الجديد في النبي (ص) - ج2

الجديد في النبي (ص)

المجلد الثاني
الطبعة الأولی
۱٤٤۳-۲۰۲۱

< صفحة > 4 < / صفحة >
الجديد في النبي صلّى الله عليه وآله
المجلد الثاني
المؤلف: عليالكَوراني
الناشر: دارالمعروف، قم المقدّسة.
الطبعة : ‏‫‏الأولی.‬‬‬‬‬
تاریخ النشر: ۱٤٤۲-۲۰۲۱
المطبعة : ‏‫‏باقری - قم المقدّسة.‬‬‬‬‬
عدد المطبوع : ۲۰۰۰ نسخة.
شابك: ٩٧٨-٦٠٠-٨٩١٦-٥۲-۹
شابك دوره: ٩٧٨-٦٠٠-٨٩١٦-٥۱-۲

مركز النشر والتوزیع :
إيران - قم المقدّسة - شارع مصلّی القدس - رقم الدّار: ٦٨٢ . ص-ب : ١٥٨- ٣٧١٥٦ تلفون: ٣٢٩٢٦١٧٥ ٢٥(٠)٠٠٩٨
جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www.maroof.org
Email: [email protected]
< صفحة > 5 < / صفحة >

الفصل الحادي والأربعون : أجداد النبي صلّى الله عليه وآله من إسماعيل الى قصي

إيمان آباء النبي صلّى الله عليه وآله وأجداده الى آدم عليه السلام

قال الصدوق في الإعتقادات/١١٠:(اعتقادنا في آباء النبي أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وأن أباطالب كان مسلماً، وأمه آمنة بنت وهب كانت مسلمة.
وقال النبي صلّى الله عليه وآله :خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم).
وقال المفيد في أوائل المقالات/٤٥: (اتفقت الإمامية على أن آباء رسول الله صلّى الله عليه وآله من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عز وجل موحدون له. واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار، قال الله عز وجل: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله :لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا).
أقول: استشكل بعضهم في دلالة آية: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، على إيمان آباء النبي صلّى الله عليه وآله وقال إن معناها تقلبك أنت في المصلين.لكن استدلال المفيد بطهارة آبائه صلّى الله عليه وآله قوي:قال في تصحيح الإعتقادات/١٤٠: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. يريد به تنقله في أصلاب الموحدين. وقال نبيه صلّى الله عليه وآله : ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا. فدل على أن آباءه كلهم كانوا مؤمنين، إذ لو كان فيهم كافر لما استحق الوصف بالطهارة، لقول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فحكم على الكفار بالنجاسة، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك، دل على أنهم كانوا مؤمنين).
وفي كمال الدين/١٧٤، وسنده صحيح: (قال الأصبغ بن نباته: سمعت أمير المؤمنين صلوات الله
< صفحة > 6 < / صفحة >
عليه يقول: والله ما عَبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قط. قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم عليه السلام متمسكين به).
وفي فتح الباري(٧/١٢٥):«وقد روى أبوجعفر بن حبيب في تاريخه المحبر من حديث ابن عباس قال: كان عدنان، ومعد، وربيعة، ومضر، وخزيمة، وأسد، على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير».
وفي علل الشرائع(١/١٣٤):(عن أبي ذر قال:سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يقول: خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد نسبح الله يمنة العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه، فلم يزل ينقلنا الله عز وجل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة، حتى انتهى بنا إلى عبد المطلب فقسمنا بنصفين، فجعلني في صلب عبد الله، وجعل علياً في صلب أبي طالب). والأصلاب والأرحام الطاهرة تعني طهارتهم وإيمانهم.

لم يعبد قصي الأصنام ولا أجداد النبي صلّى الله عليه وآله

رووا عن قصي أنه كان يقول:(ولد لي أربعة رجال فسميت اثنين بإلهي وواحداً بداري وواحداً بنفسي. فكان يقال لعبد بن قصي عبد قصي واللذين سماهما بإلهه عبد مناف وعبد العزى، وبداره عبد الدار).(الطبقات:١/٧٠).
ويشكلون على هذا أن مناف صنم والعزى صنم، وهذا يعني عبادة قصي لأصنام خزاعة التي أنهى حكمها لمكة، أو احترامه لأصنامها.
والجواب: أنه لم يسم ابنه عبد مناف، بل سمته أمه أو الناس، على أن صنم مناف المدعى لم يعرف أين كان، فقد قال المؤرخ ابن الكلبي في كتابه الأصنام (١/٢٠٤) إنه لايعرفه، قال: (وكان لهم أيضاً مناف فبه كانت تسمي قريش عبد مناف، ولا أدري أين كان، ولا من نصبه).
وفي تاريخ دمشق (٤٢/٦): (قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: علي بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسم هاشم عمرو بن عبد مناف، واسم عبد مناف المغيرة بن قصي، واسم قصي زيد بن كلاب، بن مرة، بن كعب بن لؤي).
وفي الروض الأنف للسهيلي(٢/٨٣):(أن قصياً كان سمى ابنه عبد قصي، وقال: سميته بنفسي وسميت الآخر بدار الكعبة، يعني عبد الدار، ثم إن الناس حولوا اسم عبد بن قصي، فقالوا
< صفحة > 7 < / صفحة >
عبد قصي، وقال الزبير أيضاً: كان إسم عبد الدار عبد الرحمن).
فهذه النصوص تدل على أن عبد مناف وعبد العزى وعبد الدار شهرة وليست الإسم الأصلي، على أن العرب توسعوا في كلمة عبد فيما لايدل على العبادة.

واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام: دعوة عامة أو خاصة؟

قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
والسؤال: هل استجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام هذه لذريته وجنَّب إسماعيل وأبناءه وإسحاق وأبناءه عبادة الأصنام؟
قد يقال: إن دعوات الأنبياء عليهم السلام مستجابة، وإبراهيم من كبارهم عليهم السلام .
ويجاب عنه بأنه قد أراد الإمامة لذريته، فاستجاب له الله في بعضهم لا في كلهم: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وقيل: إن دعاء إبراهيم عليه السلام استجيب في جميع ذريته فلم يعبد أحد منهم الأصنام وإن كفر بعضهم بأنهم جعلوا الأصنام شفعاء!
ويظهر أن استجابة دعائه كانت في خط أجداد النبي صلّى الله عليه وآله ، فلم يعبد أحد منهم الأصنام. ويؤيده رواية العياشي(١/٦٠): (عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن أمة محمد صلّى الله عليه وآله من هم؟ قال: أمة محمد بنو هاشم خاصة قلت: فما الحجة في أمة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وجعل من ذريتهما أمة مسلمة وبعث فيها رسولاًمنها يعني من تلك الأمة، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم دعوته الأولى بدعوة أخرى فسأل لهم تطهيراً من الشرك ومن عبادة الأصنام ليصح أمره
< صفحة > 8 < / صفحة >
فيهم ولايتبعوا غيرهم، فقال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فهذه دلالة على أنه لا تكون الأئمة والأمة المسلمة التي بعث فيها محمد صلّى الله عليه وآله إلا من ذرية إبراهيم عليه السلام لقوله:وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).
وبهذا يتضح خطأ بعض المفسرين بان أحداً من ذرية إبراهيم لم يعبد صنماً ، كما رواه الطبري عن مجاهد في تفسيره (١٣/٢٩٩):(عن مجاهد قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته. قال: واستجاب الله له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذريته من يقيم الصلاة، وتقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه).
بل إن أولاد إسماعيل عليه السلام عبدوا الأصنام، إلا خط آباء النبي صلّى الله عليه وآله فلم يعبدوا صنماً، ولم يعتقدوا شفاعة الأصنام.
**
كانت طسم وجديس قبل إبراهيم عليه السلام
قال المسعودي (مروج الذهب:٢/٢٥): (وأما طَسْم وجَديس فتفانت في نحو من سبعين سنة في البراري، بما كان بينهم من الشَّحناء وطلب الرياسة فدثروا، ولم يبق لهم باقية، فضربت بهم العرب المثل)!
وقال الطبري(١/٦٢٩): (كان أمرهم في أيام ملوك الطوائف، وإن فناء جديس كان على يد حسان بن تبع).
ويظهر أنهم كانوا قبل إبراهيم عليه السلام وأن الكعبة كانت موجودة فخربوها! ففي التبيان(٦/٣٠٠، ومجمع البيان:٦/٨٥): (إن البيت قد كان قبل ذلك (بناء إبراهيم) وإنما خربه طسم وجديس).
**
كان العمالقة يسكنون في مكة قبل إسماعيل عليه السلام
في دعائم الإسلام(١/٢٩٢)عن علي عليه السلام :(فأتاه جبرئيل عليه السلام بالحجرالأسود، فجاء إسماعيل وقد وضعه إبراهيم عليهما السلام موضعه فقال: من جاءك بهذا؟ فقال: من لم يتكل على بنائك.
فمكث البيت حيناً فانهدم فبنته العمالقة، ثم مكث حيناً فانهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله يومئذ غلام).
< صفحة > 9 < / صفحة >
وقال في فتح الباري(٧/١١١): (وروى إسحاق بن راهويه عن علي في قصة بناء إبراهيم البيت قال: فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان النبي فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل).
**
وفي تاريخ أبي الفداء (١/٩٨): (وهم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام. ولما تبلبلت الألسن نزلت العمالقة بصنعاء من اليمن، ثم تحولوا إِلى الحرم وأهلكوا من قاتلهم من الأمم، وكان من العمالقة جماعة بالشام وهم الذين قاتلهم موسى، ثم يوشع عليهما السلام بعده فأفناهم).
ودل الحديث الصحيح عندنا في الكافي ( ٤ / ٢٠١) على أن العمالقة كانوا حول مكة لما أسكن إبراهيم هاجر وإسماعيل عليهم السلام فيها، قال الإمام الصادق عليه السلام 🙁 لما ولد إسماعيل حمله إبراهيم عليه السلام وأمه على حمار وأقبل معه جبرئيل عليه السلام حتى وضعه في موضع الحجر ومعه شئ من زاد وسقاء فيه شئ من ماء، والبيت يومئذ ربوة حمراء من مدر، فقال إبراهيم عليه السلام لجبرئيل هاهنا أمرت؟ قال: نعم. ومكة يومئذ سَلَمٌ وسَمَرٌ، وحول مكة يومئذ ناس من العماليق).
وهذا يتناسب مع رواية بناء العمالقة للبيت لما ضعف بناء إبراهيم عليهما السلام ، فساعدوا أبناء إسماعيل عليه السلام وأنفقوا وعملوا في بنائه. وتكون جرهم بنته ثانية.
**
وفي البلدان لابن الفقيه الهمداني/٨٦: (وكانت منازل طسم وجديس اليمامة وما حولها إلى البحرين، ومنازل عاد الأولى الأحقاف وهو الرمل ما بين عمان إلى عدن، وكانت مساكن غسان بيثرب، ومساكن أميم بالرمل، ومساكن جرهم بتهائم اليمن، ثم لحقوا بمكَّة فنزلوا على إسماعيل عليه السلام ، وكانت منازل العماليق موضع صنعاء اليوم، ثم خرجوا فنزلوا مكَّة، ولحقت طائفة منهم بالشام ومصر، وتفرقت طائفة منهم في جزيرة العرب إلى العراق، ويقال: إن فراعنة مصر كانوا من العماليق..
وملك الحجاز رجل من العماليق يقال له الأرقم، وكان الضحاك من العماليق، غلب على ملك العجم بالعراق، وهو فيما بين موسى وداود).
**
< صفحة > 10 < / صفحة >

العمليق: هو المتفنن في الكلام، المخادع، وليس بمعناه الذي نستعمله في عصرنا.
ففي النهاية لابن الأثير(٣/٣٠١): ( أن خباباً أنه رأى ابنه مع قاص فأخذ السوط وقال:أمع العمالقة؟!والعمالقة: الجبابرة الذين كانوا بالشام من بقية قوم عاد، الواحد عمليق وعملاق. يقال لمن يخدع الناس فشبه القصاص بهم).
فالعمالقة هنا صفة لا قبيلة، وقد سمى النبي صلّى الله عليه وآله المنحرفين بالعمالقة فقال في حجة الوداع: لأقاتلن العمالقة في كتيبة، فقال له جبرئيل عليه السلام :أو علي. (الحاكم:٣/١٢١، والمناقب:٣/٢٠).
والعمالقة في كلام علي عليه السلام قبيلة، قال: (وإن لكم في القرون السالفة لعبرة. أين العمالقة وأبناء العمالقة. أين الفراعنة وأبناء الفراعنة). (نهج البلاغة:٢/١٠٥).
وفي الإختصاص/٢٦٥: « وكانت جرهم حول الكعبة سكنت بعد العماليق. وسموا عماليق، لأن أباهم كان عملاق بن لود بن سام بن نوح ».
وفي الفقيه (٢/٢٣٣): « وأقام إسماعيل عليه السلام فتزوج إسماعيل امرأة من العمالقة وخلى سبيلها، وتزوج أخرى حميرية فكانت عاقلة ».
فالعمالقة والعملاق والعمليق، مشترك بين المنتسب لقبيلة العمالقة، وبين المتفنن في الكلام لخداع الناس. وليس فيه معنى الكبير أو النابغ، كما نستعمله في عصرنا.
وفي نهاية الإرب (١/١٩٦): (وقيل إنما نزلت جرهم الحجاز مع بني قطورا من العمالقة لقحط أصاب اليمن، ثم غلبت جرهم العمالقة على مكة وملكوا أمرها، ولم يزالوا بمكة إلى أن نزل إسماعيل عليه السلام مكة فنزلوا عليه فتزوج منهم وتعلم لغتهم، وقدم عليه الخليل عليه السلام وقاما ببناء البيت وتولاه إسماعيل ثم بعض بنيه. ثم استولت جرهم على أمر البيت وتفرقت قبائل اليمن بسيل العرم، فنزلت خزاعة مكة وغلبوا جرهم عليها، فخرجت جرهم من مكة ورجعوا إلى ديارهم في اليمن فأقاموا بها حتى هلكوا).

قبيلة جرهم وأبناء إسماعيل عليه السلام

(تزوج إسماعيل عليه السلام من ابنة مضاض بن عمرو الجرهمي، فأولد منها اثني عشر ولداً هم: نابت بن إسماعيل، وقيدار، وأدبيل، ومشيا، ومسمع، ودما، وماس، وأدد، وطور، ونفيس،
< صفحة > 11 < / صفحة >
وطما، وقيدمان. وذكروا أن إسماعيل عَمَّرَ مائة وثلاثين سنة). ( تاريخ الطبري: ١ /٢٢١).
وقال البلاذري(١/٨): (قبض الله عز وجل نبيه إسماعيل، وقام بأمر البيت بعده قيدر بن إسماعيل، وأمه جرهمية. ثم نبت بن قيدر، ثم تيمن بن نبت، ثم نابت بن الهميسع بن تيمن بن نبت. فلما مات نابت، غلبت جرهم على البيت، فكانوا ولاته وقوامه ما شاء الله. وتفرق ولد إسماعيل من العرب بتهامة، وفي البوادي والنواحي إلا من أقام حول مكة من ولد نزار تبركاً بالبيت. فلما أرسل الله جل وعز على ولد سبأ بمأرب سيل العرم وهو سد كان لهم بين جبلين، تفرقت الأسْد وانخزعت منها خزاعة، وهم وُلْد لُحَيّ بن حارثة، وأفصى بن حارثة بن عمرو، مزيقيا، فنزلوا بظهر مكة. فلم يزالوا يكثرون وتقل جرهم لاستخفافهم بالبيت وفجورهم فيه، حتى غلبتهم خزاعة وألفافها على مكة وطردوهم عنها، فدخل بعضهم في قبائل اليمن. ونزل بعضهم بين مكة ويثرب فأصابهم الداء الذي يعرف بالعدسة، فهلكوا.
وقال عمرو بن الحارث الجرهمي في خروجهم من مكة:
كــأن لـم يكـن بين الحجون إلى الصَّفا * أنيسٌ ولم يســــمر بمكة سامرُ
ولم يتربع واســــــطاً فجنـــــــوبه * إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر
بلى نحن كنــــــا أهلها فأزالنا * صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت * نطوف بذاك البيت والخير ظاهر).
ذكر الزركلي في الأعلام(٢/٥٤) أن (البشر بن عمرو بن الحارث الجرهمي: آخر ملوك جرهم في الحجاز وتهامة، كان في عصر بلقيس ملكة سبأ وتابعاً لها. وتغلب العمالقة على بلاده، فبقيت له سدانة البيت الحرام والسقاية).

اختلاف أبناء إسماعيل كان سبب تفرق العرب!

كان أبناء إسماعيل يتوارثون ولاية البيت كابراً عن كابر كما قال الإمام الباقر عليه السلام ، وكانوا رجال دين في ظل حكم أخوالهم جرهم، لكن لو اتحدوا لكانوا هم حكام مكة وحكام العرب، ولما سمحوا لخزاعة أن تنصب الأصنام في مكة!
قال أمير المؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:٢/١٥٢): (فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني
< صفحة > 12 < / صفحة >
إسرائيل. فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال. تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش. فتركوهم عالة مساكين، إخوان دبر ووبر، أذل الأمم داراً، وأجدبهم قراراً. لايأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها. فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة. في بلاء أزل، وإطباق جهل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة).

أذن الله بهلاك جرهم فتسلطت أياد ثم خزاعة

في هداية الأمة(٥/١٩٤):(قال الإمام الباقر عليه السلام :بغت جرهم بمكَّة فاستحلَّوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة، فبعث الله عليهم الرُّعاف والنمل وأفناهم).
وقال اليعقوبي(١/٢٢٢): (وافترق ولد إسماعيل يطلبون السعة في البلاد، وحبس قوم أنفسهم على الحرم فقالوا: لا نبرح من حرم الله.
ولما توفي نابت، وقد تفرق ولد إسماعيل، ولي البيت المضاض بن عمرو الجرهمي، جد ولد إسماعيل… ثم ملك الحارث بن مضاض بن عمرو، وكان آخر من ملك من جرهم. وطغت جرهم وبغت وظلمت وفسقت في الحرم، فسلط الله عليهم الذر، فأهلكوا به عن آخرهم).
وفي أعلام الزركلي(٢/١١٨): (جرهم بن قحطان: جد جاهلي يماني قديم.كان له ولبنيه ملك الحجاز، ولما بنيَ البيت الحرام بمكة كان لهم أمره، وأول من وليه منهم الحارث بن مضاض، إلى أن غلبتهم عليه خزاعة، فهاجروا عائدين إلى اليمن. ولهشام الكلبي النسابة كتاب: أخبار جرهم).
وفي الكافي (٤/٢١٩): (كان في الكعبة غزالان من ذهب وخمسة أسياف، فلما غلبت خزاعة جرهم على الحرم ألقت جرهم الأسياف والغزالين في بئر زمزم وألقوا فيها الحجارة وطموها وعموا أثرها، فلما غلب قصي على خزاعة لم يعرفوا موضع زمزم، وعمي عليهم موضعها، فلما غلب عبد المطلب وكان يفرش له في فناء الكعبة ولم يكن يفرش لأحد هناك غيره، فبينما هو نائم في ظل الكعبة فرأى في منامه أتاه آت فقال له: إحفر برَّة، قال: وما برة؟
< صفحة > 13 < / صفحة >

ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: إحفر طيبة، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال: إحفر المصونة قال: وما المصونة؟ ثم أتاه في اليوم الرابع فقال: إحفر زمزم لا تنزح ولا تذم سَقْيُ الحجيج الأعظم عند الغراب الأعصم، عند قرية النمل. وكان عند زمزم حِجْرٌ يخرج منه النمل فيقع عليه الغراب الأعصم في كل يوم يلتقط النمل،فلما رأى عبد المطلب هذا عرف موضع زمزم فقال لقريش: إني أمرت في أربع ليال في حفر زمزم وهي مأثرتنا وعزنا فهلموا نحفرها فلم يجيبوه إلى ذلك، فأقبل يحفرها هو بنفسه وكان له ابن واحد وهو الحارث وكان يعينه على الحفر..).
وفي البدء والتاريخ للبلخي(٤/١٢٧):(وليت خزاعة البيت ثلاث مائة سنة يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبش الخزاعي، وقريش إذ ذاك صريح ولد إسماعيل حُلُولٌ وصُرَمٌ وبيوتاتٌ متفرقة، إلى أن أدرك قصي وتزوج بحُبَّى بنت حليل بن حبش وولدت له عبد مناف وعبد العزى وعبداً وكثر ولده وعظم شرفه، وهلك حليل بن حبش فرأى قصي أنه أولى بالكعبة من خزاعة فأخذ ما بأيديهم. وقصي أول من أصاب ملكاً من العرب من قريش بعد ولد إسماعيل وذلك في زمن المنذر بن النعمان على الحيرة والملك بهرام جور في الفرس، فقطع قصي مكة أرباعاً وبنى بها دار الندوة، فلا تتزوج امرأة إلَّا في دار الندوة، ولايعقد لواء ن ولا يعذر غلام ولا تدرع جارية إلَّا فيها، وسميت الندوة لأنهم ينتدون فيها للخير والشرّ).
وفي تاريخ مكة للمكي الحنفي/٥٨: (عن ابن جريج وابن إسحاق قالا: أقامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية البيت والحكم بمكة ثلاث مائة سنة، وكان بعض التبابعة قد سار تبع إليه وأراد هدمه وخربه، فقامت دونه خزاعة فقاتلت عليه أشد القتال حتى رجع، ثم جاء آخر فكذاك.
وأما تُبَّع الثالث الذي نحر له وكساه وجعل له غلقاً، وأقام عنده أياماً ينحر كل يوم مائة بدنة لايرزأ هو ولا أحداً من عسكره شيئاً منها، يردها الناس في اللخاخ والشعاب فيأخذون منها حوائجهم ثم يقع الطير عليها فيأكل، ثم يتناهبها السباع إذا أمست لا يرد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع، ثم رجع إلى اليمن، إنما كان في عهد قريش).
أقول: إن مدة حكم العماليق وجرهم وخزاعة لا تغطي حياة أبناء إسماعيل على مدى ألفين وخمس مئة سنة. والمؤكد أنهم لما فقدوا الحكم تحولوا الى سدنة وخدم للبيت يعبدون الله في الحرم، ويعلمون الناس مراسم الحج.
**
< صفحة > 14 < / صفحة >

حكمت قبيلة أياد بن نزار مكة بعد جرهم

قال الفاكهي في أخبار مكة (٥/١٤٥): (قال عيسى بن بكر الكناني: ثم وليت حجابة البيت إياد، فكان أمر البيت إلى رجل منهم يقال له: وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد، فبنى صرحاً بأسفل مكة عند سوق الخياطين اليوم، وجعل فيه أمةً يقال لها الحزورة فبها سميت حزورة مكة، وجعل فيه سُلَّماً، وكان يرقاه، ويقول بزعمه إنه يناجي الله تعالى، وكان ينطق بكثير من الخير يقوله، وقد أكثر فيه علماء العرب فكان أكثر من قال فيه أن قال: إنه كان صديقاً من الصديقين، وكان يتكهن ويقول: مرضعةٌ فاطمة، ووادعةٌ وقاطعةٌ، والقطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم، يقول: ربكم ليجزين بالخير ثواباً، وبالشر عقاباً، وكان يقول: من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وأزيلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. حتى إذا حضرته الوفاة جمع إياداً، فقال إسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان، والأمر بعد البيان: من رشد فاتبعوه ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجليها. فكان أول من قالها فأرسلها مثلاً، فمات وكيع، فنعيَ على رؤوس الجبال، فقال بشر بن الحجير:
ونحــــــــــن إيــــــــــاد عباد الإله * ورهــــــــــط مناجيه في ســــــــــلَّم
ونحن ولاة حجاب العتيق * زمان النخاع (العذاب) على جرهم)
ثم إن مضر أديلت بعد إياد، وكان أول من ديل منها عُدوان وفَهم وإن رجلاً من إياد ورجلاً من مضر خرجا يصيدان، فمرت بهما أرنب فاكتنفا بها يرميانها، فرماها الإيادي فزل سهم فنظم قلب المضري فقتله، فبلغ الخبر مضر فاستغاثت بفهم وعدوان يطلبون لهم قود صاحبهم، فقالوا: إنما أخطأه فأبت فهم وعدوان إلا قتله، فتناوش الناس بينهم بالمدور وهو مكان، فسمت مضر من إياد ظفراً فقالت لهم إياد: أجلونا ثلاثاً فلن نساكنكم أرضكم فأجلوهم ثلاثاً فظعنوا قبل المشرق، فلما ساروا يوماً أتبعتهم فهم وعدوان حتى أدركوهم، فقالوا: ردوا علينا نساء مضر المتزوجات فيكم، فقالوا: لا تقطعوا قرابتنا، أعرضوا على النساء، فأية امرأة اختارت قومها رددتموها، وإن أحبت الذهاب مع زوجها أعرضتم لنا عنها، قالوا: نعم، فكان أول من اختار أهله امرأة من خزاعة.
< صفحة > 15 < / صفحة >
فلما كانت الليلة الثانية حسدوا مضر أن تلي الركن الأسود، فحملوه على بعير، فبرك فلم يقم، فغيروه فلم يحملوه على شيئ إلا رَزَحَ وسقط، فلما رأوا ذلك بحثوا له تحت شجرة فدفنوه، ثم ارتحلوا من ليلتهم! فلما كان بعد يومين افتقدت مضرالركن فعظم في أنفسها وقد كانت شرطت على إياد كل متزوجة فيهم، فكانت امرأة من خزاعة فيما يقولون، يقال لها: قدامة متزوجة في إياد، فأبصرت إياداً حين دفنت الركن فقالت لقومها حين رأت مشقة ذهاب الركن إلى مضر: خذوا عليهم أو يولوكم حجابة البيت وأدلكم على الركن، فقالوا لهم إن دللناكم على الركن أتجعلونا ولاة؟ قالوا: نعم. وقالت مضر جميعاً: نعم، فدلتهم عليه فأعادوه في مكانه وولوه فلم يبرح في أيدي خزاعة حتى قدم قصي مضر، فكان من أمره الذي كان).
وقال المسعودي في مروج الذهب(٢/٢٤): (ثم صارت ولاية البيت في ولد إياد بن نزار بن معد، وكانت حروب كثيرة بين مضر وإياد، وكانت لمضر على إياد، فانجلوا عن مكة الى العراق).
أقول: قبيلة أياد بن نزار عدنانية مضرية، وهي غير أياد القحطانية اليمانية.
**

ثم حكمت خزاعة فنشرت عبادة الأصنام في العرب!

في معجم البلدان(٥/٤): (حين غلبت خزاعة على البيت ونفت عنه جرهم جعلت العرب عمرو بن لحي رباً لايبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة، حتى إن اللات كان يلتُّ له السويق للحج على صخرة معروفة تسمى صخرة اللات، وكان اللات رجلاً من ثقيف فلما مات قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت ولكن دخل في الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنياناً، يسمى اللات).
وفي المنمق لابن حبيب/٢٨٨: (ذكروا أن عمرو بن ربيعة (بن لُحيّ) عاش ثلاث مائة سنة وخمساً وأربعين سنة، وبلغ ولده في حياته ألف مقاتل.. فكانت بينهم حرب طويلة. ثم إن خزاعة غلبوا جرهماً على البيت، وخرجت جرهم حتى نزلت وادي إضم، فهلكوا فيه).
وفي معجم البلدان(٥/٢٠٤): (كان عمرو بن لُحي وهو أبوخزاعة، وهو الذي قاتل جرهم حتى أخرجهم عن حرم مكة، واستولى على مكة وأجلى جرهم عنها، وتولى حجابة البيت بعدهم.
< صفحة > 16 < / صفحة >
ثم إنه مرض مرضاً شديداً فقيل له إن بالبلقاء من أرض الشام حِمَّة إن أتيتها برئت، فأتاها فاستحم بها فبرئ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة، فلما صنع عمرو بن لحي ذلك دانت العرب للأصنام وعبدوها).
**

أخذت خزاعة ولاية البيت من بني إسماعيل!

قال المسعودي(٢/٢٩): (ولما ثارت الحرب بين إياد ومضر ابني نزار وكانت على إياد قلعت الحجر الأسود ودفنته في بعض المواضع، فرأت ذلك امرأة من خُزَاعة فأخبرت قومها، فاشترطوا على مضر أنهم إن ردُّوا الحجر جعلوا ولاية البيت فيهم فوفوا لهم بذلك، ووليت خزاعة أمر البيت وكان أول من وليه منهم عمرو بن لحُي، واسم لُحي حارثة بن عامر، فغير دين إبراهيم وبَدله، وبعث العربَ على عبادة التماثيل)!
وقال ابن كثير في النهاية (٢/٢٣٦): ( واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحواً من ثلاث مائة سنة وقيل خمس مائة سنة والله أعلم. وفي زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحُي لعنه الله فإنه أول من دعاهم إلى ذلك، وكان ذا مال جزيل جداً. يقال: إنه فقأ أعين عشرين بعيراً، وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب أن من الملك ألف بعير فقأ عين واحد منها لأنه يدفع بذلك العين عنها.
وذكر السهيلي: أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة وكسى عشرة آلاف حلة! في كل سنة يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق. قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم، ومحلته عندهم، وكرمه عليهم).
أقول: شرَّع لهم عمرو بن لُحَيٍّ تشريعات عديدة فقبلها منه العرب، فأحل الميتة وقال هذه قتلها الله. وفيه أنزل الله تعالى: ما جَعَلَ الله مِنْ بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حامٍ ولكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ.
فالبحِيرة عند العرب: الناقة تُشق أذنها ولا يُركب ظهرها ولا يُجزُّ وبرها ولا يُشرب لبنها إلا
< صفحة > 17 < / صفحة >
ضيف، أو يُتصدق به، وتُهمل لآلهتهم. والسائبة: التي ينذر الرجل إن برئ من مرضه أو أصاب أمراً يطلبه أن يسيبها ترعى لا ينتفع بها. والوصيلة: التى تلد أمها اثنين فى كل بطن، فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها ولنفسه الذكور، فتلدها أمها ومعها ذكر فى بطن فيقولون: وصلت أخاها، فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به.
والحامي: الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره، فلم يركب ولم يُجز وبره وخُلِّيَ في إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك). (الإكتفاء للكلاعي:١/٦٣).
وفي تفسير القمي(١/١٨٨): (البحيرة: كانت إذا وضعت الشاة خمسة أبطن ففي السادسة قالت العرب قد بحرت، فجعلوها للصنم ولا تمنع ماءً ولا مرعى، والوصيلة: إذا وضعت الشاة خمسة أبطن ثم وضعت في السادسة جدياً وعناقاً في بطن واحد جعلوا الأنثى للصنم، وقالوا وصلت أخاها وحرموا لحمها على النساء، والحام كان إذا كان الفحل من الإبل جداً لجد قالوا قد حمي ظهره فسموه حاماً فلا يركب ولا يمنع ماءً ولا مرعى ولا يحمل عليه شئ، فرد الله عليهم فقال: ما جَعَلَ الله مِنْ بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حامٍ ولكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).

أعاد عمرو بن لُحي عبادة أصنام ما قبل نوح

قال اليعقوبي(١/٢٥٤): (خرج عمرو بن لُحَيٍّ، واسم لُحي ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، إلى أرض الشأم، وبها قوم من العمالقة يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها، نستنصرها فنُنصر، ونستسقي بها فنُسقى، فقال: ألا تعطونني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، عند بيت الله الذي تفد إليه العرب؟ فأعطوه صنماً يقال له هُبَل فقدم به مكة فوضعه عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة، ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت فكان الطائف إذا طاف، بدأ بإساف فقبله وختم به، ونصبوا على الصفا صنماً يقال له مجاور الريح، وعلى المروة صنماً يقال له مطعم الطير، فكانت العرب إذا حجت البيت فرأت تلك الأصنام سألت قريشاً وخزاعة، فيقولون: نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى، فلما رأت العرب ذلك اتخذت أصناماً فجعلت كل قبيلة لها صنماً يصلون له تقرباً إلى الله فيما يقولون، فكان لكلب بن وبرة وأحياء قضاعة وَدٌّ منصوباً بدومة الجندل بجرش،
< صفحة > 18 < / صفحة >
وكان لحمير وهمدان نَسْرٌ منصوباً بصنعاء، وكان لكنانة سُوَاع، وكان لغطفان العُزَّى، وكان لهند وبجيلة وخثعم ذو الخلصة، وكان لطئ الفَلْس منصوباً بالحبس، وكان لربيعة وإياد ذو الكعبات بسنداد من أرض العراق، وكان لثقيف اللات منصوباً بالطائف، وكان للأوس والخزرج مناة منصوباً بفدك، مما يلي ساحل البحر، وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين، ولبني بكر بن كنانة صنم يقال له سعد، وكان لقوم من عذرة صنم يقال له شمس، وكان للأزد صنم يقال له رئام، فكانت العرب، إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها، وصلوا عنده)!
قال ابن حبيب في المنمق/٣٢٧: (فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وَداً وسُوَاعاً ويغوثَ ويعوقَ ونَسراً، وهي الأصنام التي عبدت على عهد إدريس ونوح عليهما السلام ، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فواراها، واستثارها عمرو وحملها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا العرب إلى عبادتها فأجابوه، فأخذ عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات، وأخذ رفيدة بن كلب وداً فنصبه بدومة الجندل وكان لقضاعة، وأخذ الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة سواعاً فكان برهاط تعبده مضر، وأخذ أنعم بن عمرو المرادي يغوث فكان بأكمة من اليمن يقال لها مذحج تعبده مذحج ومن والاها، وأخذ مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان يعوق فكان بقرية يقال لها خيوان تعبده همدان ومن والاها، وأخذ معديكرب أحد حمير وأحد ذي رعين نسراً فكان بموضع من أرض سبأ يقال له بَلْخع تعبده حمير ومن والاها.
وذكر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه قال: رفعت لي النار فرأيت عمرو بن لحي رجلاً قصيرا أحمر أزرق يجر قصبه (أمعاءه) في النار فقلت: من هذا فقيل عمرو بن لحي، أول من بحَّر البحيرة ووصَل الوصيلة وسيَّب السائبة وحمى الحامي، وغير دين إسماعيل عليه السلام ، ودعا العرب إلى عبادة الأصنام والأوثان).
وفي سيرة ابن هشام(١/٥٠): (إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحَّر البحيرة وسيَّب السائبة ووصَّل الوصيلة وحمى الحامي).
وفي تفسير العياشي(٢/٢٣١): (عن الزهري قال: أتى رجل أباعبد الله عليه السلام فسأله عن شئ فلم يجبه، فقال له الرجل: فإن كنت ابن أبيك فإنك من أبناء عبدة الأصنام، فقال له: كذبت! إن الله أمر إبراهيم أن يُنزل إسماعيل بمكة ففعل فقال إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
< صفحة > 19 < / صفحة >
نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنماً قط،ولكن العرب عبدت الأصنام، وقالت بنو إسماعيل: هؤلاء شفعاؤنا عند الله فكفرت، ولم تعبد الأصنام).
وفي تاريخ مكة للمكي الحنفي/٥٦:(فتزوج لُحي وهو ربيعة بن حارثة بهبرة بنت عامر بن عمرو ملك جرهم فولدت له عمراً وهو عمرو بن لحي، وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام فكان يلي البيت وولده من بعده خمس مائة سنة، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو، فتزوج إليه قصي ابنته حُبَّى ابنة حليل).
**

علي عليه السلام یصف حب العرب لأصنامهم!

قال علي عليه السلام في خطبة الوسيلة بعد سبعة أيام من وفاة النبي صلّى الله عليه وآله (الكافي:٨/٢٨): (إن القوم لم يزالوا عُبَّاد أصنام وسدنة أوثان، يقيمون لها المناسك، وينصبون لها العتائر، ويتخذون لها القربان، ويجعلون لها البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، ويستقسمون بالأزلام، عامهين عن الله عز ذكره، حائرين عن الرشاد، مهطعين إلى البعاد، وقد استحوذ عليهم الشيطان، وغمرتهم سوداء الجاهلية ورضعوها جهالة، وانفطموها ضلالة، فأخرجنا الله إليهم رحمةً، وأطلعنا عليهم رأفةً، وأسفر بنا عن الحجب، نوراً لمن اقتبسه، وفضلاً لمن اتبعه، وتأييداً لمن صدقه، فتبوؤوا العز بعد الذلة، والكثرة بعد القلة، وهابتهم القلوب والأبصار، وأذعنت لهم الجبابرة وطوائفها، وصاروا أهل نعمة مذكورة وكرامة ميسورة، وأمن بعد خوف، وجمعٍ بعد كَوْف، وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان، وأولجناهم باب الهدى، وأدخلناهم دار السلام وأشملناهم ثوب الإيمان، وفلجوا بنا في العالمين، وأبدت لهم أيام الرسول صلّى الله عليه وآله آثار الصالحين من حامٍ مجاهد، ومصلٍّ قانت، ومعتكف زاهد، يظهرون الأمانة، ويأتون المثابة.
حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وآله ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو وميض من برقة، إلى أن رجعوا على الأعقاب، وانتكصوا على الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتائب، وردموا الباب وفلوا الديار، وغيروا آثار رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بديلاً، اتخذوه وكانوا ظالمين..الخ.).
**
< صفحة > 20 < / صفحة >

لم يستوعب المؤرخون المدة من إسماعيل الى محمد صلّى الله عليه وآله

تبلغ المدة بين إبراهيم ونبينا صلّى الله عليه وآله نحو ألفين وخمس مئة سنة. فلو حسبنا لكل مئة سنة ثلاثة آباء كما يقرر علماء الإجتماع، لزم أن يكون للنبي صلّى الله عليه وآله خمس وسبعون جداً الى إسماعيل عليه السلام ، لكن المؤرخين ذكروا أقل من ذلك بكثير، ومعناه أنهم لم يستوفوا بقية العصور!
والمتفق عليه من نسب النبي صلّى الله عليه وآله أنه: محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر وهو قريش، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن الياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.
وفي سيرة ابن هشام(١/٢): (قال أبومحمد عبد الملك بن هشام: هذا كتاب سيرة رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب شيبة، بن هاشم، واسم هاشم: عمرو، بن عبد مناف، واسم عبد مناف: المغيرة، بن قصي، واسم قصي: زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، واسم مدركة عامر، بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد، بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح.
حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي بهذا الذي ذكرت من نسب محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله الى آدم عليه السلام ، وما فيه من حديث إدريس وغيره).
أقول: إن مدة هؤلاء الى عدنان نحو ست مئة سنة، فيكون عدنان في زمن المسيح أو قريباً منه. وتكون رواية ابن عباس غير صحيحة، قال:(إن دم يحيى كان يفور حتى قتل عليه بختنصر من بني إسرائيل سبعين ألفاً، فسكن).(فتح الباري:٦/٣٣٨) لأن نبوخذ كان قبل يحيى عليهما السلام بمئات السنين ولذا خطَّأها الطبري (١/٤٣١).
وذكر المسعودي (مروج الذهب:٢/٢٦٨): أنه وجد نسب عدنان الى إسماعيل في سفر باروخ كاتب إرميا، وأن إرميا كان في زمن معد بن عدنان. لكنه ختم كلامه بقوله: وقد نهى النبي صلّى الله عليه وآله عن تجاوز معد، لعلمه بتباعد الأنساب وكثرة الآراء في طول هذه المدة والأعصار).
واتفق المؤرخون على أن جرهم غلبوا أولاد إسماعيل عليه السلام على حجابة البيت وحكموا
< صفحة > 21 < / صفحة >
طويلاً. وانتهى حكمهم على يد خزاعة الذين جاءوا بعد سيل العرم، وكان سيل العرم قبل مولد المسيح عليه السلام بمئتين أو ثلاث مائة سنة، يعني بعد إسماعيل بنحو ألفي سنة!
وفي هذه المدة بقي بعض أبناء إسماعيل في مكة يقومون بأمرها في ظل حكم أخوالهم.
وقد ذكر ابن هشام في سيرته (١/٧٤) أن بني قطوراء نافسوا جرهماً على مكة، فقاتلتهم جرهم وغلبتهم، ثم قال عن أبناء إسماعيل: (ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم، ولاة البيت والحكام بمكة، لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخؤولتهم وقرابتهم، وإعظاماً للحرمة أن يكون بها بغيٌ أو قتال، فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد فلا يناوئون قوماً إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطؤوهم).
وقال اليعقوبي(١/٢٢٢): (وكان ولد إسماعيل منتشرين في البلاد يقهرون من ناوأهم، غير أنهم كانوا يسلمون الملك لجرهم للخؤولة، وكانت جرهم تطيعهم في أيامهم، ولم يكن أحد يقوم بأمرالكعبة في أيام جرهم غير ولد إسماعيل تعظيماً منهم لهم ومعرفة بقدرهم، فقام بأمر الكعبة بعد نابت أمين، ثم يشجب بن أمين، ثم الهميسع، ثم أدد، فعظم شأنه في قومه وجل قدره، وأنكر على جرهم أفعالها، وهلكت جرهم في عصره، ثم عدنان بن أدد).
ويؤيد كلام اليعقوبي الرواية الموثقة عن الإمام الباقر عليه السلام (الكافي:٤/٢١٠) قال: (لم يزل بنو إسماعيل ولاة البيت يقيمون للناس حجهم وأمر دينهم، يتوارثونه كابر عن كابر حتى كان زمن عدنان بن أدد فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وأفسدوا وأحدثوا في دينهم وأخرج بعضهم بعضاً، فمنهم من خرج في طلب المعيشة، ومنهم من خرج كراهية القتال، وفي أيديهم أشياء كثيرة من الحنيفية من تحريم الأمهات والبنات، وما حرم الله في النكاح إلا أنهم كانوا يستحلون امرأة الأب وابنة الأخت والجمع بين الأختين، وكان في أيديهم الحج والتلبية والغسل من الجنابة، إلا ما أحدثوا في تلبيتهم وفي حجهم من الشرك. وكان فيما بين إسماعيل وعدنان بن أدد موسى عليه السلام ).
وهذا يدل على أن أبناء إسماعيل عليهم السلام كانوا يتولون البيت في حكم أخوالهم جرهم، فكانت جرهم تعترف بهم علماء وسدنة يعلمون الناس مناسك الحج. لكن هذه المدة كلها جزء قليل من ٢٥٠٠ سنة، فموسى بعد إبراهيم بنحو٥٠٠ سنة، والمسيح بعد موسى بنحو ١٣٠٠ سنة،
< صفحة > 22 < / صفحة >
وبينهما كان عدنان بن أدد. وقد كانت حرية أبناء إسماعيل عليه السلام ومكانتهم في حكم أخوالهم جرهم، أفضل منها في زمن حكم خزاعة، حيث غادر كثير منهم مكة.
وقد ذكرالمؤرخون خمس قبائل حكمت مكة: طسم وجديس والعمالقة وجرهم وخزاعة.

لماذا قال النبي صلّى الله عليه وآله : إذا بلغ نسبي الى عدنان فأمسكوا!

أطال المؤرخون واختلفوا في عدد أجداد النبي صلّى الله عليه وآله إلى إسماعيل عليه السلام ، وأكثركلامهم ظنون واحتمالات! لذلك روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال:«إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا ».
وفي قصص الأنبياء للراوندي(١/٣١٦): (وروي عنه صلّى الله عليه وآله : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا. ثم قرأ: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً.. قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ).
ومعناه أن ما عندهم بعد عدنان غير صحيح، ولم يبين النبي صلّى الله عليه وآله تصحيحه لأن مسألة متشعبة لم يؤمر بها صلّى الله عليه وآله ! راجع: الإختصاص/٥٠، والبحار: ٥٤ / ٨٦، وابن خلدون: ٢ ق ١ / ٣، و ٢٩٨، والحاكم: ٢ / ٥٩٨، وكشف الخفاء: ٢ / ٣١٤، وتفسير الرازي: ١٩ / ١٧٩، وقصة الحضارة أول مجلد ٣٤، ومناقب آل أبي طالب(١/١٣٥، وأضواء على السنة المحمدية/٢٤٠).
قال البيهقي في شعب الإيمان(٢/١٣٧): « نسبة رسول الله صلّى الله عليه وآله صحيحة إلى عدنان، وما وراء ذلك فليس فيه شئ يعتمد. وذلك لاختلاف النسابين في ذلك، منهم من يزيد ومنهم من ينقص، ومنهم من يُغَيِّر ».
أقول: ذكر المؤرخون أسماء أجداد النبي صلّى الله عليه وآله إلى عدنان واحداً وعشرين جداً ، ثم ذكروا ثمانية أجداد إلى إبراهيم عليه السلام ، وسبعاً وعشرين جداً إلى آدم عليه السلام .
وهذا لايتفق مع المدة الزمنية التي اعترفوا بها، وهي ست مئة سنة إلى عيسى عليه السلام ، و١٢٧٠ سنة إلى موسى عليه السلام ثم نحو ٥٠٠ سنة إلى إبراهيم عليه السلام !
وقد بنوا كلامهم على قول اليهود بأن عمر الأرض سبعة آلاف سنة!
وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام مرسلاً، أن الله أسكن في الأرض الملائكة والجن قبل آدم، وأنه قدر لآدم عشرة آلاف عام. (تفسير العياشي:١/٣١).
وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام مرسلاً أيضاً، أنه قال لأبي حمزة الثمالي: «أتظن أن الله لم
< صفحة > 23 < / صفحة >
يخلق خلقاً سواكم؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف آدم، وألف ألف عالم وأنت والله في آخر تلك العوالم». (مشارق أنوار اليقين/٦٠).
وكلها لا تفید إلا الظن، ليس فيها نص صحيح السند يوجب العلم، وكذا أقوال علماء الطبيعة الذين زعموا أن عمر الإنسان على الأرض ملايين السنين.
خلاصة ما تقدم
١. أن أبناء إسماعيل عليه السلام فقدوا حكم مكة أمام أخوالهم من جرهم، لكن بقيت في أيديهم حجابة البيت وأمور الحجاج. وكانت علاقتهم مع أخوالهم جيدة.
٢. يظهر أن وضع أبناء إسماعيل عليه السلام وقيامهم بأمر البيت استمر في حكم أياد ، فلم يذكر المؤرخون شيئاً عن أخذ أياد حجابة البيت منهم.
٣. اختلف الأمر على أبناء إسماعيل عليه السلام في حكم خزاعة، فقد أخذ منهم رئيس خزاعة الجبار عمرو بن لحي حجابة البيت، وأسوأ جريمة فعلها أنه نشط في تغيير دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ونشر الأصنام حول الكعبة وفيها، ونشر عبادتها بين قبائل العرب، وقد أطاعه العرب طاعة عمياء، وطبقوا أوامره وتعاليمه كأنها دين! وفي هذا الجو ترك كثير من أبناء إسماعيل عليه السلام مكة وعاشوا حولها، وكانوا يحجون كأفراد لا قدرة لهم على مخالفة دين رئيس خزاعة عمرو بن لحي! ويظهر أن أجداد النبي صلّى الله عليه وآله بقوا في مكة واستعملوا التقیة مع خزاعة.
٤. تقدم الدليل على أن الخط المؤمن من أجداد النبي صلّى الله عليه وآله ثبت على دين إبراهيم عليه السلام ، وهم عبد المطلب وهاشم وعبد مناف الى عدنان والى نابت بن قيدار بن إسماعيل، ولم يعبدوا الأصنام. أما بقية أبناء اسماعيل فقد تأثروا بموجة عبادة الأصنام. وقال عنهم الإمام الصادق عليه السلام إنهم لم يعبدوا الأصنام، لكن اعتقدوا بشفاعتها فكفروا.
**
< صفحة > 24 < / صفحة >

