَنا به ، ولا نتعدى إلى ما نهانا عنه ، فإنه لا بد لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن عرض لك أمران أحدهما للآخرة والآخر للدنيا ، فابدأ بأمر الآخرة . ولتعظم رغبتك في الخير ، ولتحسن فيه نيتك ، فإن الله عز وجل يعطي العبدعلى قدر نيته ، وإذا أحب الخير وأهله ولم يعمله كان إن شاء الله كمن عمله ، فإن رسول الله قال حين رجع من تبوك : لقد كان بالمدينة أقوام ما سرتم من مسير ولاهبطتم من واد إلا كانوا معكم . ماحبسهم إلا المرض يقول : كانت لهم نية .
ثم إعلم يا محمد أني وليتك أعظم أجنادي في نفسي : أهل مصر ، وإذ وليتك ما وليتك من أمر الناس ، فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك ، وتحذر فيه على دينك ، ولو كان ساعة من نهار ، فإن استطعت أن لا تسخط فيها ربك لرضى أحد من خلقه فافعل ، فإن في الله خلفاً من غيره ، وليس في شئ غيره خلف منه ، فاشتد على الظالم ، ولِنْ لأهل الخير ، وقربهم إليك ، واجعلهم بطانتك ، وإخوانك . والسلام .
« بعث علي ( عليه السلام ) محمد بن أبي بكر أميراً على مصرفكتب إلى علي ( عليه السلام ) يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانية ، وعن زنادقة فيهم من يعبدالشمس والقمر ، وفيهم من يعبدغير ذلك ، وفيهم مرتد عن الإسلام ، وكتب يسأله من مُكاتب مات وترك مالاً وولداً ؟ فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أن أقم الحد فيهم على المسلم الذي فجر بالنصرانية ، وادفع النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا . وأمره في الزنادقة أن يقتل من كان يدعي الإسلام ، ويترك سائرهم يعبدون ما شاؤوا ، وأمره في المكاتب إن كان ترك وفاء لمكاتبته فهو غريم بيد مواليه يستوفون ما بقي من مكاتبته وما بقي فلولده »

وقعت كُتُب أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لمحمد في يد معاوية

وقعت كُتُب أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لمحمد في يد معاوية
قال الثقفي في الغارات ( 1 / 251 ) : « فلما ظهر عليه وقُتل أخذ عمرو بن العاص كتبه أجمع ، فبعث بها إلى معاوية بن أبي سفيان ، وكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويعجبه ، فقال الوليد بن عقبة وهو عند معاوية لما رأى إعجاب معاوية به :
--------------------------- 59 ---------------------------
مُرْ بهذه الأحاديث أن تحرق !
فقال له معاوية : مه يا ابن أبي معيط إنه لا رأي لك ، فقال له الوليد : إنه لا رأي لك ، أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها وتقضي بقضائه ، فعلام تقاتله ! فقال معاوية : ويحك أتأمرني أن أحرق علماً مثل هذا ! والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح !
فقال الوليد : إن كنت تعجب من علمه وقضائه ، فعلامَ تقاتله ؟ فقال معاوية : لولا أن أباتراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه !
ثم سكت هنيئة ثم نظر إلى جلسائه فقال : إنا لا نقول إن هذه من كتب علي بن أبي طالب ولكنا نقول : إن هذه من كتب أبي بكرالصديق كانت عند ابنه محمد فنحن نقضي بها ونفتي ! فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية حتى وليَ عمر بن عبد العزيز ، فهو الذي أظهرأنها من أحاديث علي ( عليه السلام ) » .
أقول : أراد النبي ( ( عليهما السلام ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) أن يكون العلم في الأمة قبل ظهور المهدي ( عليه السلام ) ، محصوراً بالقرآن ، وما ترويه الأمة عن النبي والأئمة ( عليهم السلام ) بالطرق العادية .
لذلك أملى النبي ( ( عليهما السلام ) ) كتباً وقال لعلي ( عليه السلام ) : أكتب لك ولشركائك وجعلها عند علي والأئمة ( عليهم السلام ) حتى يظهر المهدي ( عليه السلام ) فيظهرها .
وسبب عدم إعطائهم المزيد من العلم أن لايسيئ الناس استعماله فيظلمون بعضهم ، كما قال تعالى : وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ . ويبدو أن ما كتبه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمحمد بن أبي بكر كان علماً خاصاً لم يرد أن يصل إلى أعدائه ، وقد روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تأسف على وقوعه في يد معاوية . ففي الغارات : 1 / 252 ، عن ابن سلمة قال : صلى بنا علي ( عليه السلام ) فلما انصرف قال : إني استعملت محمد بن أبي بكر على مصر ، فكتب إلي أنه لا علم لي بالسنة ، فكتبت إليه كتاباً فيه السنة ، فقتل ، وأخذ الكتاب ) .
ونحن نشك في صحة ما نسب اليه ( عليه السلام ) من التأسف وتخطئة نفسه في تصرفه !

  • *
    --------------------------- 60 ---------------------------

شخصية محمد بن أبي حذيفة رضي الله عنه

شخصية محمد بن أبي حذيفة رضي الله عنه
1 . هو محمد ، بن أبي حذيفة ، بن عتبة ، بن ربيعة ، بن عبد شمس . وجدُّه عتبة زعيم بني أمية وعبدشمس ، وكان من أشد المشركين على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وهو الذي عرض على النبي ( ( عليهما السلام ) ) أن يعبدوا ربه يوماً ويعبدأصنامهم يوماً ! فأنزل الله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ .
وكان عتبة وأبو جهل قائدي قريش في بدر ، فقال النبي ( ( عليهما السلام ) ) ( ابن هشام : 2 / 453 ) :
« إن يكن في أحد من القوم خير ، فعند صاحب الجمل الأحمر ، فإن يطيعوه يرشدوا » ! وطلب منهم أن يرجعوا عنه ويتركوه والعرب ، وقبل عتبة ، فاتهمه أبو جهل بالجبن ، فغضب وبرز مع أخيه وابنه فقتلوا !
وكان ابنه أبو حذيفة وهو أبو محمد مسلماً مع النبي ( ( عليهما السلام ) ) : « ولما أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بهم أن يلقوا في القليب ، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب ، فنظر رسول الله فيما بلغني في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير لونه ، فقال : يا أباحذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ ؟ أو كما قال ( ( عليهما السلام ) ) . فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك . فدعا له رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بخير ، وقال له خيراً »
( ابن هشام : 2 / 468 ) .
2 . أسلم أبو حذيفة وهاجر إلى الحبشة وولد ابنه محمد في الحبشة ، ولما رجع إلى المدينة تبنى سالماً وكان غلاماً فارسياً ، وكان ذكياً داهية ، فأعجب به عمر وأبو بكر وكان يصلي بهم على صغر سنه : « وروى البخاري من حديث ابن عمر : كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء ، فيهم أبو بكر وعمر » . ( الإصابة : 3 / 12 ) .
ثم كان سالم وأبو عبيدة شريكي الشيخين في عملهم لأخذ الخلافة وهو الذي قال فيه عمر : لو كان حياً لوليته ! ( تاريخ المدينة : 3 / 140 ) مع أن سالم فارسي !
واشتهر سالم بأنه رضع وهو كبير من سهلة زوجة أبي حذيفة ليحرم عليها ولم يُروَ
--------------------------- 61 ---------------------------
ذلك عن سالم ولاعن سهلة إلا عائشة فقد زعمت أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أجاز لسهلة ذلك ، فأرضعت عائشة بضعة رجال من أختها وزوجة أخيها ليدخلوا عليها ، واستنكر ذلك نساء النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! ( مصنف عبد الرزاق : 7 / 458 ) .
3 . قتل أبو حذيفة وسالم في حرب مسيلمة الكذاب ، وكان محمد بن أبي حذيفة يومها دون العشرين ، ويظهر أنه عاش بعيداً عن أمه سهلة لأنها انشغلت بأزواجها ! ففي الإصابة ( 8 / 193 ) : « ثم تزوجت شماخ بن سعيد بن قائف بن الأوقص السلمي ، فولدت له عامراً ، ثم تزوجت عبد الله بن الأسود بن عمرو من بني مالك بن حسل فولدت له سليطاً ، ثم تزوجت عبد الرحمن بن عوف فولدت له سالماً ، فهم إخوة محمد بن أبي حذيفة لأمه » .
وشارك محمد في فتوح الشام ، وكان يسخر من كعب الأحبار ومن علمه المزعوم ! قال في تاريخ المدينة ( 3 / 1117 ) : « ركب كعب الأحبار ومحمد بن أبي حذيفة في سفينة قِبَلَ الشام ، زمن عثمان في غزوة غزاها المسلمون ، فقال محمد لكعب : كيف تجد نعت سفينتنا هذه في التوراة تجري غداً في البحر ! فقال كعب : يا محمد لاتسخر بالتوراة فإن التوراة كتاب الله . قال : ثم قال له ( محمد ) ذاك ثلاث مرات » !
وهذا يشير إلى أن محمداً شيعي لا يحترم كعباً !
وكان محمد ( رحمه الله ) يجيد القرآن ، فقد وصفه البيهقي ( 3 / 225 ) بأنه من أقرأ الناس .
4 . كان لمحمد في مصر دور مهم فقد بايعه المصريون وعزلوا والي عثمان ، وهو الذي أرسل الوفد المسلح الذين حاصروا عثمان وقتلوه .
قال الطبري : 3 / 548 : « أقام بمصر ، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح وضبطها ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل عثمان وبويع لعلي )
وأصح الروايات في موت محمد أنه بعد مجيئ قيس بن سعد والياً على مصر من قبل علي ( عليه السلام ) ذهب محمد إلى علي ( عليه السلام ) ، فاحتال عليه معاوية وقبض عليه في الطريق وحبسه ، ثم هرب من السجن ، فطارده معاوية وقتله ، ولم يعلن ذلك معاوية حتى لا يكون لبني عتبة ثار عنده !
--------------------------- 62 ---------------------------
وقد روى البلاذري ( 2 / 407 ) أقوالاً في شهادته ( رحمه الله ) قال : « ويقال أيضاً : إن ابن أبي حذيفة توارى فطلبه عمرو بن العاص حتى قدر عليه وحمله إلى معاوية فحبسه ، ثم هرب من حبسه فلُحق فقتل . عن الليث بن سعد قال : بلغنا أن محمد بن أبي حذيفة لما ولِيَ قيس بن سعد ، شَخَصَ عن مصر يريد المدينة أو يريد علياً ، وبلغ معاوية خبر شخوصه فوضع عليه الأرصاد حتى أخذ وحمل إليه فحبسه ، فتخلص من الحبس ، واتبعه رجل من اليمانية فقتله » .
أقول : هكذا أبعد معاوية دم ابن خاله عن نفسه ، بروايات متناقضة !
وفي رواية الكشي المعتبرة أنه قتله بعد شهادة علي ( عليه السلام ) فقد روى ( 1 / 286 ) : « عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : إن المحامدة تأبى أن يعصى الله عز وجل . قلت : ومن المحامدة ؟ قال : محمد بن جعفر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، ومحمد بن أمير المؤمنين . أما محمد بن أبي حذيفة هو ابن عتبة بن ربيعة وهو ابن خال معاوية أخبرني بعض رواة العامة عن محمد بن إسحاق قال : حدثني رجل من أهل الشام قال : كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع علي بن أبي طالب ومن أنصاره وأشياعه ، وكان ابن خال معاوية وكان رجلاً من خيار المسلمين ، فلما توفي عليٌّ ( عليه السلام ) أخذه معاوية وأراد قتله فحبسه في السجن دهراً ، ثم قال معاوية ذات يوم : ألا نرسل إلى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة فنُبَكِّتَهُ ونخبره بضلاله ، ونأمره أن يقوم فيسب علياً ؟ قالوا : نعم . فبعث إليه معاوية فأخرجه من السجن ، فقال له معاوية : يا محمد بن أبي حذيفة ألم يَأْنَ لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب الكذاب . ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوماً ، وأن عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه ، وأن علياً هو الذي دس في قتله ، ونحن اليوم نطلب بدمه ؟ قال محمد بن أبي حذيفة : إنك لتعلم أني أمسُّ القوم بك رحماً ، وأعرفهم بك ؟ قال : أجل . قال : فوالله الذي لا إله غيره ، ما أعلم أحداً شرك في دم عثمان ، وألَّب الناس عليه غيرك ، لما استعملك ومن كان مثلك ، فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ، ففعلوا به ما بلغك ! ووالله ما أحد اشترك في قتله بدءً
--------------------------- 63 ---------------------------
وأخيراً إلا طلحة والزبير وعائشة ، فهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة وألبوا عليه الناس ، وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعاً . قال : قد كان ذلك . قال : فوالله إني لأشهد أنك مذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ، ما زاد فيك الإسلام قليلاً ولا كثيراً ، وإن علامة ذاك
فيك لبينة !
تلومني على حب علي ! خرج مع علي كل صوام قوام مهاجري وأنصاري وخرج معك أبناء المنافقين والطلقاء والعتقاء ، خدعتهم عن دينهم وخدعوك عن دنياك ، والله ما خفي عليك ما صنعت ، وما خفي عليهم ما صنعوا إذ أحلوا أنفسهم لسخط الله في طاعتك ! والله لا أزال أحب علياً لله ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) وأبغضك في الله ورسوله ، أبداً ما بقيت ! قال معاوية : وإني أراك على ضلالك بعد . ردوه ، فردوه وهو يقرأ : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ » .
ثم هرب من السجن ، فأدركه معاوية وقتله .

  • *

ولاية مالك الأشتر على مصر

ولاية مالك الأشتر على مصر
ترجمنا لمالك الأشتر رضي الله عنه في كتاب قراءة جديدة في الفتوحات ، بمناسبة أنه كان بطل اليرموك وهازم الروم من سوريا وفلسطين .
ثم كانت له مشاركات مهمة في الفتوحات ، ثم كان واحداً من قادة المعترضين على عثمان ثم كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب الجمل وصفين ، ثم أرسله قبل حرب النهروان والياً على مصر ، فاحتال عليه معاوية وقتله بالسم لما وصل إلى القاهرة ، قبل أن يباشر مهمته كحاكم على مصر .
روى الثقفي في الغارات ( 1 / 254 ) عن المدائني قال : « فلم يلبث ابن أبي بكر شهراً كاملاً حتى بعث إلى أولئك المعتزلين ، الذين كان قيس بن سعد موادعاً لهم ، فقال : يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا ، وإما أن تخرجوا من بلادنا . فبعثوا إليه : إنا لا نفعل فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمرالناس فلا تعجل حربنا ،
--------------------------- 64 ---------------------------
فأبى عليهم ، فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم .
ثم كانت وقعة صفين وهم لمحمد هائبون ، فلما أتاهم خبرمعاوية وأهل الشام وصارت أمورهم إلى الحكومة ، وأن علياً وأهل العراق قد رجعوا عن معاوية وأهل الشام إلى عراقهم ، اجترؤوا على محمد بن أبي بكر وأظهروا المنابذة له ، فلما رأى ذلك محمد بعث ابن جمهان البلوى إليهم ، وفيهم يزيد بن الحارث من بني كنانة فقاتلهم فقتلوه ، ثم بعث إليهم رجلاً من كلب فقتلوه أيضاً .
وخرج معاوية بن حديج السكسكي فدعا إلى الطلب بدم عثمان ، فأجابه ناس كثير آخرون ، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر ، فبلغ علياً توثبهم عليه فقال : ما لمصر إلا أحد الرجلين : صاحبنا الذي عزلناه عنها بالأمس يعني قيس بن سعد ، أو مالك بن الحارث . وكان علي ( عليه السلام ) حين رجع عن صفين قد رد الأشتر إلى عمله بالجزيرة ، وقال لقيس بن سعد : أقم أنت معي على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة ، ثم اخرج إلى آذربيجان ، فكان قيس مقيماً على شرطته . فلما انقضى أمر الحكومة كتب علي إلى مالك الأشتر وهو يومئذ بنصيبين : أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين ، وأقمع به نخوة الأثيم ، وأسدُّ به الثغر المخوف ، وقد كنت وليت محمد بن أبي بكر مصر ، فخرجت عليه خوارج وهو غلام حدث السن ، ليس بذي تجربة للحروب ولا مجرباً للأشياء ، فأقدم عليَّ لننظر فيما ينبغي ، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك . والسلام .
فأقبل مالك إلى علي ( عليه السلام ) واستخلف على عمله شبيب بن عامر الأزدي ، وهو جد الكرماني الذي كان بخراسان صاحب نصر بن سيار ، فلما دخل مالك على علي ( عليه السلام ) حدثه حديث مصر ، وخبره خبر أهلها وقال : ليس لها غيرك فأخرج إليها رحمك الله ، فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك ، واستعن بالله على ما أهمك . أخلط الشدة باللين ، وارفق ما كان الرفق أبلغ ، واعتزم على الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة » .
ولا يصح قولهم إن الإمام ( عليه السلام ) ندم على عزله قيساً ، وكان يفكر بتوليته مصر !
--------------------------- 65 ---------------------------

رسالة الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر لما بعث لهم الأشتر

رسالة الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر لما بعث لهم الأشتر
( من كتاب له ( عليه السلام ) إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر ( رحمه الله ) : من عبد الله عليٍّ أمير المؤمنين ، إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه وذُهب بحقه ، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر ، والمقيم والظاعن ، فلا معروف يستراح إليه ، ولا منكر يتناهى عنه .
أما بعد ، فإني قد بعثت إليكم عبداً من عباد الله ، لا ينام أيام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء حذر الدوائر . لاناكلٍ من قدم ، ولا واهٍ في عزم ، من أشد عباد الله بأساً ، وأكرمهم حسباً ، أضرعلى الفجار من حريق النار ، وأبعد الناس من دنس أو عار ، وهومالك بن الحارث الأشتر ، حسام صارم ، لانابي الضريبة ، ولا كليل الحد . حليم في السلم رزين في الحرب ، ذو رأي أصيل ، وصبر جميل . فاسمعوا له وأطيعوا أمره ، فإن أمركم بالنفر فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنه لا يقدم ولايحجم إلا بأمري . وقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم وشدة شكيمة على عدوكم ، عصمكم الله بالهدى ، وثبتكم بالتقوى ، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى . والسلام عليكم ورحمة الله » . ( نهج البلاغة : 3 / 63 ، والاختصاص / 80 ) .
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 16 / 156 ) : « هذا الفصل يُشكل عليَّ تأويله لأن أهل مصرهم الذين قتلوا عثمان ، وإذا شهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنهم غضبوا لله حين عصيَ في الأرض ، فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان وإتيان المنكر ! ويمكن أن يقال وإن كان متعسفاً : إن الله تعالى عُصيَ في الأرض لامن عثمان بل من ولاته وأمرائه وأهله ، وذهب بينهم بحق الله وضرب الجور سرادقه بولايتهم ، وأمرهم على البر والفاجر ، والمقيم والظاعن ، فشاع المنكر ، وفقد المعروف .
يبقى أن يقال : هب أن الأمر كما تأولت ، فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى ماذا آل أمرهم ، أليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان ! فلا تعدو حالهم أمرين ، إما أن يكونوا أطاعوا الله بقتله فيكون عثمان عاصياً مستحقاً للقتل ، أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله ، فعثمان إذا على حق وهم
--------------------------- 66 ---------------------------
الفساق العصاة . فكيف يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين !
يمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا لله وجاءوا من مصر وأنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق ، وحصروه في داره طلباً أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه ، أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم ، فلما حُصر طمع فيه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدينة وغيرها ، وصار معظم الناس إلباً عليه ، وقلَّ عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره ومطالبته بخلع نفسه وتسليم مروان وغيره من بنى أمية إليهم ، وعزل عماله والإستبدال بهم ، ولم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه ، ولكن قوماً منهم ومن غيرهم تسوروا داره ، فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم ، فقادت الضرورة إلى النزول والإحاطة به ، وتسرع إليه واحد منهم فقتله .
ثم إن ذلك القاتل قتل في الوقت ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم ، وشرحناه ، فلا يلزم من فسق ذلك القاتل وعصيانه أن يفسق الباقون ، لأنهم ما أنكروا إلا المنكر ، وأما القتل فلم يقع منهم ، لا راموه ولا أرادوه ، فجاز أن يقال : إنهم غضبوا لله ، وأن يثني عليهم ويمدحهم » .
أقول : هذا ما اخترعه المعتزلة المحبون لعثمان وعلي ( عليه السلام ) وهو غاية ما يصل اليه الخيال في مقتل عثمان وتبرئته من الظلم ، وتبرئة المصريين من دمه .

رسالة أخرى بعثها الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر

رسالة أخرى بعثها الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر
ويظهر أنها تمهيد لإرسال الأشتر ، لكن ذكر بعضهم أنه أرسلها معه :
« أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( ( عليهما السلام ) ) نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى ( ( عليهما السلام ) ) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تُزعج هذا الأمر من بعده ( ( عليهما السلام ) ) عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده . فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي ، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد ( ( عليهما السلام ) ) فخشيت إن لم أنصرالإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ،
--------------------------- 67 ---------------------------
أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه .
ومنها : إني والله لو لقيتهم واحداً وهم طِلاع الأرض كلها ، ما باليت ولا استوحشت ! وإني من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه ، لعلى بصيرة من نفسي ، ويقين من ربي . وإني إلى لقاء الله وحسن ثوابه لمنتظر راج .
ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها ، فيتخذوا مال الله دولاً ، وعباده خَوَلاً ، والصالحين حرباً ، والفاسقين حزباً ، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام ، وجلد حداً في الإسلام ، وإن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ !
انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوكم ، ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف وتبوؤوا بالذل ، ويكون نصيبكم الأخس . وإن أخا الحرب الأرِقُ ومن نام لم يُنم عنه . والسلام » . ( نهج البلاغة : 3 / 118 ) .

شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه

شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه
1 . قال ابن تغري في النجوم الزاهرة : 1 / 103 : « فخرج الأشتر من عند علي وأتى رحله ، وتهيأ للخروج إلى مصر ، وكتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصرفشق عليه وعظم ذلك لديه ، وكان قد طمع في مصروعلم أن الأشتر متى قدمها كان أشد عليه . فكتب معاوية إلى الخانْسِيَار رجل من أهل الخراج ، وقيل كان دهقان القلزم يقول : إن الأشتر واصل إلى مصر قد وليها ، فإن أنت كفيتني إياه لم آخذ منك خراجاً ما بقيتُ ، فأقبل لهلاكه بكل ما تقدر عليه ! فخرج الخانسيار حتى قدم إلى القلزم فأقام به ، وخرج الأشتر من العراق يريد مصر حتى قدم القلزم ، فاستقبله الخانسيار فقال له : إنزل فإني رجل من أهل الخراج وقد أحضرت ما عندي ، فنزل الأشتر فأتاه بطعام وعلف ، وسقاه شربة من عسل جعل فيها سُمّاً فلما شربه مات ! وبعث الخانسيار من أخبر بموته معاوية ، فلما بلغ معاوية وعمرو بن العاص موت الأشتر ، قال عمرو بن العاص : إن لله جنوداً من عسل !
--------------------------- 68 ---------------------------
وقال ابن الكلبي : لما سارالأشتر إلى مصرأخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له نافع ، وأظهر له الود وقال له : أنا مولى عمر بن الخطاب ، فأدناه الأشتر وقربه ووثق به وولاه أمره ، فلم يزل معه إلى عين شمس ، أعني المدينة الخراب خارج مصر بالقرب من المطرية ، فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا ، وسقاه نافع المذكور العسل فمات منه » . ويظهر أن نافعاً كان عميل معاوية .
2 . قال الطبري ( 2 / 72 ) : « وأقبل معاوية يقول لأهل الشأم : إن علياً وجَّهَ الأشتر إلى مصرفادعوا الله أن يكفيكموه ، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر . وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر ، فقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قَطعتُ إحداهما يوم صفين يعنى عمار بن ياسر ، وقَطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر » .
3 . وفي تاريخ دمشق : 56 / 376 ، أن معاوية قال لأهل الشام : « يا أهل الشام إنكم منصورون ومستجاب لكم الدعاء فادعوا الله على عدوكم ! فرفع أهل الشام أيديهم يدعون عليه ، فلما كانت الجمعة الأخرى خطب فقال : يا أهل الشام إن الله قد استجاب لكم وقتل عدوكم ! وإن لله جنوداً في العسل ، فرفع أهل الشام أيديهم حامدين الله على كفايتهم إياه » . ونحوه في تاريخ اليعقوبي ( 2 / 179 ) وشرح النهج ( 6 / 76 ) .
4 . وفي مجمع الأمثال ( 2 / 215 ) : « لاجِدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك . يقال ضربه فأقعصه أي قتله مكانه . يقول : جدك الحقيقي ما دفع عنك المكروه ، وهو أن تقتل عدوك دونك . قاله معاوية حين خاف أن يميل الناس إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فاشتكى عبد الرحمن ، فسقاه الطبيب شربة عسل فيها سُمٌّ فأخرقته ، فعند ذلك قال معاوية
هذا القول » .
وفي محاضرات الراغب ( 1 / 531 ) : « قال معاوية لما أتاه خبر موت أمير المؤمنين علي :
لا جدَّ إلا ما أقعص عنك » . أي قتل عدوك دفعة واحدة .
--------------------------- 69 ---------------------------

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مالك الأشتر رضي الله عنه

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مالك الأشتر رضي الله عنه
« عن صعصعة بن صوحان قال : فلما بلغ علياً ( عليه السلام ) موت الأشتر قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين .
اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالكاً فقد وفى بعهده ، قضى نحبه ولقي ربه ، مع أنا قد وطنا أنفسنا على أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، فإنها أعظم المصائب . .
عن فضيل بن خديج ، عن أشياخ النخع قالوا : دخلنا على علي ( عليه السلام ) حين بلغه موت الأشتر ، فجعل يتلهف ويتأسف عليه ويقول : لله در مالك ، وما مالك ! لو كان جبلاً لكان فِنداً ، ولو كان حجراً لكان صَلْداً ، أما والله ليهدن موتك عالماً وليفرحن عالماً ، على مثل مالك فلتبك البواكي ، وهل موجود كمالك ! فقال علقمة بن قيس النخعي : فما زال عليٌّ ( عليه السلام ) يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا ، وقد عُرف ذلك في وجهه أياماً » .
وفي الإختصاص / 81 : « وبكى عليه أياماً ، وحزن عليه حزناً شديداً ، وقال : لا أرى مثله بعده أبداً » .
وشهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الأشتر شهادة عظيمة فقال : « رحم الله مالكاً وما مالك ! عزَّ عليَّ به هالكاً . لو كان صخراً لكان صَلداً ( لصلابته ويقينه ) ولو كان جبلاً لكان فِنداً ( مميزاً ) وكأنه قُدَّ مني قداً » . ( رجال الكشي : 1 / 283 ) .
وأعظم منها شهادة النبي ( ( عليهما السلام ) ) في حق المقداد الكندي رضي الله عنه !
« قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : قُدَّ منِّي قَدّاً » . ( نهج الحق للعلامة / 304 ) .

قبر مالك الأشتر رضي الله عنه في مصر

قبر مالك الأشتر رضي الله عنه في مصر
قال الكاتب الورداني في كتابه : الشيعة في مصر / 108 : « لما سارالأشتر إلى مصرأخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة ، فجاءه مولى لعثمان يقال له نافع وأظهر له الود . فلم يزل معه إلى عين شمس ، فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا ،
--------------------------- 70 ---------------------------
وسقاه نافع العسل فمات !
وهذه الرواية أقرب الروايات إلى الواقع ، وتؤكد صحة موضع قبره بمنطقة القلج ، وهي من أحياء المرج ، والمرج مدخل القاهرة من شمالها الشرقي وهي قرب بلدة الخانكة ، وهي ضمن مدينة عين شمس القديمة » .
أقول : توفقت لزيارة قبره رضي الله عنه ، وقد بنى مشهده الشيعة الهنود ، وهو على بعد 25 كيلو متر من قلب القاهرة ، وقلت لصاحب دكان من جيرانه : مبارك لكم جوار هذا الولي إن شاء الله ترون بركته . فقال : الحمد لله رأينا بركته . فسألته : هل صحيح أن بعض الأشرار أرادوا هدم قبره ؟ قال : نعم ، وخرجنا إليهم بالخشب ضربناهم وطردناهم . سألته : من هم ؟ فقال : الكلاب الوهابية !

  • *

عهد الإمام ( ( ع ) ) إلى مالك الأشتر

عهد الإمام ( ( ع ) ) إلى مالك الأشتر
من كنوز الأمة الإسلامية عهد أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر رضي الله عنه ، عندما ولاه مصر ( نهج البلاغة : 3 / 82 ) وهو برنامج عمل شامل للحاكم ، في سلوكه الشخصي ، والسياسي ، والعمراني .
ولم يعرف قدره عالمنا الإسلامي مع الأسف ، وعرفه بعض الحقوقيين الغربيين فترجموه إلى الألمانية وغيرها ، وجعلوه مصدراً للتقنين .
ولا يتسع المجال للإفاضة فيه ، فنكتفي بوضع عناوين لفقراته :

هدف الحكم

هدف الحكم
( بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر ، في عهده إليه حين ولاه مصر : جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها .
--------------------------- 71 ---------------------------

أصول الفكر والسلوك للحاكم

أصول الفكر والسلوك للحاكم
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته ، واتباع ما أمر به في كتابه : من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها ، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه ، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره ، وإعزاز من أعزه . وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ، ويزعها عند الجمحات ، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله .

كيف يجب أن تكون نظرة الحاكم إلى نفسه ؟

كيف يجب أن تكون نظرة الحاكم إلى نفسه ؟
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك ، من عدل وجور ، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم . وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح . فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك ، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها ، فيما أحبت أو كرهت .

أهم صفات الحاكم محبة المواطنين كلهم

أهم صفات الحاكم محبة المواطنين كلهم
وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ . فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك . وقد استكفاك أمرهم ، وابتلاك بهم .
--------------------------- 72 ---------------------------

خطأ شعور الحاكم بالصراع بينه وبين فئة من المواطنين

خطأ شعور الحاكم بالصراع بينه وبين فئة من المواطنين
ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته . ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة ، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع ، فإن ذلك إدغال في القلب ، ومنهكة للدين ، وتقرب من الغير .

كيف يجاهد الحاكم نفسه ويتخلص من غروره ؟

كيف يجاهد الحاكم نفسه ويتخلص من غروره ؟
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة ، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ، ويكف عنك من غربك ، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك . إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته ، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال . أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ، ومن خاصة أهلك ، ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته ، وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب . وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته ، من إقامة على ظلم ، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد .

موقف الحاكم إلى جنب الجمهور وليس البطانة

موقف الحاكم إلى جنب الجمهور وليس البطانة
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة . وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقل شكراً عند الإعطاء ، وأبطأ عذراً عند المنع وأضعف صبراً عند ملمات الدهر ، من أهل الخاصة . وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم .
--------------------------- 73 ---------------------------

موقف الحاكم من المخابرات والمتملقين والنمامين

موقف الحاكم من المخابرات والمتملقين والنمامين
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك ، أطلبهم لمعائب الناس ، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها . فلا تكشفن عما غاب عنك منها ، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك ، والله يحكم على ما غاب عنك . فاستر العورة ما استطعت ، يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك .
أطلق عن الناس عقدة كل حقد . واقطع عنك سبب كل وتر . وتغاب عن كل ما لا يضح لك ، ولا تعجلن إلى تصديق ساع ، فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين . ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ، ولا جباناً يضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .
صفات الوزراء الحسنة والسيئة
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام . فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الأثمة ، وإخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ، ولا آثما على إثمه . أولئك أخف عليك مؤونة ، وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفاً ، وأقل لغيرك إلفاً ، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمُرِّ الحق لك ، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك ، مما كره الله لأوليائه ، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع ، والصق بأهل الورع والصدق ، ثم رُضْهم على أن لايطروك ، ولايبجحوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو ، وتدني من العزة .
محاسبة الوزراء
ولا يكن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة فألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه .
--------------------------- 74 ---------------------------
سياسة إعطاء الحرية للمواطنين وحسن الظن بهم
واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته ، من إحسانه إليهم ، وتخفيفه المؤونات عليهم ، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك ، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً ، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده ، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده .
احترام العادات الاجتماعية وتحسينها
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة ، واجتمعت بها الألفة ، وصلحت عليها الرعية . ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن ، فيكون الأجر لمن سنها ، والوزر عليك بما نقضت منها .
المستشارون في القضايا الإستراتيجية
وأكثر مدارسة العلماء ، ومنافثة الحكماء ، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك .

طبيعة المجتمع وتركيبه من فئات وطبقات

طبيعة المجتمع وتركيبه من فئات وطبقات
واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض . فمنها جنود الله . ومنها كتاب العامة والخاصة . ومنها قضاة العدل . ومنها عمال الإنصاف والرفق . ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس . ومنها التجار
وأهل الصناعات . ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة . وكلا قد سمى الله سهمه ، ووضع على حده فريضته ، في كتابه أو سنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) عهداً منه عندنا محفوظاً ! فالجنود بإذن الله حصون الرعية ، وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبل الأمن ، وليس تقوم الرعية إلا بهم .
ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج ، الذي يقوون به في جهاد عدوهم ، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ، ويكون من وراء حاجتهم .
ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون
--------------------------- 75 ---------------------------
من المعاقد ، ويجمعون من المنافع ، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها . ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار ، وذوي الصناعات ، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ، ويقيمونه من أسواقهم ، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ، ما لا يبلغه رفق غيرهم . ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم ، وفي الله لكل سعة ، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه .
وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك ، إلا بالاهتمام والاستعانة بالله ، وتوطين نفسه على لزوم الحق ، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل .

سياسة الحاكم مع القوات المسلحة

سياسة الحاكم مع القوات المسلحة
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك ، وأنقاهم جيباً ، وأفضلهم حلماً ، ممن يبطئ عن الغضب ، ويستريح إلى العذر ، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء . وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف .
ثم ألصق بذوي الأحساب ، وأهل البيوتات الصالحة ، والسوابق الحسنة ،
ثم أهل النجدة والشجاعة ، والسخاء ، والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم ، وشعب من العرف . ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به . ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك . ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها ، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به ، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه . وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جِدته ، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم ، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو . فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك .

سياسة الحاكم مع قادة الجيش الحكام

سياسة الحاكم مع قادة الجيش الحكام
وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، وظهور مودة الرعية . وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة
--------------------------- 76 ---------------------------
أمورهم ، وقلة استثقال دولهم ، وترك استبطاء انقطاع مدتهم . فافسح في آمالهم ، وواصل في حسن الثناء عليهم ، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم . فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع ، وتحرض الناكل إن شاء الله . ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ، ولا تقصرن به دون غاية بلائه ، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً . واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ، ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَئٍْ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ . فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة .

سياسة الحاكم مع القوة القضائية

سياسة الحاكم مع القوة القضائية
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ، ممن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ، ممن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء ، وأولئك قليل . ثم أكثر تعاهد قضائه ، وافسح له في البذل ما يزيل علته ، وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك . فانظر في ذلك نظراً بليغاً ، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار ، يُعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدنيا .
سياسة الحاكم مع ولاة المحافظات
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة وأثرةً ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء ، من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إشرافاً ،
--------------------------- 77 ---------------------------
وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .
ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنىً لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك ، أو ثلموا أمانتك .
جهاز المخابرات الخاص برئيس الدولة
ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية . وتحفظ من الأعوان ، فإن أحدٌ منهم بسط يده إلى خيانة ، اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك ، اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ، ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة .
السياسة المالية والضرائبية
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله . وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة . ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً ، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة ، أو إحالة أرض اغتمرها غرق ، أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم . ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم ، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك ، باستفاضة العدل فيهم ، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم ، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به ، فإن العمران محتمل ما حملته ، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر .
--------------------------- 78 ---------------------------

الجهاز الإداري الخاص بالحاكم

الجهاز الإداري الخاص بالحاكم
ثم انظر في حال كُتَّابك ، فولِّ على أمورك خيرهم ، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم ، لوجود صالح الأخلاق ، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك ، وإصدار جواباتها على الصواب عنك ، وفيما يأخذ لك ويعطي منك . ولا يضعف عقداً اعتقده لك ، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور ، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل . ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك ، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم ، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ ، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك ، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً ، وأعرفهم بالأمانة وجهاً ، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره .
واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم ، لا يقهره كبيرها ، ولا يتشتت عليه كثيرها ، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته .

سياسة الدولة مع التجار والكسبة

سياسة الدولة مع التجار والكسبة
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً : المقيم منهم ، والمضطرب بماله ، والمترفق ببدنه ، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق ، وجلابها من المباعد والمطارح ، في برك وبحرك ، وسهلك وجبلك ، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ، ولا يجترئون عليها ، فإنهم سلم لا تخاف بائقته ، وصلح لا تخشى غائلته . وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك .
واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً ، وشحاً قبيحاً ، واحتكاراً للمنافع ، وتحكماً في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة . فامنع من الإحتكار فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) منع منه ، وليكن البيع بيعاً سمحاً ، بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع . فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به ، وعاقب في غير إسراف .
--------------------------- 79 ---------------------------

سياسة الدولة مع الطبقة الفقيرة

سياسة الدولة مع الطبقة الفقيرة
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، والمساكين والمحتاجين ، وأهل البؤسى والزمنى ، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً . واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك ، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد ، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ، وكل قد استرعيت حقه ، فلا يشغلنك عنهم بطر ، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم ، فلا تشخص همك عنهم ، ولا تصعر خدك لهم ، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ، ممن تقتحمه العيون ، وتحقره الرجال ، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع ، فليرفع إليك أمورهم ، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه ، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم ، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه .
وتعهد أهل اليتم ، وذوي الرقة في السن ، ممن لا حيلة له ، ولا ينصب للمسألة نفسه ، وذلك على الولاة ثقيل ، والحق كله ثقيل ، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ، ووثقوا بصدق موعود الله لهم .

سياسة الحاكم مع المراجعين

سياسة الحاكم مع المراجعين
واجعل لذوي الحاجات منك قسماً ، تفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك ، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع ، فإني سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول في غير موطن : لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع . ثم احتمل الخرق منهم والعي ، ونح عنك الضيق والأنف ، يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ، ويوجب لك ثواب طاعته . وأعط ما أعطيت هنيئاً ، وامنع في إجمال وإعذار .
--------------------------- 80 ---------------------------

برنامج أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لعمل الحاكم اليومي

برنامج أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لعمل الحاكم اليومي
ثم أمورٌ من أمورك لا بد لك من مباشرتها : منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كُتابك . ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك ، مما تحرج به صدور أعوانك . وأمض لكل يوم عمله ، فإن لكل يوم ما فيه ، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت ، وأجزل تلك الأقسام ، وإن كانت كلها لله ، إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية . وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك ، إقامة فرائضه التي هي له خاصة ، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص ، بالغاً من بدنك ما بلغ . وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً ، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة . وقد سألت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم فقال : صل بهم كصلاة أضعفهم ، وكن بالمؤمنين رحيما .
لقاءات الحاكم المباشرة مع الناس
وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك ، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق ، وقلة علم بالأمور . والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه ، فيصغر عندهم الكبير ، ويعظم الصغير ، ويقبح الحسن ويحسن القبيح ، ويشاب الحق بالباطل ، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ، وليست على الحق سيماء تتعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، وإنما أنت أحد رجلين : إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ، ففيم احتجابك من حق تعطيه ، أو فعل كريم تسديه ،
أو مبتلى بالمنع ، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك ، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك ، من شكاة مظلمة ، أو طلب إنصاف في معاملة . ثم إن للوالي خاصة وبطانة ، فيهم استئثار ، وتطاول ، وقلة إنصاف في معاملة ، فاحسم مادة أولئك ، بقطع أسباب تلك الأحوال .
--------------------------- 81 ---------------------------

سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته

سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته
ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة ، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس ، في شرب أو عمل مشترك ، يحملون مؤونته على غيرهم ، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك ، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة . وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ، وكن في ذلك صابراً محتسباً ، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع . وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإن مغبة ذلك محمودة ، وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك ، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك ، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ، ورفقاً برعيتك ، وإعذاراً تبلغ به حاجتك ، من تقويمهم على الحق .

سياسة السلم والحذر مع العدو والالتزام الكامل بالإتفاقيات

سياسة السلم والحذر مع العدو والالتزام الكامل بالإتفاقيات
ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى ، فإن في الصلح دعة لجنودك ، وراحة من همومك ، وأمناً لبلادك . ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن . وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ، فإنه ليس من فرائض الله شئٌ الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود . وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ، لما استوبلوا من عواقب الغدر . فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك ، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي . وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره . فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه .
ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته ، خير من غدر تخاف تبعته ، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة ، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك .
--------------------------- 82 ---------------------------

تحذير الحاكم من سفك الدماء

تحذير الحاكم من سفك الدماء
إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة ، من سفك الدماء بغير حقها . والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة . فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله . ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد ، لأن فيه قود البدن . وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة ، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة ، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم . وإياك والإعجاب بنفسك ، والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء ، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين .

الخطوط العامة لسياسة الحاكم مع المواطنين

الخطوط العامة لسياسة الحاكم مع المواطنين
وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ، أوالتزيد فيما كان من فعلك ، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإن المن يبطل الإحسان ، والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى : كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاتَفْعَلُونَ .

التثبت والاعتدال في اتخاذ القرارات

التثبت والاعتدال في اتخاذ القرارات
وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها ، أو التسقط فيها عند إمكانها ، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت ، أو الوهن عنها إذا استوضحت ، فضع كل أمر موضعه ، وأوقع كل عمل موقعه . وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة ، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون ، فإنه مأخوذ منك لغيرك . وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور ، وينتصف منك للمظلوم .

كيف يكون الحاكم حاكم نفسه ويسيطر على غضبه ؟

كيف يكون الحاكم حاكم نفسه ويسيطر على غضبه ؟
أملك حمية أنفك ، وسورة حدك ، وسطوة يدك ، وغرب لسانك . واحترس من كل ذلك بكف البادرة ، وتأخير السطوة ، حتى يسكن غضبك ، فتملك الاختيار . ولن تحكم ذلك من نفسك ، حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك ، والواجب عليك أن تتذكر ما مضى
--------------------------- 83 ---------------------------
لمن تقدمك من حكومة عادلة ، أو سنة فاضلة ، أو أثر عن نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ، أو فريضة في كتاب الله ، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها ، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا ، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها .
دعاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالتوفيق في تحقيق أهدافه في الحكم
وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة ، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه ، من الإقامة على العذر الواضح إليه ، وإلى خلقه ، مع حسن الثناء في العباد ، وجميل الأثر في البلاد ، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة ، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة ، وإنا إليه راغبون » .

  • *
    --------------------------- 84 ---------------------------

الفصل الثامن والثمانون: إمام الخوارج : حرقوص بن زهير

1 . اسمه وصفته :

هو حرقوص بن زهير البجلي السعدي التميمي ، حليف بني سعد ، فرع من بني تميم يسكنون البصرة . ومنهم شخصيات ، مثل جارية بن قدامة السعدي ، الذي كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
قال السمعاني ( 5 / 215 ) والعلامة في كشف اليقين / 163 : ( حرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية ) وعرف باسم المخدَّج ، وذي الخُوَيْصرة ، وشيطان الردهة ، وشيطان الوهدة ، وسفعة الشيطان ، وذي الثندوة ، وذي الثَّدِية ، لأن يده اليسرى لها عضد بلا ذراع ، وذراعه غدة عليها شعر كشوارب القط !
( وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع ، على رأس عضده مثل حلمة الثدي ، عليه شعرات بيض ) . ( صحيح مسلم ( 3 / 115 ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 372 ) : ( حبشي مثل البعير في منكبه مثل ثدي المرأة ) . وفي الإصابة ( 2 / 342 ) : ( فكأني أنظر إليه حبشي عليه مريطة ) .
وذكرت المصادر زهيراً البجلي أباه ولم تذكر جده ، ولا متى أسلم ، لكن ذكرت أن حرقوصاً صحابي من أهل بيعة الرضوان ! ( الإصابة : 2 / 44 ) .
--------------------------- 85 ---------------------------

2 . علاقته بأَزَبّ العقبة وشيطانها :

2 . علاقته بأَزَبّ العقبة وشيطانها :
بعد بيعة الأنصار للنبي ( ( عليهما السلام ) ) سمعوا صيحة الشيطان فقال : هذا أزبُّ العقبة . وروي : الأزب ، بن أزيب ، وابن الأزيب . وشيطان الردهة .
قال ابن هشام ( 2 / 306 ) : ( فلما بايعنا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم ( أي محمد ( ( عليهما السلام ) ) ) والصباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ! قال فقال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : هذا أَزَبُّ العقبة ، هذا ابن أزيب ! أتسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك . قال ثم قال رسول الله : إرفَضُّوا إلى رحالكم ) .
ثم ظهر إبليس بصورة إنسان في معركة بدر ، يشجع المشركين على القتال .
قال ابن هشام ( 2 / 445 و 487 ) : « فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف بني كنانة . كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه ) . قال الله تعالى : وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ .
وقال ابن هشام ( 3 / 596 ) عن معركة أُحُد : ( وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء ! الصارخ : أزب العقبة ، يعني الشيطان ) . وفي سيرة ابن كثير ( 3 / 60 ) صرخ أربع مرات .
وفي توضيح المشتبه للقيسي ( 1 / 182 ) : ( بفتح الهمزة والزاي معاً وتشديد الموحدة ، كذلك ذكره ابن ماكولا ) .
قال في القاموس ( 1 / 36 ) : ( والإزب ، بالكسرالقصير والغليظ والداهية ، واللئيم ، والدميم ، والدقيق المفاصل الضاوي ) .
وقال الدميري في حياة الحيوان ( 1 / 431 ) : ( أزبُّ العقبة يقال له الخيتعور ، يريد به شيطان العقبة ، فجعل الخيتعور إسماً له ، وقيل : الخيتعور كل شئ يضمحل ولايدوم على حالة واحدة ، ولا يكون له حقيقة ، كالسراب ) .
--------------------------- 86 ---------------------------
وقال الشبلي في آكام المرجان في أحكام الجان ( 1 / 289 ) : ( الجباجب يعني منازل منى . قال السهيلي : وأصله أن الأوعية من الأدم كالزنبيل ونحوه يسمى جبجبة . وقال ابن ماكولا : لا يعرف الأزب في الأسماء إلا هذا . وقال السهيلي : الله أعلم هل الأزب أو الإزب شيطان واحد أو اثنان . والأزيب : الرجل المتقارب المشي ، وهو على وزن أفعل قاله صاحب العين . ويحتمل أن يكون ابن أزيب من هذا أيضاً . وأما البخيل فأزيب على وزن فعيل . ويجوز أن تكون أزيب وأزيبة مثل أرمل وأرملة ، فلا يكون فعيلاً ) .
والنتيجة : أن الشيطان قد يظهر بصورة إنسان أو غيره ، وقد ظهر في مكة وبدر وأحُد ، وأن علاقة أزب العقبة بحرقوص أن حرقوصاً شيطان الردهة ، وهو الأزب ، وسيأتي أن حرقوصاً شرك شيطان ، فالشيطان أبوه مع أبيه !
ويأتي قول النبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( يحتدره رجل من بجيلة ) . أي يضعه في رحم أمه .

3 . علاقة حرقوص بشيطان الردهة :

3 . علاقة حرقوص بشيطان الردهة :
شيطان الردهة والوهدة : أي شيطان الحفرة في الجبل التي يكون فيها ماء . وفسر بعضهم قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 156 ) : ( ألاوقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض . فأما الناكثون فقد قاتلت ، وأما القاسطون فقد جاهدت ، وأما المارقة فقد دوخت . وأما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ورجة صدره ) .
بأن المقصود به ذا الثدية ، وقد ضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه بذي الفقار . لكن يظهرأن موته يحتاج إلى صعقة مع الضربة .
وروى الحاكم ( 4 / 521 ) عن سعد : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : شيطان الردهة يحتدره
( ينزله في رحم أمه ) رجل من بجيلة يقال له الأشهب أو ابن الأشهب راعى الخيل . وراعى الخيل علامة في القوم الظلمة . هذا حديث صحيح ) . وهذا النص وأمثاله يدل على أنه بجلي وحليف لبني سعد من بني تميم !
وروى مثله أحمد ( 1 / 179 ) ووثقوه ! لكنهم مع ذلك قالوا إن شيطان الردهة ذو الثدية !
--------------------------- 87 ---------------------------
ومعناه أن شيطان الردهة شريك أبيه في ابنه حرقوص !
ويؤيد ذلك قول علي ( عليه السلام ) قال : ( قتل شيطان الوهدة . قال : سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : أمه أمة لبني سليم ، وأبوه شيطان ) . ( كتاب سليم / 411 ) .
وروى ابن أبي شيبة ( 8 / 733 و 735 ) : ( عن أبي بركة الصائدي قال : لما قتل علي ذا الثدية قال سعد : لقد قتل ابن أبي طالب جان الردهة ) .
قال في شرح النهج ( 13 / 183 ) : ( وأما شيطان الردهة ، فقد قال قوم إنه ذو الثدية صاحب النهروان ، ورووا في ذلك خبراً عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وممن ذكر ذلك واختاره الجوهري صاحب الصحاح . وهؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف ، ولكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة ، وإليها أشار ( عليه السلام ) بقوله : فقد كفيته بصعقة ، سمعت لها وَجْبَةَ قلبه . والردهة : شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء ، وهذا مثل قوله ( ( عليهما السلام ) ) : هذا أزب العقبة أي شيطانها ، ولعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه ، فتارة يرد بهذا اللفظ ، وتارة يرد بذلك اللفظ ) .
قال الجوهري في الصحاح ( 6 / 2232 ) : ( الردهة : نقرة في صخرة يستنقع فيها الماء ، والجمع رُدَهٌ ورُدَاه . يقال : قرِّب الحمار من الردهة ولا تقل له سأ . ( أي هو يشرب ولا تقل له ) . قال الخليل : الردهة : شبه أكمه كثيرة الحجارة . وفي الحديث أنه ( ( عليهما السلام ) )
ذكر المقتول بالنهروان فقال : شيطان الردهة ) .

4 . شرك الشيطان ابن شيطان الردهة :

4 . شرك الشيطان ابن شيطان الردهة :
استفاضت الأحاديث في مصادرنا بأن شرك الشيطان ابن شيطان الردهة ، ففي تفسير العياشي ( 2 / 299 ) ، وغيره : ( عن زرارة قال : كان يوسف أبو الحجاج صديقاً لعلي بن الحسين صلوات الله عليه وإنه دخل على امرأته فأراد أن يضمها أعني أم الحجاج ، قال : فقالت له : أليس إنما عهدك بذاك الساعة ؟ قال : فأتى علي بن الحسين فأخبره فأمره أن يمسك عنها فأمسك عنها فولدت بالحجاج ،
وهو ابن شيطان ذي الردهة ) .
وفي كنز الدقائق ( 7 / 443 ) عن الصادق ( عليه السلام ) في تفسير : وشارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ ،
--------------------------- 88 ---------------------------
قال : إن الشيطان ليجئ حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها ، ويحدث كما يحدث ، وينكح كما ينكح ! قلت : بأي شئ يعرف ذلك ؟ قال : بحبنا وبغضنا ، فمن أحبنا كان نطفة العبد ، ومن أبغضنا كان نطفة الشيطان .
وفي من لا يحضره الفقيه : قال الصادق ( عليه السلام ) : من لم يبال ما قال ولا ما قيل فيه فهو شرك الشيطان ، ومن لم يبال أن تراه الناس مسيئاً ، فهو شرك شيطان ، ومن اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما ، فهو شرك شيطان ، ومن شغف بمحبة الحرام وشهوة الزنا ، فهو شرك شيطان .
عن عبد الملك بن أعين قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : إذا زنى الرجل أدخل الشيطان ذكره ثم عملا جميعاً ، ثم تختلط النطفتان فيخلق الله منهما فيكون شرك الشيطان .
صفوان الجمال قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فاستأذن عيسى بن منصور عليه . فقال : مالك ولفلان يا عيسى ، أما إنه ما يحبك ! فقال : بأبي وأمي ، يقول قولنا ويتولى من نتولى . فقال : إن فيه نخوة إبليس . فقال : بأبي وأمي ، أليس يقول إبليس : خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ؟ فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ويقول الله : وشارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ ، فالشيطان يباضع ابن آدم هكذا . وقرن بين إصبعيه !
عن يونس قال : كنت عنده ليلة فذكرشرك الشيطان فعظَّمه حتى أفزعني ! فقلت : جعلت فداك ، فما المخرج منها وما نصنع ؟ قال : إذا أردت المجامعة فقل : بسم الله الرحمن الرحيم ، الَّذي لا إله إلَّا هو بديع السماوات والأرض الَّلهم إن قضيت مني في هذه اللَّيلة خليفة فلا تجعل للشيطان فيه نصيباً ولا شركاً ولاحظاً ، واجعله عبداً صالحاً خالصاً مخلصاً مصغياً ) .

5 . حرقوص شرك شيطان وهو نفسه من شياطين الردهة :

5 . حرقوص شرك شيطان وهو نفسه من شياطين الردهة :
هذا هو المرجح عندنا ، قال ابن أبي الحديد : ( فقد قال قوم إنه ذو الثدية صاحب النهروان ، ورووا في ذلك خبراً عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وممن ذكر ذلك واختاره الجوهري صاحب الصحاح . وهؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف ، ولكن الله رماه يوم
--------------------------- 89 ---------------------------
النهروان بصاعقة ، واليها أشار ( عليه السلام ) بقوله : فقد كفيته بصعقة سمعت لها وَجْبَةَ قلبه ) .
والمرجح عندنا أن الصعقة جاءته بعد ضربة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) له بذي الفقار ، قال في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 371 ) : ( فكان أول من خرج أخنس بن العيزارالطائي فقتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخرج إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الوضاح بن الوضاح من جانب ، وابن عمه حرقوص من جانب ، فقتلَ الوضاح ، وضرب ضربةً على رأس الحرقوص فقطعه ، ووقع رأس سيفه على الفرس فشرد ورجله في الركاب ، حتى أوقعه في دولاب ) .
وقال العلامة في كشف اليقين / 163 : ( فحمل ذو الثدية ليقتل علياً ( عليه السلام ) فسبقه علي وضربه ففلق البيضة ورأسه ، فحمله فرسه فألقاه في آخر المعركة في جرف دالية على شط النهروان ) .
وقال ابن ميثم في شرح النهج ( 4 / 312 ) : ( روي عن يزيد بن رويم قال : قال لي على ( عليه السلام ) في ذلك اليوم : يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية ، فلما طُحن القوم ورام إخراج ذي الثدية فأتعبه ، أمرني أن أقطع أربعة ألف قصبة ، وركب بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ثم أمرني أن أضع على كل رجل منهم قصبة ، فلم أزل كذلك وهو راكب خلفي والناس حوله حتى بقيت في يدي واحدة ، فنظرت إليه وقد ارْبَدَّ وجهه وهو يقول : والله ما كذبت ولا كُذبت ، فإذا نحن بخرير الماء في حفرة عند موضع دالية ، فقال لي : فتش هذا ، ففتشته فإذا قتيل قد صار في الماء وإذا رجله في يدي فجذبتها وقلت : هذه رجل إنسان ، فنزل عن البغلة مسرعاً فجذب الرجل الأخرى وجررناه فإذا هو المخدج ، فكبر ( عليه السلام ) ثم سجد ، وكبر الناس بأجمعهم .
وأما الصعقة الَّتي أشار إليها فهي ما أصاب ذا الثدية من الغشي والموت بضربته ( عليه السلام ) حتى استلزم ذلك ما حكاه من سماعه لرجة صدره ووجيب قلبه . وقال بعضهم المراد بالصعقة هنا الصاعقة وهي صيحة العذاب وذلك أنه
--------------------------- 90 ---------------------------
رويَ أن علياً ( عليه السلام ) لماقابل القوم صاح في القوم فكان ذو الثدية ممن هرب من صيحته ،
حتى وجد قتيلاً في الحفرة المذكورة ) .

6 . لا قيمة لتشكيك الذهبي بعد صحة الأحاديث :

6 . لا قيمة لتشكيك الذهبي بعد صحة الأحاديث :
بعد هذه الأحاديث وفيها الصحيح ، لا قيمة لقول الذهبي إن حديث شيطان الردهة منكر وموضوع ! ففي الدر المنثور ( 6 / 57 ) : ( أخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : شيطان الردهة يحتدره ( يُمْنِيه ) رجل من بجيلة يقال له الأشهب أو ابن الأشهب ، راعي الخيل ، علامة في القوم الظلمة . قال الذهبي ما أبعده من الصحة وأنكره ) . ولا وجه لعده منكراً بعد استفاضة الأحاديث بمعناه !
أما قول ابن الأثير ( النهاية : 2 / 216 ، وابن منظور : 13 / 491 ) : ( قيل أراد به معاوية لما انهزم
أهل الشام يوم صفين ، وأخلد إلى المحاكمة ) . فيصح أن معاوية شرك شيطان ، وابن شيطان الردهة كالحجاج ، لكنه لم يقتل بسيف وصاعقة .
يبقى سؤال : عن علاقة الشيطان بالردهة ؟ وجوابه أن الجن لهم أنظمة ، فهم مثلاً يأكلون ما يبقى على العظام كما روي ، وعندهم أمكنة مفضلة كالكنيف ، ولا بد أن الردهة والوهدة منها ، وهي حفرة الماء في كعب الجبل أو قلته . وكأن الشيطان الأكثر مساساً بالإنسان يسكن الردهات .

7 . كان حرقوص يرى أنه أفضل من النبي ؟ ص ؟ !

7 . كان حرقوص يرى أنه أفضل من النبي ؟ ص ؟ !
أقبل حرقوص حتى وقف على النبي ( ( عليهما السلام ) ) وأصحابه فلم يسلم عليهم ! فقال له النبي ( ( عليهما السلام ) ) : أنشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل مني أو أخير مني ! قال : اللهم نعم ! ثم دخل يصلي ) ! ( مسند أبي يعلى : 1 / 90 ) . فحرقوص جاء إلى مسجد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ليصلي لله الصلاة التي نزلت على هذا النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، لكنه يرى أنه أفضل منه ، ولعله يقول لربه في صلاته : إعدل يا رب ! فلماذا بعثت محمداً نبياً ، وأنا أفضل منه !
--------------------------- 91 ---------------------------

8 . اشتهر حرقوص بقوله للنبي ؟ ص ؟ إعدل فإنك لم تعدل !

8 . اشتهر حرقوص بقوله للنبي ؟ ص ؟ إعدل فإنك لم تعدل !
فقد جاء إلى النبي ( ( عليهما السلام ) ) في غزوة حنين وهو يقسم الغنائم فقال له : يا محمد إعدل ، أراك ما عدلت ! قال البخاري ( 4 / 179 ) : ( فقال : يا رسول الله [ يا محمد ] إعدل ! فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ! فقال عمر : يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه ، فقال : دعه فإن له أصحاباً يحقرأحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلايجد فيه شيئاً ، ثم ينظر إلى رضافه فلا يوجد فيه شئ ، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شئ ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ ، قد سبق الفرث الدم . آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر . يخرجون على حين فرقة من الناس !
قال أبو سعيد : فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأشهد أن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأُتيَ به حتى نظرت إليه على نعت النبي ( ( عليهما السلام ) ) الذي نعته ) !
ورواه البخاري بنحوه في مواضع ، ورواه غيره بتفصيل ومدح عظيم لمن يقتلهم ، ففي الإرشاد للمفيد ( 1 / 148 ) : ( ولما قسم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غنائم حنين أقبل رجل طوال آدم أجنأ ، بين عينيه أثر السجود ، فسلم ولم يخص النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم . قال : وكيف رأيت ؟ قال : لم أرك عدلت ! فغضب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقال : ويلك ! إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ! فقال المسلمون : ألا نقتله ؟ فقال : دعوه سيكون له أتباعٌ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يقتلهم الله على يد أحب الخلق إليه من بعدي . فقتله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في من قتل يوم النهروان من الخوارج ) .
أي يدخلون في الدين آناً ما ويخرجون منه بسرعة ، كالسهم السريع !
وفي مجمع الزوائد ( 6 / 228 ) : ( عن أبي برزة : أحدثك بما سمعت أذنايَ ورأت
--------------------------- 92 ---------------------------
عيناي : أُتِيَ رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بدنانير فكان يقسمها وعنده رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان بين عينيه أثر السجود ، فتعرض لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فأتاه من قبل وجهه فلم يعطه شيئاً ، فأتاه من قبل يمينه فلم يعطه شيئاً ، ثم أتاه من خلفه فلم يعطه شيئاً ، فقال : والله يا محمد ما عدلت في القسمة منذ اليوم ! فغضب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غضباً شديداً ثم قال : والله لا تجدون بعدي أحداً أعدل عليكم مني قالها ثلاثاً ! ثم قال : يخرج من قبل المشرق رجال كأن هذا منهم هديهم هكذا ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، لا يرجعون إليه ووضع يده على صدره ، سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم ، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم ! قالها ثلاثاً ، شر الخلق والخليقة ، قالها ثلاثاً . لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال . رواه أحمد والأزرق بن قيس وثقه ابن حبان ، وبقية رجاله رجال الصحيح ) .
أقول : لا يبعد أن يكون مجيؤه هذا في حنين أيضاً ، فيكون جاء مرتين .

9 . كان حرقوص شجاعاً مديراً وشارك في بعض الفتوحات :

9 . كان حرقوص شجاعاً مديراً وشارك في بعض الفتوحات :
كان أسمر يميل إلى السواد ، ضخم الجثة ، وكان شجاعاً ومديراً ، فمن إدارته أن والي البصرة عتبة بن غزوان طلب من عمر مدداً بجيش ، فأرسل له حرقوصاً ، وحارب الفرس وشارك في فتح مدينة الأهواز . ثم ورد اسمه في معركة نهاوند ، ويظهر أنه شارك فيها .

10 . نشط حرقوص في الاعتراض على عثمان في الكوفة والبصرة !

10 . نشط حرقوص في الاعتراض على عثمان في الكوفة والبصرة !
فقد ورد اسمه في الذين نفاهم عثمان من الكوفة إلى الشام ، لاعتراضهم على عامله الأموي الوليد بن عقبة بن أبي معيط . كما ترأس الوفد الذي جاء من البصرة إلى المدينة يطلب من عثمان تغييرالوالي الأموي عبد الله بن كريز .
وبعد عثمان قاوم حرقوص طلحة والزبير وعائشة لما جاءوا إلى البصرة ، فقاتلهم مع حكيم بن جبلة ، ولما قتل حكيم فر إلى قومه بني سعد .
وقَتلت عائشة وطلحة والزبير كل من وجدوه من وفد حرقوص الذين اعترضوا
--------------------------- 93 ---------------------------
على عثمان ، وأرادت أن تقتل حرقوص فحمته عشيرته بنو سعد وهددوا بالحرب فتركوهم ، وكان عددهم ستة آلاف مقاتل .

11 . قاتل حرقوص مع علي ( ( ع ) ) في حرب الجمل الصغرى ثم خنس :

11 . قاتل حرقوص مع علي ( ( ع ) ) في حرب الجمل الصغرى ثم خنس :
شارك في حرب الجمل الصغرى ، لكنه خنس عن حرب الجمل الكبرى ، لأن حلفاءه بني تميم وقفوا على الحياد ، فكان معهم وأرسل بعض أتباعه ، فاعترضوا على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في قسمة الغنائم ، وقالوا له إنك لم تعدل !
قال الطبري ( 3 / 509 ) : ( فخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمرين قد منعوا حرقوص بن زهير ، ولا يرون القتال مع علي بن أبي طالب ) .
ثم ذكر أن الأحنف قال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إما أن آتيك فأكون معك بنفسي ، وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف ، فقال : بل كف ، فرجع . ومعناه أن الأحنف وقومه اعتزلوا ومنهم بنو سعد وحرقوص ، لكن أتباعه اعترضوا على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقالوا له : إعدل لما نادى مناديه : ( أن لا يُقتل مدبرٌ ، ولا يُدفَّف على جريح ، ولا يُكشف سترٌ ، ولا يُؤخذ مالٌ ، فقال قوم يومئذ : ما يُحلل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم ! فيومئذ تكلمت الخوارج ! وكان متكلمهم رجلاً اسمه عباد بن قيس قال : يا أمير المؤمنين والله ماقسمتَ بالسوية ، ولا عدلتَ بالرعية ! فقال : ولمَ ويحك ! قال : لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية . فقال ( عليه السلام ) : أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن !
( أي أعرض عنه وعلَّم المسلمين مداواة الجراحة ) فقال عباد : جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف ! يا أخا بكر أنت أمرؤ ضعيف الرأي ، أوَما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير ، وأن الأموال كانت لهم قبل الفرقة ، وتزوجوا على رشدة ، وولدوا على فطرة ، وإنما لكم ما حوى عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث ، فإن عدا أحد منهم أخذناه بذنبه ، وإن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره . فمهلاً مهلاً رحمكم الله ، فإن لم تصدقوني وأكثرتم عليَّ ، وذلك أنه تكلم في
--------------------------- 94 ---------------------------
هذا غير واحد ، فأيكم يأخذ عائشة بسهمه ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا وعلمت وجهلنا فنحن نستغفر الله تعالى ) !
لكن حرقوصاً ، وعَبَّاداً ، ومسعر بن فدكي ، وعبد الله بن وهب الراسبي ، وغيرهم من قيادات الخوارج لم يقتنعوا ! وواصلوا عملهم في نشر أفكارهم ووجدوا أتباعاً على شاكلتهم ، وكثروا في البصرة والكوفة والأهواز ومناطق أخرى ، وشاركوا مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب صفين ، وهم يحملون أفكارهم العنيفة التي تُكفِّر من خالفهم ! وكانوا الجمهور الذين لعب بعقولهم الأشعث ودفعهم إلى مواجهة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فطالبوه أن يوقف القتال ويقبل التحكيم وإلا قتلوه أو سلموه إلى معاوية ! ثم بعد توقيع وثيقة التحكيم انقلبوا رأساً على عقب ، وقالوا إنهم كفروا بقبولهم تحكيم الرجال في دين الله ، والآن تابوا ورجعوا إلى الإسلام ، وطلبوا من علي ( عليه السلام ) أن يتوب ويرجع ليكونوا معه !
وتدل الرواية التالية على تأثير حرقوص على عروة بن أدية التميمي وأمثاله !
قال الطبري ( 4 / 38 ) : ( خرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ويعرضه عليهم فيقرؤونه ، حتى مرَّ به على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية وهو أخو أبي بلال ، فقرأه عليهم ، فقال عروة بن أدية : تحكِّمون في أمر الله عز وجل الرجال ! لا حُكْمَ إلا لله ، ثم شدَّ بسيفه فضرب به عجز دابته ضربةً خفيفة ، واندفعت الدابة وصاح به أصحابه : أن املك يدك ، فرجع فغضب للأشعث قومه وناسٌ كثير من أهل اليمن ، فمشى الأحنف بن قيس السعدي ، ومعقل بن قيس الرياحي ، ومسعر بن فدكي ، وناس كثير من بني تميم ، فتنصلوا إليه واعتذروا فقبل وصفح ) !
وكان حرقوص معهم ، لكنه ابتعد ولم يعتذر للأشعث ، وكان يجيد الخنْس .