الفصل الثاني والأربعون : قصي الجد الرابع للنبي صلّى الله عليه وآله

جمع قصيٌ قريشاً واستعاد حق أبناء إسماعيل عليه السلام

نشأ قصي في بلاد بني عذرة قرب الشام
قال اليعقوبي(١/٢٣٧): (فلما مات كلاب بن مرة تزوجت فاطمة بنت سعد بن شبل، ربيعة بن حرام العذري، فخرج بها إلى بلاد قومه، فحملت قصياً معها وكان اسمه زيداً، فلما بعُد من دار قومه سمته قصياً، فلما شب قصي وهو في حجر ربيعة، قال له رجل من بني عذرة: إلحق بقومك فإنك لست منا! فقال: ممن أنا؟ فقال: سل أمك، فسألها فقالت: أنت أكرم منه نفساً ووالداً ونسباً! أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك آل الله، وفي حرمه.
رجع قصي الى مكة وهو شاب
وكانت قريش لم تفارق مكة، إلا أنهم لما كثروا قلت المياه عليهم، فتفرقوا في الشعاب. فكره قصي الغربة وأحب أن يخرج إلى قومه فقالت له أمه:لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام، فتخرج في حجاج قضاعة، فإني أخاف عليك. فلما دخل الشهر الحرام شخص معهم حتى قدم مكة، وأقام قصي بمكة حتى شَرُفَ وعزَّ ووُلد له الأولاد.
جمع قصي أولاد إسماعيل وأخذ من خزاعة إدارة الحجاج
فلما رأى قصي ذلك جمع إليه قومه من بني فهر بن مالك وحازهم إليه، فلما حضر الحج حال
< صفحة > 25 < / صفحة >
بين صوفة وبين الإجازة، وقامت معه خزاعة وبنو بكر، وعلموا أن قصياً سيصنع بهم كما صنع بصوفة، وأنه سيحول بينهم وبين أمر مكة وحجابة البيت، وانحازوا عنه وصاروا عليه، فلما رأى ذلك أجمع لحربهم، وبعث إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة العذري فأتاه أخوه بمن قدر عليه من قضاعة، وقيل وافى رزاح وقصـي قد نصب لحرب القوم، فأعان أخاه بنفسه وقومه فاقتتلوا قتالاً شديداً بالأبطح، حتى كثرت القتلى في الفريقين، ثم تداعوا إلى الصلح وأن يحكم ما بينهم رجل من العرب فيما اختلفوا فيه، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالبيت وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش ففيه الدية، فودوا خمساً وعشرين بدنة وثلاثين جرحاً، وأن يخلوا بين قصي وبين البيت ومكة، فسمي يعمر الشداخ.
بنى قصي بيته وهو دار الندوة وأطعم الحجاج
ولم يكن بمكة بيت في الحرم، إنما كانوا يكونون بها نهاراً، فإذا أمسوا خرجوا، فلما جمع قصي قريشاً وكان أدهى من رُئي من العرب، أنزل قريشاً الحرم، وجمعهم ليلاً وأصبح بهم حول الكعبة فمشت إليه أشراف بني كنانة وقالوا: إن هذا عظيم عند العرب، ولو تركناك ما تركتك العرب. فقال: والله لا أخرج منه، فثبت! وحضر الحج فقال لقريش: قد حضرالحج وقد سمعت العرب ما صنعتم، وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجاً! ففعلوا فجمع من ذلك شيئاً كثيراً، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزوراً، ونحر بمكة وجعل حظيرة فجعل فيها الطعام من الخبز واللحم، وسقى الماء واللبن، وغدا على البيت، فجعل له مفتاحاً وحجبة، وحال بين خزاعة وبينه، فثبت البيت في يد قصي، ثم بنى داره بمكة وهي أول دار بنيت بمكة وهي دار الندوة).
وفي الطبقات (١/٦٣):(فلم تزل دار الندوة في يدي بني عبد الدار حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من معاوية بن أبي سفيان، فجعلها معاوية دار الإمارة، فهي في أيدي الخلفاء إلى اليوم).
وفي رواية البلاذري الآتية: بنى قصي داره، فسميت دار الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها
< صفحة > 26 < / صفحة >
فيتحدثون ويتشاورون في حروبهم وأمورهم، ويعقدون الألوية ويزوجون من أراد التزويج. وكان أمر قصي عند قريش ديناً يعملون به ولا يخالفونه. ولما مات دفن بالحجون. فكانوا يزورون قبره ويعظمونه.
أخذ قصي حجابة البيت من خزاعة
وروى بعضهم أنه لما تزوج قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي حُبَّى ابنته ووَلدت له، أوصى حليلاً عند موته بولاية البيت إلى قصي، وقال: إنما ولدك ولدي وأنت أحق بالبيت.
وكانت حبى بنت حليل بن حبشية قد ولدت لقصي بن كلاب: عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبد قصي. وقال آخرون: دفع حليل بن حبشية المفتاح إلى أبي غبشان وهوسليمان بن عمرو بن بوي بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشتراه قصي منه وولاية البيت بزق خمر وقعود، فقيل أخس من صفقة أبي غبشان، ووثبت خزاعة فقالت: لانرضى بما صنع أبوغبشان فوقعت بينهم الحرب فقال بعضهم :
أبوغبشان أظلم من قصـي * وأظلم من بني فهر خزاعة
فلا تلحوا قصياً في شراه * ولوموا شيخكم إذ كان باعه
فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم، وجمع قبائل قريش، فأمر لهم بأبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس الجبال، فقسم منازلهم بينهم، فسمي مُجَمِّعاً، وفيهم يقول الشاعر:
أبوكم قصـيٌّ كان يدعى مُجمِّعاً * به جمع الله القبائل من فهر
وملكه قومه عليهم، فكان قصي أول من أصاب الملك من ولد كعب بن لؤي، فلما قسم أبطح مكة أرباعاً بين قريش، هابوا أن يقطعوا شجرالحرم ليبنوا منازلهم، فقطعها قصي بيده، ثم استمروا على ذلك.
وكان قصي أول من أعز قريشاً وظهر به فخرها ومجدها وسناها وتقرشها، فجمعها وأسكنها مكة، وكانت قبل متفرقة الدار، قليلة العز ذليلة البقاع، حتى جمع الله ألفتها، وأكرم دارها وأعز مثواها. وكانت قريش كلها بالأبطح خلا بني محارب والحارث ابني فهر، ومن بني تيم بن غالب وهو الأدرم، وبني عامر بن لؤي، فإنهم نزلوا الظواهر.
< صفحة > 27 < / صفحة >
ولما حاز قصي شرف مكة كلها، وقسمها بين قريش واستقامت له الأمور، ونفى خزاعة، هدم البيت ثم بناه بنياناً لم يبنه أحد، وكان طول جدرانه تسع أذرع فجعله ثماني عشرة ذراعاً، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وبنى دار الندوة.وكان لا ينكح رجل من قريش، ولايتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواء بالحرب، ولايعذرون غلاماً، إلا في دار الندوة، وكانت قريش في حياته وبعد وفاته، يرون أمره كالدين المتبع، وكان أول من حفر بمكة بعد إسماعيل بن إبراهيم، فحفر العجول (بئر) في أيام حياته وبعد وفاته، ويقال إنها في دار أم هانئ بنت أبي طالب).
وفي مروج الذهب(٢/٣٢): (كانت ولاية البيت في خزاعة ثلاث مائة سنة، واستقام أمر قصي وعشَّر على من دخل مكة من غير قريش، وبنى الكعبة، ورتب قريشاً على منازلها في النسب بمكة، وبيَّن الأبطحيَّ، وهم الأباطح، وجعل الظاهري ظاهرياً).
سكن قصي قرب البيت ونزهه عما فعلت خزاعة
في أعلام النبوة للماوردي/١٩٠: (وكانت إليه الحجابة والسقاية والوفادة والندوة واللواء، وصارت سنته في قريش كالدين الذي لايعمل بغيره، فزادت القوة بجمعهم حتى عقد الولاية وجدد بناء الكعبة، وهو أول من بناها بعد إبراهيم وإسماعيل، وبنى دار الندوة للتحاكم والتشاجر والتشاور، وهي أول دار بنيت بمكة وكانوا يجتمعون في جبالها. ثم بنى القوم دورهم بها فتمهدت لهم الرئاسة وظهرت فيهم السياسة، فقاموا بالكعبة ونزهوا الحرم،وتكفلوا بالحج فصاروا دياني العرب وولاة الحرم وقادة الحجيج فدانت لهم العرب، وتقدموا فيهم بالشرف لحلولهم في الحرم وتكفلهم بالكعبة، ثم قيامهم بالحج وشاع ذلك في الأمم.
وقريش هم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، وقيل بل هم بنو فهر بن مالك بن النضر). وقوله: فقاموا بالكعبة ونزهوا الحرم. قد يعني إزاحتهم بعض الأصنام التي نصبتها خزاعة قرب الكعبة.
جاء قصي الى مكة وكان أخوه زُهرة حياً
في المنمق لابن حبيب/٨٢: (بعثته (أمه) مع قوم من قضاعة، وزهرة حيٌّ فأتاه، وكان زهرة فيما زعموا أشعر وقصي أشعر أيضاً فقال قصي: أنا أخوك، فقال: أدن، فلمسه وقال: أعرف
< صفحة > 28 < / صفحة >
والله الصوت والشبه، ثم إن زهرة مات وأدرك قصي، فأراد أن يجمع قومه بني النضر فاجتمعت عليه خزاعة وبكر وصوفة، فكثروه وبعث إلى أخيه رزاح فأقبل في جمع من الشام وأفناء قضاعة حتى أتى مكة، فكانت صوفة هم يدفعون بالناس فقام رزاح على الثنية فقال: أجز قصي، فأجاز بالناس فلم تزل الإفاضة في بني قصي إلى اليوم).
رواية الطبري لقصة قصي
قال الطبري(٢/١٤) ملخصاً: (تزوجت فاطمة بنت سعد ربيعة بن حرام القضاعي بعد وفاة زوجها كلاب بن مرة ، وكان ابنها منه زهرة رجلاً قد بلغ وابنها زيد فطيماً فاحتملته معها وشب في حجر ربيعة، وسمته قصياً لبعد داره عن دار قومه. وكان بينه وبين رجل من قضاعة شئ وقد بلغ قصي وكان رجلاً شاباً فأنبه القضاعي بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك ونسبك فإنك لست منا! فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فقالت له: أنت والله يا بني أكرم منه نفساً ووالداً، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة القرشي، وقومك بمكة عند البيت الحرام وفيما حوله. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم وكره الغربة وقدم مكة وأقام بها وكان رجلاً جليداً نسيباً فخطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى بنت حليل فعرف حليل النسب ورغب فيه فزوجه وولدت له ولده عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبد ابني قصي، وهلك حليل بن حبشية فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشاً فرعة إسماعيل بن إبراهيم وصريح ولده، فكلم رجالاً من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة فلما قبلوا منه ما دعاهم إليه وبايعوه عليه كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة بن حرام وهو ببلاد قومه يدعوه إلى نصرته والقيام معه، فقام رزاح بن ربيعة في قضاعة، فدعاهم إلى نصرأخيه والخروج معه إليه فأقبل بمن أجابه من أحياء قضاعة، ومع قصي قومه بنو النضر.
وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة وتجيزهم إذا نفروا من منى، فأتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة فقالوا نحن أولى بهذا منكم فناكروه فناكرهم فقاتلوه فاقتتل الناس قتالاً شديداً ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم.
فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع
< صفحة > 29 < / صفحة >
صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة فلما انحازوا عنه باداهم وأجمع لحربهم، وثبت معه أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه من قومه من قضاعة، وخرجت لهم خزاعة وبنو بكر وتهيئوا لحربهم والتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى من الفريقين جميعاً.
فولي قصي البيت وأمر مكة جميع قومه من منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة، فملكوه فحاز شرف مكة كله، فسمته العرب مجمعاً لما جمع من أمرها وتيمنت بأمره فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي بن كلاب، وما يتشاورون في أمرينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء الحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها. فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع لايعمل بغيره تيمناً بأمره ومعرفة بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة وجعل بابها إلى الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها).
**

رواية البلاذري لقصة قصي

حفر قصي بئراً داخل مكة
قال البلاذري(١/٥١): (كانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة، ومن حياض ومصانع على رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها مرة بن كعب مما يلي عرفة. فحفر قصي بئراً سماها العَجُول، وهي أول بئر حفرتها قريش بمكة.
فرض قصي الرفادة على قريش
قالوا: ولما قسم قصي مكة خططاً ورباعاً بين قريش، فاتسقت له طاعتهم قال لهم: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وسكان حرمه، والحاج ضياف الله وزوار بيته، فترافدوا حتى تصنعوا لهم طعاماً وشراباً في أيام الحج ينال منه من يحتاج إليه، فلو اتسع مالي لجميع ذلك لقمت فيه دونكم. ففرض خرجاً للرفادة، فكانوا يخرجونه ويأمر بإنفاقه على طعام الحاج. < صفحة > 30 < / صفحة >
بنى قصي داره وسموها دار الندوة
وبنى قصي داره، فسميت دار الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها فيتحدثون ويتشاورون في حروبهم وأمورهم، ويعقدون الألوية، ويزوجون من أراد التزويج. وكان أمر قصي عند قريش ديناً يعملون به ولا يخالفونه. ولما مات دفن بالحجون. فكانوا يزورون قبره ويعظمونه.
رواية تسمية أولاد قصي
ووُلْدُ قصي ويكنى أبا المغيرة: عبدُ مناف واسمه المغيرة، وكان يدعى القمر لجماله، وجعلته أمه حُبَّى بنت حليل خادماً لمناف وهو أعظم أصنامهم عندهم، تديناً بذلك وتبركاً به، فسماه أبوه عبد مناف. وعبد الله بن قصي وهو عبد الدار، وعبد العزى وعبد قصی: وأمهم جميعاً حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي. فكان قصي يقول: ولد لي أربعة بنين فسميت ابنين منهم بإلهي، وواحداً بداري، وواحداً بي).
أقول: هذا القول لقصي محل شك عندي، خاصة وأنهم نصوا على أن كنيته أبوالمغيرة وعبد مناف إسمه المغيرة، وإسم عبد الدار عبد الله. وكان بنو إسماعيل عامة لا يؤمنون بالأصنام.
حب قصي لابنه عبد الدار
وكان قصي شديد الحب لعبد الدار، وكان عبد الدار مضعوفاً، فجعل له بعده دار الندوة والحجابة واللواء والرفادة والسقاية. فأما دار الندوة فلم تزل له ولولده، حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، من معاوية بن أبي سفيان، فجعلها داراً للإمارة بمكة. وأما الحجابة فكانت له ثم صارت بعده إلى عثمان بن عبد الدار، ثم إلى عبد العزى بن عثمان، ثم إلى ابنه أبي طلحة واسمه عبد الله بن عبد العزى، ثم إلى طلحة بن أبي طلحة. فلما فتح رسول الله مكة دفع المفتاح إلى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، ثم قام بالحجابة ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة. فالحجابة فيهم.
وأما اللواء فإنه لم يزل في بني عبد الدار حتى كان لواء المشركين يوم بدر مع طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان).
< صفحة > 31 < / صفحة >
قال البلاذري(١/٥٥): (فلما أسلم بنو عبد الدار، قالوا: يا نبي الله، اللواء إلينا. فقال: الإسلام أوسع من ذلك. فبطل اللواء).
كان رزاح وإخوة قصي يزورونه فيكرمهم
قال ابن سعد(١/٦٩): (فلما استقر أمر قصي انصرف أخوه لأمه رزاح بن ربيعة العذري بمن معه من إخوته وقومه، وهم ثلاث مائة رجل إلى بلادهم.
فكان رزاح وحِنّ يواصلان قصياً ويوافيان الموسم فينزلان معه في داره، ويريان تعظيم قريش والعرب له، وكان يكرمهما ويصلهما، وتكرمهما قريش لما أبلياهم وأولياهم، من القيام مع قصي في حرب خزاعة وبكر).

أم قصي أزدية من عائلة أصيلة

قال ابن الكلبي في نسب معد واليمن (٢/٥٠٥):(وقعوا في بني الدِّيل أيام خرجوا من مأرب، منهم: سعد بن سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر بن الجادر، وهو جد قصيّ بن كلاب أبوأمه فاطمة بن سعد بن سيل، وكان عامر أول من بني جدار الكعبة، فسمي بالجادر، ولهم بقية بالمدينة).
وقال البلاذري(١/٤٨): (بنى جدار الكعبة، وَهَى من سيل أتيٍّ في أيام ولاية جرهم فسمي الجادر. قال هشام: وذكر الشرقي بن القطامي أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طيبها وحجارتها تبركاً بذلك وأن عامراً هذا كان موكلاً بإصلاح ما شعث من جدرها، فسمي الجادر. قالوا: وكان سعد بن سيل وقومه مع بني كنانة. وكان فيما يقال أول من حَلَّى السيوف بالفضة والذهب، وكان أهدى إلى كلاب مع ابنته فاطمة سيفين محليين فجعلا في خزانة الكعبة. وقال قصي:
أنا الذي أعان فعلي حسبي * وخندف أمي وإلياس أبي ).
(قال محمد بن السائب: كتبت للنبي صلّى الله عليه وآله خمس مائة أم، فما وجدت فيهن سفاحاً، ولا شيئاً مما كان من أمر الجاهلية). (ابن سعد:١/٦٠).
< صفحة > 32 < / صفحة >
هذا، ولم أجد متى توفيت أم قصي رحمها الله. ولو كانت حية وتزور ابنها قصياً، أو تأتيه مع ابنها رزاح في مكة لذكروا ذلك.
من الكلمات المروية عن قصي
في أمالي الصدوق/٥١: (أوصى قصي بن كلاب بنيه، فقال: يا بني، إياكم وشرب الخمر، فإنها إن أصلحت الأبدان، أفسدت الأذهان).
قال البلاذري (١/٥٧): (عن رجل من قريش أنه قال: كان مما لحقنا من كلام قصى قوله: العيُّ عيَّان: عَيُّ الإفحام، وعَيُّ المنطق بغير سدر.وقوله: الحسود عدو خفي المكان. وقوله: من سأل قوماً فوق قدره استحق الحرمان).
وفي أخبار مكة للأزرقي(١/١٠٧):(وقال قصي يتشكر لأخيه رزاح بن ربيعة:
أنا ابن العاصمين بني لؤي * بمكة مولدي وبها ربيت
ولي البطحاء قد علمت معد * ومروتها رضيت بها رضيت
وفيها كانت الآباء قبلي * فما شويت أخي ولا شويت
فلست لغالب إن لم تأثَّل * بها أولاد قيــــــــــدر والنبيت
رَزَاحٌ ناصري وبه أسامي * فلست أخاف ضيماً ما حييت(
وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه:
أبوهم قصـي كان يدعى مجمعاً * به جمع الله القبايل من فهر
هم نزلوها والمياه قليلة * وليس بها إلا كهول بني عمر
ويقال من أجل تجمُّع قريش إلى قصـي سميت قريش قريشاً. والتجمع التقرش).
وفي الروض الأنف (٢/٤٧): (قال ابن إسحاق: فلما فرغ قصي من حربه، انصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده، وقال رزاح في إجابته قصياً:
لما أتى من قصي رسولٌ * فقال الرسول: أجيبوا الخليلا
< صفحة > 33 < / صفحة >
نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيلا
نسير بها الليل حتى الصباح * ونكمي النهار لئلا نزولا
فهنّ سراع كورد القطا * يجبن بنا من قصي رسولا
جمعنا من السر من أشمذين * ومن كل حيٍّ جمعنا قبيلا
فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلاً قبيلا
قتلنا خزاعة في دارها * وبكراً قتلنا وجيلاً فجيلا
نفيناهم من بلاد المليك * كما لا يحلون أرضاً سهولا
فأصبح سبيهم في الحديد * ومن كل حيٍّ شفينا الغليلا
وقال ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الجارث بن سعد بن هذيم القضاعي في ذلك:
جلبنا الخيل مضمرة تغالى * من الأعراف أعراف الجناب
إلى غورى تهامة، فالتقينا * من الفيفاء في قاع يباب
فأمّا صوفة الخنثى، فخلّوا * منازلهم محاذرة الضّراب
وقام بنو على إذ رأونا * إلى الأسياف كالإبل الطّراب
وفي الأعلام للزركلي(٥/١٩٨): (ولي قصي البيت الحرام فهدم الكعبة وجدد بنيانها. وهو الذي أحدث وقود النار في المزدلفة ليراها من دفع من عرفة. وكان أمره في قومه كالدين المتبوع لا يُعمل بغيره في حياته ومن بعده. مات بمكة، ودفن بالحجون). وصوفة فرع من خزاعة.
هذا، وقد أرخ محمد حسين هيكل زمن قصي بأنه في سنة ٤٠٠ ميلادية.
**
< صفحة > 34 < / صفحة >

الفصل الثالث والأربعون : عبد مناف الجد الثالث للنبي صلّى الله عليه وآله

إسمه المغيرة وليس عبد مناف ولم يعبد صنماً

قال الماوردي في أعلام النبوة/٩١: (ثم أفضت رئاسة قريش بعد قصي إلى ابنه عبد مناف بن قصي، فجاد وزاد وساد، حتى قال فيه الشاعر :
كانت قريش بيضة فتفقأت * فالمحُّ خالصه لعبد مناف
وكان اسمه المغيرة فجعلته أمه إلى مناف وكان أعظم أصنام مكة تعظيماً له فغلب عليه عبد مناف، وكان يسمى القمر لجماله، فاستحكمت رئاسته بعد أبيه لجوده وسياسته، ثم ببنيه فولد له هاشم وعبد شمس توأمان في بطن فقيل إنه ابتدأ خروج أحدهما وإصبعه ملصقة بجبهة الآخر، فلما أزيلت دَمِيَ موضعها فقيل: يكون بينهما دم. ثم ولد بعدهما نوفل، ثم المطلب وكان أصغرهم، فسادوا وتقدمهم هاشم لسخائه وسؤدده، وكان اسمه عمرواً فسمي هاشماً لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة في سنة لَزِبة قحطة، رحل فيها إلى فلسطين فاشترى منها الدقيق وقدم به إلى مكة، ونحر الجزر وجعلها ثريداً عم به أهل مكة حتى استقلوا، فقال فيه الشاعر:
يا أيها الرجل المحول رحله * هلا نزلت بآل عبــــد مناف
الآخذون العهــــد من آفاقها * الراحلون لرحلــــة الإيلاف
والرائشون وليس يوجد رائشٌ * والقائلون هلم للأضياف
والخالطون غنيهم بفقيرهم * حتى يكون فقيرهم كالكافي
عمرو العلى هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجافِ.(
< صفحة > 35 < / صفحة >
ومعنى قوله: فدفعته أمه أو جعلته إلى مناف. أن أمه زوجة قصي كانت خزاعية تؤمن بالأصنام التي نصبها عمرو بن لُحي الخزاعي، ومنها مُناف ولا يعرف مكانه في مكة فسمته باسمه، أما قصي فلم يكن يؤمن بأصنام خزاعة، وكذلك عبد مناف. وقد تقدم توثيق ذلك في فصل أجداد النبي صلّى الله عليه وآله .
وقد اختار الفخر الرازي هذا الرأي، قال في تفسيره(١٣/٣٩):(ومما يدل أيضاً على أن أحداً من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات. وقال تعالى: إنما المشركون نجس. وذلك يوجب أن يقال: إن أحداً من أجداده ما كان من المشركين.إذا ثبت هذا فنقول: ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركاً، وثبت أن آزر كان مشركاً.فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر).
ساد عبد مناف من زمن أبيه
وقال الأزرقي في أخبار مكة(١/١٠٩): (محمد بن إسحاق قال: فحاز قصي شرف مكة وأنشأ دار الندوة، وفيها كانت قريش تقضي أمورها، ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة للمشورة، وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفاؤهم.
فلما كبر قصي ورَقَّ كان عبد الدار بِكره وأكبر ولده وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب شرفه كل مذهب، وعبد الدار وعبد العزى وعبد بنو قصي بها لم يبلغوا ولا أحد من قومهم من قريش ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز، وكان قصي وحبَّى ابنة حليل يحبان عبد الدار ويرقان عليه لما يريان عليه من شرف عبد مناف وهو أصغر منه، فقالت له حُبى: لاوالله لا أرضى حتى تخص عبد الدار بشئ تلحقه بأخيه. فقال قصي: والله لألحقنه به ولأحبونه بذروة الشرف حتى لايدخل أحد من قريش ولا غيرها الكعبة إلا بإذنه، ولا يقضون أمراً ولا يعقدون لواء إلا عنده، وكان ينظر في العواقب، فأجمع قصي على أن يقسم أمور مكة الستة التي فيها الذكر والشرف والعز، بين ابنيه فأعطى عبد الدار السدانة وهي الحجابة ودار الندوة واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة، فأما السقاية فحياض من أدم كانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة ويسقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل ويسقاه الحاج. وأما الرفادة فخَرْجٌ كانت قريش تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي يصنع به طعاماً للحاج
< صفحة > 36 < / صفحة >
يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد، فلما هلك قصي أقيم أمره في قومه بعد وفاته على ما كان عليه في حياته، وولي عبد الدار حجابة البيت وولاية دار الندوة واللواء، فلم يزل يليه حتى هلك، وجعل عبد الدار الحجابة بعده الى ابنه عثمان بن عبد الدار وجعل دار الندوة إلى ابنه عبد مناف بن عبد الدار، فلم تزل بنو عبد مناف بن عبد الدار يلُون الندوة دون ولد عبد الدار، فكانت قريش إذا أرادت أن تشاورَ في أمر فتحها لهم عامر بن هاشم بن عبد مناف).
وقال ابن سعد (١/٧٤): (وعلى عبد مناف اقتصر رسول الله صلّى الله عليه وآله حين أنزل الله تبارك وتعالى عليه: وَأَنْذِرْ عَشيرتَكَ الأقْرِبِين). أي لما جمع بني هاشم ودعاهم الى الإسلام وطلب منهم أن يتفرغ معه أحدهم للدعوة، فأجابه علي عليه السلام .
وقال اليعقوبي(١/٢٤٠): (ومات قصي فدفن بالحجون، ورَؤُسَ عبد مناف بن قصي وجل قدره وعظم شرفه. ولما كبر أمر عبد مناف جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش، وكان مدبر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف: عمرو بن هلل بن معيص بن عامر، وكان تحالف الأحابيش على الركن: يقوم رجل من قريش وآخر من الأحابيش، فيضعان أيديهما على الركن فيحلفان بالله القاتل وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام، على النصر على الخلق جميعاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعاً، ما بلَّ بحرٌ صوفة، وما قام حرى وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة، فسمي حلف الأحابيش. فولد عبد مناف بن قصي هاشماً، وإسمه عمرو، وكان يقال له عمرو العلى، وسمي هاشماً لأنه كان يهشم الخبز، ويصب عليه المرق واللحم في سنة شديدة نالت قريشاً. وعبد شمس والمطلب ونوفلاً، وأباعمرو، وحنة، وتماضر، وأم الأخثم، وأم سفيان، وهالة، وقلابة، وأمهم جميعاً، إلا نوفلا وأباعمرو: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم، فولدت له هؤلاء.وأم نوفل وأبي عمرو: واقدة بنت أبي عدي، وهو عامر بن عبد نهم من بني عامر بن صعصعة).
اختار الله عبد مناف سلام الله عليه
في المحاسن(١/٢٦٧) بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: (إن الله
< صفحة > 37 < / صفحة >
خلق الخلق فرقتين، فجعل خيرته في إحدى الفرقتين، ثم جعلهم أثلاثاً فجعل خيرته في إحدى الأثلاث، ثم لم يزل يختار حتى اختار عبد مناف، ثم اختار من عبد مناف هاشماً، ثم اختار من هاشم عبد المطلب، ثم اختار من عبد المطلب عبد الله، ثم اختار من عبد الله محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله فكان أطيب الناس ولادة، فبعثه الله بالحق وأنزل عليه الكتاب، فليس من شئ إلا وفي كتاب الله تبيانه).
أقول: هذا الإختيار الإلهي يدل على إيمان عبد مناف وصلاحه، وأن إسم عبد مناف شهرة اشتهر بها وليس إسمه، وقد نصوا على أن أصل إسمه المغيرة.
ونلاحظ في كيفية اختيار الله تعالى أنه كان يفرق الخلق فرقتين، ثم فرقهم ثلاثة، ثم لما اقترب من عصر النبي صلّى الله عليه وآله اختار جده الرابع ثم جده الثالث ثم الثاني، ثم أباه عبد الله فأولده منه صلّى الله عليه وآله ، سلام الله عليهم.
وروى السنة والشيعة قول النبي صلّى الله عليه وآله : (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم). (صحيح مسلم:٧/٥٨، وأمالي الطوسي/٢٤٦). وزاد فيه ابن حبان(١٤/١٣٥): (فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع).
وقال ابن كثير في النهاية ( ٢/٣١٧): وفي هذا المعنى يقول أبوطالب:
إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخرٍ * فعبد منافٍ سرُّها وصميمُها
فإن حصلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً * هو المصطفى من سرها وكريمها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها * تداعت قريش غثها وسمينها
وكنا قديماً لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها.(
< صفحة > 38 < / صفحة >
أولاد عبد مناف
في نسب قريش/١٣: ( فولد عبد مناف بن قصي: هاشماً، واسمه عمرو، وعبد شمس، وهما توأم. والمطّلب، وتماضر، وقلابة، وحية، وأم الأخثم، واسمها هالة، وأمّ سفيان، وأمهم: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور…
ونوفلاً، وأباعمرو، انقرض إلا من بنت يقال لها تماضر، ولدت لأبي همهمة ابن عبد العزى، وأمها: واقدة بنت أبي عدي.
وريطة بنت عبد مناف، وأمها: هند بنت كعب بن سعد بن عوف من ثقيف. كانت تماضر بنت عبد مناف عند عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فولدت له هاشماً، وكلدة. وكانت قلابة عند عبد العزى بن عامرة بن فهر فولدت له أباهمهمة، واسمه حبيب. وطريفاً، وجابراً، وسلامان.
**
< صفحة > 39 < / صفحة >

الفصل الرابع والأربعون : هاشم بن عبد مناف الجد الثاني للنبي صلّى الله عليه وآله

هاشم الذي أخذ الإيلاف من قيصر لقريش

قال الله تعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ. إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
قال اليعقوبي (١/٢٤٢): (وكان أول من سن الرحلتين: رحلة الشتاء إلى الشام ورحلة الصيف إلى الحبشة إلى النجاشي..وشرُفَ هاشم بعد أبيه وجلَّ أمره، واصطلحت قريش على أن تولي هاشم بن عبد مناف الرئاسة والسقاية والرفادة، فكان إذا حضرالحج قام في قريش خطيباً فقال: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم أضياف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خيَركم الله بذلك وأكرمكم به ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح، وقد أعيوا، وتفلوا، وقملوا، وأرملوا، فاقْروهم وأغنوهم! فكانت قريش ترافد على ذلك، وكان هاشم يخرج مالاً كثيراً، ويأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع زمزم، ثم يسقى فيها من الآبار التي بمكة فيشرب منها الحاج، وكان يطعمهم بمكة ومنى وعرفة وجُمُع، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق، ويحمل لهم المياه، حتى يتفرق الناس إلى بلادهم، فسمي هاشماً).
وقال في شرح النهج (١٥/١٩):(قال أبوعثمان(الجاحظ) وكان إسم هاشم عمرواً وهاشم لقب، وكان أيضاً يقال له القمر، وفي ذلك يقول مطرود الخزاعي:
< صفحة > 40 < / صفحة >
إلى القمر الساري المنير دعوتُهُ * ومُطعمهم في الأزْل من قُمع الجزر
وقال ابن الزبعرى:
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمحُّ خالصه لعبد منافِ
الرائشون وليس يوجد رائش * والقائلون هلم للأضيافِ
عمرو العلى هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجافِ
فعم كما ترى أهل مكة بالأزل والعجف،وجعله الذي هشم لهم الخبز ثريداً، فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لايعرف إلا به، وليس لعبد شمس لقب كريم، ولا اشتق له من صالح أعماله إسم شريف، ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه، ويرفع من قدره، ويزيد في ذكره، ولهاشم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع، أجمل الناس جمالاً، وأظهرهم جوداً، وأكملهم كمالاً، وهو (أي عبد المطلب) صاحب الفيل، والطير الأبابيل، وصاحب زمزم، وساقي الحجيج. وولد عبد شمس أمية بن عبد شمس وأمية في نفسه ليس هناك، وإنما ذكر بأولاده ولا لقب له، ولعبد المطلب لقب شهير وإسم شريف: شيبة الحمد، قال مطرود الخزاعي في مدحه:
يا شيبة الحمد الذي تثنى له * أيامه من خير ذخر الذاخر
المجد ما حجت قريش بيته * ودعا هذيل فوق غصن ناضر
والله لا أنساكم وفعالكم * حتى أغيب في سفاه القابر
وقال حذافة بن غانم العدوي:
أخارج إما أهلكن فلا تزل * لهم شاكراً حتى تُغَيَّبَ في القبر
بني شيبة الحمد الكريم فعاله * يضئ ظلام الليل كالقمر البدر
لساقي الحجيج ثم للشيخ هاشمٍ * وعبد مناف ذلك السيد الغمر
وإنما شرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي، وبني ابنه أمية بن عبد شمس. وهاشم شرف بنفسه وبأبيه عبد مناف وبابنه عبد المطلب، والأمر في هذا بين، وهو كما أوضحه الشاعر:
إنما عبد مناف جوهرٌ * زيَّنَ الجوهرَ عبدُ المطلب
< صفحة > 41 < / صفحة >
قال أبوعثمان (الجاحظ): ولسنا نقول إن عبد شمس لم يكن شريفاً في نفسه ولكن الشرف يتفاضل، وقد أعطى الله عبد المطلب في زمانه، وأجرى على يديه، وأظهر من كرامته ما لايعرف مثله إلا لنبي مرسل، وإن في كلامه لأبرهة صاحب الفيل وتوعده إياه برب الكعبة وتحقيق قوله من الله تعالى ونصرة وعيده بحبس الفيل، وقتل أصحابه بالطير الأبابيل وحجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول لأعجب البرهانات، وأسنى الكرامات، وإنما كان ذلك إرهاصاً لنبوة النبي صلّى الله عليه وآله وتأسيساً لما يريده الله به من الكرامة، وليجعل ذلك البهاء متقدماً له ومردوداً عليه، وليكون أشهر في الآفاق، وأجل في صدور الفراعنة والجبابرة والأكاسرة، وأجدر أن يقهر المعاند، ويكشف غباوة الجاهل. وبعد، فمن يناهض ويناضل رجالاً ولدوا محمداً صلّى الله عليه وآله ! ولو عزلنا ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على أخلاقه ومذاهبه وشيمه لما وفى به بشر، ولا عدله شئ، ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب من تفجر العيون وينابيع الماء من تحت كلكل بعيره وأخفافه بالأرض القسي، وبما أعطي من المساهمة وعند المقارعة من الأمور العجيبة والخصال البائنة، لقلنا،ولكنا أحببنا ألا نحتج عليكم إلا بالموجود في القرآن الحكيم والمشهور في الشعر القديم، الظاهر على ألسنة الخاصة والعامة ورواة الأخبار والآثار).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ليس أمية كهاشم ولا الصريح كاللصيق.. وذلك في جواب كتابه الى معاوية (نهج البلاغة:٣/١٦) قال:(فأما طلبك إلي الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس. وأما قولك إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة ومن أكله الباطل فإلى النار. وأما استواؤنا في الحرب والرجال فلست بأمضى على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن،ولكن ليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبوسفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم، وفي أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز ونعشنا بها الذليل. ولما أدخل الله العرب في دينه أفواجاً وأسلمت له هذه الأمة طوعاً وكرهاً كنتم ممن دخل في الدين إما رغبة وإما رهبة، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم، فلا تجعلن للشيطان فيك نصيباً، ولا على نفسك سبيلاً).
< صفحة > 42 < / صفحة >

كيف أخذ هاشم الإيلاف لقريش من قيصر

قال اليعقوبي (١/٢٤٢): (وكان أول من سن الرحلتين: رحلة الشتاء إلى الشام ورحلة الصيف إلى الحبشة إلى النجاشي. وذلك أن تجارة قريش لا تعدو مكة فكانوا في ضيق، حتى ركب هاشم إلى الشام فنزل بقيصر، فكان يذبح في كل يوم شاة، ويضع جفنة بين يديه ويدعو من حواليه. وكان من أحسن الناس وأجملهم، فذكر لقيصر فأرسل إليه فلما رآه، وسمع كلامه أعجبه، وجعل يرسل إليه، فقال هاشم: أيها الملك إن لي قوماً، وهم تجار العرب، فتكتب لهم كتاباً يؤمنهم ويؤمن تجاراتهم، حتى يأتوا بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، ففعل قيصر ذلك، وانصرف هاشم فجعل كلما مر بحي من العرب أخذ من أشرافهم الإيلاف، أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم، فأخذوا الإيلاف من مكة والشام).
أقول: هذه الرواية تشير الى أن قيصركان في الشام، وربما في حمص، لكن الروايات الأخرى كرواية ابن سعد (١/٦٢) ومعجم القبائل(٣/١٢٠٧) قالت إنه كان يذهب الى أنقرة: (كان أول من سن الرحلتين لقريش، يرحل إحداهما في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النجاشي فيكرمه ويحبوه، ورحلة في الصيف إلى الشام إلى غزة، وربما بلغ أنقرة فيدخل على قيصرفيكرمه ويحبوه).
ومعناه أنه التقى بقيصر في أنقرة أيضاً، وكان قيصر يرسل اليه ليأتيه ويراه. ومعنى تأسيسه رحلتي الشتاء والصيف، أنه أخذ مرسوماً من قيصر وكسرى والملوك والقبائل التي تمر فيها قوافلهم بين مكة واليمن، ومكة والشام وفلسطين ومصر، بعدم التعرض لها وحمايتها! وقد مَنَّ الله على قريش بفعل هاشم فقال: لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ..لكن قريشاً لا تشكر نعم ربها ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وآله يقرأ السورة فيقول: ويل أمكم قريش، رحلة الشتاء والصيف)! ( تاريخ دمشق: ٢٣/ ٢٢٨، والزوائد:٧ /١٤٣، وكبير الطبراني: ٢٤/١٧٨، وأحمد:٦/٤٦٠).

شارك هاشم الملوك في تجارته

قال الجاحظ في رسائله (١/٤١٣): ( ومما هو مذكور في القرآن عدا حديث الفيل قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، ولقد أجمعت الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف. فلما مات قام أخوه المطلب مقامه، فلما مات قام عبد شمس مقامه، فلما مات قام نوفل مقامه وكان أصغرهم.
< صفحة > 43 < / صفحة >
والإيلاف هو أن هاشماً كان رجلاً كثير السفر والتجارة فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن نحو العباهلة باليمن واليكسوم من بلاد الحبشة، ونحو ملوك الروم بالشام، فجعل لهم معه ربحاً فيما يربح، وساق لهم إبلاً مع إبله فكفاهم مؤونة الأسفار على أن يكفوه مؤونة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين، وكان المقيم رابحاً والمسافر محفوظاً. فأخصبت قريش بذلك وحملت معه أموالها، وأتاها الخير من البلاد السافلة والعالية، وحسنت حالها وطاب عيشها).

حسد أمية بن عبد شمس لعمه هاشم

رووا كلهم أن ابن أخيه أمية بن عبد شمس حسده وعاداه ودعاه إلى المنافرة! ومعنى المنافرة أن يدعي أحدٌ أنه أفضل من الآخر، ويطلب أن يحتكما إلى كاهن أو حكيم، ويقبلا بحكمه!
قال الطبري(٢/١٣) بعد أن ذكر مدح الشعراء لهاشم: « فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكان ذا مال، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة! فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تدعه قريش وأحفظوه فقال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفَّر هاشماً عليه(حكم لهاشم أنه أفضل) فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين ، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية». والسيرة الحلبية (١/٧) والطبقات (١/٧٥) وعامة المصادر.
وقد ورَّث أمية حسده وعداوته لأبنائه! واشتهر حسدهم لبني هاشم حتى قال الناس إن هاشماً وعبد شمس ولدا توأماً ورِجْلُ هاشم ملتصقة بجبهة عبد شمس!
وفي الكامل لابن الأثير (٢/١٦): (وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وهو جد عمرو بن الحمق ومنزله بعسفان،وكان مع أمية همهمة بن عبد العزى الفهري وكانت ابنته عند أمية، فقال الكاهن:والقمر الباهر، والكواكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر،من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أول منه وآخر، وأبوهمهمة بذلك خابر. فقضى لهاشم بالغلبة، وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها، وغاب أمية عن مكة بالشام عشرسنين. وكان يقال لهاشم والمطلب البدران لجمالهما).
< صفحة > 44 < / صفحة >
وروى ابن عساكر (٩ / ٢٢٠) وصف المعمر اليماني لأمية وهاشم: « قال معاوية: إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سن وقد رأى الناس، يخبرنا عما رأى فقال بعض جلسائه: ذلك رجل بحضرموت! فأرسل إليه فأتيَ به فقال له.. فأخبرني هل رأيت هاشماً؟ قال: نعم رأيته رجلاً طوالاً حسن الوجه، بين عينيه غرة بركة. قال: فهل رأيت أمية؟ قال: نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى يقال إن في وجهه لشراً أو شؤماً! قال: فهل رأيت محمداً؟ قال: من محمد؟ قال: رسول الله، قال:ويحك ألا فخَّمته كما فخمه الله فقلت: رسول الله! قال: فأخبرني ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلاً تاجراً. قال: فما بلغت تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري عيباً ولا أرد ربحاً! قال له: سلني، قال: أسألك أن تدخلني الجنة »!

أسس هاشم إطعام الحجيج

« أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقاً وكعكاً، وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر، وجعله ثريداً وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمى بذلك هاشماً، وكان يقال له: أبوالبطحاء، وسيد البطحاء ».
( تاريخ الطبري: ٢ / ٨، واليعقوبي: ١ / ٢٤٥). وإنما سمي هاشماً لهشمه الثريد للحاج، وكانت إليه الوفادة والرفادة، وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي كما تقدم:
عمرو العلى هَشَم الثريد لقومه * ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عجافِ
واتفق المؤرخون على نُبل هاشم وتميزه، وأن أباه عبد مناف أوصى له بمفتاح البيت ومواريث إسماعيل عليه السلام ، وكان مناف وصَّى إلى هاشم، ودفع إليه مفتاح البيت، وسقاية الحاج وقوس إسماعيل ».
وقال وهب بن عبد قصي في ذلك (ابن سعد:١/٦١):
تحمل هاشم ما ضاق عنه * وأعيا أن يقوم به ابن بيض
أتــــاهم بـــالغــــــــرائــر متاقــــات * من ارض الشام بالبر النفيض
فأوسع أهل مكة من هشيم * وشاب الخبز باللحم الغريض
فظل القوم بين مكللات * من الشيزاء حائــرهــــــا يفيضِ
< صفحة > 45 < / صفحة >
أقول: نلاحظ في شعر ابن الزبعرى المتقدم أن القافية جاءت مكسورة في بيتين، وفي الثالث جاءت عجاف مرفوعة، وفي شعر وهب هذا أن البيت الأخير قافيته مرفوعة. ومعناه أن العرب تجوز للشاعر تغيير حركة القافية لضرورة الشعر.

رتب هاشم حراسة مكة

قال في شرح النهج (١٥/٢٠٢): (قال أبوعثمان الجاحظ: قالوا: إن هاشماً جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة، فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل، كانوا لا يؤمنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لايرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً، مثل طيئ وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب، وكيفما كان الإيلاف فإن هاشماً كان القائم به دون غيره من إخوته).

تزوج هاشم من بني النجار

قال ابن سعد(١/٦٤): (قال: وأخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال: حدثني القاسم بن العباس عن أبيه عن عبد الله بن نوفل بن الحارث قال: كان هاشم رجلاًشريفاً. وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لأن تختلف آمنة. وأما من على الطريق فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم ولا كراء على أهل الطريق. فكتب له قيصر كتاباً، وكتب إلى النجاشي أن يدخل قريشاً أرضه وكانوا تجاراً. فخرج هاشم في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة فنزلوا بسوق النبط فصادفوا سوقاً تقوم بها في السنة يحشدون لها. فباعوا واشتروا ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق فرأى امرأة تأمر بما يشترى ويباع لها. فرأى امرأة حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أأيم هي أم ذات زوج؟ فقيل له: أيم كانت تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمراً ومعبداً ثم فارقها، وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها فإذا كرهت رجلاً فارقته، وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. فخطبها هاشم فعرفت شرفه ونسبه فزوجته نفسها ودخل بها، وصنع طعاماً ودعا من هناك من أصحاب العير الذين كانوا معه، وكانوا أربعين رجلاً من قريش فيهم رجال من بني عبد مناف ومخزوم وسهم، ودعا من الخزرج رجالاً وأقام بأصحابه أياماً، وعلقت
< صفحة > 46 < / صفحة >
سلمى بعبد المطلب فولدته وفي رأسه شيبة فسمي شيبة. وخرج هاشم في أصحابه إلى الشام).
والصحيح عندي أنه رجع وأخذها الى مكة، ورزق منها عبد المطلب وأخته الشفاء، وكان يأتي بها الى أهلها قبل ولادتها لتلد عندهم.

أولاد هاشم رضي الله عنهم

في العدد القوية/١٤٠: «كان لهاشم خمسة بنين: عبد المطلب، وأسد، ونضلة وصيفي، وأبوصيفي. وسمي هاشماً لهشمه الثريد للناس في زمن المسغبة، وكنيته أبونضلة، واسمه عمرو العلى. قال ابن الزبعري :
كانت قريشٌ بيضةً فتفلَّقَتْ * فالمحُّ خالصُها لعبد مُناف
الرايشون وليس يوجد رايشٌ * والقائلـــونَ هلــــــمَّ للأضياف
والخـــالطــونَ فقيـــــــرهم بغنيهــــم * حتى يكون فقيرهم كالكافي
عمرو العلى هشمَ الثريــــــد لقومه * ورجالُ مكة مسنتون عجافِ
وقال اليعقوبي(١/٣٤٤): (وكان لهاشم من الولد عبد المطلب، والشفاء، وأمهما سلمى بنت عمرو ابن زيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، ونضلة بن هاشم وأمه أميمة بنت عدي بن عبد الله، وأسد أبوفاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وأمه قيلة بنت عامر بن مالك بن المطلب، وأبوصيفي انقرض نسله إلا من رقيقة بنت أبي صيفي، وصيفي درج صغيراً، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الخزرج، وضعيفة وخالدة وأمهما واقدة بنت أبي عدي، وحنة بنت هاشم وأمها أم عدي بنت حبيب بن الحارث الثقفية.
وكان هاشم لما أراد الخروج إلى الشأم حمل امرأته سلمى بنت عمرو إلى المدينة لتكون عند أبيها وأهلها، ومعه ابنه عبد المطلب. فلما توفي أقامت بالمدينة وكان المطلب بن عبد مناف قد قام بأمر مكة بعد أخيه هاشم).
وقال بن سعد في الطبقات (١/٦٥) والزبيري في كتاب نسب قريش/١٦: (ووَلَدَ هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة: شيبة الحمد وهو عبد المطلب. وكان سيد قريش حتى هلك. ورقية بنت هاشم، ماتت وهي جارية لم تبرز. وأمها سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد.. بن النجار.
< صفحة > 47 < / صفحة >
وأخواهما لأمها عمرو ومعبد ابنا أحيحة. وأباصيفي بن هاشم، واسمه عمرو وهو أكبرهم، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن عوف بن الخزرج. وأخوهما لأمهما مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي. وأسد بن هاشم وأمه قيلة. ونضلة بن هاشم، والشفاء ورقية، وأمهم أميمة بنت عدي بن عبد الله من قضاعة، وأخاهما لأمها نفيل بن عبد العزى العدوي. والضعيفة بنت هاشم، وخالدة بنت هاشم، وأمها أم عبد الله وهي واقدة بنت أبي عدي. وحنة بنت هاشم، وأمها عدي بنت حبيب بن الحارث.
ولما توفي هاشم رثاه ولده بأشعار كثيرة، فكان مما قيل فيما أخبرنا محمد بن عمر عن رجاله: قالت خالدة بنت هاشم ترثي أباها. وهو شعر فيه ضعف:
بَكِر النعيُّ بخير من وطأ الحصـى * ذي المكرمات وذي الفعال الفاضل
بالسيد الغمر السميدع ذي النهى * ماضي العزيمة غير نكس واغل
زين العشيرة كلهـــــــــا وربيعها * في المطبقات وفي الزمـــــــــان الماحل
بأخي المكارم والفواضل والعلى * عمرو بن عبد مناف غير الباطل
إن المهــــذب مــن لـــــؤي كلهــــــــا * بالشام بين صفائح وجنادل
فابكي عليه ما بقيت بعولة * فلقد رزئت أخا ندى وفواضل
ولقد رزئت قريع فهر كلهـــــــا * ورئيسها في كل أمر شـــــــامل

من هاجر مع النبي صلّى الله عليه وآله من بني هاشم

هاجر من بني هاشم إلى المدينة: حمزة عم النبي صلّى الله عليه وآله ، وابن عمه عبيدة بن الحارث وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأمه فاطمة بنت أسد عليها السلام ، وابنة النبي صلّى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام وابنة حمزة فاطمة وتسمى ضباعة، وخادم النبي صلّى الله عليه وآله أبوواقد وخادمه شقران، وحليف النبي صلّى الله عليه وآله زيد بن حارثة، وزوجته حاضنة النبي صلّى الله عليه وآله أم أيمن وولدها أيمن بن عبيد وطفلها أسامة بن زيد. وكانت أم أيمن حاضنة النبي صلّى الله عليه وآله : « سوداء، ورثها عن أمه وكان إسمها بركة فأعتقها صلّى الله عليه وآله وزَوَّجها عبيد الخزرجي بمكة فولدت له أيمن، فمات زوجها فزوجها النبي صلّى الله عليه وآله من زيد، فولدت له أسامة أسود يشبهها، فأسامة وأيمن أخَوَان لأم». (البحار:٢٢ / ٢٦٣). وكانت جارية سوداء نوبية (
< صفحة > 48 < / صفحة >
كتاب سليم / ٣٨٩). « ورثها من أبيه فأعتقها). (مناقب آل أبي طالب:١/١٤٧).
«كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة النبي بعدما توفي أبوه حضنته أم أيمن حتى كبر، ثم أعتقها النبي ثم أنكحها زيد بن حارثة. توفيت بعد النبي بخمسة أشهر». (قاموس الرجال: ١٢/١٩٣).

روايتهم عن مدة عمْر هاشم غير معقولة!

قالوا:كان هاشم شاباً ابن خمس وعشرين، وكان في غزة، فمرض ومات هناك. قال الحموي في معجم البلدان(٤/٢٠٢، و:٣/٤٠): « مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة، وذلك الثبت ».
أقول: تدل القرائن في حياة هاشم على أن عمره كان خمسين أو ستين سنة.
ويدل عليه: أنه توأم مع عبد شمس، وأن أمية بن عبد شمس كان صاحب ثروة فحسد عمه هاشماً ونافره. ومعناه أن أمية كان في الثلاثين من عمره حتى يجمع ثروة كما قالوا، فأبوه عبد شمس في نحو الخمسين من عمره، وهو توأم هاشم.
ويدل عليه: أن إنجازات هاشم المتنوعة والمتعددة، تستغرق وقتاً، ولا يكفي لها عمر عشرين سنة، أو خمس وعشرين!
ويدل عليه: أن الطبري وغيره رووا أنَفة هاشم عن منافرة ابن أخيه أمية، لسنه وقدره. وهي عبارة لا تقال لكهل ابن ثلاثين فما فوق.

المظنون أن أمية واليهود قتلوا هاشماً بالسم

لعله كان في الخمسينات كما تشير رواية منافرته مع أمية، ولأنهم ذكروا أنه أنشأ علاقات مع ملوك عصره، وكان له سفرات كثيرة إلى الحبشة والشام واليمن وكان يصل إلى أنقرة فيكرمه قيصر.
وأحتمل أن يكون سقي السم، لأنه أول رجل من أولاد إسماعيل عليه السلام كانت له زعامة مطلقة في العرب واحترام من ملوك عصره. وقد كان أمية حاسداً له حاقداً عليه، وزاد حقده لما خسرأمام عمه في المنافرة، وحكموا عليه بالنفي من مكة عشر سنين، وكان لأمية علاقات باليهود في بلاد الشام وعبده ذكوان الصفوري الذي تبناه كان يهودياً، فمن القريب أن يكون أمية دبَّر سُمَّ عمه ليشفي حقده!
< صفحة > 49 < / صفحة >
قال ابن قتيبة في المعارف/٣١٩:«كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فوقع على أمة للخم يهودية من أهل صفورية يقال لها ترنا، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستلحقه وكناه أباعمرو ثم قدم به مكة، فلذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله لعقبة يوم أمر بقتله: [ما أنت وقريش] إنما أنت يهودي من أهل صفورية [لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له ].
قال ابن عقيل في النزاع والتخاصم/١٤:(وبنو أمية لهم أكبر سابقة في التهتك والفسوق والوقاحة، فقد نافر أمية هاشماً فنفَّره هاشم، فخرج أمية إلى الشام وأقام بها عشر سنين، وكان مضعوفاً وصاحب عهار، وقد صنع أمية شيئاً لم يصنعه أحد من أهل الجاهلية، فقد نزل لابنه أبي عمرو في حياته عن زوجته وزوجه بها فبنى بها أبوعمرو أمام أبيه، وكان المقيتون في الجاهلية الذين يتزوجون نساء آبائهم بعد موتهم، أما من يتزوج زوجة أبيه وهو حي على مرأى منه، فهذا لم يكن قط قبل أمية).
وفي المنمق لابن حبيب/٩٧: «ويقال استلحق ذكوان أيضاً أبان». راجع: الطبقات: ١ / ٧٥، والمنمق/ ٩٧، والطبري:١/ ٣٧١ و٢ / ١٣، وكامل ابن الأثير:٢ / ١٦، والنزاع والتخاصم / ٤٩، وإمتاع الأسماع: ١٠ / ٦ للمقريزي، وسبل الهدى: ١ / ٢٧١، والسيرة الحلبية: ١ / ٧، والمنتظم: ٢ / ٢١٢، وأعلام النبوة /٢٥١ ومعجم ما استعجم: ٣ / ٨٣٧، والعدد القوية/١٤٠.
**

قضية قبر هاشم في مسجد حي الدورة بغزة

حديث أحد علماء غزة الشوافع عن قبر هاشم
كان قبر هاشم عليه السلام في غزة مشهداً يزوره المسلمون، لأنهم يعتقدون أنه كان مسلماً على دين جده إبراهيم عليه السلام ، وقد بنى المماليك والعثمانيون على قبره مسجداً.وفي السنوات الأخيرة دخل غزة مذهب الوهابيين الإنكليزي، ولما رأى الوهابيون المسلمين يزورون قبر هاشم قاموا بتخريبه، لكنهم لم يستطيعوا حفر القبر ولا هدم غرفته، لأنها غرفة في مسجد تاريخي كبير.
وهذه المقالة والحوار مع أحد علماء الشافعية الغزاويين، تكشفا قضية القبر. فقد كتب تامر عبد الله في مجلة دنيا الوطن التي تصدر في غزة بتاريخ(١-٣-٢٠٠٦):
< صفحة > 50 < / صفحة >
(يقع ضريح السيد هاشم بن عبد مناف جد الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله داخل مسجد السيد هاشم بغزة، تحديداً في حي الدرج، وتبلغ مساحة المسجد ٢٣٧١م٢، وهو من أكبر جوامع غزة وأتقنها بناء، والراجح أن المماليك هم أول من أنشؤوه وقد جدده السلطان عبد المجيد العثماني سنة ١٢٦٦هـ/ ١٨٥٠م) وكان في الجامع مدرسة موجودة أنشأها المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في فلسطين من مال الوقف، وقد أصابت الجامع قنبلة أثناء الحرب العالمية الأولى (١٩١٤- ١٩١٧) فخربته. ولكن المجلس الإسلامي الأعلى عمره وأرجعه إلى أحسن ما كان عليه.
وأما ما يهمنا بهذا الحديث هو ضريح السيد هاشم الموجود بداخل المسجد فقد تعرض هذا الضريح لاعتداء ترددت أسبابه ما بين مؤيد ومعارض، وبقيت هذه المسألة معلقة، دون أن يجزم أحد بأيهم على حق!
لذا نحن في دنيا الوطن كان لنا هذا الحوار مع الشيخ عبد اللطيف أبوهاشم مدير دائرة التوثيق والمخططات بوزارة الأوقاف الفلسطينية، حيث أثرنا هذه القضية لكي نضع النقاط على الحروف.