12 . كان حرقوص يخنس وهو موجود :

12 . كان حرقوص يخنس وهو موجود :
فقد كان حاضراً في صفين لكن لا تجد له خبراً حتى تم التحكيم فجاء إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) معترضاً ورفع شعار التحكيم !
قال الطبري ( 4 / 52 ) : ( عن عون بن أبي جحيفة أن علياً لما أراد أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج : زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير
--------------------------- 95 ---------------------------
السعدي ، فدخلا عليه فقالا له : لا حكم إلا لله . فقال علي : لا حكم إلا لله . فقال له حرقوص : تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك ، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا ! فقال لهم علي : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا وقد قال الله عز وجل : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . فقال له حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه . فقال علي : ما هو ذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف من الفعل ، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه . فقال له زرعة بن البرج : أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عز وجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه . فقال له علي : بؤساً لك ما أشقاك كأني بك قتيلاً تسفي عليك الريح . قال وددت أن قد كان ذلك . فقال له علي : لو كنت محقاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا . إن الشيطان قد استهواكم فاتقوا الله عز وجل إنه لا خير لكم في دنياً تقاتلون عليها فخرجا من عنده يحكمان ) .
ونحوه أسد الغابة ( 2 / 475 ) ومناقب آل أبي طالب ( 2 / 369 ) .
وقد وصف ابن مزاحم / 517 ، سرعة تغير موقفهم بعد إمضاء الاتفاقية ، فقال : ( فنادت الخوارج أيضاً في كل ناحية : لا حكم إلا الله ، لا نرضى بأن نحكم الرجال في دين الله ، قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا معنا في حكمنا عليهم ، وقد كانت منا خطيئة وزلة حين رضينا بالحكمين ، وقد تبنا إلى ربنا ورجعنا عن ذلك ، فارجع كما رجعنا وإلا فنحن منك براء . فقال علي ( عليه السلام ) : ويحكم أبعد الرضا والعهد والميثاق أرجع ! أوليس الله يقول : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . قال : فبرئوا من علي وشهدوا عليه بالشرك ، وبرئ علي منهم ) !
( راجع كتاب صفين / 514 و 518 ) .
--------------------------- 96 ---------------------------

13 . وكان حرقوص فقيراً يلصق نفسه بعلي ( ( ع ) ) :

13 . وكان حرقوص فقيراً يلصق نفسه بعلي ( ( ع ) ) :
قال البلاذري ( 2 / 365 ) : ( قال أبو مريم : والله إن كان المخدج لمعنا يومئذ في المسجد ، وكان يجالس علياً ( عليه السلام ) في الليل والنهار ، ولقد كان فقيراً يشهد طعام علي ) . وفي رواية ابن كثيرعن أبي داود ( النهاية : 7 / 323 ) : ( عن أبي مريم قال : إن كان ذاك المخدج لمعنا يومئذ في المسجد ، نجالسه الليل والنهار ، وكان فقيراً ، ورأيته مع المساكين يشهد طعام علي مع الناس ، وقد كسوته برنساً ) .
أي كان يأكل على سفرة علي ( عليه السلام ) ، وهذا عجيب ، لأنه كان قائداً في فتح الأهواز ، وكان معروفاً في حلفائه بني سعد ، وقد حموه من عائشة وطلحة والزبير ، وكان مطاعاً عند الخوارج وكانوا من أيام حرب الجمل فرقة يتبعونه .

14 . روينا أن أحمد بن حنبل من ذرية حرقوص :

14 . روينا أن أحمد بن حنبل من ذرية حرقوص :
روى الصدوق في علل الشرائع ( 2 / 467 ) بسنده عن إبراهيم بن محمد بن سفيان قال : ( إنما كانت عداوة أحمد بن حنبل مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أن جده ذا الثدية الذي قتله علي بن أبي طالب يوم النهروان كان رئيس الخوارج ) !
ويؤيد ذلك أن الطبري المؤرخ ألف كتاباً في الرد على الحنابلة وسماه : ( الرد على الحرقوصية ) أي الحنابلة ، قال النجاشي في فهرست أسماء مصنفي الشيعة / 322 : ( محمد بن جرير أبو جعفر الطبري عامي ، له كتاب الرد على الحرقوصية ، ذكر طرق خبر يوم الغدير ، أخبرنا القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا محمد بن جرير بكتابه : الرد على الحرقوصية ) .
وقد اشتبه بعضهم فتصور أنه أورد طرق حديث الغدير في كتابه الرد على الحرقوصية ، لكنهما كتابان . وكان للطبري مع الحنابلة عداوة لأنه لم يوافقهم على التشبيه والتجسيم ، فأرادوا قتله ، ورجموا بيته بالأحجار ، فتدخلت السلطة .
واسم كتاب الطبري ورواية الصدوق ، شهادة بنسب ابن حنبل إلى ذي الثدية حرقوص . وهو دليل يرد النسب الذي وضعه ابنه صالح وألحق أباه ببني شيبان .
--------------------------- 97 ---------------------------
ويؤيد ذلك أن عارم السدوسي ، قال لأحمد متعجباً : سمعنا أنك عربي ! فسكت ولم يجب ، وسكوته يكفي لرد رواية ابنه في النسب الذي وضعه ! قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 1 / 63 ) : « قال عارم : قلت له يوماً : يا أبا عبد الله بلغني أنك من العرب ؟ فقال : يا أباالنعمان نحن قوم مساكين ، فلم يزل يدافعني حتى خرج ولم يقل لي شيئاً » .
وهو يدل على وجود ادعاء بأنه عربي في مجتمع يميزالعرب على غيرهم ، لكنه لا يثبت أن أحمد ادعى ذلك أو وافق عليه ! فقد تخوف من ادعاء أنه عربي وقال إنه مسكين من الموالي ، والعربية مقام لا يدعيه . ثم ادعى ابنه صالح النسب إلى شيبان فسكت عنه ، قال : ( رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال وما يصنع هذا النسب ولم ينكر النسب ) . ( تاريخ دمشق : 5 / 256 ) .
قال في تاريخ بغداد ( 5 / 181 ) : ( حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل وذكر أباه فقال : جئ به حملٌ من مرو ، وتوفي أبوه محمد بن حنبل وله ثلاثون سنة ) .

  • *
    --------------------------- 98 ---------------------------

الفصل التاسع والثمانون: أحاديث النبي ؟ ص ؟ في الخوارج وأبرز صفاتهم

إخبار النبي ؟ ص ؟ عن الخوارج من دلائل نبوته

1 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو متوجه إلى قتال الخوارج ( الإرشاد : 1 / 317 ) : ( لولا أني أخاف أن تتكلوا وتتركوا العمل لأخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيه ( ( عليهما السلام ) ) فيمن قاتل هؤلاء القوم مستبصراً بضلالتهم . وإن فيهم لرجلاً مَوْدُون اليد ( ناقص ) له ثدي كثدي المرأة ، وهم شرالخلق والخليقة وقاتلهم أقرب خلق الله إلى الله وسيلة . ولم يكن المخدج معروفاً في القوم ، فلما قتلوا جعل ( عليه السلام ) يطلبه في القتلى ويقول : والله ما كذبت ولا كذبت ! حتى وجد في القوم ، وشق قميصه وكان على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات إذا جذبت انجذبت كتفه معها وإذا تركت رجع كتفه إلى موضعه ، فلما وجده كبَّر وقال : إن في هذا لعبرةً لمن استبصر ) .
2 . وروى ابن المغازلي / 65 : ( عن أبي سعيد الخدري : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : يكون فيكم قوم تُحقّرونَ صلاتَكم مع صلاتِهم ، وأعمالكم مع أعمالِهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيهم ، يَمْرُقونَ من الدين كما يمرقُ السهم من الرمية : ينظُر في النصل فلا يرى شيئاً ، ثم ينظر في القِدح فلا يرى شيئاً ، ثم ينظر في الرِّيش فلا يرى شيئاً ، ثمّ يتمادى في الفُوق ) .
والمعنى : أن دخولهم في الإسلام كسهم سريع تضربه على فريسة فلا يظهر عليه شئ من الدم من أثر الفريسة ، لا على السهم ، ولا على النصل ، ولا على القوس . .
3 . في مسند أحمد ( 1 / 91 ) : ( لما خرجت الخوارج بالنهروان قام علي في أصحابه فقال : إن هؤلاء القوم قد سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا في سرح الناس ، وهم أقرب العدو إليكم ، وإن تسيروا إلى عدوكم أخاف أن يخلفكم هؤلاء في أعقابكم ! إني سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : تخرج
--------------------------- 99 ---------------------------
خارجة من أمتي ، ليس صلاتكم إلى صلاتهم بشئ . . فسيروا على اسم الله . ) .
4 . في مسند أحمد ( 1 / 107 ) : ( عن طارق بن زياد قال : خرجنا مع علي إلى الخوارج فقتلهم ثم قال : أنظروا فإن نبي الله ( ( عليهما السلام ) ) قال : إنه سيخرج قوم يتكلمون بالحق لا يجوز حلقهم . . ثم قال : أطلبوا فطلبنا فوجدنا المخدج فخررنا سجوداً ، وخر عليٌّ معنا ساجداً ) .
5 . وفي صحيح مسلم ( 3 / 115 ) : ( عن علي رضي الله عنه قال : أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول : يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ ، ولاصلاتكم إلى صلاتهم بشئ ، ولاصيامكم إلى صيامهم بشئ ، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهوعليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضيَ لهم على لسان نبيهم لاتكلوا عن العمل !
وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع ، على رأس عضده مثل حلمة الثدي ، عليه شعرات بيض ، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم . والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم ، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله . قال سلمة بن كهيل فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال : مررنا على قنطرة ، فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم : ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها ، فإني أخاف ان يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء ، فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم . قال : وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان ، فقال علي رضي الله عنه : التمسوا فيهم المخدج ، فالتمسوه فلم يجدوه ، فقام علي بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض ، قال : أخرجوهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله ( ( عليهما السلام ) ) . قال : فقام إليه عبيدة السلماني فقال : يا أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله ؟
--------------------------- 100 ---------------------------
فقال : إي والله الذي لا إله إلا هو . حتى استحلفه ثلاثاً ) .
6 . في صحيح البخاري ( 8 / 53 ) : ( سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق : يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ) .
7 . في سنن ابن ماجة ( 1 / 59 ) : ( عن عبد الله بن مسعود : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول الناس ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم . يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . فمن لقيهم فليقتلهم ، فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم . وعن عبيدة السلماني عن علي قال : لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم ، على لسان محمد ( ( عليهما السلام ) ) قلت : أنت سمعته من محمد ؟ قال : إي ، ورب الكعبة ، ثلاث مرات .
عن ابن أبي أوفى ، قال : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : الخوارج كلاب النار .
عن أبي أمامة ، يقول : شرُّقتلى قتلوا تحت أديم السماء ، وخيرقتيل من قتلوا ، كلاب أهل النار . قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفاراً . قلت : يا أباأمامة هذا شئ تقوله ؟ قال : بل سمعته من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ) .
هذا ، وستأتي شهادة عائشة بما سمعته من النبي ( ( عليهما السلام ) ) في الخوارج وعلي ( عليه السلام ) !

  • *
    --------------------------- 101 ---------------------------

أهم صفات الخوارج وصفات حركتهم

أهم صفات الخوارج وصفات حركتهم

1 . مشكلة الخوارج التكبر الذي ملأ صدورهم :

1 . مشكلة الخوارج التكبر الذي ملأ صدورهم :
إن الداء الدويَّ في الخوارج عُجْبُهم بأنفسهم بتعبيرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ! فقد دخل إمامهم حرقوص مسجد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ذات يوم ولم يسلم عليه ، فسأله النبي : نشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل مني أو أخير مني ! قال : اللهم نعم ! ثم دخل يصلي ) ! ( أبو يعلى : 1 / 90 ) .
فهو يرى أنه أفضل من النبي ( ( عليهما السلام ) ) ويعمل لإثبات ذاته ! كما قال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ .
وفي المحاسن ( 1 / 184 ) : ( قال رجل لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : إن لنا جاراً من الخوارج يقول : إن محمداً يوم القيامة همه نفسه ، فكيف يشفع ! فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمد ( ( عليهما السلام ) ) يوم القيامة ) !

2 . سبب شجاعتهم مركب النقص وإثبات الذات :

2 . سبب شجاعتهم مركب النقص وإثبات الذات :
وقد كشف الإمام الصادق ( عليه السلام ) هذا السبب ، لما سأله جميل بن دراج : هل يرى أنهم شُكَّاكٌ ؟ ( فقال : نعم . فقال بعض أصحابه : كيف وهم يدعون إلى البراز ؟ قال : ذلك مما يجدون في أنفسهم ) . ( تهذيب الأحكام : 6 / 145 ) .
يعني أن سبب تكبرهم مركب نقص يجدونه في أنفسهم ، فيتحملون الخطر لإثبات أنهم على يقين ! وتصديق كلامه ( عليه السلام ) أن قائدهم الراسبي لما نادى أصحابه : ( روحوا بنا رَوْحةً إلى الجنة . فقال : لعلها رَوْحةٌ إلى النار ! قالوا : شككت ! قال : أتألون على الله ! فاعتزل منهم فروة بن نوفل الأشجعي بألف رجل ! فقال لهم أصحابهم : أشككتم ؟ أما لو أن تبقى منا عصابة من بعدنا يدعون إلى أمرنا لبدأنا بكم ) .
( شرح الأخبار : 2 / 55 ) .
فشجاعتهم ناشئة من عقدة إثبات الذات بالمزايدة في الدين ، فيتحملون الخطر ! ونلاحظ أن المعاصرين منهم مثل أسلافهم تماماً ، يعتقدون العظمة في ذواتهم !
--------------------------- 102 ---------------------------

3 . ضيقوا واسعاً ونزعوا الرحمة من الدين :

3 . ضيقوا واسعاً ونزعوا الرحمة من الدين :
( إسماعيل الجعفي قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله فقال : الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم ! قلت : جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه ؟ فقال : بلى ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله ، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم ، فقال : ما جهلت شيئاً ، هو والله الذي نحن عليه .
قلت : فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر ؟ فقال : لا إلا المستضعفين . قلت : من هم ؟ قال : نساؤكم وأولادكم ثم قال : أرأيت أم أيمن ؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه ) . ( الكافي : 2 / 405 ) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) ( قرب الإسناد / 385 ) : ( إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إن الدين أوسع من ذلك ، إن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان يقول : إن شيعتنا في أوسع ما بين السماء إلى الأرض ، أنتم مغفور لكم ) .
وفي الأصول الستة عشر / 68 ، قال الصادق ( عليه السلام ) : ( دخل على أبي قوم فقال لهم : مالكم وللبراءة بعضكم من بعض ! إنما أخذتم أخذ الخوارج ، ضيقوا على أنفسهم حتى برئ بعضهم من بعض ! إن أمرنا أوسع مما بين السماء والأرض ، وإذا أبغضت الرجل فقد برئت منه ) .

4 . من أبرز صفاتهم العامية والخشونة :

4 . من أبرز صفاتهم العامية والخشونة :
فالأمورعندهم أبيض وأسود فقط ، ولا ألوان بينهما . فهم كما قال تعالى : أَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ . . لايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً . ترى أحدهم لا يفهم إلا قليلاً ، أو لا يفهم أبداً ! ويزعمون أنهم أفهم الناس ، ويتكلم أحدهم في كل المسائل ، ويزعم أنه مجتهد ، يفتي في الآية والحديث ، والقاعدة العقلية ، والقضية التاريخية ، والسياسة ، وأوضاع العالم ! فيخلط عباساً بدباس ، وهو فرح بأنه يقول علماً ، وينطق حكماً !
وحتى نساؤهم تجتهد وتفتي ، في الفقه والعقائد ، وتحكم على الناس بالكفر ، وتهدر
--------------------------- 103 ---------------------------
الدماء ، وتبيح الأعراض ! في عامية مفرطة ، وخشونة !
وهذا سبب تكفيرهم لبعضهم وتكاثر فرقهم ! وقد زاد عددهم في زمن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على عشرين فرقة ، وزاد في عصرنا أضعافاً !
قال ابن ميثم في شرح النهج ( 2 / 154 ) : ( وأما الذين ظهروا بعده من رؤسائهم فجماعة كثيرة ، وذلك أن التسعة الذين سلموا يوم النهر تفرقوا في البلاد فانهزم اثنان منهم إلى عُمان ، واثنان إلى كرمان ، واثنان إلى سجستان ، واثنان إلى الجزيرة ، وواحد إلى تل مورون في اليمن ، وقد كان منهم جماعة لم يظفر ( عليه السلام ) بهم ، فظهرت بدعتهم في أطراف البلاد بعده ، فكانوا نحواً من عشرين فرقة وكبارها سِتٌّ :
إحداها : الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق وكانت أكبر الفرق . خرجوا من البصرة إلى الأهواز وغلبوا عليها وعلى كورها ، وما وراءها من بلدان فارس وكرمان ، في أيام عبد الله بن الزبير ، وكان مع نافع من أمراء الخوارج عشرة : عطية بن الأسود الحنفي ، وعبد الله بن ما خول ، وأخواه : عثمان بن الزبير ، وعمر بن عمير العميري ، وقطري بن فجأة المازني ، وعبدة بن الهلال الشيباني ، وصخر التميمي ، وصالح العبدي ، وعبدربه الكبير ، وعبدربه الصغير في ثلاثين ونيف ألف فارس منهم .
فانفذ إليهم المهلَّب بن أبي صفرة ، ولم يزل في حربهم هو وأولاده تسع عشرة سنة ، إلى أن فرغ من أمرهم في أيام الحجاج ، ومات نافع قبل وقايع المهلَّب ، وبايعوا قَطْرياً وسموه أمير المؤمنين .
الثانية : النجدات رئيسهم نجدة بن عامر الحنفي ، وكان معه أميران يقال لأحدهما عطية ، والآخر أبوفديك ، ففارقاه بشبهة ثم قتله أبوفديك ، وصار لكل واحد منهما جمع عظيم ، وقتلا في زمن عبد الملك بن مروان .
الثالثة : البيهسية أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر ، وكان بالحجاز وقتله عثمان بن حيان المزني بالمدينة ، بعد أن قطع يديه ورجليه . وذلك في زمن الوليد بإشارة منه .
--------------------------- 104 ---------------------------
الرابعة : العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد ، وتحت هذه الفرقة فرق كثيرة ، لكلّ منهم رئيس منهم مشهور .
الخامسة : الأباضية أصحاب عبد الله بن أباض في أيام مروان بن محمد ، فوجّه إليه عبد الله بن محمد بن عطية ، فقاتله فقتله .
السادسة : الثعالبة أصحاب ثعلبة بن عامر ، وتحت هذه الفرقة أيضاً فرق كثيرة ، ولكل منها رئيس مشهور . وتفصيل رؤسائهم وفرقهم وأحوالهم ومن قتلهم مذكور في كتب التواريخ . .
وأمّا كون آخرهم لصوصاً سلَّابين فإشارة إلى ما كانوا يفعلونه في أطراف البلاد بإصبهان والأهواز وسواد العراق ، يعيثون فيها بنهب أموال الخراج وقتل من لم يدن بدينهم ، جهراً وغيلةً ، وذلك بعد ضعفهم وتفرّقهم بوقايع المهلَّب وغيرها ، كما هو مذكور في مظانه . . الخ . ) .
قال المفيد في الإعلام / 46 : ( اتفقت الإمامية على أن السارق يجب قطعه من أصول الأصابع ، وتبقى له الراحة والإبهام . وأجمعت العامة على خلاف ذلك ، وزعم جمهورهم أن يقطع من الرسغ خاصة . وقال الخوارج : يقطع من المرفق ، وقال بعضهم : من أصل الكتف ) !

5 . ومن صفاتهم القسوة إلى حد الوحشية !

5 . ومن صفاتهم القسوة إلى حد الوحشية !
وقد ظهر ذلك في أول تكتلهم ، فقتلوا الصحابي الفارس عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه ، وبقروا بطن زوجته ، وقتلوا طفلها !
قال الطبري ( 4 / 60 ) : ( فخرجت عصابة منهم فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار ، فعبروا إليه فدعوه فتهددوه وأفزعوه ، قالوا له : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض وكان سقط عنه لما أفزعوه ، فقالوا له : أفزعناك ؟ قال : نعم ، قالوا له : لاروع عليك ، فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي ( ( عليهما السلام ) ) لعل الله ينفعنا به . قال : حدثني أبي عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أن فتنة تكون يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسي فيها مؤمناً ويصبح فيها كافراً ، ويصبح
--------------------------- 105 ---------------------------
فيها كافراً ويمسي فيها مؤمناً . فقالوا : لهذا الحديث سألناك ، فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما خيراً . قالوا : ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها قال : إنه كان محقاً في أولها وفي آخرها . قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ قال : إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة . فقالوا : إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ! والله لنقتلنك قتلةً ما قتلناها أحداً ! فأخذوه فكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم ، حتى نزلوا تحت نخل مواقر فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه ، فقال أحدهم : بغيرحلها وبغيرثمن ! فلفظها وألقاها من فمه . ثم أخذ سيفه فأخذ يمينه ، فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه بسيفه فقالوا : هذا فساد في الأرض ! فأتى صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره ! فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال : لئن كنتم صادقين فيما أرى فما عليَّ منكم بأس ، إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً ، ولقد آمنتموني قلتم لاروع عليك ! فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه وسال دمه في الماء ! وأقبلوا إلى المرأة فقالت : إنما أنا امرأة ، ألا تتقون الله ! فبقروا بطنها ! وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ ، وقتلوا أم سنان الصيداوية ) !
وفي رواية البلاذري ( 2 / 368 ) : ( فجاؤوا به فأضجعوه على شفيرنهروألقوه على الخنزيرالمقتول فذبحوه عليه ، فصار دمه مثل الشراك ، قد امْذَقَرَّ في الماء وأخذوا امرأته فبقروا بطنها وهي تقول : أما تتقون الله ) !
امْذَقَر : أي جمد دمه رضي الله عنه في الماء ، ولم يختلط بدم الخنزير !

6 . اعترف أحدهم بعد توبته بأنهم يكذبون على رسول الله ؟ ص ؟ :

6 . اعترف أحدهم بعد توبته بأنهم يكذبون على رسول الله ؟ ص ؟ :
رووا عن عبد الله بن زيد المقري : ( أن رجلاً من الخوارج رجع عن بدعته ، فجعل يقول : أنظروا هذا الحديث عمن تأخذونه ، فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً ) ! ( الدراية للشهيد الثاني / 160 ، والبابلي : 1 / 208 ) .
--------------------------- 106 ---------------------------

7 . من صفاتهم المكابرة والتناقض !

7 . من صفاتهم المكابرة والتناقض !
ومن أمثلة ذلك أن ابن الأزرق رئيس أكبر فرقهم ، وهو من بني حنيفة قبيلة مسيلمة ، كان يناظر ابن عباس والإمام الباقر ( عليه السلام ) فيحجانه ، ثم لا يرجع عن رأيه ! ففي الإحتجاج ( 2 / 57 ) والإرشاد ( 2 / 165 ) : ( جاءت الأخبار أن [ عبد الله بن ] نافع بن الأزرق جاء إلى محمد بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجلس بين يديه فسأله عن مسائل في الحلال والحرام ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) في عرض كلامه : قل لهذه المارقة : بمَ استحللتم فراق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى الله بنصرته ؟ فسيقولون لك : إنه حكَّم في دين الله ، فقل لهم : قد حكَّم الله تعالى في شريعة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) رجلين من خلقه فقال تعالى : فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أهلها إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللُه بَيْنَهُمَا . وحكم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) سعد بن معاذ في بني قريظة ، فحكم فيهم بما أمضاه الله ، أوما علمتم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدياه ، واشترط رد ما خالف القرآن من أحكام الرجال ، وقال حين قالوا له : حكمت على نفسك من حكم عليك ، فقال : ما حكمت مخلوقاً ، وإنما حكمت كتاب الله . فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن واشترط رد ما خالفه ! لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان ؟ ! فقال نافع : هذا كلام ما مر بسمعي قط ، ولا خطر مني ببال ، وهو الحق إن شاء الله ) .
ورغم أنه قال : هو الحق ، فقد هاجم مدينة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! ففي الخرائج ( 1 / 289 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( كان أبي في مجلس له ذات يوم إذ أطرق رأسه إلى الأرض فمكث فيها ملياً ثم رفع رأسه فقال : يا قوم كيف أنتم إذا جاءكم رجل يدخل عليكم مدينتكم هذه في أربعة آلاف حتى يستعرضكم بالسيف ثلاثة أيام ، فيقتل مقاتلتكم وتلقون منه بلاء لا تقدرون أن تدفعوه ، وذلك من قابل ، فخذوا حذركم واعلموا أن الذي قلت هو كائن لابد منه . فلم يلتفت أهل المدينة إلى كلامه وقالوا : لا يكون هذا أبداً ، ولم يأخذوا حذرهم إلا نفر يسير وبنو هاشم خاصة ، وذلك أنهم علموا أن كلامه هو الحق ، فلما كان من قابل تحمل أبو جعفر بعياله وبنو هاشم فخرجوا من المدينة ، وجاء نافع بن الأزرق حتى كبس المدينة ، فقتل مقاتلتهم وفضح نساءهم ! فقال أهل
--------------------------- 107 ---------------------------
المدينة : لانردعلى أبي جعفرشيئاً نسمعه منه أبداً ، بعدما سمعنا ورأينا ، فإنهم أهل بيت النبوة وينطقون بالحق ) .
وروى في الكافي ( 8 / 251 ) مناظرة عبد الله بن نافع مع الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، قال : ( كان يقول : لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غيرظالم لرحلت إليه . فقيل له : ولا ولده ؟ فقال : أفي ولده عالم ؟ فقيل له : هذا أول جهلك وهم يخلون من عالم ! قال : فمن عالمهم اليوم ؟ قيل : محمد بن علي بن الحسين بن علي ( عليهم السلام ) قال : فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة ، فاستأذن على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقيل له : هذا عبد الله بن نافع ، فقال : وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار ؟ فقال له أبو بصير الكوفي : جعلت فداك إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم ، لرحل إليه ، فقال له أبو جعفر : أتراه جاءني مناظراً ؟ قال : نعم ، قال : يا غلام أخرج فحط رحله ، وقل له : إذا كان الغد فأتنا . قال : فلما أصبح عبد الله بن نافع غداً في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر ( عليه السلام ) إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم ، ثم خرج إلى الناس في ثوبين ممغرين وأقبل على الناس كأنه فلقة قمر فقال :
الحمد لله محيث الحيث ومكيف الكيف ومؤين الأين . الحمد لله الذي : لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَئٍْ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَالْعَلِي الْعَظِيمُ . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) عبده ورسوله ، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم .
الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته . يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فليقم وليتحدث قال : فقام الناس فسردوا تلك المناقب . فقال عبد الله : أنا أروى لهذه المناقب من هؤلاء ، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين . حتى انتهوا في المناقب إلى حديث
--------------------------- 108 ---------------------------
خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ما تقول في هذا الحديث فقال : هو حق لاشك فيه ولكن أحدث الكفر بعد ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : ثكلتك أمك أخبرني عن الله عز وجل أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم ؟ قال ابن نافع : أعد عليَّ ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : أخبرني عن الله جل ذكره أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ؟
قال : إن قلت : لا ، كفرت . فقال : قد علم قال : فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته ؟ فقال : على أن يعمل بطاعته !
فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : فقم مخصوماً ! فقام وهو يقول : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .
ومع ذلك بقي ابن نافع معانداً كأبيه !
وروى ابن أبي شيبة ( 7 / 505 ) مناظرة نافع مع عبد الله بن عمر ، قال : ( جاءه نافع بن الأزرق فقام علي رأسه فقال : والله إني لأبغض علياً ، قال فرفع إليه ابن عمر رأسه فقال : أبغضك الله ، تبغض رجلاً سابقةٌ من سوابقه خيرمن الدنيا وما فيها ) .

8 - أسَّس الخوارج حركة التكفير والهجرة

8 - أسَّس الخوارج حركة التكفير والهجرة
1 . قال البلاذري ( 2 / 362 ) : ( إن وجوه الخوارج اجتمعوا عند عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم ودعاهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقول بالحق وإن أمر وضر ، وقال : أخرجوا بنا معشر إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها ، إلى بعض السواد وبعض كور الجبل ، منكرين لهذه البدع المكروهة . ثم قام حرقوص بن زهير السعدي فتكلم ، وتكلموا جميعاً بذم الدنيا والدعاء إلى رفضها ، والجد في طلب الحق وإنكار البدع والظلم ، وعرضوا رئاستهم على غير واحد منهم فأبوها ، وقبلها عبد الله بن وهب الراسبي فبايعوه . وذلك ليلة الجمعة لعشر ليال بقين من شوال سنة سبع وثلاثين ، في منزل زيد بن حصين .
وقال أبو مخنف : إن الحرورية اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي بعد أن ولَّوا
--------------------------- 109 ---------------------------
أمرهم عبد الله بن وهب ، وبعد شخوص أبي موسى للحكومة ، فقال ابن وهب : إن هؤلاء القوم قد خرجوا لإمضاء حكمهم حكم الضلال ، فأخرجوا بنا رحمكم الله إلى بلدة نبعد بها عن مكاننا هذا ، فإنكم أصبحتم بنعمة ربكم أهل الحق . فقال شريح : فما تنتظرون ؟ أخرجوا بنا إلى المدائن لننزلها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيوافونا . فأشار عليهم زيد بن حصين أن لايعتمدوا دخول المدائن ، وأن يخرجوا وحداناً مستخفين لئلايرى لهم جماعة فتتبع ، وأن ينزلوا بحصن المدائن ، فعملوا على ذلك وكتبوا إلى من بالبصرة من إخوانهم يستنهضونهم ، وبعثوا بالكتاب مع رجل من بني عبس . وخرج زيد بن حصين وشريح بن أوفى من منزلهما على دابتيهما . وخرج الناس وترافدوا بالمال والعتاق ، وخرج عتريس بن عرقوب الشيباني صاحب عبد الله بن مسعود ، مع الخوارج فاتبعه صيفي بن فسيل الشيباني في رجال من قومه ، فطلبوه ليردوه فلم يقدروا عليه .
قالوا : كان أول من خرج شريح بن أوفى صلاة الغداة ، وهو يتلو : رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا . فخرج قومه من المسجد ليمنعوه فقال : والله لا يعرض لي أحد منكم إلا أنفذت رمحي فيه ! فقالوا : أبعدك الله إنما أشفقنا عليك !
وخرج زيد بن حصين وهو يقرأ : فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ . فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . فلما عبر الفرات قرأ : وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ .
ثم تتابعوا يخرجون . وخرج القعقاع بن نفر الطائي فاستعان عليه أخوه حكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة برجال فحبسوه . وحكم هذا جد الطرماح الشاعر ابن حكيم بن حكم ، فقال :
وإني لمقتاد جوادي فقاذف * به وبنفسي اليوم إحدى المتالف
فيا رب إن كانت وفاتي فلا تكن * على شرجع تعلوه خضر المطارف
ولكن أَحِن يومي شهيداً بعصبة * يصابون في فج من الأرض خائف
ليصبح لحدي بطن نسر مقيله * بجوّ السماء في نسور عواكف
يوافون من شتى ويجمع بينهم * تقى الله نزالون عند التزاحف .
--------------------------- 110 ---------------------------
وخرج عتريس بن عرقوب الشيباني ، وخرج في طلبه صيفي بن فسيل الشيباني ابن عمه في جماعة من قومه ليردوه ، ففاتهم .
وخرج زيد بن عدي بن حاتم ، فاتبعه أبوه عدي بن حاتم ففاته ، فلم يقدر عليه ، فانصرف عدي إلى علي بخبرهم .
وخرج كعب بن عميرة ، فاشترى فرساً وسلاحاً وقال :
هذا عتادي للحروب وإنّني * لآمل أن ألقى المنية صابرا
وبالله حولي واحتيالي وقوتي * إذا لقحت حرب يشيب الحزاورا
وما زلت مذ كنت ابن عشرين حجة * أهمّ بأن ألقى الكماة مغاورا
وأصنع للهيجاء محبوكة القزا ( كذا ) * معقربة الانساء تحسب طائرا
إذا عضّها سوطي تمطت ملحة * بأروع مختال يروق النواظرا
فقال له عبد الله بن وهب : جزيت خيراً فرب سريعة موت تنجيك من النار وتوردك مورداً لا تظمأ بعده . فأخذه أهل بيته فحبسوه حتى قتل أهل النهروان . وخرج عبيدة بن خالد المحاربي . . فأراد عمه ردَّه فأبى ) .
2 . وأراد العيزار أن يلتحق بهم فمنعوه ! قال له رجلان مراديان ( الطبري : 4 / 66 ) : إنا لنعرفك يا عيزار برأي القوم فلا تفارقنا حتى نذهب بك إلى أمير المؤمنين فنخبره خبرك ، فلم يكن بأوشك أن جاء عليٌّ فأخبراه خبره وقالا : يا أمير المؤمنين إنه يرى رأى القوم ، قد عرفناه بذلك ، فقال ما يحل لنادمه ولكنا نحبسه . فقال عدي بن حاتم : يا أمير المؤمنين إدفعه إليَّ وأنا أضمن أن لا يأتيك من قبله مكروه ، فدفعه إليه )
3 . وقد وصفهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال ( الخصال / 381 ) : ( وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كان عهد إلي أن أقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بخلافهم عليَّ ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم لي بقتلهم بالسعادة . فلما انصرفت إلى موضعي هذا يعني بعد الحكمين ، أقبل بعض القوم عليَّ بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن
--------------------------- 111 ---------------------------
لا يبايع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ ، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه ، فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لاحكم إلا لله ! ثم تفرقوا : فرقة بالنخيلة ، وأخرى بحروراء ، وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً حتى عبرت دجلة فلم تمر بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ومن خالفها قتلته ) !
4 . وقال في شرح النهج ( 4 / 136 ) : ( ومنهم نافع بن الأزرق الحنفي ، وكان شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج وإليه تنسب الأزارقة ، وكان يفتي بأن الدار دار كفر وأنهم جميعاً في النار ، وكل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه ، ولا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعياً منهم إلى الصلاة ، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم ، ولا أن يناكحوهم ، ولا يتوارث الخارجي وغيره ، وهم مثل كفارالعرب وعبدة الأوثان ، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف .
والقَعَدة ( القاعدون ) بمنزلتهم . والتقية لا تحل لأن الله تعالى يقول : إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وقال فيمن كان على خلافهم : يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) .
وقال في المواقف ( 3 / 697 ) : ( الأزارقة قالوا : كفرعلي بالتحكيم وهو الذي أنزل فيه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وابن ملجم محق في قتله وهو الذي أنزل فيه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ .
وفيه قال مفتي الخوارج وزاهدها عمران بن حطان :
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه * أوفي البرية عند الله ميزانا
وكفرت الصحابة عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر المسلمين معهم ، وقضوا بتخليدهم في النار . وكفروا القَعَدة عن القتال وإن كانوا موافقين لهم في الدين . وقالوا تحرم التقية في القول والعمل . ويجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم ، ولا رجم على الزاني المحصن إذ هو غير مذكور في القرآن ،
--------------------------- 112 ---------------------------
ولاحد للقذف على النساء ، لأن المذكور في القرآن هو صيغة الذين وهو للمذكرين ) .
5 . قال الطبري ( 4 / 54 ) : ( فقال له حرقوص بن زهير : إن المتاع بهذه الدنيا قليل ، وإن الفراق لها وشيك ، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم ، فإن اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . فقال حمزة بن سنان الأسدي : يا قوم إن الرأي ما رأيتم ، فولوا أمركم رجلاً منكم فإنه لابد لكم من عماد وسناد ، وراية تحفون بها وترجعون إليها . فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى ، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى ، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا ، وعرضوها على عبد الله بن وهب فقال : هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ، ولا أدعها فرقاً من الموت ! فبايعوه لعشر خلون من شوال ، وكان يقال له ذو الثفنات ! ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي فقال ابن وهب : إشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاد حكم الله ، فإنكم أهل الحق . قال شريح نخرج إلى المدائن فننزلها ونأخذ بأبوابها ونُخرج منها سكانها ، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا .
فقال زيد بن حصين : إنكم إن خرجتم مجتمعين اتُّبِعتم ، ولكن أخرجوا وحداناً مستَخْفِين ، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم ، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسرالنهروان ، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة . قالوا : هذا الرأي ، وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم ما اجتمعوا عليه ويحثهم على اللحاق بهم ، وسيَّر الكتاب إليهم فأجابوه أنهم على اللحاق به ! فلما عزموا على المسير تعبدوا ليلتهم وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة ، وساروا يوم السبت ، فخرج شريح بن أوفى العبسي وهو يتلو قول الله تعالى : فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ .
وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم فردَّهم أهلوهم كرهاً ، منهم القعقاع بن قيس الطائي عم الطرماح بن حكيم ، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي ، وبلغ علياً أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج فأحضره عنده ونهاه فانتهى ) .
أقول : هذه صُوَرٌ من تكفيرهم ، وتجمعهم ، حتى صاروا أربعة عشر ألفاً .

  • *
    --------------------------- 113 ---------------------------

الفصل التسعون: تعامل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) معهم وبعض كلماته فيهم

نجح أمير المؤمنين ( ( ع ) ) في تخفيض عدد الخوارج

1 . كانت سياسة الإمام ( عليه السلام ) مع الخوارج الأناة والمناظرة ، وقد طمأنهم بأنه لا يقوم ضدهم بعمل ، ولا يمنعهم حقهم من بيت المال ، إلا أن يعتدوا على المجتمع ويفسدوا في الأرض . وعمل لإقناعهم فأرسل لهم صعصعة ، وقيس بن سعد ، وابن عباس ، وغيرهم . وذهب هو إليهم مرات وتكلم معهم ، فكانت النتيجة أن رجع كثير منهم ، وبقيت أقلية معاندة فقاتلهم .
2 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 270 ) والطبري ( 4 / 46 ) : ( خرجوا مع علي إلى صفين وهم متوادون أحباء ، فرجعوا متباغضين أعداء ! ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم ( شعار : لاحكم إلا لله ) ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط ! يقول الخوارج : يا أعداء الله أدهنتم في أمرالله عز وجل وحكَّمتم ! وقال الآخرون : فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا ! فلما دخل عليٌّ الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً ، ونادى مناديهم : إن أميرالقتال شبث بن ربعي التميمي ، وأميرالصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عز وجل والأمربالمعروف والنهي عن المنكر .
فخرج عليٌّ في الناس حتى دخل إليهم فأتى فسطاط يزيد بن قيس فدخله فتوضأ فيه وصلى ركعتين ، وأمَّره على أصبهان والري ، ثم خرج حتى انتهى إليهم ، وهم يخاصمون ابن عباس فقال : إنته عن كلامهم ، ألم أنهك رحمك الله . ثم تكلم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال :
--------------------------- 114 ---------------------------
اللهم إن هذا مقام من أفلح فيه كان أولى بالفلح يوم القيامة ، ومن نطق فيه وأوعث فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً . ثم قال لهم : من زعيمكم ؟ قالوا : ابن الكواء . قال عليٌّ : فما أخرجكم علينا ؟ قالوا : حكومتكم يوم صفين . قال : أنشدكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم : إني أعلم بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال ، إمضوا على حقكم وصدقكم ، فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهناً ومكيدةً ، فرددتم عليَّ رأيي وقلتم : لا بل نقبل منهم . فقلت لكم : أذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي . فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء . ! قالوا له : فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء ؟ فقال : إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن انما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق ، إنما يتكلم به الرجال .
قالوا : فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم ؟ قال : ليعلم الجاهل ويتثبت العالم ، ولعل الله عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة . أدخلوا مصركم رحمكم الله ، فدخلوا من عند آخرهم ) .
أقول : أفحمهم الإمام ( عليه السلام ) وأبطل حجتهم ، فمنهم من تاب ، ومنهم من بقي على ضلاله ! وكلهم دخلوا الكوفة ، ثم خرجوا وعسكروا في المدائن ، ثم في النهروان . وتابع الإمام ( عليه السلام ) إقناعهم حتى انخفض عددهم إلى أربعة آلاف .
وقد نص البلاذري على أنهم بعد دخولهم الكوفة كانوا يهتفون بشعار الخوارج ! قال ( 2 / 359 ) : ( فدخلوا جميعاً إلى الكوفة ، وكان الرجل منهم يذكر القضية فيخرج فيحكَّم ، وكان علي يقول : إنا لا نمنعهم الفئ ولا نحول بينهم وبين دخول مساجد الله ، ولانهيجهم ما لم يسفكوا دماً وما لم ينالوا محرماً ) .
3 . قال الطبري ( 4 / 46 ) : ( ولما قدم عليٌّ الكوفة وفارقته الخوارج ، وثَبَتْ إليه الشيعة فقالوا : في أعناقنا بيعة ثانية ، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، فقالت
--------------------------- 115 ---------------------------
الخوارج : إستبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان ! بايع أهل الشأم معاوية على ما أحبوا وكرهوا ، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى ! فقال لهم زياد بن النضر : والله ما بسط عليٌّ يده فبايعناه قط ، إلا على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ونحن كذلك ، وهو على الحق والهدى ، ومن خالفه ضال مضل ) .
أقول : تعبير وثبت اليه شيعته أي خاصة أصحابه ، يدل على أنهم شريحة من أهل الكوفة ، بادروا وبايعوه على معاداة أعدائه .
4 . وفي الخرائج ( 1 / 229 ) : ( وكانوا إذ ذاك اثني عشرألفاً ، فقال : فخرج إليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في إزار ورداء راكباً البغلة فقيل له : القوم شاكون في السلاح ، أتخرج إليهم كذلك ؟ قال : إنه ليس بيوم قتالهم ! وصار إليهم بحروراء وقال لهم : ليس اليوم أوان قتالكم ، وستفترقون حتى تصيرون أربعة آلاف فتخرجون عليَّ في مثل هذا اليوم في هذا الشهر ، فأخرج إليكم بأصحابي فأقاتلكم حتى لا يبقى منكم إلا دون عشرة ، ويقتل من أصحابي يومئذ دون عشرة ، هكذا أخبرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . فلم يبرح من مكانه حتى تبرأ بعضهم من بعض وتفرقوا إلى أن صاروا أربعة آلاف بالنهروان ) .
5 . وقال البلاذري ( 2 / 371 ) : ( قال لهم علي ( يوم المعركة ) : يا قوم إنه قد غلب عليكم اللجاج والمراء واتبعتم أهواءكم فطمح بكم تزيين الشيطان لكم ، وأنا أنذركم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الغائط ، وأثناء هذا النهر . ثم بسط لهم علي الأمان ودعاهم إلى الطاعة ، فقال فروة بن نوفل الأشجعي : والله ما ندري على ما نقاتل علياً ؟ فانصرف في خمس مائة فارس حتى نزل البند نيجين والدسكرة ، وخرجت طائفة منهم أخرى متفرقين إلى الكوفة ، وأتى مسعر بن فدكي التميمي راية أبي أيوب الأنصاري في ألف ، واعتزل عبد الله بن الحوساء ويقال ابن أبي الحوساء الطائي في ثلاث مأة ، وخرج إلى علي منهم ثلاث مأة فأقاموا
--------------------------- 116 ---------------------------
معه ، وكانوا أربعة آلاف فارس ومعهم خلق من الرجالة . واعتزل حوثرة بن وداع في ثلاث مأة ، واعتزل أبو مريم السعدي في مأتين ، واعتزل غيرهم ، حتى صار مع ابن وهب الراسبي ألف وثمان مائة فارس ، ورجالة يقال : إنهم ألف وخمس مائة ) .

  • *

من رسائل الإمام ( ( ع ) ) واحتجاجه على الخوارج

من رسائل الإمام ( ( ع ) ) واحتجاجه على الخوارج
1 . افترق الخوارج عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من صفين ، ولم يدخلوا الكوفة معه ، فكلمهم وأفحمهم فدخلوا الكوفة ، لكنهم استمروا في رفع شعار : لا حكم إلا لله ! ثم خرجوا من الكوفة إلى حروراء ، ثم ذهبوا وعسكروا قرب المدائن ، فأرسل إليهم رسائل ومبعوثين . ثم أعد الإمام ( عليه السلام ) جيشه للعودة إلى حرب معاوية بصفين ، ولما وصل إلى الأنبار شكى له الناس بأن شر الخوارج قد تفاقم وقتلوا الصحابي عبد الله بن خباب ونساء وأطفالاً . . فراسلهم وأرسل إليهم مبعوثين فركبوا رؤوسهم ، فطلب منه المسلمون أن يقاتلهم ويطفئ شرهم قبل أن يذهب إلى حرب معاوية ، فتوجه من الأنبار إلى النهروان ، وأرسل إليهم الرسل ، ولما اقترب من معسكرهم كلمهم مباشرة وناظرهم فرجع قسم منهم ، وبقي أربعة آلاف مصرين على قتاله ، وروي أنهم ألفان وثمان مئة ، لكن الصحيح أنهم كانوا أربعة آلاف أو يزيدون ، فقد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم وهم أربعة آلاف أو يزيدون ) .
2 . قال ابن الأعثم ( 4 / 251 ) : ( تحركت طائفة من خاصة أصحابه في أربعة آلاف فارس ، وهم من النساك العباد أصحاب البرانس ، فخرجوا عن الكوفة وتحزبوا وخالفوا علياً وقالوا : لاحكم إلا لله ولاطاعة لمن عصى الله . قال : وانحاز إليهم نيف عن ثمانية آلاف رجل ممن يرى رأيهم . قال : فصار القوم في اثني عشر ألفاً ، وساروا حتى نزلوا بحروراء وأمروا عليهم عبد الله بن الكواء . قال : فدعا علي بعبد الله بن عباس فأرسله إليهم .
فخرج إليه رجل منهم يقال له عتاب بن الأعور الثعلبي حتى وقف قبالته ، وكأن القرآن إنما كان ممثلاً بين عينيه ، حتى إذا فرغ من كلامه أقبل عليه ابن عباس فقال : خبرني عن محمد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء هل أحكم
--------------------------- 117 ---------------------------
عمارتها وبين حدودها ، وأوقف الأمة على سبلها وعملها وشرائع أحكامها ومعالم دينها ؟
قال الخارجي : نعم قد فعل محمد ذلك . قال ابن عباس : فخبرني الآن عن محمد هل بقي فيها أو رحل عنها ؟ قال الخارجي : بل رحل عنها . قال ابن عباس : فخبرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بينة الحدود أم رحل عنها وهي خربة لا عمران فيها ؟ قال الخارجي : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة بينة الحدود قائمة المنار . قال ابن عباس : صدقت ، فخبرني هل كان لمحمد ( ( عليهما السلام ) ) أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا ؟
قال الخارجي : بلى ، قد كان له صحابة وأهل بيت ووصي وذرية يقومون بعمارة هذه الدار من بعده . قال ابن عباس : ففعلوا أم لم يفعلوا ؟
قال الخارجي : بلى ، قد فعلوا وعمروا هذه الدار من بعده .
قال ابن عباس : فخبرني الآن عن هذه الدار من بعده هل هي اليوم على ما تركها محمد من كمال عمارتها وقوام حدودها أم هي خربة عاطلة الحدود ؟ قال الخارجي : بل هي عاطلة الحدود خربة . قال ابن عباس : أفذريته وليت هذه الخراب أم أمته ؟ قال : بل أمته . قال ابن عباس : أفأنت من الأمة أو من الذرية ؟ قال : أنا من الأمة . قال ابن عباس : يا عتاب ! فخبرني الآن عنك كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمة قد أخربت دار الله ودار رسوله وعطلت حدودها ؟ فقال الخارجي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ويحك يا بن عباس ! احتلت والله حتى أوقعتني في أمر عظيم وألزمتني الحجة حتى جعلتني ممن أخرب دار الله ، ولكن ويحك يا بن عباس ! فكيف الحيلة في التخلص مما أنا فيه ؟ قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من دار الإسلام . قال : فدلني على السعي في ذلك !
قال ابن عباس : إن أول ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه . قال : صدقت يا ابن عباس ! والله
--------------------------- 118 ---------------------------
ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحب عمارة دار الإسلام غير ابن عمك علي بن أبي طالب لولا أنه حكَّمَ عبد الله بن قيس في حق هو له !
ثم ذكر ابن الأعثم أن عتاباً قبلَ من ابن عباس ، لكن أكثرهم لم يقبلوا ، ومن حقهم ذلك لأنه حجة ابن عباس مجملة مبهمة ، أقرب إلى الجدل والتذاكي !
( فصاحت الخوارج وقالوا : هيهات يا بن عباس ! نحن لا نتولى علياً بعد هذا اليوم أبداً ، فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتج عليه ونسمع كلامه ويسمع من كلامنا ، فلعلنا إن سمعنا منه شيئاً يعلق . . قال : فخرج عبد الله بن عباس إلى علي فخبره بذلك . قال : فركب علي إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتى وافاهم بحروراء فلما بلغ ذلك الخوارج ، ركب عبد الله بن الكواء في مائة رجل من أصحابه حتى واقفه .
فقال له علي : يا بن الكواء ! إن الكلام كثير ، أبرز إلي من أصحابك حتى أكلمك . قال ابن الكواء : وأنا آمن من سيفك ؟ قال علي : نعم وأنت آمن من سيفي . قال : فخرج ابن الكواء في عشرة من أصحابه ودنوا من علي رضي الله عنه ، قال : وذهب ابن الكواء ليتكلم فصاح به رجل من أصحاب علي وقال : أسكت حتى يتكلم من هو أحق بالكلام منك !
قال : فسكت ابن الكواء وتكلم علي بن أبي طالب ، فذكر الحرب الذي كان بينه وبين معاوية ، وذكر اليوم الذي رفعت فيه المصاحف ، وكيف اتفقوا على الحكمين . ثم قال له علي : ويحك يا بن الكواء ! ألم أقل لكم في ذلك اليوم الذي رفعت فيه المصاحف كيف أهل الشام يريدون أن يخدعوكم بها ؟ ألم أقل لكم بأنهم قد عضهم السلاح وكاعوا عن الحرب ، فذروني أناجزهم فأبيتم علي وقلتم : إن القوم قد دعونا إلى كتاب الله عز وجل فأجبهم إلى ذلك ، وإلا لم نقاتل معك ، وإلا دفعناك إليهم ، فلما أجبتكم إلى ذلك وأردت أن أبعث ابن عمي عبد الله بن عباس ليكون لي حكماً ، فإنه رجل لا يبتغي بشئ من عرض هذه الدنيا ولا يطمع أحد من الناس في خديعته ، فأبى علي منكم من أبى وجئتموني بأبي موسى الأشعري وقلتم : قد رضينا بهذا ، فأجبتكم إليه وأنا كاره ،
--------------------------- 119 ---------------------------
ولو أصبت أعوانا غيركم في ذلك الوقت لما أجبتكم ، ثم إني اشترطت على الحكمين بحضرتكم أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته أو السنة الجامعة ، فإن هما لم يفعلا ذلك فلا طاعة لهما علي ، أكان ذلك أم لم يكن ؟
فقال ابن الكواء : صدقت قد كان هذا بعينه ، فلم لا ترجع إلى حرب القوم إذ قد علمت أن الحكمين لم يحكما بالحق ، وأن أحدهما خدع صاحبه ؟
فقال علي : إنه ليس إلى حرب القوم سبيل إلى انقضاء المدة التي ضربت بيني وبينهم . قال ابن الكواء : فأنت مجمع على ذلك ؟ قال : وهل يسعني إلى ذلك ، أنظر يا بن الكواء أني أصبت أعواناً وأقعد عن حقي ؟
قال : فعندها بطن ( خضع ) ابن الكواء فرسه وصار إلى علي مع العشرة الذين كانوا معه ، ورجعوا عن رأي الخوارج ، وانصرفوا مع علي إلى الكوفة ، وتفرق الباقون وهم يقولون : لا حكم إلا لله ولا طاعة لمن عصى الله ) .
3 . روى ابن الأعثم ( 4 / 262 ) والبلاذري ( 2 / 362 ) : كتب إليهم : « أما بعد فإني أذكركم أن تكونوا من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً ، بعد أن أخذ الله ميثاقكم على الجماعة ، وألف بين قلوبكم على الطاعة ، وأن تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات .
فكتب إليه ابن وهب الراسبي : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، إن الله بعث محمداً بالحق وتكفل له بالنصر كما بلغ رسالاته ، ثم توفاه إلى رحمته وقام بالأمر بعده أبو بكر بما قد شهدته وعاينته متمسكاً بدين الله مؤثراً لرضاه حتى أتاه أمر ربه ، فاستخلف عمر ، فكان من سيرته ما أنت عالم به ، لم تأخذه في الله لومة لائم . وكان من أمر عثمان ما كان حتى سار إليه قوم قتلوه لما آثرالهوى وغير حكم الله ، ثم استخلفك الله على عباده فبايعك المؤمنون وكنت لذلك عندهم أهلاً ، لقرابتك بالرسول وقدمك في الإسلام . ووردت صفين غير مداهن ولا وانٍ ، مبتذلاً نفسك في مرضاة ربك ، فلما حميت الحرب وذهب الصالحون عمار بن ياسر وأبو الهيثم بن التيهان وأشباههم ، اشتمل عليك من لا فقه له في الدين
--------------------------- 120 ---------------------------
ولا رغبة له في الجهاد ، مثل الأشعث بن قيس وأصحابه ، واستنزلوك حتى ركنت إلى الدنيا حين رفعت لك المصاحف مكيدة ، فتسارع إليهم الذين استنزلوك وكانت منا في ذلك هفوة ، ثم تداركنا الله منه برحمته ، فحكمت في كتاب الله وفي نفسك ، فكنت في شك من دينك وضلال عدوك وبغيه عليك ! كلا والله يا ابن أبي طالب ، ولكنكم ظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً ، وقلت : لي قرابة من الرسول وسابقة في الدين فلايعدل الناس بي معاوية ، فالآن فتب إلى الله وأقر بذنبك فإن تفعل نكن يدك على عدوك ، وإن أبيت ذلك فالله يحكم بيننا وبينك ) !
4 . قال ابن الأعثم ( 4 / 262 ) : ( كتاب علي إلى الخوارج : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وابن عبده أمير المؤمنين وأجيرالمسلمين ، أخي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، وابن عمه ، إلى عبد الله بن وهب وحرقوص بن زهيرالمارقيْن من دين الإسلام ! أما بعد ، فقد بلغني خروجكما واجتماعكما هنالك بغير حق كان لكما ولأبويكما من قبلكما ، وجمعكما لهذه الجموع الذين لم يتفقهوا في الدين ، ولم يعطوا في الله اليقين . .
وتقدم ذكر ذلك ، إلى أن قال ابن الأعثم : ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى عبد الله بن أبي عقب وأرسله . قال : فأقبل عبد الله بن أبي عقب إلى الخوارج بالكتاب ، حتى إذا صار إلى النهروان تقدم إلى عبد الله بن وهب الراسبي وهو جالس على شاطئ النهروان محتب بحمائل سيفه ، وحرقوص بن زهير إلى جانبه ورؤساء الخوارج جلوس حولهم . قال : فسلم عبد الله بن أبي عقب ودفع الكتاب إلى عبد الله بن وهب ، فأخذه وفضه وقرأه عن آخره ، ثم ألقاه إلى حرقوص فقرأه ، ثم رفع رأسه إلى ابن أبي عقب فقال له : لولا أنك رسول لألقيت منك أكثرك شعراً فمن أنت ؟ قال : رجل من الموالي ( فارسي ) قال : من أي الموالي أنت ؟ قال : من موالي بني هاشم . قال : إني أظنك من هذا الرجل بسبب ، يعني علي بن أبي طالب ، فقال : أنا رجل من أصحابه ، قال : أفحلال أنت أم لا ؟ قال : لا بل حرام دمي في كتاب الله عز وجل ، فقال : ما أراك تعرف كتاب الله ، قال : بلى ، إني لأعرف منه الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والسفري والحضري ! قال : وتعرف الله حق معرفته ؟ فقال : نعم ، إني لأعرفه ولا أنكره ، أؤمن به ولا أكفره . قال : وبما ذا عرفته ؟
--------------------------- 121 ---------------------------
قال : برسوله وكتابه المنزل ، قال : صدقت . فأصدقني ما تكون من علي بن أبي طالب ، قال : أنا أخوه في الإسلام .
قال عبد الله بن وهب : أوَ مسلم أنت ؟ قال : أنا مسلم والحمد لله . قال : وما الإسلام ؟ قال له ابن أبي عقب : إن الإسلام عشرة أسهم ، خاب من لاسهم له فيها ، شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة ، والصلاة وهي الفطرة ، والزكاة وهي الطهر ، والصوم وهو الجنة ، والحج وهو الشريعة ، والجهاد وهو الغزو ، والأمر بالمعروف وهو الوفاق ، والنهي عن المنكر وهو الحجة ، والطاعة وهي العصمة ، والجماعة وهي الألفة .
قال : صدقت ، فخبرني ما الإيمان ، فقال : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون ، والرضاء بما جاء من عند الله من سخط أو رضى ، والجنة حق ، والنار حق ، وأن الله يبعث من في القبور . . ثم أورد أسئلة الراسبي له عن القرآن والفرائض ، ثم قال :
فقال حرقوص : أيها الرجل ! فإني سائلك عن غير ما سألك صاحبي ، قال : سل عما بدا لك ! قال : من تتولى من أصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ؟
قال : أتولى أولياء الله المؤمنين . . إلى أن قال : فما تقول في صاحبك علي وما تقول في عثمان وطلحة والزبير ومعاوية والحكمين عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس ؟ إلى أن قال : وأما معاوية والحكمان فمعاوية رضي برجل وعلي صاحبي برجل ، فخدع أحدهما صاحبه ، والخلافة لا تثبت لأحد بالمكر والخديعة ، ونحن على رأس أمرنا إلى انقضاء المدة .
فقال حرقوص : أيها الرجل ! إنك قد أوجبت على نفسك القتل ، قال : ولم ذاك ؟ فقال : لأنك توليت قوماً كفروا بعد إيمانهم وأحدثوا الأحداث ، فقال له ابن أبي عقب : أيها الرجل ! إنك لم تبلغ في العلم ما يجب عليك أن تفتش عن علم الإمام ، ولكني أسألك عن مسائل يسأل صبياننا بعضهم بعضا عنها في المكتب ، قال : سل عما بدا لك !
--------------------------- 122 ---------------------------
فقال ابن أبي عقب : خبرني أيها الرجل عن المتحابين ما هما ؟ وعن المتباغضين ما هما ؟ وعن المستبقين والجديدين والدائبين وعن الطارف والتالد وعن الطم والرم وعن نسبة الله عز وجل ما هي ؟ قال حرقوص : ما رأيت أحداً يسأل عن مثل هذا ، ولكن خبرني عنها وأنت آمن !
فقال له ابن أبي عقب : أما المتحابان فالمال والولد ، وأما المتباغضان فالموت والحياة ، وأما المستبقان فالنور والظلمة ، وأما الجديدان فالليل والنهار ، وأما الدائبان فالشمس والقمر ، وأما الطارف والتالد فالمال المستحدث والمال القديم ، وأما الطم والرم فالطم البحر والرم الثرى ، وأما نسبة الله عز وجل فإن قريشاً سألت النبي ( ( عليهما السلام ) ) فقالوا : يا محمد ! صف لنا ربك ، فنزلت سورة الإخلاص وهي : قُلْ هُوَاللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . قال : فتعجب القوم من كلام ابن أبي عقب وعلمه ، ثم أجاب عبد الله بن وهب إلى علي بن أبي طالب جواباً : ورد علي كتابك مع رسولك ، فقرأته وفهمت ما فيه ، وأما قولك تأمرني أن ألزم الحق يوم لا يقضى بالحق ، فقد صدقت وأنا لازم الحق جهدي وطاقتي ، وأما قولك لا أزيغ فيزيغ من معي ، فأنت معدن الزيغ وأهله ، وقد قال الله تعالى : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، وأما قولك إن السعيد من سعدت به رعيته والشقي من شقيت به رعيته ، فقد صدقت وما أعلم سعيداً سعدت به رعيته بعد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غير أبي بكر ومن بعده عمر ، ولا أعلم شقياً شقيت به رعيته بعد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غيرك وغير عثمان بن عفان ، والقول كما قلت كثير والتفسير يسير ، فمن شاء هذر ونثر ، ومن شاء قال بقدر . وأما قولك أن ادفع إلينا قاتل عبد الله بن خباب فكلنا قتله ! وأما ذكرك المسير إلينا لقتالنا ، فإذا شئت فاقدم ، فإنا عازمون على حربك ، والسلام . قال : ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى ابن أبي عقب ، فأخذه وأقبل إلى علي كرم الله وجهه ، فخبره بالذي دار بينه وبين القوم .
--------------------------- 123 ---------------------------

أمر الإمام ( ( ع ) ) بالمسير من الأنبار إلى النهروان

أمر الإمام ( ( ع ) ) بالمسير من الأنبار إلى النهروان
قال : وعندها نادى علي في أصحابه وأمرهم بالمسير إلى النهروان ، فرحل ورحل الناس معه في السلاح والآلة الكاملة والعدة القوية ، حتى إذا صار قريباً من النهروان نظر فإذا برجل من أصحابه قد عدل عن الطريق وجلس على ترسه ، فعلم علي أنه قد شك في قتال أهل النهروان ، فعدل إليه وقام الرجل فجلس علي في موضعه ، فإذا برجل قد أقبل من ناحية نهروان يركض على فرس له ، فصاح به علي : إلي ! فجاء إليه فقال له علي : ما وراءك ؟ فقال : إن القوم لما علموا أنك تقاربت منهم عبروا النهروان هاربين ، فقال له علي : أنت رأيتهم حين عبروا ؟ قال : نعم ، قال علي : كلا والذي بعث محمداً بالحق نبياً لا يعبرون ولايبلغون إلى قصر بوران بنت كسرى ، حتى يقتل الله مقاتلهم على يدي ، فلا يبقى منهم إلا أقل من عشرة ، ولا يقتل من أصحابي إلا أقل من عشرة ، ذلك عهد معهود وقضاء مقضي .
قال : ثم نهض علي فركب حتى وافى القوم ، وإذا هم قد مدوا الرماح في وجه علي وأصحابه وهم يقولون : لاحكم إلا لله . فقال : لا أنتظر فيكم إلاحكم الله . قال : ثم عبأ علي أصحابه ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين .
ثم دعا بعبد الله بن عباس فقال له : تقدم إلى هؤلاء واحتج عليهم وانظر ماذا يقولون ! قال : فقال له ابن عباس : يا أمير المؤمنين أفألقي عني حلتي هذه وألبس درعي ؟ فإني أخاف القوم على نفسي ، فقال له علي : إني لا أخافهم عليك ، فتقدم فها أنا ذا من وراءك . قال : فتقدم عبد الله بن عباس حتى واجه القوم ، ثم قال : أيها الناس ! ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين ؟ فقالوا له : يا بن عباس ! إن الذي نقمناه عليك في وقتنا هذا أشد مما نقمناه على علي ، وذلك أنك قد جئتنا في حلة يمانية ونحن نريد حربك وحرب ابن عمك . فقال ابن عباس : أما هذه الحلة فقد رأيت خيراً منها على من هو خير مني وهو أبو القاسم ( ( عليهما السلام ) ) . وأما الحرب فقد دنت منا ومنكم ولا شك في ذلك ، فهاتوا ما الذي نقمتم على علي ! قالوا :
--------------------------- 124 ---------------------------
نقمنا عليه أشياء ، لو كان حاضراً لكفرناه بهن .
فالتفت ابن عباس إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ! إنك قد سمعت الكلام فأنت أحق بالجواب . قال : فتقدم علي حتى إذا واجه القوم فسلم عليهم ، فردوا عليه السلام ، ثم قال : أيها الناس ! أنا علي بن أبي طالب فتكلموا بما نقمتم به علي ! فقالوا : إن أول ما نقمنا به عليك أنا قاتلنا يوم البصرة بين يديك ، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما كان في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية ، وكنت تستحل ما كان في العسكر ولا تستحل النساء والذرية !
قال : فقال لهم علي : يا هؤلاء ! إن أهل البصرة قاتلونا وبدأوا بقتالنا ، فلما أظفرني الله بهم قسمت بينكم سلب من قاتلكم ، ومنعتكم النساء والذرية ، لأن النساء لم يقاتلن ، والذرية ولدوا على فطرة الإسلام ، فمنعتكم الذرية والنساء لأجل ذلك ، وقد رأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) منَّ على أهل مكة يوم فتحها فلم يسب نساءهم ولا ذريتهم ، وإذا كان النبي منَّ على المشركين فلا تعجبوا مني إذا مننت على المسلمين ، فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم !
قالوا : فإنا نقمنا عليك غير هذا ، نقمنا عليك يوم صفين في وقت الكتاب الذي كتبته بينك وبين معاوية أنك قلت لكاتبك : أكتب : هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فأبى معاوية أن يقبل أنك أمير المؤمنين ، فمحوت اسمك من الخلافة وقلت لكاتبك : اكتب : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فإن لم تكن أمير المؤمنين فأنت أميرالكافرين ونحن مؤمنون ، ولا يجب أن تكون أميراً علينا ! فقال علي : يا هؤلاء ! إنكم قد تكلمتم فاسمعوا الجواب ! أنا كنت كاتب النبي ( ( عليهما السلام ) ) يوم الحديبية فقال لي النبي ( ( عليهما السلام ) ) : أكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وأهل مكة ، فقال أبو سفيان : إني لو علمت يا محمد أنك رسول الله لما قاتلتك ، ولكن أكتب صحيفتك باسمك واسم أبيك ، فأمرني النبي ( ( عليهما السلام ) ) فمحوت الرسالة من الكتاب وكتبت : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأهل مكة . وإنما محوت اسمي من الخلافة كما محى النبي اسمه من الرسالة فكانت لي به أسوة .
--------------------------- 125 ---------------------------
قالوا : فإنا نقمنا عليك غيرهذا ، إنك قلت للحكمين : أنظرا في كتاب الله ، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة ، وإن كان معاوية أفضل مني فأثبتاه في الخلافة ، فإن كنت شاكاً في نفسك أن معاوية أفضل منك فنحن فيك أعظم شكاً ! فقال لهم علي : إنما أردت بذلك النصفة لمعاوية ، لأني لو قلت للحكمين : أحكما لي وذرا معاوية ، كان معاوية لا يرضى بذلك وإنما كان النبي ( ( عليهما السلام ) ) لو قال للنصارى لما قدموا عليه من نجران : تعالوا حتى نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم ، كانوا لا يرضون بذلك ، ولكنه أنصفهم فقال : تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ، فأنصفهم من نفسه ، وكذلك أنصفت أنا معاوية ، ولم أعلم لما أراد عمرو بن العاص من خديعة صاحبي .
قالوا : فإنا نقمنا عليك غيرهذا ، إنك حكمت حكماً في حق هولك ، فقال : إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قد حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل ، فحكم فيهم سعد بقتل النساء والرجال وسبي الذرية والأموال ، وإنما أقمت حكماً كما أقام النبي ( ( عليهما السلام ) ) لنفسه حكماً . فهل عندكم شئ غير هذا تحتجون به عليَّ ؟
قال : فسكت القوم وجعل بعضهم يقول لبعض : صدق فيما قال ولقد دحض جميع ما احتججنا عليه ، ثم صاح القوم من كل ناحية وقالوا : التوبة ، التوبة يا أمير المؤمنين ! فاستأمن إليه منهم ثمانية آلاف ، وبقي على حربه أربعة آلاف ، وأقبل علي رضي الله عنه إلى هؤلاء المستأمنين إليه فقال : اعتزلوا عني في وقتكم هذا ، وذروني والقوم .
قال : فاعتزل القوم وتقدم علي بن أبي طالب من أصحابه حتى دنا منهم ، وتقدم عبد الله بن وهب حتى وقف بين الجمعين ، وجعل يقول : الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ . ألا ! إن الذين عدلوا بربهم علي بن أبي طالب وأصحابه ، الذين حكموا في دين الله عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس ، والله تعالى يقول : إِتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ .
--------------------------- 126 ---------------------------
وقال تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ . وقال : أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ .
قال : فصاح به رجل من أصحاب علي يكنى بأبي حنظلة فقال له : يا عدو الله ! ما أنت والخطابة في مثل هذا الموضع ، وأنت والله ما فهمت في دين الله ساعة قط ، وما زلت جلفاً جافياً مذ كنت ! ثكلتك أمك ، يا بن وهب ! أتدري ويلك لمن تتكلم ولمن تتنازع ؟ أما علمت أنه أمير المؤمنين أخو رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وابن عمه ووصيه وصفيه وزوج ابنته وأبوسبطيه ؟ !
فقال له علي : ذره يا أباحنظلة ! فإن الذي هو فيه من العمى والضلالة أعظم من كلامه إياي لو علم .
قال : فصاح ذو الثدية حرقوص وقال : والله يا ابن أبي طالب ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة . فقال علي : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . أَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . منهم أهل النهروان ورب الكعبة ) !
ملاحظة :
أوردنا هذا الحديث الطويل الذي رواه ابن الأعثم ، لأن فيه خصائص توجب الثقة به ، وقد رواه ابن شهرآشوب ( 2 / 368 ) بنحوه ، عن كتاب ( خطيبهم عتاب بن الأعور الثعلبي ) ويظهر أن عبد الله بن أبي عقب ، هو ابن أبي عقبة الشاعر الذي روى عنه والد الصدوق في الإمامة والتبصرة / 122 ، والصدوق في كمال الدين / 304 ، وابن كثير في الفتن والملاحم ( 1 / 203 ) فهو شيعي فارسي ، لكنهم لم يذكروه في كتب الرجال . ويظهر من الحديث أن قادة الخوارج عوام ، قد غلبهم شخص مثل ابن عقبة قليل الثقافة بذكائه وتفننه في الكلام .
وروى ابن المغازلي / 73 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما اقترب من معسكرهم كلف ابن عباس أن يكلمهم : ( فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين قد سمعتَ ما قال القوم ، وأنت أولى بالجواب مني ! فقال علي ( عليه السلام ) : لا تَرتابَنَّ ظَفِرتَ بهم والذي فلَق الحبة وبرأ النسمة ، وناداهم : ألستم تَرضَون بما أُنبؤكم به من كتاب الله لا تجهلون به وسنة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لاتنكرونه ؟ قالوا : اللهم بلى . قال : أبدأ بما بدأتم به . . وذكر نحو ما
--------------------------- 127 ---------------------------
تقدم ، إلى أن قال : وأما قولكم إني كنت وصياً فَضَيَّعْتُ الوصية فإن الله تعالى قال في كتابه : وللهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ استَطاعَ إلَيه سَبيلاً . ولو ترك الحجّ من استطاعَ إليه سبيلاً كَفر . ولم يكن البيتُ ليَكْفُرَ ولو تركه الناس لا يأتونه ، ولكن كان يَكْفُرُ من كان يستطيع إليه السبيل فلا يأتيه ، وكذلك أنا : إن أكن وصيّاً فإنّكم كفرتم بي ، لا أنا كفرت بكم بما تركتموني . قالوا : صدقت هذه بحجتنا هذه !
فرجع إليه من الخوارج أكثر من أربعة آلاف ، وثبت على قتاله أربعة آلاف ، وأقبلوا يُحَكِّمُون ! فقال عليّ : حُكمَ الله أنتظر فيكم يا هؤلاء ؟ أيكم قتل عبد الله بن خَباب بن الأرت وزوجته وابنته يَظهَر لي أقتُلْهُ بهم وأنصرف ، عهداً إلى مدة حُكم الله أنتظر فيكم . فنادَوا كُلنا قتل ابن خبّاب وزوجته وابنته وشرك في دمائهم ! فناداهم أمير المؤمنين : أظهروا لي كتائب وشافهوني بذلك ، فإني أكره أن يُقِرَّ به بعضُكم في الضوضاء ولا يُقِرَّ بعض ولا أعرف ذلك في الضوضاء وأستحِل قَتل من لم يُقِرَّ بِقَتلِ من أقرَّ ، لكم الأمان حتى ترجعوا إلى مراكزكم كما كنتم ، ففعلوا وجعلوا كلما جاء كتيبة سألهم عن ذلك ، فإذا أقرُّوا عزلهم ذات اليمين حتى أتى على آخرهم ، ثم قال : إرجعوا إلى مراكزكم ، فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات : رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم ؟ فنادوا كلُّهم : نعم !
فالتفت إلى الناس فقال : الله أكبر ! الله أكبر ! والله لوأقر بقتلهم أهل الدنيا وأقدرعلى قتلهم لقتلتُهم ، شُدُّوا عليهم ، فأنا أول من شد عليهم ، وعَزَل بسيف رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ثلاث مرات كل ذلك يُسَوِّيه على ركبتيه من اعوجاجه ، ثم شد الناس معه ، فقتلوهم فلم يَنجُ منهم تمام عشرة ) .
وروى اليعقوبي ( 2 / 192 ) بعضه ، والطبرسي ( الإحتجاج : 1 / 276 ) وفيه : ( ولقد قال الله جل ذكره : وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً . فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إياه ، ولكن كانوا يكفرون بتركهم لأن الله تعالى قد نصبه لهم علماً ، وكذلك نصبني علماً حيث قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأنت مني بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي . فأذعنوا
--------------------------- 128 ---------------------------
فرجع بعضهم وبقي منهم أربعة آلاف لم يرجعوا ) .
وتؤيد هذه الرواية رواية الطبري ( 4 / 54 ) : ( فبعث إليهم عبد الله بن عباس فرجع ولم يصنع شيئاً ، فخرج إليهم عليٌّ فكلمهم حتى وضع الرضا بينه وبينهم ، فدخلوا الكوفة فأتاه رجل فقال : إن الناس قد تحدثوا أنك رجعت لهم عن كفرك فخطب الناس في صلاة الظهرفذكرأمرهم فعابه فوثبوا من نواحي المسجد يقولون لا حكم إلا لله . واستقبله رجل منهم واضع إصبعه في أذنيه فقال : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فقال عليٌّ : فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) .
وفي نهج البلاغة : ( 3 / 136 ) أوصى ( عليه السلام ) ابن عباس لما بعثه إليهم : ( لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنة ، فإنهم لن يجدوا
عنها محيصاً ) .
أقول : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعلم ابن عباس كيف يتكلم معهم ويحتج عليهم ، وقد أجاد ابن عباس أحياناً ، وكان كلامه ضعيفاً أحياناً ، وأحياناً نهاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن مناظرتهم ، وأمره أن ينتظر حتى يحضر الإمام ( عليه السلام ) بنفسه .
5 . ومن كلام له ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 235 ) للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم : ( أكلكم شهد معنا صفين ؟ فقالوا : منا من شهد ومنا من لم يشهد . قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفين فرقة ، ومن لم يشهدها فرقة حتى أكلم كلا بكلامه . ونادى الناس فقال : أمسكوا عن الكلام وانصتوا لقولي وأقبلوا بأفئدتكم إليَّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها . ثم كلمهم ( عليه السلام ) بكلام طويل ، منه : ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ، ومكراً وخديعة : إخواننا وأهل دعوتنا ، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه ، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم . فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، وأوله رحمة وآخره ندامة . فأقيموا على شأنكم ، والزموا طريقتكم ، وعضوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق : إن أجيب أضل ، وإن ترك ذل . وقد كانت هذه الفعلة ، وقد رأيتكم أعطيتموها ، والله لئن أبيتها ما
--------------------------- 129 ---------------------------
وجبت علي فريضتها ولاحملني الله ذنبها . ووالله إن جئتها إني للمحق الذي يتبع ، وإن الكتاب لمعي ، ما فارقته مذ صحبته ، فلقد كنا مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيماناً ، ومضياً على الحق ، وتسليماً للأمر ، وصبراً على مضض الجراح .
ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل . فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها ، وأمسكنا عما سواها ) .
وفي بعض النسخ : ثم قطع كلامه ( عليه السلام ) .