  • أثار وجود قبر هاشم بغزة جدلاً منذ الإنتفاضة الأولى بعد أن أقدمت فئة متطرفة على تحطيمه، فما هي حجتهم في ذلك؟
  • دعنا نتكلم عن جذور الموضوع، انطلاقاً من الحركة السلفية في العصر الحديث، وأنا أرفض كلمة متطرفين لأنه هو فهم خاص لمجموعة من القضايا أفرزت في العصر الحديث الحركة السلفة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلاد الحجاز، وهي مبنية على مفاهيم موجودة قبل ذلك لدى الشيخ الإسلامي ابن تيمية وابن القيم، هذان العلمان وابن تيمية بالذات يرى أنه لايجوز شد الرحال إلى المقابر العادية، ولا إلى قبر الرسول صلّى الله عليه وآله ، وأن من يزور قبر النبي عليه الصلاة والسلام فهو ذو نية غير صحيحة، ولا يثاب على ذلك!
    لذلك رد عليه جل علماء الإسلام وخطؤوه في هذه القضية، وبالذات كتاب الإمام السبكي في زيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وآله ، ولكن خطورة ما قام به السلفية في أوائل القرن التاسع عشر وقبل ذلك، انطلاقاً من هذه العقيدة التي يعتقدونها وأن البدع قد انتشرت، وأن الأولياء قد قدست، وأن الناس أشركت، بناء على ذلك فهم يحاربون الشرك، فقاموا بطمس كل الآثار الإسلامية الموجودة في المدينة المنورة ومكة المكرمة، مثل أرض البقيع المدفون بها كبار الصحابة، ومعالم كبيرة جداً
    < صفحة > 51 < / صفحة >
    كان ينبغي أن تكون ولا تهدم، بل ويصل بهم الأمر أنهم أرادوا أن يهدموا قبر الرسول صلّى الله عليه وآله ، وبالفعل الآن لا يوجد آثار إسلامية في بلاد الحجاز! كلها حطمت! إن ذاكرة الإسلام كله موجودة في بلاد الحجاز فلمَ تهدم!
    هناك إيعاز من بلاد أخرى، وأخذت إطاراً إسلامياً على أساس محاربة الشرك وغير ذلك!
    لكن هل نعبد القبر عندما نقف عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله أم أنني أتذكر سيرة الإسلام لمدة ١٤٠٠ عام؟ بالطبع ذلك لا غير، وحجتهم فيما فعلوه السلفيين بقبر السيد هاشم بأنه كان كافراً وأنه ليس مسلماً للأسف، والسيد هاشم ليس كافراً فقد مات قبل الإسلام وهو في طريقه إلى مكة المكرمة، ويقول الشاعر في ذلك:
    كهاشم في ضريح وسط بلقاةِ * تسفي عليه الرياح عند غزَّاتِ.
    ثم أن مدينة غزة سميت باسمه لوجود قبره فيها.
  • هل يخضع قبر هاشم لرعاية وزارة الأوقاف؟ ولماذا لا يتبع دائرة الآثار؟
    هو مَعْلم ديني تابع لوزارة الأوقاف، فهو ضمناً تابع للمسجد.
    لقد بنت وزارة الأوقاف مسجداً بمحيط القبر وأصبح القبر بذلك داخل المسجد، فهل اعتبرته الوزارة من المعالم الإسلامية؟
  • إذا قلنا من المعالم الإسلامية فهو منها لأنه يخص الرسول صلّى الله عليه وآله ، لأن هاشم بن عبد مناف هو جد الرسول عليه الصلاة والسلام، نحن نتشرف بأنه جد الرسول صلّى الله عليه وآله فقط لا غير.
  • تردد أن سبب قيام فئة من الناس بغزة بتحطيم قبر هاشم يعود لإقدام بعض الجماعات المسلمة بالتبرك بهذا القبر، ما هو تعليقكم؟
  • نعم، هو ردة فعل على طائفة من الهنود كانوا يكثرون من الزيارات وتأتي للتبرك من القبر، ولهم اعتقاد أن أي أثر من آثار آل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله يقدسونه، وأنا أرى حادثتين أحدهما بالإفراط في الإيجاب والأخرى الإفراط في السلب، فطائفة البهرة تفرط في التقديس والتبرك وهذا شيئ خاطئ ومخالف للإسلام، وهم من الطوائف غير السنية أي طوائف الشيعة، والأخوة في الحركة السلفية يفرطون في قضية الإهمال إلى درجة العدوانية على أثر إسلامي.
    < صفحة > 52 < / صفحة >
    أنا لا أعتقد أن هذا هو الحل، يجب أن نمنع هؤلاء الناس من التبرك وبنفس الوقت لا نهدم أي أثر إسلامي، فمثلاً في الحج حينما يريد بعض الناس أن تتمسح بقبر الرسول صلّى الله عليه وآله ، فلو أننا اعتقدنا أن هذا خطأ فهل يكون هذا دافعاً لهدم القبر! بالطبع لا، والقياس موجود مع المفارقة، وقد جاءت الدول والدويلات على بلاد الحجاز الأموية والعباسية والعثمانية وغيرهم، فلماذا لم يقوموا بهدم هذه المعالم الإسلامية؟ أجميعهم غفلوا عنها؟ وقام بذلك الحركة الوهابية فقط، هل غفل جل علماء المسلمين؟ لا ولكن يجب المحافظة على هذه الآثار الدينية، لذلك الحفاظ عليها من اختصاص وزارة الأوقاف، وكان الشيخ عثمان الطباع رحمه الله يقول في بعض الأجزاء من إتحاف الأعزة وهو يتحدث عن غزة: والناس في غير بلادنا يحترمون الأثارات القديمة ويقدسونها أو على الأقل يتركونها من غير سرقة لرخامها ولا تعجين لبنائها وهذا من جملة الأسباب التي أدت إلى خراب غزة وضعف أهلها وتسلطن الفقر فيها، فيجب فعلاً المحافظة على الآثار.
  • خلال الإنتفاضة الأولى تم تحطيم قبر هاشم، وقبل فترة وجيزة قامت جماعة متطرفة بغزة بتحطيم نصب الجندي المجهول للمرة الثانية خلال عامين بعد ترميمه المرة الأولى، برأيك هل تتجه غزة إلى حالة شبيه بطالبان عندما أقدمت حكومتها على هدم التماثيل؟
  • لا، لا أعتقد ذلك، الفرق كبير جداً بين المفاهيم لدينا وفي طالبان، المفاهيم في طالبان مطابقة للسلفية في السعودية، ومن درس في السعودية جاء هنا ويطبق هذه الأشياء، فهم يرون الجندي المجهول صنماً أو تمثالاً، وبرأيي غير مطلوب هدمه أو تحطيمه لأنه حسب ما قال العلماء مادام لا يعبد ليس لنا به أي علاقة، والتماثيل أيضاً التي هدمتها طالبان لم تهدمها كل الدول إلا حركة طالبان، وقامت بتأليب العالم كله ضدها.
  • ما تزال قضية الآثار العربية في الحقبة الجاهلية تثير الجدل والحساسية لدى بعض المسلمين سواء في غزة أو غيرها، بينما الآثار التي تعود للرومان والفينيقيين والآشوريين والفراعنة محل تكريم! هل تعتقد أن هناك خلط من قبل بعض المسلمين ما بين مرحلتين متداخلتين، وهما نهاية الجاهلية وصدر الإسلام؟
  • هناك نقطة مهمة جداً وهي أن الآثار لها تأثير على العقيدة الإسلامية وكانت فيها معبودات وثنية، يمكن دراستها من ناحية تاريخية، لكن لا تقديس ولا تبرك، ولكن أنا أنتمي حضارة
    < صفحة > 53 < / صفحة >
    إسلامية ولجذور عربية موجودة قبل الميلاد بثلاثة أو أربعة آلاف عام، فهذه قضية لابد لي أن أبينها فهي تفيدني في وجودي في هذه البلاد، على أساس أنه الآن يوجد نقوش ووثائق تؤكد أن العرب موجودون قبل الإسلام، وهم الآن ذخر للإسلام.
    فهذه ناحية إيجابية للإسلام فنلاحظ أن هناك مجموعة من الكنائس جاء الإسلام وحولها إلى مساجد، فمثلاً المسجد العمري كان كنيسة الملكة أوفيدكتسيا، وحينما أسلم أهل المدينة تحولت الكنيسة إلى جامع في العهد العمري، ففي مدينة غزة على سبيل المثال كانت من أكثر المدن مليئة بالأصنام، فحين أتى عمرو بن لحُي وأخذ معه العديد من الأصنام لمكة لذلك، كان صعب جداً دخول المسيحية في غزة، واليهودية لم تدخل مدينة غزة، ولا المدن الساحلية.
  • هل ترى أن عدم اهتمامهم بالوجود العربي ولابحضارة العرب وما يمارسونه على أرض الواقع، هدفه ضياع القومية العربية؟!
  • هم لا ينطلقون من هدم القومية العربية، فهم ينظرون إلى قضية جزئية فهم ينظرون وجود مقام أو قبر أو شاهد هو أمر غير مشروع، وهو عندما يقوم أحدهم بهدمه فإنه يؤجر من رب العالمين، ويعتقدون أيضاً أن هذه من آثار الجاهلية الأولى، حيث أنهم في الجاهلية قالوا لا نعبدها ولكن نتقرب إلى الله بها، والذين يتبركون اليوم بها يقولون ذات الشيئ وأنا أرى أن قضية التبرك غير موجود الآن فالكل لديه وعي ويعلم بالعقيدة، أما الإشراك الموجود اليوم فهو الإشراك مع الله في أعظم خصائصه وهي الحكم فلا يوجد دولة اليوم تحكم بحكم الإسلام، فأنا أعتقد أن ما يحدث هو نوع من الإلهاء للناس بأن الشرك موجود بصورة كبيرة وأن هناك خطر على عقائد الناس، هذا غير صحيح، كل الناس تعتقد بالله بكل صفاته العليا، إذا السبب الذي يمكن أن تهدم من أجله القبور فهو غير موجود، لا يوجد يدعوأحد للطواف حول القبور أو المزارات ولكن نعلم أن هذا رجل صالح فنحترمه ولا نهدم قبره، ولا نقدسه أو نتبرك به).
    كما نشر الموقع المذكور وصفاً للحرم الهاشمي، جاء فيه:
    (يعد الحرم الهاشمي من أجمل جوامع غزة الأثرية وأكبرها، وهو عبارة عن صحن مكشوف تحيط به أربع مظلات أكبرها مظلة القبلة، وفي الغرفة التي تفتح على المظلة الغربية ضريح سيدنا عبد مناف وسيدنا هاشم جدَّا رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله ، الذي توفىا في غزة أثناء رحلتهما التجارية
    < صفحة > 54 < / صفحة >
    رحلة الصيف وإقامتهما فيها.ثم صار الناس يدفنون حولهما حتى صار عندهما تربة كبيرة، وخفي أثرهما بتوالي الأزمان والحروب وإن ظل موضع المغارة التي دفنا فيها معروفاً، حيث نوه الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته إلى زيارته له. وفي أثناء القرن الثاني عشر الهجري أظهر الضريح وأحيط بالبناء وجعل فوقه قبة وصار يقصد للزيارة، ثم جدد الضريح أثناء القرن الثالث عشر الهجري وبني عليه مقصورة عظيمة بقبة شامخة، وأزيلت تلك المقبرة وبني مكانها جامع ومدرسة للغرباء بمنارة عالية، وبيت كبير للصلاة بمحراب ومنبر وصحن واسع وإيوانات بأعمدة دائرية، نقلت إليه من موضع الميناء القديمة بساحل البحر حتى صار من أعظم الجوامع وأتقنها، ومن أنفس الآثار وأحسنها).
    مسجد السيد هاشم في غزة.. أيقونة المعمار المملوكي والعثماني:
    ظلال لزخرفة ملونة، عكستها أشعة الشمس، التي تسللت قبيل ساعات المساء، من قمرية مغطاة بزجاج ملون ومزخرف بأشكال هندسية دقيقة ترتسم على أرضية بيت الصلاة في أحد أشهر مساجد مدينة غزة القديمة.
    تلك القمرية المغطاة بالزجاج الملون يحتضنها تاج أحد أبواب بيت الصلاة في مسجد السيد هاشم بن عبد مناف الذي بناه المماليك، وجدده السلطان العثماني عبد المجيد الأول عام ١٨٥٥ قرب سور مدينة غزة القديمة.
    والقمرية هي نوع من أنواع النوافذ المشبكة برخام أو بجص وهي من أصل عربي انتشرت أيضاً في صقلية، وتمثل نمطاً معقداً من زخارف هندسية.
    ويكتسب مسجد السيد هاشم الذي يتوسط مدينة غزة ويقع في حي الدرج، طابعاً تاريخياً كون أن قبر هاشم بن عبد مناف جد الرسول محمد صلّى الله عليه وآله موجود في إحدى غرفه الجانبية، ورغم أن كثيراً من الروايات التاريخية تؤكد دفن جد الرسول في موقع القبر تماماً، إلا أن روايات أخرى تشكك في دقة موقع القبر.وتذكر إحدى أشهر الروايات التاريخية أن السيد هاشم بن عبد مناف دفن في مغارة إلى جانب سور مدينة غزة القديمة، حيث كان تاجراً يزور غزة بشكل دائم وخلال رحلته الأخيرة توفي ودفن في تلك المغارة. وفي أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، أزيلت المغارة وأحيط القبر بجدران تعلوها رقبة ثمانية الشكل مسقوفة بقبة كبيرة.
    < صفحة > 55 < / صفحة >
    وفي عام ١٨٥٥قدم مفتي المذهب الحنفي في قطاع غزة أحمد بن محي الدين الحسيني طلباً للسلطان العثماني عبد المجيد الأول بإنشاء مسجد قرب قبر السيد هاشم، فاستجاب السلطان العثماني للطب وبنى بيتاً للصلاة، وفقاً لهيام البيطار، مديرة قسم الدراسات والأبحاث في وزارة السياحة والآثار في حكومة غزة المقالة.
    وتقول البيطار، في حديث لوكالة الأناضول: بعد بناء بيت الصلاة وفقاً للطراز المملوكي بنظام الأقواس، ألحقت به الأروقة الجنوبي والشمالي والغربي التي يحملها تسعة عشر عموداً رخامياً ومسقوفة بسبعة عشر قبة صغيرة وقبتين كبيرتين.وبيت الصلاة مبني في الجهة الشرقية من المسجد هو شبه مربع، وبه محراب يتجه نحو القبلة، ومنبر.
    وتبلغ مساحة المسجد ٢٤٠٠ متر مربع جزء صغير منها مبني عليه بيت الصلاة، وباقي المساحة عبارة عن ساحة رخامية وأروقة تحيط بالساحة من الشمال والجنوب والغرب، وتمتد على طول الأروقة أعمدة رخامية على الطراز الكورنثي، ويزين تاج العمود زخرفة محفورة من أوراق نبات الأكانتس والخرشوف، وفق البيطار.
    والطراز الكورنثي هو نظام معماري كلاسيكي ينسب إلى مدينة كورينثوس اليونانية يمكن معرفته من شكل تاج العمود والزخارف المزينة له.
    ورغم أن بيت الصلاة في مسجد السيد هاشم بني على الطراز المملوكي، إلا أن الأروقة وساحة المسجد بنيت على الطراز العثماني، فقد حرص العثمانيون على أن تلحق بالقبة الرئيسية لمساجدهم عدة قباب أصغر منها.
    وتتميز جدران مسجد السيد هاشم بالسماكة، فسمك الجدار الواحد ٩٠ سم، وذلك لتكون قادرة على حمل القباب الحجرية التي تعلوها.
    ويحيط بساحة المسجد مجموعة من الغرف كانت مدرسة لتعليم المذاهب الإسلامية، بالإضافة إلى وجود مكتبة كانت تضم مئات الكتب والمخطوطات، ولكنها احترقت خلال فترة الحرب العالمية الأولى (١٩١٨-١٩١٤) حيث تضرر مسجد السيد هاشم بشكل عام.
    حقائق هامة:
    ١- مع الأسف أن إمام مسجد الحرم الهاشمي مع الفئة المعتدين فكرياً ويبدي سروره لمنع
    < صفحة > 56 < / صفحة >
    قوات الإحتلال الإسرائيلي الهنود من دخول قطاع غزة لزيارة الحرم الهاشمي.
    ٢- البهرة واظبوا على زيارة المشهد الهاشمي طول الإحتلال.
    ٣- الفلسطينيون بشكل عام كانوا يهتمون بالمشهد الهاشمي.
    ٤-بعض المحسوبين على فرقة الإخوان المسلمين هم أول من تعرض لهتك المشهد الهاشمي وهدم آثار المرقد وعزله عن المسجد منعاً لزيارة الناس له.
    ٥- غضب الملك حسين الأردني من تعرض المشهد وحكم بإعدام الثلاثة الذين باشروا هدم الضريح.
    ٦- قام البهرة بتعمير المشهد الهاشمي وتجديده.
    ٧- وصف كثرة زوار المشهد الهاشمي بالرمال
    غزة-دنيا الوطن:
    بكثير من السرور ينظر يوسف أبونجيلة إمام مسجد السيد هاشم بمدينة غزة لمنع قوات الإحتلال الإسرائيلي الهنود من طائفة البهرة من دخول قطاع غزة للتبرك والتمسح بضريح السيد هاشم بن عبد مناف جد النبي محمد صلّى الله عليه وآله المدفون بالمسجد. ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر ٢٠٠٠ تمنع إسرائيل الأجانب بشكل عام من دخول القطاع.
    ويقول أبونجيلة: إن الصحوة الدينية التي شهدها قطاع غزة منذ الإنتفاضة الأولى عام ١٩٨٧ نجحت أيضاً في القضاء على الكثير من البدع والخرافات التي سادت لفترة طويلة من الزمن، باستثناء ممارسات البهرة نظراً لحماية السلطة الفلسطينية لهم.
    واعتاد الهنود البهرة زيارة الضريح الموجود داخل مسجد السيد هاشم لأداء طقوس وعبادات داخله! حيث يعتبرونه أحد مقدساتهم الخمسة التي يجب على أبناء الطائفة زيارتها والحج إليها! ولم يكن البهرة وحدهم من يقوم بالبدع داخل الضريح! حيث كانت تنتشر في قطاع غزة حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي الكثير من البدع والطقوس داخل الضريح!
    ويشير إمام المسجد يوسف أبونجيلة إلى بعض أشكال البدع والخرافات التي كانت تمارس في المسجد، ويقول: كان الناس يأتون يطلبون البركة وقضاء الحوائج منه. فالمرأة العاقر
    < صفحة > 57 < / صفحة >
    والرجل العقيم يأتون ويذبحون فيه القرابين. والبعض يقوم بختان أطفاله في الضريح! والبعض الآخر يقوم بحلق شعر المولود داخله!
    ويستذكر أبونجيلة أن بعض الناس كانوا يوقدون الشموع في الداخل! ويتمسحون بالجدران والقبر ويطوفون حوله!
    ويقول أبونجيلة: إن هذه المظاهراستمرت حتى بداية الإنتفاضة الأولى، حيث أقدم عدد من الشبان المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين بعزل الضريح عن المسجد وإزالة شواهد القبر، من أجل منع الناس من القيام بهذه البدع والطقوس، ومارسوا حملات توعية للناس. لكن هذا العمل أثار غضب الملك حسين عاهل المملكة الأردنية الهاشمية الراحل، حيث حكم على الشبان الثلاثة الذين فصلوا الضريح عن المسجد بالإعدام، لكونه يعتبر أن السيد هاشم بن عبد مناف جده، وأن مملكته تنسب إليه.
    ويضيف: مع مرور الوقت تقبل الناس الأمر! وأصبحوا أكثر وعياً بحرمة تلك البدع والخرافات التي كانوا يمارسونها داخل الضريح!
    يقول الشيخ أبونجيلة: ومع قدوم السلطة الفلسطينية عام ١٩٩٤، طلبت منها طائفة البهرة السماح لها بتطويرالضريح وأنفقت لهذا الغرض نحو٣٠ ألف دولار بين عامي ١٩٩٩ - ٢٠٠٠م. وخلال هذه الفترة كانت تأتي وفود حجيج البهرة تترى عبر رحلات سياحية تضم الرجال والنساء والأطفال وتقوم بممارسة طقوس وعبادات غريبة، منها الدوران حول القبر والتمسح بالجدران وإيقاد الشموع.
    وحين اكتمل بناء الضريح أقام البهرة حفل افتتاح حضره سلطانهم الهندي وكان عمره وقتها حوالي١٠٠ عام، ووفرت له السلطة الفلسطينية وقتها حراسة خاصة، وأقام البهرة بهذه المناسبة حفل غداء وذبحوا خروفين على باب المسجد، ويشير أبونجيلة إلى حادثة طريفة وقعت في الحفل حيث اختلف بعض علماء وزارة الأوقاف الفلسطينية الذين حضروا الحفل حول حرمة الأكل من لحم الخروفين. وبعدها بفترة حضر ابن السلطان وقام بطلاء أبواب الضريح وحصل على مفاتيحه كي يقوم أبناء طائفته بدخوله وقتما يشاءون. ويشير أبونجيلة إلى أن البهرة يعتبرون المقام مقدساً لديهم، بالإضافة إلى ٤ مناطق أخرى في العالم هي المسجد الإبراهيمي
    < صفحة > 58 < / صفحة >
    والمسجد الأقصى والمقام الحسيني في مصر ومغارة أهل الكهف في الأردن.
    ورغم اختفاء البدع وانتشار الوعي الديني لدى الفلسطينيين فإن أبو(أبا)نجيلة يشير إلى وجود بقايا ممارسات قديمة تحصل من حين لآخر. ويقول: حيث حضرت قبل فترة سيدة تريد ذبح خروف في منتصف صحن المسجد وفاء لنذر نذرته، إلا أن بعض الشبان منعوها وقاموا بذبح الخروف على باب المسجد. كما يوضح أن بعض العجائز يطلبون أحياناً زيارة الضريح ويتمسحون به. وبحسب أبونجيلة فإن بعض الصوفية من أهل القطاع يحضرون بين فترة وأخرى فرادى ويزورون الضريح.
    ولا يخفى الحاج أبوسليمان العمريطي (٨٧ عامًا) أحد رواد المسجد حزنه على إزالة شواهد الضريح وفصله عن المسجد نهاية الثمانينيات من قبل بعض الشباب، معللاً ذلك بأنه مكان مقدس وأثري.ويقول:
    السيد هاشم جد الرسول عليه الصلاة والسلام حضر إلى هنا ومن أجله سميت مدينتنا بغزة هاشم، وكان القبر موجوداً لوحده قبل أن يبنى المسجد. ويستذكر الحاج العمريطي مراحل عدة من تاريخ هذا المسجد كونه كما قال عاصر الإنتداب البريطاني ثم الحكم المصري ثم الإحتلال الإسرائيلي، وأخيراً عهد السلطة الفلسطينية.
    ويقول:كان الناس يقدسون الضريح ويحضرون الأطعمة خاصة الجريشة (طعام يصنع من القمح) ويوقدون الشمع ويطهرون (يختنون) الغلمان، ويحلقون لهم ويقيمون فيه احتفالات المولد النبوي والإسراء والمعراج.
    ويستذكر أن الصوفيين كانوا يقيمون احتفالات في المسجد، ويقومون بأعمال خارقة للعادة فيه، حيث كان يدخلون السيوف الحادة في أجساد بعضهم من دون أن يقتلوا.
    ويشير كذلك إلى البهرة الذين يصفهم بأنهم كالرمال من كثرتهم، كانوا يحضرون بنسائهم وأطفالهم ويقومون بتقبيل الضريح والتمسح به).
    < صفحة > 59 < / صفحة >

عبد مناف لم يدفن في غزة

أقول: تتبعت موت عبد مناف رضي الله عنه في المصادر، فوجدت أن المتسالم عليه عندنا أنه دفن في الحجون مع قصي وعبد المطلب وأبي طالب. ولا يوجد إلا نص واحد في تاريخ الخميس(١/١٥٦) عن سيرة ابن هشام أن عبد مناف مات بغزة تاجراً، وأصله مات هاشم بن عبد مناف بغزة، وهو كذلك في سيرة ابن إسحاق: مات هاشم بغزة تاجراً، بل في سيرة ابن هشام نفسه (١/٨٩): (قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجراً). فهو سقط في النسخة.

المجلس الشيعي في فلسطين

غزة - دنيا الوطن:
محمدغوانمة، من جامعة بيرزيت عام ١٩٨٢، أمضـى ٢٢ عاماً في سجون الإرهاب الصهيوني، أن هذا المجلس لديه أتباع كثيرون في مناطق متعددة في فلسطين، وأن فكرة التأسيس قديمة بدأت في السجون الإسرائيلية.
و أضاف محمد غوانمة في تصريح صحفي خاص لدنيا الوطن:
لقد قضيت عشرين عاماً أسيراً في السجون الإسرائيلية خلال الفترة ١٩٧٧- ٢٠٠٠، وكنت من مؤسسي حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية قبل أن أتقاعد من حركة الجهاد واتبعت المذهب الجعفري الشيعي، وهو مذهب إسلامي يجوز التعبد عليه في الشريعة الإسلامية.
وحول الهدف من إعلان المجلس الشيعي في فلسطين، قال غوانمة: نريد من خلال تأسيس هذا المجلس أن نوجد غطاءً للشعب الفلسطيني لفتح قنوات جديدة لمساعدة شعبنا، ولا سيما أن موقف منظمة التحرير تجاه الحرب العراقية الإيرانية كان مؤيداً للعراق مما أثار سخط الإخوة الشيعة في العراق وأدى ذلك إلى رد فعل سلبي على الشعب الفلسطيني.
وبالتالي فإن تأسيس هذا المجلس من شأنه توثيق العلاقات بين الشعبين الفلسطيني والعراقي، إضافة للإخوة في إيران، ومنطلقنا توحيد العالم الإسلامي لأن المجلس الشيعي في فلسطين هو امتداد للمشروع الإسلامي وقد سبقنا الإخوة في مصر في تأسيس المجلس الأعلى لأتباع المذهب الجعفري هناك.
< صفحة > 60 < / صفحة >
وحول توقيت الإعلان عن المجلس الشيعي في فلسطين، قال غوانمة :
وجدنا الآن الوضع مناسب لإعلان تأسيس المجلس الشيعي في فلسطين بعد أن تبنت إيران حماس وتعمل إيران على مساعدة الشعب الفلسطيني ويتعرض حزب الله في لبنان لمؤامرة فوجدنا أن الوقت مناسب.
ورداً على سؤال دنيا الوطن بأن الشعب الفلسطيني ينتمي إلى المذهب السني فهل يتوقع أن يتقبل الناس مذهبا جديداً، قال غوانمة:
عندما كنا نؤسس الجهاد الإسلامي كان يقولون عنا بأننا شيعة وحتى الآن تتهم الجهاد الإسلامي بأنها شيعة، أي أن التهمة قائمة رغم أن الجهاد الإسلامي يرتبط بعلاقة قوية مع إيران ويؤمن بالوحدة بين السنة والشيعة، ولكن الجهاد الإسلامي ليس شيعياً، لدينا أتباع كثيرون في مناطق مختلفة في فلسطين ولم نكن لنعلن عن تأسيس هذا المجلس لو لم يكن لدينا أتباع.
ورداً على السؤال هل أن إعلان هذا المجلس تم بتنسيق مسبق مع إيران قال غوانمة: لم ننسق مع إيران مسبقاً قبل الإعلان عن تأسيس المجلس الشيعي وإن كانت لنا علاقات مع إيران وشيعة لبنان وهي علاقات قوية وحتى الآن لم يصلنا أي رد فعل، ولكن نتوقع أن يكون هنالك ترحيب بتأسيس المجلس الشيعي في فلسطين.
وحول استهداف الفلسطينيين في العراق من قبل فيلق بدر الشيعي قال غوانمة: ندين كل استهداف للشعب الفلسطيني، ولا نقبل بأي اعتداء على أي فلسطيني.
وحول إحياء مناسبات شيعية ورداً على السؤال إن كنا سنشاهد احتفالاً بمناسبة عاشوراء في رام الله على الطريقة الشيعية في العراق، قال غوانمة: لن نقيم عاشوراء حسب الطقوس التي تجري في بعض الإسلامية الشيعية، ولا سيما أن الخميني كان قد اصدر فتوى بهذا الشأن من حيث بعض مظاهر الاحتفالات، ولكن سنقيم عاشوراء بالإتجاه السياسي للمذهب وهي ثورة الحسين على الظلم، كما أن عاشوراء يوم إسلامي يحتفل به).
< صفحة > 61 < / صفحة >

وعاد التشدد الوهابي مع قبر هاشم عليه السلام وزواره

التقيت في بلجيكا بأخ مؤمن فلسطيني، فحدثني بحديثه العجب، قال: كنت موظفاً في وزارة الأوقاف في حكومة حماس، في منصب مفتش عام وزارة الأوقاف، أي أزور دوائر الأوقاف والمساجد وأعمل على رفع الخلل. وذهبت الى غزة والى مسجد هاشم في الجورة أو حي الدرج، وطلبت من مسؤول المسجد أن يدلني على قبر هاشم فأخذني الى غرفة مقفلة، وفتحها لي فإذا بها مخزن لأغراض المسجد ومتروكاته، فطلبت منه أن يرفع هذه الأشياء عن القبر فرفعها، فوقفت وزرت هاشماً عليه السلام بالزيارة المدونة في كتب الشيعة التي يزورون بها أباه عبد مناف في مقبرة المعلى بمكة:
( السّلامُ عَلَيكَ أيّهَا السّيدُ النَّبيلُ، السّلامُ عَلَيكَ يا مَنْ كَرَّمَهُ اللهُ بالتَبجيلِ، السّلامُ عَلَيكَ أيّهَا الغُصْنُ المُثمِرُ مِنْ شَجَرةِ إبراهيمَ الخَليلِ، السّلامُ عَلَيكَ يا خَيرَ سُلالَة وَسَليلٍ، السّلامُ عَلَيكَ يا ابْنَ أعرَاقِ الثرى، السّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّ خَيرِ الوَرى، السّلامُ عَلَيكَ يا ابْنَ الأنبياءِ الأصفياءِ، السّلامُ عَلَيكَ يا ابْنَ الأَولِياءِ الأَوصِياءِ، السّلامُ عَلَيكَ يا سَيدَ الحَرَمِ، السّلامُ عَلَيكَ يا صاحِبَ الصَّفا والمروَةَ وزَمزَمَ، السّلامُ عَلَيكَ يا وارِثَ مَقَامَ إبراهيمَ، السّلامُ عَلَيكَ يا حاجِبَ بيتِ اللهِ العَظِيمِ، السّلامُ عَلَيكَ يا عَلَمَ الأشْراف، يا عالياً بِكَمالِ الأَوصَافِ، السّلامُ عَلَيكَ يا سَيدَ قُريشٍ المَعرُوفِ بِعَبدِ مُنافِ، السّلامُ عَلَيكَ وعلى آبائِكَ القادِمينَ اللاحِقين، أُمَناءِ اللهِ في العَالمين). ثمّ تصلي ركعتين وتهدي ثوابهما إليه، ثم تدعو لنفسك ولوالديك ولإخوانك بالمغفرة والرضوان.
وطول زيارتي وصلاتي كان مسؤول المسجد ينظر اليَّ شزراً وهو مستاء من أوامري وزيارتي. وقلت له لا بد أن تنظفوا الغرفة من هذه الأشياء، وتفتحوها لمن أراد زيارة هذا الولي.
ولم تطل الأيام حتى استدعتني الدائرة، وأخبرتني بأني مفصول من عملي! فحمدت الله تعالى أني لقيت الأذى والضرر من أجل رسول الله صلّى الله عليه وآله .
وأضاف مفتش الأوقاف السابق: كان صهري أعلن تشيعه فصبوا عليه وعلى جماعته المضايقات وشملتني أنا، حتى غادرت غزة مشرداً الى أوروبا!
**
< صفحة > 62 < / صفحة >

بنو هاشم وبنو أمية: تناقض الخير والشر

نحن وبنو أمية أهل بيتين تعادينا في الله
في معاني الأخبار/٣٤٦، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : (إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله وقالوا: كذب الله. قاتل أبوسفيان رسول الله صلّى الله عليه وآله وقاتل معاوية علي بن أبي طالب عليه السلام . وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي عليه السلام ، والسفياني يقاتل القائم عليه السلام ).
وفي مقدمة الصحيفة السجادية عن علي عليه السلام قال: (إن رسول الله صلّى الله عليه وآله أخذته نعسة وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة يردون الناس على أعقابهم القهقرى، فاستوى رسول الله صلّى الله عليه وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا. يعني بني أمية، قال يا جبريل على عهدي يكونون وفي زمني؟ قال: لا و لكن تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمساً، ثم لا بد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها ثم ملك الفراعنة. قال: وأنزل الله تعالى في ذلك: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.يملكها بنو أمية فيها ليلة القدر قال: فأطلع الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وآله إن بني أمية تملك سلطان هذه الأمة وملكها طول هذه المدة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت بغضنا، أخبر الله نبيه بما يلقى أهل بيت محمد وأهل مودتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم.
قال: وأنزل الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ. ونعمة الله محمد وأهل بيته، حبهم إيمان يدخل الجنة، وبغضهم كفر ونفاق يدخل النار، فأسر رسول الله صلّى الله عليه وآله ذلك إلى علي وأهل بيته عليهم السلام ).
< صفحة > 63 < / صفحة >

لو لم يبق من بني أمية إلا عجوز شمطاء لبغت لدين الله عوجا

في الخرائج (٢/٥٧٤): ( قام الإمام الحسن عليه السلام خطيباً وقال: قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي! مع أي إمام تقاتلون بعدي! مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو ولا بنو أمية إلا فرقاً من السيف؟! ولو لم يبق لبني أمية إلا عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً! وهكذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله ). وشرح النهج ( ٦ /٢٩١) والهداية الكبرى/١٨٩.
ومعنى العجوز الدرداء العجوز الأموية الوحيدة المريضة ولا قوة لها، لکنها تخطط بما بقي من قوتها ضد الإسلام، لأن عداء الإسلام وبني هاشم في دمها!

الشجرة الملعونة في القرآن

قال الله تعالى:وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَراَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ. طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ. أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ.ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ.

نلعنُ بني أمية قاطبة ونترك الإستثناء لله

فقد ورد ذلك عن أئمتنا عليهم السلام وأفتى به فقهاؤنا. ففي كامل الزيارات/٣٢٩،
في زيارة الإمام الحسين عليه السلام : (يا أباعبد الله إني سٍلْمٌ لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة، فلعن الله آل زياد وآل مروان، ولعن الله بني أمية قاطبة، ولعن الله ابن مرجانة، ولعن الله عمر بن سعد، ولعن الله شمراً، ولعن الله أمةً أسرجت وألجمت وتهيأت لقتالك).
< صفحة > 64 < / صفحة >
ومعنى ذلك أنه يجب على الأمة الحذر من هذه الشجرة الملعونة، وأن عليها أن تتحصن منها بلعنها قاطبة، أما الطيب النادر فيها فالله يتولى استثناءه!
فلعن بني أمية قاطبة طريقي، ولايعني أنهم جميعاً غير مؤمنين، ولا يتنافى مع وجود مؤمنين منهم، فلا عموم له من هذه الجهة، بل يعني أن على الأمة أن تلعنهم جميعاً وتحذر وتتبرأ منهم، لأنهم كأسرة خطرون على الإسلام حتى يفنوا أو تقوم القيامة!
فالحذر اللازم منهم وتحصين الأمة من شرهم لا يتحقق إلا بتعميم لعنهم، وأي استثناء منهم سيكون باباً ينفذون منه للإفساد في الأمة! فيجب أن يترك الإستثناء لله تعالى.
وعليه فلا يقال: ما ذنب المؤمنين منهم حتى يشملهم اللعن! لأن استثناءهم حاصل بفعل الله تعالى واللعنة لا تصيب مؤمناً حسب تعبير النبي صلّى الله عليه وآله .
 وهذا يشبه تحذير النبي صلّى الله عليه وآله من اليهود، مع أنه كان منهم مؤمنون أبرار! ويشبه لعن النبي صلّى الله عليه وآله كل قادة الأحزاب وكل أتباعهم إلى يوم القيامة.
ففي الإحتجاج(١/٤٠١): (يوم الأحزاب يوم جاء أبوسفيان بجمع قريش، وجاء عينية بن حصين بن بدر بغطفان، فلعن رسول الله القادة والأتباع، والساقة إلى يوم القيامة. فقيل يا رسول الله أما في الأتباع مؤمن؟قال: لا تصيب اللعنة مؤمناً من الأتباع، أما القادة فليس فيهم مؤمن ولا مجيب، ولا ناج).( والخصال / ٣٩٨، وشرح الأخبار: ٢ / ٥٣٥، والاحتجاج: ١ / ٤٠٩، وشرح النهج: ٦ / ٢٩٠، والغدير: ١٠ / ٨٢، وجمهرة خطب العرب: ٢ / ٢٥ وتفسير الطبري: ١ / ١٦٩). وذكر بعضها أن ذلك كان في غزوة الحديبية.
وفي المناقب والمثالب للقاضي النعمان /٢٣٣: (روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله أشرف يوم أحد على عسكر المشركين فقال: اللهم العن القادة والأتباع، فأما الأتباع فإن الله يتوب على من يشاء منهم، وأما القادة والرؤوس فليس منهم نجيب ولا ناج ومن القادة يومئذ أبوسفيان ومعاوية).
ويبدو أنه تكرر منه صلّى الله عليه وآله .
وفي المحتضر للحلي/٧١: ( وروي عنه صلّى الله عليه وآله أنه لعن يوماً آل فلان فقيل: يا رسول الله! إن فيهم فلاناً وهو مؤمن. فقال:إن اللعنة لا تصيب مؤمناً).
**
< صفحة > 65 < / صفحة >

الفصل الخامس والأربعون : المُطَّلب أخو هاشم وعم النبي صلّى الله عليه وآله

المُطَّلب أخو هاشم شخصية استثنائية

نقرأ عن المطلب أخ هاشم فنتفاجأ بأنه رجل استثنائي في صفائه وصدقه وإخلاصه، فقد كان الأخ الأصغر لهاشم، وكان معجباً بشخصية أخيه حتى سمى ابنه هاشماً، وأوصى له هاشم بالرئاسة بعده، فكان بعد وفاة أخيه رئيس قريش وقام بمهام الرئاسة في الإدارة خير قيام.
ولما أخبره شخص بأنه رأى شيبة بن أخيه هاشم في المدينة عند أخواله فتى مراهقاً، لامَ المطلب نفسه لماذا لم يأت به الى مكة ليشركه في الرئاسة، ثم يوصي له بها ليكون بعده دون أبنائه!
وهذا أمرعجيب أن يرى أن الرئاسة لأخيه هاشم ولأبناء هاشم، ولم يقل إنه أخوه فهو شريكه في الرئاسة، ولم يفكر بأن يوصي بها لأولاده.
قال المجلسي في البحار(١٥/١٢٢): (وولدت سلمى عبد المطلب وشب عند أمه فمر به رجل من بني الحارث بن عبد مناف، وهو مع صبيان يتناضلون فرآه أجملهم وأحسنهم إصابة، وكلما رمى فأصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء، فأعجب الرجل ما رأى منه ودنا إليه فقال: من أنت؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، قال: بارك الله فيك وكثر فينا مثلك، قال: من أنت يا عم؟ قال: رجل من قومك، قال: حياك الله ومرحباً بك، وسأله عن أحواله وحاجته، فرأى الرجل منه ما أعجبه، فلما أتى مكة لم يبدأ بشئ حتى أتى المطلب بن عبد مناف فأصابه جالساً في الحجر فخلا به وأخبره خبر الغلام وما رأى منه، فقال المطلب: والله لقد أغفلته، ثم ركب قلوصاً ولحق بالمدينة، وقصد محلة بني النجار).
< صفحة > 66 < / صفحة >
وقال ابن هشام في سيرته (١/٨٩): (وكان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة فتزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش فولدت له عمرو بن أحيحة. وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلاً فارقته، فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة، فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفاً (غلاماً ناشئاً) أو فوق ذلك، ثم خرج إليه عمه المطلب لقبضه فيلحقه ببلده وقومه، فقالت له سلمى: لست بمرسلته معك. فقال لها المطلب: إني غير منصرف حتى أخرج به معي، إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا نلي كثيراً من أمورهم، وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم، أو كما قال.
وقال شيبة لعمه المطلب فيما يزعمون: لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له ودفعته إليه، فاحتمله فدخل به مكة مردفه معه على بعيره فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه، فبها سمى شيبة عبد المطلب. فقال المطلب:ويحكم! إنما هو ابن أخي هاشم، قدمت به من المدينة).
قال اليعقوبي(١/٢٤٦): (ولما حضر رحيل المطلب إلى اليمن قال لعبد المطلب: أنت يا ابن أخي أولى بموضع أبيك فقم بأمر مكة. فقام مقام المطلب، فتوفي المطلب في سفره ذلك بردمان، فقام عبد المطلب بأمر مكة، وشرُف وساد، وأطعم الطعام، وسقى اللبن والعسل، حتى علا اسمه وظهر فضله، وأقرت له قريش بالشرف، فلم يزل كذلك).
قال ابن هشام في سيرته(١/٩٢):(ثم وليَ عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم).
وقال ابن هشام في سيرته (١/٩٠): (ثم هلك المطلب بردمان من أرض اليمن، فقال رجل من العرب يبكيه:
قد ظمئ الحجيج بعد المطلب * بعد الجفان والشراب المنثعب
ليت قريشاً بعده على نصب
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكى المطلب وبني عبد مناف جميعاً:
< صفحة > 67 < / صفحة >
يا عين جودي وذرى الدمع وانهمري * وابكي على السر من كعب المغيرات
يا عين واسحنفري بالدمع واحتفلي * وابكي خبيئة نفسي في الملمات
وابكي على كل فياض أخي ثقة * ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات
محض الضريبة عالي الهم مختلق * جلد النحيزة ناء بالعظيمات
صعب البديهة لا نكسٌ ولا وَكِلٌ * ماضي العزيمة متلافُ الكريمات
صقر توسط من كعب إذا نسبوا * بحبوحة المجد والشم الرفيعات
ثم اندبي الفيض والفياض مطلباً * واستخرطي بعد فيضات بجمات
أمسى بردمان عنا اليوم مغترباً * يا لهف نفسي عليه بين أموات
وابكي لك الويل إما كنت باكية * لعبد شمس بشرقي البنيات
وهاشم في ضريح وسط بلقعة * تسفى الرياح عليه بين غَزَّات
ونوفل كان دون القوم خالصتي * أمسى بسلمان في رمس بموماة
لم ألق مثلهم عجماً ولا عرباً * إذا استقلت بهم أدم المطيات
أمست ديارهم منهم معطلة * وقد يكونون زيناً في السريات
أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم * أم كل من عاش أزواد المنيات
أصبحت أرضى من الأقوام بعدهم * بسط الوجوه وإلقاء التحيات
يا عين فابكي أبا الشعث الشجيات * يبكينه حسراً مثل البليات
يبكين أكرم من يمشى على قدم * يَعُلنَه بدموع بعد عبرات
يبكين شخصاً طويل الباع ذا فخر * آبى الهضيمة فراج الجليلات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه * سمح السجية بسام العشيات
يبكينه مستكينات على حزن * يا طول ذلك من حزن وعولات
يبكين لما جلاهن الزمان له * خضر الخدود كأمثال الحميات
< صفحة > 68 < / صفحة >
مختزِّمَات على أوساطهن لما * جر الزمان من احداث المصيبات
أبيت ليلي أراعي النجم من ألم * أبكى وتبكي معي شجواً بنياتي
ما في القروم لهم عدل ولا خطر * ولا لمن تركوا شروى بقيات
أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم * خير النفوس لدى جهد الأليات
كم وهبوا من طمرٍّ سابح أرنٍ * ومن طِمِرَّة نهب في طمرات
ومن سيوف من الهندي مخلصة * ومن رماح كأشطان الركيات
ومن توابع مما يفضلون بها * عند المسائل من بذل العطيات
فلو حبست وأحصى الحاسبون معي * لم أقض أفعالهم تلك الهنيات
هم المدلون إما معشر فخروا * عند الفخار بأنساب نقيات
زين البيوت التي خلوا مساكنها * فأصبحت منهم وحشی خليات
أقول والعين لا ترقأ مدامعها * لا يبعد الله أصحاب الرزيات
بنو المطلب وبنو هاشم واحد
قال ابن إسحاق في سيرته(٢/١٣٧): (فلما مضى رسول الله صلّى الله عليه وآله على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه وأبوا أن يسلموه وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه، إلا أنهم أنفوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لمن فارقه من قومه، فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أنه لاسبيل إلى محمد صلّى الله عليه وآله معهم اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني المطلب، ألا يناكحوهم ولاينكحوا إليهم ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، فكتبوا صحيفة في ذلك وكتب في الصحيفة منصور ابن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وعلقوها بالكعبة.
ثم عَدَوْا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم، وعظمت الفتنة فيهم، وزلزلوا زلزالاً شديداً، فخرج أبولهب عدو الله يظاهرعليهم إلى قريش وقال:نصرت اللات والعزى يا معشر قريش. فأنزل الله عز وجل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ.
< صفحة > 69 < / صفحة >
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).
وقال الشيخ الطوسي في الخلاف(٤/٢١٣):(روى جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر وضع النبي صلّى الله عليه وآله سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس، فانطلقت أنا وعثمان حتى أتينا النبي صلّى الله عليه وآله فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لموضعك الذي وضعك الله فيهم، فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شئ واحد، وشبك بين أصابعه).
وقال المحقق الحلي في المعتبر(٢/٦٣١):(وفي بني المطلب للأصحاب قولان، أحدهما:يستحقون في الخمس نصيباً كبني هاشم، وبه قال ابن الجنيد وأحد قولي المفيد، وبه قال الشافعي، لقول النبي صلّى الله عليه وآله : إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام. وقوله صلّى الله عليه وآله : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد والآخرون لا يستحقون شيئاً. وبه قال الشيخ رحمه الله وأبوحنيفة.
لنا: أنهم يستحقون الزكاة فلا يستحقون الخمس، وإنما قلنا يستحقون الزكاة لتناول الآية لهم بعمومها. وروي عن العبد الصالح قال: والذين جعل الله لهم الخمس هم بنوعبد المطلب ليس فيهم من بيوتات قريش ولامن العرب أحد).
وقال صاحب الجواهر(١٣/٣٥٤):(ثم بناء على ترجيح الهاشمي لنسبه ففي ترجيح المطلبي على غيره نظر، من اقتصار أكثر الفتاوى على الأول، ومما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله : نحن وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام. نعم الهاشمي أولى منه قطعاً، وحينئذ في ترجيح أفخاذ بني هاشم بسبب شرف الآباء كالطالبي والعباسي والحارثي واللهبي والعلوي والحسني والحسيني والصادقي والموسوي والرضوي والهادي، بالنسبة إلى غيرهم، وبعضهم مع بعض، احتمالٌ بَيِّن، إذ الترجيح دائر مع شرف النسب).

أولاد المطلب بن عبد مناف

قال ابن دريد في الإشتقاق (١/٨٣): (ولد المطلب بن عبد مناف: مخرمة، وأبورهم، وهاشم، وأبوعمرو، وأبورهم الأصغر، وعباد، والحارث، وأبوشمران، ومحصن، وعلقمة، وعمرو،
< صفحة > 70 < / صفحة >
لأمهات شتى. فمخرمة مفعلة من قولهم: اخترمهم الدهر إذا أفناهم، أو من خرمت الشيئ أخرمه خرماً).
وفي جمهرة النسب لابن الكلبي/٦٠، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم/٧٢، ونسب قريش للزبيري/٨٣: (وُلْد المطَّلب بن عبد مناف: مخرمة، وأبو رهم الأكبر، وأنيس وهو أبو رهم الأصغر، وهاشم، وأبوعمر، وأبوشمران، والحارث، وعمرو، وعباد، ومحصن، وعلقمة. وعبيدة، والطفيل، وحصين، بنو الحارث بن المطلب، شهد هؤلاء الثلاثة بدراً مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وضُرب عبيدة على رجله ضربة مات منها بالصفراء. وعبيدة والطفيل والحصين، بنو الحارث بن المطَّلب بدريون من المهاجرين الأولين.
ومن ذرية المطلب:عبد الله بن حصين الشاعر، ومحمد وعبد الله بن قيس بن مخرمة، وجهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطّلب الذي رأى الرؤيا يوم بدر. ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ممن قال بالإفك وقد شهد بدراً مسلماً، وركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب الشديد الذي صرعه النبي صلّى الله عليه وآله . والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، أسر يوم بدر، وكان يشبه بالنبي صلّى الله عليه وآله ومن ولده: عياش، وعلي، وشافع. ومن بني شافع: الشافعي الفقيه، وعمرو بن علقمة بن المطلب، وكان يقال لعبد يزيد بن هاشم بن المكلب: المحض لأن أمه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف).
أقول: الرؤيا التي رآها جُهيم المطَّلبي وكان مع المشركين، رواها البیهقي في دلائل النبوة (٣/١٠٥) فقال: (فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل وساقوا مائة فرس ولم يتركوا كارهاً للخروج ولا مسلماً يعلمون إسلامه ولا أحداً من بني هاشم إلا أشخصوه معهم، فكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب،وعقيل بن أبي طالب في آخرين. فهنالك يقول طالب بن أبي طالب:
يارب إما يخرجن طالبْ * بمقنب من هذه المقانبْ
في نفر مقاتـــــل محاربْ * فليكن المسلوب غير السالبْ
والراجع المغلوب غير الغالبْ
< صفحة > 71 < / صفحة >
فساروا حتى نزلوا الجحفة نزلوها عشاء يتروون من الماء، وفيهم رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال له جهيم بن الصلت بن مخرمة، فوضع جهيم رأسه فأغفى ثم فزع فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفاً؟ فقالوا: لا، فإنك مجنون! فقال: قد وقف علي فارس آنفاً فقال: قتل أبوجهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف، فعد أشرافاً، فقال له أصحابه: إنما لعب بك الشيطان! ورفع حديث جهيم إلى أبي جهل فقال: قد جئتمونا بكذب بني المطلب مع كذب بني هاشم، سترون غداً من يقتل)!
أقول: معناه أن بني المطلب كان هواهم مع النبي صلّى الله عليه وآله حتى غير المسلم منهم.
هذا، وقد نجا جهيم من بطش أبي جهل لكن طالباً أخا علي عليه السلام لم ينج، فلم يظهر له أثر لا في بدر ولا بعدها، والمؤكد عندي أن عتاة قريش قتلوه لأجل أبياته.
**
< صفحة > 72 < / صفحة >

الفصل السادس والأربعون : عبد المطلب الجد الأول للنبي صلّى الله عليه وآله

سموْهُ عبد عمه المطلب لأنه أتى به

قال اليعقوبي (١/٢٤٥): (ودخل المطلب مكة وهو خلفه، والناس في أسواقهم ومجالسهم، فقاموا يرحبون به ويحيونه ويقولون: من هذا معك؟ فيقول: عبدي ابتعته بيثرب، ثم خرج حتى أتى الحزورة فابتاع له حلة، ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فلما كان العشي ألبسه، ثم جلس في مجلس بني عبد مناف وأخبرهم خبره، وجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلة، فيطوف في سكك مكة وكان أحسن الناس فتقول قريش: هذا عبد المطلب! فلجَّ (غلب) إسمه عبد المطلب، وترك شيبة).

ألهم الله عبد المطلب أن يحفر زمزم

أقرب الروايات وأكثرها معقولية في حفر زمزم، ما رواه ابن إسحاق عن علي عليه السلام (سيرة ابن هشام:١/٩٢) قال:(وكان أول ما ابتدئ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله ابن زرير الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب عليه السلام يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: إحفر طيبة. قال قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: إحفر بَرَّة. قال فقلت: وما برة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: إحفر المضنونة. قال فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني
< صفحة > 73 < / صفحة >
فقال: إحفر زمزم، قال قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقى الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل. فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صُدِقَ، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فلما بدا لعبد المطلب الطي كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك فيها قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد هذيم قال: نعم، قال: وكانت بأشراف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فنيَ ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً. قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً.
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا، لَعَجْزٌ، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، إرتحلوا فارتحلوا. ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملؤوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلم إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا
< صفحة > 74 < / صفحة >
بينه وبينها. قال ابن إسحاق: فهذا الذي بلغني من حديث علي بن أبي طالب صلّى الله عليه وآله في زمزم).
وقد اعتمد اليعقوبي رواية ابن إسحاق عن علي عليه السلام وأضاف اليها، قال: (١/٢٤٦): (قال محمد بن حسن: لما تكامل لعبد المطلب مجده وأقرت له قريش بالفضل رأى وهو نائم في الحجر آتياً أتاه فقال له: قم يا أبا البطحاء، واحفر زمزم حفيرة الشيخ الأعظم. فاستيقظ فقال: اللهم بين لي في المنام مرة أخرى فرآه يقول: قم فاحفر برَّة…فلم يحفر إلا قليلاً، حتى بدا الطي فكبر واجتمعت قريش، فعلمت لما رأت الطي أنه قد صُدِقَ، وليس له من الولد يومئذ إلا الحارث، فلما رأى وحدته قال: اللهم إنَّ لك علي نذراً إن وهبت لي عشرة ذكوراً، أن أنحر لك أحدهم.
وحفر حتى وجد سيوفاً وسلاحاً وغزالاً من ذهب مقرطاً مجزعاً ذهباً وفضة فلما رأت قريش ذلك قالوا: يا أبا الحارث من فوق الأرض ومن تحتها، فأعطنا هذا المال الذي أعطاك الله، فإنها بئر أبينا إسماعيل فأشركنا معك! فقال: إني لم أؤمر بالمال إنما أمرت بالماء فأمهلوني! فلم يزل يحفر حتى بدا الماء فكبَّر، ثم قال: بحرها لاتنزف، وبنى عليها حوضاً وملأه ماء، ونادى: هلمَّ إلى الماء الروا، أعطيته على رغم العدا.
وكانت قريش تفسد ذلك الحوض وتكسره فرأى في المنام: أن قم فقل: اللهم إني لا أحله لمغتسل، ولكن لشارب حِلْ، فقام عبد المطلب فقال ذلك، فلم يكن يفسد ذلك الحوض أحد إلا رمي بداءٍ من ساعته فتركوه!
ولما استقام له الماء دعا بستة قداح، فجعل لله قدحين أسودين، وجعل للكعبة قدحين أبيضين، وجعل لقريش قدحين أحمرين، ثم أخذها بيده، واستقبل الكعبة ثم أفاض وهو يقول:
يا رب أنت الأحد الفرد الصمد * إن شئت ألهمت الصواب والرشد
وزدت في المال وأكثرت الولد * إني مولاك على رغم معد
ثم ضرب فخرج الأسودان لله، فقال قال ربكم: هو مالي، ثم أفاض وهو يقول:
لاهُمَّ أنت الملك المحمود * وأنت ربي المبدئ المعيد
من عندك الطارف والتليد * إن شئت ألهمت بما تريد
فخرج الأبيضان للكعبة فقال: أخبرني ربي أن المال كله له فحلى به الكعبة، وجعله صفائح
< صفحة > 75 < / صفحة >
على باب الكعبة، وكان أول من حلى الكعبة).

حسدت قريش عبد المطلب وتحالفت ضده

قال اليعقوبي (١/٢٤٧): (ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزوا، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم فقالوا: إمنعونا من بني عبد مناف! فلما رأى ذلك بنو عبد مناف اجتمعوا خلا بني عبد شمس، فإن الزبيري قال: لم يكن ولد عبد شمس في حلف المطيبين، ولا ولد عبد مناف، وإنما كان فيهم هاشم وبنو المطلب وبنو نوفل.
وقال آخرون: كانت بنو عبد شمس معهم، فأخرجت لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب طيباً في جفنة ثم وضعتها في الحجر فتطيب بنو عبد مناف وأسد وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين، فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرة، وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا! فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبد الدار وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم، فسموا اللعقة! وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا، ولايسلم بعضهم بعضاً، وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلة قبيلة).
وقال في شرح النهج (١٥/٢٠٢) ورسائل الجاحظ(١/٤١٤):(قال أبوعثمان: ثم حلف الفضول وجلالته وعظمته، وهو أشرف حلف كان في العرب كلها، وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام لم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب.
قال النبي صلّى الله عليه وآله وهو يذكر حلف الفضول: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لودعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت. ويكفي في جلالته وشرفه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله شهده وهو غلام، وكان عتبة بن ربيعة يقول: لو أن رجلاً خرج مما عليه قومه لدخلت في حلف الفضول، لما أرى من كماله وشرفه، ولما أعلم من قدره وفضيلته. قال: ولفضل ذلك الحلف وفضيلة أهله سمي حلف الفضول، وسميت تلك القبائل الفضول، فكان هذا الحلف في بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزى، وبني زهرة، وبني تيم بن مرة، تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياماً يتماسحون بأكفهم صعداً ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه
< صفحة > 76 < / صفحة >
ما بل بحر صوفة، وفي التأسي في المعاش والتساهم بالمال. وكانت النباهة في هذا الحلف للزبير بن عبد المطلب ولعبد الله بن جدعان، أما ابن جدعان فلأن الحلف عقد في داره، وأما الزبير فلأنه هو الذي نهض فيه ودعا إليه وحث عليه وهو الذي سماه حلف الفضول.
وذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم ثمن سلعته قد أوفى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس رافعاً عقيرته وقريش في أنديتها قائلاً:
يا للرجال لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الحي والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته * ولا حرام لثوبي لابس الغدر
حميَ وحَلَفَ ليعقدن حلفاً بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوي من ظلم الضعيف، والقاطن من عنف الغريب ثم قال:
حلفت لنعقدن حلفاً عليهم * وإن كنا جميعاً أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا * يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نهجر كل عار
فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف حلف الفضول، وهم كانوا سببه، والقائمين به دون جميع القبائل العاقدة له والشاهدة لامره، فما ظنك بمن شهده ولم يقم بأمره!
قال أبوعثمان: وكان الزبير بن عبد المطلب شجاعاً أبياً، وجميلاً بهياً، وكان خطيباً شاعراً، وسيداً جواداً، وهو الذي يقول:
ولولا الحمس لم يلبس رجال * ثياب أعزة حتى يموتوا
ثيابهم شمـــــــــال أو عبــــــــــاء * بها دنس كما دنس الحميت
ولكنا خلقنا إذا خلقنـــــــــــا * لنا الحبرات والمسك الفتيت
وكأس لو تبين لهم كلاماً * لقالت إنما لهـــــــــــم سبيت
تبين لنا القذى إن كان فيها * رضين الحلم يشربها هبيت
ويقطع نخوة المختــــــــال سيف * رقيق الحد ضربته صموت
< صفحة > 77 < / صفحة >
بكف مجرب لا عيب فيه * إذا لقي الكريهة يستميت
قال: والزبير هو الذي يقول:
وأسحم من راح العراق مملاً * محيط عليه الجيش جلد مرائره
صبحت به طلقاً يراح إلى الندى * إذا ما انتشى لم يختصره معاقره
ضعيف بجنب الكاس قبض بنانه * كليل على جلد النديم أظافره
قال: وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي، وفى ذلك يقول البارقي:
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي * بني جمح والحق يؤخذ بالغصب
وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي، وكان كابره عليها حين رأى جمالها، وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج:
وخشيت الفضول حين أتوني * قد أراني ولا أخاف الفضولا
إني والذي يحـــــــــج له شمط * إيـــــــاد وهللـــــــــوا تهليــــــــــلا
لبراء مني قتيلة يا للناس * هل يتبعـــــــون إلا القتـــــــــــولا
وفيها أيضاً يقول:
لولا الفضول وأنه * لا أمن من عروائها
لدنوت من أبياتها * ولطفت حول خبائها
حي النخيلة إذ نأت * منا عــــــــلى عدوائها
لا بالفراق تنيلنــــــــا * شــــــــيئاً ولا بلقائها
حلت بمكة حَلـــــــــة * في مشيها ووطائها
في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات، ولم يكن يَظلِمُ بمكة إلا رجال أقوياء ولهم العدد والعارضة، منهم من ذكرنا قصته).
< صفحة > 78 < / صفحة >

استنجد عبد المطلب بأخواله لمنع ظلم أعمامه

قال الماوردي في أعلام النبوة/١٩٤: (مات [المطلب] فوثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف في رُكَح كان له فاغتصبه إياه والرُّكَح الساحات، فسأل عبد المطلب رجالات قومه النصرة على عمه فقالوا: لسنا داخلين بينك وبين عمك، فلما رأى عبد المطلب ذلك كتب إلى أخواله من بني النجار يقول:
يا طول ليلي لأشجاني وأشغالي * هل من رسول إلى النجار أخوالي
ينبئ عدياً ودينـــــــاراً ومازنهــــــــــا * ومالكاً عصمة الجيران عن حالي
وكنت ما كنت حياً ناعماً جذلاً * أمشي الغضية سحاباً لأذيالي
حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني * عن ذاك مطلب عمي بترحالي
فغاب مطلب في قعر مظلمة * وقام نوفل كي يعدو على مالي
أئن رأى رجلاً غابت عمومته * وغاب أخواله عنـــــــــه بلا والي
أنحى عليه ولم يحفظ له رحماً * ما أمنع المرء بين العم والخال
فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم * لا تخذلوه وما أنتم بخذالي
ما مثلكم في بني قحطان قاطبة * حي لجـــــــــار وإنعام وإفضال
أنتم ليان لمن لانت عريكته * سلماً لكم وسمام الأبلج العالي
فقدم عليه ثمانون راكباً من بني النجار ونصروه على عمه نوفل وارتجعوا منه الرُّكَح (الساحات) وعادوا، وقد اشتد بهم عبد المطلب.
فدعا ذلك نوفلاً أن حالف بني عبد شمس على عبد المطلب ودعا ذلك عبد المطلب على أن حالف بني هاشم على نوفل، وبني عبد شمس فقوي عبد المطلب وضعف نوفل، وانتقلت السقاية والوفادة والرئاسة إلى عبد المطلب، وأخذ نوفل عهداً من أكاسرة العراق وصارت رحلته إليها، وأخذ عبد المطلب عهداً من ملوك الشام وأقيال حمير باليمن، وصارت رحلته إليها).
وقال الطبري(٢/١١): (فقدم عليه منهم ثمانون راكباً فأناخوا بفناء الكعبة فلما رآهم نوفل بن عبد
< صفحة > 79 < / صفحة >
مناف قال لهم أنعموا صباحا ًفقالوا له لا نَعِمَ صباحك أيها الرجل، أنصف ابن أختنا من ظلامته. قال أفعل بالحب لكم والكرامة، فرد عليه الأركاح وأنصفه، قال: فانصرفوا عنه إلى بلادهم).
وفي المنمق لابن حبيب/٨٣، ملخصاً: (قال الكلبي: فلما هلك المطلب وثب نوفل بن عبد مناف على ساحات كانت لهاشم وهي الأركاح فوهبها لابنه عبد المطلب فأخذها، ثم ذكر استنصاره بأخواله وشعره، وقال: فأقبلوا على كل صعب وذلول حتى انتهوا إلى مكة فكلموا نوفلا حتى رد على عبد المطلب أركاحه فأنشأ عبد المطلب يقول:
أبلغ بني النجار إن جئتهم * أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوماً إذا جئتهم * هووا لقائي وأحبوا حسـيسي
قال فأخبرني ابن الكلبي قال: لما بعث عبد المطلب إلى أخواله بني النجار أقبل منهم ثمانون رجلاً قد تقلدوا وتنكبوا القسي وعلقوا التراس في مناكبهم فأناخوا بفناء الكعبة، فلما رآهم نوفل قال: ما أشخص هؤلاء إلا الشر فخافهم، فرد على ابن أخيه الأركاح وأحسن إليه، فقال شمر بن عويمر الكناني: يمدح بني النجار لنصرهم عبد المطلب:
لعمري لأخوال ابن هاشم نصرة * من اعمامه الأدنين أحسن أفضل
أجابوا على نأي دعاء ابن أختهم * وقد رامه بالظلم والغدر نوفل
فما برحوا حتى تدارك حقه * ورد عليه بعد ما كاد يؤكل
جزى الله خيراً عصبة خزرجية * تواصوا على بر وذو البر أفضل

عبد المطلب مع أبرهة قائد الجيش لهدم الكعبة

في كنز الفوائد/٨١، عن الإمام الصادق عليه السلام قال:«لما ظهرت الحبشة باليمن وجَّه يكسوم ملك الحبشة بقائدين من قواده، يقال لأحدهما أبرهة والآخر أرباط في عشرة من الفيلة كل فيل في عشرة آلاف، لهدم بيت الله الحرام، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم واختلفوا، فقتل أبرهة أرباط واستولى على الجيش، فلما قارب مكة طرد أصحابه عيراً لعبد المطلب بن هاشم فصار عبد المطلب إلى أبرهة، وكان ترجمان أبرهة والمستولي عليه ابن داية لعبد المطلب،
< صفحة > 80 < / صفحة >
فقال الترجمان لأبرهة: هذا سيد العرب وديانها فأجله وأعظمه، ثم قال لكاتبه: سله ما حاجته؟ فسأله فقال: إن أصحاب الملك طردوا لي نعماً! فأمر بردها ثم أقبل على الترجمان فقال: قل له عجباً لقوم سودوك ورأسوك عليهم حيث تسألني في عير لك، وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت! فقال: أيها الملك إن هذه العير لي وأنا ربها فسألتك إطلاقها، وإن لهذه البَنِيَّة رباً يدفع عنها! قال: فإني غاد لهدمها، حتى أنظر ماذا يفعل!
فلما انصرف عبد المطلب حلَّ أبرهة بجيشه، فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر: يا أهل مكة أتاكم أهل عكة، بجحفل جرار يملأ الأندار ملء الجفار فعليهم لعنة الجبار! فأنشأ عبد المطلب يقول:
أيها الداعي لقد أسمعتني * كلَّمَا قُلْتَ وما بي من صَمَمْ
إن للبيت لرباً مانعاً * من يُرده بأثامٍ يصطلم
رامهُ تُبَّعُ في أجنـــــــــاده * حميرٌ والحيُّ من آل إرم
هلكت بالبغي فيه جرهمٌ * بعد طَسْمٍ وجَديسٍ وجُثَمْ
وكذاك الأمر فيمن كاده * ليس أمر الله بالأمر الأَمَم
نحن آلُ الله فيما قد خلا * لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
لم يزل لله فينـــــــــا حجةٌ * يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينـــــــــا شيمة * صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنـــــــــا في كل دور كرة * نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدور إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتــــب فصلــــت آياتــــــه * فيه تبيان أحاديث الأمم
فلما أصبح عبد المطلب جمع بنيه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال: أنظر يا بني ماذا يأتيك من قبل البحر؟ فرجع فلم ير شيئاً. فأرسل واحداً بعد آخر من ولده، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر، فدعا ولده عبد الله وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أباقبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر؟ فنزل
< صفحة > 81 < / صفحة >
مسرعاً فقال: يا سيد النادي رأيت سحاباً من قبل البحر مقبلاً، يُسْفِلُ تارة ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته، وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارة وينحدر أخرى!
فنادى عبد المطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر وفي رجليه حجران، فكان الطائر الواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة! كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره! وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ).
والسجيل:الحجر الصلب. العصف المأكول: ورق الزرع الذي أكلته وداسته الحيوانات. وطير القدم: مثلٌ ضربه عبد المطلب لأصحاب ولده المهدي عليه السلام الذين يجمعهم الله له في ليلة من أقاصي العالم ليكونوا وزراءه في دولته.
فقد روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: « من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله، وتولى ما استطاع نصيحته، أولئك يتقلبون في رحمة الله، ومثلهم مثل طير يأتي بأرض الحبشة في كل صيفة يقال له القدم فيبيض ويفرخ بها، فإذا كان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إليه وخرجوا معه من أرض الحبشة، فإذا قام قائمنا اجتمع أولياؤنا من كل أوب! ثم تمثل بقول عبد المطلب:
فإذا ما بلغ الدور إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته * فيه تبيان أحاديث الأمم
( مستدرك الوسائل : ١٣ / ١٣٧، وجامع أحاديث الشيعة : ١٧ / ٢٩٧).
وفي أمالي الطوسي/٨٠، بسنده عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال:( لما قصد أبرهة بن الصباح ملك الحبشة لهدم البيت، تسرعت الحبشة فأغاروا عليها وأخذوا سرحاً لعبد المطلب بن هاشم، فجاء عبد المطلب إلى الملك فاستأذن عليه، فأذن له وهو في قبة ديباج على سرير له، فسلم عليه فرد أبرهة السلام، فجعل ينظر في وجهه فراقه حسنه وجماله وهيئته. فقال له: هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال: نعم أيها الملك، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء. فقال له أبرهة: لقد فقتم الملوك فخراً وشرفاً، ويحق لك أن تكون سيد قومك. ثم أجلسه معه على سريره وقال لسائس فيله الأعظم وكان فيلاً أبيض عظيم الخلق، له نابان مرصعان
< صفحة > 82 < / صفحة >
بأنواع الدرر والجواهر، وكان الملك يباهي به ملوك الأرض: إئتني به فجاء به سائسه وقد زين بكل زينة حسنة، فحين قابل وجه عبد المطلب سجد له ولم يكن يسجد لملكه، وأطلق الله لسانه بالعربية فسلم على عبد المطلب، ولما رأى الملك ذلك ارتاع له وظنه سحراً فقال: ردوا الفيل إلى مكانه. ثم قال لعبد المطلب: فيم جئت؟ فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك، ورأيت من هيبتك وجمالك وجلالك ما يقتضي أن أنظر في حاجتك فسلني ما شئت، وهو يرى أنه يسأله في الرجوع عن مكة، فقال له عبد المطلب: إن أصحابك غدوا على سرح لي فذهبوا به فمرهم برده عليَّ. قال: فتغيظ الحبشي من ذلك وقال لعبد المطلب: لقد سقطت من عيني، جئتني تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك وشرف قومك، ومكرمتكم التي تتميزون بها من كل جيل، وهو البيت الذي يحج إليه من كل صقع في الأرض، فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك!
فقال له عبد المطلب: لست برب البيت الذي قصدت لهدمه، وأنا رب سرحي الذي أخذه أصحابك، فجئت أسألك فيما أنا ربه، وللبيت رب هو أمنع له من الخلق كلهم وأولى به منهم! فقال الملك: ردوا إليه سرحه، وانصرف إلى مكة وأتبعه الملك بالفيل الأعظم مع الجيش لهدم البيت، فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ، وإذا تركوه رجع مهرولاً. فقال عبد المطلب لغلمانه: أدعوا لي ابني، فجئ بالعباس فقال: ليس هذا أريد، أدعوا لي ابني فجئ بأبي طالب فقال:ليس هذا أريد، ادعوا لي ابني، فجئ بعبد الله أبي النبي صلّى الله عليه وآله فلما أقبل إليه قال: إذهب يا بني حتى تصعد أباقبيس،ثم اضرب ببصرك ناحية البحرفانظر أي شئ يجئ من هناك وخبرني. قال: فصعد عبد الله أباقبيس فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السيل والليل، فسقط على أبي قبيس ثم صار إلى البيت فطاف به سبعاً، ثم صار إلى الصفا والمروة فطاف بهما سبعاً، فجاء عبد الله إلى أبيه فأخبره الخبر، فقال: أنظر يا بني ما يكون من أمرها بعد فأخبرني به، فنظرها فإذا هي قد أخذت نحو عسكر الحبشة، فأخبر عبد المطلب بذلك، فخرج عبد المطلب وهو يقول: يا أهل مكة، أخرجوا إلى العسكر فخذوا غنائمكم. قال: فأتوا العسكر وهم أمثال الخشب النخرة، وليس من الطير إلا ما معه ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه، يقتل بكل حصاة منها واحداً من القوم! فلما أتوا على جميعهم انصرف الطير، ولم ير قبل ذلك ولا بعده، فلما هلك القوم بأجمعهم جاء
< صفحة > 83 < / صفحة >
عبد المطلب إلى البيت فتعلق بأستاره وقال:
يا حابس الفيل بذي المغمس * حبســــــته كأنه مكوكــــــــس
في محــبس تــزهـق فيــه الأنـفــس).
وفي البحار(٦٢/٢٣٣): « وأصيب أبرهة حتى تساقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر! حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره وطائرٌ يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما انتهى وقع عليه الحجر فخرَّ ميتاً بإذن الله بين يديه »!
وفي سيرة ابن هشام(١/٢٨) ملخصاً: (ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْسَ بصنعاء، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. ثم ذكر أن رجلاً من العرب أهان الكنيسة وتغوط فيها، فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه! ولا يبعد أن تكون قصة إهانة الكنيسة مفتعلة لتكون حجة لأبرهة.
ثم قال ابن هشام: فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان فقال: حاجتي أن يرد على الملك مئتي بعير أصابها لي. قال: أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه.قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك.
فانصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفاً عليهم من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لاهمَّ إن العبد يمنع رحله..فامنع رحالك..
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حُدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام،فلما رد الله الحبشة عن مكة، أعظمت العرب قريشاً وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم، فقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله
< صفحة > 84 < / صفحة >
بالحبشة، وما رد عن قريش من كيدهم. فقال عبد الله بن الزبعرى:
تنكلوا عن بطن مكة إنها * كانت قديماً لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت * إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى * ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفاً لم يؤوبوا أرضهم * ولم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم * والله من فوق العباد يقيمها
وقال أبوقيس بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي:
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمسي ورجله * على القاذفات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعاً هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب
قال ابن إسحاق: وقال طالب بن أبي طالب بن عبد المطلب:
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * وجيش أبي يكسوم إذ ملؤوا الشعبا
فلولا دفــــــــاع الله لا شئ غيـــــــــره * لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا
قال ابن هشام: وهذان البيتان في قصيدة له في يوم بدر سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.قال ابن هشام: وقال عبد الله بن قيس الرقيات، أحد بني عامر بن لؤي ابن غالب يذكر أبرهة وهو الأشرم والفيل:
كاده الأشرم الذي جاء بالفيل * فولى وجيشــــــــه مهـــــــــزوم
واستهلت عليهـــــــــــم الطير * بالجندل حتى كأنه مرجوم
ذاك من يغزه من الناس يرجع * وهو فل من الجيوش ذميم
< صفحة > 85 < / صفحة >
وهذه الأبيات في قصيدة له. قال ابن إسحاق: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم بن أبرهة، ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة).
أقول: القصيدة التي أشار اليها ابن هشام أوردها في (٢/٥٤٨): (قال طالب بن أبي طالب، يمدح رسول الله صلّى الله عليه وآله ويبكي أصحاب القليب من قريش يوم بدر:
ألا إن عيني أنفذت دمعها سكبا * تبكي على كعب وما إن ترى كعبا
ألا إن كعباً في الحروب تخاذلوا * وأرداهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا
وعامر تبكي للملمات غدوة * فياليت شعري هل أرى لهما قربا
هما أخواي لن يعدا لغية * تعد ولن يستام جارهما غصبا
فيا أخوينا عبد شمس ونوفلاً * فدى لكما لا تبعثوا بيننا حربا
ولا تصبحوا من بعد ود وألفة * أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * وجيش أبي يكسوم إذا ملؤوا الشعبا
فلولا دفاع الله لا شئ غيره * لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا
فما إن جنينا في قريش عظيمة * سوى أن حمينا خير من وطأ التربا
أخا ثقة في النائبات مرزاً * كريماً ثناه لابخيلاً ولا ذربا
يطيف به العافون يغشون بابه * يؤمون بحراً لا نزوراً ولا صربا.(
أقول:جمعت هذه القصيدة بين مدح النبي صلّى الله عليه وآله ومدح قريش رغم طغيانهم، فإن صحت فهي تقية منهم لأنه في مكة. وهي تلقي ضوءً على مصير طالب بن أبي طالب، فقد ذكر المؤرخون أن قريشاً أجبرته وغيره من بني هاشم على المسير معهم الى بدر لحرب النبي صلّى الله عليه وآله ، ثم انقطع خبره.
وفي هذه القصيدة يقول طالب إنه ضد الحرب ويطالب بالسلام بين بني هاشم وقريش، ويقول إن بني هاشم لم يرتكبوا ذنباً إلا أنهم حموا رسول الله خير الخلق من أن تقتله قريش، ويعلن إيمانه بالنبي صلّى الله عليه وآله . ومعناه أنه حضر بدراً ولم يقاتل، ولعل قريشاً قتلته في بدر أو في طريق ذهابه وكتمت قتله رضي الله عنه.
< صفحة > 86 < / صفحة >

وفد قريش برئاسة عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن

روى الصدوق في كمال الدين/١٧٧، عن ابن عباس قال: (لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلّى الله عليه وآله بسنتين أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة، تمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه، فأتاه وفد من قريش ومعهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وعبد الله بن جذعان وأسد بن خويلد بن عبد العزى ووهب ابن عبد مناف في أناس من وجوه قريش، فقدموا عليه صنعاء فاستأذنوا فإذا هو في رأس قصر يقال له: غمدان فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم، فأذن لهم فلما دخلوا عليه دنا عبد المطلب منه فاستأذنه في الكلام فقال له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك، قال: فقال عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته، وعذبت جرثومته، وثبت أصله وبسق فرعه، في أكرم موطن وأطيب موضع، وأحسن معدن، وأنت أبيت اللعن ملك العرب وربيعها الذي تخصب به. وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يخمل من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه.
نحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم، قال:ابن أختنا؟ قال: نعم، قال: أدن، فدنا منه، ثم أقبل على القوم وعليه فقال: مرحباً، وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً، وملكاً رِبَحْلا(معطاء) قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل وأهل النهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم.
قال: ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالإنصراف، ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه، ثم قال له: يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمراً ما لو كان غيرك لم أبح له به، ولكني رأيتك معدنه فأطلعك طلعة، فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره، إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجبنا دون غيرنا، خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه
< صفحة > 87 < / صفحة >
شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة، فقال عبد المطلب: مثلك أيها الملك من سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمراً بعد زمر، فقال: إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة ولكم به الدعامة إلى يوم القيامة.
فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن لقد أبت بخبر ما آب بمثله وافد، ولولاهيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته عن مساره إياي ما ازداد به سروراً فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه، وقد ولد سراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، ليعز بهم أولياؤه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، ويستفتح بهم كرائم الأرض، يكسر الأوثان ويخمد النيران، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب:أيها الملك عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهل الملك ساري بإفصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح، فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب، قال: فخرَّ عبد المطلب ساجداً فقال له: إرفع رأسك ثَلُجَ صدرك وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً فزوجته بكريمة من كرائم قومي إسمها آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه، فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطوِ ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون له الرئاسة، فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا علمي بأن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى صرت بيثرب دار ملكه نصرة له، لكني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار ملكه، وبها استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره، ولولا أني أخاف فيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره في هذا الوقت، ولأوطئن أسنان العرب عقبه، ولكني صارف إليك عن غير تقصير مني بمن معك.
قال: ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد، وعشر إماء، وحلتين من البرود، ومائة من الإبل،
< صفحة > 88 < / صفحة >
وخمسة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوءة عنبراً. قال: وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا حال الحول فائتني، فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول، قال: فكان عبد المطلب كثيراً ما يقول: يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه. وإذا قيل متى ذلك؟قال: ستعلمن نبأ ما أقول ولو بعد حين. وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس:
جلبنا الضح تحمله المطايا * على أكوار أجمال ونوق
مغلغلة مغالقها تغالي * إلى صنعاء من فج عميق
يؤم بنا ابن ذي يزن ويهدي * ذوات بطونها أم الطريق
وتزجي من مخائله بروقا * مواصلة الوميض إلى بروق
فلما وافقت صنعاء صارت * بدار الملك والحسب العريق
إلى ملك يدر لنا العطايا * بحسن بشاشة الوجه الطليق
أقول: تلفتك شخصية سيف بن ذي يزن، وعقله، ومعرفته بالنبي صلّى الله عليه وآله والمرجح عندي أن الجيش الفارسي الذي انتصر به على الحبشة، قتلوه وحكموا اليمن!
**

كانت قريش تسمي عبد المطلب: إبراهيم الثاني

ذلك بعد هزيمة أبرهة وأصحاب الفيل، وما ظهر للناس من آيات الكعبة.
قال المؤرخ اليعقوبي(١/١٠): « وكان عبد المطلب جد رسول الله يكفله، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم، وحكمته قريش في أموالها، وأطعم في المحل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبوطالب:
ونطعم حتى تأكل الطير فضلنا * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
ورفض عبادة الأصنام ووحد الله عز وجل، ووفى بالنذر وسن سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية،
< صفحة > 89 < / صفحة >
وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزناء والحد عليه، والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وألاينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم.ونفي ذوات الرايات. ولما قدم صاحب الفيل خرجت قريش من الحرم فارة من أصحاب الفيل، فقال عبد المطلب: والله لا أخرج من حرم الله وأبتغي العز في غيره. فكانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني. وكان المبشر لقريش بما فعل الله بأصحاب الفيل عبد الله بن عبد المطلب أبورسول الله صلّى الله عليه وآله فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيراً ونذيراً، فأخبرهم بما نزل بأصحاب الفيل فقالوا: إنك كنت لعظيم البركة لميمون الطائر».
وفي الكافي(١ /٤٤٧) قال الإمام الصادق عليه السلام : «يبعث عبد المطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء عليهم السلام ، وذلك أنه أول من قال بالبداء ». ومعناه أنه على درجة عالية من الإيمان هي التسليم المطلق لله تعالى فيما يفعله حتى لو كان على خلاف توقعنا. فقد أنبأ الله عبد المطلب أنه سيدفع جيش أبرهة عن البيت، فأخبر أهل مكة وأبرهة بذلك، وفي نفس الوقت دعا ربه أن يدفع عن بيته، ثم خاطبه قائلاً: إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمرٌ ما بدا لك» أي: اللهم إني لا أحتم عليك، بل أنا مسلِّمٌ لأمرك ومؤمن بك، حتى لو لم تفعل ما أحبه وأخبرتني به، فلا يحق لمخلوق أن يحتم عليك، ولك البداء!
ومن قرأ سیرة عبدالمطلب أن الله تعالی کان یوحي الیه، ولا مانع من نزول وحي غیر وحي النبوة علی أمثاله سلام الله علیه.
**

أولاد عبد المطلب رضي الله عنه

في لباب الأنساب لابن فندمة البيهقي (١/١٤): (قال أكثم بن صيفي حكيم العرب: دخلت البطحاء، فرأيت بني هاشم حول عبد المطلب كأنهم بدور ونجوم، فقلت لقومي: يا بني تميم إذا أراد الله أن ينشئ رفعة ودولة أنبت بها مثل هؤلاء، هذا غرس الله لا غرس الناس).
وقال ابن هشام(١/٧١): (فولد عبد المطلب بن هاشم عشرة نفر وست نسوة: العباس، وحمزة،
< صفحة > 90 < / صفحة >
وعبد الله، وأباطالب، واسمه عبد مناف، والزبير، والحارث، وحجلاً، والمقوم، وضرارا، وأبالهب - واسمه عبد العزى، وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة.
فأم العباس وضرار: نتيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر.. بن النمر بن قاسط. وأم حمزة والمقوم وحجل، وكان يلقب بالغيداق لكثرة خيره وسعة ماله، وصفية: هالة بنت وهيب بن عبد مناف ابن زهرة
وأم عبد الله، وأبي طالب، والزبير، وجميع النساء غير صفية: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال ابن هشام: فولد عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلّى الله عليه وآله سيد ولد آدم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه وعلى آله. وأمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. فرسول الله صلّى الله عليه وآله أشرف ولد آدم حسباً، وأفضلهم نسباً من قبل أبيه وأمه صلّى الله عليه وآله .

نَذَر عبد المطلب أحد أبنائه قرباناً لله تعالى!

كان عرب الحجاز وعرب العراق يقدسون صنم العزى أكثر من غيره، ويقدمون له القرابين في مكان قرب منى.
ولما وقعت الحرب بين دولة المناذرة التابعة للفرس ودولة الغساسنة التابعة للروم، أسر المنذر بن ماء السماء الحارث بن شمر، ابن ملك الغساسنة فذبحه قرباناً للعزى! ( تاريخ الأدب العربي للدكتور شوقي ضيف/٤١).
في ذلك العصر نذر عبد المطلب إذا رزقه عشرة أبناء أن يذبح أحدهم قرباناً لربه تعالى، فكان عمله مقابل ذبح العرب قرابينهم إلى أصنامهم!
ويكفينا لإثبات شرعية عمل عبد المطلب عليه السلام في نذره وفي طريقة وفائه به قول نبينا صلّى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين. يضاف اليه ما ثبت عن شخصيته وإيمانه العميق وإلهامه حفر زمزم وظهور المعجزة له لما أرادت قريش أخذها منه، وإخباره بآية أصحاب الفيل. فهذا يوجب الإطمئان بأنه لم ينذر ولا تحلل من نذره، إلا بحجة من ربه عز وجل، بل بأنه کان یوحی الیه وحي غیر نبوة.
وفي دعائم الإسلام(٢/٥٢٢) عن الإمام الصادق عليه السلام أن القرعة مشروعة فيما أشكل، وذكر القرعة
< صفحة > 91 < / صفحة >
في قصة يونس في السفينة، وقصة زكريا في كفالته مريم وقصة عبد المطلب:«نذر ذبح من يولد له فولد له عبد الله أبورسول الله صلّى الله عليه وآله فألقى الله عليه محبته فألقى عليه السهام وعلى إبل ينحرها يتقرب بها مكانه، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتى بلغت مائة، فوقع السهم على الإبل فأعاد السهام مراراً، وهي تقع على الإبل فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي ونحرها ».
وقد كتبنا في سيرة النبي صلّى الله عليه وآله عند أهل البيت عليهم السلام ما خلاصته:
(قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين، يقصد إسماعيل وعبد الله عليهما السلام ). وهذا يدل على أن نذر جده عبد المطلب عليه السلام لأحد أبنائه قرباناً الى الله تعالى، وتحلله من نذره بالقرعة، عمل شرعي صحيح. وعندما تم له عشرة اقترع بينهم فخرجت القرعة على والد النبي صلّى الله عليه وآله ، فعزم أن يذبحه فأمره الله تعالى أن يفديه بقربان من الإبل، فاقترع فجاءت القرعة على مئة من الإبل. فكانت قصته كجده إبراهيم عليهما السلام .
وفي الخصال/٥٥، والعيون(٢/١٨٩) عن علي بن فضال قال: « سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن معنى قول النبي صلّى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين؟ قال: يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل وعبد الله بن عبد المطلب. أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح، يأكل في سواد ويشرب في سواد وينظر في سواد، ويمشي في سواد ويبول ويبعر في سواد، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً، وما خرج من رحم أنثى، وإنما قال الله جل وعز له كن فكان ليفدي به إسماعيل، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة. فهذا أحد الذبيحين.
وأما الآخر فإن عبد المطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة، ودعا الله عز وجل أن يرزقه عشرة بنين، ونذر لله عز وجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته، فلما بلغوا عشرة قال: قد وفى الله لي فلأفينَّ لله عز وجل، فأدخل وُلده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبد الله أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان أحب ولده إليه، ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبد الله، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله، فأخذه وحبسه وعزم على ذبحه، فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك،
< صفحة > 92 < / صفحة >
واجتمع نساء عبد المطلب يبكين ويصحن، فقالت له ابنته عاتكة: يا أبتاه أعذر فيما بينك وبين الله عز وجل في قتل ابنك. قال: فكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة؟ قالت: إعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم فاضرب بالقداح على ابنك وعلى الإبل، وأعط ربك حتى يرضى. فبعث عبد المطلب إلى إبله فأحضرها وعزل منها عشراً وضرب السهام فخرج سهم عبد الله، فما زال يزيد عشراً عشراً حتى بلغت مائة فضرب فخرج السهم على الإبل، فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة، فقال عبد المطلب: لا، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات، فضرب ثلاثاً كل ذلك يخرج السهم على الإبل، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير وأبوطالب وإخوانه من تحت رجليه، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض، وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه، ويمسحون عنه التراب. وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل بالحزورة، ولا يمنع أحد منها وكانت مائة).
وأضاف الصدوق قدّس سرّه : «ولولا أن عبد المطلب كان حُجَّةً، وأن عزمه على ذبح ابنه عبد الله عليه السلام شبيهُ بعزم إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام لمَا افتخر النبي صلّى الله عليه وآله بالإنتساب إليهما لأجل أنهما الذبيحان في قوله صلّى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين. والعلة التي من أجلها رفع الله عز وجل الذبح عن إسماعيل هي العلة التي من أجلها رفع الذبح عن عبد الله، وهي كون النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام في صلبهما فببركة النبي والأئمة رفع الله الذبح عنهما فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم ».
وفي الخصال/ ٣١٢، من وصية النبي صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال:« يا علي إن عبد المطلب سنَّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ..الآية. ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج. وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عز وجل ذلك في الإسلام. ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط، فأجرى الله ذلك في الإسلام. يا علي إن عبد المطلب كان لايستقسم بالأزلام ولا يعبد الأصنام ولا يأكل ما ذبح على النصب، ويقول:أنا على دين أبي إبراهيم عليه السلام ».
وفي من لايحضره الفقيه (٤/٣٦٨): « يا علي أنا ابن الذبيحين. يا علي أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام ». كما تدل الرواية التالية (الفقيه:٣/٨٩) عن الإمام الباقر عليه السلام أن الله تعالى نهى عبد المطلب عن
< صفحة > 93 < / صفحة >
ذبح ولده وأمره بالقرعة، وقد يكون ذلك بعد كلام عاتكة، قال عليه السلام : أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله عز وجل: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، والسهام ستة، ثم استهموا في يونس عليه السلام لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال: فمضى يونس إلى صدر السفينة فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه.ثم كان عند عبد المطلب تسعة بنين فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه، فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله صلّى الله عليه وآله في صلبه فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله فخرجت السهام على عبد الله، فزاد عشراً فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشراً، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبد المطلب: ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي فنحرها ».
وتوجد رواية عن الزهري أنهم رجعوا الى كاهنة بني سعد فقالت لهم إقرعوا بينه وبين الإبل، ولا تصح عندنا (مناقب آل أبي طالب:١/٢١)
ونلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وآله ضحى في حجة الوداع بمئة ناقة، وهي عدد فداء جده لأبيه صلّى الله عليه وآله ، وأشرك فيها علياً عليه السلام لشراكته في وراثة عبد المطلب.
وقد صحح علماء السنة حديث: أنا ابن الذبيحين، رواه الحاكم(٢/٥٥٤) وصححه الذهبي، والسرخسي: ٨ / ١٤١، وبدائع الصنائع:٥/٨٥، وتخريج الأحاديث:٣ / ١٧٧ وفيض القدير: ٣ / ٧٦٢ ».
هذا، وقالت اليهود إن الذبيح الأول هو إسحاق، وقال الطوسي في أماليه /٤٥٧:
« والصحيح أنه إسماعيل لمكان الخبر، ولإجماع علماء أهل البيت عليهم السلام على أنه إسماعيل ». وفي كشف الخفاء(١/١٩٩): (إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين).
وفي أضواء على المسيحية/٦٦: «يقول برنابا: فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: خذ ابنك البكر واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة. والبكر هو إسماعيل عليه السلام وقد ولد إسحاق عليه السلام بعده بسبع سنين ».
**

كان يعرف أن النبي الموعود حفيده يتيم عبد الله صلّى الله عليه وآله

١. صحت الرواية بأن عبد المطلب كان يعرف أن النبي الموعود حفيده محمد صلّى الله عليه وآله .
< صفحة > 94 < / صفحة >
منها كلامه مع سيف بن ذي يزن، وقد تقدمت روايته من كمال الدين/١٧٧: (فأرسل إلى عبدا المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه، ثم قال له: يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمراً ما لو كان غيرك لم أبح له به، ولكني رأيتك معدنه فأطلعك طلعة، فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره، إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجنا دون غيرنا، خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة، فقال عبد المطلب: مثلك أيها الملك من سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمراً بعد زمر، فقال: إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة ولكم به الدعامة إلى يوم القيامة. فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن لقد أبت بخبر ما آب بمثله وافد، ولولاهيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته عن مساره إياي ما أزداد به سروراً فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، إسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه، وقد ولد سراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، ليعز بهم أولياؤه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، ويستفتح بهم كرائم الأرض، يكسر الأوثان ويخمد النيران، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب:أيها الملك عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهل الملك ساري بإفصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح، فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب، قال: فخرَّ عبد المطلب ساجداً فقال له: إرفع رأسك ثَلُجَ صدرك وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً مما ذكرته؟ فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً فزوجته بكريمة من كرائم قومي إسمها آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه، فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت لك، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطوِ ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون له الرئاسة، فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا علمي بأن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى صرت بيثرب دار ملكه نصرة
< صفحة > 95 < / صفحة >
له، لكني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار ملكه، وبها استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره، ولولا أني أخاف فيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره في هذا الوقت، ولأوطئن أسنان العرب عقبه، ولكني صارف إليك عن غير تقصير مني بمن معك).
٢.وكان علماء أهل الكتاب يخبرون عبد المطلب بأن النبي الموعود صلّى الله عليه وآله من ذريته.
قال اليعقوبي (٢/١٢): (وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة يلحقون الأرض جيرانهم. فقال: يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة نبت لها مثل هؤلاء. هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال.
وكان يفرش لعبد المطلب بفناء الكعبة، فلا يقرب فراشه حتى يأتي رسول الله، وهو غلام، فيتخطى رقاب عمومته، فيقول لهم عبد المطلب: دعوا ابني، إن لابني هذا لشأناً.
وكان عبد المطلب قد وفد على سيف بن ذي يزن مع جلة قومه لما غلب على اليمن، فقدمه سيف عليهم جميعاً وآثره.ثم خلا به فبشره برسول الله ووصف له صفته، فكبر عبد المطلب وعرف صدق ما قال سيف، ثم خرَّ ساجداً فقال له سيف: هل أحسست لما قلت نبأ؟ فقال له: نعم! ولد لابني غلام على مثال ما وصفت أيها الملك. قال: فاحذر عليه اليهود وقومك، وقومك أشد من اليهود، والله متمم أمره ومعل دعوته).
وكان أصحاب الكتاب لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب. فقال: أما والله لئن نفستني قريش الماء، يعني ماء سقاه الله من زمزم وذي الهرم، لتنفسني غداً الشرف العظيم والبناء الكريم والعز الباقي والسناء العالي إلى آخر الدهر ويوم الحشر).
٣. وأجدبت مكة فاستسقى عبد المطلب بالنبي صلّى الله عليه وآله وهو صبي!
قال اليعقوبي: (وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع، ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى فادع الله أن يسقينا فخرج عبد المطلب ومعه رسول الله، وهو يومئذ مشدود الإزار، فقال عبد المطلب: اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، مسؤول غير مبخل، وهؤلاء عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع وأذهبت الزرع، فاسمعن اللهم وأمطرن غيثاً مريعاً مغدقاً. فما راموا
< صفحة > 96 < / صفحة >
حتى انفجرت السماء بمائها، وكظَّ الوادي بثجِّهِ).
واشتهرت رواية رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم، وفيها: « قام فاعتضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب، ثم قال.. فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء بمائها). ( الدعاء للطبراني / ٦٠٦، الكبير: ٢٤ / ٢٦٠، والزوائد: ٢ / ٢١٤، وشرح النهج: ٧ / ٢٧١).
٤.وأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة، وإلى أبي طالب برسول الله صلّى الله عليه وآله وسقاية زمزم وقال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطؤون به رقاب العرب. وقال لأبي طالب:
أوصيك يا عبد مناف بعدي * بمفـــــــرد بعد أبيــــــــه فرد
فارقه وهــــــــو ضجيع المهد * فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد * فأنت من أرجى بني عندي
لدفع ضيــم أو لشــد عـقـد).
فكفل رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد وفاة عبد المطلب أبوطالب عمه فكان خير كافل، وكان أبوطالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً).
**
< صفحة > 97 < / صفحة >

الفصل السابع والأربعون : القاعدة النبوية: دعوا مقادير الله تجري

معنى مقادير الله وتدبير الله تعالى

ما أجهلنا بالله تعالى وأفعاله، وما أقل ما نملك في معرفته ومعرفة فاعلياته.
فالنملة تتصور أن لربها قرنين كقرنيها، ونحن نتصور ربنا إنساناً مثلنا!
نقرأ آيات القرآن الكريم، ونقرأ الأحاديث الشريفة، لكنا لا نستوعبها!
إقرأ معي قوله: اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَئٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ..وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ..وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ.
فمعناه أن المسألة مدروسةٌ فلا يولد مولودٌ إلا بسابق علم وتخطيط وهدف. بل لاتسقط ورقة خضراء أو يابسة من شجرة أو نبتة، ولا تُبَرْعِمُ حبةٌ في تراب الأرض إلا بحساب وكتاب: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.
فكل مخلوق له خطة كاملة قبل وجوده ومعه وبعده، فكيف بالإنسان وهو أكبر كلمات الله تعالى! ولو عرف الناس خطط الله تعالى وأرادوا أن يكتبوها، فلا تكفيهم بحار الدنيا حبراً لأقلامهم، أو لأجهزة الطباعة: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.
قرأت أن خرائط طائرة الميراج التي سرقها عملاء إسرائيل من فرنسا كانت خمسة أطنان. والنبتة في مجاهل الصحراء لا تقل خرائطها عن طائرة الميراج.
< صفحة > 98 < / صفحة >
فكيف بالإنسان وهو سيد المخلوقات!
أنت تتصور أن خلقك وخلقي يتم ببساطة، لأنك بسيط ساذج، لا تعلم!

لا يكون شيئ إلا بسبع مراحل أو سبعة شروط

قال الإمام الكاظم عليه السلام (الكافي:١/١٤٩):( لايكون شئ في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع:بقَضاء، وقَدَر، وإرادة، ومَشيئة، وكِتابٍ، وأجَلٍ، وإذْن. فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله، أو رد على الله عز وجل).
فولادة نجم في السماء أو سقوط ورقة عن شجرتها، لا فرق، يحتاج الى أن يقضي الله ذلك، ويقدره، ويريده، ويشاؤه، ويكتبه، ويوقته بأجل، ويأذن في حدوثه، فيحدث، وإلا فلا يحدث!
ولكل واحدة من هذه المراحل في مصنع الخلق والإدارة، مراحل، وفروع وقواعد، وأحكام، وخرائط تفصيلية!
فهل عرفت كم نحن بسطاء، وجاهلون بقوانين فاعليات الله تعالى؟

الأئمة عليهم السلام بينوا معنى القدر

روى الكليني بسند صحيح (الكافي:١/١٥٧): (عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبوالحسن الرضا عليه السلام :يا يونس، لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس! فإن أهل الجنة قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ. وقال أهل النار: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. وقال إبليس: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي. فقلت: والله ما أقول بقولهم،ولكني أقول:لايكون إلا بما شاء الله وأراد وقدر وقضى. فقال: يا يونس ليس هكذا، لايكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. يا يونس تعلم ما المشيئة؟ قلت: لا. قال: هي الذكر الأول. فتعلم ما الإرادة؟ قلت: لا. قال: هي العزيمة على ما يشاء. فتعلم ما القدر؟ قلت:لا. قال: هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء.
قال ثم قال: والقضاء هو الإبرام وإقامة العين.
قال: فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت: فتحت لي شيئاً كنت عنه في غفلة).
فمقادير الله تعالى تعني خططه في كل شيئ، وهندسته الشاملة لكل موجود.
< صفحة > 99 < / صفحة >

المقادير في حياتنا ثلاثة أقسام

فمنها: من صنع الله تعالى ولا عمل لغيره فيه، مثل خلقك وموتك وطولك ولونك، وكافة الأمور التكوينية.
ومنها: من صنع الناس خيراً كانت أو شراً، كما ترى من أنواع أفعالهم.
ومنها: من فعلك أنت، مثل ذهابك ومجيئك، وبِرُّك بالناس أو ظلمك لهم.
والإنسان مسؤول عن فعله هو، ومنهي عن التدخل في أمور الناس، إلا ماكان واجباً لحفظ المجتمع كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لکن الذي نراه أننا ننشغل بمقادير الله تعالى ومقادير الناس، نريد أن نصححها، وننسى مقاديرنا وما يجب علينا عمله! بل الواجب علينا أن نرضى بمقادير الله تعالى، وندعها تجري، ونقوم بما أوجب علينا تجاه الناس، وبما جعله لنا ووجهنا فيه من مقاديرنا.

مقادير الله وتدبيره بمعنى واحد

معنى قَدَّرَ: هندس. ومعنى دّبَّرَ: أدار. ويشمل التقدير مراحل متعددة في مسار كل شيئ من خلقه الى نهايته، ويشمل التدبير كل ما يتعلق بخلق الشيئ وتنميته، ولعله أعم من التقدير.
في الإحتجاج (١/٤٤): قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في تغييرالقبلة: (بل ذلك كان حقاً وهذا حق، يقول الله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. إذا عرف صلاحكم أيها العباد في استقبالكم المشرق أمركم به وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به. وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلاتنكروا تدبيرالله في عباده، وقصده إلى مصالحكم).
وقال أميرالمؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:٢/١٩٤): (الحمد لله العلي عن شبه المخلوقين، الغالب لمقال الواصفين، الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين، الباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين).
وفي توحيد المفضل/٧٩: (فكر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها، لإقامة دولتي النهار والليل، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كله.. فلم يكن الناس يسعون في معائشهم، ويتصرفون في أمورهم، والدنيا مظلمة عليهم، ولم يكونوا يتهنون بالعيش.. ثم كانت الأرض تستحمي بدوام الشمس بضيائها ويحمى كل ما عليها من حيوان ونبات، فقدرها الله بحكمته وتدبيره،
< صفحة > 100 < / صفحة >
تطلع وقتاً وتغرب وقتاً، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدؤا ويقروا، فصار النور والظلمة مع تضادهما منقادين متظاهرين لما فيه صلاح العالم وقوامه).