  • *

شعارهم : كلمة حق يراد بها باطل !

شعارهم : كلمة حق يراد بها باطل !
في دعائم الإسلام ( 1 / 393 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال : لاحكم إلا الله ، فسكت عليٌّ ( عليه السلام ) ثم قام آخر وآخر ، فلما أكثروا عليه قال : كلمة حق يراد بها باطل ، لكم عندنا ثلاث خصال : لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها ، ولا نمنعكم الفئ ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به .
وأشهد لقد أخبرني النبي الصادق ( ( عليهما السلام ) ) عن الروح الأمين ( عليه السلام ) عن رب العالمين عز وجل أنه لا يخرج علينا منكم فرقة قَلَّتْ أو كثرت إلى يوم القيامة ، إلا جعل الله حتفها على أيدينا ، وإن أفضل الجهاد جهادكم ، وأفضل الشهداء من قتلتموه ، وأفضل المجاهدين من قتلكم ، فاعملوا ما أنتم عاملون فيوم القيامة يخسر المبطلون و : لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 91 ) : ( لما سمع قولهم : لا حكم إلا لله : حق يراد به باطل ، نعم إنه لاحكم إلا لله ، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله ، وإنه لا بد للناس من أمير برأو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل ، ويجمع به الفئ ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف
--------------------------- 130 ---------------------------
من القوي ، حتى يستريح به بَرٌّ ، ويُستراح من فاجر ) .

سب بسب أو عفو عن ذنب !

سب بسب أو عفو عن ذنب !
وفي نهج البلاغة ( 4 / 98 ) ( كان ( عليه السلام ) جالساً في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ، فقال ( عليه السلام ) : إن أبصارهذه الفحول طوامح ، وإن ذلك سبب هبابها ، فإذا نظرأحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله ، فإنما هي امرأة كامرأة ! فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافراً ما أفقهه ! فوثب القوم ليقتلوه فقال ( عليه السلام ) : رويداً ، إنما هو سب بسب ، أو عفو عن ذنب ) .

بعداً لهم كما بعدت ثمود !

بعداً لهم كما بعدت ثمود !
ومن كلام له ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 102 ) وقد أرسل رجلاً من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه ( عليه السلام ) ، فلما عاد إليه الرجل قال له : أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا ؟ فقال الرجل : بل ظعنوا يا أمير المؤمنين . فقال ( عليه السلام ) : بُعداً لهم كما بعدت ثمود . ، أما لو أُشرعت الأسنة إليهم وصُبَّت السيوف على هاماتهم ، لقد ندموا على ما كان منهم ! إن الشيطان اليوم قد استفلَّهم وهو غداً متبرئ منهم ومتخل عنهم . فحسبهم بخروجهم من الهدى ، وارتكاسهم في الضلال والعمى ، وصدهم عن الحق ، وجماحهم في التيه ) .
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 106 ) في كلام كلم به الخوارج : ( أصابكم حاصب ولا بقي منكم آبر ( مخبر ) أبعد إيماني بالله وجهادي مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أشهد على نفسي بالكفر ! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين . فأوبوا شر مآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب . أما إنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة .
وقال ( عليه السلام ) لما عزم على حرب الخوارج وقيل له إنهم قد عبروا جسر النهروان : مصارعهم دون النطفة . والله لا يفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منكم عشرة . يعني بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيراً جماً .
ولما قُتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم فقال ( عليه السلام ) : كلا والله ، إنهم
--------------------------- 131 ---------------------------
نُطف في أصلاب الرجال ، وقرارات النساء ، كلما نجم منهم قرن قطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين ) !
ومن كلام له ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 114 ) : ( قاله للبرج بن مسهر الطائي ، وقد قال له بحيث يسمعه لا حكم إلا لله وكان من الخوارج : أسكت قبحك الله يا أثرم ، فوالله لقد ظهرالحق فكنت فيه ضئيلاً شخصك ، خفياً صوتك حتى إذا نعر الباطل نَجَمْتَ نُجُومَ قرن الماعز ) !

من بغضهم لعلي ( ( ع ) ) نسبوا له شرب الخمر !

من بغضهم لعلي ( ( ع ) ) نسبوا له شرب الخمر !
قال الحاكم النيسابوري ( 2 / 307 ) : ( عن علي رضي الله عنه قال : دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر ، فحضرت صلاة المغرب ، فتقدم رجل فقرأ : قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فنزلت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ . هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وفي هذا الحديث فائدة كبيرة هي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره ، وقد برأه الله منها ، فإنه راوي الحديث ) .
أقول : ورد أن الرجل الذي قرأ خطأ هو عمر ، فنسبوا ذلك إلى علي ( عليه السلام )

نهى الإمام ( ( ع ) ) عن قتالهم إذا خرجوا على سلطان جائر :

نهى الإمام ( ( ع ) ) عن قتالهم إذا خرجوا على سلطان جائر :
في نهج البلاغة ( 1 / 107 ) : ( فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم . قال ( عليه السلام ) : كلا والله إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء ! كلَّما نَجَمَ منهم قرنٌ قُطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين ) !
وقال ( عليه السلام ) : لاتقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه . يعني معاوية وأصحابه ) .
وفي تهذيب الأحكام ( 6 / 144 ) قال الصادق ( عليه السلام ) : ( لما فرغ أمير المؤمنين ( عليه السلام )
من أهل النهروان قال : لا يقاتلهم بعدي إلا من هم أولى بالحق منه ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ذكرت الحرورية عند علي ( عليه السلام ) فقال : إن خرجوا
--------------------------- 132 ---------------------------
على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم ، فإن لهم في ذلك مقالاً ) .
وفي علل الشرائع / 218 : ( خرج على معاوية بالكوفة جويرية بن ذراع أو ابن وداع أو غيره من الخوارج ، فقال معاوية للحسن ( عليه السلام ) : أخرج إليهم وقاتلهم فقال : يأبى الله لي بذلك قال : فلمَ أليس هم أعداؤك وأعدائي ؟ قال : نعم يا معاوية ولكن ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فوجده ! فأسكت معاوية ) .
وقال البلاذري ( 2 / 46 ) : ( فقال : تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمة وألفتهم ، أفتراني أقاتل معك ؟ ! ) . وفي الروائع المختارة / 107 : ( لوآثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك ) .

منافق خارجي زعم أنه يحب الإمام ( ( ع ) )

منافق خارجي زعم أنه يحب الإمام ( ( ع ) )
في بصائر الدرجات / 411 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( بينا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوماً جالس في المسجد وأصحابه حوله ، فأتاه رجل من شيعته فقال : يا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إن الله يعلم أني أدينه بحبك في السر كما أدينه بحبك في العلانية ، وأتولاك في السر كما أتولاك في العلانية . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : صدقت ، أمَّا فاتخذ للفقر جلباباً ، فإن الفقر أسرع إلى شيعتنا من السيل إلى قرار الوادي . قال : فولى الرجل وهو يبكى فرحاً لقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صدقت . وكان رجل من الخوارج يحدث صاحباً له قريباً من أمير المؤمنين فقال أحدهما لصاحبه : تالله إن رأيت كاليوم قط ! إنه أتاه رجل فقال له إني لأحبك فقال له : صدقت ، فقال له الآخر : ما أنكرتَ من ذلك ، لم يجد بداً من أنه إذا قيل له إني لأحبك أن يقول له صدقت . قال : تعلم أني لاأحبه قال : فأنا أقوم فأقول له مثل مقالة الرجل ، فيرد عليَّ مثل مارد عليه . قال : نعم ، فقام الرجل فقال له مثل مقالة الأول ، فنظر إليه ملياً ثم قال له : كذبت لا والله ما تحبني ولا أحبك ! قال : فبكى الخارجي ، فقال : يا أمير المؤمنين لتستقبلني بهذا وقد علم الله خلافه ، أبسط يدك أبايعك . قال عليٌّ : على ماذا ؟ والله لكأني بك قد قتلت على ضلال ووطأت وجهك دواب العراق ، فلا تغرنك قوتك . قال : فلم يلبث أن خرج عليه أهل النهروان وخرج
--------------------------- 133 ---------------------------
الرجل معهم فقتل ) !
ورواه الطبري ( 4 / 56 ) بلفظ : ( أتى علياً أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، فشرط لهم سنة رسول ( ( عليهما السلام ) ) فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي وكان شهد معه الجمل وصفين ومعه راية خثعم فقال له : بايع على كتاب الله وسنة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . فقال ربيعة : على سنة أبي بكر وعمر ! قال له عليٌّ : ويلك لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله ( ( عليهما السلام ) )
لم يكونا على شئ من الحق . فبايعه فنظر إليه عليٌّ وقال : أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت ، وكأني بك وقد وطأتك الخيل بحوافرها .
فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة ) .

معجزة لأمير المؤمنين ( ( ع ) ) : خارجي يصير كلباً !

معجزة لأمير المؤمنين ( ( ع ) ) : خارجي يصير كلباً !
قال الشريف الرضي في خصائص الأئمة ( عليهم السلام ) / 46 : ( روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان جالساً في المسجد إذ دخل عليه رجلان فاختصما إليه ، وكان أحدهما من الخوارج ، فتوجه الحكم إلى الخارجي فحكم عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال له الخارجي : والله ما حكمت بالسوية ولا عدلت في القضية ، وما قضيتك عند الله تعالى بمرضية ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأومأ إليه : إخسأ عدو الله فاستحال كلباً أسود ، فقال من حضره : فوالله لقد رأينا ثيابه تطاير عنه في الهواء ، وجعل يبصبص لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ودمعت عيناه في وجهه ، ورأينا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد رق فلحظ السماء ، وحرك شفتيه بكلام ، لم نسمعه ، فوالله لقد رأيناه وقد عاد إلى حال الإنسانية ، وتراجعت ثيابه من الهواء ، حتى سقطت على كتفيه ، فرأيناه وقد خرج من المسجد وإن رجليه لتضطربان . فبهتنا ننظر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ! فقال لنا : ما لكم تنظرون وتعجبون ؟ فقلنا يا أمير المؤمنين : كيف لا نتعجب وقد صنعت ما صنعت ! فقال : أما تعلمون أن آصف بن برخيا وصي سليمان بن داود ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قد صنع ما هو قريب من هذا الأمر فقص الله جل اسمه قصته حيث يقول : قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلا أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَاتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ
--------------------------- 134 ---------------------------
قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ .
فأيما أكرم على الله نبيكم أم سليمان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقالوا : بل نبينا ( عليه السلام ) أكرم يا أمير المؤمنين ، قال : فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان ، وإنما كان عند وصي سليمان من اسم الله الأعظم حرف واحد ، فسأل الله جل اسمه فخسف له الأرض ما بينه وبين سرير بلقيس فتناوله في أقل من طرف العين ، وعندنا من اسم الله الأعظم اثنان وسبعون حرفاً ، وحرف عند الله تعالى استأثر به دون خلقه ! فقالوا له يا أمير المؤمنين : فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الأنصار في قتال معاوية وغيره ، واستنفارك الناس إلى حربه ثانية ؟
فقال : بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . إنما أدعو هؤلاء القوم إلى قتاله لثبوت الحجة وكمال المحنة ، ولو أذن لي في إهلاكه لما تأخر ، لكن الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء ! قالوا فنهضنا من حوله ونحن نعظم ما أتى به ) !

أكثر الخوارج كانوا من أهل البصرة

أكثر الخوارج كانوا من أهل البصرة
وهذا يدل على تأثير حرقوص بن زهير ومسعر بن فدكي ودعاتهما فيهم ! فقد وصفوا الخوارج كلهم بأنهم أهل البصرة : ( حكيم بن سعد قال : ما هو إلا أن لقينا أهل البصرة فما لبثناهم فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا ) . ( الطبري : 4 / 64 ) .

قصة الصحابي جندب الأزدي

قصة الصحابي جندب الأزدي
قال الشريف الرضي في خصائص الأئمة ( عليهم السلام ) / 60 : ( ومن أعلامه ( عليه السلام ) عند قتال الخوارج بالنهروان وبإسناد مرفوع إلى جندب بن عبد الله البجلي ، قال : دخلني يوم النهروان شك فاعتزلت ، وذلك أني رأيت القوم أصحاب البرانس ، وراياتهم المصاحف حتى هممت أن أتحول إليهم . فبينا أنا مقيم متحير إذ أقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حتى جلس إلي ، فبينا نحن كذلك إذ جاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين : ما يقعدك وقد عبر القوم ؟ قال : أنت رأيتهم ؟ قال : نعم . قال : والله ما عبروا ولا يعبرون أبداً ! فقلت
--------------------------- 135 ---------------------------
في نفسي : الله أكبر كفى بالمرء شاهداً على نفسه ، والله لئن كانوا عبروا لأقاتلنه قتالاً لا آلو فيه جهداً ، ولئن لم يعبروا لأقاتلن أهل النهروان قتالاً يعلم الله به أني غضبت له ! ثم لم ألبث أن جاء فارس آخر يركض ويلمع بسوطه ، فلما انتهى إليه قال : يا أمير المؤمنين ، ما جئت حتى عبروا كلهم ، وهذه نواصي خيلهم قد أقبلت . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : صدق الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) وكذبت .
ما عبروا ولن يعبروا ، ثم نادى في الخيل فركبوا وركب أصحابه وسار نحوهم ، وسرت ويدي على قائم سيفي ، وأنا أقول : أول ما أرى فارساً قد طلع منهم أعلو علياً بالسيف للذي دخلني من الغيظ عليه . فلما انتهى إلى النهر إذا القوم كلهم وراء النهر لم يعبر منهم أحد ، فالتفت إليَّ ثم وضع يده على صدري ، ثم قال : يا جندب أشككت ، كيف رأيت ؟ قلت يا أمير المؤمنين : أعوذ بالله من الشك وأعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله وسخط أمير المؤمنين ! قال : يا جندب ، ما أعمل إلابعلم الله ، وعلم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ! فأصابت جندباً يومئذ اثنتا عشرة ضربة مما ضربه الخوارج ) .
ورواه القطب الراوندي في الخرائج ( 2 / 755 ) وفيه : ( فانتهيت إلى عسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل في قراءة القرآن ، وفيهم أصحاب البرانس ، وذووا الثفنات ، فلما رأيت ذلك دخلني شك ، فتنحيت ونزلت عن فرسي وركزت رمحي ووضعت ترسي ونثرت عليه درعي ، وقمت أصلي وأنا أقول في دعائي : اللهم إن كان قتال هؤلاء القوم رضاً لك ، فأرني من ذلك ما أعرف به أنه الحق ، وإن كان لك سخطاً فاصرفه عني ، إذ أقبل علي ( عليه السلام ) فنزل عن بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقام يصلي ، إذ جاء رجل وقال : قطعوا النهر . ثم جاء آخر تشتد به دابته وقال : قطعوه وذهبوا . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ما قطعوه ولا يقطعونه ، وليقتلن دونه ، عهد من الله ورسوله . وقال : يا جندب ترى التل ؟ قلت : نعم . قال : فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حدثني أنهم يقتلون عنده ! ثم قال : أما إنا نبعث إليهم رسولاً يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه فيرشقون وجهه بالنبل وهومقتول !
--------------------------- 136 ---------------------------
قال : فانتهينا إليهم فإذا هم في معسكرهم لم يبرحوا ولم يرتحلوا . فنادى في الناس فضمهم ، ثم أتى الصف وهو يقول : من يأخذ هذا المصحف فيمشي إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ، وهو مقتول وله الجنة . فما أجابه أحد إلا شاب من عامر بن صعصعة ، فلما رأى حداثة سنه قال : إرجع إلى موقفك .
ثم أعاد القول فما أجابه أحد إلا ذلك الشاب ، فقال : خذه أما إنك مقتول . فمشى به حتى إذا دنا من القوم حيث يسمعهم ناداهم فرموا وجهه بالنبل فأقبل علينا ووجهه كالقنفذ . فقال علي ( عليه السلام ) : دونكم القوم ، فحملنا عليهم قال جندب : ذهب الشك عني وقتلت بكفي ثمانية ) .
ورواه المفيد في الإرشاد ( 1 / 317 ) وفيه : ( فدخلني شك وقلت : قراؤنا وخيارنا نقتلهم ! إن هذا لأمر عظيم ! فركزت رمحي ووضعت ترسي إليه واستترت من الشمس ، فإني لجالس حتى ورد في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . . فقلت في نفسي : الحمد لله الذي بصرني هذا الرجل وعرفني أمره ، هذا أحد رجلين : إما رجل كذاب جرئ أو على بينة من ربه وعهد من نبيه ، اللهم إني أعطيك عهداً تسألني عنه يوم القيامة ، إن أنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أول من يقاتله وأول من يطعن بالرمح في عينه ، وإن كانوا لم يعبروا أن أقيم على المناجزة والقتال . فدفعنا إلى الصفوف فوجدنا الرايات والأثقال كما هي ، قال : فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال : يا أخا الأزد أتبين لك الأمر ؟ قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، قال : فشأنك بعدوك ، فقتلت رجلاً ثم قتلت آخر ، ثم اختلفت أنا ورجل آخر أضربه ويضربني فوقعنا جميعاً ، فاحتملني أصحابي فأفقت حين أفقت وقد فرغ القوم . وهذا حديث مشهور شائع بين نقلة الآثار ، وقد أخبر به الرجل عن نفسه في عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبعده فلم يدفعه عنه دافع ولا أنكر صدقه فيه منكر ، وفيه إخبار بالغيب ، وإبانة عن علم الضمير ومعرفة ما في النفوس ، والآية باهرة فيه لا يعادلها إلا ما ساواها في معناها من عظيم المعجز وجليل البرهان ) .
--------------------------- 137 ---------------------------

ملاحظة

ملاحظة
يدل ذلك على أن جندباً كان فارساً مميزاً ، فشك في قتال الخوارج لأنهم معلموا القرآن وأهل عبادة ، فانفرد عن جيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قبيل الحرب ، فعرف ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بإلهام الله تعالى ، وجاء اليه منفرداً عن جيشه ، ليريه معجزة ويزيل عن قلبه الشك ، فأراه آية أنهم لم يعبروا ولن يعبروا حتى يقتلوا !
وقد ذكرعلماء الجرح والتعديل أن اسم جندب الأزدي مشترك بين ثلاثة وأكثر لكن لا يبعد أن يكون جندب هذا هو قاتل الساحر اليهودي في زمن عثمان ، وهو صحابي ممدوح ، رووا عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أنه مدحه وزيد بن صوحان قبل أن يراهما !
قال ( الإستيعاب : 2 / 556 ) : ( زيد وما زيد ! جندب وما جندب ! فسئل عن ذلك فقال : رجلان من أمتي ، أما أحدهما فتسبقه يده ، أو قال : بعض جسده إلى الجنة ، ثم يتبعه سائر جسده . وأما الآخر فيضرب ضربة يفرّق بها بين الحق والباطل . قال أبو عمر : أصيبت يد زيد يوم جلولاء ، ثم قتل يوم الجمل مع علي ابن أبي طالب . وجندب قاتل الساحر ) .
وهذا مقام عظيم لهما رضي الله عنهما ، وتقدم ذكر زيد في حرب الجمل ، أما ضربة جندب فكانت في زمن عثمان لما ولَّى أخاه من الرضاعة الوليد بن عقبة الأموي على العراق ، ويسمى الوليد الفاسق ، لأنه نزل فيه قول تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ . وقد جاء الوليد بساحر هندي وكان يقيم له العروض في الكوفة ! ولعل غرضه أن يصدق الناس بقدرة السحرة ثم يقول لهم إن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) ساحر !
ولهذا كانت ضربة جندب رضي الله عنه فاصلة ، بين حق النبوة وباطل السحر .
قال السيوطي في الخصائص ( 2 / 140 ) : ( فلما ولي الوليد بن عقبة الكوفة في زمن عثمان أجلس رجلاً يَسْحَر ، يُريهم أنه يُحيى ويميت ، فأتى جندب بسيف فضرب به عنق الساحر ، وقال : أحي نفسك الآن ) !
وقال في شرح النهج ( 2 / 20 ) : ( فقتله وقال له : أحي نفسك إن كنت صادقاً ،
--------------------------- 138 ---------------------------
وأن الوليد أراد أن يقتله بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه ، فحبسه وطال حبسه ، حتى هرب من السجن ) .
وذكر المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 339 ) أن الوليد أراد قتله : ( فمنعته الأزد فحبسه ، وأراد قتله غيلة ونظرالسجان إلى قيامه ليله إلى الصبح ، فقال له : أنْجُ بنفسك ، فقال له جندب : تقتل بي ، قال : ليس ذلك بكثير في مرضاة الله والدفع عن ولي من أولياء الله ، فلما أصبح الوليد دعا به وقد استعدَّ لقتله فلم يجده ، فسأل السجان ، فأخبره بهربه فضرب عنق السجان ، وصلبه بالْكناسة ) ! وبقي جندب مخلصاً لأمير المؤمنين وللحسن ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
هذا ، وقد أوردنا العديد من كلمات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الخوارج في محالها .

  • *
    --------------------------- 139 ---------------------------

الفصل الحادي والتسعون: معركة النهروان مع الخوارج

نهاه المنجم عن السفر فخالفه الإمام ( ( ع ) )

1 . لما عزم على المسير إلى الخوارج قال له ( نهج البلاغة : 1 / 129 ) بعض أصحابه : ( يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لاتظفر بمرادك ، من طريق علم النجوم . فقال ( عليه السلام ) : أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء ، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر ! فمن صدق بهذا فقد كذب القرآن ، واستغنى عن الإعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه . وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه ، لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر !
ثم أقبل ( عليه السلام ) على الناس فقال : أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر ، فإنها تدعو إلى الكهانة والمنجم كالكاهن والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر والكافر في النار . سيروا على اسم الله ) .
2 . وفي فرج المهموم / 58 : ( عن قيس بن سعد ، قال : كنت أساير أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً إذا سار إلى وجه من الوجوه ، فلما قصد أهل النهروان وصرنا بالمدائن وكنت يومئذ مسايراً له ، إذ خرج إلينا قوم من أهل المدائن من دهاقينهم ، معهم براذين قد جاءوا بها هدية إليه فقبلها ، وكان فيمن تلقاه دهقان من دهاقين المدائن يدعى سرسفيل ، وكانت الفرس تحكم برأيه فيما مضى ، وترجع إلى قوله فيما سلف ، فلما بصر بأمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : يا أمير المؤمنين ، تناحست النجوم الطوالع ، فنحس أصحاب السعود وسعد أصحاب النحوس ، ولزم الحكيم في مثل هذا اليوم الاختفاء والجلوس ، وإن يومك هذا
--------------------------- 140 ---------------------------
يوم مميت ، قد اقترن فيه كوكبان قتالان ، وشرف فيه بهرام في برج الميزان ، واتقدت من برجك النيران ، وليس لك الحرب بمكان . فتبسم أمير المؤمنين صلوات الله عليه ثم قال : أيها الدهقان ، المنبئ بالأخبار ، والمحذر من الأقدار ، أتدري ما نزل البارحة في آخر الميزان ، وأي نجم حل في السرطان ؟ قال : سأنظر ذلك . وأخرج من كمه أسطرلاباً وتقويماً ، فقال له أمير المؤمنين صلوات الله عليه : أنت مسيِّر الجاريات ؟ قال : لا . قال : أفتقضي على الثابتات ؟ قال : لا . قال : فأخبرني عن طول الأسد وتباعده عن المطالع والمراجع ؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع ؟ قال : لاعلم لي بذلك . قال : فما بين السواري إلى الدراري ، وما بين الساعات إلى الفجرات ، وكم قدر شعاع المدرات ، وكم تحصيل الفجر في الغدوات ؟ قال : لا علم لي بذلك .
قال : هل علمت يا دهقان أن الملك اليوم انتقل من بيت إلى بيت في الصين ، وانقلب برج ماجين ، واحترقت دور بالزنج ، وطفح جب سرنديب ، وتهدم حصن الأندلس ، وهاج نمل السيح ، وانهزم مراق الهند ، وفقد ربان اليهود بأيلة ، وجذم بطريق الروم برومية ، وعمي راهب عمورية ، وسقطت شرافات القسطنطينية ، أفعالمٌ أنت بهذه الحوادث ، وما الذي أحدثها شرقيها أوغربيها من الفلك ؟ قال : لا علم لي بذلك .
قال : فبأي الكواكب تقضي في أعلى القطب ، وبأيها تنحس من تنحس ؟ قال : لا علم لي بذلك . قال : فهل علمت أنه سعد اليوم اثنان وسبعون عالماً في كل عالم سبعون عالماً ، منهم في البر ، ومنهم في البحر ، وبعض في الجبال وبعض في الغياض ، وبعض في العمران ، فما الذي أسعدهم ؟
قال : لا علم لي بذلك . قال يا دهقان ، أظنك حكمت على اقتران المشتري وزحل لما استنارا لك في الغسق ، وظهر تلألؤ المريخ وتشريفه في السحر ، وقد سار فاتصل جرمه بنجوم تربيع القمر ، وذلك دليل على استخلاف ألف ألف من البشر ، كلهم يولدون اليوم والليلة ، ويموت مثلهم ويموت هذا فإنه منهم ، وأشار إلى جاسوس في عسكره لمعاوية ، فلما قال ذلك ظن الرجل أنه قال خذوه ، فأخذه شئ في قلبه وتكسرت نفسه في صدره فمات لوقته ! فقال ( عليه السلام ) للدهقان : ألم أرك عين التقدير في غاية التصوير ؟ قال :
--------------------------- 141 ---------------------------
بلى يا أمير المؤمنين . فقال : يا دهقان ، أنا مخبرك أني وصحبي هؤلاء لا شرقيون ولا غربيون ، إنما نحن ناشئة القطب ، وما زعمت البارحة أنه انقدح من برج الميزان فقد كان يجب أن تحكم معه لي ، لأن نوره وضياءه عندي ، فلهبه ذاهب عني . يا دهقان : هذه قضية عيص ، فاحسبها وولدها إن كنت عالماً بالأكوار والأدوار ، ولو علمت ذلك لعلمت أنك تحصي عقود القصب في هذه الأجمة . ومضى أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فهزم أهل النهروان وقتلهم فعاد بالغنيمة والظفر ، فقال الدهقان : ليس هذا العلم بأيدي أهل زماننا ، هذا علم مادته من السماء ) !

ملاحظة

ملاحظة
هذا يدل على صحة علم النجوم ، وأن الأحداث في مجتمعنا يمكن الإستدلال عليها بحركة النجوم . لكن ما في أيدي الناس والمنجمين ناقص ، وعلمه الكامل عند المعصومين صلوات الله عليهم . وهذا معنى قول الدهقان المنجم : ( ليس هذا العلم بأيدي أهل زماننا ، هذا علم مادته من السماء ) !
قال صاحب الجواهر ( 22 / 94 ) : ( وأما علم النجوم فقد يظهر من الكتاب والسنة صحته في الجملة ، نحو قوله تعالى : فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . على أحد الوجوه فيها أو أظهرها . وقوله : وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً . . فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً . . فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وغير ذلك .
وخبر أبان بن تغلب . . وخبر سعيد بن جبير . . ورواه قيس بن سعد بطريق آخر . . بل رواه الأصبغ بن نباتة بطريق ثالث ، والأمر سهل .
وخبر يونس بن عبد الرحمان ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك أخبرني عن علم النجوم ما هو : قال : هوعلم من علم الأنبياء ( عليهم السلام ) قال فقلت : كان علي بن أبي طالب يعلمه ، فقال : كان أعلم الناس به . .
إلى أن قال : وفي خبر عبد الرحمان بن سيابه : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك إن الناس يقولون أن النجوم لا يحل النظر فيها وهي تعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شئ يضر بديني ، وإن كانت لا تضر بديني فوالله
--------------------------- 142 ---------------------------
إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : ليس كما يقولون لا تضر بدينك ، ثم قال : إنكم تنظرون في شئ كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر ، ثم قال : أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة ؟ قلت : لا والله . قال : أفتدري كم بين الزهرة وبين القمر من دقيقة ؟ قلت : لا والله . قال : أفتدري كم بين الشمس وبين السكينة من دقيقة ؟ قلت : لا والله ما سمعته من أحد من المنجمين قط . قال : أفتدري كم بين السكينة وبين اللوح المحفوظ من دقيقة ، قلت : ما سمعته من منجم قط ، قال : ما بين كل واحد منهما إلى صاحبه ستين أو سبعين دقيقة ، ثم قال : يا عبد الرحمان هذا حساب إذا حسبه الرجل ووقع عليه ، عرف القصبة التي في وسط الأجمة ، وعدد ما عن يمينها ، وعدد ما عن يسارها ، وعدد ما خلفها ، وعدد ما في أمامها ، حتى لا يخفى عليه من قصب الأجمة واحدة ) !
وذكرصاحب الجواهر ( قدس سره ) أن حساب المنجمين اختلط عليهم من عهد داود ( عليه السلام ) .

قال رسول الله ؟ ص ؟ : مصارعهم دون النهر

قال رسول الله ؟ ص ؟ : مصارعهم دون النهر
في مناقب علي ( عليه السلام ) لابن المغازلي / 72 : ( خَرج عليُّ بن أبي طالب يريد الخوارج إذ أقبل رجل يركُض حتى انتهى إلى أمير المؤمنين علي فقال : يا أمير المؤمنين البُشرى ! قال : هات ما بُشراك ؟ قال : قد عَبرالقوم النهروان لما بلغهم عنك ، وقد مَنَحَكَ الله أكْتافَهم ، فقال : الله لأنت رأيْتَهُم قد عَبروا ؟ فقال : والله لأنا رأيتُهم حين عَبروا ، فحلّفه ثلاث مرّات في كلِّ ذلك يَحْلِفُ له ، فقال له أمير المؤمنين : كذَبْتَ والّذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النّسَمَة ما عبَروا النهروان ، ولن يبلغوا الأثلاث ولا قصر بُوران حتى يَقْتُلَهُم الله على يَدِي ، لاينَجُو منهم تمام عشرة ولا يُقتَلُ مِنا عشرة : عهداً معهوداً وقدراً مَقْدوراً وقضاء مقْضِياً ، وقد خابَ مَن افْتَرى . ثم أقبَل أيضاً آخَر حتى جاءه ثلاثة كلهم يقولون مقالة الأول ويقول لهم مثل ذلك ، ثم ركب فأجال في ظهر بَغلَته ونهض الشابُّ وأجال في ظَهر فرسه وهو يقول في نفسه : والله لأنطَلِقنَّ مع علي فإن كان القوم قد عَبروا لأكونن من أشدِّ الناس على علي ، فلما انتهى إلى النهروان أصابوا القوم قد كَسروا جُفونَ سُيوفهم ، وعَرقَبُوا دوابهم وجَثَوا على رُكَبِهم وحَكموا بحكم رجل واحد ،
--------------------------- 143 ---------------------------
واستقبلوا علياً بصدور الرماح فقال علي ( عليه السلام ) : حُكَم الله أنتظر فيكم . فنزل إليه الشابُّ فقال : يا أمير المؤمنين إنِّي قد كنت شككتُ في قتال القوم فاغفر ذلك لي ، فقال علي : بل يغفر الله الذُّنوب فاستَغْفِرْه .
ثمّ نادى علي ( عليه السلام ) قَنْبَرفقال : ياقَنْبَر ناد القوم ما نَقَمْتُم على أمير المؤمنين ؟
ألم يَعدِل في قِسمتكم ، ويُقسِطْ في حكمكم ، ويرحم مسترحمكم ؟ لم يتخذ مالكم دُوَلاً ، ولم يأخذ منكم إلاّ السّهمين اللذين جعلهما الله : سهماً في الخاصة وسهماً في العامة . فقالت الخوارج : يا قنبر إن مولاك رجل جَدِل ورجل خَصِم وقد قال الله تعالى : بَل هُم قَومٌ خَصِمُونَ ، وهو منهم وقد ردنا بكلامه الحُلْو في غير مَوْطن ، وجعلوا يقولون : والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ) .

حَوَّلَ الإمام ( ( ع ) ) طريقه من صفين إلى النهروان

حَوَّلَ الإمام ( ( ع ) ) طريقه من صفين إلى النهروان
روى الطبري ( 4 / 57 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تحرك بجيشه إلى النخيلة ثم إلى الأنبار ، قاصداً صفين لمواصلة حرب معاوية . وخطب بالنخيلة فقال : ( أما بعد فإنه من ترك الجهاد في الله وادهن في أمره كان على شفا هلكة ، إلا أن يتداركه الله بنعمة ، فاتقوا الله وقاتلوا من حاد الله وحاول أن يطفئ نور الله . قاتلوا الخاطئين الضالين ، القاسطين المجرمين ، الذين ليسوا بقراء للقرآن ، ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام . والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل . تيسروا وتهيؤوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب .
فلم يزل بالنخيلة حتى وافاه هذان الجيشان من البصرة ثلاثة آلاف ومائتا رجل ، فجمع إليه رؤوس أهل الكوفة ورؤوس الأسباع ورؤوس القبائل ووجوه الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أهل الكوفة ، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق ، وصحابتي على جهاد عدوي المحلين ، بكم أضرب المدبر وأرجو تمام طاعة المقبل ، وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم فلم يأتني منهم إلا ثلاثة آلاف ومائتا رجل ، فأعينوني بمناصحة جلية خلية من الغش . .
--------------------------- 144 ---------------------------
فنهض خاصة أصحابه : فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل وسبعة عشرألفاً من الأبناء ممن أدرك ، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم ، وقالوا : يا أمير المؤمنين أما من عندنا من المقاتلة وأبناء المقاتلة ممن قد بلغ الحلم وأطاق القتال فقد رفعنا إليك منهم ذوي القوة والجلد وأمرناهم بالشخوص معنا . وكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفاً وثلاثة آلاف ومائتي رجل من أهل البصرة ، وكان جميع من معه ثمانية وستين ألفاً ومائتي رجل ) .
قال الطبري ( 4 / 60 ) : ( فبلغ ذلك علياً ومن معه من المسلمين من قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس ، فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم ويكتب به إليه على وجهه ولا يكتمه ، فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسائلهم فخرج القوم إليه فقتلوه !
وأتى الخبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والناس ، فقام إليه الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين علامَ تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا ، سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم ، سرنا إلى عدونا من أهل الشام . فإن هؤلاء أحضر عداوة وأنكى حداً ) .

وتجمع الخوارج في النهروان

وتجمع الخوارج في النهروان
قال الطبري ( 4 / 56 ) : ( أما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمس مائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي ، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم بالجسرالأكبر ، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه ، وأقبل يعترض الناس وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني ، وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر ) .
وكلامه هذا عن الخوارج الذين جاؤوا من البصرة يومها ، وإلا فأكثر الخوارج من أهل البصرة ، ورئيسهم العام حرقوص بن زهير بصري .
ثم قال الطبري : ( فنادى ( الإمام ) بالرحيل وخرج فعبر الجسر ، فصلى ركعتين بالقنطرة ، ثم نزل دير عبد الرحمن ، ثم دير أبي موسى ، ثم أخذ على قرية شاهي ، ثم على دباها ، ثم على شاطئ الفرات )
--------------------------- 145 ---------------------------
( لما أراد عليٌّ المسير إلى أهل النهر من الأنبار قدم قيس بن سعد وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره . . وبعث إلى أهل النهر : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم . ثم أنا تارككم وكافٌّ عنكم حتى ألقى أهل الشأم ، فلعل الله يقلب قلوبكم ويردكم إلى خيرمما أنتم عليه من أمركم ، فبعثوا إليه فقالوا : كلنا قتلتهم ، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم ) !

أتم الحجة عليهم قبل المعركة

أتم الحجة عليهم قبل المعركة
قال الطبري ( 4 / 62 ) أن الإمام ( عليه السلام ) أرسل إليهم أباأيوب الأنصاري : ( فقال : عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة ، فعلامَ تقاتلوننا ؟ فقالوا : إنا لو بايعناكم اليوم حكَّمتم غداً ! قال : فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في قابل ) .
قال الصدوق في التوحيد / 225 : ( لما وقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على الخوارج ووعظهم وذكرهم ، وحذرهم القتال قال لهم : ما تنقمون مني ؟ ألا إني أول من آمن بالله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) ! فقالوا : أنت كذلك ، ولكنك حكَّمت في دين الله أبا موسى الأشعري ، فقال ( عليه السلام ) : والله ما حكمت مخلوقاً ، وإنما حكمت القرآن ، ولولا أني غلبت على أمري وخولفت في رأيي لما رضيت أن تضع الحرب أوزارها بيني وبين أهل حرب الله ، حتى أعلي كلمة الله وأنصر دين الله ولو كره الكافرون والجاهلون ) .
أقول : يظهر أن كلامه ( عليه السلام ) هذا كان في المرة الأولى ويبدو أنه ( عليه السلام ) ذهب إليهم أكثر من مرة ، قال الطبري ( 4 / 62 ) : ( عن زيد بن وهب أن علياً أتى أهل النهر فوقف عليهم فقال : أيتها العصابة ، التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدها عن الحق الهوى ، وطمح بها النزق ، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم : إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غداً صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان بين ! ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم ، ونبأتكم أن القوم
--------------------------- 146 ---------------------------
ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأني أعرف بهم منكم ، عرفتهم أطفالاً ورجالاً فهم أهل المكر والغدر ، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم ، فعصيتموني !
حتى إذا أقررت بأن حكَّمت فلما فعلت شرطت واستوثقت فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة فنبذنا أمرهما ، ونحن على أمرنا الأول . فما الذي بكم ومن أين أتيتم ؟ قالوا : إنا حكَّمنا فلما حكمنا أثمنا ، وكنا بذلك كافرين ! وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك ، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء إن الله لا يحب الخائنين !
فقال عليٌّ : أصابكم حاصب ولا بقي منكم آبر أبعد إيماني برسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله ، أشهد على نفسي بالكفر ! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . ثم انصرف عنهم .
وروى الطبري ( 4 / 63 ) : آخر كلام للإمام ( عليه السلام ) معهم ، فقال : حدثني أبو سلمة الزهري أن علياً قال لأهل النهر . . وأنتم والله معاشرأخفاء الهام سفهاء الأحلام ، فلم آت لا أباً لكم حراماً ! فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج من جماعتنا إن اختار الناس رجلين ، أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم ، وتسفكون دماءهم ! إن هذا لهو الخسران المبين ، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها ، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام !
فتنادوا : لاتخاطبوهم ولا تكلموهم ، وتهيؤوا للقاء الرب : الرواح الرواح إلى الجنة ! فخرج عليٌّ فعبأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي ، وعلى ميسرته شبث بن ربعي ، أو معقل بن قيس الرياحي ، وعلى الخيل أباأيوب الأنصاري ، وعلى الرجالة أباقتادة الأنصاري ، وعلى أهل المدينة وهم سبع مائة أو ثمان مائة رجل قيس ابن سعد بن عبادة .
قال وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي ، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي ) .
--------------------------- 147 ---------------------------