لو أن الناس رضوا بمقادير الله تعالى وتدبيره لتغير العالم

لو أن الأمم آمنت بمقادير الله تعالى وترتيباته لها في حياة رسلها وبعد وفاتهم، لتغيرت صورة العالم والتاريخ كلياً. فقد رتب الله تعالى بعد آدم أن يكون شيثاً عليه السلام ابنه هو النبي المبلغ والحاكم، فلم يرض بذلك قابيل وأولاده وعادَوْا شيثاً عليه السلام والمؤمنين، وفرضوا تقديرهم هم وترتيبهم للأمر. وقدر الله تعالى ورتب بعد إدريس عليه السلام فغلب الطغاة وفرضوا ترتيبهم وتقديرهم. وكذلك الأمر بعد نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام .
لم يرتض الناس بترتيب كبار الرسل عليهم السلام ، وفرضوا ترتيباتهم هم للأمر بميزان دنيوي وقبلي، وزعموا أن تدبيرهم أكمل من تدبير الله ورسوله صلّى الله عليه وآله ، وأنهم أعرف من الله ورسوله صلّى الله عليه وآله بمصلحة الأمة.
وقد أخبرهم النبي صلّى الله عليه وآله بما سيفعلون بعده فقال لهم:( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ تبعتموهم! قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟قال: فمن!).
وقال لهم في مناسبة أخرى:(والذي نفسي بيده لتتبعنَّ سننَ الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً فباعاً، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه! قالوا ومن هم يا رسول الله، أهل الكتاب؟ قال: فَمَهْ!).
وقد روت ذلك عامة المصادر، كالبخاري: ٩ /١٢٦ و: ٨ / ١٥١، ومسلم: ٤/ ٢٠٥٤، ونحوه/٢٠٥٥، ومصنف عبد الرزاق:١١/٣٦٩، وأحمد: ٢ / ٣٢٧ و ٣٢٥ و٤٥٠، ونحوه/٣٣٦ و٣٦٧ و٥٢٧ و: ٣ / ٨٤ و٩ و ٩٤ و: ٤ / ١٢٥، والروياني: ح‍ ١٠٨٥، والبغوي في المصابيح: ٣ / ٤٥٨، وجامع الأصول: ١٠ / ٤٠٩، وجمع الجوامع:١/٩٠٢، والجامع الصغير: ٢ / ٤٠١، ومجمع الزوائد:٧ /٢٦١، وفيض القدير:٥ /٢٦١.
< صفحة > 101 < / صفحة >

دعوا الناس يرزق بعضهم بعضاً

أراد بعض المسلمين أن يتلقوا البدو القادمين الى المدينة وينبهوهم الى أسعار سلعهم حتى لايغلبهم تجار المدينة ، أو يتوكلوا عنهم ليبيعوا سلعهم بسعر أفضل، فمنعهم النبي صلّى الله عليه وآله وقال: لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض. (أمالي الطوسي/٣٩٧ وصحيح مسلم(٥/٦).
قال في جواهر الكلام (٢٢/٤٦١): (ومنها: أن يتوكل حاضر لباد غريب قروي أو بدوي، لخبر عروة بن عبد الله عن أبي جعفرالباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لايتلقى أحدكم تجارة خارجاً من المصر، ولايبيع حاضر لباد، والمسلمون يرزق بعضهم من بعض.
وخبر جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله : لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) وغير ذلك کقوله صلّى الله عليه وآله : دعوا الناس على غفلاتها).
وفي رواية: دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض.(شرح النهج: ١٧/٣٧).
وفي رواية: لا تعلَّموا العلم لغير أهله فتظلموه، ولا تمنعوه من أهله فتظلموهم. دعوا الناس على ما اختار الله لهم من ضلال.(تعليقة اللاري (١/٢٣٩)
وفي مختصر بصائر الدرجات/١٠٤: (عن سليم بن قيس قال:سمعت علياً عليه السلام يقول في شهر رمضان وهو الشهر الذي قتل فيه وهو بين ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن جعفر وخاصة شيعته وهو يقول: دعوا الناس وما رضوا لأنفسهم، وألزموا أنفسكم السكوت في دولة عدوكم).
وقد ورد شبيهه في تفسير: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ.
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.
< صفحة > 102 < / صفحة >

هذا في السلوك العام، ومثله السلوك الفردي

قال السيد ابن طاووس في فتح الأبواب (١/١٢٤): (إعلم أنني وجدت الله جل جلاله يقول عن الملائكة إذ عارضوه لما قال لهم:إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. فقال جل جلاله لهم: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. فعرفهم بذلك أن علومهم وأفهامهم قاصرة عن أسراره في التدبير، حتى اعترفوا: فقالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. فلما رأيت الملائكة عاجزين وقاصرين عن معرفة تدبيره، علمت أنني أعظم عجزاً وقصوراً، فالتجأت إليه جل جلاله في معرفة ما لا أعرفه، إلا من مشاورته جل جلاله في قليل أمري وكثيره).
وفي الإرشاد للمفيد(١/٢٠١): (جاءت الرواية: أن بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبي هذه الأمة؟ فقال له: نعم،، فقال: فإنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبرني عن الله تعالى أين هو في السماء أم في الأرض؟فقال له أبوبكر: في السماء على العرش، فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أبوبكر: هذا كلام الزنادقة أغرب عني وإلا قتلتك. فولى الحبر متعجباً يستهزئ بالإسلام! فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا يهودي، قد عرفت ما سألت عنه وما أُجبت به وإنا نقول: إن الله جل وعز أيَّنَ الأيْن فلا أينَ له، وجل عن أن يحويه مكان، وهو في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها، ولا يخلو شئ منها من تدبيره).
وفي إقبال الأعمال لابن طاووس(١/٤٤٨) فلينظر الإنسان:(حال رضاه بتدبير الله جل جلاله، هل هو راض في جميع أموره، أو تارة يرضى وتارة يكره ما يختاره الله جل جلاله من تدبيره. وكيف توكله على الله جل جلاله، هل هو على غاية ما يراد منه من السكون إلى مولاه، أو يحتاج في الثقة بالله جل جلاله إلى غير الله جل جلاله من علائق دنياه)؟!

ترك النبي صلّى الله عليه وآله مقاديرالله تجري في الحسين عليه السلام

روى القاضي المغربي في كتابه القيم دعائم الإسلام (٢/١٤٦): ( عن علي عليه السلام أنه قال: اعتلَّ الحسين فاشتد وجعه، فاحتملته فاطمة فأتت به النبي صلّى الله عليه وآله مستغيثة مستجيرة، فقالت: يا رسول الله
< صفحة > 103 < / صفحة >
أدع الله لابنك أن يشفيه، ووضعته بين يديه، فقام صلّى الله عليه وآله حتى جلس عند رأسه ثم قال: يا فاطمة يا بنية إن الله هو الذي وهبه لك هو قادر على أن يشفيه!
فهبط عليه جبرئيل فقال: يا محمد، إن الله لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء، وكل فاء من آفة! ما خلا (الحمد لله) فإنه ليس فيها فاء، فادع بقدح من ماء فاقرأ فيه الحمد أربعين مرة ثم صبه عليه، فإن الله يشفيه! ففعل ذلك، فكأنما أنشط من عقال!).
فاعجب لقدرة معمار القرآن عز وجل، كيف يحسب حساباً للحرف أين يضعه، وأين لا يضعه! ثم في دلالات الحروف فوق دلالات الكلمات، فهذا الحرف يدل على نوع من الأحداث، وهذا يدل على نوع، وذاك على نوع آخر! وعدم حرف له دلالة كوجوده!
ثم فكر في تأثير تلاوة سورة الحمد في الماء لأنها بلا فاء! ثم تأثير الماء في بدن المريض، وتأثير التكرار سبع مرات أو عشراً أو أربعين!
وتأمل في طريقة تفكير الزهراء عليها السلام وتصرفها، لما وجدت أن حالة ابنها خطيرة فحملته الى النبي صلّى الله عليه وآله .
وتأمل في طريقة تفكيرالنبي صلّى الله عليه وآله وتصرفه لما جلس عند رأسه ليدعو له، فرأى أنه كالمحتضر، ففكر لعل الله تعالى بدا له في وعده بالحسين، فتوقف عن الدعاء له وقال لها: بل أترك أمر الطفل، ولا أتدخل في مقاديرالله تعالى!
ثم تأمل لماذا كان الحسين عليه السلام هبة مبتدأة من الله بدون أن تقترح الزهراء عليها السلام على ربها شيئاً؟ كما كان تزويجها بعلي عليه السلام أمراً مبتدءاً منه تعالى منذ أن تقبلها من أبيها وأمها، ولم يكن لهما حق شرعاً في تزويجها!
أقول: يظهر أن النبي صلّى الله عليه وآله رأى ولده الحسين عليه السلام في حالة احتضار، وأن عمره يومها كان خمس سنوات أو ستاً، لأنه قام وجلس عند رأسه. فقد كان كبيراً نسبياً، وقد تكون الزهراء حملته وأتت به وأنامته أمام النبي صلّى الله عليه وآله أو استعانت بأبيه علي عليهم السلام . فلما رآه النبي صلّى الله عليه وآله يحتضراحتمل أن الله تعالى يريد أن يأخذه، فامتنع أن يدعو له وقال لها: يافاطمة يا بنية إن الله هو الذي وهبه لك هو قادر على أن يشفيه! يعني إني لا أتدخل فيما يحتمل أن يكون من مقادير الله تعالى، بل أترك مقادير ربي تجري! ولم يقل إن ربي وعدني أن يجعل الأئمة من ذريته، لأن النبي صلّى الله عليه وآله يؤمن بالبداء
< صفحة > 104 < / صفحة >
ويقول أنا لا أحتم على ربي، ولا أحاسب ربي عز وجل، فهو أعلم وأنا لا أعلم.
فلما نزل جبرئيل عليه السلام عرف النبي صلّى الله عليه وآله أن مقادير الله تعالى كانت إظهار كرامة الحسين عليه السلام ومعجزة القرآن! ولا نقص على النبي صلّى الله عليه وآله أن لايعرف مجرى بعض مقادير الله لأن بعضها يختص الله تعالى بعلمه، أو لم يأت وقت تعليمها للنبي صلّى الله عليه وآله .

تعامل نبينا صلّى الله عليه وآله وأئمتنا أرقى من تعامل الأنبياء عليهم السلام

أبونا آدم عليه السلام عصى وأكل من الشجرة، ولو كان نبينا صلّى الله عليه وآله مكانه لما أكل!
ونبي الله إدريس عليه السلام طلب منه الله أن يدعو لقومه بالمطر فلم يفعل لشدة إيذائهم له، ولو كان مكانه نبينا صلّى الله عليه وآله لدعا لهم!
ونبي الله نوح عليه السلام طلب من ربه نجاة ابنه، ولو كان مكانه نبينا صلّى الله عليه وآله لما طلب!
ونبي الله إبراهيم عليه السلام طلب من ربه أن يجعل من ذريته أئمة، ونبينا صلّى الله عليه وآله لم يطلب لهم الإمامة حتى أمره الله تعالى بذلك.
ونبي الله موسى عليه السلام لما انحرف بنو إسرائيل وعبدوا العجل غضب وأخذ برأس أخيه هارون، ونبينا صلّى الله عليه وآله أخبر علياً عليه السلام بانحراف أمته من بعده، وأخذ عليه الميثاق أن يصبر ولا يجرد ذا الفقار! وما ذلك إلا لأن تعامله صلّى الله عليه وآله مع الله تعالى أرقى من تعاملهم عليهم السلام .
في تفسير القمي(١/٣٥١): (ولما أمر الملك بحبس يوسف عليه السلام في السجن ألهمه الله تأويل الرؤيا فكان يعبر لأهل السجن فلما سأله الفتيان الرؤيا وعبر لهما.
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، ولم يفزع في تلك الحالة إلى الله، فأوحى الله إليه: من أراك الرؤيا التي رأيتها؟ قال يوسف: أنت يا رب. قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال أنت يا رب.قال: فمن وجه إليك السيارة التي رأيتها؟ قال أنت يا رب.قال فمن علمك الدعاء الذي دعوت به حتى جعلت لك من الجب فرجاً؟ قال أنت يا رب. قال: فمن أنطق لسان الصبي بعذرك؟ قال: أنت يا رب. قال: فمن ألهمك تأويل الرؤيا؟ قال: أنت يا رب. قال فكيف استعنت بغيري ولم تستعن بي، وأملت عبداً من عبيدي ليذكرك إلى مخلوق من خلقي وفي قبضتي ولم تفزع إليَّ، فلبثت السجن بضع سنين! فقال يوسف: أسألك بحق آبائي وأجدادي
< صفحة > 105 < / صفحة >
عليك إلا فرجت عني. فأوحى الله إليه: يا يوسف وأي حق لآبائك وأجدادك علي؟
إن كان أبوك آدم خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسكنته جنتي وأمرته أن لا يقرب شجرة منها فعصاني وسألني فتبت عليه.
وإن كان أبوك نوح انتجبته من بين خلقي وجعلته رسولاً إليهم فلما عصوا دعاني فاستجبت له وأغرقتهم وأنجيته ومن معه في الفلك. (ولم تذکر الروایة مطالبته بابنه)!
وإن كان أبوك إبراهيم اتخذته خليلاً وأنجيته من النار وجعلتها برداً وسلاماً. وإن كان أبوك يعقوب وهبت له اثني عشر ولداً فغيبت عنه واحداً فما زال يبكي حتى ذهب بصره، وقعد في الطريق يشكوني إلى خلقي! فأي حق لآبائك وأجدادك علي؟ قال: فقال جبرئيل يا يوسف قل: أسألك بمنك العظيم، وسلطانك القديم. فقالها، فرأى الملك الرؤيا، فكان فرجه فيها).
وفي تفسير البرهان (٤/٤٦٥): (فقال أيوب: يا رب، لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجتي. فبعث إليه غمامة سوداء مظلمة فيها رعد وبرق وصواعق متداركات، ثم نودي منها بأكثر من عشرة آلاف صوت: يا أيوب إن الله تعالى يقول لك: أدلني بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم، وها أنا قريب منك، ولم أزل قريباً دائماً.
فقال: يا رب، إنك تعلم أنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي، ألم أحمدك، ألم أشكرك، ألم أسبحك، وأذكرك، وأكبرك؟
فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان: يا أيوب، من صيرك تعبد الله والناس عنه غافلون، وتحمده وتشكره، والناس عنه لاهون! تمن على الله فيه، بل المن لله تعالى عليك!
فأخذ التراب ووضعه في فيه ثم قال: لك العتبى. يا رب أنت فعلت ذلك.
فلما كان في الغد وهو يوم الجمعة عند الزوال هبط الأمين جبرئيل عليه السلام فقال: السلام عليك، يا أيوب فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فمن أنت يا عبد الله، فإني أسمع منك نغمة حسنة، وأجد منك رائحة طيبة، وأرى صورة جميلة؟ فقال له: أنا جبرئيل، رسول رب العالمين، أبشرك يا أيوب برَوْح الله، وبرحمته منها شفاؤك، وأن الله تعالى قد وهب لك أهلك ومثلهم معهم، وما لك ومثله معه، ليكون آية لمن مضى وعبرة لأهل البلاء).
< صفحة > 106 < / صفحة >
أقول: تراجع أيوب عليه السلام بسرعة عن تصوره أن له حقاً على ربه! ونجا من غضب الله تعالى، بعد أن حَوَّم فوق رأسه، كما دل عليه قوله: فبعث إليه غمامة سوداء مظلمة فيها رعد وبرق، وصواعق متداركات، ثم نودي منها بأكثر من عشرة آلاف صوت!
فقايس هذه الحالة بقول الإمام زين العابدين عليه السلام : اللَّهُمَّ إِلَى مَغْفِرَتِكَ وَفَدْتُ، وإِلَى عَفْوِكَ قَصَدْتُ، وإِلَى تَجَاوُزِكَ اشْتَقْتُ، وبِفَضْلِكَ وَثِقْتُ، ولَيْسَ عِنْدِي مَا يُوجِبُ لِي مَغْفِرَتَكَ، ولَا فِي عَمَلِي مَا أَسْتَحِقُّ بِه عَفْوَكَ، ومَا لِي بَعْدَ أَنْ حَكَمْتُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا فَضْلُكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه وتَفَضَّلْ عَلَيّ.. يَا إِلَهِي لَوْ بَكَيْتُ إِلَيْكَ حَتَّى تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ، وانْتَحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وقُمْتُ لَكَ حَتَّى تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، ورَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وسَجَدْتُ لَكَ حَتَّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وأَكَلْتُ تُرَابَ الأَرْضِ طُولَ عُمُرِي، وشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي، وذَكَرْتُكَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَّ لِسَانِي، ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إِلَى آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سَيِّئَاتِي. وإِنْ كُنْتَ تَغْفِرُ لِي حِينَ أَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَتَكَ، وتَعْفُو عَنِّي حِينَ أَسْتَحِقُّ عَفْوَكَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِي بِاسْتِحْقَاقٍ، ولَا أَنَا أَهْلٌ لَه بِاسْتِيجَابٍ، إِذْ كَانَ جَزَائِي مِنْكَ فِي أَوَّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ! فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنْتَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِي).
واعجب لهذا الأفق الراقي الذي يتكلم فيه علي بن الحسين عليه السلام مع ربه، والأفق العادي الذي تكلم به أيوب عليه السلام مع ربه، وإن كان كل منهماً أفقاً مقبولاً شرعاً.
وينبغي التأكيد هنا على المقام العظيم لأيوب والأنبياء عليهم السلام ، فنحن لانريد أن ننتقص منه حرفاً، لكن مقامات الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم درجات، ولا يقاس بمحمد وآل محمد صلّى الله عليه وآله أحد، حتى من الأنبياء عليهم السلام .
تقول: إذا لم يكن للأنبياء عليهم السلام حق على الله تعالى، فما معنى قولنا: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد؟ وجوابه: أنا نسألك بالحق الذي جعلته لمحمد وآله صلّى الله عليه وآله ، ولا نقول بأن لهم على الله حقاً غيرما جعله لهم ووعدهم به من الشفاعة والمقام المحمود عنده.
< صفحة > 107 < / صفحة >

ترك النبي صلّى الله عليه وآله مقادير الله تجري في أمته

في تفسير العسكري عليه السلام /٤٨٠: (فلما مات سعد بن معاذ بعد أن شفى نفسه من بني قريظة بأن قتلوا أجمعين، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يرحمك الله يا سعد، فلقد كنت شجىً في حلوق الكافرين، لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة المسلمين كعجل قوم موسى! قالوا: يا رسول الله أو عجلٌ يراد أن يتخذ في مدينتك هذه! قال: بلى، والله يراد، ولو كان سعد فيهم حياً لما استمر تدبيرهم، ويستمرون ببعض تدبيرهم ثم الله تعالى يبطله!
قالوا: أخبرنا كيف يكون ذلك؟ قال: دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره).

ملاحظات

١. الرسول صلّى الله عليه وآله مكلف بالتبليغ، وليس مسؤولاً عمن لا يستجيب:
قال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ.
وقال تعالى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.
وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً.
أقول: هذا لايتنافى مع أمر الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله بالجهاد أحياناً، وبكشف المنافقين أحياناً، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل معناه أنك مسؤول عن عملك وإبلاغ رسالة ربك، والقيام بما أمرت ودع الباقي لله تعالى، ودع مقاديره تجري فيمن استجاب ومن كذَّب وعصى وطغى. قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا.
ومعناه أنا أخبرناك بما سيعملون بعدك، وما ستثمره الشجرة الملعونة في مجتمعك، ونحن نعلم أن تخويفنا لهم لايردهم عن طغيانهم بل يزيد فيه، فاتركهم لتجري فيهم مقاديرالله تعالى، فلنا خطة، وسيرجعون الينا!
< صفحة > 108 < / صفحة >
٢. إن اختلاف أصحاب الرسول بعد وفاته، أمر طبيعي بل سنة إلهية شاملة فما من رسول إلا اختلفت أمته من بعده، ووصل اختلافهم الى حد القتال، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّاللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
فاختلافهم واقتتالهم رغم البينات التي قدمها لهم الرسول. والسبب الحقيقي لخلافهم أن بعضهم آمن وبعضهم كفر.
ثم بين الله تعالى أن هذه حقيقة مرة، لكنه تعالى يفعل ما يريد، فقد سمح بهذا الخلاف ليميز المؤمنين من الكفار، ويدخل المؤمنين الجنة، والكفار النار!
٣. تقدم في عطايا النبي صلّى الله عليه وآله أن لكل نبي بطانتین، وأنهما تختلفان بعده فيغلب أهل الباطل على أهل الحق!
فقد روى الطبراني في الأوسط (٧/٣٧٠): (عن ابن عمر، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها).
**
< صفحة > 109 < / صفحة >

الفصل الثامن والأربعون : التسليم للنبي صلّى الله عليه وآله وأوصيائه عليهم السلام

صلوا عليه وسلموا تسليما، وليس سلاماً

قال الله تعالى: إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. وقد فسره بعضهم بأنه أمر بالسلام على النبي صلّى الله عليه وآله وهو خطأ، فهو لم يقل وسلموا سلاماً، بل معناه سلموا لأمر الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وأطيعوه وانقادوا له.
ففي معاني الأخبارللصدوق/٣٦٨ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (وأما قوله عز وجل: وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. فإنه يعني التسليم له فيما ورد عنه).
وفي تفسير القمي(٢/١٩٦): (يعني سلموا له بالولاية وبما جاء به).
وفي المحاسن(١/٢٧١): (قال:التسليم له في كل شئ جاء به).
وقال في تفسير قوله تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا. فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا: لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشئ صنعه الله تعالى أو صنعه النبي صلّى الله عليه وآله : ألا صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ..الآية.. ثم قال عليه السلام : عليكم بالتسليم).
وقد امتاز الشيعة بالتزامهم حرفياً بقول النبي صلّى الله عليه وآله وأمره ونهيه، وكان أسلافهم في
< صفحة > 110 < / صفحة >
عهد النبي صلّى الله عليه وآله معروفون بذلك وكان المنافقون وقليلوا الدين يسخرون منهم ويسمونهم عُبَّاد محمد صلّى الله عليه وآله ! ويتهمونهم بالغلو في النبي صلّى الله عليه وآله لأنهم يؤمنون بمقاماته، ويتعبدون بنص كلامه! وقد سماهم بذلك أبوبكر وسهيل بن عمرو في خطبتيهما في اليوم الثاني لوفاة النبي صلّى الله عليه وآله فقال هذا في المدينة وهذا في مكة: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات).
ففي معرفة الصحابة لأبي نعيم(٢/٤٥٣): (قال سفيان: فلما مات النبي صلّى الله عليه وآله نفر أهل مكة، فقام سهيل بن عمرو عند الكعبة، فقال: من كان محمد إلهه فإن محمداً قد مات والله جل وعلا حيٌّ لايموت). ومعناه ياعُبَّاد محمد مات معبودكم، ولم يكن أحد يعبد النبي صلّى الله عليه وآله فلا بد أنهم يقصدون الذين اعتبروهم مغالين بالنبي صلّى الله عليه وآله لأنه يتقيدون بكلامه حرفياً!
روى البخاري(٢/٧١) عن ابن عباس قال:(إن أبابكرقال عند وفاة النبي صلّى الله عليه وآله : أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
وقد قال هذا نفسه سهيل بن عمرو في مكة!
لذلك فكل ما تراه من أحاديث تنهى عن الغلو في النبي صلّى الله عليه وآله والصلاة والتجمع عند قبره، وأن يعني اتخاذ قبره صنماً، وأحاديث تنهى عن التوسل والإستشفاع به لأنه ميت، وأحاديث تنفي أن يكون خص أهل بيته عليهم السلام بشئ من العلم، أو جعل لهم حقاً على الأمة، وأحاديث ترفع من الصحابة في مقابلهم عليهم السلام وتمدحهم وتغالي فيهم، حتى وضعوا الأحاديث عن لسان أهل البيت عليهم السلام في مدح الصحابة من زعماء قريش، الذين صاروا حكاماً.
كل هذه الأحاديث یظهر ضعفها تحت مجهر البحث، وسوف تلمس تناقضها وكذبها!

مشكلة المسلمين معصيتهم لنبيهم صلّى الله عليه وآله في حياته وبعد وفاته

من محاور القرآن: التأكيد على طاعة النبي صلّى الله عليه وآله والنهي عن معصيته، وقد كشف القرآن عن وجود عصاة للنبي صلّى الله عليه وآله في أصحابه، وكشف وجود من يتناجون سراً بمعصية الرسول صلّى الله عليه وآله وأنهم خلايا يتعاونون على معصيته.
كما كشف الذين يشاقُّونه ويعادونه، من الكفار ومن أصحابه المنافقين.
قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ.
< صفحة > 111 < / صفحة >
فجعل التولي عن النبي صلّى الله عليه وآله ومعصيته كفراً.
وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا.
ومعناه أنهم كانوا يكتمون معصيتهم للرسول صلّى الله عليه وآله وعملهم لذلك.
وقال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فجعل معصية النبي صلّى الله عليه وآله خيانة للأمانة وخيانة لله تعالى.
وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
وهاتان الآيتان تكشفان عن خلايا مؤامرة من الصحابة لمعصية النبي صلّى الله عليه وآله .
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْوقال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
وقال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
ومشاقة الرسول: معاداته، وقد تكون من كفار يصدون عن سبيله، وقد تكون من صحابة منافقين يعملون ضد النبي صلّى الله عليه وآله ويظهرون أنهم مؤمنون به، أو من صحابة يتخذون بعد النبي صلّى الله عليه وآله طريقاً منحرفاً. وقد رسم الله تعالى مشهداً لصحابي يعض على أصابعه ندماً يوم القيامة لأنه اتبع صاحبه المنافق فأغواه وأضله، ولم يتبع الرسول صلّى الله عليه وآله !
قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا. وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.
وتدل الآيات الأخيرة على أن هؤلاء الصحابة اتخذوا القرآن مهجوراً وحرفوا معانيه ليوافق أهواءهم، وأنهم كانوا أعداء للنبي صلّى الله عليه وآله من زمن حياته!
< صفحة > 112 < / صفحة >
وقد كشف الله تعالى أن مشكلة جمهور هؤلاء أنهم أطاعوا رؤساء قبائلهم، قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَ ا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.
**
< صفحة > 113 < / صفحة >

الفصل التاسع والأربعون : بيَّن النبي صلّى الله عليه وآله مستقبل أمته بالتفصيل

الإنكار والطمس منهج اليهود وقريش!

من أكبر الجرائم التي ارتكبها اليهود أنهم حذفوا مالا يروق لهم مما أوحاه الله الى أنبيائهم عليهم السلام ، وطمسوا ما قاله وفعله أنبياؤهم عليهم السلام ، وعادوْا من خالف رأيهم وقتلوه، حتى لو كان يهودياً منهم، أو كان نبياً أو وصياً!
قال الله تعالى عنهم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ..
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ..
الى آخر الآيات التي تصف جرائمهم وطمسهم ما لايعجبهم من الدين أوتحريفه!
وأوضح دليل على ذلك أنهم حذفوا من التوراة كل ما يتعلق بالآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، فلا تجد فيها آية واحدة عن الآخرة!
كما حذفوا وصية موسى ليوشع بن نون عليهما السلام وعزلوا يوشع بعد وفاة موسى ونصبوا خليفة من رؤساء الأسباط، ثم آخر، ثم آخر، حتى ساءت أوضاعهم فرجعوا الى يوشع وبايعوه لينقذهم، فخرجت عليه صفورة أو الصفراء زوجة موسى عليه السلام وجندوا لها جيشاً من مائة وعشرين ألفاً.
وهو ماحدث بعينه لعلي عليه السلام حتى خرجت عائشة عليه!
< صفحة > 114 < / صفحة >
وقد اتبعهم صحابة النبي صلّى الله عليه وآله حرفاً بحرف!كما قال لهم صلّى الله عليه وآله :لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فطمسوا ما لا يعجبهم.
طمسوا لعن النبي صلّى الله عليه وآله وذمه لزعماء قريش، ولعنه وذمه لبعض عشائرها الذين مردوا على الكفر أو النفاق وإيذاء الرسول صلّى الله عليه وآله . وزعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله لعن كفار قومه المؤذين فنزل عليه الوحي من الله تعالى موبخاً وقال له: إني أرسلتك رحمة ولم أرسلك لعاناً فحاشاً، فادع لقومك وقل اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون!
لكن الرحمة في موضعها، والنقمة والعقاب في موضعه، والرحمة على المشرك المؤذي معصية لله تعالى، وترك العقوبة لمستحقها معصية أيضاً!
كما طمسوا ما استطاعوا من مديح النبي صلّى الله عليه وآله لعترته، وبيان مقامهم الذي خصهم الله تعالى به، وحرفوا الآيات الصريحة في مدحهم ومقاماتهم، كآية التطهير: إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.
وآية المودة في القربى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى..
وآية الخمس: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيئٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.. حرفوا معانيها وأدخلوا غيرهم معهم!
كما طمسوا نصبه لعلي عليه السلام في أوئل بعثته يوم نزلت آية:وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فجمع بني هاشم واتخذ منهم علياً عليه السلام وزيراً وأخاً ووصياً وخليفة من بعده، وهو الحديث المعروف بحديث الدار.
كما طمسوا إخبار النبي صلّى الله عليه وآله وأحاديثه المفصلة عن انحراف أمته بعد وفاته، وظلمها لأهل بيته عليهم السلام وعزلهم وتشريدهم وتقتيلهم. وأن هذه الظلامة تستمر فيهم وفي شيعتهم حتى يظهر المهدي الموعود من ولده فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعد أن ملأها المنحرفون ظلماً وجوراً!
< صفحة > 115 < / صفحة >

أنكرت قريش أنه أوصى لعلي أو تحدث عن الخلافة بعده أبداً أبداً!

أصعب سؤال يوجهه أجنبي الى مسلم: ماذا فعل نبيكم لمستقبل أمته، هل استخلف أحداً وعين لها من يقودها، هل وضع لها آلية لاختيار الحاكم؟
لقد فرض على كل مسلم أن يوصي قبل موته، فهل أوصى هو الى أحد، أو أوصى بشيئ لضمان مستقبل أمته؟ وهل تنبأ بما سيحدث لأمته بعد وفاته؟
وهل أوصى النبي صلّى الله عليه وآله بخلافته لأهل بيته؟ وهل خصهم بالعلم دون غيرهم من أمته؟
قال أئمة أهل البيت عليهم السلام : معاذ الله أن يترك النبي صلّى الله عليه وآله أمته سدى! بل أوصى لعلي والأئمة الأحد عشر من أهل بيته عليهم السلام وأخذ لهم البيعة من الأمة، وأكد وصيته مرات فكان يقول كتاب الله وعترتي، وخصهم بالعلم، ونص على ذلك القرآن والسنة، وشهد به الواقع. لكن قريشاً قاموا بعزل عترته ونصبوا بدلهم قرشياً وأجبروهم على بيعتهم!
إن عمر وقريشاً مضطرون لإنكار وصية النبي صلّى الله عليه وآله لأن إقرارهم بها يفتح عليهم أبواباً من الأسئلة المفحمة، لذا أنكروا الوصية من أصلها!
وقالوا: كلا، لم يستخلف النبي أحداً، ولم يوص الى أحد من أهل بيته أو غيرهم ولا خصهم بشيئ من العلم، ولا عين طريقة لاختيار الحاكم، ولا أخبرعن مستقبل أمته!
قالوا: توفيَ وترك أمته هكذا فبادر كبار أصحابه وتداركوا الأمة من الضياع، وأنقذوها من الأخطار، واختاروا أحدهم للخلافة!
لكن عمر ناقض نفسه، فقال في خلافته إن يجب على الحاكم أن يعين من يقوم بأمر أمته بعده، ولا يتركها كالغنم بلا راع فيضيعها!
فقد نقل عبد الرزاق أستاذ البخاري في مصنفه (٥/٤٤٨) بسند صحيح حواراً بين عبد الله بن عمر وأبيه، قال عبد الله: (دخلت على حفصة فقالت: علمتَ أن أباك غير مستخلف؟ قال قلت: ما كان ليفعل، قالت: إنه فاعل، قال: فحلفت أن أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه قال: وكنت كأنما أحمل بيميني جبلاً حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا أخبره ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك، زعموا
< صفحة > 116 < / صفحة >
أنك غير مستخلف، وإنه لو كان لك راعي إبل وراعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيعها فرعاية الناس أشد! قال: فوافقه قولي، فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي فقال: إن الله يحفظ دينه وإني إن لا أستخلف فإن رسول الله لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبابكر قد استخلف).
فالنبي صلّى الله عليه وآله ضيع أمته! وأبوبكر وعمر لم يضيعها!
وأصروا على طعنهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وأنه لم يوص الى أحد واكتفى بالقرآن!
روى البخاري(٣/١٨٦): (سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل كان النبي أوصى؟فقال: لا. فقلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية! قال: أوصى بكتاب الله)!
لكن القرآن ليس رجلاً يقود الأمة، ولا يرفع اختلافهم لأنهم اختلفوا فيه!

تفننت عائشة في الإنكار!

قال البخاري(٣/١٨٦): (ذكروا عند عائشة أن علياً كان وصياً فقالت: متى أوصى إليه، وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري، فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه)!
وتعبير عائشة عن موت النبي صلّى الله عليه وآله غير مؤدب، وهي تقصد أنه كان متكئاً على صدرها فلوى رأسه ومات دفعة واحدة ولم يوص بشيئ، فكيف يقولون أوصى! وكأن تلك اللحظة هي الوقت الوحيد للوصية!
قال العيني في شرح البخاري(١٤/٣٢): (قوله: انخنث، أي انثنى ومال إلى السقوط، ومادته خاء معجمة ونون وثاء مثلثة، وقال ابن الأثير: انخنث أي انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت. وقال صاحب العين: انخنث السقاء وخنث إذا مال، ومنه المخنث للينه وتكسر أعضائه)!
وقالت عائشة (فضائل الصحابة للنسائي/٨): (قبض رسول الله ولم يستخلف! وقال رسول الله: لو كنت مستخلفاً أحداً لاستخلفت أبابكر وعمر!
بل قالت عائشة: إن النبي صلّى الله عليه وآله قال لها أدعي لي أباك وأخاك عبد الرحمن، لأكتب لهما الخلافة بعدي! ولم تذكر لماذا لم تدعوهما؟!
< صفحة > 117 < / صفحة >
قالت: (دخل عليَّ رسول الله في اليوم الذي بدئ فيه فقلت: وارأساه فقال: وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك ودفنتك.قالت: فقلتُ غَيْرَى (أي من غيرتي): كأني بك في ذلك اليوم عروساً ببعض نسائك! قال: وأنا وارأساه، أدعوا لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً فإني أخاف أن يقول قائل أويتمنى متمن أنا أولى، ويأبى الله عز وجل والمؤمنون إلا أبابكر).
قال الألباني: (وهذا سند صحيح على شرط الشيخين). (إرواء الغليل (٣/١٦١).
وروى مسلم في صحيحه(٥/٧٥) وغيره: (عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله ديناراً، ولا درهماً، ولا شاة، ولا بعيراً، ولا أوصى بشئ)!
لكن الحاكم روى حديثاً وصححه(٣/١٣٨)بأن النبي صلّى الله عليه وآله لم يتوف في حجر عائشة، بل توفي وهو يناجي علياً عليه السلام قال:(عن أم سلمة قالت والذي أحلف به أن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه وآله . عدنا رسول الله غداة وهو يقول جاء علي جاء علي مراراً؟ فقالت فاطمة: كأنك بعثته في حاجة، قالت فجاء بعد قالت أم سلمة فظننت أن له إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله وجعل يساره ويناجيه، ثم قبض رسول الله من يومه ذلك. فكان علي أقرب الناس عهداً).
أقول: هذا يدلنا على أن عائشة كانت تريد الخلافة لعشيرتها الضئيلة بني تيم، لأبيها ثم لأخيها عبد الرحمن، فلم تنجح! ثم أرادتها لابن عمها طلحة التيمي فلم تنجح، ثم ادعت لموسى بن طلحة أنه المهدي الموعود، فلم يملأ الدنيا عدلاً! ونفت أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله بلغ أموراً لناس دون ناس وغرضها من ذلك أن تقول إنه لم يخص عترته بعلم ولا بشيئ، ولا كانت له أسرار أبداً، ولا بلغ الخاصة أحياناً وكتم عن العامة!
قالت عائشة (البخاري:٥/١٨٨): (من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ويرد قولها قول الله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ.عَسَى رَبُّهُ إِنْ
< صفحة > 118 < / صفحة >
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا).
ويرده قول عائشة:ادعاء أبيها أن النبي صلّى الله عليه وآله كتم عن عترته وعن ورثته وعن جميع المسلمين أنه لا يورث، وأسرها الى أبي بكر فقط، فلم يروها ولم يعرفها غيره! فلو صدقت أبها ينبغي أن تكذب نفسها بأن النبي صلّى الله عليه وآله لم يكتم شيئاً!
ويرد قول عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وآله في السنوات الثلاث الأولى من بعثته لم يبلغ إلا عترته حتى نزل قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر!
ويرد قول عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وآله كتم أسماء الذين أرادوا قتله في عودته من تبوك ليلة العقبة. وكذلك في عودته من حجة الوداع في عقبة هرشى.
ويرد قولها: أنها هي قالت: إن النبي صلّى الله عليه وآله كتم أمر الخلافة ولم يتكلم فيها أبداً!

وقال أهل البيت: الكتمان والإعلان يتبع المصلحة

ففي بصائر الدرجات/٥٣٨: (عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى: ونحن قُوَّام الله على خلقه، وخزانه على دينه، نخزنه ونستره ونكتم به من عدونا كما كتم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، حتى أذن له في الهجرة وجهاد المشركين. فنحن على منهاج رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى يأذن الله بإظهار دينه بالسيف. ولنضربهم عليه عوداً كما ضربهم رسول صلّى الله عليه وآله الله عليه بَدْءً).
فالإظهار والكتمان تابع للمصلحة، والمصلحة يقتضيها هدف النبي صلّى الله عليه وآله في الدعوة الى الله تعالى، وإقناع الناس وتقريبهم من الهدى، وهدفه في إنشاء أمة وإقامة دولة وإيجاد مد حضاري، وهو يحتاج الى مداراة الناس، وأن يعلن أحياناً أو أموراً، ويكتم أحياناً أخرى وأموراً أخرى، كما يوجه ربه، وقد أمره بكتمان أسماء الذين أرادوا قتله ليلة العقبة في رجوعه من تبوك! وقد حدث علياً وأهل البيت عليهم السلام عما سيجري عليهم من أمته بعده وكتمه عن الآخرين. وهذا طبيعي في كل نبي عليهم السلام .
< صفحة > 119 < / صفحة >

جعلت قريش رواية الطعن بأهل البيت عليهم السلام عن لسانهم!

فقد وضعوا نفي الوصية على لسان علي عليه السلام فزعموا أنه قال: (إن رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يعهد إلينا عهداً نأخذ به في الإمارة،ولكنه شيئ رأيناه من قبل أنفسنا، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن أنفسنا، ثم استخلف أبوبكر فأقام واستقام، ثم استخلف عمر فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه). (الرياض النضرة للمحب الطبري/٢٣١).
وهم يعلمون أن علياً عليه السلام احتج عليهم مرات بعشرات الأحاديث في نصب النبي صلّى الله عليه وآله إياه خليفة على أمته، وذكَّر عمر وأبا بكر بأنهم بخبخوا له وبايعوه يوم الغدير، وكان يصدح باتهامهم فيقول (نهج البلاغة:١/٣٠): (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى. ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء،أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه! فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى. وفي الحلق شجا أرى تراثي نهباً! حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده!
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها…فصبرت على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم! فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر!
لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهن.
إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه، ما بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع! إلى أن انتكث به فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشُق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون! كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا
< صفحة > 120 < / صفحة >
فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ! بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها.
أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).
الى عشرات الموارد التي سجل فيها علي عليه السلام رأيه وموقفه!
كما وضعوا على لسانه أنه حلف بيمينه المعروف: والذي فلق الحبة، نافياً أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله خصه والعترة بشيئ من العلم، فقالوا إنه حلف أن النبي صلّى الله عليه وآله لم يخصهم بشيئ ولا هم الذين قال الله فيهم: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..
ولا الذين قال الله تعالى فيهم: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وقد روى البخاري ذلك في صحيحه ثمان مرات على الأقل! كلها عن علي وأولاده عليهم السلام يحلفون فيها على براءتهم من تهمة توريث النبي صلّى الله عليه وآله إياهم شيئاً من العلم إلا صحيفة صغيرة معلقة في قراب سيف علي عليه السلام !
قال البخاري(٢/٢٢١): ( عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال: ما عندنا شئ إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة).
وقال البخاري(٤/٣٠): ( عن أبي جحيفة قال قلت لعلي: هل عندكم شئ من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة. قلت وما في الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر)!
وكرر البخاري ذلك:٤/٦٧ و٦٩ و: ٨/١٠ و ٤٥ و٤٧ و١٤٤. وتفاوتت روايته عن مضمون الصحيفة. ثم قلدته المصادر كمسلم:٤/١١٥و٢١٧ و: ٦ /٨٥، وابن ماجة: ٢/١٦٨ وأبي داود:١/١٦٨ و:٢: ١٧٧، والنسائي: ٨/٢٣، ورواه أحمد في المجلد الأول من مسنده وحده عشر مرات!
كل ذلك لإقناع المسلمين بأن نبيهم كان بدعاً من الرسل والأنبياء عليهم السلام ! فقد أمر الأنبياء عليهم السلام أممهم بالوصية وأوصى كلٌّ منهم إلى وصيه وأهل بيته! إلا نبينا صلّى الله عليه وآله فإنه
< صفحة > 121 < / صفحة >
أمر المسلمين بالوصية وشدد عليها، وحج بالمسلمين حجة الوداع، ثم مات ولم يوص الى أحد، ولم يتكلم بكلمة عن خليفته!
وزعموا أنه كان بدعاً من الرسل والأنبياء عليهم السلام ! فكل نبي اختار له ربه أحد تلاميذه فعلمه علومه وأعده ليعلم أمته من بعده، إلا نبينا صلّى الله عليه وآله زعموا أنه لم يخص أحداً من أهل بيته وصحابته بعلم، فاضطروا أن يأتوا بالخليفة الأول والثاني، وكانا كما قال ابن حجر لايعرفان معنى آية: وَفَاكِهَةً وأبَّا!
كلا.. لم يكن الأمر كما قالوا، بل هي قريش قررت أن تعزل عترة النبي صلّى الله عليه وآله وتنكر وصيته بهم وتوريثهم علمه ، وتأخذ دولته ، وتنصب من تختاره باسم خليفة، وليس عندها علماء فاختارت جهلاء لا يعرفون مفردات القرآن!
**
< صفحة > 122 < / صفحة >

الفصل الخمسون : التحالف الثلاثي بعد فتح مكة: عمر وأبوبكر وسهيل

بدأ عمر بالدفاع العلني عن قريش يوم فتح مكة!

(عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله لما دخل مكة قام أهل مكة سماطين، قال وعبد الله بن رواحة يمشي ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضـربكم على تنزيله
ضرباً يزل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
يــا رب إنــي مؤمــــــــن بقيــلــــــــــه
فقال له عمر: يا ابن رواحة أتقول الشعر بين يدي رسول الله! فقال له النبي: مه يا عمر! لهذا أشد عليهم من وقع النبل).(صحيح ابن حبان: ١٣/١٠٥).
فعمر لايريد ذم القرشيين، خاصة أن الشاعر أنصاري، فأخفى غرضه واحتج بأن الشعر لايناسب محضر النبي صلّى الله عليه وآله ! فأسكته النبي صلّى الله عليه وآله وقال له إن ابن رواحة يجاهد الكفار بشعره.

بعد حنين رجع عمر وحده الى مكة وعقد الصفقة مع سهيل!

فاجأ النبي صلّى الله عليه وآله قريشاً في مكة بجيش جرار لاطاقة لها به، فأعلنت خضوعها واستسلمت، وأسلم القرشيون شكلياً فقبل النبي صلّى الله عليه وآله منهم، وأخذهم معه الى حنين لحرب هوازن النجدية، فخرجوا مبهوتهين على مضض!
وحاولوا في حنين قتله أو هزيمته فعجزوا، ونصره الله نصراً مبيناً، فعرفت قريش أن دولة
< صفحة > 123 < / صفحة >
محمد صلّى الله عليه وآله قوية، وحولت جهودها الى أخذ دولته بعد وفاته! ورسمت الخطة أن تبعد بني هاشم عن خلافته وتأخذها، وبما أنه لايمكن لطليق أن يكون خليفة محمد، فلابد من قرشي من أصحابه يوافقها في تفكيرها فتقدمه أمامها في مشروعها، فكان عمر بغيتها المطلوبة.
وقد كتبنا فصلاً في السنتين اللتين حكم فيهما سهيل بن عمرو مكة بعد فتحها وكيف شل سهيل عمل الحاكم الذي عينه النبي صلّى الله عليه وآله .
وبعد حنين جاء عمر وحده الى مكة ومعه جاريتان سهمه من سبي هوازن! وبقي مدة في مكة لم يذكروا كم هي، ولا بد أنه اتفق معهم على الصفقة!
قال البخاري في صحيحه (٤/٥٨): (إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله إنه كان عليَّ اعتكاف يوم في الجاهلية، فأمره أن يفي به! قال: وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة).
ومعناه: أن عمر استأذن النبي صلّى الله عليه وآله فأذن له وهو يعلم هدفه، لكنه يدع مقادير الله تجري. فذهب عمر مع جاريتية ووضعهما في بيتٍ نرجح أنه بيت سهيل بن عمرو، فقد عزلت قريش أباسفيان ورأست سهيلاً بعده، وكان سهيل من فراعنتها الأثرياء!
ثم راسل سهيل النبي صلّى الله عليه وآله ثم جاء الى المدينة يطالبه أن يرجع اليهم من هاجر اليه فنزل عند عمر وذهب معه عمر وأبوبكر الى النبي صلّى الله عليه وآله وأيدا مطلبه، فغضب النبي صلّى الله عليه وآله وهدد قريشاً!

قال عمر: أراد رسول الله ومنعته فكان ما أراد الله!

اتفق قادة قريش الجدد سهيل وأبوبكر وعمر على نقل ألوف الطلقاء الى المدينة قبيل وفاة النبي صلّى الله عليه وآله ليساندوهم في أخذ الخلافة.
وسرعان ما بلغ عددهم أكثر من خمسة آلاف، لأن الذين كتبهم النبي صلّى الله عليه وآله ليكونوا في جيش أسامة بلغوا سبع مئة قرشي كما قال ابن حجر والواقدي.
وكان دورهم حاسماً لما أراد النبي صلّى الله عليه وآله أن يكتب عهده لأمته، فقال عمر إنه يهجر لاجاجة لنا بالعهد حسبنا كتاب الله! فصاحوا وقد ملؤوا ساحة المسجد والسكة: القول ما قاله عمر، القول ما قاله عمر! لا تقربوا له شيئاً. ولن تجد أنصارياً يقول هذا الكلام!
< صفحة > 124 < / صفحة >
وبمساندة الطلقاء المستميتة برز عمر قوة هائلة في المدينة مقابل النبي صلّى الله عليه وآله !
قال ابن أبي الحديد السني المعتزلي في شرح نهج البلاغة (١٢/٧٨): (وروى ابن عباس قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته فقال لي: يا بن عباس، أشكو إليك ابن عمك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته؟
قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم، قال أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة. قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له، فقال: يا ابن عباس، وأراد رسول الله الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله! أوَكلما أراد رسول الله كان! إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم!
وقد روى معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ وهو قوله: إن رسول الله أراد أن يذكره للأمر في مرضه، فصددته عنه خوفاً من الفتنة وانتشار أمر الإسلام، فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك، وأبى الله الا إمضاء ما حتم)!
وقال السيد المؤيدي القاسمي، الملقب بالهادي الثاني، وهو من أكابر علماء الزيدية في كتابه التحفة العسجدية/١٤٤: قال عمر:(ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام. ورب هذه البنية لاتجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها! فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم! ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهرصاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً).
أقول: أحمد ابن أبي طاهر مؤرخ موثوق، له عدة مؤلفات ينقل منها المؤرخون، وقد طبع بعض المستشرقين جزءً من كتابه تاريخ بغداد.
والعجيب قول عمر:(ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته!
فمن أنت ياعمر حتى تمنع رسول الله صلّى الله عليه وآله من عمل مصيري كهذا؟
ومن أنت حتى تزايد على رسول الله صلّى الله عليه وآله وتكون أحرص على أمته منه؟!
وأعجب منه قوله: أراد رسول الله الأمرله فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! فمن أنت يا عمر حتى تجعل منعك للنبي صلّى الله عليه وآله إرادة الله! وتزعم أنك غلبت بها إرادة النبي صلّى الله عليه وآله ، والنبي لاينطق إلا وحياً يوحى! فهل أوحى لك الله تعالى برد ما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟!
< صفحة > 125 < / صفحة >
وكان ينبغي أن يصف ما حدث فيقول: أراد النبي في مرض وفاته أن نلتزم له بعهده الذي يريد أن يكتبه، وفيه أن الإمامة بعده لعلي والأحد عشر من عترته، فتصديت له وخلفي كل قريش وهددناه بالردة وصاح الطلقاء: القول ما قاله عمر، حسبنا كتاب الله، لا نريد أن تكتب لنا شيئاً! فاضطر النبي للتراجع وانتصرإسلام عمر وقريش على إسلام محمد وبني هاشم!

أنكر عمر وقريش مئات الأحاديث في انحراف الأمة وظلم العترة!

إذا سألت عمر والقرشيين عن مستقبل الأمة بعد النبي صلّى الله عليه وآله بادروا الى القول إن النبي لم يوص الى أحد، ولا خص أحداً بالعلم ليكون خليفته، ولا أخبر أن الأمة ستظلم أهل بيته عليهم السلام وتأخذ خلافته، وأنهم سيرتدون بعده كالكفار يضرب بعضهم رقاب بعض على الدنيا!
١. وأول ما ينكرونه آية الإنقلاب الصريحة وهي قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ. فيقولون إن الآية مجرد تحذير، لكنها تحذير واستنكارلانقلابهم الحتمي الآتي!
٢. ثم ينكرون آية الشجرة الملعونة أي العشيرة الطاغية التي قال الله عنها: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا.
وقد روى الجميع أن النبي صلّى الله عليه وآله رأى قروداً ينزون على منبره يردون الناس الى الكفر!
٣. ثم ينكرون قوله تعالى في حكام الجور المدعين الإسلام: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا.
٤. ثم ينكرون حديث النبي صلّى الله عليه وآله المتواتر بأن أمته ستنحرف بعده! وتحذيره لهم: ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض!
وتأكيده في حجة الوداع: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه! قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟
< صفحة > 126 < / صفحة >

الحديث من مصادر غيرنا

في صحيح البخاري(٥/١٢٦):(قال: إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى.
قال: فأي بلد هذا؟قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس البلدة؟ قلنا:بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم. ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه).
وفي سنن ابن ماجة(٢/١٣٠٠):(في حجة الوداع استنصت الناس فقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.. ويحكم أو ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
وفي ابن ماجة(٢/١٠١٦):قال رسول الله وهو على ناقته المخضرمة بعرفات: ألا وإني مستنقذ أناساً ومستنقَذٌ مني أناس، فأقول: يا رب أصيحابي! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك »!
أقول: الذين حذرهم النبي صلّى الله عليه وآله من الإقتتال ليسوا إلا الصحابة القرشيين وحدهم لاغير. فالخوف ليس من القبائل التي خضعت للإسلام مهما كانت كبيرة وموحدة مثل هوازن وغطفان، فهي لا تطمح إلى قيادة هذه الدولة، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح، إلا بواسطة الصحابة.
واليهود انكسروا وأجلى النبي صلّى الله عليه وآله قسماً منهم من الجزيرة، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر، ومكائدهم لا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة.
وزعماء قريش، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش، لايستطيعون أن يدعوا حقاً في قيادة دولة النبي صلّى الله عليه وآله لأنهم كلهم أعداؤه وطلقاؤه، أي كان له الحق أن يقتلهم، أو
< صفحة > 127 < / صفحة >
يتخذهم عبيداً، فاتخذهم عبيداً وأطلقهم.. فلا طريق لهم الى القيادة إلا بواسطة بضعة من الصحابة القرشيين المهاجرين.
فتحذيره صلّى الله عليه وآله من الصراع بعده على السلطة ينحصر بالصحابة المهاجرين!

الحديث من مصادرنا

قال علي بن إبراهيم الكوفي القمي الثقة في تفسيره(١/١٧١):(وحج رسول الله صلّى الله عليه وآله حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة، فكان من قوله بمنى أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال :أيها الناس: إسمعوا قولي واعقلوه عني، فإني لا أدري لا ألقاكم بعد عامي هذا.
ثم قال: هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة؟قال الناس: هذا اليوم.قال: فأي شهر؟ قال الناس: هذا. قال: وأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا.قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلغت أيها الناس؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.ثم قال: ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية، أو دم أو مال، فهو تحت قدمي هاتين، ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى.
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال: ألا وكل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب. ألا وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول موضوع دم ربيعة. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال: ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد!
ألا أيها الناس: إن المسلم أخو المسلم حقاً، لا يحل لا مرىء مسلم دم امرئ مسلم وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه. وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله،فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.ألا هل بلغت أيها الناس؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
< صفحة > 128 < / صفحة >
ثم قال: أيها الناس: إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافهموه تنعشوا. ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا، فإن فعلتم ذلك ولتفعلنَّ لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف! ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة، ثم قال: إن شاء الله، أو علي بن أبي طالب.
ثم قال: ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال: ألا وإنه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدفعون عني فأقول: رب أصحابي؟ فيقول:يا محمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك! فأقول: سحقاً سحقاً. فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : نعيت إلى نفسي. ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخيف فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: نضر الله امرء سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، ولزم جماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
أيها الناس: إني تارك فيكم الثقلين. قالوا: يا رسول الله وما الثقلان؟ قال: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، كإصبعي هاتين- وجمع بين سبابتيه- ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى، فتفضل هذه على هذه.
فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا: يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته، فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة، وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً! فأنزل الله على نبيه في ذلك: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ.أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:١/٨٢): ( والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيِّزنا، فكانوا كما قال الأول:
< صفحة > 129 < / صفحة >
أدمتَ لعمري شُرْبَك المحْضَ صابحاً * وأكلك بالزبد المقشــــــــــرةَ البُجْرا
ونحــــــــــن وهبناك العلاءَ ولم تكن * علياً وحُطنا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا.(
وقال عليه السلام (نهج البلاغة:٢/٢٧):( أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم! بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى. إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم).
٥. ثم ينكرون الحديث المتواتر الذي أخبر فيه النبي صلّى الله عليه وآله عن أئمة الضلال والدعاة الى النار، وحذر أمته منهم! وقد عقدنا فصلاً في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام خاصاً بالأئمة المضلين، ومن أحاديثه من مصادر السنة :
فقد رووا أن النبيَّ حذَّر الأمَّة عامَّة وعمر خاصة من أئمة الضلال وولاة السوء!
روى أحمد في مسنده(١/٤٢): (عن عمير بن سعد الأنصاري، قال له عمر: إنِّي أسألك عن أمر فلا تكتمني. قال والله لا أكتمك شيئاً أعلمه. قال ما أخوف شيءٍ تخوفه على أمة محمد؟ قال أئمةً مضلين! قال عمر: صدقت، قد أسرَّ ذلك إليَّ وأعلمنيه رسول الله)!

المرة الوحيدة التي جاء فيها النبي صلّى الله عليه وآله الى بيت عمر!

في حلية الأولياء (٥/١١٩): (عن أبي عبيدة بن الجراح، عن عمر بن الخطاب قال: أخذ رسول الله بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أتاني جبريل آنفاً فقال لي: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت: أجل إنا لله وإنا إليه راجعون فممَّ ذاك يا جبريل؟فقال: إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من دهر غير كثير!فقلت فتنةَ كفر أو فتنةَ ضلالة؟ فقال:كلٌّ سيكون! فقلت: ومن أين وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال: فبكتاب الله يفتنون وذلك من قبل أمرائهم وقرائهم، يمنع الناس الأمراء الحقوق فيظلمون حقوقهم ولا يعطونها فيقتتلون ويفتنون، ويتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون! فقلت كيف يسلم من سلم منهم؟ قال بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه).
< صفحة > 130 < / صفحة >
وفي رواية الحكيم الترمذي، والسيوطي في الدر المنثور(٣/٥٥): (أتاني رسول الله وأنا أعرف الحزن في وجهه، فأخذ بلحيتي فقال إنا لله وإنا إليه راجعون). ومعنا أنه أتى عمر الى بيته، ولم يسجل التاريخ أنه أتى غير هذه المرة! وشكى له النبي صلّى الله عليه وآله من مشروع الأئمة المضلين، وتكلم مع من يعنيه الأمر في هذا المشروع!

الخطر فقط من الأئمة المضلين!

في مسند أحمد (٤/١٢٣): (وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة).
وفي مسند أحمد (٥/١٤٥) عن أبي ذر قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: لَغَيْرُ الدجال أخوفني على أمتي، قالها ثلاثاً، قال قلت: يا رسول الله، ما هذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك؟ قال: أئمة مضلون).
وابن أبي شيبة(١٥/١٤٢) عن علي قال: (كنا عند النبي صلّى الله عليه وآله جلوساً وهو نائم فذكرنا الدجال فاستيقظ محمراً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عليكم عندي من الدجال: أئمةٌ مضلون).
وفي مسند أحمد(٥/ ٣٨٩): ( ذكر الدجال عند رسول الله فقال: لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال). وصححه في الزوائد(٧/٣٣٥).
وقد روينا تحذير النبي صلّى الله عليه وآله من الأئمة المضلين لأنهم سيسفكون دماء عترته عليهم السلام لكن رواة الخلافة حذفوا ذلك من الأحاديث!
ففي أمالي الطوسي(٢/١٢٦) وطبعة/٥١٢، عن عبد الله بن يحيى الحضرمي قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: كنا جلوساً عند النبي صلّى الله عليه وآله وهو نائم ورأسه في حجري فتذاكرنا الدجال فاستيقظ النبي محمراً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عليكم من الدجال: الأئمة المضلون، وسفك دماء عترتي من بعدي، أنا حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم).
وفي كنز العمال (٥/٧٦١): (عن بشر بن عاصم ابن شقيق الثقفي أن عمر بن الخطاب كتب له عهده فقال: لا حاجة لي فيه فإني سمعت رسول الله يقول: إن الولاة يجاء بهم فيوقفون على جسر جهنم، فمن كان مطواعاً لله تناوله بيمينه حتى ينجيه، ومن كان عاصياً لله انخرق به الجسر إلى
< صفحة > 131 < / صفحة >
وادٍ من نار يلتهب التهاباً! فأرسل عمر إلى أبي ذر وسلمان فقال لأبي ذر: أنت سمعت الحديث من رسول الله؟ قال: نعم والله وبعد الوادي واد آخر من نار. وسأل سلمان فكره أن يخبره بشيئٍ! فقال عمر: من يأخذها بما فيها؟ فقال أبوذر: من سَلَتَ الله أنفه وعَينه وأمْرَغَ خدَّه إلى الأرض).
أقول: قول عمر: من يأخذها بما فيها؟يقصد من يأخذ مني الخلافة ويخلصني من خطرها في الآخرة؟ فلم يقبل أحد، وأجابه أبوذر بأنه يأخذها منك من أهانه الله وكتب له جهنم! وهذه لحظة مر فيها عمر وانتهت، وكلامه فيها غير جدي!
فلو أن شخصاً قال له: أنا آخذها فاصعد المنبر وأخبر المسلمين أنك تنازلت لي عن الخلافة، لفعل به عمرالأفاعيل!

وصف علي عليه السلام حكاماً بأنهم أئمة الضلالة والدعاة الى النار!

فقد روى في الكافي(١/٦٢) بسند صحيح، ونهج البلاغة(٢/١٨٨):(ومن كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال: إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً. ولقد كذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيباً فقال: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس :
رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام لايتأثم ولا يتحرج ، يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله رأى وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك فقال عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ! ثم بقوا بعده، وتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله! فهذا أول الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهِم فيه ولم يتعمد كذباً، فهو في يده يرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه
< صفحة > 132 < / صفحة >
منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث: سمع من رسول الله صلّى الله عليه وآله شيئاً يأمر به ثم نهى عنه وهو لايعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع: لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله صلّى الله عليه وآله ولم يهِم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه. وقد كان يكون من رسول الله صلّى الله عليه وآله الكلام له وجهان فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما عنى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله.
وليس كل أصحاب رسول الله كان يسأله فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم، حتى أن كانوا يحبون أن يجئ الطارئ والأعرابي فيسأل رسول الله حتى يسمعوا منه، وكنت أدخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دا، وقد علم أصحاب رسول الله أنه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري، وربما كان ذلك في منزلي فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه فلم يبق غيري وغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة ولا أحد من ابني، إذا أسأله أجابني، وإذا سكت أو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي، ودعا الله أن يفهمني إياها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها، وعلمني تأويلها فحفظته وأملاه علي فكتبته، وماترك شيئاً علمه الله من حلال وحرام، أو أمر ونهي أو طاعة ومعصية كان أو يكون إلى يوم القيامة إلا وقد علمنيه وحفظته، ولم أنس منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً وفقهاً وحكماً ونوراً، وأن يعلمني فلا أجهل، وأن يحفظني فلا أنسى، فقلت له ذات يوم: يا نبي الله إنك منذ يوم دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً مما علمتني فلمَ تمليه علي وتأمرني بكتابته أتتخوف علي النسيان؟ فقال يا أخي لست أتخوف عليك النسيان ولا الجهل، وقد أخبرني الله أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك، قلت
< صفحة > 133 < / صفحة >
يا نبي الله ومن شركائي؟ قال الذين قرنهم الله بنفسه وبي معه، الذين قال في حقهم: ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول. قلت يا نبي الله ومن هم؟ قال: الأوصياء إلى أن يردوا علي حوضي، كلهم هاد مهتد، لا يضرهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم، بهم ينصر الله أمتي وبهم يمطرون ويدفع عنهم بمستجاب دعوتهم، فقلت يا رسول الله سمهم لي، فقال ابني هذا ووضع يده على رأس الحسن، ثم ابني هذا ووضع يده على رأس الحسين، ثم ابن ابني هذا ووضع يده عل ى رأس الحسين، ثم ابن له على اسمي اسمه محمد، باقر علمي وخازن وحي الله، وسيولد علي في حياتك يا أخي فاقرأه مني السلام، ثم أقبل على الحسين فقال سيولد لك محمد بن علي في حياتك فاقرأه مني السلام، ثم تكملة الاثني عشر إماما من ولدك يا أخي. فقلت يا نبي الله سمهم لي فسماهم لي رجلاً رجلاً!
منهم والله يا أخا بني هلال مهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. والله إني لأعرف جميع من يبايعه بين الركن والمقام، وأعرف أسماء الجميع وقبائلهم).
وفي الكافي( ٨ /٥٩): (ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته، فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيرين لسنته! ولو حملتُ الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي! أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله !
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام ..
إلى أن قال:والله لقد أمرت الناس أن لايجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غُيِّرت سنة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري!
ما لقيتُ من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار)!
وفي الكافي(١/٢٠٥) وتفسير القمي/٢٠٦، عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
< صفحة > 134 < / صفحة >
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ-فلان وفلان- وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا. تقول الأئمة الضالة والدعاة إلى النار هؤلاء أهدى من آل محمد وأوليائهم سبيلًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا.أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ يعني الإمامة والخلافة فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا. نحن الناس الذين عنى الله، والنقير النقطة التي رأيت في وسط النواة.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ. فنحن المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله جميعاً.
فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. يقول: فجعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة، فكيف يقرون بذلك في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد. فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا. وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا.
قال قلت: قوله في آل إبراهيم: وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. ما الملك العظيم؟قال:أن جعل منهم أئمة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله، فهو الملك العظيم.
قال ثم قال: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الذي في أيديكم، إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا.
قال: إيانا عنى أن يؤدي الأول منا إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح.
ثم قال للناس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا فجمع المؤمنين إلى يوم القيمة. أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. إيانا عنى خاصة. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيئٍ. فإن خفتم تنازعاً في الأمر فارجعوا إلى الله وإلى الرسول وأولي الأمر منكم، وكيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر ويرخص لهم في منازعتهم، إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا.
**
< صفحة > 135 < / صفحة >

الفصل الحادي والخمسون :أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن ظلم أمته لأهل بيته عليهم السلام بالتفصيل

أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله عن مستقبل أمته والعالم تبلغ مجلداً!

من المحال أن تفهم الإسلام وسيرة النبي صلّى الله عليه وآله ، وتاريخ الإسلام بعد النبي صلّى الله عليه وآله ، إذا لم تفهم عداوة بطون قريش وبغضهم الشديد لبني هاشم!
فإن سبب رفض بطون قريش لنبوة نبينا صلّى الله عليه وآله وغضبهم عليه، وعملهم لقتله أن قبولهم بنبوته يعطي بني هاشم قيادة قريش، وهذا كفرعظيم عندقريش!
وقد اشتهر ذلك حتى صار مثلاً فقالوا: أربعة لم يكونوا ومحال أن يكونوا : زبيري سخي ، ومخزومي متواضع ، وهاشمي شحيح ، وقرشي يحب آل محمد. (ثمار القلوب ١ / ١١٧)
وحتى الذين أسلموا من قريش بقيت عندهم الحمية للبطون والحساسية من بني هاشم. فقد كان عمر والصحابة القرشيون يسألون أي صحابي عما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله في الموضوع الفلاني والفلاني، لكنهم لايسألونه أبداً عما قاله في قريش، وفي الخلافة، وفي أهل بيته عليهم السلام . لأنهم يرفضون مسبقاً ذم النبي صلّى الله عليه وآله لقريش ومدحه لبني هاشم، ويقول بعضهم هذا من عنده ولم ينزله الله عليه! وقد اتفقوا على أن يقولوا: إن النبي لم يوص الى علي والى أهل بيته عليهم السلام أبداً، ولا ذم قريشاً ولا لعن قادتها أبداً، ولا تكلم عن الخلافة بعده بكلمة أبداً، بل ترك أمر الأمة هكذا بلا وصية، فبادروا هم وملؤوا الفراغ القيادي في الأمة، حرصاً منهم على الإسلام والمسلمين!
أما الواقع فقد بلغت أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله عن المستقبل والمغيبات مجلدين، جمعتهما مؤسسة المعارف الإسلامية بمساعدة الشيخ نظري منفرد، باسم الأحاديث الغيبية نحو أربع
< صفحة > 136 < / صفحة >
مئة حديث! ولا مجال لاستيفائها بل إن استيفاء ما أخبر به صلّى الله عليه وآله عن ظلم علي وفاطمة عليها السلام وما يجري عليها، قد يبلغ مجلداً.
وقد أخبر علياً عليه السلام أن الأمة ستغدر به وأخبره بما الأمة صانعة معه حرفاً حرفاً كما قال علي عليه السلام ، وبمن يقاتلونه ويعادونه بالتفصيل وبأسمائهم!
مضافاً الى أنه أخبر عن مستقبل أمته وانحرافها وضلالها، وعن الفتن الموعودة فيها، ودخولها في فتنة عمياء حتى يبعث الله المهدي من ولده عليه السلام .
وحذر من أئمة الضلال وأنهم أعظم خطر على أمته ووصف أعمالهم!
وأخبر عن مصير أمته يوم القيامة وأنها توافيه في المحشر فئات مختلفة ورايات متعددة لكل راية قائد، منهم الصالحون ومنهم المنافقون!
الى آخر ما بلغه وأخبر به وأقام به الحجة، صلوات الله وسلامه عليه وآله.

من نماذجه يوم أجهش النبي صلّى الله عليه وآله بالبكاء!

فقد كان يمشي مع علي عليه السلام فرأى حديقة فقال علي عليه السلام :ما أحسنها، فبشره النبي صلّى الله عليه وآله بأن له في الجنة أحسن منها، ثم وضع رأسه على كتفه وبكى بكاء عالياً وأخبره بغدر الأمة به، وبأنها ستعامله بأضغانها وأحقاد بدر وحنين، وأنه مع ذلك سيقوم بقتالها على التأويل ويستشهد غدراً!
روى المحب الطبري في الرياض النضرة (٣/١٨٤): (عن علي عليه السلام قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وآله في بعض طرق المدينة فمررنا على حديقة فقلت يا رسول الله: ما أحسن هذه الحديقة؟ قال: لك في الجنة أحسن منها.
ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت: يا رسول الله ما أحسنها! قال: لك في الجنة أحسن منها، حتى أتينا على سبع حدائق، أقول يا رسول الله ما أحسنها: فيقول: لك في الجنة أحسن منها.
وفي رواية فلما خلى الطريق اعتنقني وأجهش باكياً فقلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: ضغائن في صدور أقوام لايبدونها لك إلا من بعدي! فقلت: في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك).
قال المحب الطبري: أخرجه أحمد فى المناقب. ورواه في مجمع الزوائد (٩/١١٨) بروايات وثق بعضها.وكنز العمال(١٣/١٧٦)
< صفحة > 137 < / صفحة >
عن البزار وابن النجار، ورواه البلاذري(٤/٥) والخوارزمي في المناقب/٦٥، وابن حجر في المطالب العالية(١٦/١٠١) وتاريخ دمشق(٤٢/٣٢٢) وفي/٣٢٤، وفيه:(قال ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك حتى أفارق الدنيا! فقال علي:فما أصنع يا رسول الله؟قال: تصبر).
وقال في الصحيح من السيرة(٣١/١٤٢):(وفي بعض المصادر: أن ذلك كان منه صلّى الله عليه وآله حين حضرته الوفاة).
وفي كتاب سُليم/١٣٧: (اعتنقني ثم أجهش باكياً وقال: بأبي الوحيد الشهيد! فقلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي! أحقاد بدر وتِراتُ أحد. يا عليٌّ ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون كرهاً، فسلط الله الذين أسلموا كرهاً على الذين أسلموا طوعاً، فقتلوهم ليكون أعظم لأجورهم!
يا عليُّ، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، وإن الله قضى الفرقة والإختلاف على هذه الأمة، ولو شاء الله لجعلهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه، ولا يُتنازع في شئ من أمره، ولا يُجحد المفضول ذا الفضل فضله!
ولو شاء عجَّل النقمة، فكان منه التغيير حتى يُكذب الظالم، ويعلم الحق أين مصيره. ولكن جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة دار القرار، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. فقلت: الحمد لله شكراً على نعمائه، وصبراً على بلائه، وتسليماً ورضاً بقضائه).

ومن نماذجه يوم دخل أبوبكر وعمر أمام علي عليه السلام

(في الإحتجاج:١/٢٩١): «عن أحمد بن همام قال: أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر، فقلت: يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف، فقال: يا أباثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا، ولا تبحثونا فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي بكر، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله أحق بالنبوة من أبي جهل، قال: وأزيدكم: إنا كنا ذات يوم عند رسول الله صلّى الله عليه وآله فجاء علي وأبوبكر وعمر إلى باب رسول الله صلّى الله عليه وآله فدخل أبوبكر ثم دخل عمر ثم دخل عليٌّ على أثرهما، فكأنما سُفِيَ على وجه رسول الله الرماد! ثم قال: يا عليُّ أيتقدمانك هذان، وقد أمَّرك الله عليهما؟ فقال أبوبكر: نسيت يا رسول الله، وقال عمر: سهوت يا رسول الله! فقال رسول الله: ما نسيتما ولا سهوتما، وكأني بكما قد سلبتماه ملكه، وتحازبتما عليه وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله! وكأني
< صفحة > 138 < / صفحة >
بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها، وذلك لأمر قد قضي!
ثم بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى سالت دموعه، ثم قال: يا علي الصبرالصبر حتى ينزل الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك، فإذا أمكنك الأمر: فالسيف السيف، القتل القتل، حتى يفيئوا إلى أمر الله وأمر رسوله، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل، وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة).
أقول: لهذا السبب كان علي عليه السلام حريصاً على تطبيق قول النبي صلّى الله عليه وآله أن لا يكون مأموراً منهما، ففي حربه للمرتدين ومشاركته في الفتوحات لم يقبل أن يكون قائد جيش من قبلهما، نعم كان مشاوراً. وقد نهض بنفسه في الردة للدفاع عن المدينة وخرج معه فرسان المدينة على خيولهم، وحمل ليلاً على قائد المهاجمين حِبال وقتله فانهزم جيشه، كما نص الشاعر زياد بن حنظلة.
ثم كان يعطي المشورة لأبي بكر، ولم يكن جندياً عنده أو قائداً من قبله، كما توهم أستاذنا السيد الصدر. وقد وثقنا ذلك في قراءة جديدة لحروب الردة.

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام بما الأمة صانعة به!

١. في كتاب سليم بن قيس/٢١٥: (قال له الأشعث: فما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟فقال له علي عليه السلام : يا ابن قيس، قلت فاسمع الجواب: لم يمنعني من ذلك الجبن، ولا كراهية لقاء ربي، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وعهده إلي. أخبرني رسول الله بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله صلّى الله عليه وآله أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت. فقلت: يا رسول الله، فما تعهد إلي إذا كان ذلك؟ قال: إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً.
وأخبرني صلّى الله عليه وآله أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري، وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال
< صفحة > 139 < / صفحة >
له موسى: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي. قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. وإنما يعني أن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم. وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله صلّى الله عليه وآله : لم فرقت بين الأمة ولم ترقب قولي وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك؟
فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله بغسله ودفنه، ثم شغلت بالقرآن فآليت على نفسي أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمعه في كتاب، ففعلت.
ثم حملت فاطمة وأخذت بيد ابنيَّ الحسن والحسين، فلم أدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط: سلمان وأبوذر والمقداد والزبير، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به، أما حمزة فقتل يوم أحد، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة، وبقيت بين جلفين جافيين ذليلين حقيرين عاجزين: العباس وعقيل، وكانا قريبي العهد بكفر. فأكرهوني وقهروني.فقلت كما قال هارون لأخيه: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي! فلي بهارون أسوة حسنة ولي بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله حجة قوية).
٢. وقد أتم الله الحجة لعلي عليه السلام يوم الغدير، فدعاه النبي صلّى الله عليه وآله ورفع بيده وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه..الخ. وأمرأن تنصب له خيمة وأن يهنئه المسلمون ويبايعونه، فبخبخ له أبوبكر وعمر، وجاءته نساء النبي صلّى الله عليه وآله فبايعنه، غمسن أيديهن في تب ماء فغمسن فيه يده.
وعصمه الله من اعتراض قريش وارتدادها یوم الغدیر كما قال له الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. ومعناه أن الذي يرد على رسول الله صلّى الله عليه وآله أمره كافر.
ومع ذلك حاولوا قتله في عودته في عقبة هرشى فكرروا نفس محاولتهم في رجوعه من تبوك! ثم جاءه مبعوثهم الى المدينة معترضاً، وهو جابر بن النضر العبدري في رواية أبي عبيد بن سلام الهروي في كتابه: غريب القرآن.
< صفحة > 140 < / صفحة >
قال ابن شهرآشوب في المناقب (٢/٢٤٠): (أبوعبيد، والثعلبي، والنقاش، وسفيان بن عينيه، والرازي، والقزويني، والنيسابوري، والطبرسي، والطوسي في تفاسيرهم، أنه لما بَلَّغَ رسول الله صلّى الله عليه وآله بغدير خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد، أتى الحارث بن النعمان الفهري وفي رواية أبي عبيد: جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال: يا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالصلاة والصوم والحج والزكاة فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شئ منك أم من الله؟!
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : والذي لا إله إلا هو إن هذا إلا من الله. فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله وأنزل الله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع..الآية).
وقد أحصى علماؤنا كصاحب العبقات، وصاحب الغدير،وصاحب إحقاق الحق، وصاحب نفحات الأزهار، عدداً من أئمة السنيين الذين أوردوا هذا الحديث في مصنفاتهم فزادت على الثلاثين..وقد فصلناه في آيات الغدير.
لقد سكتت قريش على إعلان النبي صلّى الله عليه وآله في يوم الغدير لكنها لم تسكت لما أراد أن يكتب وصيته ويعهد عهده في مرض وفاته، وقد جهرت بموقفها بأن ما يقوله محمد من ذم قريش ومدح أهل بيته هو من عنده ولم ينزله الله عليه، نعم القرآن نزل عليه، وحسبنا كتاب الله!
٣. وفي كتاب سليم بن قيس/٢١٤ ، من كلام النبي صلّى الله عليه وآله مع فاطمة عليها السلام : ( أما تعلمين يا بنية أن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي، وخير أهل بيتي أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً. فاستبشرت فاطمة عليها السلام وفرحت بما قال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله .
ثم قال صلّى الله عليه وآله : يا بنية إن لبعلك مناقب: إيمانه بالله ورسوله قبل كل أحد، فلم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي، وعلمه بكتاب الله عز وجل وسنتي، وليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي غير علي، وإن الله عز وجل علمني علماً لا يعلمه غيري وعلم ملائكته ورسله علماً، فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه، وأمرني الله أن أعلمه إياه ففعلت، فليس أحد من أمتي يعلم جميع
< صفحة > 141 < / صفحة >
علمي وفهمي وحكمتي غيره. وإنك بابنيه زوجته، وابناه سبطاي حسن وحسين وهما سبطا أمتي، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فإن الله جل وعز آتاه الحكمة وفصل الخطاب وبابه. إنا أهل بيت أعطانا الله عز وجل ست خصال لم يعطها أحداً من الأولين كان قبلكم، ولم يعطها أحداً من الآخرين غيرنا: نبينا سيد الأنبياء والمرسلين وهو أبوك، ووصينا سيد الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك. وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة مع الملائكة، وابناك حسن وحسين سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة، ومنا والذي نفسي بيده مهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. قالت وأي هؤلاء الذين سميتم أفضل؟ قال: علي بعدي أفضل أمتي، وحمزة وجعفر أفضل أهل بيتي بعد علي، وبعدك وبعد ابنيَّ وسبطي حسن وحسين وبعد الأوصياء من ولد ابني هذا وأشار إلى الحسين، منهم المهدي.
ثم نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إليها وإلى بعلها وإلى ابنيها فقال: يا سلمان أشهد الله أني سلم لمن سالمهم، وحرب لمن حاربهم، أما إنهم معي في الجنة. ثم أقبل على علي عليه السلام فقال:يا أخي أنت ستبقى بعدي وستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك،فإن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفَّ يدك ولا تلق بها إلى التهلكة، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك، فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه.
يا علي إن الله تبارك وتعالى قد قضى الفرقة والإختلاف على هذه الأمة، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من هذه الأمة ولا ينازع في شئ من أمره، ولا يجحد المفضول لذي الفضل فضله.
ولو شاء لعجل النقمة وكان منه التغيير حتى يُكذَّب الظالم ويُعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة دار القرار: لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. فقال علي: الحمد لله شكراً على نعمائه، وصبراً على بلائه).
< صفحة > 142 < / صفحة >

جيش أسامة الى مؤتة!

أمر النبي صلّى الله عليه وآله قرب وفاته بإخلاء المدينة من معارضي علي عليه السلام !
قال ابن حجر في فتح الباري(٨/١١٥) وهو من كبار أئمة السلطة: «أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهرأن يكون أبوبكر وعمر في بعث أسامة، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه: بدأ برسول الله وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش.
فذكر القصة وفيها: لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبوبكر وعمر..وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف، فيهم سبع مائة من قريش ».
أقول: أوردنا كلام ابن حجر لإثبات أن النبي صلّى الله عليه وآله تعمد أن يُفرغ المدينة من القرشيين، وممن يمكن أن يعارض استخلاف علي عليه السلام .
كما تعمد أن يؤمِّرعليهم أسامة الشاب الأسود ابن الثامنة أو السابقة عشرة سنة لئلا يعترض أحد على سن علي عليه السلام الذي كان في الثالثة وثلاثين من عمره.
كما نلاحظ أنه صلّى الله عليه وآله أخبرعن النتائج السيئة لما يجري حوله، وأطلق تحذيره لأجيال الأمة من الفتن التي سيسببها طمع قريش في خلافته!
وروى ابن هشام (٤/١٠٥٧): « قول النبي صلّى الله عليه وآله لعائشة لما رجع من البقيع وتحدث عن الفتن: «ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ قالت قلت: والله لكأني بك لو قد فعلتُ ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك»!
وهذا يدل على أفقه العالي صلّى الله عليه وآله وأنه يفكر بنجاة عائشة في الآخرة، بينما هي تعيش قبل كل شئ وبعد كل شئ: الغيرة من ضراتها!
قال أمير المؤمنين عليه السلام (الخصال/٣٧١) في جواب الحبر اليهودي:«وأما الثانية يا أخا اليهود، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله أمَّرني في حياته على جميع أمته.. ثم أمر رسول الله بتوجيه الجيش الذي وجهه
< صفحة > 143 < / صفحة >
مع أسامة بن زيد، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه، إلا وجهه في ذلك الجيش، ولامن المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده.
ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز، وأكد فيه أكثر التأكيد!
فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلّى الله عليه وآله إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره، قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله فيما أنهضهم له وأمرهم به، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله صلّى الله عليه وآله في أعناقهم، فحلوها، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم، واختصت به آراؤهم، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب، أو مشاركة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي!فعلوا ذلك وأنا برسول الله صلّى الله عليه وآله مشغول، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ».

شكى علي عليه السلام قريشاً كما شكاها النبي صلّى الله عليه وآله

  • كان عليه السلام يقول(نهج البلاغة:١/٨١): (مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين. وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم! والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا، فكانوا كما قال الأول:
    أدَمْتَ لعمري شُربك المحضَ صابحاً * وأكلك بالزبـد المقشَّـرةَ البُجْـرَا
    ونحـــــــن وهبناك العــــــــــلاء ولم تكن * علياً وحُطنا حولك الجُرد والسمرا)
  • وكان عليه السلام يقول (نهج البلاغة:٢/٢٧): (أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً
    < صفحة > 144 < / صفحة >
    وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم. بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى. إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم،لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم).
  • وكان عليه السلام يقول (شرح النهج:٢٠/٢٩٨): (اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم أضمروا لرسولك صلّى الله عليه وآله ضروباً من الشر والغدر فعجزوا عنها، وحِلْتُ بينهم وبينها، فكانت الوجبة بي والدائرة عليَّ! اللهم احفظ حسناً وحسيناً، ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حياً، فإذا توفيتني فأنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد).
  • وقال عليه السلام (شرح النهج:٤/١٠٨): (ما رأيت منذ بعث الله محمداً صلّى الله عليه وآله رخاء، لقد أخافتني قريش صغيراً، وأنصبتني كبيراً، حتى قبض الله رسوله فكانت الطامة الكبرى، والله المستعان.
  • وروى الصدوق في الإعتقادات/١٠٥، أن علياً عليه السلام قال: (ما زلت مظلوماً منذ ولدتني أمي، حتى أن عقيلاً كان يصيبه الرمد فيقول: لا تذرُّوني حتى تذرُّوا علياً، فيذرُّوني وما بي رمد)!
  • وفي الغارات للثقفي (٢/٧٦٨):(ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله صلّى الله عليه وآله حتى يوم الناس هذا. اللهم اجز قريشاً فإنها منعتني حقي وغصبتني أمري.
  • وقال عليه السلام : فجزى قريشاً عني الجوازي فإنهم ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي.
  • وقال عليه السلام : وقد سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم فقال: هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلت مظلوماً.
  • وقال عليه السلام : إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.
  • وقال عليه السلام : ما زلت مستأثَراً عليَّ مذعوفاً عما أستحقه وأستوجبه).
  • وروى النعماني في الغيبة/١٤٤، حديث علي عليه السلام لحذيفة بن اليمان، وفيه: (يا حذيفة: لاتحدث الناس بما لايعرفون فيطغوا ويكفروا، إن من العلم صعباً شديداً محمله، لو حملته الجبال عجزت عن حمله. إن علمنا أهل البيت سيُنْكَر ويُبطل وتُقتل رواته، ويساء إلى من يتلوه، بغياً وحسداً لما فضل الله به عترة النبي صلّى الله عليه وآله .
    يا ابن اليمان، إن قريشاً لا ينشرح صدورها، ولا ترضى قلوبها، ولا تجري ألسنتها ببيعة علي وموالاته، إلا على الكره والعمى والصغار.
    < صفحة > 145 < / صفحة >
    يا ابن اليمان، ستبايع قريش علياً، ثم تنكث عليه وتحاربه، وتناضله وترميه بالعظائم، وبعد علي يلي الحسن وستنكث عليه، ثم يلي الحسين فتقتله أمة جده! فلُعِنَتْ أمةٌ تقتل ابن بنت نبيها ولا تُعَزُّ من أمة، ولُعِن القائد لها والمرتب لفاسقها. فوالذي نفس علي بيده لاتزال هذه الأمة بعد قتل الحسين ابني في ضلال وظلمة وعسف وجور واختلاف في الدين، وتغيير وتبديل لما أنزل الله في كتابه وإظهار البدع وإبطال السنن، واختلال وقياس مشتبهات وترك محكمات حتى تنسلخ من الإسلام وتدخل في العمى والتلدد والتسكع ما لكِ يا بني أمية، لا هديت، وما لكِ يا بني العباس الأتعاس، فما في بني أمية إلا ظالم، ولا في بني العباس إلا معتد متمرد على الله بالمعاصي قتَّال لوُلدي، هتَّاك لستري وحرمتي!
    فلا تزال هذه الأمة جبارين يتكالبون على حرام الدنيا، منغمسين في بحار الهلكات، حتى إذا غاب المتغيب من ولدي عن عيون الناس، وتدلهت وأكثرت في قولها إن الحجة هالكة، والإمامة باطلة، فورب عليٍّ إن حجتها عليها قائمة ماشية في طرقها، داخلة في دورها وقصورها، جوالة في شرق هذه الأرض وغربها، تسمع الكلام وتسلم عن الجماعة، ترى ولا تُرى إلى الوقت والوعد ونداء المنادي من السماء: ألا ذلك يومٌ فيه سرور ولد علي وشيعته).
    هذا، وتقدم في فصل ظلامات النبي صلّى الله عليه وآله أن أول قضية ترفع الى الله تعالى يوم القيامة ظلامة قريش، وأن علياً عليه السلام يكون وكيلاً للنبي صلّى الله عليه وآله في الشكاية عليها، وأصيلاً عن نفسه!

وصية النبي صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام في آخر ساعة من عمره الشريف

روى ابن طاووس في الطرف (١/١٦٢) بسنده والمجلسي في البحار(٢٢/٤٨٤): (عن الكاظم، عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام حين دفع إليه الوصية: اتخذ لها جواباً غداً بين يدي الله تبارك وتعالى رب العرش، فإني محاجك يوم القيامة بكتاب الله حلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه على ما أنزل الله، وعلى ما أمرتك، وعلى فرائض الله كما أنزلت وعلى الأحكام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتنابه، مع إقامة حدود الله وشروطه، والأمور كلها، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لأهلها، وحج البيت، والجهاد في سبيل الله، فما أنت قائل يا علي؟
فقال علي: بأبي أنت وأمي أرجو بكرامة الله لك ومنزلتك عنده ونعمته عليك أن يعينني ربي،
< صفحة > 146 < / صفحة >
ويثبتني فلا ألقاك بين يدي الله مقصراً ولا متوانياً ولا مفرطاً، ولا أمغر وجهك، وقاه وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي،بل تجدني بأبي أنت وأمي مشمراً متبعاً لوصيتك ومنهاجك وطريقك ما دمت حياً حتى أقدم بها عليك، ثم الأول فالأول من ولدي لا مقصرين ولا مفرطين.
قال علي عليه السلام : ثم انكببت على وجهه وعلى صدره وأنا أقول: وا وحشتاه بعدك، بأبي أنت وأمي، ووحشة ابنتك وبنيك، بل واطول غمي بعدك يا أخي، انقطعت من منزلي أخبار السماء، وفقدت بعدك جبرئيل وميكائيل، فلا أحس أثراً ولا أسمع حساً، فأغمي عليه طويلاً ثم أفاق صلّى الله عليه وآله . قال أبوالحسن الكاظم عليه السلام : فقلت لأبي عليه السلام :فما كان بعد إفاقته؟ قال: دخل عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات وضج الناس بالباب من المهاجرين والأنصار، فبينا هم كذلك إذ نودي: أين علي؟ فأقبل حتى دخل عليه، قال علي عليه السلام : فانكببت عليه فقال: يا أخي إفهم فهمك الله وسددك وأرشدك ووفقك وأعانك وغفر ذنبك ورفع ذكرك.
إعلم يا أخي أن القوم سيشغلهم عني ما يشغلهم، وإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله للناس علماً، وإنما تؤتى من كل فج عميق ونأي سحيق ولا تأتي، وإنما أنت علم الهدى، ونور الدين، وهو نور الله.
يا أخي،والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد بعد أن أخبرتهم رجلاً رجلاً ما افترض الله عليهم من حقك، وألزمهم من طاعتك، وكل أجاب وسلم إليك الأمر، وإني لأعلم خلاف قولهم، فإذا قبضت وفرغت من جميع ما أوصيك به وغيبتني في قبري فالزم بيتك، واجمع القرآن على تأليفه، والفرائض والأحكام على تنزيلها، ثم امض على غير لائمة على ما أمرتك به، وعليك بالصبر على ما ينزل به وبها حتى تقدموا علي).

بعد رجوعه صلّى الله عليه وآله من حجة الوداع أكد على أهل بيته عليهم السلام

في الكافي(١/٢٩٣) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: « فلما قدم المدينة أتته الأنصار فقالوا: يا رسول الله إن الله جل ذكره قد أحسن إلينا وشرفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا، فقد فرح الله صديقنا وكبت عدونا. وقد يأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم فيشمت بك العدو، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا حتى إذا قدم عليك وفد وجدت ما تعطيهم. فلم يردَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله عليهم شيئاً، وكان ينتظر
< صفحة > 147 < / صفحة >
ما يأتيه من ربه، فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، ولم يقبل أموالهم، فقال المنافقون: ما أنزل الله هذا على محمد وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه ويحمل علينا أهل بيته! يقول أمس: من كنت مولاه فعلي مولاه واليوم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. ثم لما نزل عليه آية الخمس فقالوا: يريد أن يعطيهم أموالنا وفيأنا!
ثم أتاه جبرئيل فقال: يا محمد إنك قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك، فاجعل الإسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة عند علي فإني لم أترك الأرض إلا ولي فيها عَلَمٌ تُعرف به طاعتي وتعرف به ولايتي، ويكون حجة لمن يولد بين قبض النبي إلى خروج النبي الآخر. قال: فأوصى إليه بالإسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة، وأوصى إليه بألف كلمة وألف باب، يفتح كل كلمة وكل باب ألف كلمة وألف باب ».
وفي الإرشاد(١/١٧٩) أن النبي صلّى الله عليه وآله قال:«أيها الناس، إني فرطكم وأنتم واردون عليَّ الحوض، ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني، وسألت ربي ذلك فأعطانيه. ألا وإني قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولاتقصروا عنهم فتهلكوا، ولاتعلموهم فإنهم أعلم منكم.
أيها الناس، لا ألفينكم بعدي ترجعون كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار! ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. فكان يقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه).
أقول: كان الأنبياء عليهم السلام يقولون لأممهم إنهم لايطلبون منهم أجراً على تبليغ الرسالة، وكذلك نبينا صلّى الله عليه وآله : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ. وقال تعالى: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. لكنه خص هذه الأمة بأن جعل أجر نبيها صلّى الله عليه وآله طاعتها لعترته عليهم السلام فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى،
ثم بين أن هذا الأجر هو السبيل إلى رضا الله تعالى وثوابه فقال: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً.
ثم قال لهم إن هذا الأجر ليس أجراً له، ولا غرماً عليهم بل غنمٌ لهم، فقال: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ. أي أنتم المنتفعون به لأنكم بمودتهم وطاعتهم لا تضلون).
< صفحة > 148 < / صفحة >

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله أن علياً عليه السلام سيقاتل على تأويل القرآن

وقد روى السنة والشيعة روايات صحيحة بأن النبي صلّى الله عليه وآله أخبرهم بأن علياً سيقاتل قريشاً على تأويل القرآن، كما قاتلهم النبي صلّى الله عليه وآله على تنزيله. (الترمذي:٥/٢٩٨ وصححه، والحاكم:٣/١٢٢ و:٤/٢٩٨ وصححهما على شرط الشيخين، وأحمد:٣/٨٢ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:٩/١٣٣: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة).
واشتهر حديثه بحديث خاصف النعل، الذي رواه الترمذي:(قال النبي صلّى الله عليه وآله : يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان، قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له أبوبكر من هو يا رسول الله؟ وقال عمر من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها، قال ثم التفت إلينا علي فقال: إن رسول الله قال: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). ورواه الحاكم:٢/١٣٨ و: ٤/ ٢٩٨ وقال في الموردين: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ورواه أحمد:٣/٣٣ عن أبي سعيد، وكذا في/٨٢ وفيه: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرفنا وفينا أبوبكر وعمر فقال: لا ولكنه خاصف النعل. قال فجئنا نبشره، قال وكأنه قد سمعه. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد:٥/١٨٦ عن أبي سعيد وقال: رواه أبويعلى ورجاله رجال الصحيح. ورواه في:٩/١٣٣، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة).

أمر النبي صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام أن يعلن تهديده بقتال المرتدين!

ومعناه أن النبي صلّى الله عليه وآله شعر بنية قريش أن ترتد لأنه عين خليفته من بني هاشم فقالوا ما أنزل الله ذلك! فهو موقف وقائي لمنع قريش من التفكير بالردة!
قال ابن عباس: « إن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله : إن الله عز وجل يقول: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. لا والله. إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني »! ( الحاكم:٣ /١٢٦، والنسائي: ٥/١٢٥، والمحاملي/١٦٣، والطبراني الكبير: ١ /١٠٧ ومجمع الزوائد: ٩/١٣٤، وصححوه. والاحتجاج:١/٢٩١، وأمالي الطوسي/٥٠٢).
< صفحة > 149 < / صفحة >

حديث أم سلمة عن الناكثين والقاسطين والمارقين

في مجمع الزوائد (٧ /٢٣٨): ( عن علي قال: عهد إليَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين. و البزار والطبراني في الأوسط وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الربيع بن سعيد ووثقه ابن حبان).
وفي أمالي الصدوق/٤٦٣، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (بلغ أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه وآله أن مولى لها يتنقص علياً عليه السلام ويتناوله فأرسلت إليه، فلما أن صار إليها قالت له: يا بنيَّ بلغني أنك تتنقص علياً وتتناوله! قال لها: نعم يا أماه. قالت: أقعد ثكلتك أمك حتى أحدثك بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله ثم اختر لنفسك. إلى أن قالت: فدخلتُ وعليٌّ جاثٍ بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إذا كان كذا وكذا، فما تأمرني؟ قال: آمرك بالصبر. ثم أعاد عليه القول الثانية فأمره بالصبر، فأعاد عليه القول الثالثة، فقال له: يا علي يا أخي، إذا كان ذاك منهم فسُلَّ سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قُدُماً قدماً، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم! ثم التفت صلّى الله عليه وآله إليَّ فقال لي: ما هذه الكآبة يا أم سلمة؟ قلت: للذي كان من ردك لي يا رسول الله. فقال لي: والله ما رددتك من مَوْجَدة وإنك لعلى خير من الله ورسوله لكن أتيتني وجبرئيل عن يميني وعليٌّ عن يساري، وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصي بذلك علياً!
يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب، أخي في الدنيا وأخي في الآخرة. يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، حامل لوائي في الدنيا، وحامل لوائي غداً في القيامة.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي، والذائد عن حوضي.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
قلت: يا رسول الله من الناكثون؟قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة.
< صفحة > 150 < / صفحة >
قلت: من القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب النهروان. فقال مولى أم سلمة: فرجت عني فرج الله عنك، والله لا سببت علياً أبداً).

حديث أبي أيوب عن الناكثين والقاسطين والمارقين

في من لا يحضره الفقيه(٤/٤١٩): (عن الأصبغ بن نباتة قال:قال أميرالمؤمنين في بعض خطبه: أيها الناس إسمعوا قولي واعقلوه عني فإن الفراق قريب: أنا إمام البرية ووصي خير الخليقة، وزوج سيدة نساء الأمة، وأبوالعترة الطاهرة والأئمة الهادية. أنا أخو رسول الله صلّى الله عليه وآله ووصيه ووليه، ووزيره وصاحبه وصفيه، وحبيبه وخليله.
أنا أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وسيد الوصيين، حربي حرب الله، وسلمى سلم الله، وطاعتي طاعة الله، وولايتي ولاية الله، وشيعتي أولياء الله، وأنصاري أنصار الله. والذي خلقني ولم أك شيئاً لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله أن الناكثين والقاسطين والمارقين ملعونون على لسان النبي الأمي، وقد خاب من افترى).
وفي كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر/١١٤، في حديث طويل عن حرب الجمل: ( ونزل أبوأيوب في بعض دور الهاشمين، فجمعنا إليه ثلاثين نفساً من شيوخ أهل البصرة فدخلنا إليه وسلمنا عليه وقلنا: إنك قاتلت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ببدر وأحد المشركين، والآن جئت تقاتل المسلمين! فقال: والله لقد سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لي: إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، مع علي بن أبي طالب!
قلنا: آلله إنك سمعت من رسول الله في علي؟ قال: سمعته يقول: علي مع الحق والحق معه، وهو الإمام والخليفة بعدي، يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، وابناه الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمة، إمامان إن قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما، والأئمة بعد الحسين تسعة من صلبه، ومنهم القائم الذي يقوم في آخر الزمان كما قمت في أوله ويفتح حصون الضلالة.. الحديث.. وهو طويل فيه معراج النبي صلّى الله عليه وآله وذكر الأئمة الاثني عشر عليهم السلام وجاء في آخره:
قلنا: فما لبني هاشم؟قال:سمعته يقول لهم: أنتم المستضعفون من بعدي. قلنا: فمن القاسطين
< صفحة > 151 < / صفحة >
والناكثين والمارقين؟ قال: الناكثين الذين قاتلناهم، وسوف نقاتل القاسطين والمارقين، فإني والله لا أعرفهم غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: في الطرقات بالنهروانات!
قلنا: فحدثنا بأحسن ما سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: سمعته يقول: مثل مؤمن عند الله عز وجل مثل ملك مقرب، فإن المؤمن عند الله تعالى أعظم من ذلك، وليس شئ أحب إلى الله عز وجل من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة.
قلنا: زدنا يرحمك الله. قال: نعم سمعته يقول: من قال لا إله إلا الله مخلصاً فله الجنة. قلنا: زدنا يرحمك الله. قال: نعم سمعته صلّى الله عليه وآله يقول: من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع فإني سمعت جبرئيل عليه السلام يقول: المكر والخديعة في النار. قلنا: جزاك الله عن نبيك وعن الإسلام خيراً).
**

أخبر النبي بما يجري على ابنته فاطمة وأبنائها عليهم السلام

  • أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن فاطمة قبل ولادتها، قال الإمام الصادق عليه السلام : (فلما حملت بفاطمة كانت عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة عليهما السلام ، فقال لها: يا خديجة، من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. قال: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وإن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه). (أمالي الصدوق/٦٩١)
    وقد كتبنا في الفصل الثامن عشر شريطاً موجزاً لسيرتها عليها السلام ، ونورد هنا نماذج:
  • في أمالي الصدوق/١٧٥: « عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن، فلما رآه بكى ثم قال: إليَّ يا بني، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين فلما رآه بكى، ثم قال: إلي يا بني، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى. ثم أقبلت فاطمة فلما رآها بكى ثم قال: إليَّ يا بنية فأجلسها بين يديه.
    ثم أقبل أمير المؤمنين فلما رآه بكى ثم قال: إليَّ يا أخي، فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً من هؤلاء إلا بكيت أوَما فيهم
    < صفحة > 152 < / صفحة >
    من تُسَرُّ برؤيته! فقال صلّى الله عليه وآله : والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، إني وإياهم لأكرم الخلق على الله عز وجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب إلي منهم!
    أما علي بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي وبعد مماتي. محبه محبي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة!
    وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي، حتى إنه ليزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
    وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي أنظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار!
    وإني لما رأيتها ذكرتُ ما يصنع بها بعدي! كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها وهي تنادي: يا محمداه فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث! فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجدت بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يا فاطمة: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عز وجل إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علتها، فتقول عند ذلك: يا رب إني قد سئمت الحياة وتبرمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي ، فيلحقها الله عز وجل بي، فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علي محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة
    < صفحة > 153 < / صفحة >
    مقتولة، فأقول عند ذلك:اللهم العن من ظلمها وعاقب من غصبها، وأذلَّ من أذلها وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها،فتقول الملائكة عند ذلك: آمين.
    وأما الحسن فإنه ابني وولدي، ومنیتي، وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة وحجة الله على الأمة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنه مني ومن عصاه فليس مني، وإني لما نظرت إليه تذكرت ما يجرى عليه من الذل بعدي، فلا يزال الأمر به حتى يقتل بالسم ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كل شئ حتى الطير في جو السماء والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمي العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام.
    وأما الحسين فإنه مني، وهو ابني وولدي، وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين ومولى المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وغياث المستغيثين، وكهف المستجيرين وحجة الله على خلقه أجمعين، وهو سيد شباب أهل الجنة، وباب نجاة الأمة، أمره أمري وطاعته طاعتي، من تبعه فإنه مني ومن عصاه فليس مني، وإني لما رأيته تذكرت ما يصنع به بعدي، كأني به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يجار، فأضمه في منامه إلى صدري، وآمره بالرحلة على دار هجرتي وأبشره بالشهادة، فيرتحل عنها إلى أرض مقتله، وموضع مصرعه، أرض كرب وبلاء وقتل وفناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمتي يوم القيامة، كأني أنظر إليه وقد رُمِيَ بسهم فخرَّ عن فرسه صريعاً، ثم يذبح كما يذبح الكبش مظلوماً!
    ثم بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وبكى من حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثم قام وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي، ثم دخل منزله »!
  • وفي أمالي الشيخ الطوسي/١٨٨: ( عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي وما يصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه يا أبتاه، فلايعينها أحد من أمتي).
  • وفي البحار (٢٢/٤٩٢) عن الإمام الكاظم عليه السلام : «قال صلّى الله عليه وآله :يا علي ما أنت صانع لو قد تآمرالقوم
    < صفحة > 154 < / صفحة >
    عليك بعدي وتقدموا عليك، وبعث إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة، ثم لُبِّبْتَ بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً، وبعد ذلك ينزل بهذه الذل؟!
    قال: فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله صرخت وبكت، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وآله لبكائها وقال: يا بنية لا تبكي ولا تؤذي جلساءك من الملائكة هذا جبرئيل بكى لبكائك وميكائيل وصاحب سر الله إسرافيل!يا بنية لا تبكي فقد بكت السماوات والأرض لبكائك!
    فقال علي عليه السلام : يا رسول الله أنْقَادُ للقوم وأصبر على ما أصابني، من غير بيعة لهم، وما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : اللهم اشهد.
    فقال: يا علي ما أنت صانع بالقرآن والعزائم والفرائض؟فقال:يا رسول الله أجمعه، ثم آتيهم به، فإن قبلوه وإلا أشهدت الله عز وجل وأشهدتك عليهم. قال: اللهم اشهد »
  • وروى في كمال الدين/٢٦٢: ( عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت سلمان الفارسي يقول: كنت جالساً بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله في مرضته التي قبض فيها فدخلت فاطمة عليها السلام فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما يبكيك يا فاطمة؟ قالت: يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك، فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء، ثم قال: يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا، وأنه حتم الفناء على جميع خلقه، وأن الله تبارك وتعالى اطَّلع إلى الأرض اطِّلاعةً فاختارني من خلقه فجعلني نبياً، ثم اطَّلع إلى الأرض اطِّلاعة ثانية فاختار منها زوجك وأوحى إلي أن أزوجك إياه وأتخذه ولياً ووزيراً، وأن أجعله خليفتي في أمتي، فأبوك خير أنبياء الله ورسله، وبعلك خير الأوصياء، وأنت أول من يلحق بي من أهلي.
    ثم اطَّلع إلى الأرض اطلاعة ثالثةً فاختارك وولديك، فأنت سيدة نساء أهل الجنة، وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة، كلهم هادون مهديون، وأول الأوصياء بعدي أخي علي، ثم حسن، ثم حسين، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي، وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله من درجتي ودرجة أبي إبراهيم.. الحديث).
  • وفي تأويل الآيات/٣٧٢: ( عن عيسى بن داود النجار قال: حدثني مولاي أبوالحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن أبي جعفر عليهم السلام قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله أمير المؤمنين وفاطمة
    < صفحة > 155 < / صفحة >
    والحسن والحسين عليهم السلام وأغلق عليه وعليهم الباب وقال: يا أهلي وأهل الله إن الله عز وجل يقرأ عليكم السلام، وهذا جبرئيل معكم في البيت يقول: إن الله عز وجل يقول: إني قد جعلت عدوكم لكم فتنة، فما تقولون؟ قالوا:نصبر يا رسول الله لأمر الله وما نزل من قضائه حتى نقدم على الله عز وجل ونستكمل جزيل ثوابه، فقد سمعناه يعد الصابرين الخير كله، فبكى رسول الله حتى سمع نحيبه من خارج البيت فنزلت هذه الآية: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا).
  • وفي الطُّرَف لابن طاووس(١/١٦٩):(لما كان اليوم الذي ثقل فيه وجع النبي صلّى الله عليه وآله وخيف عليه فيه الموت، دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، وقال لمن في بيته: أخرجوا عني، وقال لأم سلمة: تكونين ممن على الباب فلا يقربه أحد، ففعلت أم سلمة فقال: يا عليّ أدن مني فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً وأخذ بيد عليّ بيده الأخرى.
    فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله الكلام غلبته عبرته فلم يقدر على الكلام، فبكت فاطمة بكاءً شديداً وعليٌّ والحسن والحسين عليهم السلام لبكاء رسول اللّه فقالت فاطمة: يا رسول الله قد قطّعت قلبي وأحرقت كبدي ببكائك يا سيد النبيين من الأوّلين والآخرين، ويا أمين ربه ورسوله، ويا حبيبه ونبيه، من لولدي بعدك؟ ولذل ينزل بي بعدك؟ من لعلي أخيك وناصر الدين؟ من لوحي الله وأمره؟ ثم بكت وأكبت على وجهه فقبلته، وأكب عليه علي والحسن والحسين عليهم السلام فرفع رأسه إليهم، ويدها في يده، فوضعها في يد عليٍّ وقال له: يا أبا الحسن هذه وديعة الله ووديعة رسوله محمد عندك، فاحفظ الله واحفظني فيها، وإنك لفاعل. يا علي هذه والله سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين، هذه والله مريم الكبرى، أما والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم، فأعطاني ما سألته.
    يا علي، أنفذ لما أمرتْك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمرني بها جبرئيل عليه السلام . واعلم يا علي أني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته.يا علي، ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها، وويل لمن انتهك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى جنينها وشج جنبيها، وويل لمن شاقها وبارزها. اللهم إني منهم برئ وهم مني براء! ثم سماهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ! وضم فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين عليهم السلام وقال: اللهم إني لهم ولمن شايعهم سلم، وزعيم يدخلون الجنة، وحرب وعدوٌّ لمن عاداهم وظلمهم تقدمهم أو تأخر عنهم وعن شيعتهم، زعيم
    < صفحة > 156 < / صفحة >
    لهم يدخلون النار، ثم والله يا فاطمة لا أرضى حتى ترضي، ثم لا والله لا أرضى حتى ترضي، ثم والله لا أرضى حتى ترضي ».
  • ومن أعجب ما رواه مخالفونا حديث النبي صلّى الله عليه وآله في مرض وفاته مع فاطمة عليها السلام ، رواه الطبراني في معجمه الكبير(٣/٥٧) والأوسط(٦/٣٢٧) ورواه أبونعيم وغيره بإسنادهم عن أبي سعيد الخدري وعن جابر الأنصاري قال:
    (دخلتُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله في شكاته التي قبض فيها، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه، قال فبكت حتى ارتفع صوتها، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وآله طرفه إليها فقال:حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك؟فقالت:أخشى الضيعة من بعدك! فقال: يا حبيبتي أما علمت أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض إطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك، وأوحى إلي أن أنكحك إياه! يا فاطمة: ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم يُعْطَها أحد قبلنا، ولايُعطى أحد بعدنا: أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله وأحب المخلوقين إلى الله عز وجل، وأنا أبوك. ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله، وهو بعلك.
    وشهيدنا خير الشهداء وأحبهم إلى الله وهو عمك حمزة بن عبد المطلب، وهو عم أبيك وعم بعلك. ومنا من له جناحان أخضران يطير في الجنة مع الملائكة حيث يشاء، وهو ابن عم أبيك وأخو بعلك.
    ومنا سبطا هذه الأمة، وهما ابناك الحسن والحسين، وهما سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما والذي بعثني بالحق خير منهما.
    يا فاطمة: والذي بعثني بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة، إذا صارت الدنيا هرَجاً ومرَجاً وتظاهرت الفتن، وتقطعت السبل، وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيراً، ولا صغير يوقر كبيراً، فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً.
    يا فاطمة: لا تحزني ولا تبكي فإن الله عز وجل أرحم بك، وأرأف عليك مني وذلك لمكانك مني وموضعك من قلبي، وزوجك الله زوجك وهو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً،
    < صفحة > 157 < / صفحة >
    وأرحمهم بالرعية، وأعدلهم بالسوية، وأبصرهم بالقضية، وقد سألت ربي عز وجل أن تكوني أول من يلحقني من أهل بيتي! قال علي رضي الله عنه فلما قبض النبي صلّى الله عليه وآله لم تبق فاطمة بعده إلا خمسة وسبعين [وتسعين] يوماً حتى ألحقها الله به).
    وفي رواية أبي سعيد: ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين، وسوف يخرج الله من صلب الحسين تسعة من الأئمة أمناء معصومون. ومنا مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل. فيبعث الله عند ذلك مهدينا التاسع من صلب الحسين، يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً، يقوم بالدين في آخر الزمان، كما قمت به في أول الزمان، ويملأ الأرض عدلاً، كما ملئت جوراً).
  • وعن أبي سعيد الخدري قال: (سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول للحسين: أنت الإمام، ابن الإمام، أخو الإمام، تسعة من صلبك أئمة أبرار، والتاسع قائمهم). (كفاية الأثر:٢٨).
  • ومن صحاح أخبار من خالفنا، ما رواه البخاري (٤/٤١): ( فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله فهجرت أبابكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت).
  • وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (١/٣٠) وأعلام النساء (٣/١٢١٤): (فقال عمر لأبي بكر: إنطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام! فتكلم أبوبكر فقال: يا حبيبة رسول الله! والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني متُّ ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله، إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة. فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه وآله ! قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه! فقال أبوبكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا
    < صفحة > 158 < / صفحة >
    فاطمة، ثم انتحب أبوبكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها! ثم خرج باكياً فاجتمع إليه الناس فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله، وتركتموني وما أنا فيه! لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي! قالوا: يا خليفة رسول الله، إن هذا الأمر لايستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين.فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة).
    هذا، وقد خصصنا المجلد السابع من كتاب الإنتصار لسيرة فاطمة الزهراء عليها السلام ، وأوردنا فيه عدداً من إخبارات النبي صلّى الله عليه وآله بما يجري عليها.
    **
    < صفحة > 159 < / صفحة >