نصب لهم راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري

نصب لهم راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري
( ورفع عليٌّ راية أمان مع أبي أيوب ، فناداهم أبو أيوب : من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن . ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن . إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم ، في سفك دمائكم . فقال فروة بن نوفل الأشجعي : والله ما أدري على أي شئ نقاتل علياً ! لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه وانصرف في خمس مائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة ، وخرجت طائفة أخرى متفرقين ، فنزلت الكوفة وخرج إلى علي منهم نحو من مائة ، وكانوا أربعة آلاف فكان الذين بقوا مع عبد الله ابن وهب منهم ألفين وثمان مائة . وزحفوا إلى علي وقدم على الخيل دون الرجال وصف الناس وراء الخيل صفين ، وصف المرامية أمام الصف الأول ، وقال لأصحابه كفوا عنهم حتى يبدؤوكم فإنهم لو قد شدوا عليكم وجلهم رجال لم ينتهوا إليكم إلا لاغبين ، وأنتم رادون حامون ! وأقبلت الخوارج ثم تنادوا الرواح الرواح إلى الجنة فشدوا على الناس والخيل أمام الرجال فلم تثبت خيل المسلمين لشدتهم وافترقت الخيل فرقتين فرقة نحو الميمنة وأخرى نحو الميسرة وأقبلوا نحو الرجال فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فوالله ما لبثوهم أن أناموهم ثم إن حمزة بن سنان صاحب خيلهم لما رأى الهلاك نادى أصحابه أن أنزلوا فذهبوا لينزلوا فلم يتقاروا حتى حمل عليهم الأسود ابن قيس المرادي وجاءتهم الخيل من نحو علي فأهمدوا في الساعة ) .
كانت المعركة ساعات فقط
قال ابن الأعثم ( 4 / 263 ) : ( قال : فصاح ذو الثدية حرقوص وقال : والله يا بن أبي طالب ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة . قال : فقال علي : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً أَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
--------------------------- 148 ---------------------------
صُنْعاً ؟ ! منهم أهل النهروان ورب الكعبة !
قال : ثم دعا علي برجل من أصحابه يقال له رويبة بن وبر البجلي فدفع إليه اللواء وأمره بالتقدم إلى القوم ، قال : فتقدم إلى القوم وهو يقول :
لقد عقد الإمام لنا لواء * وقدمنا أمام المؤمنينا
بأيدينا مثقفة طوالٌ * وبيض المرهفات إذا حلينا
نكر على الأعادي كل يوم * ونشهد حربهم متواريينا
ونضرب في العجاج رؤوس قوم * تراهم جاحدين وعابدينا
قال : فحمل فجعل يقاتل حتى استشهد .
وتقدم من بعده عبد الله بن حماد الحميري فقاتل فاستشهد .
وتقدم من بعده رفاعة بن وائل الأرحبي فقاتل واستشهد .
ثم تقدم من بعده كيسوم بن سلمة الجهني فقاتل فقتل .
وتقدم من بعده عبد بن عبيد الخولاني فقاتل فقتل .
قال : فلم يزل يخرج رجل بعد رجل من أشد فرسان علي ، حتى قتل منهم جماعة وهم ثمانية ، وأقبل التاسع واسمه حبيب بن عاصم الأزدي فقال : يا أمير المؤمنين ! هؤلاء الذين نقاتلهم أكفارٌهم ؟ فقال علي : من الكفر هربوا وفيه وقعوا ! قال : أفمنافقون ؟ فقال علي : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قال : فما هم يا أمير المؤمنين حتى أقاتلهم على بصيرة ويقين ؟ فقال علي : هم قوم مرقوا من دين الإسلام كما مرق السهم من الرمية ، يقرؤون القرآن فلا يتجاوز تراقيهم ، فطوبى لمن قتلهم أو قتلوه ! قال : فعندها تقدم حبيب بن عاصم هذا نحو الشراة ، وهو التاسع من أصحاب علي فقاتل وقتل ، واشتبك الحرب من الفريقين ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ولم يقتل من أصحاب علي إلا أولئك التسعة .
قال : وتقدم رجل من الشراة يقال له الأخنس العيزار الطائي حتى وقف بين الجمعين ، وكان من أشد فرسان الخوارج ، وكان ممن شهد يوم صفين وقاتل فيه ، فلما كان ذلك اليوم تقدم حتى وقف بين الجمعين وأنشأ يقول :
--------------------------- 149 ---------------------------
ألا ليتني في يوم صفين لم أؤبْ * وغودرت في القتلى بصفين ثاويا
وقطعت آراباً أوِ ألْقيتُ جىفة * وأصبحت ميتاً لا أجيب المناديا
ولم أر قتلى سنبس ولَقتلهم * أشاب غداة البين مني النواصيا
ثمانون من أحيا جديلة قتلوا * على النهر كانوا يخضبون العواليا
ينادون لا لا حكم إلا لربنا * حنانيك فاغفر حُوبنا والمساويا
هم فارقوا من جار في الله حكمه * وكل عن الرحمن أصبح راضيا
فلا وإله الناس ما هابَ معشر * على النهر في الله الحتوف القواضيا
شهدت لهم عند الإله بفلحهم * إذا صالح الأقوام خافوا المخازيا
وآلوا إلى التقوى ولم يتبعوا الهوى * فلا يبعدن الله من كان شاريا
قال : ثم حمل على أصحاب علي كرم الله وجهه حملة فشق الصفوف ، وقصده علي ، فالتقيا بضربتين فضربه علي فألحقه بأصحابه .
وحمل ذو الثدية على علي ليضربه بسيفه ، وسبقه علي فضربه على بيضته فهتكها ، وحمل به فرسه وهو كما به من الضربة ، حتى رمى به في آخر معركة على شط النهروان في جرف دالية خربة . قال : وخرج من بعده ابن عم له يقال له مالك بن الوضاح ، حتى وقف بين الجمعين وهو يقول :
إني لبائع ما يفنى بباقية * ولا أريد لذي الهيجاء تربيصا
أخشى فجاءة قوم أن يعاجلني * ولم أرد بطوال العمر تنقيصا
فأسأل الله بيع النفس محتسباً * حتى أرافق في الفردوس حرقوصا
والزبرقان ومرداساً وإخوته * إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا
قال : ثم حمل على علي ، وحمل علي فضربه ضربة ألحقه بأصحابه .
وتقدم عبد الله بن وهب الراسبي حتى وقف بين الجمعين ثم نادى بأعلى صوته : يا ابن أبي طالب ! حتى متى تكون هذه المطاولة بيننا وبينك ! والله لا نبرح هذه العرصة أبداً أو نأتي على نفسك ، فابرز إلي حتى أبرز إليك وذر الناس جانباً . قال : فتبسم علي ثم قال : قاتله الله من رجل ما أقل حياءه ! أما إنه ليعلم أني حليف السيف وجديل الرمي ، ولكنه أيس من الحياة ، أو لعله يطمع طمعاً
--------------------------- 150 ---------------------------
كاذباً . قال وجعل عبد الله يجول بين الصفين وهو يرتجز :
أنا ابن وهب الراسبي الشاري * أضرب في القوم لأخذ الثار
حتى تزول دولة الأشرار * ويرجع الحق إلى الأخيار
ثم حمل فضربه علي ضربة ألحقه بأصحابه . قال : واختلط القوم فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم ، وقد كانوا أربعة آلاف ، فما فلت منهم إلا تسعة نفر ، فهرب منهم رجلان إلى خراسان إلى أرض سجستان وفيها نسلهما إلى الساعة ، وصار رجلان إلا بلاد اليمن فيها نسلهما إلى الساعة ، ورجلان صارا إلا بلاد الجزيرة إلى موضع يقال له سوق التوريخ ، وإلى شاطئ الفرات فهناك نسلهما إلى الساعة ، وصار رجل إلى تل يسمى تل موزن وغنم أصحاب علي في ذلك اليوم غنائم كثيرة . وأقبل علي نحو الكوفة ) .
وقال علي ( عليه السلام ) لما مر بقتلى الخوارج ( نهج البلاغة : 4 / 77 ) : ( بؤساً لكم ، لقد ضركم من غركم . فقيل له : من غرهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال : الشيطان المضل والأنفس الأمارة بالسوء ، غرتهم بالأماني وفسحت لهم بالمعاصي ، ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم النار ) .
وقال البلاذري ( 2 / 371 ) : ( وقال علي لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدؤوكم . ونادى جمرة بن سنان : روحوا إلى الجنة ، فقال ابن وهب : والله ما ندري أنروح إلى الجنة أم إلى النار ! وتنادي الحرورية : الرواح إلى الجنة معاشر المخبتين وأصحاب البرانس المصلين . فشدوا على أصحاب علي شدة واحدة ، فانفرقت خيل علي منفرقين : فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة . وأقبلوا نحو الرجالة فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل حتى كأنهم معزى تتقي المطر بقرونها ، ثم عطفت الخيل عليهم من الميمنة والميسرة ، ونهض علي إليهم من القلب بالرماح والسيوف ، فما لبثوا أن أهمدوا في ساعة ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 128 ) : ( فلا والله ما لبثوا فواقاً حتى صرعهم الله ، كأنما قيل لهم موتوا فماتوا . قال : وأخذ عليٌّ ما كان في عسكرهم من كل شئ ، فأما السلاح والدواب فقسمه علي بيننا ، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم الكوفة رده على أهلها ) .
وقال الطبري ( 4 / 65 ) : ( جاء هانئ بن خطاب الأرحبي وزياد بن خصفة يحتجان في
--------------------------- 151 ---------------------------
قتل عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهما : كيف صنعتما ؟ فقالا : يا أمير المؤمنين لما رأيناه عرفناه وابتدرناه فطعناه برمحينا . فقال علي : لاتختلفا كلاكما قاتل . وشد جيش بن ربيعة أبو المعتمر الكناني على حرقوص بن زهير فقتله ، وشد عبد الله بن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله ، وطُلب من به رمق منهم فوجدناهم أربع مائة رجل ، فأمر بهم عليٌّ فدفعوا إلى عشائرهم وقال : إحملوهم معكم فداووهم ، فإذا برؤا فوافوا بهم الكوفة . . وطلب عدي بن حاتم ابنه طرفة فوجده فدفنه ، ثم قال : الحمد لله الذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك . ودفن رجال من الناس قتلاهم فقال أمير المؤمنين حين بلغه ذلك : إرتحلوا إذاً أتقتلونهم ثم تدفنونهم فارتحل الناس ) .
أقول : نقرأ أن قائد الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي طلب مبارزة علي ( عليه السلام ) فبرز إلىه وقتله ، ثم جاءه اثنان مختلفين في قتله ، فحكم لهما بالشراكة ! وتفسيره أن من اختلفا فيه قد يكون ابن الراسبي أو أخاه ، أو يكونان كاذبين فلم يكذبهما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحكم لهما بالشراكة ليأخذا الجائزة مناصفة !
معركة النهروان برواية المسعودي
قال في مروج الذهب ( 2 / 404 ) : ( وقد كان علي انفصل عن الكوفة في خمسة وثلاثين ألفاً ، وأتاه من البصرة من قبل ابن عباس وكان عامله عليها عشرة آلاف ، فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن قدامة السعدي ، وذلك في سنة ثمان وثلاثين ، فنزل علي الأنبار . والتأمت اليه العساكر فخطب الناس وحرضهم على الجهاد وقال : سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار قُدماً ، فإنهم طالما سعوا في إطفاء نور الله ، وحرضوا على قتال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومن معه ، ألا إن رسول الله أمرني بقتال القاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم ، والناكثين وهم هؤلاء الذين فرغنا منهم ، والمارقين ولم نلقهم بعد ، فسيروا إلى القاسطين ، فهم أهم علينا من الخوارج ، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ، يتخذهم الناس أرباباً ، ويتخذون عباد الله خوَلاً ، ومالهم دولاً ، فأبوا إلا أن يبدؤوا
--------------------------- 152 ---------------------------
بالخوارج ، فسارعلي إليهم ، حتى أتى النهروان ، فبعث إليهم بالحارث بن مرة العبدي رسولاً يدعوهم إلى الرجوع فقتلوه ، وبعثوا إلى علي : إن تُبْت من حكومتك وشهدت على نفسك بالكفر بايعناك ، وإن أبيت فاعتزلنا حتى نختار لأنفسنا إماماً فإنا منك براء ، فبعث إليهم علي : أن ابعثوا إلي بقتلة اخواني فأقتلهم ثم أتارككم إلى أن أفرغ من قتال أهل المغرب ، ولعل الله يقلب قلوبكم ، فبعثوا اليه : كلنا قتلة أصحابكَ ، وكلنا مستحلٌّ لدمائهم مشتركون في قتلهم !
فلما أشرف عليهم قال : الله أكبر ، صدق الله ورسوله . فتصافَّ القوم ، ووقف عليهم بنفسه ، فدعاهم إلى الرجوع والتوبة ، فأبوا ورموا أصحابه ، فقيل له : قد رمونا . فقال : كفوا ، فكرروا القول عليه ثلاثاً وهو يأمرهم بالكف ، حتى أتيَ برجل قتيل متشحط بدمه فقال علي : الله أكبر ، الآن حل قتالهم ، احملوا على القوم ، فحمل رجل من الخوارج على أصحاب علي ، فجرح فيهم ، وجعل يغشى كل ناحية ويقول :
أضربهم ولو أرى عليا * ألبسته أبيض مشرفيا
فخرج اليه علي رضي الله عنه ، وهو يقول :
يا أيهذا المبتغي علياً * إني أراك جاهلًا شقيا
قد كنت عن كفاحه غنياً * هلم فابرز هاهنا إليا
وحمل عليه عليٌّ ، فقتله ، ثم خرج آخر ، فحمل على الناس ففتك فيهم ، وجعل يكرعليهم يقول :
أضربهم ولو أرى أباحَسَن * ألبسته بصارمِي ثوب غَبنْ
فخرج اليه علي وهو يقول :
يا أيهذا المبتغي أباحسن * إليك فانظر أينا يلقى الغبن
وحمل عليه علي وشكه بالرمح وترك الرمح فيه ، فانصرف علي وهو يقول : لقد رأيت أباحسن فرأيت ما تكره !
وحمل أبو أيوب الأنصاري على زيد بن حصن فقتله ، وقُتل عبد الله بن وهب الراسبي ، قتله هانئ بن حاطب الأزدي ، وزياد بن حفصة ، وقُتل حرقوص بن زهير السعدي ، وكان جملة من قُتل من أصحاب علي تسعة ، ولم يفلت من الخوارج إلا
--------------------------- 153 ---------------------------
عشرة ، وأتى علي على القوم وهم أربعة آلاف فيهم المخدج ذو الثدية ، إلا من ذكرنا من هؤلاء العشرة .
وأمر علي بطلب المخدج ، فطلبوه ، فلم يقدروا عليه ، فقام علي عليه أثر الحزن لفقد المخدج ، فانتهى إلى قتلى بعضهم فوق بعض فقال : أفرجوا ، ففرجوا يميناً وشمالًا واستخرجوه ، فقال علي : الله أكبر ما كذَبْتُ على محمد وإنه لناقص اليد ليس فيها عظم ، طرفها حلمة مثل ثدي المرأة ، عليها خمس شعرات أو سبع رؤسها معقفة . ثم قال : إئتوني به فنظرالى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة عليه شعرات سود ، إذا مدت اللحمة امتدت حتى تحاذي بطن يده الأخرى ، ثم تترك فتعود إلى منكبه ، فثَنَى رجله ونزل وخر لله ساجداً . ثم ركب ومر بهم وهم صَرْعى فقال : لقد صرعكم من غركم . قيل : ومن غرهم ؟ قال : الشيطان وأنفُسُ السوء !
فقال أصحابه : قد قطع الله دابرهم إلى آخر الدهر ، فقال : كلا والذي نفسي بيده ، وإنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء ، لا تخرج خارجة إلا خرجت بعدها مثلها حتى تخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل يقال له الأشمط يخرج اليه رجل منا أهل البيت فيقتله ، ولا تخرج بعدها خارجة إلى يوم القيامة . وجمع علي ما كان في عسكر الخوارج ، فقسم السلاح والدواب بين المسلمين ورد المتاع والعبيد والإماء إلى أهلهم ، ثم خطب الناس ، فقال : إن الله قد أحسن إليكم وأعز نصركم ، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين قد كلت سيوفنا ، ونفدت نبالنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، فدعنا نستعد بأحسن عدتنا ، وكان الذي كلمه بهذا الأشعث بن قيس ، فعسكر علي بالنخيلة . فجعل أصحابه يتسللون ويلحقون بأوطانهم ، فلم يبق معه الا نفر يسير ) .
أطلبوا جثة حرقوص المخدج !
في خصائص الأئمة للشريف الرضي / 61 : ( لما قَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أهل النهروان قال لأصحابه : أطلبوا إلي رجلاً مخدج اليد ، وعلى جانب يده الصحيحة ثدي كثدي المرأة إذا مد امتد ، وإذا ترك تقلص ، عليه شعرات صهب ، وهو صاحب
--------------------------- 154 ---------------------------
رايتهم يوم القيامة ، يوردهم النار وبئس الورد المورود ، فطلبوه فلم يجدوه فقالوا : لم نجده . فقال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ونصب الكعبة ، ما كذبت ولا كذبت ، وإني لعلى بينة من ربي ، قال : فلما لم يجدوه ، قام والعرق ينحدرعن جبهته ، حتى أتى وهدة من الأرض فيها نحو من ثلاثين قتيلاً ، فقال : إرفعوا إلي هؤلاء فجعلنا نرفعهم حتى رأينا الرجل الذي هذه صفته تحتهم فاستخرجناه فوضع أمير المؤمنين رجله على ثديه الذي هو كثدي المرأة ، ثم عركه بالأرض ثم أخذه بيده وأخذ بيده الأخرى يد الرجل الصحيحة ومدها حتى استويا ، ثم التفت إلى رجل جاء إليه وهو شاك فقال : وهذه لك آية . ثم قال : إن الجانب الآخر الذي ليس فيه يد ليس فيه ثدي ، فشقوا عنه جانب قميصه ، فإذا له مكان اليد شئ مثل غلظ الإبهام ، وإذا ليس في ذلك الجانب ثدي ، فقال للرجل الشاك : وهذه لك آية أخرى ) .
وفي المناقب لابن المغازلي / 79 : ( عن يزيد بن رُوَيم قال : كنت عامِلاً لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على باروسما ونَهر الملك ، فأتاه مَن أخبره أن الخوارج الذين قتلوا عبد الله بن الخَباب قد عبروا النهروان ، فقال له علي ( عليه السلام ) : لم يعبُروا ولن يَعبُروا وإن عَبَروا لم ينجُ منهم عشرة ، ولن يقتل منكم عشرة ، قال : ثم جاء القوم فبرز إليهم فقال : يا يزيد بن رُوَيم اقطع أربعة آلاف خَشَبة أو قَصبة قال : فقطع له ثم أوقفهم قال : فقاتلهم فلما فرغ من قتالهم قال لي : يا يزيد إطرح على كلِّ قتيل خَشَبه أو قَصَبة ، قال : فركب بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأُناس بين يديه ونحن على ظَهر نهر لا يَمُرُّ بقتيل إلاّ طرحتُ عليه خَشبة أو قَصبة قال : حتى بَقِيَتْ في يدي واحدة ، قال : فنظرت إليه فإذا وجهه أرْبَدُ وهو يقول : والله ما كَذبتُ ولا كُذِبْتُ . قال : فبينا أنا أمُرُّ بين يَدَيه إذا خَريرُ ماء عند موضع دالِيَة فقلت : يا أمير المؤمنين هذا خَرير ماء ، قال : فقال لي : فَتِّشْهُ ففتَّشْتُه فإذا رجل قد صارت في يدي ، فقلت : هذه رجلٌ فنزل إليَّ فأخذنا الرِّجل الأُخرى وجَرَّها وجَررتُ ، فإذا رجُل قال : فقال لي
مدَّ يده ، فمددتها فاستوت قال : ثمّ قال : خَلِّها فخلّيتُها ، فإذا هي كأنّها الثَدي في صدره ) .
--------------------------- 155 ---------------------------
أسماء الشهداء من أصحاب الإمام ( ( ع ) ) في النهروان
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 99 ) : ( قال ( عليه السلام ) في الخوارج مخاطباً لأصحابه : والله لا يقتل منكم عشرة . وفي رواية : لا ينفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منا عشرة ، فقتل من أصحابه تسعة ، وانفلت منهم تسعة : اثنان إلى سجستان ، واثنان إلى عمان ، واثنان إلى بلاد الجزيرة ، واثنان إلى اليمن ، وواحد إلى موزن ، والخوارج من هذه المواضع منهم .
وقال الأعثم : المقتولون من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : رويبة بن وبر العجلي ، وسعد بن خالد السبيعي ، وعبد الله بن حماد الأرحبي ، والفياض بن خليل الأزدي ، وكيسوم بن سلمة الجهني ، وعبيد بن عبيد الخولاني ، وجميع بن جشم الكندي ، وضب بن عاصم الأسدي ) .
لقد شهدََنا في هذا الموقف اُناسٌ لم يخلق الله آباءهم !
( عن الحكم بن عيينة قال : لما قَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الخوارج يوم النهروان
قام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين طوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف وقتلنا معك هؤلاء الخوارج ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يخلق الله آبائهم ولا أجدادهم بعد ، فقال الرجل : وكيف شهدنا قوم لم يخلقوا ؟ قال : بلى ، قوم يكونون في آخر الزمان يشركوننا فيما نحن فيه وهم يسلمون لنا ، فأولئك شركاؤنا فيما كنا فيه حقاً حقاً ) . ( المحاسن : 1 / 362 ) .
ونحوه في نهج البلاغة ( 1 / 44 ) : ( لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه : وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك . فقال له ( عليه السلام ) : أهوى أخيك معنا ؟ فقال نعم ، قال فقد شهدنا . ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان ) .
--------------------------- 156 ---------------------------
آخر الخوارج في رميلة الدسكرة
في معجم أحاديث الإمام المهدي ( عليه السلام ) ( 4 / 34 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( أول خارجة خرجت على موسى بن عمران بمرج دابق وهو بالشام ، وخرجت على المسيح بحران ، وخرجت على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالنهروان ، وتخرج على القائم بالدسكرة دسكرة الملك . ثم قال لي : كيف مالح دير بين ماكي مالح . يعني عند قريتك وهو بالنبطية ، وذاك أن يونس كان من قرية دير بين ما يقال الدسكرة إلى عند دير بين ما ) .
ونحوه ابن أبي شيبة ( 8 / 673 )
ودسكرة الملك من توابع النهروان قرب شهرابان ، وهي اليوم من محافظة بعقوبة .
قال السمعاني ( 2 / 476 ) : ( قرية كبيرة تنزلها القوافل ، نزلت بها في التوجه والانصراف وبت بها ليلتين ) . وقال الحموي ( 2 / 455 ) : ( قرية في طريق خراسان قريبة من شهرابان ، وهي دسكرة الملك ، كان هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك يكثر المقام بها فسميت بذلك ) .
وقال الحموي ( 5 / 324 ) : ( نهروان : وأكثر ما يجري على الألسنة بكسرالنون ، وهي ثلاثة نهروانات : الأعلى والأوسط والأسفل ، وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدها الأعلى متصل ببغداد وفيها عدة بلاد متوسطة ، منها : إسكاف وجرجرايا والصافية ودير قنا ، وغير ذلك ، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج مشهورة ، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب ، فمن كان من مدنها نسب إلى مدينة ومن كان من قراها الصغار نسب إلى الكورة ، وهو نهر مبتدؤه قرب تامرا أو حلوان ، فإني لا أحققه ولم أر أحداً ذكره ، وهو الآن خراب ومدنه وقراه تلال يراها الناس بها والحيطان قائمة ، وكان سبب خرابه اختلاف السلاطين وقتال بعضهم بعضاً في أيام السلجوقية ، إذ كان كل من ملك لا يحتفل بالعمارة إذ كان قصده أن يحوصل ويطير ( يجمع الحاصل ويذهب ) ! وكان أيضاً في ممر العساكر فجلى عنه أهله واستمر خرابه ، وقد استشأم الملوك أيضاً من تجديد حفر نهره ، وزعموا أنه ما شرع فيه أحد إلا مات قبل تمامه ، وكان قد شرع
--------------------------- 157 ---------------------------
فيه نهروان الخادم وغيره فمات وبقي على حاله ، وكان من أجمل نواحي بغداد وأكثرها دخلاً ، وأحسنها منظراً ، وأبهاها مخبراً ) .
أقول : لله تعالى أسرارٌ في أماكن الأحداث وتعاقبها ، وكأن التاريخ يدور دورات ، مثلاً تأسيس القدس وتجديد الكعبة مقدمة لبعثة نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ، وعودة العراق بعد نوح وإبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليكون عاصمة الإسلام على يد علي ( عليه السلام ) ، ثم الوعد الإلهي بأن يكون العراق عاصمة العالم على يد الإمام المهدي ( عليه السلام ) . ومن دورات التاريخ أن يكون آخر الخوارج في نفس المكان الذي خرجوا فيه على علي ( عليه السلام ) !
أما أول خارجة على الإمام المهدي ( عليه السلام ) في العراق فهم البترية الذين يزعمون أنهم يتولون أهل البيت ( عليهم السلام ) وظالميهم معاً !
عن أبي الجارود أنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( دلائل الإمامة / 241 ) : ( ويسير إلى الكوفة فيخرج منها ستة عشرألفاً من البترية شاكين في السلاح ، قراء القرآن فقهاء
في الدين ، قد قرحوا جباههم ، وشمروا ثيابهم ، وعمهم النفاق ، وكلهم يقولون : يا ابن فاطمة إرجع لا حاجة لنا فيك ، فيضع السيف فيهم على ظهر النجف عشية الاثنين من العصر إلى العشاء ، فيقتلهم أسرع من جزر جزور ، فلا يفوت منهم رجل ولا يصاب من أصحابه أحد ! دماؤهم قربان إلى الله !
ثم يدخل الكوفة فيقتل مقاتليها حتى يرضى الله تعالى . قال : فلم أعقل المعنى ! فمكثت قليلاً ثم قلت : وما يدريه جعلت فداك متى يرضى الله عز وجل ؟ قال : يا أباالجارود إن الله أوحى إلى أم موسى وهو خير من أم موسى ، وأوحى الله إلى النحل وهو خير من النحل ، فعقلت المذهب فقال لي : أعقلت المذهب ؟ قلت : نعم . فقال : إن القائم ليملك ثلاث مائة وتسع سنين كما لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً ويفتح الله عليه شرق الأرض وغربها ) .
--------------------------- 158 ---------------------------
إخبارالإمام ( ( ع ) ) بالمغيبات معجزة للنبي ؟ ص ؟
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 5 / 4 ) ملخصاً : ( هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة ، لاشتهاره ونقل الناس كافة له ، وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب ، فإنه لا يحتمل التلبيس ، لتقييده بالعدد المعين في أصحابه وفى الخوارج ، ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعرفه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) من جهة الله سبحانه . والقوة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره . وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته ، وأحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا ، حتى نسب إلى أن الجوهر الإلهي حل في بدنه ، كما قالت النصارى في عيسى ( عليه السلام ) .
وقد أخبره النبي ( ( عليهما السلام ) ) بذلك فقال : يهلك فيك رجلان محبٌّ غالٍ ، ومبغضٌ قالٍ . وقال له تارة أخرى : والذي نفسي بيده ، لولا أني أشفق أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالاً ، لاتمر بملأ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة ) !
معجزة الإمام ( ( ع ) ) في براثا ببغداد
1 . في أمالي الطوسي / 199 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء فقال للناس : إنها الزوراء فسيروا وجنبوا عنها ، فإن الخسف أسرع إليها من الوتد في النخالة ، فلما أتى موضعاً من أرضها قال : ما هذه الأرض ؟ قيل : أرض بحرا . فقال : أرض سباخ جنبوا ويمنوا . فلما أتى يمنة السواد فإذا هو براهب في صومعة له فقال له : يا راهب أنزل هاهنا ؟ فقال له الراهب : لاتنزل هذه الأرض بجيشك . قال : ولم َ ؟ قال : لأنه لا ينزلها إلا نبي أو وصي نبي بجيشه يقاتل في سبيل الله عز وجل ، هكذا نجد في كتبنا . فقال له أمير المؤمنين : فأنا وصي سيد الأنبياء وسيد الأوصياء . فقال له الراهب : فأنت إذن أصلع قريش ووصي محمد ( ( عليهما السلام ) ) . قال له أمير المؤمنين : أنا ذلك .
--------------------------- 159 ---------------------------
فنزل الراهب إليه فقال : خذ عليَّ شرائع الإسلام ، إني وجدت في الإنجيل نعتك ، وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرض عيسى ( عليه السلام ) .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قف ولاتخبرنا بشئ ، ثم أتى موضعاً فقال : ألكزوا هذه فلكزه برجله ( عليه السلام ) فانبجست عين خرارة ، فقال : هذه عين مريم التي انبعثت لها ثم قال : اكشفوا هاهنا على سبعة عشر ذراعاً ، فكشف فإذا بصخرة بيضاء فقال علي ( عليه السلام ) : على هذه وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت هاهنا . فنصب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الصخرة وصلى إليها ، وأقام هناك أربعة أيام يتم الصلاة ، وجعل الحرم في خيمة من الموضع على دعوة ، ثم قال : أرض براثا ، هذا بيت مريم ( عليها السلام ) هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء . قال أبو جعفر محمد بن علي ( عليه السلام ) : ولقد وجدنا أنه صلى فيه إبراهيم قبل عيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
2 . كتبنا عن براثا في كتاب : الإمام الكاظم ( عليه السلام ) سيد بغداد ، وذكرنا أن مسجد براثا كان قبل بغداد بأكثر من قرن !
قال في معجم البلدان ( 1 / 362 ) : « محلة كانت في طرف بغداد في قبلة الكرخ وجنوبي باب محول ، وكان لها جامع مفرد تصلي فيه الشيعة » .
وفي التهذيب ( 3 / 264 ) : « أن الراهب قال : إنما بنيت هذه الصومعة من أجل هذا الموضع وهو براثا ، وقرأت في الكتب المنزلة أنه لا يصلي في هذا الموضع بذا الجمع إلا نبي أو وصي نبي ، وقد جئت أن أسلم ، فأسلم فخرج معنا إلى الكوفة فقال له علي ( عليه السلام ) : فمن صلى هاهنا ؟ قال : صلى عيسى بن مريم وأمه . فقال له علي ( عليه السلام ) : أفأفيدك من صلى ههنا ؟ قال : نعم . قال : الخليل ( عليه السلام ) » .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 100 ) : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فاجلس يا حباب ، قال : وهذه دلالة أخرى ( أي عرف اسمه ) ثم قال : فانزل يا حباب من هذه الصومعة وابن هذا الدير مسجداً ، فبنى حباب الدير مسجداً ولحق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الكوفة ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فعاد حباب إلى مسجده ببراثا .
--------------------------- 160 ---------------------------
وفي رواية : أن الراهب قال : قرأت أنه يصلي في هذا الموضع إيليا وصي البارقليطا محمد نبي الأميين ، الخاتم لمن سبقه من أنبياء الله ورسله ( عليهم السلام ) ، فمن أدركه فليتبع النور الذي جاء به نبي الأميين الخاتم لمن سبقه من أنبياء الله ورسله ( عليهم السلام ) ، ألا وإنه تغرس في آخر الأيام بهذه البقعة شجرة لا يفسد ثمرها . في كلام كثير .
وفي رواية زاذان : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ومن أين شربك ؟ قال : من دجلة ، قال : ولمَ لم تحفر عيناً تشرب منها ؟ قال : قد حفرتها وخرجت مالحة . قال : فاحتفر الآن بئراً أخرى ، فاحتفر فخرج ماؤها عذباً فقال : يا حباب ليكن شربك من ههنا ، ولا يزال هذا المسجد معموراً ، فإذا خربوه وقطعوا نخله حلت بهم أو قال بالناس داهية .
وفي رواية محمد بن قيس : فأتى أمير المؤمنين موضعاً من تلك الملبة فركلها برجله فانبجست عين خرارة فقال : هذه عين مريم ، ثم قال : فاحتفروا ههنا سبعة عشر ذراعاً ، فاحتفروا فإذا صخرة بيضاء فقال : ههنا وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت ههنا ، فنصب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الصخرة وصلى إليها ، وأقام هناك أربعة أيام .
وفي رواية الباقر ( عليه السلام ) : قال هذه عين مريم التي أنبعت لها ، واكشفوا ههنا سبعة عشر ذراعاً فكشف فإذا صخرة بيضاء . . الخبر .
وفي رواية : هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء ( عليهم السلام ) . وقال أبو جعفر : ولقد وجدنا أنه صلى فيه قبل عيسى . ورواية أخرى : صلى فيه الخليل .
وروي : أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صاح بالعبراني فقال : يا بئر أقرب إليَّ ، فلما عبر إلى المسجد وكان فيه عوسج وشوك عظيم فانتضى سيفه وكسح ذلك كله وقال : إن ههنا قبر نبي من أنبياء الله ( عليهم السلام ) ، وأمر الشمس أن إرجعي فرجعت وكان معه ثلاثة عشر رجلاً من أصحابه ، فأقام القبلة بخط الاستواء وصلى إليها ، وقال العوني :
وقلت براثا كان بيتاً لمريم * وذاك ضعيف في الأسانيد أعوج
ولكنه بيت لعيسى بن مريم * وللأنبياء الزهر مثوى ومدرج
وللأوصياء الطاهرين مقامهم * على غابر الأيام والحق أبلج
بسبعين موصى بعد سبعين مرسل * جباههم فيها سجوداً تشجج
وآخرهم فيها صلاة إمامنا * عليٌّ ، بذا جاء الحديث المنهَّج » .
--------------------------- 161 ---------------------------
وفي عيون المعجزات / 2 : « لما رجع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قتال أهل النهروان أخذ على النهروانات وأعمال العراق ، ولم يكن يومئذ بنيت بغداد . . الخ . » .
وفي اليقين لابن طاووس / 156 : ( فلما سمع الراهب الصيحة والعسكر أشرف من قلايته ( صومعته ) إلى الأرض فنظر إلى عسكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاستفظع ذلك ونزل مبادراً قال : من هذا ، ومن رئيس هذا العسكر ؟ فقيل له : هذا أمير المؤمنين وقد رجع من قتال أهل النهروان ، فجاء الحباب مبادراً يتخطى الناس حتى وقف على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين حقاً حقاً ، فقال له : وما أعلمك بأني أمير المؤمنين حقاً حقاً ؟ قال له : بذلك أخبرنا علماؤنا وأحبارنا . فقال له : يا حباب ، فقال له الراهب : وما علمك باسمي ! فقال : أعلمني بذلك حبيبي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ! فقال له حباب : مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله وأنك علي بن أبي طالب وصيه ) .
وفي اليقين لابن طاووس / 421 : « فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وأين تأوي ؟ فقال : أكون في قلاية لي هاهنا . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بعد يومك هذا لاتسكن فيها ولكن ابن هاهنا مسجداً وسمه باسم بانيه ، فبناه رجل اسمه براثا فسمي المسجد ببراثا باسم الباني له .
ثم قال ( عليه السلام ) : ومن أين تشرب يا حباب ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، من دجلة هاهنا . قال : فلم لا تحفر هاهنا عيناً أو بئراً ؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ، كلما حفرنا بئراً وجدناها مالحة غير عذبة ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إحفرهاهنا بئراً فحفر فخرجت عليهم صخرة لم يستطيعوا قلعها . فقلعها أمير المؤمنين فانقلعت عن عين أحلى من الشهد وألذ من الزبد ، فقال له : يا حباب ، يكون شربك من هذه العين . أما إنه يا حباب ستبنى إلى جنب مسجدك هذا مدينة ، وتكثر الجبابرة فيها ويعظم البلاء » .
أقول : دل هذا على أن بغداد بنيت بين براثا والكرخ . وأن إبراهيم ( عليه السلام ) صلى في موضع براثا ، وأن مريم ( عليه السلام ) كانت فترة من تشريدها مع ابنها عيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العراق ،
--------------------------- 162 ---------------------------
وتدل الروايات على أن اليهود والرومان ضايقوها فاضطرت إلى الهجرة إلى بابل ثم إلى مصر ، وبقيت نحو ثلاثين سنة ، ثم أمر الله عيسى ( عليه السلام ) فرجع إلى القدس ، ودعا الناس حتى حاولوا قتله ، فرفعه الله تعالى .
وفي ذكرى الشيعة ( 3 / 118 ) : ( مسجد براثا في غربي بغداد ، وهو باق إلى الآن رأيته وصليت فيه ( القرن الثامن ) روى الجماعة عن جابرالأنصاري قال : صلى بنا علي ( عليه السلام ) ببراثا بعد رجوعه من قتال الشراة ونحن زهاء مائة ألف رجل ، فنزل نصراني من صومعته فقال : أين عميد هذا الجيش ؟ فقلنا : هذا . فأقبل عليه وسلم عليه ثم قال : يا سيدي أنت نبي ؟ قال : لا ، النبي سيدي قد مات . قال : أفأنت وصي نبي ؟ قال : نعم . فقال : إنما بنيت الصومعة من أجل هذا الموضع وهو براثا ، وقرأت في الكتب المنزلة أنه لا يصلي في هذا الموضع بذا الجمع إلا نبي أو وصي نبي ، ثم أسلم ، فقال له علي : من صلى ها هنا ؟ قال : صلى عيسى بن مريم وأمه . فقال له علي : والخليل ( عليهم السلام ) ) .
3 . تأسست بغداد في سنة 145 ، وكانت الكرخ قرية عامرة قبل تأسيسها وكان أهلها شيعة ، ففي بصائر الدرجات / 355 ، أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سأل إبراهيم الكرخي :
« يا إبراهيم أين تنزل من الكرخ ؟ قلت : في موضع يقال له شادروان ، قال فقال لي : تعرف قَطَفْتَا ؟ قال : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين أتى أهل النهروان نزل قطفتا ، فاجتمع إليه أهل بادرويا ، فشكوا إليه ثقل خراجهم وكلموه بالنبطية ، وأن لهم جيراناً أوسع أرضاً وأقل خراجاً ، فأجابهم بالنبطية : ( وغرزطا من عوديا ) قال فمعناه : رب رجز صغيرخير من رجز كبير ) . والرجز هنا : سهم الأرض . ويظهرأن قطفتا وبادرويا وشادروان والكرخ ، كانت قرى كبيرة كالمدينة . وترجمت المصادر لعدد من الكرخيين في أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) غير إبراهيم المذكور ، وفيهم علماء مؤلفون .
وقال في معجم البلدان ( 4 / 448 ) : « وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية ، لا يوجد فيهم سني البتة » أما معروف الكرخي فهو من كرخ شهرزور وليس كرخ بغداد .
وافتخر ابن كثيربهمجية أصحابه فقال : ( تسلطت أهل السنة ( مجسمة الحنابلة ) على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض ، وقتلوا بعض من
--------------------------- 163 ---------------------------
كان فيه . وأحرق الكرخ فألقيَ في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال ، من ذلك ثلاث مائة دكان ، وثلاثة وثلاثون مسجداً ، وسبعة عشر ألف إنسان ) ! ( النهاية : 11 / 209 و 288 ) .
4 . وقد روينا عن الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) أن مقبرة براثا مقدسة ، ففي كامل الزيارات / 546 ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن إلى جانبكم مقبرة يقال لها : براثا يحشر منها عشرون ومائة ألف شهيد ، كشهداء بدر » .
معجزة رد الشمس للإمام ( ( ع ) ) في بابل
1 . ورد في معجزات نبينا ( ( عليهما السلام ) ) أنه كان مريضاً نائماً على ركبة علي ( عليه السلام ) ففاتت علياً ( عليه السلام ) صلاة العصرحتى غابت الشمس أو كادت ، فدعا النبي ربه فأرجع الله الشمس إلى وقت العصر ، وصلى علي ( عليه السلام ) ، ثم غابت .
كما ورد أن علياً ( عليه السلام ) مرعلى بقعة من بابل فقال للناس : صلوا إن شئتم ، لكنها أرض ملعونة لا يجوز لنبي ولا وصي أن يصلي فيها ، وأخر صلاته ، فلما أكمل عبور البقعة كانت الشمس غابت أو كادت ، فدعا الله فعادت وصلى وغابت الشمس بعد صلاته ، كما حدث له مع النبي ( ( عليهما السلام ) ) .
وقال أهل الشك : هذا محال ، لأن رد الشمس يوجب اختلال نظام الفلك ، ولو سلمنا أنه لا يوجب إخلالاً ، لانتشر خبره في الناس .
وجوابه : أن صحة الحديث تعني أنه لايسبب إخلالاً في النظام الكوني ، ثم لا يلزم شموله لكل الأرض ، فقد يكون رجوعها خاصاً بتلك البقعة .
وقال بعضهم : كيف تنسبون اليه أنه أخر صلاته لأنه مشغول بشئ ؟
وجوابه : ما المانع أن يكون الله تعالى أمرض رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وأشغل به علياً ( عليه السلام ) ، حتى يُظهر هذه الآية للناس .
أما في بابل فقد ذكر الإمام ( عليه السلام ) أن سبب عدم صلاته في تلك البقعة أنها أرض ملعونة لا يجوز لنبي ولا وصي ( عليهم السلام ) أن يصلي فيها ، ويجوز ذلك لعامة الناس . ومعناه : أن صلاته فيها تؤثر أثراً تكوينياً يناقض اللعنة لها !
--------------------------- 164 ---------------------------
وهذا ممكن ، فنحن لا نعرف تأثير لعن الله تعالى لشخص أو بقعة أرض ، ولا تأثيرصلاة المعصوم فيها ، فمعلوماتنا محدودة ، وما دام الحديث صحيحاً فنحن نقبله ، لأنه من الغيب الذي نؤمن به ولا نشك .
2 . أحاديث رد الشمس مستفيضة ، روتها مصادر الطرفين ، وألف فيها بعض علماء السنة والشيعة رسائل مستقلة . وقد أوردنا بعضها في محله .
روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه ( 1 / 203 ) : ( عن جويرية بن مسهرأنه قال : أقبلنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من قتل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر فنزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ونزل الناس ، فقال علي ( عليه السلام ) : أيها الناس إن هذه أرض ملعونة قد عذبت في الدهر ثلاث مرات ، وفي خبر آخر مرتين ، وهي إحدى المؤتفكات ، وهي أول أرض عُبِد فيها وثن ، وإنه لا يحل لنبي ولا لوصي نبي أن يصلي فيها ، فمن أراد منكم أن يصلي فليصل ، فمال الناس عن جنبي الطريق يصلون وركب هو ( عليه السلام ) بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومضى . قال جويرية فقلت : والله لأتبعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولأقلدنه صلاتي اليوم ، فمضيت خلفه ، فوالله ما جزنا جسر سوراء حتى غابت الشمس فشككت فالتفت إليَّ وقال : يا جويرية أشككت ؟ فقلت : نعم يا أمير المؤمنين ، فنزل ناحية فتوضأ ثم قام فنطق بكلام لا أحسنه إلا كأنه بالعبراني ، ثم نادى الصلاة ، فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صرير ، فصلى العصر وصليت معه ، فلما فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان فالتفت إلي وقال : يا جويرية بن مسهر إن الله عز وجل يقول : فسبح باسم ربك العظيم ، وإني سألت الله عز وجل باسمه العظيم فرد علي الشمس . وروي أن جويرية لما رأى ذلك قال : أنت وصي نبي ورب الكعبة ) .
وفي بصائر الدرجات / 237 : ( فقال يا جويرية بن مسهر إن الله يقول فسبح باسم ربك العظيم ، فإني سألت الله باسمه العظيم فرد على الشمس ! فقلت وصي نبي ورب الكعبة ) .
3 . وفي عيون المعجزات / 3 : ( لا يحل لوصي أن يصلي فيها ، ومن أراد منكم أن
--------------------------- 165 ---------------------------
يصلي فليصل ، فقال المنافقون : نعم هو لا يصلي ويقتل من يصلي ! يعنون أهل النهروان ! فقال : أقم ، ففعلت ، وإذ أنا في الإقامة إذ تحركت شفتاه بكلام كأنه منطق الخطاطيف لم أفهم ما هو فرجعت الشمس بصرير عظيم حتى وقفت في مركزها من العصر ، فقام ( عليه السلام ) وكبر وصلى فصلينا وراءه . فلما فرغ من صلاته وقعت كأنها سراج في طست وغابت واشتبكت النجوم ! فالتفت إلي وقال : أذن أذان العشاء يا ضعيف اليقين !
وروي أن الشمس ردت عليه في حياة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بمكة وقد كان رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) موعوكاً فوضع رأسه في حجرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) وحضر وقت العصرفلم يبرح من مكانه وموضعه حتى استيقظ ، فقال ( ( عليهما السلام ) ) : اللهم إن علياً كان في طاعتك ، فرد عليه الشمس ليصلي العصر ، فردها الله عليه بيضاء حتى صلى ثم غربت .
وقال في ذلك السيد الحميري رضي الله عنه في قصيدته المعروفة بالمذهبة :
خير البرية بعد أحمد من له * مني الولاء والى بنيه تطربي
أمسي وأصبح معصماً مني له * بهوىً وحبلِ هداية لم يُقصب
رُدَّت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هويَّ الكوكب
وعليه قد رُدت ببابل مرة * أخرى وما ردت لخلق معرب
إلا ليوشع أو له ولحبسها * ولردها تأويل أمر معجب ) .
وقال المرتضى في رسائله ( 4 / 79 ) في شرح قصيدة الحميري ، ملخصاً :
( فإن قيل : يقتضي أن يكون ( عليه السلام ) عاصياً بترك الصلاة . قلنا : عن هذا جوابان :
أحدهما : أنه إنما يكون عاصياً إذا ترك الصلاة بغيرعذر .
والجواب الآخر : أن الصلاة لم تنته بمعنى جميع وقتها ، وإنما فاته ما فيها من الفضيلة ، ويقوي هذا الرواية في الشعر : حين تفوته وقوله : وقد دنت للمغرب . وهذا يقتضي أنها لم تغرب ، وإنما دنت وقاربت الغروب .
فإن قيل : إذا كانت لم تنته فأي معنى للدعاء بردها ؟ قلنا : الفائدة ليدرك فضيلة
--------------------------- 166 ---------------------------
الصلاة في أول وقتها ثم ليكون ذلك دلالة على سمومحله وجلالة قدره ، في خرق العادة من أجله .
وعليه قد حبست ببابل مرة * أخرى وما حبست لخلق مُعرب
هذا البيت يتضمن الإخبار عن رد الشمس ببابل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والرواية بذلك مشهورة ، وخرق العادة هاهنا لا يمكن أن يقال إن نسبته إلى غيره ، كما أمكن في أيام النبي ( ( عليهما السلام ) ) . فإن قيل : حبست بمعنى وقفت ، ومعناه يخالف معنى ردت . قلنا : المعنيان ههنا واحد لأن الشمس إذا ردت إلى الموضع الذي تجاوزته فقد حبست عن المسيرالمعهود )
4 . قال القمي في منتهى الآمال ( ترجمة الميلاني : 1 / 181 ) : ( عُمِّرمسجد رد الشمس وبني بناء جيداً بيد المخلصين لأهل البيت بقربه من الحلة ، بخلاف مسجد الجمجمة الذي ترك لعدم المرور عليه فهجر ومحي اسمه . . إلى آخر ما تقدم في معجزات الإمام ( عليه السلام ) في طريقه إلى صفين .
5 . روى الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 227 ) أن الشمس ردت للإمام ( عليه السلام ) في بابل في رجوعه من صفين ، ويظهر أنه اشتباه من الراوي ، ويحتمل أن يكون ردها تكررت في رجوعه من صفين ثم من النهروان .
6 . في علل الشرائع ( 2 / 351 ) : ( العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلاة العصر في حياة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حتى فاتته ، والعلة التي من أجلها تركها بعد وفاته حتى ردت عليه الشمس : ( عن حنان قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما العلة في ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلاة العصر وهو يجب له أن يجمع بين الظهر والعصر فأخرها ؟
قال : إنه لما صلى الظهر التفت إلى جمجمة ملقاة فكلمها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال . .
وروي أن الجمجمة كلمته يومئذ
أضاف الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( فقال : أيتها الجمجمة من أين أنت ؟ فقالت : أنا فلان ابن فلان ملك بلاد آل فلان . قال لها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقصي عليَّ الخبر وما كنت وما كان عصرك ؟ فأقبلت الجمجمة تقص من خبرها وما كان في عصرها من خير وشر ، فاشتغل
--------------------------- 167 ---------------------------
بها حتى غابت الشمس ، فكلمها بثلاثة أحرف من الإنجيل لئلا يفقه العرب كلامه ، فلما فرغ من حكاية الجمجمة قال للشمس : إرجعي قالت : لا أرجع وقد أَفِلْت ! فدعا الله عز وجل فبعث إليها سبعين ألف ملك بسبعين ألف سلسلة حديد ، فجعلوها في رقبتها وسحبوها على وجهها ، حتى عادت بيضاء نقية ، حتى صلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم هوت كهويِّ الكوكب ، فهذه العلة في تأخير العصر ) .
أقول : ثبت رد الشمس لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وثبت أن الجمجمة كلمته ( عليه السلام ) وتقدمت رواية ذلك في معجزات الإمام ( عليه السلام ) في طريقه إلى صفين .
أما هذه الرواية فلا تصح عندنا لضعف سندها ومتنها ، وقد أخذ الراوي مقولة أن الشمس امتنعت من الرجوع فسحبوها بسلاسل ، من رواية العامة التي تزعم أن الملائكة يجرون الشمس بالسلاسل ، ويجلدونها ! ( رواه أحمد في مسنده : 1 / 256 ) ولعل راويها كان عامياً ، ثم استبصر وبقيت روايته من خيالات العامة !