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله بما يجري على الحسن والحسين عليهما السلام

يتفاجأ المسلم بشدة اهتمام النبي صلّى الله عليه وآله بالحسن والحسين عليهما السلام وأنواع تعامله معهما، وأقواله فيهما، من مراسم ولادتهما، وتسميتهما، والعقيقة عنهما، وكان يراهما يومياً، ويقبلهما، ويتابع أحوالهما! ولما مشيا..كان يأخذهما معه الى المسجد ويجلسهما الى جنبه ويصلي، وقد يركب الواحد منهما على ظهره، فيريد المسلمون أن يبعدوه فيقول أتركوه!
وكان مع سلوكه هذا معهما، يطلق فيهما أقواله النبوية الخالدة:

  • قال عمران بن حصين:قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله :ياعمران إن لكل شئ موقعاً من القلب، وما وقع موقع هذين الغلامين من قلبي شئ قط، فقلت: كل هذا يا رسول الله! قال: يا عمران وما خفي عليك أكثر. إن الله أمرني بحبهما.
  • وكان يقول: يا علي لقد أذهلني هذان الغلامان يعني الحسن والحسين أن أحب بعدهما أحداً أبداً، إن ربي أمرني أن أحبهما، وأحب من يحبهما.
  • وعن أبي ذر قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله بحب الحسن والحسين عليهما السلام ، فأنا أحبهما، وأحب من يحبهما، لحب رسول الله صلّى الله عليه وآله إياهما.
  • وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقبل الحسن والحسين وهو يقول: من أحب الحسن والحسين وذريتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه، ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج، إلا أن يكون ذنبه ذنباً يخرجه من الإيمان.
  • وعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: من كان يحبني فليحب ابنيَّ هذين، فإن الله أمرني بحبهما.
  • إن الله أمرني بحب الحسن والحسين فأحبوهما. اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما..
  • الحسن والحسين سيد اشباب أهل الجنة..
  • الحسن والحسين سبطان من الأسباط..
  • الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا..
    < صفحة > 160 < / صفحة >
  • الحسن والحسين ابناي من فاطمة وعلي..
  • وقال: حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط.
  • قال الإمام الكاظم عليه السلام :أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيد الحسن والحسين عليهما السلام فقال: من أحب هذين الغلامين وأباهما وأمهما، فهو معي في درجتي يوم القيامة.
  • قال الإمام الباقر عليه السلام : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : خذوا بحجزة هذا الأنزع، فإنه الصديق الأكبر والهادي لمن اتبعه، ومن سبقه مرق من دين الله، ومن خذله محقه الله، ومن اعتصم به فقد اعتصم بالله، ومن أخذ بولايته هداه الله، ومن ترك ولايته أضله الله. ومنه سبطا أمتي الحسن والحسين، وهما ابناي ومن ولد الحسين الأئمة الهداة والقائم المهدي، فأحبوهم وتوالوهم، ولا تتخذوا عدوهم وليجة من دونهم، فيحل عليكم غضب من ربكم وذلة في الحياة الدنيا، وقد خاب من افترى.
  • وقال الإمام الصادق عليه السلام :قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :من أبغض الحسن والحسين جاء يوم القيامة وليس على وجهه لحم، ولم تنله شفاعتي)!
    (عامة هذه الأقول:في مصادر الحديث الصحيحة، ومنها: كامل الزيارات/١١٤، وبعدها).

كان النبي صلّى الله عليه وآله يخبر أهل بيته وخاصته بخطط قريش ضدهم

فقد روى في الكافي:١/٥٢٩، وكمال الدين/٢٧٠، والخصال/٤٧٧، والإحتجاج: ١/٢٨٥، وكشف الغمة:٢/٥٠٨، وسُليم/٢٣١، واللفظ له:
(حدثني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: كنت عند معاوية ومعنا الحسن والحسين، وعنده عبد الله بن عباس، فالتفت إلي معاوية فقال: يا عبد الله (بن جعفر)! ما أشد تعظيمك للحسن والحسين! وما هما بخير منك ولا أبوهما خير من أبيك، ولولا أن فاطمة بنت رسول الله لقلت: ما أمك أسماء بنت عميس بدونها! فقلت: والله! إنّك لقليل العلم بهما وبأبيهما وبأمهما، بل والله لهما خير مني وأبوهما خير من أبي ، وأمهما خير من أمي.
يا معاوية، إنك لغافل عما سمعته أنا من رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول فيهما وفي أبيهما وأمهما قد حفظته ووعيته ورويته. قال: هات يا ابن جعفر فوالله ما أنت بكذاب ولا متهم. فقلت: إنه
< صفحة > 161 < / صفحة >
أعظم مما في نفسك، قال:وإن كان أعظم من أحد وحراء جميعاً، فلست أبالي إذ قتل الله صاحبك وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله،فحدثنا فما نبالي بما قلتم ولايضرنا ما عددتم.
قلت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد سئل عن هذه الآية: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، فقال: إني رأيت اثني عشر رجلاً من أئمة الضلالة يصعدون منبري وينزلون، يردون أُمتي على أدبارهم القهقرى، فيهم رجلان من حيين من قريش مختلفين، وثلاثة من بني أُمية، وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص.
وسمعته يقول: إن بني أبي العاص إذا بلغوا خمسة عشر رجلاً جعلوا كتاب الله دَخلاً، وعباد الله خَولاً، ومال الله دِولاً.
يا معاوية إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول على المنبر وأنا بين يديه، وعمر ابن أبي سلمة، وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وأبوذر، والمقداد، والزبير بن العوام، وهو يقول: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم فقلنا: بلى، يا رسول الله، قال: أليس أزواجي أُمهاتكم؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه وضرب بيديه على منكب علي وقال: اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه.
أيّها الناس: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معي أمر، وعلي من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر، ثم ابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر.
ثم عاد فقال: أيها الناس إذا أنا استشهدت فعلي أولى بكم من أنفسكم، فإذا استشهد علي فابني الحسن أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، فإذا استشهد الحسن فابني الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، فإذا استشهد الحسين فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر.
ثمّ أقبل على علي فقال: يا علي، إنك ستدركه فاقرأه مني السلام، فإذا استشهد فابني محمد أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، وستدركه أنت يا حسين! فاقرأه مني السلام، ثم يكون في عقب محمد رجال واحد بعد واحد، وليس منهم أحد إلا وهو أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر، كلهم هادون مهتدون. فقام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وهو يبكي، فقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله أتقتل! قال: نعم، أهلك شهيداً بالسم، وتقتل أنت بالسيف، وتخضب لحيتك من دم رأسك، ويقتل ابني الحسن بالسم، ويقتل ابني الحسين بالسيف يقتله طاغ ابن
< صفحة > 162 < / صفحة >
طاغ، دعيٌّ ابن دعي!
فقال معاوية: يا ابن جعفر لقد تكلمت بعظيم، ولئن كان ما تقول حقاً لقد هلكت أُمة محمد من المهاجرين والأنصار غيركم أهل البيت وأوليائكم وأنصاركم! فقلت: والله إن الذي قلت حقاً، سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله . قال معاوية: يا حسن ويا حسين ويا ابن عباس: ما يقول ابن جعفر؟ فقال ابن عباس: إن لم تؤمن بالذي قال فأرسل إلى الذين سماهم فاسألهم عن ذلك. فأرسل معاوية إلى عمر بن أبي سلمة وإلى أسامة بن زيد، فسألهما، فشهدا أن الذي قال ابن جعفر قد سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه وآله كما سمعه.
فقال معاوية: يا ابن جعفر، قد سمعناه في الحسن والحسين وفي أبيهما، فما سمعت في أُمّهما؟ ومعاوية كالمستهزئ والمنكر!
فقلت: سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: ليس في جنة عدن منزل أشرف ولا أفضل ولا أقرب إلى عرش ربي من منزلي، ومعي ثلاثة عشر من أهل بيتي: أخي علي، وابنتي فاطمة، وابناي الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، هداة مهتدون، وأنا المبلغ عن الله، وهم المبلغون عني، وهم حجج الله على خلقه، وشهداؤه في أرضه، وخزانه على علمه ومعادن حكمه، من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى الله، لا تبقى الأرض طرفة عين إلاّ ببقائهم، ولا تصلح إلاّ بهم، يخبرون الأُمة بأمر دينهم، حلالهم وحرامهم، يدلونهم على رضا ربهم، وينهونهم عن سخطه، بأمر واحد ونهي واحد ليس فيهم اختلاف ولا فرقة ولا تنازع، يأخذ آخرهم عن أولهم إملائي، وخطّ أخي علي بيده يتوارثونه إلى يوم القيامة، وأهل الأرض كلهم في غمرة وغفلة وتيهة وحيرة غيرهم وغير شيعتهم وأوليائهم، لا يحتاجون إلى أحد من الأُمة في شئ من أمر دينهم والأمة تحتاج إليهم. هم الذين عنى الله في كتابه وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسول الله فقال:آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَْمْرِ مِنكُمْ.
فأقبل معاوية على الحسن والحسين وابن عباس والفضل بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فقال: كلكم على ما قال ابن جعفر؟قالوا: نَعَمْ.
قال: يا بني عبد المطلب إنكم لتدعون أمراً عظيماً، وتحتجون بحجج قوية إن كانت حقاً،
< صفحة > 163 < / صفحة >
وإنكم لتضمرون على أمر تسرونه والناس عنه في غفلة عمياء، ولئن كان ما تقولون حقاً لقد هلكت الأمة وارتدت عن دينها، وتركت عهد نبينا غيركم أهل البيت، ومن قال بقولكم فأولئك في الناس قليل!
فقلت: يا معاوية، إن الله تبارك وتعالى يقول: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، ويقول: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، ويقول: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ، ويقول لنوح: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ.
يا معاوية! المؤمنون في الناس قليل، وإن أمر بني إسرائيل أعجب حيث قالت السحرة لفرعون:فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا، فآمنوا بموسى وصدقوه واتبعوه، فسار بهم وبمن تبعه من بني إسرائيل، فأقطعهم البحر وأراهم الأعاجيب، وهم يصدقون به وبالتوراة، يقرون له بدينه فمر بهم على قوم يعبدون أصناماً لهم فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ، ثم اتخذوا العجل فعكفوا عليه جميعاً غير هارون وأهل بيته، وقال لهم السامري: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ. فاحتذت هذه الأُمة ذلك المثال سواء، وقد كانت فضائل وسوابق مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ومنازل منه قريبة مقرين بدين محمّد والقرآن حتى فارقهم نبيهم صلّى الله عليه وآله ، فاختلفوا وتفرقوا وتحاسدوا، وخالفوا إمامهم ووليهم حتى لم يبق منهم على ما عاهدوا عليه نبيهم غير صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون من موسى، ونفر قليل لقوا الله عز وجل على دينهم وإيمانهم، ورجع الآخرون القهقرى على أدبارهم كما فعل أصحاب موسى عليه السلام باتّخاذهم العجل وعبادتهم إياه، وزعمهم أنه ربهم، وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته. ونبينا صلّى الله عليه وآله قد نصب لأُمته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغديرخم وفي غير موطن، واحتج عليهم به وأمرهم بطاعته، وأخبرهم أنه منه بمنزلة هارون من موسى، وأنه وليّ كل مؤمن بعده، وأنه كل مَن كان وليه فعليٌّ وليه، ومن كان أولى به من نفسه فعلي أولى به، وأنه خليفته فيهم ووصيه، وأن من أطاعه أطاع الله، ومن عصاه عصى الله، ومن والاه والى الله، ومن عاداه عادى الله، فأنكروه وجهلوه وتولوا غيره.
يا معاوية! أما علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله حين بعث إلى مؤتة أمَّرَ عليهم جعفر بن أبي طالب، ثم قال: إن هلك جعفر فزيد بن حارثة، فإن هلك زيد فعبد الله بن رواحة، ولم يرض لهم أن
< صفحة > 164 < / صفحة >
يختاروا لأنفسهم، أفكان يترك أمته، لا يبين لهم خليفته فيهم؟! بلى، والله ما تركهم في عمياء ولا شبهة، بل ركب القوم ما ركبوا بعد نبيهم وكذبوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله فهلكوا وهلك من شايعهم، وضلوا وضل من تابعهم، فبعداً للقوم الظالمين.
فقال معاوية: يا ابن عباس! إنك لتفوه بعظيم، والإجتماع عندنا خير من الإختلاف، وقد علمت أن الأمة لم تستقم على صاحبك.
فقال ابن عباس: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: ما اختلفت أُمة بعد نبيها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقها)!
**

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن تكريم ابنته الزهراء عليها السلام يوم القيامة!

روى السنة والشيعة أحاديث صحيحة في فاطمة الزهراء عليها السلام تدل على مقامها العظيم، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، وأنها تعبر المحشر في موكب خاص، ويأمر الله الخلائق أن يحنوا رؤوسهم احتراماً وإجلالاً لها!
في تاريخ بغداد(٨/١٣٦):(عن عائشة قالت: قال رسول الله:إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق طأطئوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة بنت محمد).
وفي سبل الهدى والرشاد للدمشقي(١١/٥٠):(روى تمام في الفوائد والحاكم والطبراني عن علي، وأبوبكر الشافعي عن أبي هريرة، وتمام عن أبي أيوب أبوالحسين بن بشران، والخطيب عن عائشة، والأزدي عن أبي سعيد بأسانيد ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد القبول، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بُطنان العرش:
أيها الناس، وفي لفظ يا أهل الجمع: غضوا أبصاركم ونكسوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة بنت محمد إلى الجنة. وفي لفظ: حتى تمر على الصراط، فتمر وعليها ريطتان خضراوان).
وفي كشف الخفاء للعجلوني(١/٩٦): (رواه الحاكم عن علي ورواه أبوبكر الشافعي في الغيلانيات عن أبي هريرة بلفظ: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش يا أهل الجمع نكسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة إلى الجنة).
< صفحة > 165 < / صفحة >
وفي ميزان الاعتدال للذهبي(٢/٦١٨): ( عن عبد السلام بن عجلان، عن أبي يزيد المدني، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أول شخص يدخل الجنة فاطمة. أخرجه أبوصالح المؤذن في مناقب فاطمة). ومقتل الحسين للخوارزمي/٥٦، وفردوس الأخبار للديلمي (١/ ٣٨)، والخصائص الكبرى للسيوطي(٢/٢٢٥) ونظم درر السمطين/١٨٠، ومناقب ابن شهر آشوب).
وفي أمالي الصدوق/٦٩، بسنده عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال:( سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إذا كان يوم القيامة تقبل ابنتي فاطمة على ناقة من نوق الجنة مدبجة الجنبين، خطامها من لؤلؤ رطب، قوائمها من الزمرد الأخضر، ذنبها من المسك الأذفر، عيناها ياقوتتان حمراوان، عليها قبة من نور يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، داخلها عفو الله، وخارجها رحمة الله، على رأسها تاج من نور، للتاج سبعون ركناً، كل ركن مرصع بالدر والياقوت، يضئ كما يضئ الكوكب الدري في أفق السماء، وعن يمينها سبعون ألف ملك، وعن شمالها سبعون ألف ملك، وجبرئيل آخذ بخطام الناقة، ينادي بأعلى صوته: غضوا أبصاركم، حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله )!

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن تكريم ولده زين العابدين عليه السلام !

كتبنا في المجلد الرابع/٨، من جواهر التاريخ، في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام : (إن الذي سماه زين العابدين جده رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقد كان الزهري:(إذا حدث عن علي بن الحسين قال: حدثني زين العابدين علي بن الحسين فقال له سفيان بن عيينة: ولمَ تقول له زين العابدين؟ قال:لأني سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس أن رسول الله قال: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين زين العابدين؟ فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي يخطرُ بين الصفوف). (علل الشرائع:١/٢٢٩).
لكن رواة بني أمية غَصُّوا بهذا الحديث والإعجاز النبوي فتجاهلوه وقالوا: ( سمي زين العابدين لفرط عبادته).( تهذيب التهذيب:٧ /٣٠٦).
وحرَّفه بعضهم وقال:إن الشيطان ظهر لعلي بن الحسين وأراد أن يلهيه عن صلاته فلم يستجب له ولعنه فسماه زين العابدين، أو سمع الناس هاتفاً سماه به!
< صفحة > 166 < / صفحة >
وهذا أحد أساليبهم في التنقيص من أهل البيت عليهم السلام مع أن هذا السند عندهم من أصح الأسانيد على الإطلاق! قال ابن الصلاح/١٨:(روينا عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: أصح الأسانيد كلها: الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي).
وسير الذهبي:٤/٣٩١، وسلسلة الذهب لابن حجر /٩، وغيرها.
وروى محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/٤٣١حديث جابر: ( كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله والحسين في حجره وهو يلاعبه، فقال:يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين. فيقوم علي بن الحسين. ويولد لعلي ابن يقال له محمد، يا جابر إن رأيته فاقرأه مني السلام واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير.فلم يعش جابر بعده إلا قليلاً).

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن ولده محمد الباقر عليه السلام !

كتبنا في المجلد الرابع/٨، من جواهر التاريخ، في سيرة الإمام الباقر عليه السلام ملخصاً:

  • (سماه جده صلّى الله عليه وآله باقر علم النبوة وبشر به الأمة:وقد اشتهر عليه السلام بهذا الإسم ورواه المؤالف والمخالف. قال الزبيدي في شرح القاموس (٦/١٠٥): (وقد ورد في بعض الآثار عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي قال له: يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمد يبقر العلم بقراً، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام. خرَّجه أئمة النسب).
  • وقال في لسان العرب(١/٧٤): (والتبقر: التوسع في العلم والمال. وكان يقال لمحمد بن علي بن الحسين بن علي الباقر، رضوان الله عليهم، لأَنه بقر العلم وعرف أَصله واستنبط فرعه وتَبقَّر في العلم.لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه).
  • وصح عندنا حديث النبي صلّى الله عليه وآله (الكافي:١/٤٦٩) عن الصادق عليه السلام قال:( إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال ذات يوم لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر إنك ستبقى حتى تلقى وَلَدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف في التوراة بالباقر، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، فدخل جابر إلى علي بن الحسين فوجد محمد بن علي عنده غلاماً فقال له: يا غلام أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، فقال جابر: شمائل رسول الله صلّى الله عليه وآله ورب الكعبة، ثم أقبل علي بن الحسين
    < صفحة > 167 < / صفحة >
    فقال له: من هذا؟ قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي محمد الباقر، فقام جابر فوقع على قدميه يقبلهما ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا ابن رسول الله، إقبل سلام أبيك. إن رسول الله يقرأ عليك السلام. قال: فدمعت عينا أبي جعفر ثم قال: يا جابر على أبي رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليك السلام يا جابر بما بلغت).
  • وفي تاريخ اليعقوبي (٢/٣٢٠): ( وكان يسمى أباجعفر الباقر لأنه بقر العلم. قال جابر بن عبد الله الأنصاري: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنك ستبقى حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي، إسمه على اسمي، إذا رأيته لم يخف عليك، فاقرئه مني السلام! فلما كبرت سنُّ جابر وخاف الموت جعل يقول: يا باقر يا باقر أين أنت؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه وهو يقول: بأبي وأمي شبيه أبيه رسول الله! إن أباك يقرؤك السلام).
  • ورواه من السنة أبونصر البخاري في سر السلسلة العلوية/٣٢، ونصه:( يا جابر إنك ستعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي اسمه اسمي، يبقر العلم بقراً، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام، ففعل ذلك جابر رحمه الله ).
    ورواه ابن قتيبة في عيون الأخبار (٢/٩١) وفيه: (يا جابر إنك ستعيش بعدي حتى يولد لي مولود اسمه كاسمي يبقر العلم بقراً فإذا لقيته فاقرئه مني السلام).ورواه ابنُ أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج (١٥/٢٧٧) مرسلاً وصححه، قال: (وهو سيد فقهاء الحجاز ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه، وهو الملقب بالباقر باقر العلم، لقبه به رسول الله صلّى الله عليه وآله ولم يُخلق بعد، وبشر به ووعد جابر بن عبد الله برؤيته وقال: ستراه طفلاً، فإذا رأيته فأبلغه عني السلام)!
    ورواه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة (٢/٨٨٢) وفيه:(يبقر العلم بقراً، أي يفجره تفجيراً، فإذا رأيته فاقرأه عني السلام).
  • ورواه الزرندي الشافعي في معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول/١٢٢، قال: (سماه رسول الله الباقر، وأهدى إليه سلامه على لسان جابر بن عبد الله فقال: يا جابر إنك تعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقراً، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام. فأدركه جابر بن عبد الله الأنصاري وهو صبي في الكتاب فأقرأه عن رسول الله وقال: هكذا أمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله ).
    < صفحة > 168 < / صفحة >
  • ورواه ابن حجر الهيتمي في الصواعق (٢/٥٨٥) قال: (أبوجعفر محمد الباقر، سمي بذلك من بَقَرَ الأرض أي شقها وأثار مخبئاتها ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثَم قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه، عمرت أوقاته بطاعة الله وله من الرسوخ في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة. وكفاه شرفاً أن ابن المديني روى عن جابر أنه قال له وهو صغير: رسول الله يسلم عليك، فقيل له وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً عنده والحسين في حجره وهو يداعبه فقال: يا جابر يولد له مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده. ثم يولد له ولد اسمه محمد الباقر، فإن أدركته يا جابر فاقرئه مني السلام).
  • وقال محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/٨١ وطبعة ٤٢٥: (الإمام محمد الباقر: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، ومتفوق دره وواضعه، ومنمق دره وراضعه، صفا قلبه وزكا عمله، وطهرت نفسه، وشرفت أخلاقه، وعمرت بطاعة الله أوقاته، ورسخت في مقام التقوى قدمه، وظهرت عليه سمات الإزدلاف، وطهارة الإجتباء، فالمناقب تسبق إليه، والصفات تشرف به).
  • وقال في شرح إحقاق الحق(٢٨/٢٣٤): (رواه في سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب/٣٢٩، طبعة بيروت، وفيه: يا جابر يوشك أن تلحق بولد من ولد الحسين اسمه كاسمي، يبقر العلم بقراً، أي يفجره تفجيراً).
  • وقال في هامش نهج الحق/٢٥٧، إن الخطيب في تاريخ بغداد(٢/٢٠٤)رواه، ولم نجده هناك فلا بد أن تكون يد المحرفين حذفته من المطبوع!
    أقول: إنما سماه النبي صلّى الله عليه وآله (الباقر) باقر العلم، لأنه يعلم أن علم النبوة سيطمسه الحكام، ويأتي في أواخر القرن الأول محمد بن علي بن الحسين، فيبقره ويشق عنه!
    **
    < صفحة > 169 < / صفحة >

بشر النبي صلّى الله عليه وآله الأمة بالأئمة الإثني عشر من عترته عليهم السلام !

من سنة الله تعالى في أنبيائه عليهم السلام أن يورَّث عترتهم الكتاب، كما قال تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَالْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..
والذين اصطفاهم الله هم علي وأبناؤه من فاطمة عليهم السلام ، فالسابقون بالخيرات الأئمة المعصومون عليهم السلام منهم، والمقتصد المؤمن بهم منهم، والظالم لنفسه من حسدهم وأنكرهم! ولا يستقيم معنى الآية إلا بهذا التفسير.
وقد بَلَّغَ النبي صلّى الله عليه وآله ولاية عترته بحكمة بالتدريج بالتلويح والتصريح، لعلمه بحسد قريش لهم، وبشر بالأئمة الإثني عشرمنهم في حجة الوداع لكن رواة قريش أبهموا كلامه وحذفوا منه!

  • ففي صحيح بخاري( ٨/١٢٧): «يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش»!
  • وفي صحيح مسلم: ٦/٣: « لايزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش»!
    ثم روى ثانية وفيها: « ثم تكلم بشئ لم أفهمه ».
    وثالثة فيها:« لايزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى إثني عشر خليفة، فقال كلمة صَمَّنِيَها الناس! فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش».
    مسكين هذا الراوي القرشي أصمه الناس فجعلوه أصم لايسمع، بصراخهم وضجيجهم، وهم الصحابة المحرمون لربهم المنصتون لخطبة نبيهم صلّى الله عليه وآله !
    ولم يقل بخاري إن هذا الحديث من خطب حجة الوداع!
    لكن عدداً من المصادر قالته،كمسند أحمد:٥/٩٣ و٩٦ و٩٩: « عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله بعرفات». وفي/٨٧: «يقول في حجة الوداع». وفي/٩٩: «سمعت رسول الله يخطب بمنى».
    وهذا يعني أنه صلّى الله عليه وآله كرره في عرفات ومنى، ثم أعلنه صريحاً في غديرخم!
    < صفحة > 170 < / صفحة >
  • وأصل الحديث: اثنا عشرإماماً كلهم من أهل بيتي غرسوا في هذا البطن من هاشم، لكن راوي السلطة قال:«قال كلمة لم أفهمها، قلت لأبي: ما قال؟قال: قال كلهم من قريش». (أحمد: ٥/١٠٠ و١٠٧).
  • وزعم أحمد(٥/٩٠ و٩٨)أن النبي صلّى الله عليه وآله أخفاها وخفض بها صوته وهمس بها همساً!
  • وروى الحاكم (٣/٦١٧): «قال كلمة خفيت عليَّ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً مني فقلت: ما قال؟ فقال كلهم من قريش».
  • وروى الحاكم(٣/٦١٨): « فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال يا عم؟ قال: قال يا بني: كلهم من قريش».
  • وفي الطبراني الكبير (٢/٢١٣و٢١٤): «قال:يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً لايضرهم من خذلهم، ثم همس رسول الله صلّى الله عليه وآله بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما الكلمة التي همس بها النبي؟ قال أبي: كلهم من قريش».
    فالناس المُحرمون المصغون لكل كلمة، صاروا عند الكلمة الحساسة مشاغبين: يلغطون، ويضجون، ويكبرون، ويتكلمون، ويقومون ويقعدون!
    ففي سنن أبي داود ( ٢/٣٠٩):« قال: فكبر الناس وضجوا، ثم قال كلمة خفية، قلت لأبي: يا أبة ما قال؟ قال: كلهم من قريش».
    وفي مسند أحمد (٥/٩٨): أصَمَّنِيها الناس. وفي صحيح مسلم: صَمَّنيها الناس.
    فهل سمعت بأمة يودعها نبيها ويبشرها بأئمة ربانيين بعده أئمة علمهم من الرب أعدهم وعلمهم ليقودوا الأمة بعد وفاة رسولها، فتلغط في خطبته وتقوم وتقعد وتضج حتى تضيع هوية هؤلاء الربانيين في عشرين قبيلة!
    وهل سمعت بأمة يبشرها نبيها صلّى الله عليه وآله بأن الله عز وجل حلَّ مشكلة القيادة فيها، وعين لها اثني عشر إماماً ربانياً، ثم تقول إنه لم يحدد هويتهم لا بأسمائهم ولا بأسرتهم، بل ضيعهم في كل قبائل قر يش، ثم لم يسأله أحد من أمته من هم؟!
    ويكفيك دليلاً أنهم رووا أن النبي صلّى الله عليه وآله أعاد البشارة بالأئمة الإثني عشر بعد رجوعه من الحج في المدينة، فخفيت على الراوي نفس الكلمة عن هويتهم!
    < صفحة > 171 < / صفحة >
    ففي مسند أحمد (٥/٩٢) أن النبي صلّى الله عليه وآله قال:(يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش. قال: ثم رجع إلى منزله، فأتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج).
    أي رجع الى منزله في المدينة، ومعناه أنه أعاد النص عليهم بعد عودته من حجة الوداع وأهمل تحديد هويتهم أيضاً، فجاءته قريش، وقريش في المدينة تعني عمر وجماعته، ولم يسألوه عن تحديد هوية الخلفاء أو الأئمة الإثني عشر بل عما يكون بعدهم، فزعموا أنه قال يكون بعدهم الفوضى والضعف والإقتتال مقدمة لقيام القيامة! فقد أبعدوهم عن عصرهم وجعلوهم قرب يوم القيامة!
    وإذا فسرت: رجع الى منزله في الحديث، بمنزله في الحج بمنى، يأتي الكلام نفسه!

أحاديث البشارة النبوية بالأئمة لإثني عشر عندنا متواترة

ألف الفقيه المحدث الخزاز الرازي القمي رحمه الله من علماء القرن الرابع، كتاباً سماه: كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشـر، روى عن عدد من الصحابة أحاديث نص فيها النبي صلّى الله عليه وآله على الأئمة الإثني عشربعده.

  • منها صفحة/٦١: (حدثنا علي بن حسن بن مندة قال: حدثنا أبومحمد بن هارون بن موسى رضي الله عنه، قال حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، قال حدثني محمد بن يحيى العطار، عن سلمة بن الخطاب، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة، جميعاً عن علقمة بن محمد الحضرمي، عن جعفر بن محمد عليهما السلام .
    وحدثنا محمد بن وهبان قال: حدثنا علي بن الحسين الهمداني قال: حدثنا عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا الحسن بن سهل الخياط قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد عليه السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله للحسين بن علي عليهما السلام : يا حسين يخرج من صلبك تسعة من الأئمة، منهم مهدي هذه الأمة، فإذا استشهد أبوك فالحسن بعده، فإذا سُم الحسن فأنت، فإذا استشهدتَ فعلي ابنك، فإذا مضى علي فمحمد ابنه، فإذا مضى محمد فجعفر ابنه، فإذا مضى جعفر فموسى ابنه، فإذا مضى موسى فعلي ابنه، فإذا مضى علي فمحمد ابنه، فإذا مضى محمد فعلي ابنه، فإذا مضى علي فالحسن ابنه، فإذا مضى الحسن فالحجة بعد الحسن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً).
    < صفحة > 172 < / صفحة >
  • وفي صفحة/٧٣: (حدثنا أبوعبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري قال: حدثنا محمد بن أحمد الصفواني قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحمصي قال: حدثنا ابن حماد، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: صلى بنا رسول الله صلاة الفجر، ثم أقبل علينا فقال: معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حشر معنا، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى.
    فقام إليه أبوذر الغفاري فقال: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل، قال:كلهم من أهل بيتك؟ قال: كلهم من أهل بيتي، تسعة من صلب الحسين، والمهدي منهم).
  • وفي صفحة/١٣٢: (أخبرنا أحمد بن محمد بن عبيد الله الحسن العطاردي قال: حدثني جدي عبيد الله بن الحسن، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي قال: حدثنا جعفر بن سلمان الضبعي، عن يزيد الرشك ويقال قيس فقير، عن مطرف بن عبد الله، عن عمران بن حصين قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيراً. فقام إليه سلمان فقال: يا رسول الله أليس الأئمة بعدك من عترتك؟ قال: نعم الأئمة بعدي من عترتي عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، ومنا مهدي هذه الأمة، فمن تمسك بهم فقد تمسك بحبل الله، لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، واتبعوهم فإنهم مع الحق والحق معهم، حتى يردوا علي الحوض).
  • وفي صفحة/١٣٢: (باب ما جاء عن واثلة بن الأسفع عن النبي صلّى الله عليه وآله في النصوص على عدد الأئمة عليهم السلام :حدثنا علي بن الحسن بن محمد قال: حدثنا هارون بن موسى قال: حدثنا جعفر بن علي بن سهل الدقاق الدوري قال: حدثنا علي بن الحارث المروزي قال: حدثنا أيوب بن عاصم الهمذاني قال: حدثنا حفص بن غياث، عن يزيد بن مكحول، عن واثلة بن الأسفع يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول:لما عرج بي إلى السماء وبلغت سدرة المنتهى ناداني ربي جل جلاله فقال: يا محمد. فقلت: لبيك سيدي. قال: إني ما أرسلت نبياً فانقضت أيامه إلا أقام بالأمر بعده وصيه، فاجعل علي بن أبي طالب الإمام والوصي من بعدك فإني خلقتكما من نور واحد وخلقت الأئمة الراشدين من أنوار كما، أتحب أن تراهم يا محمد؟ قلت: نعم يا رب. قال: إرفع رأسك. فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار الأئمة بعدي اثنا عشر نوراً، قلت: يا رب أنوار من
    < صفحة > 173 < / صفحة >
    هي؟ قال: أنوار الأئمة بعدك أمناء معصومون.
    أخبرنا أبوعبد الله الحسين بن محمد بن سعيد قال: حدثنا الحسين بن علي البزوفري قال: حدثنا محمد بن إسحاق الأنصاري قال: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: قال ثور يعني ابن يزيد، عن خالد بن معدان، عن واثلة بن الأسفع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أنزلوا أهل بيتي بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العينين من الرأس، وإن الرأس لا يهتدي إلا بالعينين، اقتدوا بهم من بعدي لن تضلوا. فسألنا عن الأئمة قال: الأئمة بعدي من عترتي عدد نقباء بني إسرائيل).
  • وفي صفحة/١٨٨: (فأخذه النبي فأجلسه على فخذه فقال له جبرئيل: أما إنه سيقتل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ومن يقتله؟قال:أمتك تقتله! قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : تقتله! قال: نعم وإن شئت أخبرتك بالأرض التي يقتل فيها، وأشار إلى الطف بالعراق وأخذ منه تربة حمراء فأراه إياها وقال: هذه من مصرعه، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له جبرئيل: يا رسول الله لا تبك فسوف ينتقم الله منهم بقائمكم أهل البيت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : حبيبي جبرئيل ومن قائمنا أهل البيت؟ قال: هو التاسع من ولد الحسين، كذا أخبرني ربي جل جلاله أنه سيخلق من صلب الحسين ولداً وسماه عنده علياً، خاضعاً لله خاشعاً، ثم يخرج من صلب علي ابنه وسماه محمداً، قانتاً لله ساجداً، ثم يخرج من صلبه ابنه وسماه عنده جعفراً، ناطقاً عن الله صادقاً في الله، ويخرج الله من صلبه ابنه وسماه عنده موسى واثقاً بالله محباً في الله، ويخرج الله من صلبه ابنه وسماه عنده علياً الراضي بالله والداعي إلى الله عز وجل، ويخرج من صلبه ابنه وسماه عنده محمداً المرغب في الله والذاب عن حرم الله، ويخرج من صلبه ابنه وسماه عنده علياً المكتفي بالله والولي لله، ثم يخرج من صلبه ابنه وسماه الحسن مؤمناً بالله مرشداً إلى الله، ويخرج من صلبه كلمة الحق ولسان الصدق، ومظهر الحق حجة الله على بريته، له غيبة طويلة يظهر الله تعالى به الإسلام وأهله، ويخسف به الكفر وأهله).
  • وفي صفحة/١٩٥: بسنده عن سهل بن سعد الأنصاري قال:سألت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الأئمة فقالت: كان رسول الله يقول لعلي عليه السلام : يا علي أنت الإمام والخليفة بعدي، وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضيت فابنك الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فابنك الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسين فابنه علي
    < صفحة > 174 < / صفحة >
    بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى محمد فابنه جعفر أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى جعفر فابنه موسى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى موسى فابنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى محمد فابنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فالقائم المهدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، يفتح الله تعالى به مشارق الأرض ومغاربها، فهم أئمة الحق وألسنة الصدق، منصور من نصرهم مخذول من خذلهم).
    **
    < صفحة > 175 < / صفحة >

الفصل الثاني والخمسون : أخبر النبي صلّى الله عليه وآله أمته بأنها ستسقط في الفتن بعده مباشرة!

قال لهم: إن الفتن على أبوابهم تنتظر وفاته!

عرض النبي صلّى الله عليه وآله وهو على فراش المرض على أمته كنزاً لم يعرضه نبي على أمته أبداً! أن تلتزم بإطاعة عهده الذي سيكتبه فيضمن لها أن تكون على الهدى ولا تضل أبداً، وتكون سيدة الأمم إلى يوم القيامة! فواجهه عمر بن الخطاب ورفض أن يكتب عهده، وأيده طلقاء قريش وكانوا كثروا في المدينة وصاحوا: القول ما قاله عمر! لاتقربوا له دواة وقرطاساً، حسبنا كتاب الله! أي نرفض سنتك ولا نريد أن تكتب لنا عهداً! ولندخل في الفتن والضلال!
وقد دافع أتباع عمر عن موقفه ضد النبي صلّى الله عليه وآله وما زالوا إلى اليوم! وقد رواه بخاري في سبعة مواضع من كتابه! وروى أن النبي صلّى الله عليه وآله طردهم!
وقال أسامة بن زيد: (أشرف النبي على أطم من آطام المدينة فقال: هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر).
وقالت أم سلمة: (استيقظ النبي ذات ليلة فقال سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن، وماذا فُتح من الخزائن! أيقظوا صواحب الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)! (البخاري:١/٣٧)
وقال عبد الله بن عمر:( رأيت رسول الله يشير إلى المشرق فقال: ها إن الفتنة ههنا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان). (البخاري:٤/٩٣).
وقال عبد الله بن عمر: (قام النبي خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة ثلاثاً، من حيث يطلع قرن الشيطان). (البخاري:٤/٤٦).

< صفحة > 176 < / صفحة >
وقال أبوذر: (سمعته يقول: غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال، فلما خشيت أن يدخل منزله قلت: يا رسول الله أي شئ أخوف على أمتك من الدجال؟ قال: الأئمة المضلون). ( مسند أحمد:٥/١٤٥).
وروى الطبراني في الكبير(٢٢/٦٩) ومسند الشاميين(١/٥٦و:٣/١٢٤):( قال صلّى الله عليه وآله : يوحى إليَّ أني مقبوض غير ملبث، وإنكم متبعيَّ أفناداً، يضرب بعضكم رقاب بعض. ثم تأتون من بعدي أفناداً! يقتل بعضكم بعضاً).
وهذه نصوص نبوية صريحة في أصح كتب أتباع الخلافة بأن الفتنة في بيوتهم وفي بيت عائشة و تبدأ بوفاته! فهي فتنة يسقط فيها الصحابة وبعض نساء النبي صلّى الله عليه وآله !

وأخبر أمته بأن الفتنة تبدأ بظلمهم لأهل بيته عليهم السلام

تقدم في فصل أحقاد قريش وبغضها لبني هاشم، الحديث الصحيح المتواتر عند الجميع عن ابن مسعود، وفيه قول النبي صلّى الله عليه وآله : (إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي هؤلاء سيلقون بعدي بلاء وتطريداً وتشريداً، حتى يأتي قوم من هاهنا من نحو المشرق أصحاب رايات سود، يسألون الحق فلا يعطونه مرتين أو ثلاثاً..) وقد ذكرنا مصادره.

وقالت الزهراء عليها السلام صلّى الله عليه وآله صدق أبي صلّى الله عليه وآله فقد سقطوا في الفتنة !

قالت الزهراء عليها السلام في خطبتها الشهيرة في المسجد بعد وفاة أبيها صلّى الله عليه وآله : (فلما اختار الله لنبيه صلّى الله عليه وآله دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم. هذا، والعهد قريب، والكَلْم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة! ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين..». «الإحتجاج:١/١٣١».
< صفحة > 177 < / صفحة >

وعملت قريش لتبعد أحاديث الفتنة عن عصر خلفائها !

فقد سارعت قريش وحرفت أحاديث الفتن وأخرت وقتها عن زمن خلفائها، وقالت إنها فتن بين يدي الساعة! فصار عليك الحذر من أحاديثهم في الفتن!
وقالوا إن كان ولا بد فالفتنة بدأت بمقتل عثمان وخلطوا خلافة علي عليه السلام بمقتل عثمان فصارت خلافته من الفتنة! فقبل مقتل عثمان لا فتنة عندهم، وبعد أن سيطر ابن عمه معاوية الأموي لافتنة عندهم!
قال البخاري (٥/٢٠): (وقعت الفتنة الأولى يعني مقتل عثمان، فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية يعني الحرة فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً. ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طُبَاخ).أي من فيه خير!

قادة الفتن أئمة مضلون دعاة الى النار أخطر من الدجال!

في صحيح مسلم (٤/٢٢١٥) وأحمد(٤/١٢٣) عن شداد بن أوس قال النبي صلّى الله عليه وآله : (إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين).
وابن ماجة (٢/١٣٠٤) وفيه: وستعبد قبائل من أمتي الأوثان، وستلحق قبائل من أمتي بالمشركين.. ولن تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين لايضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل. قال أبوالحسن (راوي ابن ماجة): لما فرغ أبوعبد الله (ابن ماجة) من هذا الحديث قال: ما أهْوَله! وبنحوه أبوداود: ٤/٩٧، والترمذي: ٤ / ٤١٠، وحسنه وصححه. والبيهقي: ٩ /١٨١. وصحح مجمع الزوائد: ٥ /٢٣٩، آخره برواية أحمد. وكذا الألباني / ٧، أوله عن مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
وروى أحمد(٥/١٤٥) عن أبي ذر قال:(كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: لَغَيْرُ الدجال أخوفني على أمتي، قالها ثلاثاً، قال قلت: يا رسول الله، ما هذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك؟ قال: أئمة مضلون). وابن أبي شيبة(١٥/١٤٢) وأحمد (٥/٣٨٩) وصححه الزوائد(٧/٣٣٥) والألباني/٢٧١ ح ٥٤.
وفي البخاري(٣/٢٠٧): (وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فمر به النبي صلّى الله عليه وآله ومسح عن رأسه الغبار، وقال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية! عمار، يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النا ر).
< صفحة > 178 < / صفحة >
وقال أمير المؤمنين عليه السلام (الكافي:١/٦٢، ونهج البلاغة:٢/١٨٨): (سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال: إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً. ولقد كذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيباً فقال: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس : رجل منافق مظهر للإيمان ، متصنع بالإسلام لايتأثم ولا يتحرج ، يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله رأى وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك فقال عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ! ثم بقوا بعده، وتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله)!

فشل رواة السلطة في تنزيه الصحابة عن الفتن!

لايمكنهم إبعاد أحاديث الفتن والأئمة المضلين عن الصحابة، لأن أحاديث الحوض الصحيحة عندهم نصَّتْ على أن أكثر الصحابة يُغَيِّرون ويُبَدِّلون بعد النبي صلّى الله عليه وآله فيدخلون النار! بل نصت رواية بخاري على أنهم في النار ولا ينجو منهم إلا قلةٌ كهَمَل النعم، يخالفون البقية ويبتعدون عن قطيعهم!
فقد روى في صحيحه (٧/٢٠٨)أن النبي صلّى الله عليه وآله وصف الصحابة في المحشر فقال: (بينا أنا قائمٌ فإذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، فقلت أين؟ قال إلى النار والله! قلت: وما شأنهم؟! قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى!ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ! قلت: أين؟! قال: إلى النار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى! فلا أراه يخلص منهم إلا مثلُ هَمَل النعم).
ومعناه أن الأئمة المضلين منهم!
وفشلوا في إبعاد الفتن عن الصحابة وعصرهم، لأن النبي صلّى الله عليه وآله أخبرهم بأنهم سيقتلون
< صفحة > 179 < / صفحة >
الحسين عليه السلام ، قال ابن عباس:( إن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان جالساً ذات يوم فدخل الحسين فقال صلّى الله عليه وآله :كأني أنظر إليه وقد رُمِيَ بسهم فخرَّ عن فرسه صريعاً، ثم يذبح كما يذبح الكبش مظلوماً! ثم بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وبكى من حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثم قام وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي، ثم دخل منزله »! (أمالي الصدوق/١٧٥).
وروى الحاكم(٣/١٤٩) عن أبي هريرة قال: (نظر النبي صلّى الله عليه وآله إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: أنا حربٌ لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم. وصححه واستشهد بحديث زيد بن أرقم: أنا حربٌ لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم).
كما رووه عن زيد بن أرقم والخدري وأم سلمة وغيرهم، وأن النبي صلّى الله عليه وآله قاله مكرراً لما نزلت آية التطهير فكان يذهب أربعين صباحاً إلى باب دار علي عليه السلام فيدق عليهم الباب ويقرأ الآية ويقول هذا الكلام، وأنه قاله في حيٍّ في المدينة، وفي مرض وفاته، وفي مناسبات أخرى!
ونحوه مسند أحمد (٢ / ٤٤٢) وابن ماجة ( ١ / ٥٢) والترمذي (٥ / ٣٦٠) والزوائد: (٩ / ١٦٩) وابن شيبة(٧ / ٥١٢) وأمالي المحاملي/٤٤٧، وابن حبان( ١٥ / ٤٣٤) وأوسط الطبراني(٣ / ١٧٩، و: ٥ / ١٨٢، و: ٧ / ١٩٧) والأصغر (٢ / ٣) والأكبر (٣ / ٤٠ و: ٥ / ١٨٤) وفضائل سيدة النساء لعمر بن شاهين/ ٢٩، وموارد الظمآن (٧ / ٢٠١) وتفسير الثعلبي (٨ / ٣١١) وشواهد التنزيل (٢ / ٤٤) وتاريخ بغداد ( ٧ / ١٤٤) وتاريخ دمشق (١٣ / ٢١٨، و: ١٤ / ١٤٤) وسير الذهبي( ٢ / ١٢٢).
وفي النهاية لابن كثير (٨/٢٠٥): (عن محمد بن عمرو بن حسن قال: كنا مع الحسين بنهري كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي! وكان شمر قبحه الله أبرص).

وتبلغ فتنتهم أوجها بسفك دماء عترة النبي صلّى الله عليه وآله

فقد روينا في أحاديث الأئمة المضلين تحذير النبي صلّى الله عليه وآله من أنهم سيسفكون دماء عترته عليهم السلام لكن رواة الخلافة حذفوا ذلك!
ففي أمالي الطوسي(٢ /١٢٦ وطبعة/٥١٢) عن عبد الله بن يحيى الحضرمي قال: سمعت علياً عليه السلام
يقول: كنا جلوساً عند النبي صلّى الله عليه وآله وهو نائم ورأسه في حجري فتذاكرنا الدجال فاستيقظ النبي محمراً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عليكم من الدجال: الأئمة المضلون، وسفك دماء عترتي
< صفحة > 180 < / صفحة >
من بعدي، أنا حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم).
وفي أمالي الطوسي/٦٥، وأمالي المفيد/ ٢٨٨، عن علي عليه السلام قال: (لما نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، قال لي: يا عليُّ لقد جاء نصر الله والفتح، فإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً. يا علي إن الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي. فقلت: يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني! فقلت: فعلى مَ نقاتلهم يا رسول الله، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟ فقال: على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي.
قال فقلت: يا رسول الله، إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعجيلها لي. فقال:أجل قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خُضبت هذه من هذا؟ وأومى إلى رأسي ولحيتي، فقلت: يا رسول الله أما إذا بَيَّنْتَ لي ما بينت فليس هذا بموطن صبر لكنه موطن بشرى وشكر!
فقال: أجل فأعدَّ للخصومة فإنك تخاصم أمتي. قلت: يا رسول الله أرشدني الفلج. قال: إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان. يا علي إن الهدى هو اتَّباع أمر الله دون الهوى والرأي، وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن وأخذوا بالشبهات، واستحلوا الخمر بالنبيذ، والبخس بالزكاة، والسحت بالهدية!
قلت: يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك أهم أهل ردة أم أهل فتنة؟ قال: هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل! فقلت: يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا؟ فقال: بل منا، بنا يفتح الله وبنا يختم، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة، فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله).
أقول:فالفتنة التي نص عليها النبي صلّى الله عليه وآله تأتي بعد وفاته مباشرة، وهي انحراف الأمة عن أهل بيته عليه السلام ، وقد روت مصادرهم جزءً من هذا الحديث وحذفوا منه ذكر الأئمة المضلين! وهذه عادتهم في تجزئة الأحاديث وتضييعها!
< صفحة > 181 < / صفحة >

الفصل الثالث والخمسون : أتم النبي صلّى الله عليه وآله الحجة على أمته بالحسين عليه السلام !