  • *
    اضطرت عائشة أن تشهد لعلي ( ع ) بأنه خير الأمة
    قال ابن حاتم في الدر النظيم / 234 : ( لما فرغ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من قتال أهل النهر أقبل أبو قتادة الأنصاري ومعه ستون أوسبعون من الأنصار ، قال فبدأ بعائشة فقال أبو قتادة : لما دخلت عليها قالت : ماوراءك ؟ فأخبرتها أنه لما تفرقت المحكمة من عسكر المؤمنين لحقناهم فقتلناهم . فقالت : أما كان معك غيرك من الوفد ؟ قلت : بلى ستون أو سبعون . قالت : أوَكلهم يقولون مثل الذي تقول ؟ قلت : نعم . فقالت : قص علي القصة . فقلت : يا أم المؤمنين تفرقت الفرقة وهم نحو اثني عشر ألفاً ينادون : لا حكم إلا لله ، فقال علي ( عليه السلام ) : كلمة حق يراد بها باطل ، فقاتلناهم بعد أن ناشدناهم بالله وكتابه ، وقالوا : كفر عثمان وعلي وعائشة ومعاوية ، فلم نزل نحاربهم وهم يتلون القرآن ، فقاتلناهم وقاتلونا وولى منهم من ولى ، فقال علي : لا تتبعوا مولياً ، فأقمنا ندور على القتلى حتى وقفت بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعلي ( عليه السلام ) راكبها ، فقال : إقلبوا القتلى ، فأتينا وهو على نهر فيه
    --------------------------- 168 ---------------------------
    قتلى ، فقلبناهم حتى خرج في آخرهم رجل أسود على كتفيه مثل حلمة الثدي ، فقال علي ( عليه السلام ) : الله أكبر والله ما كذبت ولا كذبت ، كنت مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقد قسم فيئاً فجاء هذا فقال : يا محمد إعدل ، فوالله ما عدلتَ منذ اليوم . فقال النبي ( ( عليهما السلام ) ) : ثكلتك أمك ومن يعدل عليك إذا لم أعدل أنا ! فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ألا أقتله ؟ فقال النبي ( ( عليهما السلام ) ) : لا ، دعه فإن له من يقتله . فقال : صدق الله ورسوله . فقالت عائشة : ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق : سمعت النبي يقول : تفترق أمتي على فرقتين ، تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم ، محفون شواربهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبهم إلى الله ورسوله .
    قال : فقلت يا أم المؤمنين ، فأنت تعلمين هذا من رسول الله ، فلمَ كان الذي كان منك ؟ فقالت : يا أباقتادة : وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً . وللقدر سبب : إن الناس قالوا في قصة الإفك ما قالوا ، وكان أكثر المهاجرين والأنصار لما يرون من قلق رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وحزنه يقولون له : أمسك عليك زوجك حتى يأتيك أمر ربك ، وعلي يقول : لك يا رسول الله في نساء قريش من هي أبهى منها وأجل نسباً ، وكنت امرأة لي من رسول الله حظ ومنزلة ، وجدت لذلك كما يجد النساء ، فكانت أشياء استغفر الله من اعتقادها ) .
    أقول : ادعت عائشة أنها كان لها حظوة عند النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، والثابت غير ذلك ، فقد روت هي توبيخ النبي ( ( عليهما السلام ) ) لها وتحذيره لها أن تنحرف بعده ، وقد ضرب الله لها ولحفصة مثلاً بامرأتي نوح ولوط الكافرتين .
    كما أن روايتها أن علياً ( عليه السلام ) اقترح على النبي ( ( عليهما السلام ) ) طلاقها ، لو صحت فهي عليها لا لها ، خاصة بعد قول أبيها للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( يا رسول الله ماتنتظر بهذه التي قد خانتك وفضحتني ) وقد رواه ووثقه الهيتمي في مجمع الزوائد ( 9 / 229 ) وغرضنا هنا شهادتها بأن علياً ( عليه السلام ) أحب الناس إلى الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) .
    بل شهدت عائشة بأن علياً ( عليه السلام ) خيرالخلق ، فغصَّ رواة السلطة بشهادتها !
    ففي شرح النهج ( 2 / 267 ) عن مسند أحمد : ( عن مسروق قال قالت لي عائشة : إنك من وُلدي ومن أحبهم إليَّ ، فهل عندك علم من المخدج ؟ فقلت : نعم قتله علي بن أبي طالب
    --------------------------- 169 ---------------------------
    على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان ، بين لخاقيق ( شقوق في الأرض ) وطرفاء ، قالت : إبغني على ذلك بينة فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلك . قال فقلت لها : سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله فيهم ؟ فقالت : نعم سمعته يقول : إنهم شرالخلق والخليقة ، يقتلهم خيرالخلق والخليقة ، وأقربهم عند الله وسيلة ) .
    أقول : لا وجود لهذا الحديث في نسخة أحمد فقد حذفوه ! ومن البعيد أن أحمد رواه في غير المسند ، وأن ابن أبي الحديد اشتبه في اسم الكتاب ، فهو دقيق يقظ .
    وفي فتح الباري ( 12 / 253 ) : ( وعند البزار من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : ذكر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) الخوارج فقال : هم شرارأمتي يقتلهم خيار أمتي . وسنده حسن . وعند الطبراني من هذا الوجه مرفوعاً : هم شر الخلق والخليقة ، يقتلهم خيرالخلق والخليقة ) .
    وفي شرح النهج ( 2 / 268 ) : ( وفي كتاب صفين للمدائني عن مسروق ، أن عائشة قالت له لما عرفت أن علياً قتل ذا الثدية : لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه كتب إليَّ يخبرني أنه قتله بالإسكندرية ! ألا أنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله يقول : يقتله خير أمتي من بعدي ) .
    وفي مناقب علي لابن مردويه / 172 ، بسند صحيح عن مسروق ، قال : سألتني أُمّ المؤمنين عائشة عن أصحاب النهروان وعن ذي الثدية فأخبرتها فقالت : يا مسروق ، أتستطيع أن تأتيني بأناس ممن يشهد . فأتيتها من كل سُبْعٍ برجل ، فشهدوا أنّهم رأوه . فقالت : يرحم الله عليّاً إنه كان على الحق ، ولكني كنت امرأة من الأحماء ) .
    أي : أتيتها بوثيقة من الكوفة وقعها من كل سُبع من أسباع القبائل رجل ، فترحمت على عليٍّ ( عليه السلام ) وشهدت أنه كان على الحق ، وادعت أنه لم يكن بينها وبينه إلا الحساسية التي تكون بين المرأة وأقارب زوجها ! فأي حساسية عائلية هذه أشعلت حرب الجمل الطاحنة التي قتل فيها أكثر من ثلاثين ألف مسلم !
    --------------------------- 170 ---------------------------
    وغصَّ رواة الخلافة القرشية بحديثها وتحيروا ! فكيف يعترفون لعلي ( عليه السلام ) بأنه خير الخلق بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ويُدينون السقيفة ، ويبطلون جهود قريش لإشاعة أن أبا بكر وعمر وعثمان خيرالخلق بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! فحذف بعضهم نصف الحديث الأخير ! واستبدل بعضهم آخره بأن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال : طوبى لمن قتلهم ! أو زعم أن الحديث : تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق ! أوبدلوا كلمة خير الخلق بخيار الخلق كي لا تختص بعلي ( عليه السلام ) ! وبعضهم زعم أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) وصف ابن مسعود بأنه أقرب الخلق وسيلة ، ليبطلوا اختصاص الوصف بعلي ( عليه السلام ) !
    وبعضهم يرويه كاملاً ، ثم يوجه ذكاءه إلى تأويله وتحريفه ، ليفرغه من معناه !
    ويدلك على أن التفضيل هنا مطلق أن سعد بن أبي وقاص رأى نفسه مجبراً على إنكار أن علياً ( عليه السلام ) قتل ذا الثدية ، فقال لوصح ذلك لكنت له خادماً طول عمري !
    قال الصدوق في علل الشرائع ( 1 / 222 ) : ( وهذا سعد بن أبي وقاص لما أنهيَ إليه أن علياً صلوات الله عليه قتل ذا الثدية ، أخذه ما قدم وما أخر ، وقلِق ونزِق وقال : والله لو علمت أن ذلك كذلك ، لمشيت إليه ولو حبواً ) !
  • *
    منشور أمير المؤمنين ( ( ع ) ) في أبي بكر وعمر وعثمان
    وتقدم حديثه في الفصل الرابع والثلاثين : احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أبي بكر وعمر وعثمان ، وقد رواه الكليني في رسائل الأئمة ( عليهم السلام ) بسنده عن علي بن إبراهيم قال : « كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد منصرفه من النهروان كتاباً وأمر أن يقرأ على الناس ، وذلك أن الناس سألوه عن أبي بكر وعمر وعثمان ، فغضب لذلك وقال : قد تفرغتم للسؤال عما لا يعنيكم ، وهذه مصرُ قد افتتحت وقَتل معاوية بن خديج محمد بن أبي بكر ، فيا لها من مصيبة ما أعظمها مصيبتي بمحمد ، فوالله ما كان إلا كبعض بنيَّ . سبحان الله ، بينا نحن نرجو أن نغلب القوم على ما في أيديهم ، إذ غلبونا على ما في أيدينا !
    وأنا أكتب لكم كتاباً فيه تصريح ما سألتم إن شاء الله تعالى . فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له : أدخل عليَّ عشرةً من ثقاتي ، فقال : سمِّهم يا أمير المؤمنين ، فقال : أدخل أصبغ بن نباتة ، وأباالطفيل عامر بن واثلة الكناني ، وزر بن حبيش الأسدي ، وجويرية بن
    --------------------------- 171 ---------------------------
    مسهر العبدي ، وخندف بن زهير الأسدي ، وحارثة بن مضرب الهمداني ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ومصابيح النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وكميل بن زياد ، وعمير بن زرارة ، فدخلوا إليه فقال لهم : خذوا هذا الكتاب وليقرأه عبيد الله بن أبي رافع وأنتم شهود ، كل يوم جمعة ، فإن شغب شاغب عليكم فأنصفوه بكتاب الله بينكم وبينه .
    بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى شيعته من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فإن الله يقول : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ، وهو إسمٌ شرفه الله تعالى في الكتاب ، وأنتم شيعة النبي محمد ( ( عليهما السلام ) ) كما أنه من شيعة إبراهيم ، إسمٌ غير مختص وأمر غير مبتدع ، وسلام الله عليكم » .
    إلى آخر المنشور وهو طويل ، وقد تضمن موقفه ( عليه السلام ) من الخلافة والسقيفة . ورواه الثقفي في الغارات : 1 / 302 ، وابن طاووس في كشف المحجة / 173 ، وآخرون .
  • *
    --------------------------- 172 ---------------------------
    الفصل الثاني والتسعون
    خوارج بالهواية بعد النهروان
    هواة الانشقاق عن الدولة والمجتمع
    بعد معركة النهروان ، قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) نهج البلاغة ( 1 / 107 ) : ( هلك القوم بأجمعهم . قال : كلا والله إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء ! كلَّما نَجَمَ منهم قرنٌ قُطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين ) !
    وأشهر هؤلاء الهواة اللصوص السلابين : الخريت بن راشد ، من بني ناجية ، وقد فصل أخباره الطبري ( 4 / 86 ) والبلاذري ( 2 / 411 ) والثقفي ( 1 / 329 ) قال : ( لما بايع أهل البصرة علياً ( عليه السلام ) بعد الهزيمة دخلوا في الطاعة غير بني ناجية فإنهم عسكروا ، فبعث إليهم علي ( عليه السلام ) رجلاً من أصحابه في خيل ليقاتلهم ، فأتاهم فقال : ما بالكم عسكرتم وقد دخل الناس في الطاعة غيركم ، فافترقوا ثلاث فرق : فرقة قالوا : كنا نصارى فأسلمنا ودخلنا فيما دخل فيه الناس من الفتنة ، ونحن نبايع كما بايع الناس ، فأمرهم فاعتزلوا .
    وفرقة قالوا : كنا نصارى ولم نسلم فخرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا ، قهرونا فأخرجونا كرها فخرجنا معهم فهزموا ، فنحن ندخل فيما دخل فيه الناس ، ونعطيكم الجزية كما أعطيناهم ، فقال لهم : اعتزلوا .
    وفرقة قالوا : كنا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الإسلام فرجعنا إلى النصرانية فنحن نعطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى ، فقال لهم : توبوا وارجعوا إلى الإسلام فأبوا ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ، فقدم بهم على علي ( عليه السلام ) .
    وقال الثقفي ( 1 / 333 ) : ( شهد الخريت بن راشد الناجي وأصحابه مع علي صفين فجاء
    --------------------------- 173 ---------------------------
    الخريت إلى علي في ثلاثين راكباً من أصحابه يمشي بينهم حتى قام بين يدي علي فقال له : والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك ، وإني غداً لمفارق لك ! قال : وذاك بعد وقعة صفين وبعد تحكيم الحكمين ، فقال له علي ( عليه السلام ) : ثكلتك أمك ، إذاً تنقض عهدك وتعصي ربك ، ولا تضر إلا نفسك ، أخبرني لم تفعل ذلك ؟ قال : لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق إذ جد الجد ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك راد وعليهم ناقم ، ولكم جميعاً مباين ! فقال له علي ( عليه السلام ) : ويحك هلم إلي أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن ، وأفاتحك أموراً من الحق أنا أعلم بها منك ، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر ، وتستبصر ما أنت به الآن عنه عمٍ وبه جاهل ! فقال الخريت : فإني عائد عليك غداً ، فقال له علي ( عليه السلام ) : أغد ولا يستهوينك الشيطان ولا تقحمن بك رأي السوء ، ولايستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون ، فوالله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني ، لأهدينَّك سبيل الرشاد ، فخرج الخريت من عنده منصرفاً إلى أهله .
    قال عبد الله بن قعين : فعجلت في أثره مسرعاً وكان لي من بني عمه صديق فأردت أن ألقى ابن عمه في ذلك فأعلمه بما كان من قوله لأمير المؤمنين وما رد عليه ، وآمر ابن عمه ذلك أن يشتد بلسانه عليه ، وأن يأمره بطاعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومناصحته ، ويخبره أن ذلك خير له في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . قال : فخرجت حتى انتهيت إلى منزله وقد سبقني فقمت عند باب داره ، وفي داره رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على علي ( عليه السلام ) ، فوالله ما رجع ولا ندم على ما قال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وما رد عليه ، ثم قال لهم : يا هؤلاء إني قد رأيت أن أفارق هذا الرجل وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد ، ولا أراني إلا مفارقه !
    فقال أكثر أصحابه : لا تفعل حتى تأتيه ، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه ، وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه ، فقال لهم : نعم ما رأيتم .
    قال : ثم استأذنت عليهم فأذنوا لي فأقبلت على ابن عمه وهو مدرك بن الريان
    --------------------------- 174 ---------------------------
    الناجي وكان من كبراء العرب فقلت له : إن لك عليَّ حقاً لإخائك ووُدك ، ولحق المسلم على المسلم ، إن ابن عمك كان منه ما قد ذكر لك فتخل به واردد عليه رأيه وعظم عليه ما أتى ، واعلم أنني خائف إن فارق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يقتلك ونفسه وعشيرته !
    فقال : جزاك الله خيراً من أخ فقد نصحت وأشفقت . إن أراد صاحبي فراق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فارقته وخالفته ، وكنت أشد الناس عليه ، وأنا بعد خال به ومشير عليه بطاعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومناصحته والإقامة معه ، وفي ذلك حظه ورشده ، فقمت من عنده وأردت الرجوع إلى علي ( عليه السلام ) لأعلمه الذي كان ، ثم اطمأننت إلى قول صاحبي فرجعت إلى منزلي فبت به ، ثم أصبحت فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فجلست عنده ساعة ، وأنا أريد أن أحدثه بالذي كان من قوله لي على خلوة ، فأطلت الجلوس فلم يزدد الناس إلا كثرة ، فدنوت منه فجلست وراءه فأصغى إلي برأسه فأخبرته بما سمعت من الخريت ، وما قلت لابن عمه وما رد علي ، فقال ( عليه السلام ) : دعه فإن قبل الحق ورجع عرفنا ذلك له وقبلناه منه ، وإن أبى طلبناه ، فقلت : يا أمير المؤمنين فلمَ لا تأخذه الآن فتستوثق منه ؟
    فقال : إنا لو فعلنا هذا لكل من نتهمه من الناس ملأنا السجون منهم !
    ولا أراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم ، حتى يظهروا لنا الخلاف ! قال : فسكت عنه وتنحيت فجلست مع أصحابي ، ثم مكثت ما شاء الله معهم .
    ثم قال لي علي ( عليه السلام ) : أدن مني فدنوت منه ثم قال لي مسراً : إذهب إلى منزل الرجل فاعلم لي ما فعل ؟ فإنه قل يوم لم يكن يأتيني فيه إلا قبل هذه الساعة قال : فأتيت منزله فإذا ليس في منزله منهم ديار ، فدرت على أبواب دور أخرى كان فيها طائفة أخرى من أصحابه ، فإذا ليس فيها داع ولا مجيب ، فأقبلت إلى علي ( عليه السلام ) فقال لي حين رآني : أأمنوا فقطنوا ، أم جبنوا فظعنوا ؟ قلت : بل ظعنوا ، قال : أبعدهم الله كما بعدت ثمود ! أما والله لو قد أشرعت لهم الأسنة وصبت على هامهم السيوف لقد ندموا ، إن الشيطان قد
    --------------------------- 175 ---------------------------
    استهواهم فأضلهم ، وهو غداً متبرئ منهم ومخلٍّ عنهم .
    فقام إليه زياد بن خصفة فقال : يا أمير المؤمنين إنه لو لم يكن من مضرَّة هؤلاء إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم علينا فنأسى عليهم ، فإنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا ، ولقلما ينقصون من عددنا بخروجهم منا ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليهم من أهل طاعتك ، فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك إن شاء الله .
    فقال له علي ( عليه السلام ) : أخرج في أثرهم راشداً ، فلما ذهب ليخرج قال له ( عليه السلام ) :
    وهل تدري أين توجه القوم ؟ فقال : لا والله ولكني أخرج فأسأل وأتبع الأثر ، فقال له علي ( عليه السلام ) : أخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى ثم لا تبرحه حتى يأتيك أمري ، فإنهم إن كانوا قد خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة ، فإن عمالي ستكتب إلي بذلك ، وإن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم ، وسأكتب إلى من حولي من عمالي فيهم ، فكتب نسخة واحدة وأخرجها إلى العمال :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من العمال : أما بعد ، فإن رجالاً لنا عندهم بيعة خرجوا هراباً فنظنهم توجهوا نحو بلاد البصرة ، فاسأل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ، ثم اكتب إلي بما ينتهي إليك عنهم . والسلام .
    فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره فجمع أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا معشر بكر بن وائل فإن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أموره مهم ، وأمرني بالإنكماش فيه بالعشيرة حتى آتي أمره ، وأنتم شيعته وأنصاره ، وأوثق حي من أحياء العرب في نفسه ، فانتدبوا معي في هذه الساعة وعجلوا . قال : فوالله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه منهم مائة رجل ونيف وعشرون أو ثلاثون ، فقال : اكتفينا ولا نريد أكثر من هؤلاء .
    قال : فخرج زياد حتى قطع الجسر ثم أتى دير أبي موسى فنزله فأقام به بقية يومه ذلك ، ينتظر أمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
    --------------------------- 176 ---------------------------
    عن عبد الله بن وال التيمي قال : إني والله لعند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، إذ جاءه فيج ( بريد ) بكتاب يسعى من قرظة بن كعب بن عمرو الأنصاري ، وكان أحد عماله فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله علي أمير المؤمنين من قرظة بن كعب : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أن خيلاً مرت بنا من قبل الكوفة متوجهة نحو نُفَّر ، وأن رجلاً من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم وصلى يقال له : زاذان فروخ ، أقبل من قبل إخوان له بناحية نُفَّر ، فلقوه فقالوا له : أمسلم أنت أم كافر ؟ قال : بل مسلم ، قالوا : ما قولك في علي بن أبي طالب ؟ قال : قولي فيه خير أقول إنه أمير المؤمنين ووصي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وسيد البشر ، فقالوا له : كفرت يا عدو الله ، ثم حملت عليه عصابة منهم فقطعوه بأسيافهم وأخذوا معه رجلاً من أهل الذمة يهودياً فقالوا له : ما دينك ؟ قال : يهودي ، فقالوا : خلوا سبيل هذا ، لا سبيل لكم عليه ، فأقبل إلينا ذلك الذمي فأخبرنا هذا الخبر ! وقد سألت عنهم فلم يخبرني عنهم أحد بشئ . فليكتب إليّ أمير المؤمنين فيهم برأيه أنتهِ إليه . والسلام .
    فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أما بعد فقد فهمت كتابك وماذكرت من أمر العصابة التي مرت بعملك فقتلت المرء المسلم وأمن عندهم المخالف المشرك ! وإن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا ، وكانوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ، فأسمع بهم وأبصر يوم تختبرأحوالهم ، فالزم عملك وأقبل على خراجك ، فإنك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك ، والسلام .
    قال : وكتب علي ( عليه السلام ) إلى زياد بن خصفة : أما بعد فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتى يأتيك أمري وذلك أني لم أكن علمت أين توجه القوم وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد ، يقال لها نُفَّر فاتبع آثارهم وسل عنهم ، فإنهم قد قتلوا رجلاً مسلماً من أهل السواد مصلياً ، فإذا أنت لحقتهم فارددهم إليَّ ، فإن أبوا فناجزهم واستعن بالله عليهم فإنهم قد فارقوا الحق ، وسفكوا الدم الحرام ، وأخافوا السبيل . والسلام .
    قال عبد الله بن وال : فأخذت الكتاب منه وخرجت من عنده وأنا يومئذ شاب
    --------------------------- 177 ---------------------------
    حدث فمضيت به غير بعيد فرجعت إليه فقلت : يا أمير المؤمنين ألا أمضي مع زياد بن خصفة إلى عدوك إذا دفعت إليه الكتاب ؟ فقال : يا ابن أخي إفعل ، فوالله إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين ، فقلت : يا أمير المؤمنين أنا والله كذلك ومن أولئك ، وأنا والله حيث تحب . قال ابن وال : فوالله ما أحب أن لي بمقالة علي ( عليه السلام ) حمر النعم قال : ثم مضيت إلى زياد بكتاب علي ( عليه السلام ) وأنا على فرس لي رائع كريم وعليَّ السلاح فقال لي زياد : يا ابن أخي والله ما لي عنك من غنى ، وإني لأحب أن تكون معي في وجهي هذا ، فقلت له : إني قد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لي ، فسر بذلك . ثم إنا خرجنا حتى أتينا الموضع الذي كانوا فيه ، فسألنا عنهم فقيل لنا : إنهم قد أخذوا نحو المدائن ، فلحقناهم وهم نزول بالمدائن وقد أقاموا بها يوماً وليلة وقد استراحوا وأعلفوا دوابهم فهم جامُّون مريحون ، وأتيناهم وقد انقطعنا ولغبنا ونصبنا ، فلما رأونا وثبوا على خيولهم واستووا عليها وجئنا حتى انتهينا إليهم فواقفناهم ، فنادانا صاحبهم الخريت بن راشد : يا عميان القلوب والأبصار أمع الله أنتم ومع كتابه وسنة نبيه ، أم مع القوم الظالمين ؟ فقال له زياد بن خصفة : لا ، بل والله نحن مع الله وكتابه وسنة رسوله ومع من الله ورسوله وكتابه آثر عنده من الدنيا ثواباً ، ولو أنها منذ يوم خلقت إلى يوم تفنى لآثر الله عليها ، أيها العمي الأبصار والصم القلوب والأسماع !
    فقال لنا الخريت : أخبروني ما تريدون ؟ فقال له زياد وكان مجرباً رفيقاً : قد ترى ما بنا من النصب واللغوب ، والذي جئنا له لا يصلحه الكلام علانية على رؤوس أصحابك ، ولكن إنزلوا وننزل ثم نخلو جميعاً فنذاكر أمرنا وننظر فيه ، فإن رأيت فيما جئنا له حظاً لنفسك قبلته ، وإن رأيت فيما أسمع منك أمراً أرجو فيه العافية لنا ولك ، لم أردده عليك .
    فقال له الخريت : إنزل فنزل ، ثم أقبل إلينا زياد فقال : إنزلوا على هذا الماء فأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فنزلنا به ، فما هو إلا أن نزلنا فتفرقنا ثم تحلقنا عشرة
    --------------------------- 178 ---------------------------
    وتسعة وثمانية وسبعة ، يضعون طعامهم بين أيديهم فيأكلون ثم يقومون إلى ذلك الماء فيشربون . فقال لنا زياد : علقوا على خيولكم فعلقنا عليها مخاليها ، ووقف زياد في خمسة فوارس أحدهم عبد الله بن وال فوقف بيننا وبين القوم ، فانطلق القوم فتنحوا ناحية ، فنزلوا وأقبل إلينا زياد فلما رأى تفرقنا وتحلقنا قال : سبحان الله أنتم أصحاب حرب ! والله لو أن هؤلاء القوم جاؤوكم الساعة على هذه الحال ما أرادوا من غرتكم أفضل من حالكم التي أنتم عليها ! عجلوا قوموا إلى خيولكم ، فأسرعنا وتحشحشنا فمنا من يتوضأ ، ومنا من يشرب ، ومنا من يسقي فرسه ، حتى إذا فرغنا من ذلك كله أتينا زياداً وإذا في يده عرق ينهش فنهشه نهشتين أو ثلاثاً ، ثم أتى بإداوة فيها ماء فشرب منه ، ثم ألقى العرق من يده ثم قال : يا هؤلاء إنا قد لقينا العدو وإن القوم لفي عدتكم ولقد حرزتكم وإياهم فما أظن أحد الفريقين يزيد على الآخر خمسة نفر ، ووالله إني ما أرى أمركم وأمرهم إلا يصير إلى القتال ، فإن كان ذلك
    فلا تكونوا أعجز الفريقين .
    قال : ثم قال لنا : ليأخذ كل رجل منكم بعنان فرسه حتى أدنو منهم وأدعوا إليَّ صاحبهم فأكلمه فإن تابعني على ما أريد وإلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيلكم ، ثم أقبلوا إليَّ معاً غير متفرقين ، فاستقدم أمامنا وأنا معه فسمعت رجلاً من القوم يقول : جاءكم القوم وهم كالُّون مُعْيُون وأنتم جامُّون مريحون ، فتركتموهم حتى نزلوا وأكلوا وشربوا وأراحوا دوابهم ، هذا والله سوء الرأي ، والله لا يرجع الأمر بكم وبهم إلا إلى القتال فسكتوا وانتهينا إليهم . ودعا زياد بن خصفة صاحبهم الخريت فقال له : اعتزل فلننظر في أمرنا ، فأقبل إليه في خمسة نفر ، فقلت لزياد : أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابنا حتى نلقاهم في عددهم ؟ فقال : أدع من أحببت منهم ، فدعوت له ثلاثة فكنا خمسة وهم خمسة . فقال له زياد : ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا إذ فارقتنا ؟ فقال له الخريت : لم أرض بصاحبكم إماماً ، ولم أرض بسيرتكم سيرة ، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى من الناس ، فإذا اجتمع الناس على رجل هولجميع الأمة رضاً كنت مع الناس . فقال له زياد : ويحك وهل يجتمع الناس على
    --------------------------- 179 ---------------------------
    رجل منهم يداني علياً صاحبك الذي فارقته علماً بالله وبكتابه وسنة رسوله ، مع قرابته منه ( ( عليهما السلام ) ) وسابقته في الإسلام ؟ فقال الخريت : ذلك ما أقول لك .
    فقال له زياد : ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم ؟ فقال له الخريت : ما أنا قتلته إنما قتلته طائفة من أصحابي ، فقال له زياد : فادفعهم إلي . فقال له الخريت : ما إلى ذلك سبيل ، فقال له زياد : وكذلك أنت فاعل ؟ قال : هو ما تسمع . قال : فدعونا أصحابنا ، ودعا الخريت أصحابه ثم اقتتلنا ، فوالله ما رأيت قتالاً مثله منذ خلقني الله ، لقد تطاعنا الرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح ، ثم اضطربنا بالسيوف حتى انحنت ، وعقرت عامة خيلنا وخيلهم ، وكثرت الجراح فيما بيننا وبينهم ، وقتل منا رجلان مولى لزياد كانت معه رايته يدعى سويدا ، ورجل من الأبناء يدعى واقد بن بكر ، وصرعنا منهم خمسة نفر وحال الليل بيننا وبينهم وقد والله كرهونا وكرهناهم ، وهَرَوْنا وهروناهم ، وقد جرح زياد وجرحت . ثم إنا بتنا في جانب وتنحوا فمكثوا ساعة من الليل ثم إنهم مضوا وذهبوا . فأصبحنا فوجدناهم قد ذهبوا ، فوالله ما كرهنا ذلك ، فمضينا حتى أتينا البصرة ، وبلغنا أنهم أتوا الأهواز فنزلوا في جانب منها ، فتلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مائتين كانوا معهم بالكوفة ، ولم يكن معهم من القوة ما ينهضهم معهم حين نهضوا فاتبعوهم من بعد فلحقوهم بأرض الأهواز فأقاموا معهم .
    قال : وكتب زياد بن خصفة إلى علي ( عليه السلام ) : أما بعد فإنا لقينا عدو الله الناجي وأصحابه بالمدائن ، فدعوناهم إلى الهدى والحق وكلمة السواء فتولوا عن الحق ، فأخذتهم العزة بالإثم ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ، فقصدونا وصمدنا صمدهم فاقتتلنا قتالاً شديداً ما بين قائم الظهيرة إلى أن دلكت الشمس ، واستشهد منا رجلان صالحان وأصيب منهم خمسة نفر ، وخلوا لنا المعركة وقد فشت فينا وفيهم الجراح ، ثم إن القوم لما لبسهم الليل خرجوا من تحته متنكرين إلى أرض الأهواز ، وقد بلغني أنهم نزلوا منها جانباً ، ونحن بالبصرة نداوي جراحنا ، وننتظر أمرك رحمك الله . والسلام . قال : فلما أتيته
    --------------------------- 180 ---------------------------
    بكتابه قرأه على الناس فقام إليه معقل بن قيس ، فقال : أصلحك الله يا أمير المؤمنين إنما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين ، فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم ، وقطعوا دابرهم ، فأما أن يلقاهم أعدادهم فلعمري ليصبرن لهم فإنهم قوم عرب ، والعدة تصبر للعدة وتنتصف منها فيقاتلون كل القتال .
    فقال له علي ( عليه السلام ) : تجهز يا معقل إليهم ، وندب معه ألفين من أهل الكوفة فيهم يزيد بن المغفل ، وكتب إلى عبد الله بن العباس بالبصرة : أما بعد فابعث رجلاً من قبلك صليباً شجاعاً معروفاً بالصلاح في ألفي رجل من أهل البصرة فليتبع معقل بن قيس ، فإذا خرج من أرض البصرة فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلاً ، فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين ، فليسمع منه وليطعه ولا يخالفه ، ومر زياد بن خصفة فليقبل إلينا ، فنعم المرء زياد ونعم القبيل قبيله . والسلام .
    قال : وكتب علي ( عليه السلام ) إلى زياد بن خصفة : أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به الناجي وأصحابه الذين طبع الله على قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم ، فهم حيارى عمون ، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ووصفت ما بلغ بك وبهم الأمر ، فأما أنت وأصحابك فلله سعيكم وعليه جزاؤكم ، وأيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها ، فما عندكم ينفد وما عند الله باق ، ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .
    وأما عدوكم الذين لقيتموهم فحسبهم بخروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلال ، وردهم الحق وجماحهم في التيه ، فذرهم وما يفترون ، ودعهم في طغيانهم يعمهون ، فأسمع بهم وأبصرفكأنك بهم عن قليل بين أسير وقتيل ، فأقبل إلينا أنت وأصحابك مأجورين ، فقد أطعتم وسمعتم وأحسنتم البلاء والسلام .
    قال : ونزل الناجي جانباً من الأهواز واجتمع إليه علوج من أهلها كثير ممن أراد كسر الخراج ومن اللصوص وطائفة أخرى من الأعراب ترى رأيه .
    عن عبد الله بن قعين ، قال : كنت أنا وأخي كعب بن قعين في ذلك الجيش مع معقل
    --------------------------- 181 ---------------------------
    بن قيس ، فلما أراد الخروج أتى علياً ( عليه السلام ) يودعه فقال له علي : يا معقل إتق الله ما استطعت فإنها وصية الله للمؤمنين ، لاتبغ على أهل القبلة ، ولا تظلم أهل الذمة ، ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين .
    فقال معقل : الله المستعان ، فقال : خير مستعان . ثم قام فخرج وخرجنا معه حتى نزل الأهواز ، فأقمنا ننتظر أهل البصرة فأبطؤوا علينا .
    فقام معقل فقال : يا أيها الناس إنا قد انتظرنا أهل البصرة وقد أبطؤوا علينا وليس بنا بحمد الله قلة ولا وحشة إلى الناس ، فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل ، فإني أرجو أن ينصركم الله وأن يهلكهم ، فقام إليه أخي كعب بن قعين فقال : أصبت إن شاء الله ، رأينا رأيك وإني لأرجو أن ينصرنا الله عليهم ، وإن كانت الأخرى فإن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا ، فقال : سيروا على بركة الله ، فسرنا ، فوالله ما زال معقل بن قيس لي مكرماً مواداً ما يعدل بي أحداً من الجند ، وقال معقل لأخي : كيف قلت : إن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا ، صدقت والله وأحسنت ووفقت وفقك الله قال : فوالله ما سرنا يوماً وإذا بفيج يشتد بصحيفة في يده من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس : أما بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت مقيماً به أو أدركك وقد شخصت منه ، فلا تبرحن من المكان الذي ينتهي إليك رسولي فيه حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك .
    وقد وجهنا إليك خالد بن معدان الطائي وهو من أهل الدين والصلاح والبأس والنجدة فاسمع منه ، واعرف ذلك له إن شاء الله ، والسلام .
    قال : فقرأ معقل بن قيس كتابه على أصحابه فسروا به وحمدوا الله ، وقد كان ذلك الوجه هالهم ، قال : فأقمنا حتى قدم الطائي علينا وجاءنا حتى دخل على صاحبنا فسلم عليه بالإمرة واجتمعا جميعاً في عسكر واحد ، ثم خرجنا إلى الناجي وأصحابه ، فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز يريدون قلعة بها حصينة ، وجاءنا أهل البلد فأخبرونا بذلك ، فخرجنا في آثارهم نتبعهم
    --------------------------- 182 ---------------------------
    فلحقناهم وقد دنوا من الجبل ، فصففنا لهم ثم أقبلنا نحوهم فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المغفل الأزدي ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من بني السيد من أهل البصرة ، فوقف الخريت بن راشد الناجي فيمن معه من العرب فكانوا ميمنة ، وجعل أهل البلد والعلوج ومن أراد كسر الخراج وجماعة من الأكراد ميسرة .
    قال وسار فينا معقل يحرضنا ويقول لنا : يا عباد الله لا تبدؤوا القوم وغضوا الأبصار ، وأقلوا الكلام ، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب ، وأبشروا في قتالهم بالأجر العظيم ، إنما تقاتلون مارقة مرقت من الدين وعلوجاً منعوا الخراج ، ولصوصاً وأكراداً . أنظروني فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد ، قال : فمر في الصف كله يقول لهم هذه المقالة حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل فوقف وسط الصف في القلب ونظرنا إليه ما يصنع ، فحرك رايته تحريكتين ، ثم حمل في الثالثة وحملنا معه جميعاً ، فوالله ما صبروا لنا ساعة واحدة حتى ولوا وانهزموا ، وقتلنا سبعين عربياً من بني ناجية ومن بعض من اتبعه من العرب ، وقتلنا نحو ثلاث مائة من العلوج والأكراد .
    قال كعب بن قعين : ونظرت فيمن قتل من العرب فإذا صديقي مدرك بن الريان قتيلاً ، وخرج الخريت منهزماً حتى لحق بسيف من أسياف البحر وبها جماعة من قومه كثير ، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويزين لهم فراقه ويخبرهم أن الهدى في فراقه وحربه ومخالفته ، حتى اتبعه منهم ناس كثير . وأقام معقل بن قيس بأرض الأهواز وكتب إلى علي ( عليه السلام ) معي بالفتح ، وكنت أنا الذي قدم بالكتاب عليه وكان في الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله علي أمير المؤمنين من معقل بن قيس ، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنا لقينا المارقين ، وقد استظهروا علينا بالمشركين فقتلنا منهم ناساً كثيراً ، ولم نتعد فيهم سيرتك ، فلم نقتل منهم مدبراً ولا أسيراً ، ولم نذفف منهم على جريح ، وقد نصرك الله والمسلمين ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام .
    قال : فقدمت بالكتاب فقرأه أمير المؤمنين على أصحابه واستشارهم في الرأي ، فاجتمع رأي عامتهم على قول واحد فقالوا : يا أمير المؤمنين نرى أن تكتب إلى معقل
    --------------------------- 183 ---------------------------
    بن قيس أن يتبع آثارهم ولا يزال في طلبهم حتى يقتلهم أو ينفيهم من أرض الإسلام ، فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس ، قال : فردني إليه وكتب معي :
    أما بعد فالحمد لله على تأييد أوليائه وخذلان أعدائه . جزاك الله والمسلمين خيراً فقد أحسنتم البلاء وقضيتم ما عليكم ، وسل عن أخي بني ناجية ، فإن بلغك أنه قد استقر ببلد من بلاد المسلمين فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه ، فإنه لن يزال للمسلمين عدواً وللقاسطين ولياً ما بقي ، والسلام . قال : فسأل معقل عن مسيره ، والمكان الذي انتهى إليه ، فنبئ بمكانه بالأسياف أسياف فارس ، وأنه قد رد قومه عن طاعة علي ( عليه السلام ) وأفسد من قبله من عبد القيس ومن والاهم من سائر العرب ، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين ومنعوها في ذلك العام أيضاً ، فكان عليهم عقالان فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة ، فأخذوا على أرض فارس حتى انتهوا إلى أسياف البحر ، فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره أقبل على من كان معه من أصحابه ممن يرى رأي الخوارج فأسر إليهم إني أرى رأيكم ، فإن علياً لم ينبغ له
    أن يحكم الرجال في أمر الله .
    وقال للآخرين من أصحابه مسراً إليهم : إن علياً قد حكم حكماً ورضي به فخلعه حكمه الذي ارتضاه لنفسه ، فقد رضيت أنا من قضائه وحكمه ما ارتضاه لنفسه . وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة .
    وقال مسراً لمن يرى رأي عثمان : أنا والله على رأيكم وقد قتل عثمان مظلوماً معقولاً . وقال لمن منع الصدقة : شدوا أيديكم على صدقاتكم ثم صلوا بها أرحامكم وعودوا بها إن شئتم على فقرائكم ، فأرضى كل صنف منهم بضرب من القول ، وأراهم أنه على رأيهم .
    قال : وكان فيهم نصارى كثير وقد كانوا أسلموا ، فلما اختلف الناس بينهم قالوا : والله لديننا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذين لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبل ، فرجعوا إلى دينهم ، فلقي الخريت أولئك
    --------------------------- 184 ---------------------------
    فقال : ويحكم إنه لا ينجيكم من القتل إلا الصبر لهؤلاء القوم وقتالهم ، أتدرون ما حكم علي فيمن أسلم من النصارى ثم رجع إلى النصرانية ؟ إنه لا والله لا يسمع له قولاً ، ولا يرى له عذراً ، ولا يقبل منه توبة ، ولا يدعوه إليها ، وإن حكمه فيه لضرب عنقه ساعة يستمكن منه ، فما زال حتى جمعهم وخدعهم ، وجاء من كان من بني ناجية في تلك الناحية ومن غيرهم ، فاجتمع إليه ناس كثير . قال : ففعل هذا الخريت بالناس وجمعهم بالخديعة والمكر وكان منكراً داهياً .
    فلما رجع معقل قرأ على أصحابه كتاباً من علي ( عليه السلام ) فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين والمارقين والنصارى والمرتدين . سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه والبعث بعد الموت ، وافياً بعهد الله ولم يكن من الخائنين . أما بعد فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وأن أعمل فيكم بالحق وبما أمر الله تعالى به في كتابه ، فمن رجع منك إلى رحله وكف يده واعتزل هذا المارق الهالك المحارب الذي حارب الله ورسوله والمسلمين ، وسعى في الأرض فساداً فله الأمان على ماله ودمه ، من تابعه على حربنا والخروج من طاعتنا ، استعنا بالله عليه وجعلنا الله بيننا وبينه وكفى بالله ولياً ، والسلام .
    قال : فأخرج معقل راية أمان فنصبها وقال : من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرة ، فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه ، وعبأ معقل بن قيس أصحابه فجعل على ميمنته يزيد بن المغفل الأزدي ، وعلى ميسرته المنجاب بن راشد الضبي ، ثم زحف بهم نحو الخريت وعامة قومه ، وقد حضر معه جميع قومه مسلمهم ونصرانيهم ، ومانعوا الصدقة منهم ، فجعل مسلميهم ميمنة ، والنصارى ومانعي الصدقة ميسرة . قال : وجعل الخريت يومئذ يقول لقومه : إمنعوا اليوم حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وأولادكم ، فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم !
    فقال له رجل من قومه : هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك ، فقال لهم : قاتلوا فقد سبق السيف العذل ، إيهاً والله لقد أصابت قومي داهية !
    --------------------------- 185 ---------------------------
    عن عبد الله بن قعين قال : سار فينا معقل يحرض الناس فيما بين الميمنة والميسرة ويقول : أيها الناس المسلمون ما تدرون أفضل مما سيق إليكم في هذا الموقف من الأجر العظيم ، إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة وارتدوا عن الإسلام ونكثوا البيعة ظلماً وعدواناً ، إني شهيد لمن قتل منكم بالجنة ، ولمن عاش بأن الله يقر عينه بالفتح والغنيمة ، ففعل ذلك حتى مر بالناس أجمعين ، ثم إنه وقف في القلب برايته ، وبعث إلى يزيد بن المغفل وهو في الميمنة : أن احمل عليهم ، فحمل ، فثبتوا له فقاتلوا قتالاً شديداً ثم إنه انصرف حتى وقف موقفه الذي كان فيه من الميمنة ، ثم بعث إلى المنجاب بن راشد الضبي وهو في الميسرة أن احمل عليهم ، فحمل فثبتوا له فقاتلوا قتالاً شديداً طويلاً ، ثم إنه رجع حتى وقف موقفه الذي كان فيه من الميسرة ، ثم إن معقلاً بعث إلى ميمنته وميسرته : إذا حملت فاحملوا جميعاً ، فحرك دابته وضربها ثم حمل وحمل أصحابه جميعاً فصبروا لهم ساعة .
    ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فضربه فصرعه عن فرسه ، ثم إنه نزل إليه وقد جرحه فأثخنه فاختلف بينهما ضربات فقتله النعمان بن صهبان ، وقتل معه في المعركة سبعون ومائة ، وذهب الباقون في الأرض يميناً وشمالاً وبعث معقل الخيل إلى رحالهم ، فسبى من أدرك منهم فسبى رجالاً ونساءً وصبياناً ، ثم نظر فيهم فمن كان مسلماً فخلاه وأخذ بيعته وخلى سبيل عياله ، ومن كان ارتد عن الإسلام فعرض عليه الرجوع إلى الإسلام وإلا القتل ، فأسلموا فخلى سبيلهم وسبيل عيالاتهم إلا شيخاً منهم نصرانياً يقال له : الرماجس بن منصور فإنه قال : والله ما زللت مذ عقلت إلا في خروجي من ديني دين الصدق إلى دينكم دين السوء ، لا والله لا أدع ديني ولا أقرب دينكم ما حييت ، فقدمه معقل بن قيس فضرب عنقه . وجمع الناس فقال : أدوا ما عليكم في هذه السنين من الصدقة ، فأخذ من المسلمين عقالين .
    وعمد إلى النصارى وعيالاتهم فاحتملهم معه ثم أقبل حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني وهو عامل لعلي ( عليه السلام ) على أردشير خرة وهم خمس مائة إنسان ،
    --------------------------- 186 ---------------------------
    فبكى إليه النساء والصبيان ، وصاح الرجال : يا أبا الفضل ، يا حامل الثقل ومأوى الضعيف ، فكاك العناة أمنن علينا فاشترنا وأعتقنا ، فقال مصقلة : بعني نصارى بني ناجية فقال : نعم أبيعكهم بألف ألف درهم فأبى عليه ، فلم يزل يراوده حتى باعه إياهم بخمس مائة ألف درهم ودفعهم إليه وقال له : عجل بالمال إلى أمير المؤمنين فقال مصقلة : أنا باعث الآن بصدر منه ، ثم أبعث بصدر آخر ، ثم كذلك حتى لا يبقى منه شئ إن شاء الله . قال : وأقبل معقل إلى علي ( عليه السلام ) فأخبره بما كان منه في ذلك فقال له علي : أحسنت وأصبت ووفقت . قال : وانتظر علي مصقلة أن يبعث إليه بالمال فأبطأ به فبلغ علياً أن مصقلة خلى سبيل الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشئ . فقال : ما أرى مصقلة إلا قد حمل حمالة لا أراكم إلا سترونه عن قريب مبلدحاً ! ثم أقبل ( مصقلة ) حتى أتى علياً ( عليه السلام ) بالكوفة ، فأقره علي أياماً لم يذكر له شيئاً ، ثم سأله المال ، فأدى إليه مائتي ألف درهم ، وعجز عن الباقي فلم يقدر عليه . ثم لحق بمعاوية ! فبلغ ذلك علياً ( عليه السلام ) فقال ( نهج البلاغة : 1 / 95 ) : ( قبح الله مصقلة ، فعل فعل السادات وفر فرار العبيد ، فما أنطق مادحه حتى أسكته ، ولا صدَّق واصفه حتى بكته ، ولو أقام لأخذنا ميسوره ، وانتظرنا بماله وفوره » .
    وقال ( عليه السلام ) في الخرِّيت كما في رواية الطبري ( 4 / 98 ) : ( هوت أمه ، ما كان أنقص عقله وأجرأه على ربه ، فإنه جاءني مرة فقال لي : إن في أصحابك رجالاً قد خشيت أن يفارقوك فما ترى فيهم ؟ فقلت له : إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن ، ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة ، ثم لست مقاتله حتى أدعوه وأعذر إليه ، فإن تاب ورجع إلينا قبلنا منه وهو أخونا ، وإن أبى إلا الإعتزام على حربنا استعنا بالله عليه وناجزناه ، فكف عني ما شاء الله ، ثم جاءني مرة أخرى فقال لي : إني خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب ، وزيد بن حصين الطائي . إني سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما عليها حتى تقتلهما أو توثقهما ، فلا يفارقان محبسك أبداً ، فقلت : إني مستشيرك فيهما فماذا تأمرني به ؟ قال : إني آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما ، فعلمت أنه لا ورع له ولا عقل ! فقلت : والله ما أظن أن لك ورعاً
    --------------------------- 187 ---------------------------
    ولاعقلاً نافعاً ، والله كان ينبغي لك أن تعلم أني لاأقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته ، ولم يناصبني بالذي كنت أعلمتكه من رأيي حيث جئتني في المرة الأولى ووصفت أصحابك عندي !
    ولقد كان ينبغي لك لو أردتُ قتلهم أن تقول لي : إتق الله ، لمَ تستحل قتلهم ؟ ولم يقتلوا أحداً ولم ينابذوك ، ولم يخرجوا من طاعتك ) !
    ملاحظات
    1 . سياسة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع من خالفه ، أن يعطيهم الحرية الكاملة في القول والعمل ، ويحفظ لهم حقوقهم المدنية وعطاءهم من بيت المال ، حتى يرتكبوا إفساداً في المجتمع أو يقاوموا الدولة بالسلاح ! وهي حرية لم يعطها حاكم بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) لمعارضيه . لكن في رواية أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قطع العطاء عمن لم يقاتل معه ، فتكون استثناء لمصلحة .
    قال القاضي النعمان في دعائم الإسلام ( 1 / 391 ) : ( وروينا عنه صلوات الله عليه وعلى الأئمة من ولده ، أنه قطع العطاء عمن لم يشهد معه وأقامهم مقام أعراب المسلمين وأن ابن عمر كتب إليه يسأله العطاء فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : شككت في حربنا فشككنا في عطائك ، فرد عليه ابن عمر : والله إني لنادم على تخلفي عنك ! وكلمه فيه الحسن فأعطاه ، فدل ذلك على أنه إنما أعطاه بعد التوبة ) . وكأنه استثنى هؤلاء من القاعدة تأديباً لهم ، ولمدة .
    2 . معقل بن قيس رضي الله عنه من صناديد العرب ، ومن خاصة أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، حضر معه مشاهده ، فكان في حرب الجمل على الرجالة من تميم الكوفة . ( الجمل للمفيد / 172 ) . وكان قائداً بارزاً في صفين ( الفتوح : 3 / 147 ) وقائد الميسرة في النهروان ( الطبري : 4 / 63 ) وكان قائد شرطة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( الغارات : 2 / 783 ) وبعثه لمطاردة الخريت بن راشد الخارجي إلى الأهواز فقاتله وهزمه ، ثم طارده إلى فارس حتى قتله . ( الفتوح : 4 / 84 ) .
    وفي سنة تسع وثلاثين للهجرة بعث معاوية يزيد بن شجرة للإغارة على مكة ،
    --------------------------- 188 ---------------------------
    وإفساد موسم الحج على المسلمين ، فكتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى واليه على مكة قثم بن العباس : وقد وجهت إليكم جمعاً من المسلمين ذوي بسالة ونجدة ، مع الحسيب الصليب الورع التقي معقل بن قيس الرياحي . وهي شهادة عظيمة في معقل رضي الله عنه ، فهرب منه ابن شجرة ، وأدرك بعض جيشه بوادي القرى فأسرهم . وفاداهم الإمام ( عليه السلام ) بأناس كان أسرهم معاوية ( الغارات : 2 / 503 ) ثم اختاره أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليكر على معاوية ، فاستشهد الإمام ( عليه السلام ) ، ورجع معقل إلى الكوفة . ( الغارات : 2 / 481 ) .
    3 . ذكر اليعقوبي ( 2 / 194 ) أن الخريت كان خرج في الكوفة وقتل جماعة ، وطلبهم الناس ، فخرج الخريت وأصحابه من الكوفة ، فجعلوا لا يمرون ببلد إلا انتهبوا بيت ماله حتى صاروا إلى سيف عمان ، وكان علي قد وجه الحلو بن عوف الأزدي عاملاً على عمان ، فوثبت به بنو ناجية فقتلوه ، وارتدوا عن الإسلام ، فوجه علي معقل بن قيس الرياحي إلى البلد ، فقتل الخريت بن راشد وأصحابه ، وسبى بني ناجية ، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وأنفذ بعض الثمن ، ثم هرب إلى معاوية ، وأمر علي بهدم داره ، وأنفذ عتق بني ناجية ، وكانوا يدعون أنهم من ولد سامة بن لؤي ) .
    ونحوه تهذيب الأحكام ( 10 / 139 ) وفيه : ( كانوا يسكنون الأسياف وكانوا يدعون في قريش نسباً ، وكانوا نصارى فأسلموا ثم رجعوا عن الإسلام . . فاشتراهم مصقلة بن هبيرة بمائة ألف درهم فأعتقهم ، وحمل إلى علي خمسين ألفاً فأبى أن يقبلها . قال : فدفنها في داره ولحق بمعاوية ) .
    وفي الإصابة ( 2 / 235 ) : ( لقي الخريت بن راشد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بين مكة والمدينة في وفد بني سامة بن لؤي فاستمع لهم وقال لقريش : هؤلاء قوم لُد ) ولا يبعد أن يكونوا جادلوه ( ( عليهما السلام ) ) لأنه نفى نسبهم إلى قريش ، فقد روي عنه أنه قال : إن عمي سامة لم يعقب ) . ( الغارات : 2 / 772 ) .
  • *
    --------------------------- 189 ---------------------------
    خوارج آخرون أقل شأناً من الخريت
    قال البلاذري ( 2 / 480 ) وابن الأثير في الكامل ( 3 / 372 ) : ( قالوا : أول من خرج على عليّ بعد مقتل أهل النهروان أشرس بن عوف الشيباني خرج بالدسكرة في مأتين ثم صار إلى الأنبار ، فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاث مأة ، فواقعه فقتل أشرس في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين .
    وكان الأشرس لما توجه يريد النهر لقيه علي بن الحرث بن يزيد بن رويم ليمنعه فطعنه وقال خذها من ابن عم لك مفارق ، لولا نصرته الحق كان بك ضنينا ! فيقال إنه قتله ، والثبت أنه بقي وكان فيمن لقيه فضربه وقال : خذها من ابن عم لك شانٍ .
    قالوا : ثم خرج هلال بن علقمة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد ، وقال بعضهم إن الرئاسة كانت لمجالد ، فأتى ماسبذان يدعو إلى رأيه ويقاتل من قاتله ، فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مأتين ، وكان مقتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين .
    أمر الأشهب بن بشير القرني : وبعضهم يقول : الأشعث ، وكان من بجيلة وهو كوفي . قالوا : ثم خرج الأشهب في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين في مائة وثلاثين ، فأتى المعركة التي أصيب ابن علقمة وأصحابه فيها فصلى عليه ، وأجنَّ من قَدِر عليه منهم ، فوجه إليه عليٌّ جارية بن قدامة التميمي ويقال حجر بن عدي ، فأقبل إليهم الأشهب فالتقوا بجرجرايا من أرض جوخا ، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين .
    أمر سعيد بن قفل التيمي : من تيم الله بن ثعلبة بن عكاية . قالوا : ثم خرج سعيد بن قفل التيمي في رجب بالبند نيجين ، وكان معه مائتا رجل ، فأقبل حتى أتى قنطرة الدرزيجان وهي على فرسخين من المدائن ، فكتب علي إلى سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد ابن مسعود وكان عامله على المدائن في أمره ، فخرج إلى ابن قفل وأصحابه فواقعهم فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين
    --------------------------- 190 ---------------------------
    وبعضهم يقول : هو سعد بن قفل .
    أمر أبي مريم السعدي : من سعد مناة بن تميم . قالوا : رجع عليٌّ إلى الكوفة من النهروان وبها ثلاثة آلاف من الخوارج ، وألف في عسكره ممن فارق ابن وهب وجاء إلى راية أبي أيوب الأنصاري ، ومن كان بالنخيلة ممن خرج يريد أهل الشام قبل النهروان ، فلما قاتل عليّ أهل النهر أقاموا ولم يقاتلوا معه ، وقوم بالكوفة لا يرون قتاله ولا القتال معه . فأتى أبو مريم بعد وقعة النهر شهر زور في مأتين ، جلهم مَوَال فأقام بشهر زور أشهراً يحض أصحابه ويذكرهم أمر النهر ، واستجاب له أيضاً قوم من غير أصحابه ، فقدم المدائن في أربع مائة ، ثم أتى الكوفة ، فأقام على خمسة فراسخ منها ، فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته وأن يدخل المصر ، فيكون فيه مع من لا يقاتله ولا يقاتل معه ، فقال : ما بيني وبينك إلا الحرب !
    فبعث إليه علي شريح بن هانئ في سبع مائة فدعاه إلى بيعة علي أو دخول المصر ، لايقاتله ولا يقاتل معه . فقال أبو مريم : يا أعداء الله أنحن نبايع علياً ونقيم بين أظهركم يجور علينا إمامكم ، وقد قتلتم عبد الله بن وهب وزيد بن حصين ، وحرقوص بن زهير ، وإخواننا الصالحين ! ثم تنادوا بالتحكيم وحملوا على شريح وأصحابه فانكشفوا ، وبقي شريح في مأتين ، فانحاز إلى بعض القرى وتراجع إليه بعض أصحابه فصار في خمس ومائة ، ودخل الباقون الكوفة ، فأرجفوا بقتل شريح ، فخرج علي بنفسه وقدم أمامه جارية بن قدامة في خمس مائة ثم أتبعه في ألفين فمضى جارية حتى صار بإزاء الخوارج فقال لأبي مريم : ويحك أرضيت لنفسك أن تقتل مع هؤلاء العبيد ؟ والله لئن وجدوا ألم الحديد ليسلمنك ! فقال : إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ! ولحقهم علي فدعاهم إلى بيعته فأبوها وحملوا على علي فجرحوا عدة من أصحابه ، ثم قُتلوا ، إلا خمسين رجلاً استأمنوا فآمنهم علي . وكان في الخوارج أربعون جريحاً ، فأمر عليٌّ بإدخالهم الكوفة ومداواتهم ، ثم قال لهم : ألحقوا بأيّ البلاد شئتم . وكان مقتل أبي مريم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين .
    وقال أبو الحسن المدائني : كان أبو مريم في أربع مائة من الموالي والعجم ليس فيهم
    --------------------------- 191 ---------------------------
    من العرب إلا خمسه من بني سعد ، وأبو مريم سادسهم ) .
    وذكر ابن الأثير في الكامل ( 3 / 272 ) خمسة خوارج بعد النهروان ، قال : ( ذكر أمر الخوارج بعد النهروان : لما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على علي بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاث مائة فواقعه فقتل أشرس في ربيع الآخرة سنة ثمان وثلاثين . ثم خرج هلال بن علقمة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتى ماسبذان فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه ، وهم أكثر من مائتين ، وكان قتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين .
    ثم خرج الأشهب بن بشر وقيل الأشعث وهو من بجيلة في مائة وثمانين رجلاً فأتى المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلى عليهم ، ودفن من قدر عليه ، فوجه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي وقيل حجر بن عدي فأقبل إليهم الأشهب فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى ، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين .
    ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتى درزنجان وهي من المدائن على فرسخين ، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين .
    ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى شهرزور وأكثر من معه من الموالي وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم واجتمع معه مائتا رجل وقيل أربع مائة وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة ، فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة فلم يفعل وقال : ليس بيننا غير الحرب فبعث إليه عليٌّ شريح بن هانئ في سبع مائة فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين ، فانحاز في قرية فتراجع إليه بعض أصحابه ، ودخل الباقون الكوفة ، فخرج علي بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي ، فدعاهم جارية إلى طاعة علي وحذرهم القتل فلم يجيبوا ولحقهم علي
    --------------------------- 192 ---------------------------
    أيضاً فدعاهم فأبوا عليه وعلى أصحابه ، فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلاً ، استأمنوا فأمنهم ، وكان في الخوارج أربعون رجلاً جرحى فأمرعلي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برؤوا ، وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين . وكانوا من أشجع من قاتل من الخوارج ، ولجرأتهم قاربوا الكوفة ) .
  • *
    --------------------------- 193 ---------------------------
    الفصل الثالث والتسعون
    غارات معاوية على دولة أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    تهارش معاوية وعمرو على الخلافة مهارشة الذئاب !
    رجع عمرو العاص من دومة الجندل إلى الشام فرحاً بنجاح مكيدته لأبي موسى الأشعري ، وأخذه الغرور ، فقرر أن يأخذ الخلافة بدل معاوية ، بحجة أنه اتفق مع أبي موسى على خلع علي ومعاوية ، وله الحق أن يعين الخليفة الذي يريد !
    وتكلم عمرو مع رؤساء أهل الشام وقال لهم : ألستم أعطيتموني العهد والميثاق قبل التحكيم أن تقبلوا برأيي في الخلافة ؟ فقالوا : بلى . فذهب إلى منزله ولم يذهب إلى معاوية ، ولما عرف معاوية بعمله جُن جنونه ، وخاض معه معركة مكر شيطاني ، وتهارش حيواني ، وعنف قرشي ، على الخلافة ، كأشد ما تتهارش الذئاب والكلاب ! كما نص المؤرخون ، فقد قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 400 ) :
    ( قال عمرولأبي موسى : سَمِّ من شئت حتى أنظر معك ، فسمى أبو موسى ابن عمر وغيره ، ثم قال لعمرو : قد سميت أنا فسم أنت ، قال : نعم ، أسمي لك أقوى هذه الأمة عليها ، وأسدها رأياً ، وأعلمها بالسياسة ، معاوية بن أبي سفيان . قال : لا والله ما هو لذلك بأهل ، قال : فآتيك بآخر ليس هو بدونه ، قال : من هو ؟ قال : أبو عبد الله عمرو بن العاص ، فلما قالها علم أبو موسى أنه يلعب به ، فقال : فعلتها لعنك الله ولعن الذي أرسلك ، فتسابَّا ، فلحق أبو موسى بمكة . فلما انصرف أبو موسى انصرف عمرو بن العاص إلى منزله ، ولم يأت إلى معاوية ، فأرسل اليه معاوية يدعوه فقال : إنما كنت أجيئك إذ كانت لي إليك حاجة ، فأما إذا كانت الحاجة إلينا فأنت أحق ان تأتينا ، فعلم معاوية ما قد دُفع اليه ( دُبِّرَ له ) ، فخمَّرَ الرأي
    --------------------------- 194 ---------------------------
    وأعمل الحيلة ، وأمر معاوية بطعام كثير فصنع ثم دعا بخاصته ومواليه وأهله فقال : إني سأغدو إلى عمرو فإذا دعوت بالطعام فدعوا مواليه وأهله فليجلسوا قبلكم ، فإذا شبع رجل منهم وقام فليجلس رجل منكم مكانه ، فإذا خرجوا ولم يبق في البيت أحد منهم فأغلقوا باب البيت ، واحذروا أن يدخل أحد منهم إلا أن آمركم ! وغدا إليه معاوية وعمرو جالس على فراشه ، فلم يقم له عنهاولا دعاه إليها ، فجاء مُعاوية وجلس على الأرض واتكأ على ناحية الفراش وذلك أن عمراً كان يحدث نفسه أنه قد ملك الأمر وإليه العقد ، يضعها فيمن يرى ويندب للخلافة من يشاء ، فجرى بينهما كلام كثير ، وكان مما قال له عمرو : هذا الكتاب الذي بيني وبينه عليه خاتمي وخاتمه ، وقد أقر بأن عثمان قتل مظلوماً ، وأخرج علياً من هذا الأمر وعَرَض عليَّ رجالاً لم أرهم أهلًا لها ، وهذا الأمر إليَّ أن أستخلف من شئته وقد أعطاني أهل الشام عهودهم ومواثيقهم !
    فحادثه معاوية ساعة وأخرجه عما كانوا عليه ، وضاحكه وداعبه ثم قال : يا أبا عبد الله هل من غداء ؟ قال : أما والله شئ يشبع من ترى فلا ، فقال معاوية : هلم يا غلامي غداءك ؟ فجئ بالطعام المستعد فوضع فقال : يا أبا عبد الله أدع مواليك وأهلك ، فدعاهم ثم قال له عمرو : وادع أنت أصحابك ، قال : نعم يأكل أصحابك أولاً ، ثم يجلس هؤلاء بعدُ ، فجعلوا كلما قام رجل من حاشية عمرو قعد موضعه رجل من حاشية معاوية ، حتى خرج أصحاب عمرو وبقي أصحاب معاوية ، فقام الذي وكله بغلق الباب فأغلق الباب ، فقال له عمرو : فعلتها ! فقال : إي والله بيني وبينك أمران فاخترأيهما شئت : البيعة لي ، أو أقتلك ، ليس والله غيرهما !
    قال عمرو : فأذَنْ لغلامي وردان حتى أشاوره وأنظر رأيه ، قال : لا تراه والله ولا يراك إلا قتيلاً ، أو على ما قلت لك ! قال : فالوفاء إذن بطعمة مصر ، قال : هي لك ما عشت ! فاستوثق كل واحد منهما من صاحبه وأحضر معاوية الخواصَّ من أهل الشام ، ومنع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو ، فقال لهم عمرو : قد رأيت أن أبايع معاوية فلم أر أحداً أقوى على هذا الأمر منه ، فبايعه أهل الشام وانصرف معاوية إلى منزله خليفة ) ! !
    --------------------------- 195 ---------------------------
    رواه ابن عساكر ، قال في تاريخ دمشق ( 49 / 293 ) وفيه : ( فأغلقوا البيت ! قال عمرو : فعلتَها ! قال : بيني وبينك أمران ، إختر أيهما شئت : البيعة لي ، أوأقتلك . . الخ . ) ! ورواه ابن حاتم في الدر النظيم ( 1 / 367 ) وغيرهم !
    فالأساس الذي قامت عليه خلافة معاوية هو حيلة عمرو العاص في التحكيم ، ثم احتال هو على عمرو وأجبره على بيعته ، وأن يسحب كلامه ويطلب من أهل الشام أن يبايعوا معاوية ! فجاءت خلافة معاوية بالمكر والحيلة والعنف !
    وكان معاوية أخذ البيعة بالخلافة قبل صفين
    قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 74 ) : ( ثم دعاهم إلى الطلب بدمه فقام إليه أهل الشام فقالوا : هو ابن عمك وأنت وليه ، ونحن الطالبون معك بدمه ، فبايعوه أميراً عليهم ، وكتب وبعث الرسل إلى كور الشام ، وكتب إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو بحمص ، يأمره أن يبايع له بحمص كما بايع أهل الشام ، فلما قرأ شرحبيل كتاب معاوية دعا أناساً من أشراف أهل حمص فقال لهم : ليس من قتل عثمان بأعظم جرماً ممن يبايع لمعاوية أميراً ، وهذه سقطة ، ولكنا نبايع له بالخلافة ولانطلب بدم عثمان مع غير خليفة ! فبايع لمعاوية بالخلافة هو وأهل حمص ، ثم كتب إلى معاوية : أما بعد فإنك أخطأت خطأ عظيماً ، حين كتبت إلي أن أبايع لك بالإمرة ، وأنك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غيرخليفة ، وقد بايعت ومن قبلي لك بالخلافة . فلما قرأ معاوية كتابه سره ذلك ودعا الناس وصعد المنبر وأخبرهم بما قال شرحبيل ، ودعاهم إلى بيعته بالخلافة ، فأجابوه ولم يختلف منهم أحد ، فلما بايع القوم له بالخلافة واستقام له الأمر كتب إلى علي ) !
    فانظر إلى هذا التملق والتزلف ، ورخص الدين عند هؤلاء !
    وأعلن معاوية أنه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر
    فقد حضر عبد الله بن عمر تحكيم الحكمين في دومة الجندل ، على أمل أن يكون له سهم في الخلافة ! قال كما في البخاري ( 5 / 48 ) : ( دخلت على حفصة ونَسْواتها
    --------------------------- 196 ---------------------------
    تَنْطُف ( جدائلها تقطر بعد أن اغتسلت ) قلت : قد كان من أمر الناس ما ترين ( الحَكَمَيْن ) فلم يُجعل لي من الأمر شئ ! فقالت : إلحق ( اجتماع الحكمين ) فإنهم ينتظرونك ، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ، فلم تدَعْهُ حتى ذهب ) ! ثم ذهب ابن عمر إلى الشام بعد الحكمين ، وزار بيت المقدس وأحرم كما يحرم للحج ! ( الدر النظيم / 367 ) .
    ثم ذهب إلى الشام مع سعد بن أبي وقاص ، وأحرما منها وذهبا إلى بيت المقدس ! وكان عبد الله حاضراً في خطبة معاوية التي أعلن فيها أنه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر لأنه من شجرةعبدمناف ، وهما من شجرة تيم وعدي !
    قال البخاري ( 5 / 48 ) : ( قال معاوية : من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطْلع لنا قرنه ، فلنحن أحق به منه ومن أبيه ! قال حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته ؟ ! قال عبد الله : فحللتُ حَبْوتي ( عقدة ثوبي عن ساقي ) وهممتُ أن أقول : أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام ، فخشيتُ أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ، ويُحمل عني غير ذلك ، فذكرتُ ما أعدَّ الله في الجنان ) ! وتعمد البخاري أن يخفي مناسبة خطبة معاوية ، وذكر غيره ( الطبري : 4 / 48 ) أنها كانت بعد التحكيم .
    وفي تاريخ دمشق ( 24 / 90 ) : ( نحن أحق بهذا الأمر ! نحن شجرة رسول الله وبيضته التي انفلقت عنه ونحن ونحن ! فقال صعصعة : فأين بنو هاشم منكم ؟ قال : نحن أسوس منهم ، وهم أخير منا ) .
    والأسوس هو الأولى بالنبي ( ( عليهما السلام ) ) بزعمه حتى لو كان قاتل النبي ( ( عليهما السلام ) ) كل عمره !
    بل ذم معاوية عمر بن الخطاب لأنه فرق الأمة وسفك دماءها ! فقال لرئيس ربيعة
    ( تاريخ دمشق : 19 / 197 ) « أخبرْني ما فرَّقَ بين هذه الأمة ومن سفك دمائها وشق عصاها وفرق ملأها . . . ثم قال إنها شورى عمر التي أطمعت قبائل قريش في ملك بني عبد مناف ! قال : فما زال كل رجل من أهل الشورى يطمع فيها ويطمع له فيها أحباؤهم ، حتى وثبوا على عثمان فقتلوه واختلفوا بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً ! فهذا الذي سفك دماء هذه الأمة وشق عصاها وفرق ملأها » !
    واعجب لضعف عمر أمام معاوية لما نصب نفسه والياً على الشام بعد موت أخيه ،
    --------------------------- 197 ---------------------------
    فسكت عمر وأقره ! ثم لم يسمع شكوى بلال وجماعته على معاوية ( سير الذهبي : 3 / 126 )
    ثم أعجب لضعف عبد الله بن عمر أمام معاوية ، فقد بايع معاوية ، ثم هدده بالقتل إن لم يبايع ابنه يزيد ، فبايعه ! ( ابن خياط / 10 ) .
  • *
    غارات معاوية على دولة الإمام ( ( ع ) )
    1 . سارع معاوية بعد التحكيم إلى أخذ البيعة لنفسه بالخلافة ، ثم نشط في الغارات على دولة الإمام ( عليه السلام ) ، فكان يرسل جيشاً من نحو ألف مقاتل ، ويأمرهم بقتل كل من صادفوه من أتباع علي ( عليه السلام ) وسلب ما وصلت إليه أيديهم !
    وبدأ غاراته في الشهر الأخير من سنة 38 ، واستمرت كل سنة 39 وثمانية أشهر من سنة 40 ، إلى أن استشهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في شهر رمضان ، وبلغت عشرغارات ، وكان يأمر قادتها أن يقتلوا ، ويحرقوا ، وينهبوا ، ويرعبوا الناس !
    وفي هذه المدة خاض أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حرب النهروان مع الخوارج وانتصر عليهم ، وأخذ يستعد للعودة إلى صفين ، وكان يحث الناس على الجهاد وهم يتباطؤون عليه ، حتى استشهد صلوات الله عليه .
    وقد ألف المؤرخ الثقفي المتوفى سنة 283 ، كتابه ( الغارات ) بالأصل للتأريخ لغارات معاوية ، وهو أقدم من الطبري والبلاذري وأوثق منهما ، لكن نسخته التي وصلتنا ملخصة مع الأسف ، فقد كتب الناسخ في آخرها مع الأسف : تم كتاب الغارات على حذف الزيادات وتكرارات .
    لذلك نعتمد الرواية الأتم للغارة ، ونكملها من المصادر المختلفة .
    وكان الأسوأ في غارات معاوية تخاذل المسلمين عن ردها ، إلا قليلاً ! فكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتحرق ألماً من تخاذلهم ! وقد فصَّل المحدثون والمؤرخون ذلك .
    2 . قال ابن الأعثم في الفتوح ( 4 / 218 ) : ( ابتداء ذكر الغارات بعد صفين : عن أبي مخنف بن يحيى بن سعيد الأزدي قال : لما كان من أمر صفين ما كان ، وحكم
    --------------------------- 198 ---------------------------
    الحكمان ما حكما ، ورجع أهل الشام إلى الشام وأهل العراق إلى العراق ، واستقر علي بن أبي طالب بالكوفة ، جاء معاوية برجل يقال له الضحاك بن قيس الفهري ، وهو صاحب شرطة معاوية ، فضم إليه خيلاً عظيمة من خيل أهل الشام ، ووجه به نحو أهل العراق ) .
    3 . قال الثقفي في الغارات ( 2 / 416 ) : ( أول غارة كانت بالعراق غارة الضحاك بن قيس ، وكانت بعدما حكم الحكمان وقبل قتل أهل النهر وذلك أن معاوية لما بلغه أن علياً ( عليه السلام ) بعد تحكيم الحكمين تحمَّل إليه مقبلاً فهاله أمره ، فخرج من دمشق معسكراً ، وبعث إلى كور الشام فصاح فيها أن علياً قد سار إليكم ، وكتب إليهم نسخة واحدة فقرئت على الناس :
    أما بعد فإنا كنا قد كتبنا بيننا وبين علي كتاباً وشرطنا فيه شروطاً ، وحكمنا رجلين يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا يعدوانه ، وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم ، وإن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني ، وإن حكمه خلعه ، وقد أقبل إليكم ظالماً ومن نكث فإنما ينكث على نفسه . تجهزوا للحرب بأحسن الجهاز ، وأعدوا لها آلة القتال وأقبلوا خفافاً وثقالاً وكسالى ونشاطاً ، يسرنا الله وإياكم لصالح الأعمال .
    فاجتمع إليه الناس من كل كورة وأرادوا المسير إلى صفين فاستشارهم وقال إن علياً قد خرج إليكم من الكوفة وعهد العاهد به أنه فارق النخيلة . فقال له حبيب بن مسلمة : فإني أرى أن نخرج حتى ننزل منزلنا الذي كنا فيه فإنه منزل مبارك ، قد متعنا الله به وأعطانا من عدونا فيه النصف .
    وقال له عمرو بن العاص : إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة ، فإن ذلك أقوى لجندك وأذل لأهل حربك ، فقال معاوية : والله إني لأعرف أن الرأي الذي تقول ، ولكن الناس لا يطيقون ذلك ، قال عمرو : إنها أرض رفيعة ( غنية ) فقال معاوية والله إن جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به يعني صفين .
    --------------------------- 199 ---------------------------
    فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة حتى قدمت عليهم عيونهم أن علياً اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة ، وأنه قد رجع عنكم إليهم ، فكثر سرورالناس بانصرافه عنهم ، وما ألقى الله من الخلاف بينهم . فلم يزل معاوية معسكراً في مكانه ، منتظراً لما يكون من علي وأصحابه ، وهل يقبل علي بالناس أم لا ؟ فما برح معاوية حتى جاءه الخبر أن علياً قد قتل تلك الخوارج وأراد بعد قتلهم أن يقبل إليه بالناس ، وأنهم استنظروه ودافعوه ، فسر بذلك هو ومن قِبَلَه من الناس )
    رد الأشتر قبل شهادته غارة الضحاك الفهري
    كانت الغارات عادة عند العرب بين القبائل مع بعضها ، وبين الدول أيضاً ، وقد أغار الأشترعلى الرقة وحران ، وكان على حق لأنه يمثل الخليفة المبايع ، فغارته من أجل تحرير ما اغتصبه معاوية الباغي ، الخارج على الخليفة الشرعي .
    قال الثقفي ( 1 / 322 ) والبلاذري ( 2 / 472 ) : ( بعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري على ما كان من سلطانه من الجزيرة والرقة وحران والرها وقرقيسيا فبلغ ذلك الأشتر ، فسار من نصيبين يريد الضحاك ، واستمد الضحاك أهل الرقة ، وكان جل من بها عثمانية هربوا من علي فأمدوه ، وعليهم سماك بن مخرمة الأسدي ، فعسكروا جميعاً بين الرقة وحران ، وأقبل إليهم الأشتر فاقتتلوا قتالاً شديداً وفشت فيهم الجراح ، وأسرع الأشتر فيهم ، فلما حجز الليل بينهم سار الضحاك من ليلته فنزل حران ، وأصبح الأشتر فأتبعهم حتى حاصرهم بحران ، وأتى الصريخ معاوية ، فدعا عبد الرحمان بن خالد بن الوليد المخزومي ، فأمره بالمسير لإنجاد الضحاك ، فلما بلغ الأشتر ذلك كتب كتائبه ليعاجل الضحاك
    ثم نادى :
    ألا إن الحي عزيز ، ألا إن الذمار منيع ! ألا تنزلون أيتها الثعالب الرواغة !
    ثم مضى فمر بالرقة فتحصنوا منه ، وأتى قرقيسيا فتحصنوا منه ، وبلغ عبد الرحمان بن خالد انصرافه فأقام ! وقال أيمن بن خريم بن فاتك
    --------------------------- 200 ---------------------------
    من مبلغٌ عني ابن حرب رسالة * من عاتبين مساعر أنجاد
    أنسيت إذ في كل يوم غارةٌ * في كل ناحية كرِجل جراد
    غارات أشتر في الخيول يريدكم * بمعرة ومضرة وفساد
    وضع المسالح مرصداً لهلاككم * ما بين عانات إلى سنداد
    وحوى رساتيق الجزيرة كلها * غصباً بكل طِمِرَّةٍ وجواد
    لما رأى نيران قومي أوقدت * وأبوأنيس فاتر الإيقاد
    أمضى إلينا خيله ورجاله * وأغذ لا يجري لأمر رشاد
    ثرنا إليهم عند ذلك بالقنا * وبكل أبيض كالعقيقة صاد
    في مرج مَرِّينا ألم تسمع بنا * نبغي الإمام به وفيه نعادي
    لولا مقام عشيرتي وطعانهم * وجلادهم بالمرج أي جلاد
    لأتاك أشتر مذحج لا ينثني * بالجيش ذا حنق عليك وآد ) .
    لكن الأمر اختلف بعد التحكيم وبعد شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه ، واختلاف المسلمين في العراق ، فكان الضحاك بن قيس الفهري صاحب أول من أغار على العراق ، وتوالت الغارات إلى شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سنة أربعين ، وقد عدها ابن الأعثم ( 4 / 218 ) ست غارات ، وعدها البلاذري سبعاً ، وذكر أثناءها وبعدها غارات صغيرة . وكان أشدها فتكاً غارة بسر بن أرطاة على الحرمين واليمن ، قتل فيها أكثر من ثلاثين ألفاً ، وأحرق ونهب واستباح الحرمات .
    الغارة الأولى على دولة الإمام ( ( ع ) ) غارة الضحاك بن قيس
    خطب الإمام ( عليه السلام ) داعياً المسلمين إلى رد غارة معاوية ، فقال ( نهج البلاغة : 1 / 73 ) :
    ( أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم . كلامكم يوهي الصم الصلاب وفعلكم يطمع فيكم الأعداء . تقولون في المجالس كيت وكيت . فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد ! ما عزت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم . أعاليل بأضاليل . دفاع ذي الدَّيْن المَطول . لا يمنع الضيم الذليل . ولا يدرك الحق إلا بالجد . أي دار بعد داركم تمنعون . ومع أي إمام بعدي تقاتلون . المغرور والله من غررتموه . ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب . ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل !
    --------------------------- 201 ---------------------------
    أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم ، ما دواؤكم ، ما طبكم ؟ القوم رجال أمثالكم ! أقولاً بغير عمل ، وغفلة من غير ورع ، وطمعاً في غير حق ) .
    وقال في شرج النهج ( 2 / 113 ) : ( هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في غارة الضحاك بن قيس . . . حيدي حياد : كلمة يقولها الهارب الفار ، وهي نظيرة قولهم : فيحي فياح ، أي اتسعي . وصُمي صمام ، للداهية . وأصلها من حاد عن الشئ ، أي انحرف ، وحيادِ ، مبنية على الكسر ، وكذلك ما كان من بابها ، نحو قولهم : بدارِ ، أي ليأخذ كل واحد قرنه . وقولهم : خراجِ ، في لعبة للصبيان ، أي أخرجوا .
    والباء في قوله : بأضاليل متعلقة بأعاليل نفسها ، أي يتعللون بالأضاليل التي لا جدوى لها . والسهم الأفوق : المكسور الفوق ، وهو مدخل الوتر . والناصل : الذي لا نصل فيه يخاطبهم ، فيقول لهم : أبدانكم مجتمعة وأهواؤكم مختلفة ، متكلمون بما هو في الشدة والقوة يوهي الجبال الصم الصلبة ، وعند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة . تقولون في المجالس : كيت وكيت ، أي سنفعل وسنفعل ، وكيت وكيت كناية عن الحديث ، كما كنى بفلان عن العلم ، ولا تستعمل إلا مكرره ، وهما مخففان من : كَيْه . وقد استعملت على الأصل ، وهي مبنية على الفتح . وقد روى أئمة العربية فيها الضم والكسر أيضاً . فإذا جاء القتال فررتم وقلتم الفرار الفرار . ثم أخذ في الشكوى ، فقال : من دعاكم لم تعز دعوته ، ومن قاساكم لم يسترح قلبه . دأبكم التعلل بالأمور الباطلة ، والأماني الكاذبة . وسألتموني الإرجاء وتأخر الحرب كمن يمطل بدين لازم له . والضيم لا يدفعه الذليل ، ولا يدرك الحق إلا بالجد فيه والاجتهاد وعدم الانكماش ) .
    غارة الضحاك برواية البلاذري
    قال البلاذري ( 2 / 437 ) : ( وجه معاوية الضحاك بن قيس الفهري حين بلغه أن علياً يدعو الناس إلى الخروج إليه ، وأن أصحابه مختلفون عليه ، في خيل كثيفة جريدة ، وأمره أن يمر بأسفل واقصة فيغير على الأعراب ممن كان على طاعة
    --------------------------- 202 ---------------------------
    علي ، وعلى غيرهم ممن كان في طاعته ممن لقيه مجتازاً ، وأن يصبح في بلد ويمسي في آخر ، ولا يقيم لخيل إن سرحت إليه ، وإن عرضت له قاتلها ، وكانت تلك أول غارات معاوية . فأقبل الضحاك إلى القطقطانة فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف ، وجعل يأخذ أموال الناس من الأعراب وغيرهم ، ويقتل من ظن أنه على طاعة عليّ أو كان يهوي هواه حتى بلغ الثعلبية ، وأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم !
    ثم صار إلى القطقطانة منصرفاً ، ولقيه بالقطقطانة على طريق الحاج عمرو بن عميس بن مسعود ، ابن أخي عبد الله بن مسعود فقتله ، فلما ولاه معاوية الكوفة كان يقول : يا أهل الكوفة أنا أبوأنيس قاتل ابن عميس ، يعلمهم بذلك أنه لا يهاب القتل وسفك الدماء ، وأخذ طريق السماوة منصرفاً ، فلما بلغ علياً خبره قام في أهل الكوفة خطيباً ، فدعاهم إلى الخروج لقتال عدوهم ومنع حريمهم ، فردوا عليه رداً ضعيفاً ، ورأى منهم فشلاً وعجزاً ، فقال : وددت والله أن لي بكل عشرة منكم رجلاً من أهل الشام ، وأني صرفتكم كما يصرف الذهب ، ولوددت أني لقيتهم على بصيرتي ، فأراحني الله من مقاساتكم ومداراتكم كما يدارى البكار العمدة والثياب المنهرمة ، كلما خيطت من جانب تهتكت من جانب !
    ثم خرج يمشي إلى نحو الغريين ، حتى لحقه عبد الله بن جعفر بدابة فركبها ولحقه الناس بعد ، فسرح لطلبه حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف أعطاهم خمسين درهماً خمسين درهماً ، فسار حجر حتى لحق الضحاك نحو تدمر فقاتله فأصاب من أصحابه تسعة عشر رجلاً ويقال : سبعة عشر رجلاً ، وقتل من أصحاب علي رجلان يقال : إنهما عبد الله وعبد الرحمان ابنا حوزة ، وهما من الأزد ، وحجز الليل بينهم ، فهرب الضحاك في الليل وأقام حجر يوماً أو يومين فلم يلق أحداً ، فانصرف ) .
    ورواها الثقفي في الغارات ( 2 / 416 ) وقال : ( أول غارة كانت بالعراق غارة الضحاك بن قيس ، وكانت بعد ما حكم الحكمان ، وقبل قتل أهل النهر . . .
    عن عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري قال : جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط من الكوفة ونحن معسكرون مع معاوية ، نتخوف أن يفرغ علي من خارجته ، ثم يقبل إلينا
    --------------------------- 203 ---------------------------
    ونحن نقول : إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الذي نستقبله به مكاننا الذي لقيناه فيه العام الماضي ، وكان في كتاب عمارة : أما بعد فإن علياً خرج عليه علية أصحابه ونساكهم فخرج عليهم فقتلهم وقد فسد عليه جنده وأهل مصره ، ووقعت بينهم العداوة وتفرقوا أشد الفرقة ، فأحببت إعلامك لتحمد الله ، والسلام .
    قال : فقرأه معاوية عليَّ وعلى أخيه وعلى أبي الأعور السلمي ، ثم نظر إلى أخيه عتبة وإلى الوليد بن عقبة ، وقال للوليد : لقد رضي أخوك أن يكون لنا عيناً ! قال : فضحك الوليد وقال : إن في ذلك أيضاً لنفعاً !
    وبلغني أن الوليد بن عقبة قال لأخيه عمارة بن عقبة بن أبي معيط يحرضه :
    فإن يك ظني بابن أمي صادقاً * عمارة لا يطلب بذحل ولا وِتْرِ
    يبيتُ وأوتار ابن عفان عنده * مخيمة بين الخورنق والقصر
    تمشى رخي البال مستشزر القوى * كأنك لم تشعر بقتل أبي عمرو
    قال : فعند ذلك دعا معاوية الضحاك وقال له : سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه . فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف جريدة خيل .
    قال : فأقبل الضحاك يأخذ الأموال ويقتل من لقي من الأعراب حتى مر بالثعلبية فأغار خيله على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة وقتل معه ناساً من أصحابه ! . قال أبو روق : فحدثني أبي أنه سمع علياً ( عليه السلام ) وقد خرج إلى الناس وهو يقول على المنبر : يا أهل الكوفة أخرجوا إلى العبدالصالح عمرو بن عميس ، وإلى جيوش لكم قد أصيب منها طرف ، أخرجوا فقاتلوا عدوكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين . قال : فردوا عليه ردا ضعيفاً . . .
    ثم دعا حجر بن عدي الكندي من خيله فعقد له ثم راية على أربعة آلاف ثم سرحه فخرج حتى مر بالسماوة وهي أرض كلب فلقي بها امرء القيس
    --------------------------- 204 ---------------------------
    بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي أصهار الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) فكانوا أدلاءه على طريقه وعلى المياه ، فلم يزل مغذاً في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر ) .
    ثم أورد الثقفي رسالة عقيل رضي الله عنه يعرض عليه نفسه وولده ، وجواب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) له ، وتقدمت في ترجمة عقيل رضي الله عنه ) .
    من هو الضحاك بن قيس الفهري
    1 . الضحاك بن قيس الفهري أخ فاطمة بنت قيس المشهورة ، وكانت أكبر منه بعشر سنين ، وقال الطبري كان عمره لما توفي النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثمان سنين ، ومع ذلك يروي عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) حديث أن الملك في قريش لا في قحطان !
    وكان مقرباً من معاوية ، ونصبه والياً لشمال سوريا ، ثم كان قائداً في جيشه في صفين ، ثم أوكل اليه الغارة على العراق ، ثم نصبه والي الكوفة ، ثم والي دمشق . ولما توفي معاوية تولى الحكم في دمشق حتى جاء يزيد بن معاوية من الصيد فأخذ له البيعة . ولما مات يزيد أخذ البيعة لابنه معاوية ، وبعد موت ابن يزيد دعا إلى بيعة نفسه ! فبايعه بعض الناس !
    ثم عدل وبايع ابن الزبير وأخذ له البيعة من الشام وغيرها ، ولما بايعت القبائل مروان قاتله الضحاك في معركة مرج راهط ، وقُتل فيهاوجاؤوا برأسه لمروان ، وذلك في أواخر سنة 64 هجرية . راجع الإصابة ( 3 / 387 ) .
    2 . في الغارات ( 2 / 436 ، و 438 ) : ( عن محمد بن مخنف قال : إني لأسمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان على منبر الكوفة يخطبنا وهو يقول : أنا ابن قيس وأنا أبوأنيس ، وأنا قاتل عمرو بن عميس . أما والله إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم ، فكنت أول من غزاها في الإسلام أعاقب من شئت وأعفو عمن شئت ، لقد ذعرت المخبئات في خدورهن ، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي ! فاتقوا الله يا أهل العراق واعلموا أني أنا الضحاك بن قيس !
    فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال : صدق الأمير وأحسن القول ، ما أعرفنا والله
    --------------------------- 205 ---------------------------
    بما ذكرت ، ولقد أتيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعاً صبوراً مجرباً ، ثم جلس ! فسكت الضحاك قليلاً فكأنه خزي واستحيا !
    قال : لقد رأيت منكم بغربي تدمر رجلاً ما كنت أرى في الناس مثله رجلاً ، حمل علينا فما كذب حتى ضرب الكتيبة التي أنا فيها ، فلما ذهب ليولي حملت عليه فطعنته في قمته فوقع ثم قام فلم يضره شيئاً ، فذهب ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها فصرع رجلاً ، ثم ذهب لينصرف فحملت عليه فضربته على رأسه بالسيف فخيل إلي أن سيفي قد ثبت في عظم رأسه !
    قال : فضربني ، فوالله ما صنع سيفه شيئاً ثم ذهب ، فظننت أنه لن يعود ، فوالله ما راعني إلا وقد عصب رأسه بعمامة ثم أقبل نحونا ، فقلت : ثكلتك أمك أما نهتك الأُوليان عن الإقدام علينا ؟ قال : وما تنهياني وأنا أحتسب هذا في سبيل الله ! قال : ثم حمل علينا فطعنني وطعنته فحمل أصحابه علينا فانفصلنا وحال الليل بيننا ! فقال له عبد الرحمن بن مخنف : هذا يوم شهده هذا ! يعني ربيعة بن ناجد وهو فارس الحي ، وما أظنه هذا الرجل يخفى عليه فقال له : أتعرفه ؟ قال نعم ، قال : من هو ؟ قال أنا ! قال : فأرني الضربة التي برأسك ، قال : فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة . فقال له : ما رأيك اليوم فينا ، أهو كرأيك يومئذ ؟ قال : رأيي اليوم رأي الجماعة ! قال : فما عليكم اليوم من بأس ) !
    الغارة الثانية : غارة سفيان بن عوف
    1 . قال الثقفي في الغارات ( 2 / 464 ) : ( عن سفيان بن عوف الغامدي قال : دعاني معاوية فقال : إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة وجلادة ، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها ، فإن وجدت بها جنداً فأغرعليهم وإلا فامض حتى تغير على الأنبار ، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى تغير على المدائن ، ثم أقبل إلي ، واتق أن تقرب الكوفة ، واعلم أنك إن أغرت على الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة !
    إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترهب قلوبهم ، وتجرئ كل من كان
    --------------------------- 206 ---------------------------
    له فينا هوى ويرى فراقهم ، وتدعو إلينا كل من كان يخاف الدوائر ، وخرب كل ما مررت به من القرى ، واقتل كل من لقيت ممن ليس هو على رأيك ، واحرب الأموال ، فإنه شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلوب !
    قال : فخرجت من عنده فعسكرت وقام معاوية في الناس خطيباًفحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فانتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر عظيم سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله ، ثم نزل .
    قال : فوالله الذي لا إله إلا هو ما مرت بي ثلاثة حتى خرجت في ستة آلاف ، ثم لزمت شاطئ الفرات فأغذذت السير حتى أمر بهيت ، فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات ، فمررت بها وما بها عريب ، كأنها لم تُحلل قط ، فوطأتها ، حتى مررت بصندوداء فتنافروا فلم ألق بها أحداً ، فمضيت حتى أفتتح الأنبار وقد أنذروا بي ، فخرج إليَّ صاحب المسلحة فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلماناً من أهل القرية فقلت لهم : خبروني كم بالأنبار من أصحاب علي ؟ قالوا : عدة رجال المسلحة خمس مائة ، ولكنهم قد تبددوا ورجعوا إلى الكوفة ولا ندري الذي يكون فيها ،
    قد يكون مائتي رجل . قال : فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة فيقاتلونهم ، والله ويصبرون لهم ويطاردونهم في الأزقة .
    فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحواً من مائتين ثم أتبعتهم الخيل فلما مشت إليهم الرجال وحملت عليهم الخيل فلم يكن إلا قليلاً حتى تفرقوا ، وقتل صاحبهم في رجال من أصحابه ، وأتيناه في نيف وثلاثين رجلاً فحملنا ما كان في الأنبار من أموال أهلها ، ثم انصرفت .
    فوالله ما غزوت غزوة أسلم ، ولا أقر للعيون ولا أسر للنفوس منها ، وبلغني والله أنها أفزعت الناس ، فلما أتيت معاوية فحدثته الحديث على وجهه قال : كنت والله عند ظني بك لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره ، وإن أحببت توليته وليتك ، وأنت أمين أينما كنت من سلطاني ، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني قال : فوالله ما لبثنا إلا يسيراً حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هُرَّاباً .
    --------------------------- 207 ---------------------------
    وعن جندب بن عفيف قال : والله إني لفي جند الأنبار مع أشرس بن حسان البكري ، إذ صبحنا سفيان بن عوف كتائب تلمع الأبصار منها فهالونا والله ، وعلمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا بهم طاقة ولا يد ، فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا ، وأيم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم والله حتى كرهونا ، ثم نزل صاحبنا وهو يتلو قوله تعالى : فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ثم قال لنا : من كان لا يريد لقاء الله ولا يطيب نفساً بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم ، فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب ، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار ، ثم نزل في ثلاثين رجلاً قال : فهممت والله بالنزول معه ثم إن نفسي أبت ، واستقدم هو وأصحابه فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله ، فلما قتلوا أقبلنا منهزمين .
    عن محمد بن مخنف أن سفيان بن عوف لما أغار على الأنبار قدم علج من أهلها على علي ( عليه السلام ) فأخبره الخبر ، فصعد المنبرفقال : أيها الناس إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار وهو معتز لا يخاف ما كان ، فاختار ما عند الله على الدنيا ، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم ، فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا ، ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلموا ، أو يتكلم متكلم منهم بخير ، فلم ينبس أحد منهم بكلمة !
    فلما رأى صمتهم على ما في أنفسهم نزل فخرج يمشي راجلاً حتى أتى النخيلة ، والناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا : إرجع يا أمير المؤمنين نحن نكفيك ، فقال : ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله ، فرجع وهو واجم كئيب !
    ودعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة بثمانية آلاف وذلك أنه أخبر أن القوم جاؤوا في جمع كثيف فقال له : إني قد بعثتك في ثمانية آلاف فاتبع هذا الجيش حتى تخرجه من أرض العراق ، فخرج على شاطئ الفرات في طلبه حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم ، حتى إذا بلغ
    --------------------------- 208 ---------------------------
    أداني أرض قنسرين وقد فاتوه ، ثم انصرف . .
    قال : فلبث علي ( عليه السلام ) ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس فكتب كتاباً ، وكان في تلك الأيام عليلاً ، فلم يطق على القيام في الناس بكل ما أراد من القول ، فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد ومعه الحسن والحسين ( عليهم السلام ) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، فدعا سعداً مولاه فدفع الكتاب إليه فأمره أن يقرأه على الناس ، فقام سعد بحيث يسمع علي قراءته وما يرد عليه الناس ، ثم قرأ الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي إلى من قُرئ عليه كتابي من المسلمين ، سلام عليكم ، أما بعد فالحمد لله رب العالمين ، وسلام على المرسلين ، ولا شريك لله الأحد القيوم ، وصلوات الله على محمد ، والسلام عليه في العالمين .
    أما بعد ، فإني قد عاتبتكم في رشدكم حتى سئمت ، رجعتموني بالهزء من قولكم حتى برمت ، هزءٌ من القول لا يعاد به ( لا يجاب به ) وخطلٌ لا يعز أهله ، ولو وجدت بداً من خطابكم والعتاب إليكم ما فعلت ، وهذا كتابي يقرأ عليكم فردوا خيراً وافعلوه ، وما أظن أن تفعلوا ، فالله المستعان .
    أيها الناس : إن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فتحه الله لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة .
    فمن ترك الجهاد في الله ألبسه الله ثوب ذلة وشمله البلاء ، وضرب على قلبه بالشبهات ، وديث بالصغار والقماءة ، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف ، ومنع النصف .
    ألا وإني قد دعوتكم إلى جهاد عدوكم ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهراً ، وقلت لكم : أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا ، فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي ، فعصيتم واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، حتى شنت عليكم الغارات في بلادكم ، وملكت عليكم الأوطان ، وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ، فقتل بها أشرس بن حسان ، فأزال مسالحكم عن مواضعها ، وقتل منكم رجالاً صالحين ، وقد بلغني أن الرجل من أعدائكم كان يدخل بيت المرأة المسلمة والمعاهدة ،
    --------------------------- 209 ---------------------------
    فينتزع خلخالها من ساقها ، ورِعْثَها من أذنها فلا تُمتنع منه ، ثم انصرفوا وافرين لم يُكْلَم منهم رجل كَلماً ، فلو أن امرءً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً ، بل كان عندي به جديراً !
    فيا عجباً ، عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم ويُسَعِّر الأحزان ، من اجتماع هؤلاء على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، فقبحاً لكم وترحاً لقد صيرتم أنفسكم غرضاً يرمى ، يُغار عليكم ولا تغيرون ، وتُغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون ، ويقضى إليكم فلا تأنفون ، قد ندبتكم إلى جهاد عدوكم في الصيف فقلتم : هذه حمارَّة القيظ ، أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم : هذه صَبَارَّة القَرّ ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد ، فكل هذا فراراً من الحر والصَّر ، فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون فأنتم والله من حر السيوف أفر ! لا والذي نفس ابن أبي طالب بيده عن السيف تحيدون فحتى متى ،
    وإلى متى !
    يا أشباه الرجال ولا رجال ! ويا طُغام الأحلام ، أحلام الأطفال ، وعقول ربات الحجال ، الله يعلم لقد سئمت الحياة بين أظهركم ولوددت أن الله يقبضني إلى رحمته من بينكم . وليتني لم أركم ولم أعرفكم ، معرفة والله جرت ندماً وأعقبت سَدَماً ، أوْغَرتم يعلم الله صدري غيظاً ، وجرعتموني جُرَع التَّهمام أنفاساً ، وأفسدتم عليَّ رأيي وخرصي ، بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش وغيرها : إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب ! لله أبوهم ، وهل كان منهم : رجل أشد مقاساة وتجربة ولا أطول لها مراساً مني ، فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين ، ولكن لارأي لمن لا يطاع !
    فقام إليه رجل من الأزد ، يقال له حبيب بن عفيف آخذاً بيد ابن أخ له يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف فأقبل يمشي حتى استقبل أمير المؤمنين بباب السدة ، ثم جثا على ركبتيه وقال : يا أمير المؤمنين ها أنا ذا لا أملك إلا نفسي
    --------------------------- 210 ---------------------------
    وأخي ، فمرنا بأمرك فوالله لننفذن له ، ولو حال دون ذلك شوك الهراس وجمر الغضا ، حتى ننفذ أمرك أو نموت دونه ، فدعا لهما بخير ، وقال لهما : أين تبلغان مما نريد ؟
    ثم أمر الحارث الأعور الهمداني فنادى في الناس : أين من يشري نفسه لربه ويبيع دنياه بآخرته ، أصبحوا غداً بالرحبة إن شاء الله ، ولا يحضرنا إلا صادق النية في المسير معنا ، والجهاد لعدونا ، فأصبح بالرحبة نحو من ثلاث مائة ! فلما عرضهم قال : لو كانوا ألفاً كان لي فيهم رأي !
    قال : وأتاه قوم يعتذرون وتخلف آخرون فقال : وجاء المعذرون وتخلف المكذبون ! قال : ومكث أمير المؤمنين أياماً بادياً حزنه شديد الكآبة . ثم إنه نادى في الناس فاجتمعوا فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
    أما بعد أيها الناس ، فوالله لَأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب ، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين صغير مولدهما ، وما هما بأقدم العرب ميلاداً ، ولا بأكثرهم عدداً ، فلما آووا النبي ( ( عليهما السلام ) ) وأصحابه ونصروا الله ودينه رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وتحالفت عليهم اليهود ، وغزتهم اليهود والقبائل قبيلة بعد قبيلة ، فتجردوا لنصرة دين الله ، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل ، وما بينهم وبين اليهود من العهود ، ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة ، وأهل الحزن والسهل وأقاموا قناة الدين ، وتصبروا تحت أحلاس الجلاد ، حتى دانت لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) العرب ، ورأى فيهم قرة العين قبل أن يقبضه الله إليه ، فأنتم في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب .
    فقام إليه رجل آدم طوال فقال : ما أنت بمحمد ، ولا نحن بأولئك الذين ذكرت ، فلا تكلفنا ما لا طاقة لنا به ! فقال له علي ( عليه السلام ) : أحسن سمعاً تحسن إجابة ، ثكلتكم الثواكل ما تزيدونني إلا غماً ، هل أخبرتكم أني محمد ( ( عليهما السلام ) ) وأنكم الأنصار ؟ إنما ضربت لكم مثلاً ، وإنما أرجو أن تأسَّوا بهم !
    ثم قام رجل آخر فقال : ما أحوج أمير المؤمنين اليوم ومن معه إلى أصحاب النهروان !
    --------------------------- 211 ---------------------------
    ثم تكلم الناس من كل ناحية ولغطوا !
    فقام رجل فنادى بأعلى صوته : إستبان فقد الأشتر على أهل العراق ، وأشهد أن لو كان حياً لقل اللغط ولعلم كل امرئ ما يقول !
    فقال ( عليه السلام ) لهم : هبلتكم الهوابل لأنا أوجب عليكم حقاً من الأشتر ، وهل للأشترعليكم من الحق إلا حق المسلم على المسلم ! فغضب ، ونزل .
    فقام حجر بن عدي الكندي وسعيد بن قيس الهمداني فقالا : لايسوؤك الله يا أمير المؤمنين ، مرنا بأمرك نتبعه فوالله ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدت ، ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك ، فقال لهم : تجهزوا للمسير إلى عدونا . فلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه قال لهم : أشيروا علي برجل صليب ناصح يحشرالناس من السواد ، فقال له سعيد بن قيس الهمداني : يا أمير المؤمنين أشير عليك بالناصح الأريب الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي ، قال : نعم ، ثم دعاه فوجهه فسار ، فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . عن أبي مسلم : سمعت علياًيقول : لولابقية المسلمين لهلكتم ) .
    2 . هذه الخطبة متواترة ، رواها المحدثون والمؤرخون والأدباء ، وتفاوتت روايتهم في مناسبتها ، وهل كانت مكتوبة أو مرتجلة وقد رواها البلاذري ( 2 / 441 ) بنحو ما تقدم ، وذكر أن خبر الغارة جاءه وكان مريضاً ، فكتب هذه الخطبة وتليت عنه وهو حاضر . والمتحصل من مصادرها ، أن الخبر جاءه ( عليه السلام ) وهو مريض فنهض وخرج إلى المسجد وخطب ودعا الناس إلى الخروج لرد الغارة ، فلم يستجيبوا له ، فغضب وذهب ماشياً إلى النخيلة فلحقه الناس ، فخطب على ربوة هناك ، وأرسل سعيد بن قيس في ثمانية آلاف لرد الغارة ومطاردتها ، ورجع ، واشتد مرضه ، فكتب الخطبة ودعا صاحب شرطته ، فتلاها وهو حاضر .
    قال القاضي النعمان في شرح الأخبار ( 2 / 74 ) : ونهج البلاغة ( 4 / 62 ) : ( لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار فخرج بنفسه ماشياً حتى أتى النخيلة ، فأدركه الناس وقالوا يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم فقال : والله ما تكفونني أنفسكم
    --------------------------- 212 ---------------------------
    فكيف تكفونني غيركم ! إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها ، وإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي ، كأنني المقود وهم القادة ، أو الموزوع وهم الوَزَعة ) !
    وفي معاني الأخبار للصدوق / 92 : ( فخرج مغضباً يجر ثوبه حتى أتى النخيلة وأتبعه الناس ، فرقى رباوة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( ( عليهما السلام ) )
    ثم قال ، وأورد نحوها مختصراً ، وقال : فقام إليه رجل ومعه أخوه فقال : يا أمير المؤمنين أنا وأخي هذا كما قال الله عز وجل حكاية عن موسى : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي ، فمرنا بأمرك فوالله لننتهين إليه ولو حال بينا وبينه جمر الغضا وشوك القتاد ! فدعا له بخير ثم قال : وأين تقعان مما أريد ؟ ! ثم نزل ( عليه السلام ) ) . ورواها الطبري مختصرة ( 4 / 103 ) .
    ورواها الشريف الرضي ( نهج البلاغة : 1 / 67 ) قال : ومن خطبة له ( عليه السلام ) في دعوة الناس لرد غارة معاوية على الأنبار ، . إلى قوله ( عليه السلام ) : ولكن لارأي لمن لا يطاع ) .
    3 . وقال في شرح النهج ( 2 / 75 ) : هذه الخطبة من مشاهير خطبه ( عليه السلام ) قد ذكرها كثير من الناس ، ورواها أبو العباس المبرد في أول الكامل ، وأسقط من هذه الرواية ألفاظاً وزاد فيها ألفاظاً ، وقال في أولها : إنه انتهى إلى علي ( عليه السلام ) أن خيلاً وردت الأنبار لمعاوية فقتلوا عاملاً له يقال له حسان بن حسان ، فخرج مغضباً يجر رداءه حتى أتى النخيلة ، واتبعه الناس فرقى رباوة من الأرض ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ص ، ثم قال : أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . . إلى قوله : لا يطاع .
    وفي شرح النهج ( 2 / 88 ) : ( وقدم علج من أهل الأنبار على علي ( عليه السلام ) فأخبره الخبر ، فصعد المنبر فخطب الناس ، وقال : إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار ، وهومعتز لا يخاف ما كان ، واختار ما عند الله على الدنيا ، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم ، فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا . ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه ، أو يتكلم منهم متكلم ، فلم ينبس أحد منهم بكلمة ، فلما رأى صمتهم نزل ، وخرج يمشي راجلاً حتى أتى النخيلة ، والناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم ، فقالوا : إرجع يا أمير المؤمنين نحن نكفيك ، فقال : ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم . فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله ، فرجع وهو واجم كئيب ، ودعا سعيد
    --------------------------- 213 ---------------------------
    بن قيس الهمداني ، فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف ، وذلك أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف . . الخ . !
    وهذه الرواية في ظرف الخطبة أكثرمعقولية . فقد كان الإمام ( عليه السلام ) مريضاً وخرج وخطب ، فلم يستجيبوا له ، وخرج ماشياً إلى النخيلة وهي مسير ساعة أو أكثر ، فلحقه جمهور من الناس ، وخطب فيهم ، وأرسل سعيداً لرد الغارة ، فلما رجعوا بعد أسابيع كان مريضاً فكتب الخطبة وتلاها صاحب شرطته بحضوره .
    4 . ونقل الصدوق / 310 ، تفسير ألفاظها عن المبرد ، وقد اشتبه المبرد فتصور أن سيماء بالمد العلامة ، بينما هي فعل للمجهول من الوسم . وخلاصة ما نقله عنه الصدوق : وديث الصغار : بعير مديث أي مذلل . في عقر ديارهم : أي في أصل ديارهم ، والعقر الأصل ومن ثم قيل لفلان عقار أي أصل مال . تواكلتم أحال به كل واحد إلى الآخر . واتخذتموه وراءكم ظهرياً : أي لم تلتفتوا إليه . حتى شنت عليكم الغارات يقول : صبت . يقال : شننت الماء على رأسه أي صببته . فتنتزع أحجالها : الخلاخيل واحدها حجل . رِعَثها : الشنوف واحدها رعثة وجمعها رعاث . ثم انصرفوا موفورين : من الوفر يقال : فلان موفور وفلان ذو وفر . لم يُكْلم أحد منهم كَلْماً : كل جرح صغير أو كبير فهو كلم . وقوله : مات من دون هذا أسفاً يقول : تحسراً . وقوله : قلتم هذا أوان قرٍّ وصرٍّ فالصر : شدة البرد ، قال الله عز وجل : كمثل ريح فيها صر . وقوله : هذه حمارة القيظ ، فالقيظ : الصيف ، وحمارته : اشتداد حره ) .
    وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 2 / 75 ) ملخصاً : ( ديث بالصغار : أي مذلل ، ومنه الديوث : الذي لا غيرة له . والصَّغار : الذل والضيم . والقَمَاء بالمد : مصدر قمؤ الرجل قماء وقماءة ، أي صار قميئاً وهو الصغيرالذليل ، فأما قمَأ بفتح الميم فمعناه سمن ، ومصدره القموء والقموءة .
    وقوله ( عليه السلام ) : وضرب على قلبه بالإسهاب ، فالإسهاب هنا ذهاب العقل ويمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام كأنه عوقب بأن يكثر
    --------------------------- 214 ---------------------------
    كلامه فيما لا فائدة تحته . وأديل الحق منه بتضييع الجهاد : المراد : وأديل الحق منه لأجل تضييعه الجهاد ، فالباء هنا للسببية كقوله تعالى : ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ والنصَف : الإنصاف . وتواكلتم : أحال به كل واحد على الآخر ، ومنه رجل وكل ، أي عاجز . والمسالح : جمع مسلحة وهي كالثغر والمرقب ، وفي الحديث : كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب . والمعاهدة : ذات العهد وهي الذمية . والحجل : الخلخال ، ومن هذا قيل للفرس محجل ورعثها : شنوفها ، جمع رعاث بكسر الراء . والقُلُب : جمع قلب وهو السوار المصمت . وفي رواية المبرد : فتواكلتم وتخاذلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، قال : أي رميتم به وراء ظهوركم . في المثل : لا تجعل حاجتي منك بظهر وفي رواية المبرد أيضاً : وفشلكم عن حقكم ، الفشل : الجبن والنكول عن الشئ : فقبحاً لكم وترحاً ، دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير ، وأن يخزيهم ويسوءهم . والغرض : الهدف . وحمارَّة القيظ : بتشديد الراء : شدة حره . ويُسَبِّخ عنا الحر أي يخف ، وفي الحديث أن عائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئاً فقال لها النبي ( ( عليهما السلام ) ) : لا تسبخي عنه بدعائك . وصبارَّة الشتاء بتشديد الراء : شدة برده ، ولم يرو المبرد هذه اللفظة ، ورويَ : إذا قلت لكم أغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر وصر ، وإن قلت لكم أغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر . ولم يرو المبرد : حلوم الأطفال ، وروى عوضها : يا طغام الأحلام ، وقال : الطغام : من لا معرفة عنده ، ومنه قولهم : طغام أهل الشام . وربات الحجال : النساء ، والحجال : جمع حجلة ، وهي بيت يزين بالستور والثياب والأسرة . والسدم : الحزن والغيظ . والقيح : ما يكون في القرحة من صديدها . وشحنتم : ملأتم . والنَّغَب : جمع نغبة وهي الجرعة
    والتهمام بفتح التاء : الهم وكذلك كل تَفعال كالتَّرداد والتكرار والتجوال إلا التبيان والتلقاء فإنهما بالكسر . وأنفاساً : أي جرعة بعد جرعة . وذرَّفْتُ على الستين : أي زدت ، ورواها المبرد : نيفتُ ) .
    وأضاف في شرح النهج ( 2 / 83 ) : ( استطراد بذكركلام لابن نباتة في الجهاد . .
    ثم قال : واعلم أني أضرب لك مثلاًتتخذه دستوراً في كلام أمير المؤمنين وكلام الكتَّاب
    --------------------------- 215 ---------------------------
    والخطباء بعده كابن نباتة والصابئ وغيرهما ، أنظر نسبة شعر أبي تمام والبحتري وأبي نؤاس ومسلم ، إلى شعر امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى ، هل إذا تأملت أشعار هؤلاء وأشعار هؤلاء ، تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نؤاس وأصحابه عليهم ؟
    ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت ، ولا يقوله إلا من لا يعرف علم البيان ، وماهية الفصاحة ، وكنه البلاغة ، وفضيلة المطبوع على المصنوع .
    فإذا أقررت من نفسك بالفرق والفضل ، وعرفت فضل الفاضل ، ونقص الناقص ، فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى هؤلاء هذه النسبة ، بل أظهر ، لأنك تجد في شعر امرئ القيس وأصحابه من التعجرف والكلام الوحشي ، واللفظ الغريب المستكره شيئاً كثيراً ، ولا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شيئاً ، وأكثر فساد الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك .
    فإن شئت أن تزداد استبصاراً ، فانظر القرآن العزيز واعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة ، وتأمله تأملاً شافياً ، وانظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة والبعد عن التقعير والتقعيب والكلام الوحشي الغريب ، وانظر كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإنك تجده مشتقاً من ألفاظه ، ومقتضباً من معانيه ومذاهبه ، ومحذواً به حذوه ، ومسلوكاً به في منهاجه ، فهو وإن لم يكن نظيراً ولا نداً يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل ، ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل ، إلا أن يكون كلام ابن عمه ( ( عليهما السلام ) )
    وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة ، وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر ، بل ولا لانتقاد الذهب ، ولكل صناعة أهل ، ولكل عمل رجال ) !
    5 . وروى ابن أبي الحديد ( 2 / 89 ) وغيره خطبة أخرى بعد هذه الخطبة ، قال : ( ثم أمر الحارث الأعور الهمداني فنادى في الناس : أين من يشتري نفسه لربه ويبيع دنياه بآخرته ؟ أصبحوا غداً بالرحبة إن شاء الله ، ولا يحضر إلا صادق النية في السير
    --------------------------- 216 ---------------------------
    معنا والجهاد لعدونا . فأصبح وليس بالرحبة إلا دون ثلاث مائة ، فلما عرضهم قال : لو كانوا ألفاً كان لي فيهم رأي ! وأتاه قوم يعتذرون فقال : وجاء المعذرون ، وتخلف المكذبون ! ومكث أياماً بادياً حزنه شديد الكآبة ، ثم جمع الناس فخطبهم ، وأوردها بنحو ما تقدم وفي آخرها إرسال معقل بن قيس التميمي ، ليجمع الناس ويرد غارة معاوية ويكون مقدمة جيشه إلى صفين .
    الغارة الثالثة : غارة النعمان بن بشير
    رواها الثقفي ( 2 / 445 ) وأخذها منه البلاذري ، فجاءت في كلا المصدرين في نفس المجلد والصفحة ! ذكر أن معاوية كان بعث النعمان وأباهريرة إلى علي ( عليه السلام ) يدعوانه إلى أن يسلِّم قتلة عثمان ، وأن النعمان تأخر في الكوفة أشهراً مظهراً لعليّ ( عليه السلام ) والأنصار أنه معهم ، ثم هرب إلى معاوية ! قالت الرواية : ( فأتياه فدخلا عليه فقال له أبو هريرة : يا أباحسن إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلاً وشرفاً ، أنت ابن عم محمد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمراً تهدأ به هذه الحرب ويصلح الله به ذات البين ، أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به ، ثم يجمع الله به أمرك وأمره ويصلح الله بينكم ، وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة ، ثم تكلم النعمان بنحو من هذا . فقال ( عليه السلام ) لهما : دعا الكلام في هذا . حدثني عنك يا نعمان أنت أهدى قومك سبيلاًيعني الأنصار ؟ قال : لا ، فقال : كل قومك قد اتبعني إلا شذاذاً منهم ثلاثة أو أربعة ، أفتكون أنت من الشذاذ !
    فقال النعمان : أصلحك الله ، إنما جئت لأكون معك وألزمك ، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام ، وقد كنت رجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك ، وطمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحاً ، فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك !
    وكذب النعمان ففي الرواية : فأقام بعده أشهراً ثم خرج فاراً من علي ( عليه السلام ) حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي عليها فأراد حبسه وقال له : ما مر بك ههنا ؟ قال : إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت ، فحبسه
    --------------------------- 217 ---------------------------
    ثم قال : كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك ، فناشده وعظم عليه أن يكتب إلى علي ( عليه السلام ) فيه ، وقد كان قال لعلي : إنما جئت لأقيم ، فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري وهو بجانب عين التمر يجبي خراجها لعلي ( عليه السلام ) فجاء مسرعاً حتى وصل إلى مالك بن كعب ، فقال له : خل سبيل هذا الرجل يرحمك الله ! فقال له : يا قرظة إتق الله ولا تتكلم في هذا ، فإن هذا لو كان من عُبَّاد الأنصار ونُسَّاكهم ما هرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين ! فلم يزل يقسم عليه حتى خلى سبيله ، فقال له : يا هذا لك الأمان اليوم والليلة وغداً ، ثم قال : والله لئن أدركتك بعدها لأضربن عنقك ! فخرج مسرعاً لايلوي على شئ ، وذهبت به راحلته فلم يدر أين يتسكع من الأرض ، وأصبح ثلاثاً لا يدري أين هو ! قال النعمان : والله ما علمت أين أنا حتى سمعت قائلة تقول وهي تطحن :
    شربت مع الجوزاء كأساً رويةً * وأخرى مع الشعرى إذا ما استقلت
    معتقة كانت قريش تصونها * فلما استحلوا قتل عثمان حلت
    فعلمت أني عند حي من أصحاب معاوية ، وإذا الماء لبني القين ، فعلمت عند ذلك أني قد انتهيت إلى مأمني ، ثم انتهى حتى قدم على معاوية فخبره بما كان ولقي ، ثم لم يزل مع معاوية مناصحاً مجالداً لعلي ( عليه السلام ) ، ويتتبع قتلة عثمان حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق ، ثم انصرف إلى معاوية .
    وقد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة : أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق ، فقال له النعمان : ابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوى ، وكان النعمان عثمانياً ، قال فانتدب على اسم الله فانتدب وندب معه ألفي رجل ، وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات ، وأن لايغيرإلا على مسلحة ، وأن يعجل بالرجوع ! فأقبل النعمان بن بشير حتى دنا من عين التمر ، وكان بها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له معه ما ذكرناه ، وكان معه بها ألف رجل وقد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة ، فلم يك بقي معه إلا مائة أو نحوها ، فكتب مالك إلى علي ( عليه السلام ) : أما بعد فإن النعمان
    --------------------------- 218 ---------------------------
    بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف فَرَ ما أنت ترى . سددك الله تعالى وثبتك . والسلام .
    فاستعان مالك بن كعب مخنف بن سليم . قال عبد الله بن مخنف : فندب معي أبي مخنف خمسين رجلاً ، ولم يوافه يومئذ غيرهم ، فبعثني عليهم فانتهيت إلى مالك بن كعب وهو في مائة والنعمان وأصحابه قاهرون لمالك فانتهينا إليه مع الماء ، فلما رأوني ظنوا أن ورائي جيشاً فانحازوا ، فالتقيناهم فقاتلناهم وحجز الليل بيننا وبينهم وهم يظنون أن لنا مدداً فانصرفوا ، فقتل من أصحاب مالك بن كعب عبد الرحمن بن حرم الغامدي ، وضرب مسلم بن عمرو الأزدي على قمته فكسر ، وانصرف النعمان .
    فبلغ الخبر علياً ( عليه السلام ) فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أهل الكوفة المنسر من مناسر أهل الشام ، إذا أظل عليكم أغلقتم أبوابكم وانجحرتم في بيوتكم انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها ، الذليل والله من نصرتموه ، ومن رمى بكم رمى بأفوق ناصل ، أفٍّ لكم لقد لقيت منكم ترحاً ، ويحكم يوماً أناجيكم ويوماً أناديكم ، فلا أحرارٌ عند النداء ، ولاإخوان صدق عند اللقاء ، أنا والله منيت بكم ، صمٌّ لا تسمعون ، بكمٌ لاتنطقون ، عميٌ لا تبصرون ، فالحمد لله رب العالمين .
    ويحكم أخرجوا إلى أخيكم مالك بن كعب فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير ، فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الظالمين طرفاً ، ثم نزل فلم يخرجوا ، فأرسل إلى وجوههم وكبرائهم فأمرهم أن ينهضوا ويحثوا الناس على المسير ، فلم يصنعوا شيئاًً ! فقام عدي بن حاتم فتكلم فقال : هذا والله الخذلان القبيح ، هذا والله الخذلان غيرالجميل ، ما على هذا بايعنا أمير المؤمنين ثم دخل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين إن معي ألف رجل من طئ لايعصونني ، فإن شئت أن أسير بهم سرت ؟ قال : ما كنت لأعرض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس ، ولكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم ، فخرج فعسكر ، وفرض علي ( عليه السلام ) سبع مائة لكل رجل ، فاجتمع إليه ألف فارس عدا طيئاً أصحاب عدي بن حاتم ، فسار بهم على شاطئ الفرات ، فأغار في أداني الشام ، ثم أقبل .
    ثم ذكر الثقفي غارة النعمان فقال : ( عن أبي صالح الحنفي قال : رأيت علياً ( عليه السلام )
    --------------------------- 219 ---------------------------
    يخطب وقد وضع المصحف على رأسه حتى رأيت الورق يتقعقع على رأسه فقال : اللهم قد منعوني ما فيه فأعطني ما فيه ، اللهم قد أبغضتهم وأبغضوني ، ومللتهم وملوني ، وحملوني على غير خلقي وطبيعتي ، وأخلاق لم تكن تعرف لي ، اللهم فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شراً مني ، اللهم مث قلوبهم
    كما يماث الملح في الماء ) !
    وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال يومئذ ( نهج البلاغة : 1 / 91 ) : ( منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت ! لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم ، أما دين يجمعكم ولا حمية تحمشكم ! أقوم فيكم مستصرخاً وأناديكم متغوثاً ، فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً ، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة ، فما يدرك بكم ثار ولا يبلغ بكم مرام ! دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرِّ ، وتثاقلتم تثاقل النِّضْو الأدبر ، ثم خرج إلي منكم جُنيد متذائب ضعيف : كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وهُمْ يَنْظُرُونَ ! ) . والأسَرّ : المريض .
    والأدبر : المجروح .
    ملاحظات
    1 . كانت الأنصار عامةً مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وشذ منها النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد . وكانت قريش عامة مع معاوية إلا خمسة من شخصياتها .
    قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكشي : 1 / 281 ) : « كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية . فأما الخمسة فمحمد بن أبي بكر رحمة الله عليه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس ، وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان : إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي ( ( عليهما السلام ) ) أبو الربيع » .
    --------------------------- 220 ---------------------------
    2 . النعمان بن بشير ، ومسلمة بن مخلد ، وزيد بن ثابت ، من صبيان الأنصار وكانوا عند وفاة النبي ( ( عليهما السلام ) ) صغاراً دون العشر سنوات ، وكانوا يخدمون في دار الخلافة عند أبي بكر وعمر وعثمان ، فنشؤوا على سفرة الخليفة وعطائه ، وتربوا على حب بني أمية ، وبغض عترة النبي ( ( عليهما السلام ) ) !
    وقد وثقنا في تدوين القرآن أن زيد بن ثابت يهودي ، وأمه أنصارية . أما النعمان ومسلمة فهما خزرجيان موظفان عند بني أمية ، ولما قتل عثمان أرسلت زوجته نائلة النعمان بن بشير بقميصه وأصابعه إلى معاوية .
    وكان النعمان ومسلمة مع معاوية في صفين فشكا اليهما فقال ( صفين / 445 ) :
    ( يا هذان ، لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج ، صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال ، حتى والله جبنوا أصحابي الشجاع والجبان ، وحتى والله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلا قالوا قتلته الأنصار . أما والله لألقينهم بحدي وحديدي ، ولأعبين لكل فارس منهم فارساً ينشب في حلقه ) !
    3 قال ابن قتيبة في الإمامة ( 1 / 97 ) : ( ذكروا أن النعمان بن بشير وقف بين الصفين فقال : يا قيس بن سعد ، أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه . إنكم يا معشر الأنصار أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار ، وقتلكم أنصاره يوم الجمل ، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً ، كان هذا بهذا ، ولكنكم خذلتم حقاً ونصرتم باطلاً . . وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم ، ونحن أحسن بقية وأقرب إلى الظفر ، فاتقوا الله في البقية !
    فضحك قيس ، وقال : والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام ! أما المنصف المحق فلاينصح أخاه إن غش نفسه ، وأنت والله الغاش لنفسه الضال المضل المبطل فيم انتصح غيره . أما ذكرك عثمان فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه ، قتل عثمان من لست خيراً منه ، وخذله من هو خير منك . وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث . وأما معاوية فلو اجتمعت العرب على بيعته لقاتلتهم الأنصار . وأما قولك إنا لسنا كالناس فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) نتقي السيوف بوجوهنا ، والرماح بنحورنا ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون !
    --------------------------- 221 ---------------------------
    ولكن أنظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقاً أعرابياً أو يمانياً مستدرجاً ؟ وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ؟ ثم أنظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك ، ولستما والله بدريين ولا عقبيين ، ولا لكما سابقة في الإسلام ، ولا آية في القرآن ! وقال قيس في ذلك ( ابن الأعثم : 3 / 168 ) :
    والراقصات بكل أشعث أغبر * خوص العيون تحثها الركبان
    ما ابن المخلد ناسياً أسيافنا * فيمن نحاربه ولا النعمان
    تركا العيان وفي العيان كفاية * لو كان يدفع صاحبيك عيان
    وجدا معاوية بن صخر شبهه * فيها التلبس والبيان يهان ) .
    4 . ولما كان قيس بن سعد والي علي ( عليه السلام ) على مصر أرسل معاوية مسلمة إلى مصر ، قال الطبري ( 3 / 551 ) : ( وثب مسلمة بن مخلد الأنصاري فنعى عثمان بن عفان ، ودعا إلى الطلب بدمه ، فأرسل إليه قيس بن سعد : ويحك عليَّ تثب ! فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك ! فبعث إليه مسلمة أني كافٌّ عنك ما دمت أنت والي مصر ) .
    وتقدم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمر قيساً بأن يناجز مسلمة ومن معه في خربتا قرب الإسكندرية ، فلم يطعه قيس ، واضطر الإمام ( عليه السلام ) إلى عزله عن ولاية مصر !
    5 . جعلت السلطة النعمان ومسلمة صحابيين كبيرين ، وروت عنهما مصادرهم ، ورووا عن مسلمة أنه كان يقول بنقص القرآن ، وقد أخذه عن أئمته الأمويين والقرشيىن ، قال الهروي المتوفى / 224 ، في فضائل القرآن ( 1 / 172 ) : ( قال مسلمة : أخبروني بآيتين من القرآن لم يكتبا في المصحف ، فلم يخبروه ، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال مسلمة : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا وأنتم المفلحون ) .
    6 . أما النعمان فأرسله معاوية مع أبي هريرة إلى علي ( عليه السلام ) فأفحمه علي ( عليه السلام ) ، فزعم كاذباً أنه لم يأت رسولاً من معاوية وأنه جاء للإنضمام إلى علي ( عليه السلام ) ، وبقي
    --------------------------- 222 ---------------------------
    في الكوفة أشهراً ، وكان في الواقع جاسوساً لمعاوية ، ثم هرب اليه .
    7 . كانت غارة النعمان فاشلة ، كشفت جبنه وجبن جنوده ، مع أنهم كانوا عشرة أضعاف الذين قاتلوهم من شيعة علي ( عليه السلام ) .
    الغارة الرابعة : غارة ابن مسعدة الفزاري
    قال البلاذري ( 2 / 448 ) : ( الرابع من غارات معاوية على أطراف بلاد المسلمين : غارة ابن مسعدة الفزاري . قالوا : ودعا معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة الفزاريّ ، فبعثه إلى تيماء ، وضم إليه ألفاً وسبع مائة ، وأمره أن يصدق من مر به من العرب ، ويأخذ البيعة له على من أطاعه ، ويضع السيف على من عصاه ، ثم يصير إلى المدينة ومكة وأرض الحجاز ، وأن يكتب إليه في كل يوم بما يعمل به ويكون منه ، فانتهى ابن مسعدة إلى أمره وبلغ خبره علياً ( عليه السلام ) ، فندب المسيب بن نجبة الفزاري في كنف من الناس في طلبه ، فقال له : إنك يا مسيب من أثق بصلاحه وبأسه فسار المسيب حتى أتى الجناب ، ثم أتى تيماء .
    وانضم إلى عبد الله بن مسعدة قوم من رهطه من بني فزارة ، وانضم إلى ابن نجبة قوم من رهطه من بني فزارة ، فالتقى هو وابن مسعدة فاقتتلوا قتالاً شديداً وأصابت ابن مسعدة جراحات ، ومضى قوم من أصحابه إلى الشام منهزمين لايلوون عليه ، وبقي معه قوم منهم فلجأ ولجأوا إلى حائط حول حصن تيماء محيط به قديم ، فجمع المسيب حوله الحطب وأشعل فيه النار ، فناشدوه أن لا يحرقهم وكلم فيهم ، فأمر بإطفاء تلك النار ، وكان على الثلمة التي يخرج منها إلى طريق الشام عبد الرحمان بن أسماء الفزاري .
    فلما جنّ عليه الليل خلى سبيلهم فمضوا حتى لحقوا بمعاوية ، وأصبح المسيب فلم يجد في الحصن أحداً ، فسأله بعض أصحابه أن يأذن له في اتباع القوم فأبى ذلك . وقدم المسيب على علي ( عليه السلام ) وقد بلغه الخبر ، فحجبه أياماً ثم دعا به فوبخه وقال له : يا مسيب حابيت قومك وداهنت وضيعت ! فاعتذر إليه وكلمه وجوه أهل الكوفة في الرضاء عنه ، فلم يجبهم ، وربطه إلى سارية من سواري المسجد ، ويقال إنه حبسه ! ثم دعا به فقال له : إنه قد كلمني فيك من أنت أرجى عندي منه ، فكرهت أن يكون لأحد
    --------------------------- 223 ---------------------------
    منهم عندك يد دوني وأظهرالرضا عنه ، وولاه قبض الصدقة بالكوفة ، فأشرك في ذلك بينه وبين عبد الرحمان بن محمد الكندي ثم إنه حاسبهما فلم يجد عليهما شيئاً ، فوجههما بعد ذلك في عمل ولاهما إياه ، فلم يجد عليهما سبيلاً فقال : لو كان الناس كلهم مثل هذين الرجلين الصالحين ماضر صاحب غنم لو خلاها بلا راع ، وما ضر المسلمات لا تغلق عليهن الأبواب ، وما ضر تاجر لو ألقي تجارته بالعراء ) ! واليعقوبي ( 2 / 196 ) والطبري ( 4 / 103 ) .
    ملاحظات
    1 . من عجائب المقادير أن عبد الله بن مسعدة الفزاري هذا ، سُبِيَ وهو طفل ، فأعطاه النبي ( ( عليهما السلام ) ) إلى ابنته الزهراء ( عليها السلام ) فربته هي وعلي ( عليه السلام ) ثم أعتقته فكان جزاؤهما أن الفزاري صار من أشد الناس عداوة لعترة النبي ( ( عليهما السلام ) ) !
    قال ابن حجر في الإصابة ( 4 / 196 ) : ( وكان عبد الله في سبي بني فزارة فوهبه النبي لابنته فاطمة ( عليها السلام ) فأعتقته وكان صغيراً ، فتربى عندها ، ثم كان بعد ذلك عند معاوية ، وصار أشد الناس على علي ) !
    وفي تاريخ دمشق ( 12 / 238 ) : ( كان غلاماً ربته فاطمة وعلي ، وأعتقته ، فكان بعد ذلك مع معاوية ، أشد الناس على علي رضي الله تعالى عنه ) .
    وروي أن أم قرفة كانت جدة عبد الله بن مسعدة ، أو أمه . ( الإصابة : 4 / 196 ) .
    2 . سبب سبيه أن بني فزارة نصبوا العداء للنبي ( ( عليهما السلام ) ) وكان فيهم امرأة مسنة تسمى أم قرفة تجمع المغنيات فيغنين بذم النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وقد أعدت ثلاثين أو أربعين فارساً من ذريتها ، وقالت لهم أغيروا على المدينة واقتلوا محمداً ! فأغاروا هم وغيرهم على المدينة فردهم المسلمون ، وقتل منهم مسعدة أبو عبد الله ، وكان عائلته معه فسبوا ابنه وبنته وهما طفلان !
    قال ابن حجر في الإصابة ( 4 / 197 ) إن مسعدة قتله أبو قتادة في غارة فزارة على المدينة ، فأخذوا طفليه سبياً ، قال : دخل أبو قتادة على معاوية وعليه برد عدني وعند معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري فسقط رداء أبي قتادة على عبد الله بن
    --------------------------- 224 ---------------------------
    مسعدة فنفضها عنه بغضب ! فقال أبو قتادة من هذا يا أمير المؤمنين ؟ قال عبد الله بن مسعدة . قال : أنا والله دفعت بحصين أبي هذا بالرمح ، يوم أغار على سرح المدينة ! فسكت عبد الله بن مسعدة ) !
    يقول أنا طعنت أباه يوم أغاروا ، وكان ابنه عبد الله طفلاً فتركته أمه وهربت . وبعد غارتهم اعترض بنو فزارة طريق زيد بن حارثة وهو مسافر ، فنهبوا متاعه وآذوه ، فأمره النبي ( ( عليهما السلام ) ) بغزوهم فغزاهم ، وقتل أم قرفة .
    3 . كان عبد الله هذا أسود شديد السواد ، فخصه معاوية بجارية بيضاء ليبيض بها أولاده ! ففي تاريخ دمشق ( 12 / 238 ) : ( حدثني حديج خصي لمعاوية ، قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلتها عليه مجردة ( عارية ) وبيده قضيب ، فجعل يهوي به إلى متاعها ، ويقول هذا المتاع لو كان له متاع ! إذهب بها إلى يزيد بن معاوية . ثم قال : لا ، أدع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري فدعوته وكان آدم شديد الأدمة ( السمرة ) فقال : دونك هذه بيض بها ولدك ) . يعني جاؤوا لمعاوية بجارية عارية تماماً ، فضرب بخيزرانته على فرجها ، وقال نعم المتاع لمن عنده متاع ، أما هو فعاجز جنسياً ولذلك أعطاها إلى غلامه عبد الله بن مسعدة . وكان عبد الله قائداً مطيعاً لمعاوية .
    قال في الإصابة ( 4 / 197 ) : ( كان يؤمرعلى الجيوش في غزو الروم أيام معاوية ، وهو من صغارالصحابة ، ذكره البغوي وغيره في الصحابة ) .
    بل هو من صبيان بني أمية كمسلمة بن مخلد والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت .
    4 . سبب غضب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على المسيب بن نجبة الفزاري أنه كان يجب عليه أقلاً أن يأسر ابن مسعدة ومن معه بعد أن هرب جيشه وبقي في قلة ، وحاصرهم في حصن . وكان لعلي ( عليه السلام ) أسرى عند معاوية يحتاجون إلى مبادلة ، لكنه سهل له الهروب ، ولم يسمح لجنوده أن يتبعوه ليمسكوه !
  • *
    --------------------------- 225 ---------------------------
    الغارة الخامسة : غارة بُسرعلى الحرمين واليمن
    خلاصة الغارة برواية اليعقوبي
    وهي أشرس غارات معاوية ، وأكثرها فتكاً وتخريباً ونهباً وحرقاً وتقتيلاً !
    فقد بلغ قتلاها ثلاثون ألفاً ! قال اليعقوبي ( 2 / 197 ) : ( وجه معاوية بُسر بن أبي أرطاة من بني عامر بن لؤي ، في ثلاثة آلاف رجل ، فقال له : سر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها ، وأخف من مررت به ، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا ، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم ، وأنه لا براءة لهم عندك ولا عذر ، وسر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد ، وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة ، واجعلهم شرادات . ثم امض حتى تأتي صنعاء ، فإن لنا بها شيعة ، وقد جاءني كتابهم . فخرج بسر ، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية حتى قدم المدينة ، وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحى عن المدينة ، ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال : يا أهل المدينة ! مثل السوء لكم ، قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل وجعلكم أهله ، شاهت الوجوه . ثم ما زال يشتمهم حتى نزل !
    قال : فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج النبي ( ( عليهما السلام ) ) فقال : إني قد خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلال ! قالت : إذاً فبايع ، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلُب ، ويحضرون الأعياد مع قومهم . وهدم بسر دوراً بالمدينة ، ثم مضى حتى أتى مكة ، ثم مضى حتى أتى اليمن ، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس .
    وبلغ علياً الخبر ، فقام خطيباً فقال : أيها الناس إن أول نقصكم ذهاب أولي النُّهى والرأي منكم ، الذين يحدثون فيصدقون ويقولون فيفعلون ، وإني قد دعوتكم عوداً وبدأً ، وسراً وجهراً ، وليلاً ونهاراً ، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً ،
    --------------------------- 226 ---------------------------
    ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة !
    أما والله إني لعالم بما يصلحكم ، ولكن في ذلك فسادي ، أمهلوني قليلاً ، فوالله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم ويعذبه الله بكم !
    إن من ذل الإسلام وهلاك الدين ، أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجيبون ، وأدعوكم وأنتم لا تصلحون فتراعون ! هذا بسر قد صار إلى اليمن وقبلها إلى مكة والمدينة ! فقام جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أمير المؤمنين ! لا عدمنا الله قربك ، ولا أرانا فراقك ، فنعم الأدب أدبك ، ونعم الإمام والله أنت ، أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم !
    قال : تجهز فإنك ما علمتك رجل في الشدة والرخاء ، المبارك الميمون النقيبة ، ثم قام وهب بن مسعود الخثعمي فقال : أنا أنتدب يا أمير المؤمنين . قال : إنتدب بارك الله عليك . فخرج جارية في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين وأمرهما علي أن يطلبا بسراً حيث كان حتى يلحقاه ، فإذا اجتمعا فرأس الناس جارية ، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة حتى التقيا بأرض الحجاز ، ونفذ بسر من الطائف حتى قدم اليمن وقد تنحى عبيد الله بن عباس عن اليمن ، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثي ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه مالك بن عبد الله ، وقد كان عبيد الله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة قارظ الكنانية وهي أمهما ، وخلف معها رجلاً من كنانة ، فلما انتهى بسر إليها دعا ابني عبيد الله ليقتلهما ، فقام الكناني فانتضى سيفه وقال : والله لأقتلن دونهما فألاقي عذراً لي عند الله والناس فضارب بسيفه حتى قتل ! وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن : يا بسر ! هذا ، الرجال يقتلون فما بال الولدان ! والله ما كانت الجاهلية تقتلهم ، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء ! فقال بسر : والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف ! وقدم الطفلين فذبحهما ( بيده بخنجره ) ! فقالت أمهما ترثيهما :
    ها من أحس بنيَّيَّ اللذين هما * سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
    ها من أحس بنيي اللذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
    --------------------------- 227 ---------------------------
    ها من أحس بنيي اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف
    نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا * من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
    أنحى على ودجي ابني مُرهفةً * مشحوذة وكذاك الأمر مقترف
    من دل والهة حرى وثاكلة * على صبيين ضلا إذ غدا السلف
    ثم جمع بسر أهل نجران فقال : يا إخوان النصارى ! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمر أكرهه لأكثرن قتلاكم ! ثم سار نحو جيشان ، وهم شيعة لعلي ، فقاتلهم فهزمهم وقتل فيهم قتلاً ذريعاً ، ثم رجع إلى صنعاء .
    وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسراً ، فهرب منه في الأرض ولم يقم له ، وقتل من أصحابه خلقاً ، وأتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ مكة ، ومر بسر حتى دخل الحجاز لا يلوي على شئ ، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة بالبيعة ، فقالوا : قد هلك عليٌّ فلمن نبايع ؟ قال : لمن بايع له أصحاب عليٍّ بعده .
    حدثني أبو خالد الوالبي قال : قرأت عهد علي لجارية بن قدامة : أوصيك يا جارية بتقوى الله ، فإنها جموع الخير ، وسر على عون الله ، فالق عدوك الذي وجهتك له ، ولا تقاتل إلا من قاتلك ، ولا تجهز على جريح ، ولا تسخرن دابة وإن مشيت ومشى أصحابك ! ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم ، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم ، ولا تشتمن مسلماً ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه ، ولا تظلمن معاهداً ولا معاهدة ، واذكر الله ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً ، واحملوا رجالتكم ، وتواسوا في ذات أيديكم ، وأجدد السير ، وأجل العدو من حيث كان ، واقتله مقبلاً واردده بغيظه صاغراً ، واسفك الدم في الحق واحقنه في الحق ، ومن تاب فاقبل توبته . وأخبارك في كل حين بكل حال ، والصدق الصدق فلا رأي لكذوب . قال وحدث أبو الكنود أن جارية مر في طلب بسر فما كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شئ حتى انتهى إلى اليمن ونجران ، وهرب منه بسر ، وحرَّق تحريقاً ، فسمي محرقاً ) .
    وذكر المؤرخون أن أبا هريرة ساعد بسراً على ظلم أهل المدينة فنصبه والياً عليها
    --------------------------- 228 ---------------------------
    من قبل معاوية ! ولما قدم جارية بن قدامة هرب منه أبو هريرة !
    قال الطبري ( 4 / 107 ) وابن كثير ( 7 / 357 ) : ( هرب بسر وأصحابه منه واتبعهم حتى بلغ مكة فقال لهم جارية : بايعونا ، فقالوا : قد هلك أمير المؤمنين فلمن نبايع ؟ قال لمن بايع له أصحاب علي ، فتثاقلوا ثم بايعوا . ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه فقال جارية : والله لو أخذت أباسنَّوْر لضربت عنقه ، ثم قال لأهل المدينة : بايعوا الحسن بن علي فبايعوه ، وأقام يومه ثم خرج إلى الكوفة ، وعاد أبو هريرة فصلى بهم ) !
    ظروف غارة بسر بن أبي أرطاة
    قال الثقفي ( 2 / 598 ) : ( عن يزيد بن جابر الأزدي قال : سمعت عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري يحدث في خلافة عبد الملك بن مروان قال : لما دخلت سنة أربعين تحدث الناس بالشام أن علياً ( عليه السلام ) يستنفر الناس بالعراق فلا ينفرون معه ، وتذاكروا أن قد اختلفت أهواؤهم ووقعت الفرقة بينهم . قال : فقمت في نفر من أهل الشام إلى الوليد بن عقبة فقلنا له : إن الناس لا يشكون في اختلاف الناس على علي بالعراق ، فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم ، أو يصلح لصاحبهم منهم ما قد فسد عليه من أمرهم . قال فقال : بلى لقد قاولته على ذلك وراجعته وعاتبته حتى لقد برم بي واستثقل طلعتي ، وأيم الله على ذلك ما أدع أن أبلغه ما مشيتم به إلي ، فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه ومقالتنا له ، فأذن لنا فدخلنا عليه فقال : ما هذا الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد ؟
    فقلنا : هذا خبر في الناس سائر ، فشمر للحرب ، وناهض الأعداء ، واهتبل الفرصة ، واغتنم الغرة ، فإنك لا تدري متى تقدر من عدوك على مثل حالهم التي هم عليها ، وأن تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك ، واعلم والله أنه لولا تفرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك ، فقال لنا : ما أستغني عن رأيكم ومشورتكم ، ومتى أحتج إلى ذلك منكم أدعكم ، إن هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صاحبهم ، واختلاف أهوائهم ، لم يبلغ ذلك عندي بهم أن أكون أطمع في استئصالهم واجتياحهم إلى أن
    --------------------------- 229 ---------------------------
    أسير إليهم مخاطراً بجندي لا أدري علي تكون الدائرة أم لي ؟ فإياكم واستبطائي فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم وأبلغ في هلاكهم قد شننت عليهم الغارات في كل جانب ، فخيلي مرة بالجزيرة ، ومرة بالحجاز ، وقد فتح الله فيما بين ذلك مصر ، فأعز بفتحها ولينا وأذل به عدونا ، فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا ، يأتوننا على قلائصهم في كل يوم ، وهذا مما يزيدكم الله به وينقصهم ، ويقويكم ويضعفهم ، ويعزكم ويذلهم ، فاصبروا ولا تعجلوا ، فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها . فخرجنا من عنده ونحن نعرف الفضل فيما ذكر ) .
    وقال البلاذري ( 2 / 454 ) : ( والخامس من غارات معاوية الشعواء على المؤمنين الأبرياء . قالوا : كان عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عامل علي على اليمن اشتد على أهل صنعاء فيما يجب عليهم ، وطرد قوماً من شيعة عثمان عنها ، وكان سعيد بن نمران الهمداني على الجند ، فصنع مثل ذلك ، فتجمعت العثمانية وادعت أن الأمر قد أفضى إلى معاوية واجتمع الناس عليه ، فكتبا بذلك إلى علي فوجّه إليهما جبر بن نوف أباالودّاك بكتاب ينسبهما فيه إلى العجز والوهن ، فأرجف عبيد الله وسعيد بن نمران بأن يزيد بن قيس الأرحبي قد فصل من عند علي في جيش عظيم يريدهم ، وسألا أباالودّاك أن يحدث بذلك ويشيعه ، ففعل فكتبوا إلى معاوية
    معاوية إلا تسرع السير نحونا * نبايع علياً أو يزيد اليمانيا
    وإن كان فيما عندنا لك حاجة * فأرسل أميراً لا يكن متوانيا
    فبعث معاوية بسر بن أبي أرطاة ) .
    اعتمد معاوية المباغتة والغدر والهرب !
    في رواية الثقفي اضطراب وتقديم وتأخير ، وقد قومناها وجعلناها متسلسلة :
    قال ( 2 / 598 ) : ( بعث معاوية عند مخرجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطاة من بني عامر بن لؤي فبعثه في ثلاثة آلاف وقال : سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن يدخل في
    --------------------------- 230 ---------------------------
    طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنك تريد أنفسهم ، وأخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر ، حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم . ثم سر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد ، وأرهب الناس فيما بين المدينة ومكة ، واجعلهم شردات ، حتى تأتي صنعاء والجَنَد ، فإن لنا بهما شيعة وقد جاءني كتابهم !
    فخرج بسر بن أبي أرطاة في ذلك البعث حتى أتى دير مران فعرضهم فسقط منهم أربع مائة ومضى في ألفين وست مائة ، فقال الوليد بن عقبة : أرينا معاوية برأينا أن يسير إلى الكوفة ، فبعث الجيش إلى المدينة ، فمثلنا ومثله كما قال الأول : أريها السهى وتريني القمر !
    فبلغ ذلك معاوية فغضب عليه وقال : والله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق الذي لا يحسن التدبير ، ولا يدري سياسة الأمور . ثم إنه كف عنه .
    ثم سار بسر بن أبي أرطاة بمن معه من جيشه ، وكانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها ، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل فيركبون إبل هؤلاء ، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب من المدينة قال : وقد روي أن قضاعة استقبلتهم ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة وعامل علي على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ، فخرج عنها هارباً ودخل بسر المدينة ، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم وقال : شاهت الوجوه ، إن الله ضرب مثلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، وقد أوقع الله ذلك المثل بكم وجعلكم أهله ، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده ، فلم تشكروا نعمة ربكم ولم ترعوا حق أئمتكم ، وقتل خليفة الله بين أظهركم فكنتم بين قاتل وخاذل وشامت ومتربص . . ثم شتم الأنصار فقال : يا معاشراليهود وأبناء العبيد بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبدالأشهل ! أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان ، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة ، فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى ويقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده
    --------------------------- 231 ---------------------------
    وقال : عشيرتك وأنصار رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وليسوا بقتلة عثمان ، فلم يزل به حتى سكن ، فدعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوا ، ونزل بسر فأحرق دوراً ، أحرق دار زرارة بن جرول أحد بني عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الزرقي ، ودار أبي أيوب الأنصاري ، وفقد جابر بن عبد الله فقال : ما لي لا أرى جابراً يا بني سلمة ؟ لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر بن عبد الله الأنصاري فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها ، فأرسلت إلى بسر بن أرطاة ، فقال : لا أؤمنه حتى يبايع ، فقالت له أم سلمة : إذهب فبايع وقالت لابنها عمر : إذهب فبايع ، فذهبا فبايعا !
    عن وهب بن كيسان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : فأتاني قومي فقالوا : ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعتَ فحقنتَ دمك ودماء قومك ، فإن لم تفعل ذلك قُتِلت مقاتلونا وسُبِيَت ذريتنا ، قال : فاستنظرتهم الليل فأتيت أم سلمة زوجة النبي فأخبرتها الخبر ، فقالت : يا بني انطلق فبايع احقن دمك ودماء قومك ، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع ، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة . قال : فأقام بسر أياماً ثم قال لهم : إني قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا لذلك بأهل ! ما قوم قتل إمامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكف عنهم العذاب ، ولئن نالكم العفو مني في الدنيا فإني لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله في الآخرة ! وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإياكم وخلافه ، ثم خرج إلى مكة !
    عن الوليد بن هشام قال : فصعد منبر النبي ( ( عليهما السلام ) ) فقال : يا أهل المدينة أخضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوباً ! والله لا أدع في المسجد مخضوباً إلا قتلته ثم قال لأصحابه : خذوا بأبواب المسجد وهو يريد أن يستعرضهم . فقام إليه عبد الله بن الزبير وأبو قيس رجل من بني عامر بن لؤي ، فطلبا إليه حتى كف عنهم !
    وخرج من المدينة فأتى مكة فلما قرب منها هرب قثم بن العباس وكان عامل علي ( عليه السلام ) ، ودخل بسر مكة فشتمهم وأنبهم ، ثم خرج من مكة ، واستعمل عليها شيبة بن عثمان الحجبي .
    عن الكلبي : أن بُسراً لما خرج من المدينة إلى مكة فقتل في طريقه رجالاً وأخذ
    --------------------------- 232 ---------------------------
    أموالاً ، وبلغ أهل مكة خبره فتنحى عنها عامة أهلها ، وتراضى الناس بشيبة بن عثمان أميراً لما خرج قثم بن العباس عنها ، فخرج إلى بُسرقوم من قريش فتلقوه فشتمهم ، ثم قال : أما والله لو تركت ورأيي فيكم لما خليت فيكم روحاً تمشي على الأرض ! فقالوا : ننشدك الله في أهلك وعشيرتك فسكت ، ثم دخل فطاف بالبيت وصلى ركعتين ثم خطبهم فقال : الحمد لله الذي أعز دعوتنا ، وجمع ألفتنا ، وأذل عدونا بالقتل والتشريد ، هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق ، قد ابتلاه الله بخطيئته ، وأسلمه بجريرته ، فتفرق عنه أصحابه ناقمين عليه تولى الأمر معاوية الطالب بدم عثمان ، فبايعوا ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً ، فبايعوا . وفَقَد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده ، وأقام أياماً ثم خطبهم فقال : يا أهل مكة إني قد صفحت عنكم فإياكم والخلاف ، فوالله لئن فعلتم لأقصدن منكم إلى التي تبير الأصل وتَحْرُب المال وتُخرب الديار .
    وخرج بسر إلى الطائف فكتب المغيرة بن شعبة إلى بسر حين خرج من مكة متوجهاً إلى الطائف : أما بعد فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز ونزولك مكة ، وشدتك على المريب وعفوك عن المسئ ، وإكرامك لأولي النهى ، فحمدت رأيك في ذلك ، فدم على صالح ما أنت عليه ، فإن الله لن يزيد بالخيرأهله إلا خيراً ، جعلنا الله وإياك من الآمرين بالمعروف ، والقاصدين إلى الحق ، والذاكرين الله كثيراً .
    ووجه بُسررجلاً من قريش إلى تبالة وبها قوم من شيعة علي ( عليه السلام ) وأمره بقتلهم فأخذهم وكلم فيهم فقيل له : هؤلاء قومك فكف عنهم حتى نأتيك بكتاب من بسر بأمانهم ، فخرج منيع الباهلي إلى الطائف واستشفع إلى بسر فيهم وتحمل بقوم من الطائف عليه فكلموه فيهم ، وسألوه الكتاب بإطلاقهم فأنعم لهم ومطلهم بالكتاب حتى ظن أنهم قد قتلوا ، وأن كتابه لا يصل إليهم حتى يقتلوا ، فكتب إليهم . فأتى منيع منزله وقد كان نزل على امرأة بالطائف ورحله عندها فلم يجدها في منزلها فتوطأ على ناقته بردائه وركب فسار يوم الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قط فأتاهم
    ضحوة ، وقد أخرج القوم ليقتلوا واستبطأ كتاب بسر فيهم ، فقدم رجل منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه ، فقال الشاميون بعضهم لبعض : شمسوا سيوفكم
    --------------------------- 233 ---------------------------
    حتى تلين فهزوها ، فتبصر منيع بريق السيوف فلوح بثوبه ، فقال القوم : هذا راكب عنده خبر فكفوا وقام به بعيره ، فنزل عنه وجاء يشتد على رجليه فدفع الكتاب إليهم ، وكان الرجل المقدم الذي ضرب بالسيف فانقطع السيف أخاه ، وأمر بتخليتهم !
    قال : ولما دخل بسر الطائف وكلمه المغيرة قال له : صدقتني ونصحتني ، فبات فيها ثم خرج منها ، وخرج المغيرة فشيعه ساعة ثم ودعه وانصرف .
    قال : وكان بسر مضى حتى مر بأرض اليمامة فنزل بالماء ولم يكن أهل اليمامة دخلوا في طاعة أحد بعد عثمان وكانوا معتزلين أمر الناس مع القاسم بن وبرة أميرهم ، فلما مر بهم بسر وأراد مواقعتهم أتى ابن مجاعة بن مرارة فقال له : دع قومي لاتعرض لهم ، أخرج بي إلى معاوية حتى أصالحه على قومي ، فأخذه معه وذهب به إلى معاوية فصالحه عن قومه .
    عن الكناني قال : وخرج بسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله الأصغر بن عبد المدان ، وكان يقال له : عبدالحجر ، وابنه مالكاً ، وقال بعضهم : إنه لم يقتل عبد الله وقتل مالكاً ورجلاً آخر من بني عبد المدان ، فبكاهما شاعر قريش فقال :
    ولولا أن تعنفني قريش * بكيت على بني عبد المدان
    لهم أبوان قد علمت معد * على أبنائهم متفضلان
    وبلغنا أن عبد الله بن عبد المدان كان صهراً لعبيد الله بن العباس ، فأخذه بسر وقتله ، ودعا ابنه مالكاً وكان أدنى لأبيه في الشرف ، وكان يدعى لمالك باليمن فضرب عنقه ، ثم جمعهم وقام فيهم يتهدد أهل نجران فقال : يا معاشر النصارى وإخوان القرود ! أما والله لئن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل ، وتهلك الحرث ، وتُخرب الديار ، فمهلاً مهلاً ، وسار حتى أتى أرحب فقتل أباكرب وكان يتشيع ، ويقال : إنه كان سيد من بالبادية من همدان ، فقدمه وقتله ، وقتل قتلاً ذريعاً !
    وأتى صنعاء وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، وقد
    --------------------------- 234 ---------------------------
    استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة بن عبد الله بن الحارث بن حبيب الثقفي ، فمنع بُسراً من دخول صنعاء وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء ، فقتل فيها قوماً . وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد رجع إلى قومه فقال لهم : أنعى قتلانا . .
    شيوخاً وشبانا .
    وكان عبيد الله قد جعل ابنيه عند رجل من بني كنانة ، فلما انتهى بسر إليهما أراد أن يقتلهما فلما رأى ذلك الكناني دخل بيته وأخذ السيف وخرج إليه فقال له بسر : ثكلتك أمك والله ما كنا أردنا قتلك فلمَ عرَّضت نفسك للقتل ؟ قال : نعم أقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس ، ثم شد عليهم بالسيف حاسراً وهو يقول :
    آليت لا يمنع حافات الدار * ولا يموت مصلتاً دون الجار
  • إلا فتى أروع غير غدار
    فضارب بسيفه حتى قتل ! وقدَّم الغلامين فقتلهما ، فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن : هذه الرجال تقتلها فعلام تقتل الولدان ؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية ولا في الإسلام .
    والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الضَّرْع الضعيف والمُدَرْهَم ( الهرم ) الكبير ، ورفع الرحمة وقطع الأرحام لسلطان سوء !
    فقال بسر : والله لهممت أن أضع فيكن السيف ! قالت : والله إنه لأحب إلي إن فعلته وقالت جويرية أبياتها : ها من أحس بُنَيَّيَّ إلى آخر الأبيات المتقدمة . ويقال إنه ذبحهما على درج صنعاء ( بيده ) لارحم الله بسراً !
    وبلغني من حديث عبد الملك بن نوفل عن أبيه أن بسراً لما صمد صمد عبيد الله بن العباس بصنعاء ، فأقبل نحوهم فاجتمعت شيعة عثمان فأقبلوا نحو صنعاء . وذكر عن أبي الوداك قال : كنت عند علي ( عليه السلام ) حين قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه وعلى عبيد الله أن لا يكونا قاتلا بسراً ، فقال سعيد : والله قاتلت ولكن ابن عباس خذلني وأبى أن يقاتل ، ولقد خلوت به حين دنا منا بسر فقلت : إن ابن عمك لا يرضى مني ولا منك إلا بالجد في قتالهم ، وما نعذر ، قال : لا والله ما لنا بهم طاقة ولا
    --------------------------- 235 ---------------------------
    يدان ، فقمت في الناس وحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت : يا أهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإلي إلي فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالاً ضعيفاً ، وتفرق الناس عني وانصرفت ووجهت إلى صاحبي فحذرته موجدة صاحبه عليه وأمرته أن يتمسك بالحصن ويبعث إلى صاحبنا ويسأله المدد ، فإنه أجمل بنا وأعذر لنا ، فقال : لا طاقة لنا بمن جاءنا ، وأخاف تلك ، وزحف إليهم بُسر فاستقبلهم سعيد بن نمران فحملوا عليه فقاتل قتالاً كلا ولا ، ثم انصرف هو وأصحابه إلى عبيد الله !
    وحضر صنعاء ثم خرج منها حتى لقي أهل جيشان ، وهم شيعة لعلي فقاتلهم وهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً ، وتحصنوا منه ثم إنه رجع إلى صنعاء . وكان بسر إذا قرب من منزل تقدم رجل من أصحابه حتى يأتي أهل الماء فيسلم فيقول : ما تقولون في هذا المقتول بالأمس عثمان ؟ قال : إن قالوا : قتل مظلوماً لم يعرض لهم ، وإن قالوا : كان مستوجباً للقتل قال : ضعوا السلاح فيهم ، فلم يزل على ذلك حتى دخل صنعاء ، فهرب منه عبيد الله بن العباس وكان واليا لعلي ( عليه السلام ) عليها ، واستخلف عمرو بن أراكة فأخذه بسر فضرب عنقه ، وأخذ ابني عبيد الله فذبحهما على درج صنعاء ، وذبح في آثار هما مائة شيخ من أبناء فارس ، وذلك أن الغلامين كانا في منزل أم النعمان بنت بزرج ، امرأة من الأبناء ) .
    أقول : كان هروب والي اليمن عبيد الله بن عباس وصاحبه نمران ، فضيحة موصوفة ، فهي عار لا يزول عن بني العباس ، وبني نمران الهمدانيين .
    مسير جارية بن قدامة رضي الله عنه
    ثم روى الثقفي عن عدة مؤرخين فقال : ( فندب علي ( عليه السلام ) الناس فتثاقلوا عنه . . وقدم زرارة بن قيس الشاذي فخبر علياً بالعدة التي خرج فيها بسر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
    أما بعد أيها الناس فإن أول فرقتكم وبدء نقصكم ذهاب أولي النهى وأهل الرأي منكم ، الذين كانوا يلقون فيصدقون ، ويقولون فيعدلون ، ويدعون فيجيبون ،
    --------------------------- 236 ---------------------------
    وأنا والله قد دعوتكم عوداً وبدءً وسراً وجهاراً وفي الليل والنهار والغدو والآصال ، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً وإدباراً ، أما تنفعكم العظة والدعاء إلى الهدى والحكمة ، وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ، ولكني والله لا أصلحكم بإفساد نفسي ، ولكن أمهلوني قليلاً فكأنكم والله بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذبكم فيعذبه الله كما يعذبكم ، إن من ذل المسلمين وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجاب ، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار ، فتراوغون وتدافعون ، ما هذا بفعل المتقين ! إن بسر بن أبي أرطاة وجه إلى الحجاز وما بسر ، لعنه الله ! لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردوه عن شنته ، فإنما خرج في ست مائة أو يزيدون .
    قال : فسكت الناس ملياً لا ينطقون ، فقال : ما لكم أمخرسون أنتم لا تتكلمون ؟ فقام أبو بردة بن عوف الأزدي فقال : إن سرت يا أمير المؤمنين سرنا معك فقال : اللهم ما لكم ! لاسددتم لمقال الرشد ، أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج ! إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ترضون من فرسانكم وشجعانكم ، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين ، والنظر في حقوق الناس ، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى في الفلوات وشعف الجبال ! هذا والله الرأي السوء ! والله لولا رجائي عند لقائهم لوقد حُمَّ لي لقاؤهم لقربت ركابي ثم لشخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال ! فوالله إن فراقكم لراحة للنفس والبدن .
    فقام جارية بن قدامة فقال : أنا أكفيكهم يا أمير المؤمنين فقال : أنت لعمري لميمون النقيبة حسن النية صالح العشيرة ، وندب معه ألفين وقال بعضهم : ألفاً ، وأمره أن يأتي البصرة فيضم إليه مثلهم ، فشخص جارية وخرج معه يشيعه فلما ودعه قال : إتق الله الذي إليه تصير ، ولاتحتقرمسلماً ، ولا معاهداً ، ولا تغصبن مالاً ، ولا ولداً ، ولا دابةً ، وإن حفيتَ وترجلتَ ، وصل الصلاة لوقتها . فأمره أن يسير إلى البصرة فخرج منها في ألفين وندب معه الخثعمي من الكوفة ألفين فقال لهما : أخرجا في طلب بسر بن أبي أرطاة حتى تلحقاه فأينما لحقتماه فناجزاه ، فإذا التقيتما فجارية بن قدامة على الناس . فخرجا في طلب بسر فخرج وهب بن مسعود من الكوفة .
    --------------------------- 237 ---------------------------
    فقدم جارية البصرة فضم إليه مثل الذي معه ، ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن ، لم يغصب أحداً ولم يقتل أحداً إلا قوماً ارتدوا باليمن فقتلهم وحرقهم ، وسأل عن طريق بسر فقالوا : أخذ على بلاد بني تميم فقال : أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم .
    عن فضيل بن خديج قال : كان وائل بن حجرعند علي ( عليه السلام ) بالكوفة ، وكان يرى رأي عثمان ، فقال لعلي ( عليه السلام ) : إن رأيت أن تأذن لي بالخروج إلى بلادي وأصلح مالي هناك ، ثم لا ألبث إلا قليلاً إن شاء الله حتى أرجع إليك ، فأذن له علي وظن أن ذلك مثل ما ذكره ، فخرج إلى بلاد قومه وكان قيلاً من أقيالهم عظيم الشأن فيهم ، وكان الناس بها أحزاباً وشيعاً ، فشيعة ترى رأي عثمان وأخرى ترى رأي علي ، فكان وائل بن حجر هناك حتى دخل بُسر صنعاء فكتب إليه : أما بعد فإن شيعة عثمان ببلادنا شطر أهلها فاقدم علينا فإنه ليس بحضرموت أحد يردك عنها ولا ينصب لك فيها ، فأقبل إليها بسر بمن معه حتى دخلها فزعم أن وائلاً استقبل بسر بن أبي أرطاة بشنوءة ، فأعطاه عشرة آلاف ، وأنه كلمه في حضرموت فقال له : ما تريد ؟ قال : أريد أن أقتل ربع حضرموت قال : إن كنت تريد أن تقتل ربع حضرموت فاقتل عبد الله بن ثوابة ، إنه لرجل فيهم ، وكان من المقاولة العظام ، وكان له عدواً ، في رأيه مخالفاً !
    فجاءه بسر حتى أحاط بحصنه ، وهو حصن مما كان الحبش بَنَته أول ما قدمت ، وكان بناءً معجباً ، لم يُر في ذلك الزمان مثله ، فدعاه إليه فنزل ، وكان للقتل آمناً ، فلما نزل أتاه فقال : اضربوا عنقه ، قال له : أتريد قتلي ؟ قال : نعم ، قال : فدعني أتوضأ وأصلي ركعتين ، قال : إفعل ما أحببت ، فاغتسل وتوضأ ولبس ثياباً بيضاًوصلى ركعتين ثم قدم ليقتله فقال : اللهم إنك عالم بأمري ، فقدم فضرب عنقه وأخذ ماله ، وأخذ له مائة وخمسين عيناً !
    وكان له أخت وكان ذلك المال بينهما ، وكان لها منه الثلث ، فلما قتل وأخذ ماله قالت أخته : من بقي القتيل ويبكع الدية أي ويعطي الدية ، وهذه لغتهم ،
    --------------------------- 238 ---------------------------
    فبلغ قولها معاوية فرد عليها ثلث المال . وبلغ علياً ( عليه السلام ) مظاهرة وائل بن حجر شيعة عثمان على شيعته ومكاتبته بسراً ، فحبس ولديه عنده .
    عن عبد الرحمن بن عبيد : أن جارية بن قدامة أغذ السيرفي طلب بسر بن أبي أرطاة ما يلتفت إلى مدينة مر بها ولا أهل حصن ، ولا يعرج على شئ إلا أن يرمل بعض أصحابه من الزاد ، فيأمر أصحابه بمواساته ، أو يسقط بعير رجل أو تحفى دابته فيأمر أصحابه فيعقبونه . قال فمضى حتى انتهى إلى بلاد اليمن فهربت شيعة عثمان فلحقوا بالجبال واتبعتهم عند ذلك شيعة علي وتداعت عليهم من كل جانب وأصابوا منهم ، وخرج جارية في أثر القوم وترك المدائن أن يدخلها ، ومضى نحو بسر فمضى بسر من حضرموت حين بلغه أن الجيش قد أقبل ، وأخذ طريقاً على الجوف وترك الطريق الذي أقبل منه ، وبلغ ذلك جارية فاتبعه حتى أخرجه من اليمن كلها ، فلما فعل ذلك به أقام بجرش نحواً من شهر ، حتى استراح وأراح أصحابه .
    وأقبل جارية حتى دخل مكة وخرج بسر منها يمضي قبل اليمامة فقام جارية على منبر مكة فقال : يا أهل مكة ما رأيكم ومع من أنتم ؟ قالوا : كان رأينا معكم وكانت بيعتنا لكم ، فجاء هؤلاء القوم فدخلوا علينا فلم نستطع منهم ولم نقم لهم ، وكانت بيعتكم قبلهم ولكنهم قهرونا ، قال : إنما مثلكم مَثَل الذىن : إذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ، قوموا فبايعوا ، قالوا : لمن نبايع رحمك الله وقد هلك أمير المؤمنين علي رحمة الله عليه ولا ندري ما صنع الناس بعده ؟ قال : وما عسى أن يصنعوا إلا أن يبايعوا الحسن بن علي ، قوموا فبايعوا ثم اجتمعت عليه شيعة علي ( عليه السلام ) فبايعوا . وخرج منها فجاء ودخل المدينة وقد اصطلحوا على أبي هريرة يصلي بالناس ، فلما بلغهم مجئ جارية توارى أبو هريرة ، وجاء جارية حتى دخل المدينة فصعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه وذكر رسول الله فصلى عليه ثم قال : أيها الناس إن علياً رحمه الله يوم ولد ويوم توفاه الله ويوم يبعث حياً ، كان عبداً من عباد الله الصالحين ، عاش بقدر ، ومات بأجل ، فلا يهنأ الشامتين . هلك سيد المسلمين ، وأفضل المهاجرين ، وابن عم النبي ( ( عليهما السلام ) ) . أما والذي لا إله إلا هو لو أعلم الشامت منكم لتقربت إلى الله
    --------------------------- 239 ---------------------------
    عز وجل بسفك دمه ، وتعجيله إلى النار ، قوموا فبايعوا الحسن بن علي فقام الناس فبايعوا ، وأقام يومه ذلك ثم غدا منها منصرفاً إلى الكوفة ، وغدا أبو هريرة يصلي بالناس ! ( أي رجع من هروبه ) .
    قال : وأقبل جارية حتى دخل على الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فضرب على يده فبايعه وعزاه وقال : ما يجلسك ؟ سِرْ بنا إلى عدوك قبل أن يسار إليك !
    فقال : لو كان الناس كلهم مثلك سرت بهم ! p زعم معاوية أن الله تعالى فعل أفعال بُسر .
    قال الثقفي في روايته : ورجع بسر فأخذ على طريق السماوة حتى أتى الشام فقدم على معاوية فقال : يا أمير المؤمنين أحمد الله ، فإني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك ذاهباً وراجعاً ، لم ينكب رجل منهم نكبة !
    فقال معاوية : الله فعل ذلك لا أنت ! وكان الذي قتل بسر في وجهه ذاهباً وراجعاً ثلاثين ألفاً ، وحرق قوماً بالنار !
    وقد كان علي ( عليه السلام ) دعا قبل موته على بسر فيما بلغنا فقال : اللهم إن بُسراً باع دينه بدنياه ، وانتهك محارمك ، وكانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك ، اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله [ اللهم ليحل عليهم غضبك ، ولتنزل بهم نقمتك وليصبهم بأسك ورجزك الذي لاترده عن القوم المجرمين ] فما لبث بعد وفاة علي ( عليه السلام ) إلايسيراً حتى وسوس وذهب عقله !
    عن علي بن محمد بن أبي سيف : قال علي ( عليه السلام ) : اللهم العن معاوية وعمراً وبُسراً ، أما يخاف هؤلاء المعاد ؟ فاختلط بسر بعد ذلك فكان يهذي ويدعو بالسيف فاتخذ له سيفاً من خشب فإذا دعا بالسيف أعطي السيف الخشب فيضرب به حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق طلبه فيدفع إليه فيصنع به مثل ذلك حتى مات ، لا رحمه الله ) .
    --------------------------- 240 ---------------------------
    وصول والي اليمن عبيد الله بن عباس هارباً
    قال في نهج البلاغة ( 1 / 88 ) : ( ومن خطبة له ( عليه السلام ) وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد ، وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، لما غلب عليها بسر بن أبي أرطاة ، فقام ( عليه السلام ) إلى المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي ، فقال : ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها ! إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك الله ! وتمثل بقول الشاعر :
    لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وَضَرٍ من ذا الإناء قليل
    ثم قال ( عليه السلام ) : أنبئت بسراً قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته !
    اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً مني ، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء ، أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم :
    هنالك لو دعوت أتاك منهم * فوارس مثل أرمية الحميم
    ثم نزل ( عليه السلام ) من المنبر ) . والأرمية : السحاب ، أي يأتونك سراعاً كالسُّحب !
    ومعناه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دعا عليهم كما وجهه النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، ومعناه أن أمته تحول جمهورها بين يديه إلى تراب خامل ، لا يتقبل مطراً ولا ينبت نباتاً !
    روى ابن سعد ( 3 / 36 ) وغيره قوله ( عليه السلام ) : ( إني بتُّ الليلة أوقظ أهلي ، فملكتني عيناي وأنا جالس ، فسنح لي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فقلت : يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأوَد واللدد ! فقال لي : أدع الله عليهم . فقلت : اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم ، وأبدلهم شراً لهم مني ) !
    والأود : الإعوجاج ، واللدد : الخصومة والجدل .
    وفي العقد الفريد ( 3 / 124 ) : ( فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي ، وقلة رغبتهم في الجهاد ، فقال : أدع الله أن يريحك منهم ، فدعوت الله ) !
    --------------------------- 241 ---------------------------
    عن القاسم بن الوليد ، أن عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران قدما على علي ( عليه السلام ) وكان عبيد الله عامله على صنعاء ، وسعيد بن نمران عامله على الجَنَد ، خرجا هاربين من بسر بن أبي أرطاة وأصاب ابني عبيد الله بن العباس لم يدركا الحنث فقتلهما قال : وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يجلس كل يوم في موضع من المسجد الأعظم يسبح فيه بعد الغداة إلى طلوع الشمس ، فلما طلعت الشمس نهض إلى المنبر فضرب بإصبعيه على راحته وهو يقول : ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها .
    لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وَضَرٍ من ذا الإناء قليل
    ومن حديث بعضهم أنه قال : لو لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك
    الله . ثم رجع إلى الحديث ثم قال : أيها الناس ألا إن بسراً قد اطلع اليمن وهذا عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران قدما عليَّ هاربين ، ولا أرى هؤلاء القوم إلا ظاهرين عليكم لاجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم إياي ، إني وليت فلاناً فخان وغدر واحتمل فيئ المسلمين إلى معاوية ، ووليت فلاناً فخان وغدر وفعل مثله ، فصرت لا أئتمنكم على علاقة سوط ، وإن ندبتكم إلى عدوكم في الصيف قلتم : أمهلنا ينسلخ الحر عنا ، وإن ندبتكم في الشتاء قلتم : أمهلنا ينسلخ القر عنا !
    اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم من هو خير لي منهم ، وأبدلهم بي من هو شر لهم مني ، اللهم مث قلوبهم ميث الملح في الماء ! ثم نزل ) .
    عار الفرار على جبين أولاد العباس
    روى في الخصال / 454 : ( سمعت جعفر بن محمد يحدث عن أبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : سئل رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عن ولد عبد المطلب فقال : عشرة ، والعباس ) !
    --------------------------- 242 ---------------------------
    وقد فسر الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 259 ) قول النبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( عشرة والعباس ) فقال : ( توفي مولى لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أبا عبد الله ( عليه السلام ) وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك السنة ، فجلس لهم فقال داود بن علي : الولاء لنا . وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : بل الولاء لي . فقال داود بن علي : إن أباك قاتل معاوية ، فقال : إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته ، وقال : والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة ، فقال له داود بن علي : كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق ، فقال : أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق ! قال فقال هشام : إذا كان غداً جلست لكم ، فلما أن كان من الغد خرج أبو عبد الله ومعه كتاب في كرباسة ، وجلس لهم هشام ، فوضع أبو عبد الله الكتاب بين يديه فلما أن قرأه قال : ادعوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري ، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية ، فرمى بالكتاب إليهما فقال : تعرفان هذه الخطوط ؟ قالا : نعم ، هذا خط العاص بن أمية ، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش . وهذا خط حرب بن أمية . فقال هشام : يا أبا عبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم ؟ فقال : نعم ، قال : فقد قضيت بالولاء لك . قال : فخرج وهو يقول :
    إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرة
    قال فقلت : ما هذا الكتاب جعلت فداك ؟ قال : فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبد الله ، فأخذها عبد المطلب فأولدها فلاناً ، فقال له الزبير : هذه الجارية ورثناها من أمنا ، وابنك هذا عبدلنا ، فتحمل عليه ببطون قريش ، قال فقال : قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس ، ولايضرب معنا بسهم . فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه ، فهو هذا الكتاب ) .
    ومعناه : أن العباس وأولاده لا تحل لهم الخلافة لأنهم من الطلقاء ، ولأنهم عبيد لأبناء عبد المطلب : الزبيروأبي طالب وعبد الله ، الذين كانت أمه أمةً لأمهم المخزومية
    ( دلائل النبوة / 99 ) وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها ، فابنها ملك لهم تبعاً لأمه ، لأنهم أحلوها لأبيهم ولم يبيعوها .
    ومعروف عن ولد عبد المطلب أنهم لا يفرون ، وقد كان فرار قثم بن العباس والي
    --------------------------- 243 ---------------------------
    من مكة من بُسر ، وفرار عبيد الله والي اليمن عاراً على جبين العباسيين ! وقد حاول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وابن نمران الهمداني أن يثبِّتا عبيد الله في اليمن ليقاوم بسراً ، فلم تنفع محاولتهما بسبب جبنه !
    انهزام عبيد الله أمام نشاط مخالفيه في اليمن
    قال الثقفي في الغارات ( 2 / 593 ) : ( فلما اختلف الناس على علي ( عليه السلام ) بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر ، وكثرت غارات أهل الشام ، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان ، ومنعوا الصدقات وأظهروا الخلاف ، فبلغ ذلك عبيد الله بن العباس فأرسل إلى ناس من وجوههم فقال : ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ قالوا : إنا لم نزل ننكر قتل عثمان ونرى مجاهدة من سعى عليه فحبسهم ، فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم فثاروا بسعيد بن نمران فأخرجوه من الجند وأظهروا أمرهم وخرج إليهم من كان بصنعاء ، وانضم إليهم كل من كان على رأيهم ، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم إرادة أن يمنعوا الصدقة .
    فذكر من حديث أبي روق قال : والتقى عبيد الله وسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي فقال ابن عباس لابن نمران : والله لقد اجتمع هؤلاء وإنهم لنا لمقاربون ولئن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة فهلم فلنكتب إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخبرهم وعددهم وبمنزلهم الذي هم به فكتبا إلى علي : أما بعد ، فإنا نخبرأميرالمؤمنين أن شيعة عثمان وثبوا بنا وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره واتسق له أكثر الناس ، وإنا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين ومن كان على طاعته وإن ذلك أحمشهم وألبهم فتعبوا لنا وتداعوا علينا من كل أوب ، ونصرهم علينا من لم يكن له رأي فيهم ممن سعى إلينا إرادة أن يمنع حق الله المفروض عليه ، وقد كانوا لا يمنعون حقاً عليهم ولا يؤخذ منهم إلا الحق ، فاستحوذ عليهم الشيطان فنحن في خير وهم منك في قفزة ، وليس يمنعنا من مناجزتهم إلا انتظار الأمر من مولانا أمير المؤمنين أدام الله عزه وأيده وقضى بالأقدار الصالحة في جميع أموره . والسلام .
    --------------------------- 244 ---------------------------
    فلما وصل كتابهما ساء علياً ( عليه السلام ) وأغضبه فكتب إليهما : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، سلام عليكما ، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة ، وتعظمان من شأنها صغيراً ، وتكثران من عددها قليلاً ، وقد علمت أن نخب أفئدتكما ، وصغر أنفسكما ، وشتات رأيكما ، وسوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عنكما نائماً ، وجرأ عليكما من كان عن لقائكما جباناً ، فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم ، وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربهم ، فإن أجابو حمدنا الله وقبلنا منهم ، وإن حاربوا استعنا عليهم بالله ونابذناهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . والسلام عليكما .
    عن الكلبي أن علياً ( عليه السلام ) قال ليزيد بن قيس الأرحبي : ألا ترى إلى ما صنع قومك ؟ فقال : إن ظني يا أمير المؤمنين بقومي لحسن في طاعتك ، فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم ، وإن شئت فكتبت إليهم فتنظر مايجيبونك ، فكتب إليهم علي ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء ، أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يعقب له حكم ، ولا يرد له قضاء ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، وقد بلغني تحزبكم وشقاقكم وإعراضكم عن دينكم ، وتوثبكم بعد الطاعة وإعطاء البيعة والألفة ،
    فسألت أهل الحجى والدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به ، وما أحمشكم له ، فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شئ منه عذراً مبيناً ولا مقالاً جميلاً ، ولا حجة ظاهرة ، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم . واتقوا الله وارجعوا إلى الطاعة أصفح عن جاهلكم وأحفظ عن قاصيكم ، وأقوم فيكم بالقسط ، وأعمل فيكم بكتاب الله .
    وإن أبيتم ولم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان عريض الأركان ، يقصد لمن طغى وعصى فتطحنوا طحناً كطحن الرحى ، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ، وما ربك بظلام للعبيد ، ألا فلا يحمد حامد إلا ربه ، ولا يلم لائم إلا نفسه . والسلام عليكم .
    --------------------------- 245 ---------------------------
    ووجه الكتاب مع رجل من همدان ، فقدم رسول علي ( عليه السلام ) بالكتاب فلم يجيبوه إلى حين ، فقال لهم : إني تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس في جيش كثيف ، فلم يمنعه إلا انتظار ما يأتيه من قبلكم ، فشاع ذلك في شيعة عثمان فقالوا : نحن سامعون مطيعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله وسعيداً . قال : فرجع الرسول من عندهم إلى علي ( عليه السلام ) فأخبره خبر القوم ، وجاء على بقية ذلك أن معاوية قد سرح بسر بن أبي أرطاة ، قال عبد الله بن عاصم : حدثت أن تلك العصابة حين بلغهم أن علياً يوجه إليهم يزيد بن قيس بعثوا إلى معاوية يخبرونه وكتبوا إليه كتاباً فيه :
    معاوي إلا تسرع السير نحونا * نبايع علياً أو يزيد اليمانيا
    فلما قدم الكتاب إلى معاوية دعا بسر بن أبي أرطاة وكان قاسي القلب ، سفاكاً للدماء ، لارأفة عنده ولا رحمة ، فوجهه إلى اليمن وأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن ، وقال له : لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك ، حتى يروا أنهم لا نجاة لهم منك ، وأنك محيط بهم ، ثم اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي ، فمن أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا ) !
    وقال الثقفي ( 2 / 615 ) : ( وأتى صنعاء وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو ابن أراكة بن عبد الله بن الحارث بن حبيب الثقفي فمنع بسراً من دخول صنعاء وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل فيها قوماً . وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد ، رجع إلى قومه فقال لهم : أنعى قتلانا . شيوخاً وشباناً !
    وذكر عن أبي الوداك قال : كنت عند علي ( عليه السلام ) حين قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه وعلى عبيد الله أن لا يكونا قاتلا بسراً ! فقال سعيد : والله قاتلت ولكن ابن عباس خذلني وأبى أن يقاتل ، ولقد خلوت به حين دنا منا بسر فقلت : إن ابن عمك لا يرضى مني ولا منك إلا بالجد في قتالهم وما نعذر ،
    --------------------------- 246 ---------------------------
    قال : لا والله ما لنا بهم طاقة ولايدان ، فقمت في الناس وحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت : يا أهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين فإلي إلي فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالاً ضعيفاً وتفرق الناس عني وانصرفت ، ووجهت إلى صاحبي فحذرته موجدة صاحبه عليه ، وأمرته أن يتمسك بالحصن ويبعث إلى صاحبنا ويسأله المدد ، فإنه أجمل بنا وأعذر لنا ، فقال : لا طاقة لنا بمن جاءنا ، وأخاف تلك ! وزحف إليهم بسر فاستقبلهم سعيد بن نمران فحملوا عليه فقاتل قتالاً كلا ولا ، ثم انصرف هو وأصحابه إلى عبيد الله . .
    وحضر صنعاء ثم خرج منها حتى لقي أهل جيشان وهم شيعة لعلي ( عليه السلام ) فقاتلهم وهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً وتحصنوا منه ثم إنه رجع إلى صنعاء ) .
    وقال الثقفي في ( 2 / 621 ) : ( فهرب منه عبيد الله بن العباس وكان والياً لعلي عليها ، واستخلف عمرو بن أراكة فأخذه بسرفضرب عنقه . وأخذ ابني عبيد الله فذبحهما على درج صنعاء ، وذبح في آثارهما مائة شيخ من أبناء فارس ، وذلك أن الغلامين كانا في منزل أم النعمان بنت بزرج امرأة من الأبناء ) ثم ذكر الثقفي إرسال علي ( عليه السلام ) جارية بن قدامة بجيش .
    وننبه هنا إلى أنه تقدم الحديث عن فتح اليمن ، وأن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أرسل علياً إليها ثلاث مرات فأتم فتحها قبل حجة الوداع . وقد كتبنا بحثاً عن العباسيين وأهل البيت ، وبينا فيه نقاط الضعف في العباس وأولاده ، وطغيان من حكم منهم .
    مما حفظ عن الإمام ( ( ع ) ) في تلك الأيام
    قال الثقفي في الغارات ( 2 / 633 ) : ( عن عبد الرحمن بن نعيم عن أشياخ من قومه أن علياً ( عليه السلام ) كان كثيراً ما يقول في خطبته : أيها الناس إن الدنيا قد أدبرت وآذنت أهلها بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع ، ألا وإن المضمار اليوم والسباق غداً ، ألا وإن السبقة الجنة والغاية النار .
    ألا وإنكم في أيام مهل من ورائه أجل يحثه عجل ، فمن عمل في أيام مهله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أمله ، ألا وإن الأمل يسهي القلب ويكذب الوعد
    --------------------------- 247 ---------------------------
    ويكثر الغفلة ويورث الحسرة ، فاعزبوا عن الدنيا كأشد ما أنتم عن شئ تعزبون ، فإنها غَرور وصاحبها منها في غطاء مُعَنَّى .
    وافزعوا إلى قوام دينكم بإقامة الصلاة لوقتها ، وأداء الزكاة لحلها ، والتضرع إلى الله والخشوع له ، وصلة الرحم ، وخوف المعاد ، وإعطاء السائل ، وإكرام الضيف ، وتعلموا القرآن واعملوا به ، واصدقوا الحديث وآثروه ، وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم ، وأدوا الأمانة إذا ائتمنتم .
    وارغبوا في ثواب الله وخافوا عقابه ، فإني لم أرَ كالجنة نام طالبها ولم أرَ كالنار نام هاربها ! فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً من النار ، واعملوا بالخير تجزوا بالخير ، يوم يفوز أهل الخير بالخير ) .
    ملاحظات
    1 . كان بسر قاسي القلب فظاً سفاكاً للدماء ، فأوصاه معاوية : ( سرحتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها ، وأخِفْ من مررت به ، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا . . الخ ) . وهذا عمل الجبابرة ، ولذلك وصفه العديد من علماء السنة بالطاغية والجبار ولعنوه ، خاصة لذبحه طفلين لعبيد الله بن العباس ، والي اليمن . ولكنهم سكتوا عن معاوية الذي أمره بهذه الجرائم ، وقد يترضون عنه ! وهذا هو التناقض في إدانه المأمور وتبرئة الآمر !
    ولم أجد من دافع عن بسر إلا صاحب الإستيعاب ( 3 / 1009 ) قال : ( قد ذكرنا ما أحدثه بسر بن أرطاة في طفلي عبيد الله ابن عباس في حين دخوله اليمن في باب بسر ، وعسى الله أن يغفر له ، فإنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء ) .
    وهذا عجيب منه . أما نحن فنعتقد أن بُسراً لعنه علي ( عليه السلام ) ودعا عليه ، ومن لعنه المعصوم لا يغفر له ، لأن لعنه إخبار بأنه مطرود من رحمة الله تعالى .
    2 . من فظائع بسر أيضاً أنه سبى النساء المسلمات ! ففي الإستيعاب ( 1 / 161 ،
    وتاريخ الذهبي : 6 / 269 ، والوافي : 10 / 81 ) ( ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات ، فأُقِمْنَ في السوق ) ! أي باعوهن !
    --------------------------- 248 ---------------------------
    3 . كذب بُسرعلى رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ليخلص جنوده السراق من الحد الشرعي !
    قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 7 / 313 ) : ( عن بسر بن أرطاة : أنه وجد رجلاً يسرق في الغزو فجلده ولم يقطع يده وقال : نهانا رسول الله عن القطع في الغزو رواه أحمد وأبو داود والنسائي ) . وفي رواية : عن القطع في السفر ! ورده فقهاؤهم .
    4 . قال البلاذري ( 2 / 460 ) : إن عبيد الله بن العباس لقي بسراً في مجلس معاوية فسأل معاوية : ( أنت أمرت هذا اللعين بقتل ولديَّ ؟ فقال : والله ما فعلت ولقد كرهت ذلك ! فغضب بُسرلقولهما وألقى سيفه إلى معاوية وقال له : خذه عني ، ولكن أمرتني أن أخبط به الناس فانتهيت إلى أمرك ، ثم أنت تقول لهذا ما تقول ، وهو بالأمس عدوك وأنا نصيحك دونه وظهيرك عليه ! فقال : خذ سيفك فإنك ضعيف الرأي حين تلقى سيفاً بين يدي رجل من بني هاشم وقد قتلت ابنيه ! فأخذ سيفه وقال عبيد الله : ما كنت لأقتل بُسراً بأحد ابنيَّ ، هو ألأمُ وأوضعُ وأحقرُ من ذلك ، والله ما أرى أني أدرك ثارهما إلا بيزيد وعبد الله ابني معاوية ! فضحك معاوية وقال : ما ذنب يزيد وعبد الله ، فوالله ما أمرت ولا علمت ) !
    5 . وقال البلاذري : ( ثم إن بسراً بعد ذلك وسوس ، وكان يهذي بالسيف ، فجعل له سيف من خشب أو من عيدان ، وكانت الوسادة تدنى إليه فيضربها حتى يغشى عليه ، وربما أدني إليه زق فيضربه ، فلم يزل كذلك حتى مات في خلافة عبد الملك بن مروان ) .
    6 . وذكر البلاذري أن الإمام ( عليه السلام ) أرسل رسالة إلى والييه على اليمن ابن عباس وابن نمران : ( فوجه إليهما جبر بن نوف أباالوداك بكتاب ينسبهما فيه إلى العجز والوهن ) .
    7 . وقال البلاذري : وروي عن وائل بن حجر الحضرمي أنه كان عثمانياً فاستأذن علياً ، فذهب فمالأ بسراً ، وأعانه على شيعة عليّ ) !
    8 . قيل إن عدد جنود بسر كانوا ست مئة ، وقيل ألف وست مئة ، فقتلوا في مدة قليلة أكثر من ثلاثين ألفاً ، وأحرقوا ونهبوا ، وارعبوا أهل الحجاز وأهل اليمن ! وهذا يدل على أن البلدين لم يكن فيهما قوة تقاومهم ، وكانت اليمن قليلة السكان لأن أهلها ذهبوا إلى العراق والشام للفتوحات .
  • *
    --------------------------- 249 ---------------------------
    الغارة السادسة : غارة ابن شجرة على مكة
    قال البلاذري ( 4 / 461 ) : ( بعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ، من مذحج إلى مكة لإقامة الحج ، وكان على الموسم من قبل علي قثم بن العباس بن عبد المطلب وكان يزيد بن شجرة متألهاً متوقياً ، فلما أمره معاوية بالمسيرقال له : إن كان لايرضيك إلا الغشم وإخافة البرئ فابعث غيري ! فقال له معاوية : سر راشداً فقد رضيت رأيك . وكان عثمانياً ممن شهد صفين مع معاوية . فمضى ( ابن شجرة ) وكتم أمره فأتى وادي القرى ثم الجحفة ، ثم قدم مكة ، في غرة من ذي حجة ، فأراد قثم بن العباس التنحي عن مكة ، إذ لم يكن في مِنعة ، وكان أبو سعيد الخدري حاجاً وكان له وُدّاً فأشار عليه أن لا يفعل ، وبلغه أن معقل بن قيس الرياحي موافيه في جمع بعث بهم علي حين بلغه فصول ابن شجرة من الشام ! قالوا : وأمر ابن شجرة مناديه فنادى في الناس بالأمان وقال : إني لم آت لقتال وإنما أصلي بالناس ، فإن شئتم فعلت ذلك ، وإلا فاختاروا من يقيم لكم الحج والله ما مع قثم منعة ولو أشاء أن آخذه لأخذته ولكني لا أفعل ولا أصلي معه !
    وأتى أبا سعيد فقال له : إن رأيت والي مكة كره ما جئنا له ونحن للصلاة معه كارهون ، فإن شاء اعتزل الصلاة واعتزلها وتركنا أهل مكة يختارون من أحبّوا . فاصطلحوا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري ، فقال أبو سعيد : ما رأيت في أهل الشام مثل هذا ، ذهب إلينا قبل أن نطلب إليه .
    وقدم معقل يريد يزيد بن شجرة ، فلقي أخريات أصحابه بوادي القرى فأسر منهم ولم يقتل ، ثم صار إلى دومة الجندل وانصرف إلى الكوفة .
    عن أبي مخنف في إسناده قال : لما بلغ علياً توجيه معاوية يزيد بن شجرة ، دعا معقل بن قيس الرياحي فقال له : إني أريد أن أرسلك إلى مكة لترد عنها قوماً من أهل الشام قد وجه إليها . فقال معقل : أنا لهم فوجهني إليها فاستنفرعلي الناس معه فخطب فقال : الحمد لله الذي لايعز من غالبه ، ولا يفلح من كايده إنه بلغني أن خيلاً وجهت نحو مكة ، فيها رجل قد سمي لي ، فانتدبوا إليها رحمكم الله مع
    --------------------------- 250 ---------------------------
    معقل بن قيس ، واحتسبوا في جهادكم والإنتداب معه أعظم الأجر ، وصالح الذخر . فسكتوا ولم يجيبوه بشئ ! فقام معقل فقال : أيها الناس إنتدبوا فإنما هي أيام قلائل حتى ترجعوا إن شاء الله ، فإني أرجو أن لو قد سمعوا بنفيركم إليهم تفرقوا تفرق معزى الغز ، فوالله إن الجهاد في سبيل الله خير من المقام تحت سقوف البيوت ، والتضجيع خلف أعجاز النساء ! فقام الرباب بن صبرة بن هوذة الحنفي فقال : أنا أول منتدب ، ثم وثب طعين بن الحرث الكندي ، فقال : وإنك منتدب وانتدب الناس . فشخص معقل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة في ألف وتسع مائة ويقال سبع مائة وأعطاهم علي مائة مائة .
    وشخصَ يزيد بن شجرة من مكة لليلتين بقيتا من ذي الحجة ، وأغذ السير حتى خرج من أرض مكة والمدينة ، وهو يحمد الله على تمام حجه ، وأنه لم يقاتل في الحرم ، ولحق معقل أخريات أصحاب يزيد دون وادي القرى ، فأصاب منهم عشرة نفر ، وكره ابن شجرة أن يرجع للقتال فمضى إلى معاوية . . وقال البلاذري ( 4 / 489 ) : ( وجه ( معاوية ) الحرث بن نمر التنوخي على خيل مقدَّحة ( مضمرة ) فأمره أن يأتي الجزيرة فيسأل عمن كان في طاعة علي فيأتيه به فأخذ من أهل دارا ( قرب نصيبين ) سبعة نفر من بني تغلب ثم أقبل بهم إلى معاوية . فكتب معاوية إلى علي : إن في أيديكم رجالاً ممن أخذهم معقل بن قيس بناحية وادي القرى ، وفي أيدينا رجال من شيعتك أصبناهم فإن أحببت خلينا من في أيدينا وخليتم من في أيديكم . فأخرج علي النفرالذين قدم بهم معقل بن قيس وكانوا محتسبين ( معروفين ) فبعث بهم إلى معاوية مع سعد مولاه ، وأطلق معاوية السبعة الذين أخذوا بدارا ) .
    غارة ابن شجرة برواية ابن الأعثم
    رواها ( 4 / 220 ) بنحو رواية البلاذري بتفصيل ، وخلاصته : ( دعا معاوية أيضاً برجل من سادات أهل الشام يقال له يزيد بن شجرة الرهاوي فقال : يا يزيد ! إني أريد أن أوجه بك إلى مكة لتقيم للناس الحج بها وتنفي عامل علي بن أبي طالب ، وتأخذ لي هنا لك البيعة بالسمع والطاعة والبراءة من علي . فقال يزيد بن شجرة : أفعل يا أمير المؤمنين ! قال : فضم إليه معاوية ثلاثة آلاف فارس من وجوه أهل الشام . . وبمكة يومئذ قثم
    --------------------------- 251 ---------------------------
    بن العباس فقام في أهل مكة خطيباً ، وقال : أيها الناس ! إنه قد أظلكم جيش من ظلمة أهل الشام الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، يريدون الإلحاد في حرم الله ، فتسالمون أم تحاربون ؟ قال : فسكت الناس ولم يجبه أحد منهم بشئ ، فقال قثم : إنكم قد أعلمتموني بما في أنفسكم ، فأنا خارج عنكم إلى بعض هذه الشعاب فأكون هنالك إلى أن يقضي الله بما يحب ويرضى .
    قال : فقال له شيبة بن عثمان العبدري : هذا أنت الأمير ونحن الرعية سامعون لك مطيعون ، فإن قاتلت قاتلنا معك ، وإن كففت كففنا معك قال : فقال قثم بن العباس : هيهات يا أهل مكة ! المغرور من غررتموه ، إن الجنود لا تهزم بالوعد ، ولست أرى معك أحداً يدفع ولا يمنع . .
    فقال له أبو سعيد الخدري : أيها الأمير ! إن للحرم حرمة عظيمة ، فأقم ولا تبرح من مكة ، فإذا وافوك ورأيت قوة عليهم فاعمل برأيك ، وإن لم ترقوةً تنحيت من بين أيديهم ، فتكون قد أعذرت وقضيت ما عليك . قال : فأقام قثم بن العباس بمكة ، وبلغ ذلك علياًعنه وهو يومئذ بالكوفة ، فقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! قد بلغني أن معاوية قد وجه إلى الموسم بجند من أهل الشام الغلف القلوب ، الصم الأسماع ، الكمه الأبصار ، الذين يلبسون الحق بالباطل ، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق ، أولياء الشيطان الرجيم ، ووزراء الجبابرة المعتدين ، فسارعوا رحمكم الله إلى جهادهم مع التقي الأمين معقل بن قيس ، واحتسبوا في ذلك الأجر وصالح الذكر . . فانتدب له يومئذ ألف وسبع مائة رجل من فرسان العرب ، وفيهم يومئذ الريان بن ضمرة بن هودة الحنفي وأبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني ومن أشبههم من الناس .
    قال : فخرج القوم من الكوفة في أول يوم من ذي الحجة ، وقد فات الوقت ، وقدم يزيد بن شجرة إلى الحرم قبل التروية بيومين ، فنادى في الناس : أيها الناس ! أنتم آمنون ، فإننا لم نقدم ههنا لقتال ، وإنما قدمنا للحج فالناس كلهم في أمان إلا من قاتلنا ونازعنا وعرض في سلطاننا . قال : واتقى يزيد بن شجرة أن يكون
    --------------------------- 252 ---------------------------
    بين الناس قتال فقال لأصحابه : أنظروا أحداً من أصحاب رسول الله ! فقيل له : أبو سعيد الخدري ، فقال : عليَّ به فأتي به فسلم وجلس ، فقال له يزيد : أبا سعيد ! يرحمك الله إني إنما وجهت إليكم لأجمع ولا أفرق ، ولو شاء أن أفعل لفعلت ، لأنه ما عند أميركم امتناع ولا عند أهل البلد أيضاً ، ولو شئت أن آخذ أميركم أسيراً حتى أمضي به إلى الشام لفعلت ، ولكني أكره الإلحاد في الحرم ، فقولوا لأميركم أن يعتزل الصلاة بالناس فأعتزلها أنا أيضاً ، ويختار الناس رجلاًيصلي بهم .
    فقال له أبو سعيد : جزاك الله من رجل خيراً ! فما رأيت من أهل الشام رجلاً أحسن منك نية . قال : ثم أقبل أبو سعيد إلى قثم بن العباس ، فكلمه في أمر الصلاة ، فقال قثم : قد فعلت ذلك . وتراضت الناس بشيبة بن عثمان العبدري ، فصلى بأهل الموسم وأقام لهم الحج . فلما قضى الناس حجهم أقبل يزيد بن شجرة فقال : يا أهل الشام ! إعلموا أن الله تبارك وتعالى قد رزقكم خيراً وصرف عنكم شراً ، فانصرفوا الآن مأجورين سامعين مطيعين . قال : فصدرت أهل الشام عن مكة يريدون الشام ، وأقبلت خيل أمير المؤمنين علي لمواقعة أهل الشام ، فإذا قد لقيهم بعض الأعراب فأخبروهم بأن أهل الشام قد رحلوا عن مكة يريدون الشام ، قال : فنزل معقل بن قيس الطريق إلى مكة وعارضهم في المسير ، وأهل الشام قد نزلوا بواد يقال له وادي القرى فلما تقارب معقل بن قيس من وادي القرى قال : إن أهل الشام قد نزلوا على الماء بلا شك ، فإذا رأيتموهم فشدوا عليهم ، فإذا أنا قتلت فأميركم من بعدي أبو الطفيل عامر بن واثلة فإن أصيب فالريان بن ضمرة . . قال : وسارت الخيل حتى وافوا وادي القرى ، فإذا أهل الشام قد رحلوا ، وقد بقي منهم عشرة نفر قد كانوا تخلفوا لحوائج لهم ، فأخذهم أصحاب علي أسارى وأخذوا أموالهم وأسلحتهم ودوابهم . قال : وبلغ ذلك أهل الشام فقالوا لأميرهم يزيد بن شجرة : أيها الأمير ما ترى ؟ أترجع إلى إخواننا فتستنقذهم من أيدي أهل العراق ؟ فقال يزيد بن شجرة : لا أرى ذلك لكم رأياً لأني لا أدري أتكون لنا أم علينا . قال : فكاعت أهل الشام عن أهل العراق . فأقبل معقل بن قيس راجعاً إلى الكوفة ، فأخبرعلياً بما كان من أمرالقوم ، فقال علي لأصحابه :
    --------------------------- 253 ---------------------------
    إحبسوا هؤلاء الأسارى ، فإن لنا في يد معاوية أسارى ، فإذا أطلقهم أطلقنا نحن هؤلاء ، إن شاء الله ) .
    وروى المسعودي ( 4 / 203 ) والطبري ( 4 / 104 ) غارة ابن شجرة بأقل مما تقدم .
    ملاحظات
    1 . الرَّهاوي بفتح الراء المشدده نسبة قبيلة الرها المذحجية ، أما مدينة الرها فبضم الراء المشددة . ( الكامل : 3 / 379 ) وكان يزيد بن شجرة عثمانياً يسكن الشام .
    قال ابن حجر في الإصابة ملخصاً ( 6 / 250 ) : ( مختلف في صحبته . قال ابن منده : قال بعضهم : له صحبة ، ولا يثبت . وقال أبو زرعة : ليست له صحبة صحيحة . ومن يقول له صحبة مخطئ . قاله أبو حاتم . ثم ذكر تضعيفهم لحديثه في فضل الجهاد وثواب المجاهد ) .
    2 . وصفوه بالعابد الزاهد المجاهد ، وذكروا له مناقب . قال الحاكم ( 3 / 494 ) : ( مناقب يزيد بن شجرة الرهاوي رضي الله عنه . ووصفه بالصحابي وقال : مات بالروم في سنة ثمان وخمسين . وروى له حديثين زعم أنه سمعهما من النبي ( ( عليهما السلام ) )
    في فضل الجهاد وثواب المجاهد فيها مبالغات . وقد يكون الرهاوي كذب على النبي ( ( عليهما السلام ) ) أو كذبوا له ، لأنهم رووا حديثه عن غيره .
    وجعله الذهبي صحابياً متألهاً تقياً ( تاريخ الإسلام : 4 / 324 ) قال : ( وله صحبة ورواية وكان متألهاً متوقياً ) ! ولا يصح قول الذهبي مع بغضه لعلي ( عليه السلام ) وبغضه نفاق
    بنص النبي ( ( عليهما السلام ) ) ومع كونه قائداً لمعاوية قاتل عمار ، وإمام الدعاة إلى النار !
    3 . ومع ذلك تبقى لابن شجرة ميزة على قادة معاوية بأنه أقلهم سفكاً لدماء المسلمين ، وميزة في غارته أنه لم ينفذ وصية معاوية بأخذ البيعة من أهل مكة لمعاوية والبراءة من علي ( عليه السلام ) كما أمره معاوية !
    4 . خوف قثم بن العباس ونيته الفرار ، لولا منع أبي سعيد الخدري ، يؤكد رأينا
    في العباس وبنيه ، فهم في جبنهم وفرارهم على النقيض من بني عبد المطلب .
  • *
    --------------------------- 254 ---------------------------
    الغارة السابعة : غارة زهير بن مكحول على السماوة
    قال البلاذري ( 2 / 465 ) : ( بعث معاوية رجلاً من كلب يقال له زهير بن مكحول من بني عامر الأجدار ، إلى السماوة ، فجعل يُصَدِّق الناس ، فبلغ ذلك علياً فبعث ثلاثة نفر : جعفر بن عبد الله الأشجعي ، وعروة بن العشبة من كلب ، من بني عبد ود ، والجلاس بن عمير ، من بني عدي بن خباب الكلبي ، وجعل الجلاس كاتباً له ليصدقوا من كان في طاعته من كلب ، وبكر بن وائل ، فأخذوا على شاطئ الفرات حتى وافوا أرض كلب ، ووافوا زهير الأجداري فاقتتلوا ، فهزم زهير أصحاب علي ، وقتل جعفر بن عبد الله وأفلت الجلاس ، وأتى ابن العشبة علياً فعنفه وقال له : جبنت وتعصبت فانهزمت ! وعلاه بالدرة فغضب ولحق بمعاوية ، فهدم علي داره ، وكان زهير
    ( صاحب معاوية ) حمل ابن العشبة على فرس فلذلك اتهمه علي ) .
  • *
    الغارة الثامنة : غارة مسلم بن عقبة على دومة الجندل
    قالوا : وبعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى أهل دومة الجندل وكانوا قد توقفوا عن البيعة لعلي ومعاوية جميعاً ، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته ، وبلغ ذلك علياً فبعث إلى مالك بن كعب الهمداني أن خلف على عملك من تثق به وأقبل إلي ففعل واستخلف عبد الرحمان بن عبد الله الكندي فبعثه علي إلى دومة الجندل في ألف فارس ، فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه فاقتتلوا يوماً ثم انصرف مسلم منهزماً ، وأقام مالك أياماً يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا وقالوا : لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام . فانصرف مالك إلى الكوفة ) .
  • *
    الغارة التاسعة : غارة ابن أشيم على هيت
    ثم قال البلاذري : ( قالوا : وكان كميل بن زياد النخعي على هيت في جند من شيعة علي ( عليه السلام ) فلما أغار سفيان بن عوف على الأنبار ، كان كميل قد أتى ناحية قرقيسيا لمواقعة
    --------------------------- 255 ---------------------------
    قوم بلغه أنهم قد أجمعوا على أن يغيروا على هيت ونواحيها ، فقال : أبدؤهم قبل أن يبدؤوني فإنه يقال : إبدأه بالصراخ يفر فاستخلف على هيت وشخص بجميع أصحابه ، فلما قربهم جيش سفيان عبر أهل هيت ومن بقي بها من أصحاب كميل وكانوا خمسين رجلاً ، فأغضب ذلك علياً وأحفظه فكتب إليه : إن تضييع المرء ما وُلِّيَ وتكلفه ما كفيَ عجز حاضر ! وإن تركك عملك وتخطِّيك إياه إلى قرقيسيا خطأ وجهل ورأي شعاع . ووجد عليه وقال : إنه لا عذر لك عندي ) !
    وفي نهج البلاغة ( 3 / 117 ) : ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا الغارة : أما بعد فإن تضييع المرء ما ولي وتكلفه ما كفي لعجز حاضر ورأي متبر . وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ، وتعطيلك مسالحك التي وليناك ليس بها من يمنعها ولا يرد الجيش عنها لرأي شعاع ، فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك ، غير شديد المنكب ، ولا مهيب الجانب ، ولا ساد ثغرة ، ولا كاسر شوكة ، ولامغن عن أهل مصره ، ولا مجز عن أميره ) .
    ثم قال البلاذري : ( فكان كميل مقيماً على نجوم وغم لغضب علي ، فبينا هو على ذلك إذ أتاه كتاب شبيب بن عامر الأزدي من نصيبين في رقعة كأنها لسان كلب يعلمه فيه أن عيناً له كتب إليه يعلمه أن معاوية قد وجه عبد الرحمان بن قباث نحو الجزيرة وأنه لا يدري أيريد ناحيته أم ناحية الفرات وهيت . فقال كميل إن كان ابن قباث يريدنا لنتلقينه ، وإن كان يريد إخواننا بنصيبين ، لنعترضنه فإن ظفرت أذهبت موجدة أمير المؤمنين فأعتبت عنه وإن استشهدت فذلك الفوز العظيم ، وإني لممن رجوت الأجر الجزيل فأشير عليه باستيمارعليّ فأبى ذلك ونهض يريد ابن قباث في أربع مائة فارس ، وخلف رجالته وهم ست مائة في هيت ، وجعل يحبس من لحقه ليطوي الأخبار عن عدوه ، وأتاه الخبر بانحيازه من الرقة نحو رأس العين ومصيره إلى كفرتوثا وكان ينشد في طريقه كثيراً :
    --------------------------- 256 ---------------------------
    يا خير من جرّ له خير القدر * فالله ذو الآلاء أعلى وأبرّ
  • يخذل من شاء ومن شاء نصر
    ثم أغذّ السير نحو كفرتوثا ، فتلقاه ابن قباث ومعن بن يزيد السلمي بها في أربع مائة وألفين فواقعهما كميل ففضّ عسكرهما وغلب عليه وقتل من أصحابهما بشراً ، فأمرأن لا يتبع مدبر ولايجهز على جريح ، وقُتل من أصحاب كميل رجلان ، وكتب بالفتح إلى عليّ فجزاه الخيروأجابه جواباً حسناً
    قالوا : وأقبل شبيب بن عامر ، من نصيبين في ست مائة فارس ورجالة ، ويقال : في أكثر من هذا العدد ، فوجد كميلاً قد أوقع بالقوم واجتاحهم فهناه بالظفر وقال : والله لأتبعن القوم فإن لقيتهم لم يزدهم لقائي إلا هلاكاً وفلّاً ، وإن لم ألقهم لم أثن أعنة الخيل حتى أطأ أرض الشام . وطوى خبره عن أصحابه فلم يعلمهم أين يريد ، فسار حتى صار إلى جسر منبج فقطع الفرات ، ووجه خيله فأغارت ببعلبك وأرضها ، وبلغ معاوية خبر شبيب فوجه حبيب بن مسلمة للقائه ، فرجع شبيب فأغار على نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها ، ولا خيلاً ولا سلاحاً إلا أخذه ، وكتب بذلك إلى علي حين انصرف إلى نواحي نصيبين فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ
    مواشي الناس وأموالهم ، إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به ، وقال : رحم الله شبيباً ، لقد أبعد الغارة ، وعجل الإنتصار ) .
    المعتزلون من ربيعة !
    قال البلاذري ( 2 / 470 ) : ( وبعث علي رجلاً من خثعم يقال له : عبد الرحمان إلى ناحية الموصل والجزيرة لتسكين الناس ، فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا علياً ومعاوية ، فتشاتموا ثم تقاتلوا فقتلوه ، فأراد علي أن يوجه إليهم جيشاً ، فكلمته ربيعة فيهم وقالوا : هم معتزلون لعدوك داخلون في أهل طاعتك ، وإنما قتلوا الخثعمي خطأ ، فأمسك عنهم . وكان على هذه الجماعة من بني تغلب قرثع بن الحرث التغلبي ) .
    أقول : سكت عنهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأنهم معتزلون ، ولأن ربيعة توسطت لهم ، وكانت ربيعة عزيزة عليه ، مميزة في نصرته بين القبائل هي وهمدان اليمن .
    --------------------------- 257 ---------------------------
    الفصل الرابع والتسعون
    شهادة أمير المؤمنين ( ( ع ) )
  • - وعده بها النبي ؟ ص ؟
    وعده النبي ؟ ص ؟ بالشهادة
    قال له : أبشر فإن الشهادة من ورائك
    1 . في نهج البلاغة ( 2 / 49 ) : ( قام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عنها ؟ فقال ( عليه السلام ) : لما أنزل الله سبحانه قوله : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، علمت أن الفتنة لاتنزل بنا ورسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها ؟ فقال : يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي ! فقلت : يا رسول الله : أوَليس قد قلت لي يوم أُحُد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عني الشهادة فشق ذلك علي ، فقلت لي : أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟ فقال لي : إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر . فقال : يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ويأمنون سطوته ، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع !
    قلت : يا رسول الله ، بأي المنازل أنزلهم عند ذلك ، أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة ) .
    وقال في شرح النهج ( 9 / 205 ) ملخصاً : ( هذا الخبر مروي عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) رواه كثير من المحدثين أن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال له : إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب علي
    --------------------------- 258 ---------------------------
    جهاد المشركين ، قال : فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد ؟ قال : قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون للسنة . فقلت : يا رسول الله فعلامَ أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد ؟ قال : على الإحداث في الدين ، ومخالفة الأمر . فقلت : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله أن يعجلها لي بين يديك ، قال : فمن قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ! أما إني وعدتك الشهادة وستستشهد ، تضرب على هذه فتخضب هذه ، فكيف صبرك إذاً ! قلت : يا رسول الله ، ليس ذا بموطن صبر ، هذا موطن شكر قال : أجل أصبت ، فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصِم ، فقلت : يا رسول الله ، لو بينت لي قليلاً ! فقال : إن أمتي ستفتن من بعدي ، فتتأول القرآن وتعمل بالرأي ، وتستحل الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع ، وتحرف الكتاب عن مواضعه ، وتغلب كلمة الضلال ، فكن جليس بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور ، وقلبت لك الأمور ، تقاتل حينئذ على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى ! فقلت : يا رسول الله ، فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك ؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة ؟ فقال : بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل . فقلت : يا رسول الله ، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا ؟ قال : بل منا ، بنا فتح وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك . وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله .
    فإن قلت : فلم قال : علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا ؟ قلت : لقوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ .
    وقوله : حيزت عني الشهادة ، أي منعت ؟ وقوله : ليس هذا من مواطن الصبر : كلام عال جداً يدل على يقين عظيم وعرفان تام . ونحوه قوله : وقد ضربه ابن ملجم : فزت ورب الكعبة . والأهواء الساهية : الغافلة . والسحت : الحرام ، ويجوز ضم الحاء ) .
    2 . وقت الحديث حسب الرواية عند نزول سورة العنكبوت : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا . لكنها مكية ، وأجاب ابن أبي الحديد وغيره بأن أول العنكبوت نزل في المدينة ، وهو ضعيف . والصحيح رواية المفيد بأن وقت الحديث بعد سورة النصرالتي نزلت بعد
    --------------------------- 259 ---------------------------
    حجة الوداع . وكذا رواه فرات في تفسيره / 614 ، وغيره .
    ففي أمالي المفيد / 288 ، قال ( عليه السلام ) : ( لما نزلت على النبي ( ( عليهما السلام ) ) : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، قال لي : يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . . فإذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَاباً . يا علي : إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي ، كما كتب عليهم جهاد المشركين معي ، فقلت : يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد ؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني ! فقلت : فعلامَ نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ فقال : على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري ، واستحلالهم دماء عترتي ! قال : فقلت : يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن يعجلها لي ، فقال : أجل قد كنت وعدتك الشهادة ، فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا وأومأ إلى رأسي ولحيتي ؟ فقلت : يا رسول الله أما إذا بينت لي ما بينت ، فليس بموطن صبر ولكنه موطن بشرى وشكر ، فقال : أجل ، فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصمٌ أمتي . قلت : يا رسول الله أرشدني إلى الفلج ، قال : إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله ، والضلال من الشيطان . يا علي إن الهدى هو اتباع أمر الله دون الهوى والرأي ! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن ، وأخذوا بالشبهات واستحلوا الخمر بالنبيذ والبخس بالزكاة ، والسحت بالهدية ! قلت : يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك ، أهم أهل ردة أم أهل فتنة ؟ قال : هم أهل فتنة ، يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل . فقلت : يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا ؟ فقال : بل منا . بنا فتح الله وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله ) .
    إن الشهادة من ورائك . . كيف صبرك ؟
    3 . ورواه الطبراني بدون ذكر مناسبته ( المعجم الكبير : 11 / 295 ) : ( عن ابن عباس قال علي : يا رسول الله إنك قلت لي يوم أحد حين حيزت عني الشهادة واستشهد من
    --------------------------- 260 ---------------------------
    استشهد : إن الشهادة من ورائك ؟ قال : كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه ؟ فقال علي : أمَّا وقد بينت ما بينتَ ، فليس ذلك من مواطن الصبر ولكن هو من مواطن البشرى والكرامة ) .
    كما رواها السيوطي في جامعه ( 31 / 350 ) عن كتاب وكيع ، وكنز العمال ( 16 / 193 ) بأطول من رواية نهج البلاغة ، وقد أوردناها بعنوان أطول خطبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في البصرة ، وفيها : ( أبشر يا صديق فإن الشهادة من ورائك . فقلت : بأبي أنت وأمي ! بين لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها وعلى ما أجاهدهم بعدك ؟ فقال : إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً ، ثم قال لي : وتجاهد أمتي على كل من خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين ، إنما هو أمر من الرب ونهيه .
    فقلت : يا رسول الله ! فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة ، فقال : نعم ، إذا كان ذلك فاقتصر على الهدى ، إذا قومك عطفوا الهدى على العمى ، وعطفوا القرآن على الرأي فتأولوه برأيهم . . الخ . ) .
    كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه ؟
    4 . في الإحتجاج ( 1 / 290 ) : ( قلت : يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أحُد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عني الشهادة ، فشق ذلك عليَّ فقلت لي : أبشر يا صدِّيق فإن الشهادة من ورائك ؟ فقال لي ( ( عليهما السلام ) ) : فإن ذلك لكذلك ، فكيف صبرك . . . ثم قال : يا علي إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي ، ومخاصم يوم القيامة بين يدي الله تعالى فاعدد جواباً . فقلت : بأبي أنت وأمي بين لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها ؟ وعلى مَ أجاهدهم بعدك ؟ فقال : إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة . وجلاهم وسماهم رجلاً رجلاً ، ثم قال لي : وتجاهد أمتي على كل من خالف القرآن ، ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين ، إنما هو أمر من الرب ونهيه ) .
    وفي الإختصاص للمفيد / 158 : ( انصرف من أحُد وبه ثمانون جراحة ، تدخل الفتائل من موضع وتخرج من موضع ، فدخل عليه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عائداً وهو مثل المضغة على نطع ! فلما رآه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بكى ، فقال له : إن رجلاً يصيبه هذا في الله لحقٌّ على الله
    --------------------------- 261 ---------------------------
    أن يفعل به ويفعل ، فقال مجيباً له وبكى : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يَرَني وَلَّيْتُ عنك ولا فررتُ ، بأبي وأمي كيف حرمت الشهادة ؟ قال : إنها من ورائك إن شاء الله ، قال فقال رسول الله : إن أبا سفيان قد أرسل موعدةً بيننا وبينكم حمراء الأسد ، فقال : بأبي أنت وأمي والله لوحملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك . قال فنزل القرآن : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
    ونزلت الآية فيه قبلها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلابِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ .
    ينبعث أشقى الأولين والآخرين فيضربك :
    5 . وفي ينابيع المودة ( 1 / 166 ) : ( عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) خطبنا . فقال : أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة . وذكر فضل شهر رمضان . ثم بكى فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : يا علي أبكى لما يستحل منك في هذا الشهر ، كأني بك وأنت تريد أن تصلي وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة صالح ، يضربك ضربة على رأسك فيخضب بها لحيتك . فقلت : يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك ، فكيف صبرك إذن ؟ قلت : هذا من مواطن البشرى والشكر . ثم قال يا علي من قتلك فقد قتلني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن سبك فقد سبني ، لأنك مني كنفسي ، روحك من روحي ، وطينتك من طينتي . وان الله تبارك وتعالى خلقني وخلقك من نوره ، واصطفاني واصطفاك ، فاختارني للنبوة واختارك للإمامة ، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي . يا علي أنت وصيي ووارثي وأبوولدي وزوج ابنتي أمرك أمري ونهيك نهيي . أقسم بالله الذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية إنك لحجة الله على خلقه ، وأمينه على سره ، وخليفة الله على عباده ) .
    --------------------------- 262 ---------------------------
    كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس !
    6 . في نهج السعادة ( 5 / 369 ) عن القضاعي : قال علي ( عليه السلام ) : ( لقد خبرني حبيب الله وخيرته من خلقه ، وهو الصادق المصدوق عن يومي هذا ، وعهد إليَّ فيه فقال : يا عليُّ ، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس تدعو فلا تجاب ، وتنصح عن الدين فلا تعان ، وقد مال أصحابك وشنف لك نصحاؤك ، وكان الذي معك أشد عليك من عدوك ، إذا استنهضتهم صدوا معرضين وإن استحثثتهم أدبروا نافرين ، يتمنون فقدك لما يرون من قيامك بأمر الله عز وجل وصرفك إياهم عن الدنيا ) .
    عهد معهود وقضاء مقضي !
    7 . وفي مسند أحمد ( 1 / 91 ) : ( قدم علي رضي الله عنه على قوم من أهل البصرة من الخوارج فيهم رجل يقال له الجعد بن نعجة ، فقال له : إتق الله يا علي فإنك ميت ، فقال علي رضي الله عنه : بل مقتول ضربة على هذا تخضب منها هذه ! يعني لحيته من رأسه عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى . وعاتبه في لباسه فقال : ما لكم وللباس ، هو أبعد من الكبر ، وأجدر أن يقتدي بي المسلم ) .
    وفي صفة الصفوة ( 1 / 124 ) : ( عن أبي مجلز قال : جاء رجل من مراد إلى علي وهو يصلي في المسجد فقال : إحترس فإن ناساً من مراد يريدون قتلك . فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر عليه ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه . وإن الأجل جُنة حصينة ) .
    ضربة على رأسك تخضب منها لحيتك !
    8 . وفي الإرشاد للمفيد ( 1 / 322 ) : ( ومن ذلك ما رواه العلماء : أن جويرية بن مسهر وقف على باب القصر فقال : أين أمير المؤمنين ؟ فقيل له نائم ، فنادى : أيها النائم استيقظ ، فوالذي نفسي بيده لتضربن ضربة على رأسك تخضب منها لحيتك ، كما أخبرتنا بذلك من قبل . فسمعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فنادى : أقبل يا جويرية حتى أحدثك بحديثك فأقبل ، فقال : وأنت والذي نفسي بيده لتعتلن إلى العتل الزنيم ، وليقطعن يدك ورجلك ، ثم ليصلبنك تحت جذعِ كافر ! فمضى على ذلك الدهر حتى ولي زياد
    --------------------------- 263 ---------------------------
    في أيام معاوية ، فقطع يده ورجله ثم صلبه إلى جذع ابن مكعبر ، وكان جذعاً طويلاً فكان تحته ) .
    بأبي الوحيد الشهيد !
    9 . وفي كتاب سليم بن قيس / 136 : ( وحدثني علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : كنت
    أمشي مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في بعض طرق المدينة ، فأتينا على حديقة فقلت :
    يا رسول الله ، ما أحسنها من حديقة ! قال : ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها . ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت : يا رسول الله ، ما أحسنها من حديقة قال : ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها !
    حتى أتينا على سبع حدائق ، أقول : يا رسول الله ما أحسنها ويقول : لك في الجنة أحسن منها . فلما خلا له الطريق اعتنقني ، ثم أجهش باكياً فقال : بأبي الوحيد الشهيد ! فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي ، أحقاد بدر وترات أحد !
    قلت : في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك . فأبشر يا علي ، فإن حياتك وموتك معي ، وأنت أخي وأنت وصيي ، وأنت صفيي ووزيري ووارثي والمؤدي عني ، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي عني ، وأنت تبرئ ذمتي وتؤدي أمانتي ، وتقاتل على سنتي الناكثين من أمتي والقاسطين والمارقين ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه . فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه وهم بمنزلة العجل ومن تبعه ! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم : إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم ! يا علي ، ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون كرهاً ، فسلط الله الذين أسلموا كرهاً على الذين أسلموا طوعاً فقتلوهم ليكون أعظم لأجورهم . يا علي ، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه
    --------------------------- 264 ---------------------------
    الأمة ، ولو شاء لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه ، ولايُتنازع في شئ من أمره ، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله . ولو شاء عجل النقمة فكان منه التغيير حتى يُكذب الظالم ويُعلم الحق أين مصيره . ولكن جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار القرار : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . فقلت :
    الحمد لله شكراً على نعمائه ، وصبراً على بلائه ، وتسليماً ورضاً بقضائه ) .
    10 . في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 408 : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وقد مرمعه بحديقة حسنة فقال علي ( عليه السلام ) : ما أحسنها من حديقة ! فقال : يا علي لك في الجنة أحسن منها . إلى أن مر بسبع حدائق كل ذلك يقول علي ( عليه السلام ) : ما أحسنها من حديقة ! ويقول رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : لك في الجنة أحسن منها . ثم بكى رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بكاءً شديداً ، فبكى علي ( عليه السلام ) لبكائه ، ثم قال : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : يا أخي أبا الحسن ، ضغائن في صدور قوم يبدونها لك بعدي ! قال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك . قال : يا رسول الله إذا سلم ديني فلا يسوءني ذلك . فقال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : لذلك جعلك الله لمحمد تالياً ، وإلى رضوانه وغفرانه داعياً ، وعن أولاد الرشد والغي بحبهم لك وبغضهم عليك مميزاً منبئاً ، وللواء محمد يوم القيامة حاملاً ، وللأنبياء والرسل والصابرين تحت لوائي إلى جنات النعيم قائداً .
    يا علي ، إن أصحاب موسى اتخذوا بعده عجلاً وخالفوا خليفته ، وسيتخذ أمتي بعدي عجلاً ، ثم عجلاً ، ثم عجلاً ، ويخالفونك ! وأنت خليفتي على هؤلاء ، يضاهئون أولئك في اتخاذهم العجل ! ألا فمن وافقك وأطاعك فهو معنا في الرفيع الأعلى ، ومن اتخذ العجل بعدي وخالفك ولم يتب ، فأولئك مع الذين اتخذوا العجل زمان موسى ، ولم يتوبوا ) .
    أقول : أهم ما تضمنه هذا الحديث المعروف بحديث الحدائق ثلاثة أمور :
  • بشارة علي ( عليه السلام ) بأنه في الجنة وبعض ما له فيها .
  • اعتنقه النبي ( ( عليهما السلام ) ) وبكى بكاء شديداً لما يلاقيه بعده .
  • كشف أن قريشاً ستظهر ضغائنها وأحقادها على النبي ( ( عليهما السلام ) ) وتصبها على علي وتعزله
    --------------------------- 265 ---------------------------
    عن السلطة . ثم يقاتلها على تأويل القرآن وتقتله ، وفدَّاه بأبيه ( ( عليهما السلام ) ) !
    وقد روته العديد من مصادرهم لكن حذفوا منه ما لايرتضونه ! وأكثر من اختصره وبتره الحاكم ( 3 / 139 ) قال : ( عن أبي عثمان النهدي أن علياً رضي الله عنه قال : بينما رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) آخذ بيدي ونحن في سكك المدينة إذ مررنا بحديقة
    فقلت : يا رسول الله ما أحسنها من حديقة ؟ قال : لك في الجنة أحسن منها ) .
    وصححه هو والذهبي . ورواه أحمد في فضائل الصحابة ( 2 / 651 ) بلفظ : ( ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت : يا رسول الله ، ما أحسنها من حديقة فقال : لك في الجنة أحسن منها ، حتى أتينا على سبع حدائق أقول : يا رسول الله ، ما أحسنها ويقول : لك في الجنة أحسن منها »
    وحذف منه إشادة النبي ( ( عليهما السلام ) ) بعلي ( عليه السلام ) ، وحذف منه ضغائن قريش ، وما أمره به . أما البزار ( 2 / 293 ) فذكر أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) اعتنقه وبكى وحدثه إجمالاً عن ضغائن قريش ، قال : ( فلما خلا له الطريق اعتنقني ، ثم أجهش باكياً فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك إلا من بعدي ، قلت : في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك » وكذا رواه السيوطي في جامعه ( 30 / 210 ) والهيثمي في زوائد الموصلي ( 3 / 180 ) وابن حجر في المطالب العالية ( 16 / 101 ) والخوارزمي في مقتل الحسين ( عليه السلام ) ( 1 / 67 ) .
    وقال في هامش أبي يعلى : أخرجه الطبري ( 30 / 272 ) ، والحاكم ( 2 / 115 ) أخرجه البزار ( 2 / 293 ) ،
    وأبو يعلى ( 1 / 426 ) ، والحاكم ( 3 / 149 ) ، والخطيب ( 12 / 398 ) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية
    ( 1 / 243 ) .
    والنتيجة : أن الحاكم والذهبي صححا مطلع الحديث ، ووثق بقيته مجمع الزوائد وفسروا : أجهش النبي ( ( عليهما السلام ) ) بالبكاء ، ولم يقتربوا من ضغائن بدر وأحد الكافرة ولامن أصحابها ، ولاتسبيبها ظلمهم لعلي ( عليه السلام ) ظلماً أجهش له النبي ( ( عليهما السلام ) ) بالبكاء !
  • *
    --------------------------- 266 ---------------------------
    إخبار أمير المؤمنين ( ( ع ) ) بالمغيبات لإثبات صدق الإسلام
    قد يقال : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كشف أوراقه لمعاوية وللأمة ، فأخبر أنه سيُقتل وأن معاوية سيحكم الأمة ، فسبَّب ذلك شراسة عدوه ، وتباطؤ الأمة عن نصرته !
    والجواب : أن الإمام ( عليه السلام ) كان متعمداً لذلك ، لأنه يحقق هدفاً أكبر هو تثبيت الإسلام في قلوب الناس ديناً أنزله الله تعالى على رسوله الصادق الأمين ( ( عليهما السلام ) ) .
    ففوائد إخباره بما عهد اليه النبي ( ( عليهما السلام ) ) عن نفسه وعن الأمة ، أكبر من ضرره . وقد كان عمله هذا بتوجيه النبي ( ( عليهما السلام ) ) وعهده اليه .
    فهو يقول : أيها الناس إن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) رسول صادق ، ومن آيات صدقه أنه أخبر عن مغيبات وقعت وتقع ، ومن هذه المغيبات ظلامة عترته من بعده ، وظلم قريش لها طمعاً في سلطانه ، وأخبرني بأنك لاتموت حتى تسلمك الأمة قيادتها ، ثم تتألب عليك فتقاتلك بضغائنها وأحقادها على بني هاشم في بدر وأحد ، وستقاتلها على تأويل القرآن ، وتُقتل بضربة على رأسك تخضب منها لحيتك .
    وهو بذلك يقول : إن رسول الله حق ، ومن خالفه باطل ، وأنا على الحق ، ومن خالفني على الباطل ، والدليل على ذلك أني أخبركم عن مغيبات تقع حرفياً ، وهذا لا يكون إلا من علم الله تعالى ، الذي علمه لرسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، وعلمني إياه .
    إن هذه الإخبارات آيةٌ على صدق النبي ( ( عليهما السلام ) ) الذي أخبره بها ، وآيةٌ على أن علياً ( عليه السلام )
    على الحق ، وأن من عاداه وحاربه على الباطل كالذين عادوا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . وأنه ( عليه السلام )
    يعمل بالحق والهدى ، ومعاوية وأمثاله يعملون بالباطل والأحقاد والضغائن ،
    وبدافع الحسد للنبي ( ( عليهما السلام ) ) وعترته ( عليهم السلام ) والطمع في سلطانهم .
    فهل آية أقوى من إخباره عما سيكون ، حتى لو كان قتله وغلبة عدوه !
    قال المسعودي ( مروج الذهب : 2 / 418 ) : وكان علي رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل :
    تِلكم قريش تمناني لتقتلني * فلا وربك ما برُّوا وما ظفروا
    فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم * بذات ودقين لا يعفو لها أثر
    [ وسوف يورثهم فقدي على وجل * ذلّ الحياة بما خانوا وما غدروا ]
    --------------------------- 267 ---------------------------
    حالة الدولة قبيل شهادته ( ( ع ) )
    1 . انتصر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب الجمل فهابته قريش ، وولاة الدولة الإسلامية . ونقل العاصمة من المدينة إلى الكوفة ، ففرح بذلك أهل العراق واعتزوا بوجود أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بينهم ، والتفوا حوله وأطاعوه ، فتابع برنامجه في إعادة العهد النبوي ، بعدالته وعقلانيته . ورسخ الإسلام في نفوس الأمة كدين . وقضى على الفقر في الكوفة في أقل من سنة حتى لم يبق أحد إلا وهو يسكن في الظل ، ويأكل خبز البر ، ويشرب الماء العذب .
    2 . رتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وضع الولايات في العراق والحجاز واليمن ، وإيران ومصر ، فعزل الضعفاء والفاسدين ونصب أكفأ الموجودين ، فكانت سياسته مثالاً في قوتها واستنادها إلى شريعة الإسلام وسنة النبي ( ( عليهما السلام ) ) .
    3 . استشار المهاجرين والصحابة ورؤساء القبائل في معاوية فأشاروا عليه بحربه وإخضاعه ، لأنه فئة باغية ، خارجة على الخليفة الشرعي ، فتوجه إلى صفين ، وكان المسلمون أهل العراق نحو سبعين ألف مقاتل ، وبعد عشرة أيام من المعارك رجحت كفة الإمام ( عليه السلام ) ( فلم يجد معاوية من الموت منجى إلا الهرب فركب فرسه وقلب رايته ) بتعبيرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فاخترع له عمرو العاص رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن وحكمين من الطرفين .
    واتفق معاوية مع الأشعث رئيس كندة وكانت ثقلاً في جيش علي ( عليه السلام ) ، فأعلن الأشعث القبول بالتحكيم ، ونصحهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأبوا ! وقال لهم الأشتر أعطوني ساعات لأحقق لكم النصر ! فأبوا وأحاطوا بالإمام ( عليه السلام ) وهددوه وأجبروه على سحب قواته وإيقاف الحرب ، ثم فرضوا عليه أبا موسى الأشعري ممثلاً للعراقيين ، وهو عدو للإمام ( عليه السلام ) !
    4 . بمجرد أن وقعوا اتفاقية التحكيم في صفين ، ظهر الخوارج من الذين أجبروا الإمام ( عليه السلام ) على التحكيم ، فأعلنوا ندمهم وقالوا لقد كفرنا بقبولنا التحكيم ، وكفر علي معنا لأنه قبل ، وطلبوا منه أن يتوب ليعترفوا به إماماً وإلا خرجوا
    --------------------------- 268 ---------------------------
    عليه وقاتلوه ! وبذلك نشأت الخوارج ووقع الاختلاف في جيش الإمام ( عليه السلام ) بين مطيع له ومخالف ، وعسكر الخوارج في أماكن خارج الكوفة ، وناظرهم الإمام ( عليه السلام ) فرجع بعضهم ، وركب أكثرهم رأسه ! وأخذوا يعتدون على المسلمين ويقتلون من خالفهم ، فاضطر الإمام ( عليه السلام ) لقتالهم في معركة النهروان ، وانتصر عليهم نصراً كاسحاً .
    5 . اجتمعوا للتحكيم في دومة الجندل ، ولعب عمرو العاص على أبي موسى الأشعري
    فاتفق معه على أن يخلع كل منهما صاحبه ، ويختاروا غيرهما ، فصعد الأشعري المنبر وخلع علياً ( عليه السلام ) كما يخلع خاتمه ، ثم صعد عمرو العاص وثبت معاوية كما يثبت خاتمه ! واختلفا وتشاتما !
    وفرح معاوية بلعبة عمرو العاص ، واستند إليها في إثبات شرعيته ، وأنه صار الخليفة الشرعي للمسلمين ، وأخد البيعة من أهل الشام بذلك !
    6 . واصل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تحشيد أهل العراق لحرب معاوية ، واستغل معاوية اختلافهم ، فغزا مصر وضمها إلى الشام ، واستعمل سياسة الغارات على دولة الإمام ( عليه السلام ) ، فقام ببضع غارات على العراق والحجاز واليمن ، وتثاقل أهل العراق في الخروج لرد الغارات وجهاد معاوية ! وفي هذا الجو كانت شهادة الإمام صلوات الله عليه .
    7 . كان ( عليه السلام ) يشكو عدم طاعة الناس له ، ولم يرد إجبارهم ، فكان يقول : ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي ) !
    قال في نهج البلاغة ( 1 / 88 ) : ( وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد ، وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، لما غلب عليها بسر بن أبي أرطاة ، فقام ( عليه السلام ) إلى المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي ، فقال : ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها ! إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك ، فقبحك الله ! وتمثل بقول الشاعر :
    لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وضر من ذا الإناء قليل
    ثم قال ( عليه السلام ) : أنبئت بسراً قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق
    --------------------------- 269 ---------------------------
    وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته ! اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً مني ، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء ، أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم
    ( أي من بني تغلب المعروفين بالشجاعة ) :
    هنالك لو دعوت أتاك منهم * فوارس مثل أرمية الحميم
    ثم نزل ( عليه السلام ) من المنبر ) . والأرمية : السحاب ، أي يأتونك سراعاً كالسُّحب !
    ومعناه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دعا عليهم كما وجهه النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، فهو يودع أمته لما تحول جمهورها بين يديه إلى تراب خامل ، لا يتقبل مطراً ولا ينبت نباتاً !
    روى ابن سعد ( 3 / 36 ) قوله ( عليه السلام ) : ( إني بتُّ الليلة أوقظ أهلي ، فملكتني عيناي وأنا جالس ، فسنح لي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فقلت : يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأوَد واللدد ! فقال لي : أدع الله عليهم . فقلت : اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم ، وأبدلهم شراً لهم مني ) ! والأود : الإعوجاج ، واللدد : الجدل .
    وقال ( عليه السلام ) : ( فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين . لأدعونّ الله عليكم ، ثم لأسيرنّ إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة ! أأجلاف أهل الشام وأعرابها أصبر على نصرة الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم ؟ ما بالكم ، ما دواؤكم ؟ إن القوم أمثالكم لاينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة ! فقام إليه سعيد بن قيس الهمداني فقال : يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك . . ) .
    8 . كان الإمام ( عليه السلام ) يخبر عن شهادته ، ففي الإرشاد ( 1 / 13 ) : ( عن الأجلح عن أشياخ كندة قال : سمعتهم أكثر من عشرين مرة يقولون : سمعنا علياً ( عليه السلام ) على المنبر يقول : ما يمنع أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم ؟ ويضع يده على لحيته ) !
  • *
    --------------------------- 270 ---------------------------
    آخر خطبة خطبها أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    قال نوف البكالي الحميري ( نهج البلاغة : 2 / 103 ) : كانت آخرخطبة خطبها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة . وفي آخرها : ( وعقد للحسين ( عليه السلام ) في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم ، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كل مكان ) !
    وقد تقدمت في الفصل السادس والثمانين في وضع دولة الإمام ( عليه السلام ) بعد التحكيم ، وطابعها العام عقائدي في التوحيد والموعظة ، وفي آخرها دعوة إلى الجهاد .
    وروى الطبري في بشارة المصطفى / 32 ، خطبة أخرى ذكر أنها آخر خطبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،
    وطابعها العام بيان مقامه عند الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، ويظهر أنها قبل الخطبة التي رواها نوف البكالي . قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالكوفة عند منصرفه من النهروان ، وبلغه أن معاوية يسبه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وذكر ما أنعم الله على نبيه وعليه . ثم قال : لولا آية في كتاب الله ما ذكرت ما أنا ذاكره في مقامي هذا ، يقول الله عز وجل : وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ .
    اللهم لك الحمد على نعمك التي لا تحصى ، وفضلك الذي لا ينسى
    يا أيها الناس : إنه بلغني ما بلغني وإني أراني قد اقترب أجلي ، وكأني بكم وقد جهلتم أمري ، وإني تارك فيكم ما تركه رسول الله : كتاب الله وعترتي ، وهي عترة الهادي إلى النجاة ، خاتم الأنبياء وسيد النجباء والنبي المصطفى .
    يا أيها الناس : لعلكم لا تسمعون قائلاً يقول مثل قولي بعدي إلا مفتر ، أنا أخو رسول الله ، وابن عمه ، وسيف نقمته ، وعماد نصرته وبأسه وشدته ، أنا رحى جهنم الدائرة ، وأضراسها الطاحنة ، أنا مؤتم البنين والبنات ، وقابض الأرواح ، وبأس الله الذي لا يرده عن القوم المجرمين ، أنا مجدل الأبطال ، وقاتل الفرسان ، ومبيد من كفر بالرحمن ، وصهر خير الأنام ، أنا سيد الأوصياء ووصي خير الأنبياء ، أنا باب مدينة العلم وخازن علم رسول الله ووارثه ، وأنا زوج البتول سيدة نساء العالمين ، فاطمة
    --------------------------- 271 ---------------------------
    التقية النقية ، الزكية البرة المهدية ، حبيبة حبيب الله ، وخير بناته وسلالته ، وريحانة رسول الله ، سبطاه خيرالأسباط وولدي خيرالأولاد .
    هل ينكر أحد ما أقول ، أين مسلموا أهل الكتاب ؟ أنا اسمي في الإنجيل إليا ، وفي التوراة بريا ، وفي الزبور اري ، وعند الهند كابر ، وعند الروم بطريسا ، وعند الفرس جبير ، وعند الترك تبير ، وعند الزنج حيتر ، وعند الكهنة بوسي ، وعند الحبشة بتريك ، وعند أمي حيدرة ، وعند ظئري ميمون ، وعند العرب علي ، وعند الأرمن فريق ، وعند أبي ظهير . ألا وإني مخصوص في القرآن بأسماء ، إحذروا أن تغلبوا عليها فتضلوا في دينكم ، يقول الله عز وجل : وَكُونُوا مَعَ الصَّادقين . أنا ذلك الصادق ، وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . أنا ذلك المؤذن ، وقال الله تعالى : وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فأنا ذلك الأذان ، وأنا المحسن يقول الله عز وجل : وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ، وأنا ذو القلب يقول الله عز وجل : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ . وأنا الذاكر يقول الله عز وجل :
    الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ . ونحن أصحاب الأعراف أنا وعمي وأخي وابن عمي ، والله فالق الحب والنوى ، لا يلج النار لنا محب ولا يدخل الجنة لنا مبغض ، يقول الله عز وجل : وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاً بِسِيمَاهُمْ . وأنا الصهر يقول الله عز وجل : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ، وأنا الأذن الواعية يقول الله عز وجل : وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، وأنا السلم لرسول الله يقول الله
    عز وجل : وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ ، ومن ولدي مهدي هذه الأمة . ألاوقد جعلتُ محنتكم . ببغضي يعرف المنافقون ، وبمحبتي امتحن الله المؤمنين ، هذا عهد النبي الأمي إليَّ أنه لا يحبك يا علي إلامؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، وأنا صاحب لواء رسول الله في الدنيا والآخرة ، ورسول الله فرطي وأنا فرط شيعتي ، والله لاعطش محبي ولا خاف والله مواليَّ ، أنا ولي المؤمنين والله وليي ، يحب محبي أن يحبوا من أحب الله ، ويحب مبغضي أن يبغضوا من أحب الله .
    ألا وإنه قد بلغني أن معاوية سبني ولعنني ، اللهم اشدد وطأتك عليه وأنزل
    --------------------------- 272 ---------------------------
    اللعنة على المستحق . آمين رب العالمين ، رب إسماعيل وباعث إبراهيم إنك حميد مجيد ،
    ثم نزل ( عليه السلام ) عن أعواده ، فما عاد إليها حتى قتله ابن ملجم ) .
  • *
    المقتول في سبيل الله والشهيد
    فضل القتل في سبيل الله تعالى :
    قال الله تعالى : وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . َ
    الَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .
    وفي الكافي ( 5 / 53 ) بسند صحيح : ( أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب يوم الجمل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني أتيت هؤلاء القوم ودعوتهم واحتججت عليهم ، فدعوني إلى أن أصبرللجلاد وأبرز للطعان ! فلأمهم الهبل ، وقد كنت وما أهدد بالحرب ، ولا أرهَّب بالضرب ! أنصف القارة من راماها ، فلغيري فليبرقوا وليرعدوا ، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم وفرقت جماعتهم ، وبذلك القلب ألقى عدوي ، وأنا على ما وعدني ربي من النصر والتأييد والظفر ، وإني لعلى يقين من ربي وغير شبهة من أمري .
    أيها الناس : إن الموت لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب ، ليس عن الموت محيص ، ومن لم يمت يقتل ، وإن أفضل الموت القتل . والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على فراش !
    واعجباً لطلحة ألَّبَ الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعاً ، ثم نكث بيعتي ، اللهم خذه ولا تمهله ، وإن الزبير نكث بيعتي وقطع رحمي ، وظاهر عليَّ عدوي ، فاكفنيه اليوم بما شئت ) .
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : فوق كل ذي برٍّ برحتى يقتل في سبيل الله ، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر ) وفي رواية : ( وفوق كل ذي عقوق
    --------------------------- 273 ---------------------------
    عقوق ، حتى يقتل أحد والديه فليس فوقه عقوق » ( تحرير الأحكام : 2 / 129 ) .
    وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( إن علي بن الحسين ( عليه السلام ) كان يقول : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرة دم في سبيل الله ) .
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 4 / 75 ) : ( قيل للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : ما بال الشهيد لا يفتن في قبره ؟ فقال : كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة )
    وقال ( عليه السلام ) : ( من قتل في سبيل الله لم يعرفه الله شيئاً من سيئاته ) . وقال أبو بصير قلت له ( عليه السلام ) : ( أي الجهاد أفضل ؟ قال : من عقر جواده وأهريق دمه في سبيل الله ) .
    ومن دعاء الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( وأسألك أن تجعل وفاتي قتلا في سبيلك تحت راية نبيك مع أوليائك . وأسألك أن تقتل بي أعدائك وأعداء رسولك وأسألك أن تكرمني بهوان من شئت من خلقك ولا تهني بكرامة أحد من أوليائك ) .
    وفي الإقبال ( 1 / 144 ) : ( وليلة القدر وحج بيتك الحرام وقتلاً في سبيلك فوفق لنا ) .
    من كرامة الشهيد الذي يموت في المعركة أنه لا يغسل :
    في الكافي ( 3 / 211 ) : ( عن زرارة ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال قلت له : كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه ؟ قال : نعم في ثيابه بدمائه ولا يحنط ولا يغسل ويدفن كما هو ، ثم قال : دفن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي أصيب فيها ورداه النبي ( ( عليهما السلام ) ) برداء فقصر عن رجليه فدعا له بإذخر فطرحه عليه وصلى عليه سبعين صلاة وكبر عليه سبعين تكبيرة ) .
    لكن الشهيد لا ينحصر بالمقتول في سبيل الله :
    في المحاسن ( 1 / 163 ) عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : ( ما من شيعتنا إلا صديق شهيد ، قال قلت : جعلت فداك أنى يكون ذلك وعامتهم يموتون على فراشهم ؟ فقال : أما تتلو كتاب الله في سورة الحديد : وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال فقلت : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله عز وجل قط ، قال : لو كان الشهداء ليس إلا كما تقول ، لكان الشهداء قليلاً ) .
    --------------------------- 274 ---------------------------
    درجات الناس يوم القيامة :
    قال الله تعالى : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
    فهذه أربع درجات ، ودلت أحاديث النبي ( ( عليهما السلام ) ) على أن العلماء قبل الشهداء . ففي قرب الإسناد / 64 ، قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : ( ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة فيشفعهم : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء ) .
    وفي الفقيه ( 4 / 399 ) قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين ، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء ) .
    فالدرجات يوم القيامة :
    1 - درجة النبي ( ( عليهما السلام ) ) وآله الطاهرين ( عليهم السلام )
    3 - درجة إبراهيم وآل إبراهيم ( عليهم السلام ) .
    5 - درجة بقية الأنبياء ( عليهم السلام ) .
    6 - درجة الصديقين .
    7 - درجة العلماء .
    8 - درجة الشهداء .
    9 - درجة الصالحين . وكل درجة من هذه التسع درجات عديدة . .
    المقام العظيم لعلي ( ( ع ) ) وشيعته يوم القيامة :
    في بصائر الدرجات / 104 : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : يا علي لقد مُثلتْ لي أمتي في الطين ، حتى رأيت صغيرهم وكبيرهم أرواحاً قبل أن يخلق الأجساد ، وإني مررت بك وبشيعتك فاستغفرت لكم . فقال علي : يا نبي الله زدني فيهم قال : نعم يا علي تخرج
    --------------------------- 275 ---------------------------
    أنت وشيعتك من قبورهم ووجوهكم كالقمر ليلة البدر ، وقد فرجت عنكم الشدايد ، وذهبت عنكم الأحزان ، تستظلون تحت العرش ، يخاف الناس ولا تخافون ، ويحزن الناس ولا تحزنون ، وتوضع لكم مائدة والناس في الحساب ) .
    وفيه عن مالك الجهني : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( يا مالك إن الميت منكم على هذا الأمر شهيد بمنزلة الضارب في سبيل الله . وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ما يضر رجلاً من شيعتنا أية ميتة مات ، أكله السبع ، أو أحرق بالنار ، أو غرق ، أو قتل ، هو والله شهيد ) .
    وفي قرب الإسناد للحميري / 102 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) :
    يبعث الله عباداً يوم القيامة تهلل وجوههم نوراً ، عليهم ثياب من نور ، فوق منابر من نور ، بأيديهم قضبان من نور ، عن يمين العرش وعن يساره ، بمنزلة الأنبياء وليسوا بأنبياء ، وبمنزلة الشهداء وليسوا بشهداء . فقام رجل فقال : يا رسول الله ، أنا منهم ؟ فقال : لا . فقام آخر فقال : يا رسول الله ، أنا منهم ؟ فقال : لا . فقال :
    من هم يا رسول الله ؟ قال : فوضع يده على منكب علي ( عليه السلام ) فقال : هذا وشيعته ) .
    وفي كامل الزيارات / 270 : قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين من الفضل لماتوا شوقاً وتقطعت أنفسهم عليه حسرات ، قلت : وما فيه ، قال : من أتاه تشوقاً كتب الله له ألف حجة متقبلة ، وألف عمرة مبرورة ، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر وأجر ألف صائم ، وثواب ألف صدقة مقبولة ، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله ، ولم يزل محفوظاً سنته من كل آفة أهونها الشيطان ، ووكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه . فإن مات سنته حضرته ملائكة الرحمة يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ، ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار له ، ويفسح له في قبره مد بصره ، ويؤمنه الله من ضغطة القبر ومن منكر ونكير أن يروعانه ، ويفتح له باب إلى الجنة ، ويعطى كتابه بيمينه ، ويعطى له يوم القيامة نوراً يضئ لنوره ما بين المشرق والمغرب ، وينادي مناد : هذا من زوار الحسين شوقاً إليه ، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين ( عليه السلام ) ) ! !
    --------------------------- 276 ---------------------------
    وسأل داود بن فرقد الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( كامل الزيارات / 341 ) : ( ما لمن زار الحسين ( عليه السلام )
    في كل شهر من الثواب ، قال : له من الثواب ثواب مائة ألف شهيد مثل شهداء بدر )
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أنتم خاصة الله اختصكم الله ، أنتم الشهداء وأنتم السعداء سعدتم عند الله ، وفزتم بالدرجات من جنات لايظعن أهلها ولا يهرمون ، ورضوا بالمقام في دار السلام مع من نصرتم ) ( كامل الزيارات / 421 ) .
    المقام العظيم لعلي ( ( ع ) ) وشيعته في مصادر السنيين :
    أورد الفخر الرازي ( 27 / 165 ) في آية : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ، بضعة عشر حديثاً عن الزمخشري ، وفيما قال : ( نقل صاحب الكشاف عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أنه قال :
    من مات على حب آل محمد مات شهيداً .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان .
    ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير .
    ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها .
    ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة .
    ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة .
    ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً .
    ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة .
    ثم قال الرازي : هذا هو الذي رواه صاحب الكشاف وأنا أقول : آل محمد ( ( عليهما السلام ) )
    هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ولاشك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات ،
    --------------------------- 277 ---------------------------
    وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل ) .
    وفي الدر المنثور للسيوطي ( 3 / 379 ) : ( أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي فأقبل عليٌّ فقال النبي : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، فكان أصحاب النبي إذا أقبل عليٌّ قالوا : جاء خير البرية .
    وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : عليٌّ خير البرية .
    وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لما نزلت : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لعلي : هو أنت وشيعتك يوم القيامة ، راضين مرضيين .
    وأخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول الله : ألم تسمع قول الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ : أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غُراً محجلين ) .
    وفي مجمع الزوائد ( 9 / 131 ) : ( أن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال : إن أول أربعة يدخلون الجنة أنا وأنت والحسن والحسين ، وذرارينا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرارينا ، وشيعتنا عن أيماننا ، وعن شمائلنا ) .
    وفي المعجم الكبير للطبراني ( 1 / 319 ) : ( وبإسناده أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال لعلي : أنت وشيعتك تردون علي الحوض رواءً مرويين ، مبيضة وجوهكم ، وإن عدوك يَرِدُون عليَّ ظماءً مُقْمَحين ) .
    لماذا كان أمير المؤمنين ( ( ع ) ) يأمل الشهادة في المعركة
    قال ( عليه السلام ) كما في نهج البلاغة ( 3 / 60 ) : ( فوالله لولا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة . . لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ، ولا ألتقي بهم أبداً ) .
    ( والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو ، لو قد حُمَّ لي لقاؤه لقربت ركابي ثم شخصت عنكم ، فلاأطلبكم ما اختلف جنوب وشمال ) . ( نهج البلاغة ( 1 / 232 ) .
    فكيف يأمل أن يستشهد في المعركة وهو يعلم أنه سيقتل غدراً ولا يقتل في معركة
    --------------------------- 278 ---------------------------
    صفين ولا غيرها ؟ ! وقد أخبر بذلك المسلمين فكانوا يتحدثون به .
    وفي ليلة الهرير بصفين ( الخوارزمي / 244 ) : ( فقد أهل العراق أمير المؤمنين وساءت الظنون وقالوا لعله قتل ! فعلا البكاء والنحيب ، ونهاهم الحسن عن ذلك وقال :
    إن علمت الأعداء ذلك منكم اجترؤوا عليكم ، وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخبرني بأن قتله يكون بالكوفة . وكانوا على ذلك إذ أتاهم شيخ يبكى وقال : قتل أمير المؤمنين ،
    وقد رأيته صريعاً بين القتلى ، فكثر البكاء ، فقال الحسن ( عليه السلام ) : يا قوم هذا الشيخ يكذب فلاتصدقوه ، وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : يقتلني رجل من مراد في كوفتكم هذه .
    وكان الأشتر يطلب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ذلك اليوم رايةً راية ، وقال لغلامه هاشم : أنظر هل رجع إلى موقفه وأنا أطلبه في العسكر ، فإن بشرتني برجوعه فلك كذا وكذا ، وكان علي ( عليه السلام ) حينئذ مع سعيد بن قيس الهمداني وهمدان فوارسه الخواص ، فوجده الأشتر عنده ، فرآه علي متغيراً باكياً ، فقال له : ماخبرك أفَقَدْتَ ابنك إبراهيم ، أم أصابك غير ذلك ؟ فقال الأشتر :
    كل شئ سوى الإمام صغير * وهلاك الأمير أمر كبير
    قد رضينا وقد أصيب لنا اليوم * رجال هم الحماة الصقور
    من رأى غرة الوصي علي * إنه في دجى الحنادس نور ) .
    فيقال : كيف ينسجم هذا مع قوله ( عليه السلام ) : ( لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو ، لو قد حم لي لقاؤه ، لقربت ركابي ) ؟
    والجواب : أن الإمام ( عليه السلام ) يؤمن بقول النبي ( ( عليهما السلام ) ) إيماناً مطلقاً ، لكنه يؤمن بالبداء أيضاً ، فلا يحتم على الله تعالى وعده له بالشهادة . وحيث وجب عليه القتال على التأويل ، فهو يقاتل بكل جد ، ويأمل الشهادة !
    كيف يعلم المعصوم الأمر ويعمل بخلاف علمه ؟ !
    هناك إشكالية تقول : ما دام المعصوم يعلم مثلاً أن فلاناً سيقتله ، فكيف يتصرف بخلاف علمه ، ويعامله كبريئ ولا يحبسه ، ولايحرس نفسه منه ؟ !
    وكيف يعلم النبي ( ( عليهما السلام ) ) مثلاً بأن فلاناً سيضل أمته ، ثم يعامله كبريئ ولا يقتله ،
    --------------------------- 279 ---------------------------
    ولايكشفه للناس جهاراً ويحذرهم منه !
    أو يعلم المعصوم بأن زوجته فلانة سوف تدس له السم ، ويعاملها كبريئة !
    والأصعب من ذلك كله : كيف يعلم أن هذا الطعام أو التمر أو العنب مسموم ، ثم يتناوله ويموت بسبب تناوله ، فيكون كقاتل نفسه ؟ !
    يتضح الجواب عليه بفهم الأمور التالية :
    1 . علم الغيب منه ما يستأثر الله به لنفسه ، فلا يظهر عليه أحداً ، ومنه ما يظهرعليه بعض عباده ، قال تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً . لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَئٍْ عَدَداً . وأعظم المرضيين عنده نبينا وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، فقد أعطاهم ما شاء من علم ما كان وما يكون .
    وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في البصرة يحدث عما يأتي عليها فقال ( نهج البلاغة ( 2 / 9 ) :
    ( يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل . يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام ، يومي بذلك إلى صاحب الزنج . . فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ، فضحك ( عليه السلام ) ، وقال للرجل وكان كلبياً : يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب ، وإنما هو تعلم من ذي علم . وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدد الله سبحانه بقوله : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ . فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيين مرافقاً . فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله ، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطم عليه جوانحي ) .
    2 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( البصائر / 221 ) : ( والله لقد أعطاني الله تبارك وتعالى تسعة أشياء لم يعطها أحد قبلي خلا محمداً ( ( عليهما السلام ) ) : فُتحت لي السبل ، وعُلمت الأنساب وأُجري لي السحاب ، وعُلمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب ، ولقد نظرت
    --------------------------- 280 ---------------------------
    في الملكوت بإذن ربي فما غاب عني ما كان قبلي ، ولا فاتني ما يكون من بعدي ، وبولايتي أكمل الله لهذه الأمة دينهم وأتم عليهم النعم ورضي لهم الإسلام ، إذ يقول : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا )
    وفي الكافي ( 1 / 255 ) : ( عن أبي جعفر ( الباقر ) ( عليه السلام ) قال : إن لله عز وجل علمين : علم لا يعلمه إلا هو ، وعلم علمه ملائكته ورسله ، فما علمه ملائكته ورسله ( عليهم السلام ) فنحن نعلمه ) .
    3 . عقيدتنا في المعصوم من عترة النبي ( ( عليهما السلام ) ) أن عنده الاسم الأعظم فلا ترد له دعوة ، بل أعطى الله لأهل البيت أعظم مما أعطى الأنبياء السابقين ( عليهم السلام ) .
    قال عبد الله بن بكير ( بصائر الدرجات / 232 ) : ( كنت عنده ( عليه السلام ) ( الإمام الصادق ) فذكروا سليمان ( عليه السلام ) وما أعطي من العلم وما أوتي من الملك ، فقال لي : وما أعطي سليمان بن داود ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم وصاحبكم الذي قال الله : قُلْ كَفى بِاللَّه شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَه عِلْمُ الْكِتابِ . كان والله عند علي ( عليه السلام )
    علم الكتاب ) .
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 261 ، وبصائر الدرجات / 149 ) : ( ورب الكعبة ورب البنية ، ثلاث مرات ، لو كنت بين موسى والخضر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأخبرتهما أني أعلم منهما ، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ، لأن موسى والخضر أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون ، وإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أعطي علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيمة ، فورثناه من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وراثةً ) .
    4 . ثم إن الاسم الأعظم لا يتحمله كل أحد ، فهو يحتاج إلى عقلية خاصة وأعصاب قوية ! ففي بصائر الدرجات / 230 : ( عن عمر بن حنظلة قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) إني أظن أن لي عندك منزلة . قال : أجل . قال قلت : فإن لي إليك حاجة . قال : وما هي ؟ قال قلت : تعلمني الاسم الأعظم . قال : وتطيقه ؟ قلت : نعم . قال : فادخل البيت ( الغرفة ) قال فدخل البيت فوضع أبو جعفر يده على الأرض ، فاظلمَّ البيت فأرعدت فرائص عمر ، فقال : ما تقول ، أعلمك ؟ فقال : لا .
    قال : فرفع يده فرجع البيت كما كان ) .
    --------------------------- 281 ---------------------------
    فلم يتحمل عمر بن حنظلة رضي الله عنه الظلمة الشديدة التي سببتها نية الإمام ( عليه السلام ) ووضعه يده الشريفة على الأرض ، وقد يكون دعا بدعاء ، فاقتنع ابن حنظلة بأنه لا طاقة لأعصابه بتلك الظلمة وجوها المخيف ، وعرف معنى سؤال الإمام ( عليه السلام ) : وتطيقه ؟ فرجع عن طلب الاسم الأعظم .
    5 . والمعصوم يعيش بالأسباب الطبيعية ، ولا يستعمل الاسم الأعظم إلا أن يؤمر روى الصدوق ( قدس سره ) في أماليه / 539 ، أن رجلاً جاء إلى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وشكى اليه فقره وديناً أثقله ، فلم يكن عند الإمام ( عليه السلام ) مال لأن الوليد كان صادر أمواله ، فأعطاه الإمام قرصيه قوت يومه ، وأمره أن يذهب إلى السوق ويشتري بهما شيئاً ، فوجد سمكة غير مرغوبة فاشتراها فوجد في جوفها لؤلؤتين ثمينتين : ( وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه وحسنت بعد ذلك حاله . فقال بعض المخالفين : ما أشد هذا التفاوت ! بينا علي بن الحسين لا يقدر أن يسد منه فاقة إذ أغناه هذا الغناء العظيم ! كيف يكون هذا وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم ! فقال ( عليه السلام ) : هكذا قالت قريش للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء ( عليهم السلام ) من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة ، مَن لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً ، وذلك حين هاجر منها !
    ثم قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه !
    إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه ، وترك الاقتراح عليه والرضا بما يدبرهم به ! إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لم يساوهم فيه غيرهم ، فجازاهم الله عز وجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم ، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم ) !
    فهذا يدل على أن إرادة المعصوم ( عليه السلام ) تابعة لإرادة الله تعالى ، وأنه لا يتصرف من نفسه ، ولا يستعمل ولايته التكوينية من نفسه ، بل يعمل بأمر من الله تعالى !
    فالأصل عنده أن يعيش بالأسباب العادية ، إلا إذا أمره الله تعالى بهاتف أو إلهام أو
    --------------------------- 282 ---------------------------
    أي طريق ، أن يعمل شيئاً أو يدعوه بشئ ! وهذا معنى تفوق النبي وآله ( ( عليهما السلام ) ) على غيرهم بأنهم لم يقترحوا على ربهم عز وجل شيئاً !
    6 . عقيدتنا أن النبي وآله ( ( عليهما السلام ) ) كانوا يعرفون آجالهم ، وأنهم سلموا لله تعالى بأن تجري مقاديره عليهم ، واختاروا ما اختاره لهم ورضوا به .
    وقد عقد الكليني ( قدس سره ) في الكافي ( 1 / 258 ) : ( باب أن الأئمة ( عليهم السلام ) يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم . روى فيه ثمانية أحاديث :
    منها : قول الصادق ( عليه السلام ) : أيُّ إمامٍ لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير ، فليس ذلك بحجة لله
    على خلقه .
    ومنها : عن الحسن بن الجهم قال قلت للرضا ( عليه السلام ) : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه ، وقوله لما سمع صياح الإوز في الدار : صوائح تتبعها نوائح ، وقول أم كلثوم : لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس ، فأبى عليها . وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ، وقد عرف ( عليه السلام ) أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف ، كان هذا مما لم يجز تعرضه ! فقال ( عليه السلام ) : ذلك كان ، ولكنه خُيِّر في تلك الليلة ، لتمضي مقادير الله عز وجل ) .
    يعني خيره الله تعالى بالإلهام أو بهتاف الملك ، أو بحديث النبي ( ( عليهما السلام ) ) له ، بين أن يحترس وأن يدفع الله عنه ابن ملجم ويحبط مؤامرته ، أو يترك الحراسة والأمر يجري بمقادير الله تعالى ، فاختار أن تجري المقادير ، وقدم نفسه للشهادة ! !
    وفي عيون المعجزات / 43 : ( روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كلما رأى عبد الرحمن بن ملجم المرادي قال لمن حوله : هذا قاتلي فقال له قائل : أفلا تقتله يا أمير المؤمنين فقال ( عليه السلام ) : كيف أقتل قاتلي ، كيف أرد قضاء الله ) .
    وفي صراط النجاة للسيد الخوئي والتبريزي ( 3 / 421 ) : ( سؤال : هناك إشكال يقول إن ظاهرالروايات أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يعلم بضرب ابن ملجم له ليلة القدر وبوفاته ، فكيف أقدم وخرج ؟ وهناك جواب معروف وهو أن الأئمة ( عليهم السلام ) وظيفتهم العمل بظواهرالأمور دون ما يقتضيه ما انكشف لهم . ولإزالة الشبهة المذكورة هل
    --------------------------- 283 ---------------------------
    لكم أن تتفضلوا بجواب آخر ؟
    فأجاب : إنما يحرم قتل النفس وإلقاؤها في التهلكة بالعنوان الأولي ، وأما بالعنوان الثانوي ، كما إذا توقف عليه حفظ الدين الحنيف ، فربما يجوز ذلك بل قد يجب ، فلولا أن الحسين ( عليه السلام ) قتل بسيوف الأعداء لاندرست آثار النبوة ولانمحى ما تحمله النبي ( ( عليهما السلام ) ) ووصيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من المشقة والتعب ، كما أن بقتل أبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ظهر خبث بواطن الخوارج ، وارتفعت الشبهة عن الجاهلين ، حيث أن الأذهان البسيطة ربما تغتر بكثرة صلاتهم وصيامهم ، وزيادة تعبدهم بظواهرالشريعة ، وقراءتهم وحفظهم للقرآن الكريم ، فعلم الناس بهذه الحادثة المؤلمة ، أنه لا دين لهم واقعاً ، وإنما لبسوا ثوب الدين للمقاصد الدنيوية ، والأغراض الشهوانية ، وأنهم من الجهلاء الذين لا يهتدون سبيلاً ، حيث أقدموا على قتل أفضل البرية من بعد الرسول الأعظم ( ( عليهما السلام ) ) خذلهم الله تعالى ) .
    وقال الشريف المرتضى ( رحمه الله ) في رسائله ( 3 / 131 ) : ( ليس من الواجب علم الإمام بوقت وفاته ، أو قتله على التعيين . وقد روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أخبار كثيرة كان يعلم أنه مقتول ، وأن ابن ملجم قاتله . ولا يجوز أن يكون عالماً بالوقت الذي يقتله فيه على التحديد والتعيين ، لأنه لو علم ذلك لوجب أن يدفعه عن نفسه ولا يلقي بيده إلى التهلكة ) .
    وجوابنا للشريف المرتضى رضي الله عنه : أن الروايات الصحيحة صريحة في أن الإمام ( عليه السلام ) يعلم وقت وفاته وسببها أيضاً . وأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خُيِّرَ فاختار أن تجري مقادير الله تعالى ، فألقى نفسه في الشهادة ، وليس في التهلكة .
    ولعل الشريف لم يطلع على الروايات الصريحة بذلك ، أو تأولها بدون موجب .
    فالصحيح الاحتمال الثاني الذي ذكره العلامة الحلي ( قدس سره ) في المسائل المهناوية / 146 ،
    فقد سئل : ( فكيف خرج ( عليه السلام ) في تلك الليلة ملقياً بيده إلى التهلكة ، وإن فعله ( عليه السلام )
    هو الحجة لكن نطلب وجهاً نجيب عن الشبهة ؟
    فأجاب ( قدس سره ) : يحتمل أن يكون ( عليه السلام ) أخبر بوقوع القتل في تلك ولم يعلم أنه في أي
    --------------------------- 284 ---------------------------
    وقت من تلك الليلة ، أو أنه لم يعلم في أي مكان يقتل ، أو أن تكليفه ( عليه السلام ) مغاير لتكليفنا فجاز أن يكلف ببذل مهجته الشريفة صلوات الله عليه في ذات الله تعالى ، كما يجب على المجاهد الثبات وإن أدى ثباته إلى القتل فلا يعذر في ذلك ) .
    كيف عامل الإمام ( ( ع ) ) قاتله ابن ملجم
    1 . في مناقب ابن سليمان ( 2 / 37 ) : ( قال أبو الطفيل : جمع علي الناس للبيعة فجاء عبد الرحمن بن ملجم المرادي ليبايعه فرده مرتين أو ثلاثاً ثم بايعه ، ثم قال : ما يحبس أشقاها ! والذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذا ! ثم تمثل بهذين البيتين :
    [ أشدد ] حيازيمك للموت * فإن الموت آتيكا
    ولا تجزع من القتل * إذا حل بواديكا ) .
    وفي الروضة لشاذان / 43 و 104 : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما بايعه ابن ملجم : بالله إنك غير وفي ببيعتي ، ولتخضبن هذه من هذا ، وأشار بيده إلى كريمته وكريمه ! فلما هل شهر رمضان جعل يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال فلما مضت بعض الليالي قال : كم مضى من شهر رمضان ؟ قالوا له كذا وكذا يوم ، فقال لهما : في العشرالأواخر تفقدان أباكما ) !
    وفي طبقات ابن سعد ( 3 / 33 ) : ( وزاد غير أبي نعيم في هذا الحديث بهذا الإسناد عن علي بن أبي طالب : والله إنه لعهد النبي الأمي ( ( عليهما السلام ) ) إليَّ ) .
    وفي الرياض النضرة ( 3 / 237 ) : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لعلي : من أشقى الأولين يا علي ؟ قال : الذي عقر ناقة صالح ، قال : صدقت فمن أشقى الآخرين ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه ، وأشار إلى يافوخه ، فكان علي يقول لأهله : والله لوددت أن لو انبعث أشقاها ! أخرجه أبو حاتم والملاء في سيرته . وعن ابن سبع قال : سمعت علياً على المنبر يقول : ما ينتظر أشقاها ؟ عهد إليَّ رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لتخضبن هذه من هذا وأشار إلى لحيته ورأسه ! فقالوا : يا أمير المؤمنين ، خبرنا من هو حتى نبتدره . فقال : أنشد الله رجلاً قتل بي غير قاتلي ) .
    وقال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1125 و 1127 ) : ( ذكر النسائي من حديث
    --------------------------- 285 ---------------------------
    عمار بن ياسر عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أنه قال لعلي رضي الله عنه : أشقى الناس الَّذي عقرالناقة ، والَّذي يضربك على هذا ، ووضع يده على رأسه ، حتى يخضب هذه يعنى لحيته . وذكره الطبري وغيره أيضاً ، وذكره ابن إسحاق في السير وهو معروف من رواية محمد بن كعب القرظي ، عن يزيد بن جشم ، عن عمار بن ياسر وذكره ابن أبي خيثمة من طرق .
    وكان قتادة يقول : قتل علي على غير مال احتجبه ، ولا دنياً أصابها . .
    وكان علي رضي الله عنه كثيراً ما يقول : ما يمنع أشقاها ، أو ماينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا ، يقول : والله ليخضبن هذه من دم هذا ، ويشير إلى لحيته ورأسه ، خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير .
    قيل : فما يمنعك منه ؟ قال : إنه لم يقتلني بعد ! فقيل له : إن ابن ملجم يسم سيفه ويقول : إنه سيفتك بك فتكة يتحدث بها العرب ! فبعث إليه فقال له : لم تسمّ سيفك ؟ قال : لعدوي وعدوك . فخلَّى عنه وقال : ما قتلني بعد !
    ثم روى ابن عبد البر عن الحسن بن علي ( عليه السلام ) أنه سمع أباه في ذلك السحر يقول له : يا بني ، رأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في هذه الليلة في نومة نمتها فقلت : يا رسول الله ، ما ذا لقيت من أمتك من الأود واللَّدد ؟ قال : أدع الله عليهم ، فقلت : اللَّهم أبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي من هو شرّ مني ) !
    ( عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى ينبع عائداً لعلي بن أبي طالب وكان مريضاً بها حتى ثقل فقال له أبي : ما يقيمك بهذا المنزل ؟ ولومت لم يلك إلا أعراب جهينة . احتمل حتى تأتي المدينة ، فإن أصابك أجلك وليَك أصحابك وصلوا عليك . وكان أبو فضالة من أصحاب بدر ، فقال علي : إني لست ميتاً من وجعي هذا ، إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عهد إليَّ أن لا أموت حتى أؤمر ، ثم تختضب هذه يعني لحيته من دم هذه ، يعني هامته . ( كنز العمال : 13 / 186 ، وقال : البزار ، والحارث ، وأبو نعيم ، ورجاله ثقات ) .
  • *
    --------------------------- 286 ---------------------------
    الفصل الخامس والتسعون
    شهادة أمير المؤمنين ( ( ع ) ) ظروف الإغتيال والمخططون
    الإمام ( ( ع ) ) يتحدث عن مراحل حياته وشهادته
    تحدث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن مراحل حياته ، في نص فريد تضمن خلاصة سيرته وشهادته ، رواه الصدوق في الخصال / 365 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) وصححه الشيخ الأنصاري ( قدس سره ) في كتاب المكاسب ( 2 / 244 ) واستدل منه بمشورة عمر لعلي ( عليه السلام ) على مشروعية الفتوحات ، وهو مسند إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال :
    ( أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عند منصرفه عن وقعة النهروان ، وهو جالسٌ في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبيٌّ أو وصي نبي ! قال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ؟ قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده ، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء ، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ، وإلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم ؟
    فقال له علي ( عليه السلام ) : والله الذي لا إله غيره الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) ، لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه ، لتُقِرَّنَّ به ؟ قال : نعم . قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) ، لئن أجبتك لتُسْلِمَنَّ ؟ قال : نعم .
    --------------------------- 287 ---------------------------
    فقال له علي ( عليه السلام ) : إن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم ، أمر الأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الأوصياء في أعناق الأمم ممن يقول بطاعة الأنبياء ( عليهم السلام ) . ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء ( عليهم السلام ) في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء وقد أكمل لهم السعادة . قال له رأس اليهود : صدقت يا أمير المؤمنين فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمرك ؟ فأخذ علي ( عليه السلام ) بيده وقال : إنهض بنا أنبئك بذلك ، فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولمَ ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأمور بدت لي من كثير منكم !
    فقام إليه الأشتر فقال : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك ، فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهرالأرض وصي نبي سواك وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا ( ( عليهما السلام ) )
    نبياً سواه ، وأن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا ، فجلس علي ( عليه السلام )
    وأقبل على اليهودي فقال :
    الأول : امتحان الإيمان والتفرغ للدعوة
    يا أخا اليهود ، إن الله عز وجل امتحنني في حياة نبينا محمد ( ( عليهما السلام ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي ، بنعمة الله له مطيعاً قال : وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : أما أولاهن ، فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا ( ( عليهما السلام ) ) وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سناً ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبد المطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه وهجروه ونابذوه ، واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس ، مقصين له ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم تحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وحدي إلى ما دعا إليه مسرعاً مطيعاً موقناً ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج ،
    --------------------------- 288 ---------------------------
    وما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بما آتاه الله غيري وغير ابنة
    خويلد رحمها الله ! ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثاني : امتحان المبيت في فراش رسول الله ؟ ص ؟
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي ( ( عليهما السلام ) ) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، وإذ قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدراً ! فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار فأخبرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه ، فمضى ( عليه السلام ) لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي ( ( عليهما السلام ) ) فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ،
    ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثالث : امتحان المبارزة والقتال في بدر
    فقال : وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن ابني ربيعة وابن عتبة كانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر ، فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مع صاحبيَّ رضي الله عنهما ( حمزة وعبيدة ) وقد فعل ، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي ، واستشهد ابن عمي في ذلك رحمة الله عليه . ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    --------------------------- 289 ---------------------------
    الرابع : امتحان المبارزة والثبات في أحد
    فقال علي ( عليه السلام ) : وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استحاشوا من يليهم من قبايل العرب وقريش ، طالبين بثأر مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( عليهما السلام ) ) فأنبأه بذلك فذهب النبي ( ( عليهما السلام ) ) وعسكر بأصحابه في سدِّ أحُد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا إلينا حملة رجل واحد واستشهد من المسلمين من استشهد . وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة ، وبقيت مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي ( ( عليهما السلام ) ) وقتل أصحابه ! ثم صرف الله عز وجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) نيفاً وسبعين جراحة منها هذه وهذه ، ثم ألقى رداءه وأمرَّ يده على جراحاتي ، وكان مني في ذلك ما على الله عز وجل ثوابه إن شاء الله ، ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الخامس : امتحان مبارزة عمرو بن ود
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقةً بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( عليهما السلام ) ) فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرةً لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ورسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلا عتواً ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة ، وبسيفه مرة ،
    لا يقدم عليه مُقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه .
    --------------------------- 290 ---------------------------
    فأنهضني إليه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواكٍ إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ، فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لاتعدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك وبما كان مني فيهم من النكاية . ثم التفت ( عليه السلام )
    إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    السادس : امتحان مبارزة مرحب وفتح خيبر
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فإنا وردنا مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا احمرت الحدق ، ودعيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن إنهض ، فأنهضني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) إلى دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ، ثم التفت ( عليه السلام )
    إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    السابع : امتحان تبليغ سورة براءة
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول لله ( ( عليهما السلام ) ) لما توجه لفتح مكة ، أحب أن يُعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عز وجل آخراً ، كما دعاهم أولاً ، فكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ، ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضيَّ به فكلهم يرى التثاقل فيه ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلاً فوجهه به فأتاه جبرئيل فقال :
    --------------------------- 291 ---------------------------
    يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فأنبأني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة ، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( عليهما السلام ) ) وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ، ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم ! ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود ، هذه المواطن التي امتحنني فيه ربي عز وجل مع نبيه ( ( عليهما السلام ) ) فوجدني فيها كلها بمنه مطيعاً ، ليس لأحد فيها مثل الذي لي ، ولو شئت لوصفتُ ذلك ، ولكن الله عز وجل نهى عن التزكية .
    فقالوا : يا أمير المؤمنين : صدقت والله ، ولقد أعطاك الله عز وجل الفضيلة بالقرابة من نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ، وأسعدك بأن جعلك أخاه ، تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها ، والأهوال التي ركبتها ، وذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره ، ومما ليس لأحد من المسلمين مثله يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ومن شهدك بعده ، فأخبرنا يا أمير المؤمنين ما امتحنك الله عز وجل به بعد نبينا ( ( عليهما السلام ) ) فاحتملته وصبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه ، علماً منا به وظهوراً منا عليه إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك ، كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه . فقال ( عليه السلام ) :
    يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني بعد وفاة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن ، من غير تزكية لنفسي ، بمنه ونعمته صبوراً .
    الأول : فقد رسول الله ؟ ص ؟ بوفاته
    أما أولهن يا أخا اليهود ، فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة ، أحدٌ آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به ، غير رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، هو رباني صغيراً ، وبوأني كبيراً ، وكفاني العيلة ، وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ،
    --------------------------- 292 ---------------------------
    ووقاني المكسب . وعال لي النفس والولد والأهل ، هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحق عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ! وسائر الناس من غير بني عبد المطلب ، بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم .
    وحملت نفسي على الصبر عند وفاته ، بلزوم الصمت والإنشغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولا جزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) عليَّ ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً . ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثاني : أخذ الخلافة وعزل بني هاشم
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته ، وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أمره إذا حضرته والأميرعلى من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمر في حياة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ولا بعد وفاته . ثم أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفوَ قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل
    --------------------------- 293 ---------------------------
    شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن تمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثرالتأكيد ! فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( عليهما السلام ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم ، والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ! فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ! فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي ، مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة ، وفقد من لاخلف منه إلا الله تبارك وتعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها !
    ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثالث : وصية أبي بكر لعمر رغم وعده لعلي ( ( ع ) )
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره على ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ، وسألني تحليله ، فكنت أقول : تنقضي أيامه ، ثم يرجع إليَّ حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية ، حدثاً في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الإسلام يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسراً
    --------------------------- 294 ---------------------------
    فيدعوني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ، ليؤدوا إليَّ بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول رويداً وصبراً لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة دماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل فقال كل قوم : منا أمير ، وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر . فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صيَّر الأمر بعده لصاحبه فكانت هذه أخت أختها ، ومحلها مني مثل محلها ، وأخذا مني ما جعله الله لي ، فاجتمع إلي من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) ممن مضى وممن بقي ممن أخره الله من اجتمع ، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في أختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الأول ، صبراً واحتساباً ويقيناً ، وإشفاقاً من أن تفنى عصبة تألفهم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) باللين مرة وبالشدة أخرى ، وبالنذر مرة ، وبالسيف أخرى ! حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكر والفرار والشبع والري ، واللباس والوطاء والدثار ، ونحن أهل بيت محمد ( ( عليهما السلام ) ) لا سقوف لبيوتنا ، ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد ، وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، ونطوي الليالي والأيام عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاءه الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ، ونحن على ما وصفت من حالنا ، فيؤثر به رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها ، دون بلوغها أو فناء آجالها ، لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على إحدى منزلتين إما متبع مقاتل ، وإما مقتول إن لم يتبع الجميع ، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، وقد علم الله أني منه بمنزلة هارون من موسى ، يحل به في مخالفتي والإمساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته . ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ، ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب ، أزيَد لي في حظي ، وأرفقَ بالعصابة التي وصفت أمرهم وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً . ولو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي ، لكنت أولى ممن طلبه ، لعلم من مضى من أصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومن بحضرتك منه بأني كنت
    --------------------------- 295 ---------------------------
    أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة ، وأكثر في هذا الدين مناقب وآثاراً ، لسوابقي وقرابتي ووراثتي ، فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لامخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، وقد قبض محمد ( ( عليهما السلام ) ) وإن ولاية الأمة في يده وفي بيته ، لا في يد الألى تناولوها ولا في بيوتهم ، ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال ، ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الرابع : شورى عمر وبيعة عثمان
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ، فلما أن أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ، ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه ، لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها ، وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت ، وأفضل ما أملت ، وكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوماً أنا سادسهم ، ولم يستوني بواحد منهم ، ولا ذكَر لي حالاً في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ! ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيَّرها شورى بيننا ، وصير ابنه فيها حاكماً علينا ، وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صيَّر الأمر فيهم ، إن لم ينفذوا أمره !
    وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبراً ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطب لنفسه وأنا ممسك ، حتى سألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الإمارة ، وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي ، والركون إلى الدنيا ،
    --------------------------- 296 ---------------------------
    والاقتداء بالماضين قبلهم ، إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوتُ بالواحد ذكَّرته أيام الله وحذرته ما هو قادمٌ عليه وصائرٌ إليه ، التمس مني شرطاً أن أصيِّرها له بعدي !
    فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول ( ( عليهما السلام ) ) ، وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ، ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان ، طمعاً في الشحيح معه فيها !
    وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط ، فضلاً عمن دونهم ،
    لا ببدر التي هي سنام فخرهم ، ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، ومن اختصه معه من أهل بيته ( عليه السلام ) !
    ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه !
    ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه ، ومشى ( يقصدابن عوف ) إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عامة ، يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من أختها وأفظع ، وأحرى أن لا يصبر عليها ! فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما أمَضَّ وأبلغَ منها ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجعٌ عما كان ركب مني ! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ، ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي ، أو يرد الله عز وجل عليَّ حقي . فوالله يا أخا اليهود ما منعني منها إلا الذي منعني من أختيها قبلها ، ورأيت الإبقاء على من بقي من الطائفة أبهجَ لي وآنسَ لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي ! ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل ، فأنزل الله فينا : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
    --------------------------- 297 ---------------------------
    قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر يا أخ اليهود وما بدلت تبديلاً ، وما سكَّتني عن ابن عفان وحثَّني على الإمساك عنه إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه فضلاً عن الأقارب ، وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك ، لم أنطق فيه بحرف من لا ، ولا نعم .
    ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره ، لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح في الأرض ، وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي ، وشديد عادة منتزعة ، فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الخامس : عائشة وحرب الجمل
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن المبايعين لي لما لم يطمعوا في تلك مني ، وثبوا بالمرأة عليَّ ، وأنا وليُّ أمرها والوصيُّ عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري وتنبح عليها كلاب الحوأب ، وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم عازبة آراؤهم ، وهم جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، ويرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين ، كلتاهما في محلة المكروه ، ممن إن كففت لم يرجع ولم يعقل ، وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت ، فقدمت الحجة بالإعذار والإنذار ، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي ، والترك لنقضهم عهد الله عز وجل فيَّ ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع وذكرته فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً ، فلما أبوا إلا هي ركبتها
    --------------------------- 298 ---------------------------
    منهم فكانت عليهم الدبرة وبهم الهزيمة ولهم الحسرة ، وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أولاً ، من الإغضاء والإمساك ، ورأيتني إن أمسكت كنت معيناً لهم عليَّ بإمساكي على ما صاروا إليه وطمعوا فيه ، من تناول الأطراف وسفك الدماء وقتل الرعية ، وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال ، كعادة بني الأصفر ومن مضى من ملوك سبأ والأمم الخالية ، فأصير إلى ما كرهتُ أولاً وآخراً ، وقد أهملتُ المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ، ولم أهجم على الأمر إلا بعدما قدمت وأخرت ، وتأنيت وراجعت وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ يلتمسونه بعد أن عرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك أقدمت عليها فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيداً ، ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    السادس : معاوية وحرب صفين
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فتحكيمهم الحكمين ومحاربة ابن آكلة الأكباد ، وهو طليق معاند لله عز وجل ولرسوله والمؤمنين ، منذ بعث الله محمداً إلى أن فتح الله عليه مكة عنوة ، فأُخِذَت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم ، وفي ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالأمس أول من سلم عليَّ بإمرة المؤمنين ، وجعل يحثني على النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي ، ويجدد لي بيعته كلما أتاني ! وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد ردَّ إليَّ حقي وأقره في معدنه ، وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعاً ، وفي أمانة حملناها حاكماً ، كرَّ على العاصي بن العاص فاستماله فمال إليه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ، وحرام عليه أن يأخذ من الفيئ دون قسمه درهماً ، وحرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأها بالغشم ، فمن بايعه أرضاه ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلي ناكثاً علينا مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً ، والأنباء تأتيني والأخبار ترد عليَّ بذلك ، فأتاني أعور ثقيف فأشار عليَّ أن أوليه البلاد التي هو بها لأداريه بما أوليه منها ، وفي الذي أشار به الرأي في
    --------------------------- 299 ---------------------------
    أمر الدنيا ، لو وجدت عند الله عز وجل في توليتي له مخرجاً ، وأصبت لنفسي في ذلك عذراً ، فأعملت الرأي في ذلك ، وشاورت من أثق بنصيحته لله عز وجل ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) ولي وللمؤمنين ، فإن رأيه في ابن آكلة الأكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ويحذرني أن أدخل في أمر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً ، فوجهت إليه أخا بجيلة مرة وأخا الأشعريين مرة ، كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه ، فلما لم أره يزداد فيما انتهك من محارم الله إلا تمادياً ، وشاورت من معي من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) البدريين والذين ارتضى الله عز وجل أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم ، وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين ، فكل يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه مما نالت يده ، وإني نهضت إليه بأصحابي ، أنفذ إليه من كل موضع كتبي وأوجه إليه رسلي ، أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه ، والدخول فيما فيه الناس معي ، فكتب يتحكم عليَّ ويتمنى عليَّ الأماني ، ويشترط عليَّ شروطاً لا يرضاها الله عز وجل ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواماً من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أبراراً ، فيهم عمار بن ياسر وأين مثل عمار ! والله لقد رأيتنا مع النبي ( ( عليهما السلام ) ) وما يعد منا خمسة إلا كان سادسهم ، ولا أربعة إلا كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم ! وانتحل دم عثمان ! ولعمر والله ما ألب على عثمان ولا جمع الناس على قتله إلا هو وأشباهه من أهل بيته ، أغصان الشجرة الملعونة في القرآن !
    فلما لم أجب إلى ما اشترط من ذلك كرَّ مستعلياً في نفسه بطغيانه وبغيه ، بحميرٍ لا عقول لهم ولا بصائر ، فموَّه لهم أمراً فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عز وجل بعد الإعذار والإنذار ، فلما لم يزده ذلك إلا تمادياً وبغياً لقيناه بعادة الله التي عودَنا من النصر على أعدائه وعدونا ، وراية رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بأيدينا ، لم يزل الله تبارك وتعالى يفلُّ حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه ، وهو مُعْلم رايات أبيه التي لم أزل أقاتلها مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في كل المواطن ، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب فركب
    --------------------------- 300 ---------------------------
    فرسه وقلب رايته ، لا يدري كيف يحتال فاستعان برأي ابن العاص ، فأشار عليه بإظهار المصاحف ورفعها على الأعلام والدعاء إلى ما فيها ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ! فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم ، وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم ! وظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكرٌ ومن ابن العاص معه ، وأنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا إجابته كرهت أم هويتُ شئت ُأو أبيت ، حتى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان ، أو ادفعوه إلى ابن هند برمته ! فجهدت علم الله جهدي ولم أدع علة في نفسي إلا بلغتها ، في أن يخلُّوني ورأيي فلم يفعلوا ، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس فلم يجيبوا ، ما خلا هذا الشيخ وأومأ بيده إلى الأشتر وعصبة من أهل بيتي ، فوالله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان ، وأومأ بيده إلى الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فينقطع نسل رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وذريته من أمته ، ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومأ بيده إلى عبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية ، فإني أعلم لولا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عز وجل ، فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الأمور وتخيروا الأحكام والآراء ، وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ، وما كنت أحكم في دين الله أحداً ، إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلك أردت أن أحكم رجلاً من أهل بيتي أو رجلاً ممن أرضى رأيه وعقله ، وأثق بنصيحته ومودته ودينه ، وأقبلت لا أسمي أحداً إلا امتنع منه ابن هند ، ولا أدعوه إلى شئ من الحق إلا أدبر عنه ، وأقبل ابن هند يسومنا عسفاً ، وما ذاك إلا باتباع أصحابي له على ذلك ! فلما أبوا إلا غلبتي على التحكم تبرأت إلى الله عز وجل منهم ، وفوضت ذلك إليهم ، فقلدوه امرءً فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها ، وأظهر المخدوع عليها ندماً !
    ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    --------------------------- 301 ---------------------------
    السابع : الخوارج وحرب النهروان
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كان عهد إلي أن أقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بخلافهم عليَّ ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم لي بقتلهم بالسعادة ، فلما انصرفت إلى موضعي هذا ( يعني بعد الحكمين ) أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ ، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه !
    فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم :
    لا حكم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة وأخرى بحروراء ، وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً ، حتى عبرت دجلة ، فلم تمرَّ بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ، ومن خالفها قتلته ! فخرجتُ إلى الأوليين واحدة بعد أخرى أدعوهم إلى طاعة الله عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعهما غير ذلك ! فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لولاما فعلوا ركناً قوياً وسداً منيعاً ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه !
    ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى وكانوا من جلة أصحابي وأهل التعبدمنهم والزهد في الدنيا ، فأبت إلا اتباع أختيها والاحتذاء على مثالهما ، وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين وتتابعت إليَّ الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة أوجه السفراء والنصحاء وأطلب العتبى ، بجهدي بهذا مرة وبهذا مرة ، أومأ بيده إلى الأشتر ، والأحنف بن قيس ، وسعيد بن قيس الأرحبي ، والأشعث بن قيس الكندي ، فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت
    --------------------------- 302 ---------------------------
    منهم مخبر ! فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى ، له ثدي كثدي المرأة ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا ، بلى يا أمير المؤمنين .
    قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود !
    فقال ( عليه السلام ) : قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود وبقيت الأخرى وأوشك بها فكأنْ قَدْ ! فبكى أصحاب علي ( عليه السلام ) وبكى رأس اليهود وقالوا : يا أمير المؤمنين أخبرنا بالأخرى فقال : الأخرى أن تخضب هذه ، وأومأ بيده إلى لحيته ، من هذه ، وأومأ بيده إلى هامته ! قال : وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء ، حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً ! وأسلم رأس اليهود على يدي علي ( عليه السلام ) من ساعته ، ولم يزل مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأُخذ ابن ملجم لعنه الله ، فأقبل رأس اليهود حتى وقف على الحسن ( عليه السلام ) والناس حوله وابن ملجم بين يديه فقال له : يا أبا محمد أقتله قتله الله ، فإني رأيت في الكتب التي أنزلت على موسى ( عليه السلام ) أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرماً من ابن آدم قاتل أخيه ، ومن القدار عاقر ناقة ثمود ) !
    ملاحظات
    1 . يلاحظ الباحث المنصف قوة منطق الإمام ( عليه السلام ) في هذا النص ، وبلاغته ومصداقيته . فهو تسجيل دقيق لتاريخ الإسلام والخلافة ، يجب أن يكون مصدراً للمؤرخين في فهم سيرة النبي ( ( عليهما السلام ) ) وحروبه ، وما جرى بعده .
    2 . تضمن حديث الإمام ( عليه السلام ) حقائق ودقائق أهملها المؤرخون أو حرفوها في سيرة النبي ( ( عليهما السلام ) ) في أُحُد والخندق . وفي حرب علي ( عليه السلام ) مع الخوارج ، فقد نص على أنهم كانوا فرقتين ، وأنه خرج اليهما وقاتلهما ، أولاهما في النخيلة والثانية في النهروان . ولم يرو المؤرخون إلا معركته في النهروان !
    قال ( عليه السلام ) : ( ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة وأخرى بحروراء ، وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً ، حتى عبرت دجلة ، فلم تمرَّ بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ، ومن خالفها قتلته ! فخرجتُ إلى الأوليين واحدة بعد أخرى أدعوهم إلى طاعة الله
    --------------------------- 303 ---------------------------
    عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعهما غير ذلك ! فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لولا ما فعلوا ركناً قوياً وسداً منيعاً ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه ) !
    فقوله ( عليه السلام ) ( فقتل الله هذه وهذه ) يدل على معركتين ، فأين معركة النخيلة ؟ ! توجد إشارات لهذه المعركة ، وقد ذكرالخوارج بعد النهروان أبو العباس المبرد في الكامل ( 3 / 173 ) بذكرها ، فقال إنها كانت بعد النهروان ، قال : ( قال أبو العباس : وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان ، ممن فارق عبد الله بن وهب ، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب ، وممن كان أقام بالكوفة ، فقال : لا أقاتل علياً ولا أقاتل معه ، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا ، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم ، فقام منهم قائم يقال له المستورد ، من بني سعد بن زيد مناة ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ، ثم قال : إن رسول الله أتانا بالعدل تخفق راياته ، مقلباً مقالته ، مبلغاً عن ربه ، ناصحاً لأمته ، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة ، فرأى تعطيل إحداهما طعناً على الأخرى ، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً ، ثم قام بعده الفاروق ، ففرق بين الحق والباطل ، مسوياً بين الناس في إعطائه ، لا مؤثراً لأقاربه ، ولا محكماً في دين ربه ، وها أنتم تعلمون ما حدث ، والله يقول : وَفَضَّلَ الله المجَاهدينَ على القَاعدينَ أجراَ عظيماً ، فكل أجاب وبايع . فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً فأبوا ، فسار إليهم فقال له عفيف بن قيس : يا أمير المؤمنين ، لا تخرج في هذه الساعة فإنها ساعة نحس لعدوك عليك ، فقال له علي : توكلت على الله وحده ، وعصيت رأي كل متكهن ، أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَآخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً لم يفلت منهم إلا خمسة ، منهم المستورد ، وابن جوين الطائي ، وفروة بن شريك الأشجعي ، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري ، فقال : دعاهم إلى دين الله فجعلوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراًً ،
    --------------------------- 304 ---------------------------
    فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً . وفيهم يقول عمران بن حطان :
    إني أدين بما دان الشراة به . . . يوم النخيلة عند الجوسق الخرب
    وقال السيد الحميري :
    إني أدين بما دان الوصي به * يوم النخيلة من قتل المحلينا
    وبالذي دان يوم النهر دنت به * وشاركت كفه كفي بصفينا
    تلك الدماء معا يا رب في عنقي * ومثلها فاسقني آمين آمينا ) .
    وتقدم خبر الخريت من بني ناجية الذي خرج بعد النهروان ، في الأهواز وجبال إيران ، وكان أكبر المجموعات ، مضافاً إلى بضع مجموعات خرجوا بين الكوفة والمدائن ،
    فأنهى الإمام ( عليه السلام ) تمردهم .
    3 . في حديث الإمتحانات حقائق تفرد ببعضها ، من ذلك قوله : وارتفعت أصوات الناس بالضجة والبكاء ، حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً !
    والسؤال هنا : أن ذلك مشهد غريب ، فرئيس الدولة ينعى نفسه ويخبر أنه سيغتال قريباً ، فيبكي الناس ويفزعون ، فلماذا لا يحرسونه ولا يحترس هو ؟
    والجواب : أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيعتقد أن ما أخبره به النبي ( ( عليهما السلام ) ) هو قضاء الله وقدره ، وأنه لو اجتمع الخلائق لما استطاعوا تغييره ! لذلك كان يتعامل مع شهادته بيد ابن ملجم على أنها أمر واقع ، وقد قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) إنه خير فاختار ، ولذلك خرج إلى المسجد بدون حراسة ، بل بدون سلاح !
    وأما عامة الناس ، فبعضهم يعتقد بعقيدة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فهو ينتظر أمره ولا يبادر إلى عمل شئ . وبعضهم عدو يفرح بينه وبين نفسه ، وبعضهم لا يفهم كلام الإمام ( عليه السلام ) ، وهو ينتظر الأحداث حتى تقع .
  • *
    --------------------------- 305 ---------------------------
    المشاركون والمخططون في جريمة قتل الإمام ( ( ع ) )
    الرواية الرسمية
    الرواية الرسمية لشهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنه تلاقى ثلاثة من الخوارج ، وتعاهدوا على أن يخلصوا الأمة من علي ومعاوية وعمرو العاص ، فتكفل ابن ملجم بقتل علي ( عليه السلام ) ، وتكفل البرك وهو الحجاج بن عبد الله الصريمي بقتل معاوية . وكان معهم غلام فارسي لبني حارثة اسمه زادويه ، وقد تسمى بعمرو بن بكر ، فقال : والله ما عمرو بن العاص بدونهما فأنا له ، فتعاقدوا على ذلك . ونجح ابن ملجم ، لكن فشل البُرك وزادويه .
    قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 6 / 113 ) تحت عنوان مقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( وأصح ما ورد في ذلك ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين ، قال بعد أسانيد ذكرها مختلفة متفرقة ، تجتمع على معنى واحد نحن ذاكروه : إن نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكة فتذاكروا أمر المسلمين ، فعابوهم وعابوا أعمالهم عليهم ، وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم ، وقال بعضهم لبعض : لو أنا شرينا أنفسنا لله عز وجل فأتينا أئمة الضلال وطلبنا غرتهم ، وأرحنا منهم العباد والبلاد ، وثأرنا بإخواننا الشهداء بالنهروان ! فتعاقدوا عند انقضاء الحج فقال عبد الرحمن بن ملجم : أنا أكفيكم علياً . وقال واحد : أنا أكفيكم معاوية . وقال الثالث : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، فتعاقدوا وتواثقوا على الوفاء ، وألا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي يتوجه إليه ولا عن قتله ، واتعدوا لشهر رمضان ، في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم علياً ) .
    وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 17 : ( قال أبوزهيرالعبسي : الرجلان الآخران ، البُرك بن عبد الله التميمي وهو صاحب معاوية ، والآخر عمرو بن بكر التميمي وهو صاحب عمرو بن العاص . فأما صاحب معاوية فإنه قصده فلما وقعت عينه عليه ضربه فوقعت ضربته في أليته وأُخذ فجاء الطبيب إليه
    --------------------------- 306 ---------------------------
    فنظر إلى الضربة ، فقال إسماعيل بن راشد في حديثه ، فقال : إن السيف مسموم فاختر إما أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربة فتبرأ ، وإما أن أسقيك دواء فتبرأ وينقطع نسلك . قال : أما النار فلا أطيقها ، وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما يقر عيني وحسبي بهما ، فسقاه الدواء ، فعوفي ، وعالج جرحه حتى التأم ولم يولد له بعد ذلك . وقال له البرك بن عبد الله : إن لك عندي بشارة ، قال : وما هي ؟ فأخبره بخبر صاحبيه ، وقال له : إن علياً يقتل في هذه الليلة فاحبسني عندك ، فإن قُتل فأنت وليُّ ما تراه في أمري ، وإن لم يقتل أعطيتك العهود والمواثيق أن أمضي فأقتله ثم أعود إليك فأضع يدي في يدك حتى تحكم في بما تراه !
    فحبسه عنده ، فلما أتاه أن علياً قد قتل ، خلى سبيله . هذه رواية إسماعيل بن راشد ، وقال غيره من الرواة : بل قتله من وقته ، قال : وأما صاحب عمرو بن العاص فإنه وافاه في تلك الليلة وقد وجد علة فأخذ دواء واستخلف رجلاً يصلي بالناس يقال له خارجة بن أبي حبيبة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فخرج للصلاة وشد عليه عمرو بن بكر فضربه بسيفه فأثبته ، وأخذ الرجل فأُتيَ به عمرو العاص فقتله ، ودخل من غد إلى خارجة وهو يجود بنفسه فقال له : أما والله أبا عبد الله ما أراد غيرك . قال عمرو : ولكن الله أراد خارجة وأما ابن ملجم فإنه قتل علياً تلك الليلة ) .
    ملاحظة على الرواية الرسمية
    تقول الرواية إن بعض رجال الخوارج اجتمعوا في الحج ، واتفقوا على قتل علي ( عليه السلام ) ومعاوية ، وهذا أمر طبيعي ، فقد كان مطروحاً في أوساط الخوارج تخليص الأمة من هؤلاء الثلاثة ، فاتفقوا على ذلك .
    لكن السؤال : لماذا نجحت الخطة في علي ( عليه السلام ) ولم تنجح في معاوية وعمرو ؟ ولماذا نرى أشخاصاً عديدين ساعدوا ابن ملجم في قتل علي ( عليه السلام ) ، ولا نقرأ عن شخص واحد ساعد البُرك على معاوية ، أو ساعد غلامه الفارس