أنكروا أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله بأن أمته سقتل ابنه الحسين عليه السلام !

لما ولد الحسين عليه السلام أخذ تربة قبره التي جاءه بها جبرئيل عليه السلام الى المسجد وقال للصحابة وهو يبكي إنهم سيقتلونه!
ثم حمله طفلاً الى المسجد وأعاد كلامه وبكاءه!
ثم لما بلغ سنتين أخذه الى المسجد وصعد به المنبر وأعاد كلامه وبكاءه!
وكان كلامه يهز حتى أحجار المقابر، ولكنهم سكتوا سكوت الجمادات!
وكأن القرشيين فرحوا بأنه يقول إنهم سينتصرون على عترته بعده!
وقد فصلنا ذلك في كتابنا: الجديد في الحسين عليه السلام ، ومما جاء فيه:

  • جاء جبرئيل عليه السلام الى النبي صلّى الله عليه وآله بقبضة من تربة كربلاء: فقد روى ابن قولويه في كامل الزيارات/١٢٨، بسند صحيح عن الصادق عليه السلام قال: (إن جبرئيل أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، والحسين عليه السلام يلعب بين يديه، فأخبره أن أمته ستقتله، قال: فجزع رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال: ألا أريك التربة التي يقتل فيها، قال: فخسف ما بين مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى المكان الذي قتل فيه الحسين عليه السلام حتى التقت القطعتان فأخذ منها، ودحيت في أسرع من طرفة عين، فخرج وهو يقول: طوبى لك من تربة وطوبى لمن يقتل حولك.
    قال: وكذلك صنع صاحب سليمان، تكلم باسم الله الأعظم فخسف ما بين سرير سليمان وبين العرش من سهولة الأرض وحزونتها، حتى التقت القطعتان فاجترَّ العرش، قال سليمان:
    < صفحة > 182 < / صفحة >
    يخيل إلي أنه خرج من تحت سريري، قال: ودُحيت في أسرع من طرفة العين).
  • وفي مجمع الزوائد (٩/٩١٨):(عن أم سلمة قالت:كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي رسول الله في بيتي فنزل جبريل فقال: يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك، وأومأ بيده إلى الحسين! فبكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وضمه إلى صدره ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا أم سلمة وديعة عندك هذه التربة، فشمها رسول الله وقال:ريح كرب وبلاء! يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أن ابني قد قتل! قال: فجعلتها أم سلمة في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول:إن يوماً تَحَوَّلينَ دماً ليوم عظيم)!(تهذيب ابن حجر:٢/٣٠١).
    وهو حديث متواترٌ في مصادرنا، ومستفيض في مصادر السنين، ومنه رواية الطبراني وأحمد، وقد وثقها الهيثمي في (مجمع الزوائد:٩/١٨٨) وفيها أن النبي صلّى الله عليه وآله كان ينشج نشيجاً. وصححوه (مجمع الزوائد:٩/١٨٥).

قرأ النبي صلّى الله عليه وآله تعزية الحسين وحذر قاتليه ومسببي قتله!

روى الطبراني (٨/٢٨٥): (فقال جبريل عليه السلام :إن أمتك ستقتل ابنك هذا! فقال النبي صلّى الله عليه وآله :يقتلونه وهم مؤمنون بي؟ قال: نعم يقتلونه! فتناول جبريل تربة فقال بمكان كذا وكذا!
فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله قد احتضن حسيناً كاسف البال مهموماً إلى أصحابه وهم جلوس فقال لهم: إن أمتي يقتلون هذا!وفي القوم أبوبكر وعمر وكانا أجرأ القوم عليه فقالا: يا نبي الله يقتلونه وهم مؤمنون! قال: نعم، وهذه تربته، وأراهم إياها)!
وفي رواية: أن عمر سأله: وهم مؤمنون؟ فقال: يقتلونه، ولم يشهد بإيمانهم.
وقال في (مجمع الزوائد:٩/١٨٨): (كان رسول الله جالساً ذات يوم في بيتي قال: لايدخل عليَّ أحد، فانتظرت فدخل الحسين فسمعت نشيج رسول الله صلّى الله عليه وآله يبكى فأطللت، فإذا حسين في حجره والنبي يمسح جبينه وهو يبكي فقلت: والله ما علمت حين دخل فقال إن جبريل عليه السلام كان معنا في البيت، قال أفتحبه؟ قلت: أما في الدنيا فنعم، قال إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء! فتناول جبريل من تربتها فأراها النبي صلّى الله عليه وآله فلما أحيط بحسين حين قتل قال:ما اسم هذه الأرض؟قالوا كربلاء. فقال صدق الله ورسوله: أرض كرب وبلاء. رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات).
< صفحة > 183 < / صفحة >

المشهد العجيب بين النبي صلّى الله عليه وآله وأمته!

لما جاءه جبرئيل عليه السلام بتربة الحسين عليه السلام هرع النبي صلّى الله عليه وآله الى المسجد: (كاسف البال مهموماً، إلى أصحابه وهم جلوس، فقال لهم: إن أمتي يقتلون هذا! وفي القوم أبوبكر وعمر)! (الطبراني (٨/٢٨٥).
فلم ينفجروا بالبكاء، ولا صعقوا من التعجب، ولا نبسوا ببنت شفة!
ولا سألوه عن الخبر الفادح، وهل يمكنهم منع قتل الحسين عليه السلام ؟!
والسبب أنهم منذ فتح مكة يعملون لعزل أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله من بعده، وقد فهموا من هذا الخبر بقتل الحسين عليه السلام ما لم يفهمه غيرهم! فهموا أن مشروعهم بعزل أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله سينتصر! فهم بالفرح أولى منهم بالبكاء!
ولعلم فهموا منه أن علياً سيقاومهم ويقتل هو وأولاده، فليكن ذلك!
لك الله يارسول الله، تخبرهم بارتدادهم وقتلهم ابنك، فكأنك تخبرهم بالنصر على عترتك! وتقول لهم: ستنحرفون بعدي وتقتلون ولدي هذا، ثم يسكتون ويمسحون بشواربهم!
وهذا يعني كشف ما سيفعلون باختیارهم ولايعني الجبر، فحاشا لله العادل أن يجبر أحداً على معصيته ثم يعاقبه، بل أتم الحجة عليهم فلم ينفعهم!

أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله مطابقة لنص التوراة والإنجيل

قال الحسين عليه السلام لأصحابه: إن جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لي: يا بُنَيَّ إنك ستساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين عليهم السلام ، وهي أرض تدعى عمورا، وإنك تستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك لايجدون ألم مَسِّ الحديد، وتلا: قُلْنَا يَانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً. فأبشروا فوالله لئن قتلونا فإنا نَرِدُ على نبينا صلّى الله عليه وآله ).
هذا واحد من النصوص التي ربطت شهادة الحسين عليه السلام بالأنبياء السابقين عليه السلام . وقد وصفت التوراة في سفر إرميا ذبيحة لله في كركميش على شاطئ الفرات.
وكتبت عالمة اللاهوت إيزابيل بنيامين ماما آشوري ما خلاصته:
< صفحة > 184 < / صفحة >
عندما بحثت في معجم الكتاب المقدس وجدت أن كركميش تعني كربلاء فمن هذا السيد الذي ذُبح بجانب شط الفرات، ولماذا يصف الكتاب المقدس هذه الواقعة، وكأن مصير البشرية يتوقف عليها؟
جاء في سفر إرمياء الإصحاح/٤٦، النبوءة التالية وهي تحكي عن المستقبل البعيد حيث كان وصف إرمياء النبي صحيحاً مائة بالمائة، فقد كان الوصف مهيباً رهيباً، كأنك ترى ذلك المقتول والجيوش التي التفت حوله:
(أسرجوا الخيل، واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ، إصقلوا الرماح، إلبسوا الدروع. لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء، وقد تحطمت أبطالهم وفروا هاربين، في الشمال بجانب نهر الفرات، حيث عثروا وسقطوا لأن للسيد رب الجنود ذبيحة عند شط الفرات.
(من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم أمواهها. تصعد مصر كالنيل وكأنهار تتلاطم المياه. فيقول أصعد وأغطي الأرض. أهلك المدينة والساكنين فيها. إصعدي أيتها الخيل وهيجي أيتها المركبات ولتخرج الأبطال.كوش وفوط القابضان. المجن واللوديون القابضون والمادون القوس. فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للإنتقام من مبغضيه فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم.لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات. إصعدي إلى جلعاد وخذي بلسانا يا عذراء بنت مصر باطلاً تكثرين العقاقير. لارفادة لك. قد سمعت الأمم بخزيك وقد ملأ الأرض عويلك، لأن بطلاً يصدم بطلاً فيسقطان كلاهما معاً).
تقول النبوءة عن أسباب ذهاب هذا السيد إلى ذلك المكان:
ذهب ليرُد سلطته، إلى كركميش ليُحارب عند الفرات في الصحراء العظيمة التي يُقال لها رعاوي عند الفرات).
وكلمة كركميش تعني كربلاء، وكلمة رعاوي هي الصحراء الواسعة التي تمتد من حدود بابل إلى عرعر والتي يسميها الكتاب المقدس رعاوي، وهي بالقرب من مدفن مقدس لأهل الكتاب اسمه النواويس..).
الى آخر ما كتبت هذه الراهبة وقد نشرناه في الجديد في الحسين عليه السلام .
**
< صفحة > 185 < / صفحة >

الفصل الرابع والخمسون : خلافنا مع عُبَّاد قريش في العقيدة بالنبي صلّى الله عليه وآله

لو كانت عقيدتنا في النبي صلّى الله عليه وآله واحدة لما اختلفنا في الإمامة!

إن خلافنا مع أتباع السلطة القرشية في الإمامة ناتج عن خلافنا معهم في النبوة، فنحن نقول بعصمة نبينا صلّى الله عليه وآله الكاملة الشاملة، وهم يقولون بعصمته المحدودة في التبليغ عن الله تعالى دون غيرها، ثم ينتقضون قولهم حتى بعصمته في التبليغ!
ونحن نقول إن كل سنته صلّى الله عليه وآله واجبة الإتباع: قوله وفعله وتقريره، لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
وهم يقولون إنه بشر يغضب فيقول من عنده ويذم قريشاً ويلعن زعماءها في صلاته، ويرضى فيمدح عترته وأهل بيته عليهم السلام وعشيرته بني هاشم من عنده!
فتجب طاعته فيما كان من الله، ولا تجب طاعته فيما كان من عنده!

القرشيون أصحاب عقدة من بني هاشم حتى من أسلم منهم !

عقدة القرشيين من النبي صلّى الله عليه وآله حتى الذين أسلموا منهم إلا الشاذ النادر، أنه يذم زعماء قريش ويلعنهم في صلاته ويمدح عترته عليهم السلام وعشيرته بني هاشم.
ولذا قالوا لعبد الله بن عمرو العاص لاتكتب كل ما يقوله لأنه بشر يرضى ويغضب! أي يرضى فيمدح آل محمد صلّى الله عليه وآله ويغضب فيذم زعماء قريش ويلعنهم! فأخبرالصبي النبي صلّى الله عليه وآله بما قالوا فأشارالى فمه الشريف وقال له: أكتب، فما يخرج منه إلا الحق! وأيد الله عز وجل قول
< صفحة > 186 < / صفحة >
نبيه صلّى الله عليه وآله فأنزل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
لكن قريشاً كاليهود لايقتنعون ولا يتراجعون، فقالوا إن النبي صلّى الله عليه وآله مع ذلك يجتهد ويخطئ، فإن أمرَنا بشيئ من الله تعالى نقبل منه، وإن كان الأمر من عنده فيجوز لنا الإجتهاد مقابل اجتهاده! ولهذا سألوه لما خطب في غدير خم ورفع بيد علي عليه السلام ونصبه ولياً للأمة بعده فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقالوا له: أمنكَ هذا أم من الله؟!
وتعلَّم منهم سعد بن عبادة فقال يوم حنين عن الغنائم التي حُرم منها الأنصار، إن كانت قسمتها من الله قبلنا، وإن كانت من النبي صلّى الله عليه وآله لم نقبل!
ثم وضع القرشيون لمطلبهم صيغة شرعية فقالوا: سنة النبي إن كان يبلغ فيها عن الله يجب اتباعهها، لكن قسم منها اجتهاد منه يصيب فيه ويخطئ، وهذا لايجب اتباعه!
وكذبوا على النبي صلّى الله عليه وآله فقالوا إنه اعترف بعدم وجوب اتباع سنته التي من عنده! ورووها في أصح كتبهم، عن كبار صحابتهم!
وقد عقد مسلم في صحيحه (٧/٩٥) باباً بعنوان: باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره معايش الدنيا على سبيل الرأي، وروى عن طلحة قال: (مررت مع رسول الله ص بقوم على رؤس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيتلقح. فقال رسول الله ص: ما أظن يغني ذلك شيئاً قال فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله ص بذلك فقال إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل)
وروى ابن ماجة (٢/٨٢٥): (عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وآله سمع أصواتاً فقال: ما هذا الصوت؟ قالوا: النخل يؤبرونها. فقال: لو لم يفعلوا لصَلُح، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصاً (تمراً فاسداً!) فذكروا للنبي صلّى الله عليه وآله فقال: إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم، فإليَّ).
وقد كتبنا في: ألف سؤال وإشكال، مسألة: ١٤٧: اتهموا النبي صلّى الله عليه وآله بأنه ساذج لم يكن يعرف تلقيح النخل فنهاهم عنه وخرَّب الموسم! ليثبتوا مقولتهم بأنه صاحب اجتهاد وظن، وقد يخطئ ويصيب غيره، والنبي صلّى الله عليه وآله نفسه يتبعه!
قال القاضي عياض في الشفا (٢/١٨٤): (حدثنا رافع ابن خديج قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله المدينة
< صفحة > 187 < / صفحة >
وهم يؤبرون النخل فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً فتركوه فنفضت، فذكروا ذلك له فقال: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر. وفى رواية أنس: أنتم أعلم بأمر دنياكم.
وفي حديث آخر: إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذني بالظن. وفي حديث ابن عباس في قصة الخرص فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب)!
ويظهر من رواية ابن خديج أن حادثة التأبير كانت لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله الى المدينة، ويظهر من رواية عائشة أنها كانت بعد سنتين من هجرته صلّى الله عليه وآله .
والتفاوتات في رواية التأبير عديدة، في مكان الحادثة ووقتها وقول النبي صلّى الله عليه وآله فيها، وهل خرج كل موسم تمر المدينة شيصاً، أم تمر الذين أطاعوا النبي صلّى الله عليه وآله فقط..الخ.
قال النووي في المجموع(١١/٣٥٣): (أبصر النبي صلّى الله عليه وآله الناس يلقحون النخل فقال: ما للناس؟ قالوا: يلقحون، فقال:لا لقاح! أو لا أرى اللقاح يغني شيئاً! قال فتركوا اللقاح فخرج تمر الناس شيصاً، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : ما شأنه؟ قالوا:كنت نهيت عن اللقاح! فقال: ما أنا بزارع ولا صاحب نخل، لقحوا)!
أقول: عنون له مسلم باباً في صحيحه، طاعناً بالنبي صلّى الله عليه وآله بأنه ساذج!
وقال المناوي في فيض القدير (٣ / ٦٦): ( قال بعضهم: فبيَّن بهذا أن الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا أحذق الناس في أمر الوحي والدعاء إلى الله تعالى، فهم أسرج الناس قلوباً من جهة أحوال الدنيا، فجميع ما يشرعونه إنما يكون بالوحي وليس للأفكار عليهم سلطان).
أي أبسط الناس! ولم يبين المناوي حدود حذاقة النبي عليهم السلام وذكائه في أمور الآخرة، وسراجته وبلاهته في أمور الدنيا!
وأما الشعراوي الصوفي صاحب ابن عربي، فتفضل على نبينا صلّى الله عليه وآله بأن معرفته بأمور الدنيا اكتملت لما كبر! قال في العهود المحمدية/١١٤: (قال بعض العارفين: ولم يمت صلّى الله عليه وآله حتى صار أعلم الناس بأمور الدنيا).
< صفحة > 188 < / صفحة >
وأما السرخسي فأخذ المعنى الجنسي للتلقيح! قال في مبسوطه (٢٣/١٠٩): (تلقيح النخل أنواع معلومة عند أرباب النخيل، منها ما يشترى فيدق ويذرُّ على مواضع معلومة من النخيل، ومنها ما يوجد من فحولة النخل، مما يشبه الذكر من بني آدم ثم يشق النخلة التي تحمل، فيغرز ذلك فيها على صورة الوطأ بين الذكور والإناث. ولمَّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله هذا النوع من أهل المدينة فاستقبحه ونهاهم عن ذلك، فأحشفت النخل في تلك السنة! فقال: عهدي بثمار نخيلكم على غير هذه الصفة! قالوا: نعم وإنما كانت تجيد الثمار بالتلقيح، فانتهينا إذ منعتنا فأحشفت! فقال: إذا أتيتكم بشئ من أمر دينكم فاعملوا به، وإذا أتيتكم بشئ من أمور دنياكم فأنتم أبصر بدنياكم).
أقول: ما جواب السرخسي وأمثاله إن قيل لهم: كيف تقبلون هذا الحديث المخالف للقرآن والعقل؟ وأنتم تعرفون أن التمر عصب اقتصاد المدينة يومذاك كموسم القطن في ساحل مصر وموسم الحنطة في سَرَخْس؟ فهل يعقل أن يكون أهل المدينة ساذجين، فيقبلون عدم تلقيح نخلهم وخسارة موسمهم! وأن تكون هذه الحادثة حصلت في المدينة خرَّبت موسمها ولم ينتشر خبرها، ولم يعرفها إلا عائشة وابن عمها طلحة. ولم يسمِّ الناس عامها: عام الشيص أو عام اجتهاد النبي الخاطئ!
ولماذا لم يقل أحد للنبي صلّى الله عليه وآله : هل نسيت ما بلغته عن الله تعالى من شمول نظام الزوجية لكل ما تنبت الأرض؟ كقوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَئٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.وقوله: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. فلماذا تحرم التلقيح!
ولماذا لم يشنع بها اليهود على النبي صلّى الله عليه وآله ولم تصل الينا إلا من طلحة وعائشة؟!
اللهم غفرانك، فقد كذبت قريش على نبيك صلّى الله عليه وآله في حياته لتأخذ خلافته حتى قام خطيباً محذراً، ثم كثرت عليه الكذابة بعد وفاته!

أصل المشكلة أن عمر قال: نقبل من السنة ونرفض!

أصل المشكلة أن عمر تجرأ وواجه النبي صلّى الله عليه وآله في مرض وفاته وقال إنه يهجر، وأيده الطلقاء الذين سكن ألوف منهم المدينة، ثم طبق عمر رأيه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله .
روى ابن عساكر (٤٠/٥٠١): ( عن عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذافة، وأبا الدرداء، وأباذر،
< صفحة > 189 < / صفحة >
وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا أتنهانا! قال لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت! فنحن أعلم نأخذ ونرد عليكم. فما فارقوه حتى مات).
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ(١/٧): (أن عمر حبس ثلاثة ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبامسعود الأنصاري فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله)!
وفي رواية: أنه حبسهم حتى أطلقهم عثمان.
وروى الدارمي(١/١٣٦): ( ثنا الأوزاعي، حدثني أبوكثير، حدثني أبي قال: أتيت أباذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنْهَ عن الفتيا! فرفع رأسه إليه فقال: أرقيبٌ أنت عليَّ! لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها)!
أقول: هذه النصوص صريحة في أن مؤسس مقولة أن سنة النبي صلّى الله عليه وآله قد تكون من اجتهاده، هو نفسه الذي رفض السنة وقال إنه يهجر، وحسبنا كتاب الله!
وقد أطاعه طلقاء قريش الذين ملؤوا المكان في مرض النبي صلّى الله عليه وآله ، وقالوا: لا تقربوا له شيئاً، القول ما قاله عمر! ثم أطاعه المحدثون والفقهاء والمفتون من علماء السلطة الى يومنا هذا، وقالوا ليس كل السنة حجة، والقول ما قاله عمر!
وقد اعترف محمد رشيد رضا في تفسير المنار فقال:(١٠/٧٦٦ و: ١٩/ ٥١١) على كبار الصحابة وفضحهم بأنهم لم يريدوا جعل كل سنة النبي صلّى الله عليه وآله من الدين! قال: ( إذا أضفت إلى هذا ماورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه بل في نهيهم عنه، قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث كلها ديناً عامَّاً دائماً كالقرآن)!
وكبار الصحابة عنده عمر وأبوبكر، وبيدهم بزعمه أن یجعلوا هذا وذاك من الدين أو لا یجعلوه!

أجمعت المذاهب السنية على أن النبي صلّى الله عليه وآله يجتهد وقد يخطئ!

قال الناصبي محمد رشيد رضا في تفسير المنار(١٠/٤٠٢):(وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهاداً منه صلّى الله عليه وآله فيما لانص فيه من الوحي، وهو جائز وواقع من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم،
< صفحة > 190 < / صفحة >
وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل، ويؤيده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم يلقحونها فقال: ما أظن يغني ذلك شيئاً. فأخبروا بذلك فتركوه ظناً منهم أن قوله هذا من أمر الدين فنفضت النخل وسقط ثمرها، فأخبر بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل. رواه مسلم).
وقال محمد بن عبد الوهاب في كتابه: تفسير آيات من القرآن/٢٥٢: (الثاني: ما يتعلق بأحوال الأنبياء وفيه مسائل: الأولى: أن النبي يجوز عليه الخطأ. الثانية: أنه يجوز عليه النسيان).
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج (١٠/٢١٣): (ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن الرسول صلّى الله عليه وآله كان يجوز له أن يجتهد في الأحكام والتدبير، كما يجتهد الواحد من العلماء، وإليه ذهب القاضي أبويوسف، واحتج بقوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ).
أقول: فسروا: بِمَا أَرَاكَ اللهُ، أي باجتهادك وما تصل اليه! مع أن الآية: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ، أي أراك من الوحي والقرآن.
وقال السلمي في شرح العقيدة الطحاوية ( ٢ /٢٠): ليس هناك مانع من أن يخطئ النبي في غير الوحي، فإن الوحي لا يخطئ فيه النبي، لكن غير الوحي يمكن أن يحصل منه الخطأ، فإذا حصل منه الخطأ فإنه يتوب منه في الدنيا، وأما الكبائر فإنهم معصومون منها).
وزعم السرخسي بأن اجتهاد النبي متقلب كاجتهاد عمر، فقد حكم بسبعين رأياً في قضية واحدة، قال في المبسوط (١٦/٨٤): «روي أن عمر كان يقضي في حادثة بقضية ثم ترفع إليه تلك الحادثة فيقضي بخلافها! فكان إذا قيل له في ذلك قال: تلك كما قضينا، وهذه كما نقضي! وقال الشعبي: حفظت من عمر في الجد سبعين قضية لا يشبه بعضها بعضاً! وبهذا يتبيَّنُ أنَّ الاجتهاد لاينقص باجتهاد مثله، ولكنه فيما يستقبل يقضي بما أدى إليه اجتهاده ».
وقال الشيخ أبوزهرة في تفسيره (٤/١٧٤١): (ويجرنا الكلام في هذا إلى الكلام في اجتهاد النبي صلّى الله عليه وآله : هل طاعته واجبة فيه بإذن من الله، وبعبارة أخرى: أهو لا يخطئ فتجب الطاعة، ويكون ما ينتهي إليه في الإجتهاد هو كالموحى به؟ والجواب عن ذلك: أنه يجوز الخطأ على النبي صلّى الله عليه وآله في الإجتهاد
< صفحة > 191 < / صفحة >
في بيان بعض الأحكام، ويجوز الخطأ عليه في القضاء إذا لبس الخصوم.
والخطأ الأول قد وقع فقد اجتهد مع أصحابه في معاملة الأسرى، وخطأهم الله في اجتهادهم في ذلك الموضع! وقد فرض صلّى الله عليه وآله جواز الخطأ في القضاء، فقد قال: إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من البعض الآخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار.
وقال القرطبي في تفسيره ملخصاً (١١/٣٠٩): (اختلف العلماء في جواز الإجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم وجوزه المحققون، لأنه ليس فيه استحالة عقلية، لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء، كما لو قال له الرب سبحانه وتعال: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة، فهذا غير مستحيل في العقل.
فإن قيل: إنما يكون دليلاً إذا عدم النص وهم لايعدمونه. قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم.
والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ وعن الغلط وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك.
كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبوعلي ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلّى الله عليه وآله مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده من يستدرك غلطه ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطه.
وقد قيل إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها: إعتدي حيث شئت ثم قال لها: أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. وقال له رجل: أرأيت لو قتلت صبراً محتسباً أيحجزني عن الجنة شئ؟ فقال: لا. ثم دعاه فقال: إلا الديْن كذا أخبرني جبريل عليه السلام ).
وقال الشيخ أبوزهرة في تفسيره (٤/١٧٤١): (وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذا اختلفوا، فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، وقد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على البحث
< صفحة > 192 < / صفحة >
عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق، وله أجران أجر في الإجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. وهذا سليمان قد صادف العين المطلوبة وهي التي فهم.
ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور.
وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل، بل وكَل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب، ومن أخطأ فهو معذور مأجور، ولم يتعبد بإصابة العين بل تعبدنا بالإجتهاد فقط.
وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، المطلوب إنما هو الأفضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه، والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد منهم أن يقع الإنحمال(يقصد الحمل) على قوله دون قول مخالفه.
ومنه رد مالك للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس على الموطأ، فإذا قال عالم في أمر حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست بخطأ، وعلى هذا يحملون قوله عليه السلام : إذا اجتهد العالم فأخطأ، أي فأخطأ الأفضل)!
فقد جعلوا النبي صلّى الله عليه وآله كغيره من المجتهدين يخطئ وينطق عن الهوى! ونحن نمنع ذلك. أما حدیث إمکان خطئه في القضاء فهو لیس خطأ لأنه مأمور أن یقضي بالظواهر بالأیمان والبینات، وهو یعلم الحق أین ولا یقضي به.

وافقنا الجبائي المعتزلي فرد مقولة اجتهاد النبي صلّى الله عليه وآله

قال الزركلي في الأعلام(٦/٢٥٦): (الجُبائي- ٢٣٥ - ٣٠٣: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، أبوعلي: من أئمة المعتزلة، ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة الجبائية، له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب. نسبته إلى جُبى من قرى البصرة، اشتهر في البصرة، ودفن بجُبى).
وقد أورد الفخر الرازي في تفسيره (٢٢/١٩٦) أدلة الجبائي، وتمحل في ردها، قال: (احتج الجبائي
< صفحة > 193 < / صفحة >
على أن الإجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور:
أحدها: قوله تعالى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ. وقوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
وأجاب الرازي عن الآية الأولى: في إبدال آية بآية، ولا علاقة لها بالإجتهاد، وعن الثانية بأن اجتهاده صلّى الله عليه وآله عن وحي! وكلا الجوابين ضعيفان.
وقال الجبائي: وثانيها: أن الإجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إدراكه يقيناً فلا يجوز مصيره إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يجتهد.
وأجاب الرازي بأن الحكم هنا مقطوع به والظن غير واقع فيه بل في طريقه!
وهذا تلبيس من الرازي لأن النتيجة ظنية.
وقال الجبائي: ثالثها:أن مخالفة الرسول توجب الكفر لقوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. ومخالفة المجتهدات لا توجب الكفر.
وقال الرازي: إن مخالفة المجتهدات ليست جائزة مطلقاً. ويقصد أن مخالفة اجتهادات النبي صلّى الله عليه وآله جائزة أحياناً، والذي يعين ما يجوز مخالفته من اجتهادات النبي صلّى الله عليه وآله هو
الحاكم القرشي! فقد جعله أفضل من النبي صلّى الله عليه وآله !
وقال الجبائي: ورابعها: لو جاز أن يجتهد ففي الأحكام غير جائز عليه.
وقال الرازي: لعله عليه السلام كان ممنوعاً من الإجتهاد في بعض الأنواع. وهو كما ترى ففيه لعل وفيه البعض، وكلاهما يبطل رده.
وقال الجبائي:وخامسها: أن الإجتهاد إنما يجوز المصير إليه عند فقد النص، لكن فقدان النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الإجتهاد منه.
وقال الرازي: يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور! وهو واهٍ كما ترى!
وقال الجبائي:وسادسها: لو جاز الإجتهاد من الرسول لجاز أيضاً من جبريل وحينئذ لايحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل.
وقال الرازي: إن إجماع الأمة على خلافه. لكن هذا يؤيد كلام الجبائي.
< صفحة > 194 < / صفحة >
ثم استدل الرازي على جواز الإجتهاد على النبي بوجوه:
أحدها: إذا غلب على ظن النبي أن هذا حكم الله، وعنده مقدمة يقينية هي أن مخالفة حكم الله توجب استحقاق العقاب، فيتولد ظن استحقاق العقاب على مخالفة هذا الحكم المظنون. وهذا جارٍ في حق الأنبياء وحق جبرئيل عليهم السلام .
وجوابه: أنه استدل بأن ظن العقاب يجعل المظنون منجزاً وهو أجنبي عن حجية الظن وجواز العمل بالظن للنبي صلّى الله عليه وآله !
ثم قال الرازي: وثانيها:قوله تعالى: ُيخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. أمرالكل بالإعتبار فوجب اندراج الرسول فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم.
وجوابنا: أن هذا من عدم فهمه للعربية ومن تلبيسه، وهذا عامٌّ في علماء السنة العجم، فقد استدلوا بقوله تعالى: إعتبروا، على وجوب الإعتبار أي القياس. والسبب أن الإعتبار في الفارسية الوزن فتصوروا أن قوله تعالى فَاعْتَبِرُوا، أي زنوا، والوزن هو القياس، أي قيسوا الأمور والأحكام!
ولذلك تجد في كتب الفقه وأصول الفقه على المذهب الحنفي بحوثاً مطولة عن الإعتبار حتى أن بعضهم كتب خمس مائة صفحة في الإستدلال على القياس بآية: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. مع أنها أجنبية عن القياس! ومعناها: خذوا العبرة من بني قريظة كيف أوصلهم ظلمهم وحقدهم الى أن مزقوا عهدهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وانضموا الى الأحزاب، فلما جاء الأحزاب خافوا أن يقاتلوا المسلمين معهم، ولما انهزم الأحزاب وانسحبوا حاصرهم النبي صلّى الله عليه وآله وحكم عليهم بالجلاء وأن لهم ما حملته دوابهم وإبلهم، فكانوا يقلعون أبواب بيوتهم ويأخذوها، فأنزل الله فيهم: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. أي خذوا العبرة من الكفر والخيانة!
ثم قال الرازي:
وثالثها: أن الإستنباط أرفع درجات العلماء فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل، وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب!
< صفحة > 195 < / صفحة >
وجوابه: أن هذه التلبيسة كمن قال: إن التوبة رحمة ودرجة، وهي لا تنال إلا بالمعصية، فيجب أن يكون للنبي معصية حتى ينالها! وهذه هرطقة يهودية!
ثم قال الرازي:
ورابعها: العلماء ورثة الأنبياء. فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الإجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك. وجوابه: أنهم يرثون عنهم العلم وليس الظنون!

استدلت دار الإفتاء المصرية بآية يحكمان في الحرث

جاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية(٨/١٥٤): (ذكرالقرطبي في تفسيره لقوله تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا. أن العلماء اختلفوا فى جواز الإجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم وجوزه المحققون لأنه ليس فيه استحالة عقلية، فالعقل دليل شرعي وهو يكون إذا لم يوجد نص، وفي بعض الأحيان لا يكون هناك نص فى مسألة، بل لهم الإجتهاد فى النص. وهم معرضون للخطأ فيه إلا أن الله سبحانه لا يقرهم على خطئهم.
وذكر القرطبى أن النبى صلّى الله عليه وآله سألته امرأة عن العدة، فقال لها: إعتدي حيث شئت. ثم قال لها: أمكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. وقال له رجل: أرأيت لو قتلت صبراً محتسباً أيحجزنى عن الجنة شيئ؟ فقال لا. ثم دعاه فقال إلا الديْن، كذا أخبرنى جبريل عليه السلام .
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وآله استشار أبابكر وعمر في شأن أسرى بدر، ثم اختار رأى أبي بكر، وأقره الله عليه وأباح له فداءهم وأحل له المال الذي أخذه فدية، قال تعالى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا.
كما ثبت أنه قبل اعتذار بعض المنافقين عن تخلفهم عن الغزوة بناء على ما أبدوه من أعذار، فنزل فى ذلك قوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. فالخلاصة أن الأنبياء لهم الإجتهاد فيما لم يرد فيه نص، وفي فهم المراد من النص، ويجوز عليهم الخطأ على رأي الجمهور، إلا أنهم لا يُقرون على خطئهم، وقد وقع الإجتهاد من بعضهم كداود وسليمان ومن سيدنا محمد صلّى الله عليه وآله وصوره كثيرة، وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وآله استعمل القياس فى اجتهاده، فقد صح
< صفحة > 196 < / صفحة >
فى البخارى أن امرأة من جهينة قالت له: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال:حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالقضاء.
وروى مسلم أن رجلاً قدم من جيشان باليمن فسأل الرسول صلّى الله عليه وآله عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال له أومسكر هو؟ قال: نعم، فقال: كل مسكر حرام. وإذا كان الرسول ص اجتهد فللمسلمين فيه أسوة حسنة، أى يجوز لهم الإجتهاد فى حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
فقد أقر سعد بن معاذ فى بني قريظة حيث حكم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وأخذ أموالهم وقال له: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات.كما رواه البخاري ومسلم.
ولما توجه الصحابة إلى بني قريظة قال لهم:لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة. فوقف بعضهم عند النص احتراماً له ولم يصل العصر إلا فى بني قريظة وقد فات الوقت. وفهم بعضهم من النص أن المراد هو الإسراع والمبادرة فصلى العصر قبل الوصول إلى بنى قريظة حفاظاً على الوقت، ولما ذكروا ذلك للنبى صلّى الله عليه وآله لم يعنف واحداً منهم، رواه البخارى ومسلم.
وإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن حين قال فى القضاء: أقضي بالكتاب فإن لم أجد فبالسنة، فإن لم أجد أجتهد رأيي ولا آلو، حيث قال له: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله. رواه أبوداود والترمذي).
والجواب:
أما قوله تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ..فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ. فقد تذاكروا فيها في مجلس داوود عليه السلام ، فأوحاها الله الى سليمان عليه السلام ، وليس في ذلك اجتهاد.
وأما آية: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فقد فسرناها في كتاب ألف سؤال وإشكال، وبينا أنها من مكذوبات قريش على النبي صلّى الله عليه وآله ، فقد كانت بدر إرغاماً لأنف قريش بيد علي عليه السلام والأنصار، حيث قتلوا منهم سبعين، وجروا سبعين أسارى أذلاء، ثم أخذوا فداءهم عن كل واحد نحو أربعة آلاف درهم، فكانت ثقيلة
< صفحة > 197 < / صفحة >
جداً على القرشيين، وحتى على المسلمين منهم الذين مازال فيهم حب قريش، فكذبوا على النبي أنه لم يثخن في الحرب والذي لم يثخن بعض المسلمين، وأنه أخطأ في أخذ الفداء! وأنه عصى ربه في ذلك فعاقبه الله بالهزيمة وبجرحه!
وكله كذب من قرشيين (مسلمين) لمصلحة قريش! وقد بلغ بهم الأمر أن سودة بنت زمعة زوجة النبي صلّى الله عليه وآله كانت تستنكر أسر القرشيين وتحرض سهيل بن عمر قائلة: كيف أعطيتم بأيديكم! فقال لها النبي صلّى الله عليه وآله : أعلى رسول الله تحرضين!
وأما قوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. فليس فيه اجتهاد، فقد كان جائزاً له صلّى الله عليه وآله أن يأذن لمن يرى بأن يتخلف عنه، فأذن لبعضهم فتخلف عنه في غزوة تبوك، فقال له الله تعالى كان عدم الإذن أولى لتكشفهم، وهذا ليس اجتهاداً بالمعنى المصطلح.والآية ليست عتباً على النبي صلّى الله عليه وآله وتوبيخاً له لأنه اجتهد وأخطأ، كما صوره علماء السلطة، بل هو خطاب للأمة وللمتخلفين منها!
قال الإمام الرضا عليه السلام جواباً لسؤال المأمون: هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة! خاطب الله عز وجل بذلك نبيه صلّى الله عليه وآله وأراد به أمته وكذلك قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. وقوله عز وجل: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا. فقال المأمون: صدقت يا بن رسول الله). (التوحيد/١٨٠).
فليس في المسألة اجتهاد من النبي صلّى الله عليه وآله وعتاب وتوبيخ له، كما زعموا.
وأما وصف النبي صلّى الله عليه وآله قضاء الحج بأنه كقضاء الدين، فهو إخبار بأن قضاء الصوم عليها دين حقيقي، وليس فيه اجتهاد ولا قياس.
وأما قوله صلّى الله عليه وآله : كل مسكر حرام، فهو إعطاء قاعدة وليس فيه اجتهاد.
وأما حكم سعد في بني قريظة فليس اجتهاداً منه بل هو عمل بتخويل الله ورسوله بالحكم.
وأما اجتهاد المسلمين في قوله صلّى الله عليه وآله : لايصلين أحد إلا في بني قريظة، فهو اجتهاد في تطبيق النص لا في أصل الحكم.
وأما اجتهاد معاذ بن جبل فأصل الحديث مكذوب لأن النبي صلّى الله عليه وآله لم يرسله قاضياً على اليمن،
< صفحة > 198 < / صفحة >
بل أرسله لجمع الصدقات من أهل نجران، لما أراد مقرضوه منه أن يبيعه لهم النبي صلّى الله عليه وآله بديونه! وقد وثقنا ذلك في السيرة النبوية.
هذا، ونلاحظ أنهم يريدون أن يجعلوا كل تصرفات النبي صلّى الله عليه وآله اجتهادات من عنده، ويثبتوا خطأ كثير منها ليقولوا إنه يجتهد وقد يخطئ!
ثم يقول أتقياؤهم إن الله لا يقره على خطئه بل ينبهه، ولا نرى تنبيه الله عز وجل لرسوله صلّى الله عليه وآله فيما زعموه من اجتهاده وخطئه إلا توبيخه في لعن قريش وأمره بطاعة عمر في حجب نسائه، وتنبيه عمرله في قطع نخل خيبر وغيرها!

انتقص القرشيين قدر النبي صلّى الله عليه وآله ورفعوا من قدر عمر وأبي بكر!

فقد كذبوا على النبي صلّى الله عليه وآله في حياته، ليبطلوا ذمه لقريش ومدحه لعترته عليهم السلام .
ثم منعوه في حياته من كتابة سنته صلّى الله عليه وآله ما استطاعوا!
ثم صادروا ما جمعه المسلمون من سنته بعد وفاته وأحرقوه!
ثم نهوا عن التحديث عنه وضربوا من يفعله من الصحابة وحبسوه!
ولم يكتفوا بهذه الأساليب الأربعة، بل زادوا أسلوباً خامساً أخبث من الجميع، وهو الطعن في شخصية النبي صلّى الله عليه وآله ليسقطوا حجية سنته!
وقد أخذنا في: ألف سؤال وإشكال على المخالفين لأهل البيت عليهم السلام (٢/١٧٧): البخاري نموذجاً في أحاديثه التي تطعن في عصمة النبي صلّى الله عليه وآله ، علماً أنه يوجد أضعافها في مصادرهم الأخرى!
فقد تبع البخاري قريشاً في تهوكها وطعنها بعصمة الأنبياء عليهم السلام ! ففي نبينا صلّى الله عليه وآله انضمت القرشيات إلى الإسرائيليات وتتعاونتا في طعن خبيث في شخصيته صلّى الله عليه وآله !
فقد بدأ البخاري كتابه عن بدء الوحي بالفرية القرشية التي زعمت أن النبي صلّى الله عليه وآله من الأساس لم يكن على يقين من نبوته، بل كان في شك وحيرة! وأن قسيساً طمأنه بأنه نبي! ثم انقطع عنه الوحي فغضب وقرر أن ينتحر!
ثم زعم البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله غير معصوم حتى في تبليغ رسالة ربه، فقد غلبه الشيطان فخان الرسالة وغيَّر القرآن! واستبدل ذم أصنام قريش بمدحها وقال: أرأيتم اللات والعزى
< صفحة > 199 < / صفحة >
ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى! وسجد لها هو والمشركون، فعبد الأصنام وكفر بربه! وأن أحد المشركين لم يستطع السجود فحمل كف حصى ورفعه الى جبهته!
ثم زعم البخاري، أن نبينا صلّى الله عليه وآله ليس أفضل من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام ! فموسى على عيوبه ومعاصيه أفضل منه، ويونس على تركه قومه ومغاضبته خير منه، وعيسى خير منه ومن جميع الأنبياء!
وزعم البخاري رابعاً، أن نبينا صلّى الله عليه وآله عصبي المزاج سئ الأخلاق، غير مسدد في منطقه ولذا ينطق عن الهوى ويسب ويشتم ويلعن بغير حق! كما أنه غير مسدد في عمله فقد يؤذي ويجلد الناس ظلماً وعدواناً!
وزعم خامساً، أن النبي صلّى الله عليه وآله ساذج ضعيف الشخصية والتدبير، يقع في أخطاء فظيعة، فيصححها له عمر، وينزل الوحي موبخاً له مؤيداً لعمر!
وزعم سادساً، أن النبي صلّى الله عليه وآله ظلم قومه بطون قريش، في بدر وأخذ منهم أسارى بغير حق، وأخذ من الأسرى فدية مقابل إطلاقهم، فعاقبه الله بهزيمته وجرحه وكسر أسنانه في أحد!
وزعم البخاري سابعاً، أن النبي صلّى الله عليه وآله غير مسدد في حكمه وقضائه بين المسلمين، فقد يقضي لشخص بالباطل لأنه حاذق في كلامه!
وزعم ثامناً، أن النبي صلّى الله عليه وآله ينهى عن الأمر ويرتكبه، فقد نهى المسلمين عن التمني وقول ( لو) لكنه تمنى وقالها مرات!
وزعم تاسعاً، أن النبي صلّى الله عليه وآله صاحب ذهن مشوش ينسى كثيراً، فقد نسي أنه جُنُب فلم يغتسل وبدأ في صلاته! كما نسي عدد ركعات الصلاة ونقَّص منها وزاد فيها! وأخطأ في قراءة القرآن في صلاته، فصحح له بدوي من أخر المسجد!
وعاشراً: زعمت عائشة أنه صلّى الله عليه وآله سُحِرَ ففقد ذاكرته وسقط شعره! وظل شهوراً مسحوراً يتصور أنه فعل الشئ وهو لم يفعله، وأتى زوجته ولم يأتها!
حادي عشر: زعم البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله مفرط في الجنس، يأتي نساءه التسعة في ليلة واحدة،
< صفحة > 200 < / صفحة >
ويباشر زوجته وهي حائض، ويتبذَّل تبذلاً لايناسب وجيهاً اجتماعياً عادياً، فيبول وهو واقف، ويستقبل ضيوفه وهو مضطجع، ويستمع الغناء ويشاهد الرقص، ويشرب النبيذ!
ثاني عشر: زعم البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله كان مغرماً بزوجته عائشة، فكان يفضلها على زوجاته ويستمع معها الغناء من مغنيتين لها، ويحملها على كتفه ويضع خده على خدها لتشاهد من شباك الغرفة رقص الأحباش، ويأخذها معه في غزواته، وربما ترك جيشه وسابقها، وقد سبقها مرة، وسبقته مرة!
وقد نشرت عائشة أكثر من ألفي حديث، تضمنت العجائب من قصص حياتهما الشخصية حتى نومهما معاً، بما لا يناسب زوجين مسلمين محافظين!
**

رفعوا عمر الى درجة فوق العصمة وفوق النبي

روى البخاري حديث الرزية في كتابه سبع مرات! وسماها ابن عباس رزية يوم الخميس! وسيأتي بحثها.
ورووا أن عمر بن الخطاب كان محافظاً أكثر من النبي صلّى الله عليه وآله فقال له أحجب نساءك فلم يفعل، فأنزل الله آية الحجاب، وأمره بما أمره به عمر!
وافتروا على النبي صلّى الله عليه وآله بأنه كان يشتم الناس ويلعن ويؤذي ويضرب بدون حق! أما عمر فكان غضبه حقاً وعزاً! وكذبوا على النبي صلّى الله عليه وآله لإبطال اللعن بأنه اعترف بأنه غير معصوم، وأنه يغضب كما يغضب الإنسان العادي فيسب ويلعن ويؤذي ظلماً وعدواناً! وأنه دعا لمن لعنهم بأن يجعل الله لعنته عليهم: صلاةً وقربةً، وزكاةً وأجراً، وزكاةً ورحمةً، وكفارةً له يوم القيامة، وقربةً تقربه بها يوم القيامة، ومغفرةً وعافيةً..وبركةً ورحمةً ومغفرةً وصلاةً.. وكذا وكذا.. على حدِّ تعابيرهم!ورووها بعشرات الروايات في أصح كتبهم!
وقال البخاري في صحيحه (٧ / ١٥٧) ( وهو محمد بن إسماعيل بن برد زبه البخاري الخرتنكي مولى بني جُعف): (باب قول النبي صلّى الله عليه وآله من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلّى الله عليه وآله يقول: اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة)!
< صفحة > 201 < / صفحة >
وروى مسلم: (وهو مولى بني قشير مسلم بن حجاج النيشابوري) في صحيحه (٨/٢٥): (عن أبي هريرة أن النبي ( ص) قال: اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأيُّ المؤمنين آذيته أو شتمته أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة).
ورواه بسبع روايات أخرى!
وقالت عائشة (مسند أحمد: ٦/١٦٠): ( كان رسول الله يرفع يديه يدعو حتى أسأم!ويقول: اللهم إنما أنا بشر فلا تعاقبني بشتم رجل من المسلمين إن آذيته). ونحوه (٦/٢٢٥ و ٢٥٨).
وقالت (٣ / ٣٣): (فأي المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة).
وكلها مكذوبات لرفع لعن الملعونين القرشيين، والطعن في سنة النبي صلّى الله عليه وآله !

سؤالهم النبي صلّى الله عليه وآله : أهذا منك أو من الله؟!!

إن مجرد طرحهم السؤال للنبي صلّى الله عليه وآله : أهذا منك أو من الله، فإن كان من الله قبلنا، وإن كان منك فلا نقبل، صريحٌ بأنهم لا يؤمنون بعصمته عن الهوى!
يعني أنهم يفرقون بين أمر الله تعالى وأمر نبيه صلّى الله عليه وآله ، فيزعمون أنهم يطيعون الله، ولا يطيعون الرسول في هذا الأمر.
ومعناه أنهم لايؤمنون بقوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. بل يعتبرون قول النبي صلّى الله عليه وآله فعلاً منه فلا تجب طاعته!
إنهم يعرفون جيداً معنى قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ.
ولكنهم يحتالون ليعصوا النبي صلّى الله عليه وآله بحجة أن هذا الأمر منه لامن الله تعالى.
وكل غرضهم إسقاط مدح بني هاشم، وذم بطون قريش!

انتقصت قريش النبي صلّى الله عليه وآله وجعلت تعظيم عمر ديناً يدان به !

فقالت إن الشيطان يهرب من عمر ولا يهرب من النبي صلّى الله عليه وآله !
< صفحة > 202 < / صفحة >
ففي مجمع الزوائد(٨/٢٦٧): (عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال: دخلت على أبي الطفيل عامر بن واثلة فوجدته طيب النفس، فقلت يا أبا الطفيل أخبرني عن النفر الذين لعنهم رسول الله صلّى الله عليه وآله قال قال: اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد من المؤمنين دعوت عليه بدعوة فاجعلها له زكاة ورحمة. رواه الطبراني في الأوسط واللفظ له، وأحمد بنحوه، وإسناده حسن).
هذا عن غضب النبي صلّى الله عليه وآله وإيذائه للمؤمنين ولعنهم وضربهم!
أما عن غضب عمر، فقالوا إن الله أجرى الحق على لسانه وقلبه في الرضا والغضب! وإن الملائكة تحدثه، والملك ينطق على لسانه.
وإن جبرئيل جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقال له: أقرئ عمر السلام،وأعلمه إن رضاه حكم وغضبه عز! فشهد له الله بزعمه بأنه معصومٌ في الرضا والغضب.
وقال السرخسي في المبسوط(٢/١٧٩): قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :إن ملكاً ينطق على لسان عمر رضي الله عنه.وقال: أينما دار عمر رضي الله عنه فالحق يدور معه.
وقال المناوي في فيض القدير(٢/٢٧٨): ( إن الله جعل الحق، يعني أجراه على لسان عمر، فكان كالسيف الصارم والحسام القاطع.
قال الطيبي: جعل بمعنى أجرى فعدَّاه بعلي، وفيه معنى ظهور الحق واستعلائه على لسانه، ووضع جعل موضع أجراه، إيذاناً بأن ذلك كان خلقاً ثابتاً لازماً مستقراً في قلبه، فكان الغالب على قلبه جلال الله، فكان الحق معتمله، حتى يقوم بأمر الله وينفذ بمقاله وحاله، وفاء بما قلَّدَه الله الخلق من رعاية هذا الدين الذي ارتضاه لهم.
ومن ثم جاء في خبر: إن غضبه عزٌّ ورضاه حكم، وذلك لأن من غلب على قلبه سلطان الحق فغضبه للحق عز للدين، ورضاه عدل لأن الحق هو عدل الله، فرضاه بالحق عدل منه على أهل ملته. ومعنى رضاه حكم: أنه إذا رضي رضي للحق).
وفي تاريخ دمشق لابن عساكر(٤٤/٧١): ( أن جبريل أتى النبي فقال: أقرئ عمر السلام، وأعلمه أن غضبه عز ورضاه عدل).
وفي تاريخ دمشق (٤٤/٧٢): ( عن عقيل بن أبي طالب أن النبي صلّى الله عليه وآله قال لعمر بن الخطاب:
< صفحة > 203 < / صفحة >
إن غضبك عز ورضاك حكم). ( ورواه أبوالشيخ ابن حبان في طبقات المحدثين بأصبهان: ٢ / ٣٤، وابن أبي شيبة في المصنف: ٧ / ٤٨٦ و ٤٨٧، والطبراني في الأوسط: ٦ / ٢٤٢، والكبير: ١٢ / ٤٨، ومجمع الزوائد: ٩ / ٦٩، وفي كنز العمال: ١٠ / ٣٦٥، عن مصادر متعددة بروايات كثيرة، وفي: ١٢ / ٥٩٦ و ٦٠٣ وج:١١/٥٧٨ و٥٧٩، بعدة روايات فيها: إن الله عز وجل عند لسان عمر وقلبه. إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه. لو لم أبعث فيكم لبعث عمر. أيد الله عز وجل عمر بملكين يوفقانه ويسددانه، فإذا أخطأ صرفاه حتى يكون صواباً).
فتأمل في هذه المصيبة حیث یقدسون عمر و یطعنون بالنبي صلّى الله عليه وآله ، فینقضون الدين من أساسه!

الأخطاء النبوية والتصحيحات العمرية!

الوضع الطبيعي للعلاقة بين النبي صلّى الله عليه وآله وعمر أن تكون علاقة مسلم تابع بنبيٍّ متبوع مُطاع، لكن عمر كان كثير الإعتراض على النبي صلّى الله عليه وآله !
والصحيح ما قرره مذهب أهل البيت عليهم السلام من أن الإعتراض على النبي صلّى الله عليه وآله أمرٌ عظيم لأن الله تعالى قال عنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
لكن عمر ومحبيه ركبوا رؤوسهم وقالوا إن اعتراضات عمر كانت دائماً مصيبة، بينما كان النبي صلّى الله عليه وآله يقع في الخطأ! وكان الوحي ينزل مؤيداً لرأي عمر منتقداً رأي النبي صلّى الله عليه وآله ، بل كان أحياناً يوبِّخ النبي صلّى الله عليه وآله معاذ الله!
فالنبي صلّى الله عليه وآله عندهم رجلٌ ساذج، يقع في أخطاء فيصححها له عمر! وكأن المطلوب أن يثبتوا لعمر فضائل، ولو بالطعن في النبي صلّى الله عليه وآله ! وقد ألفوا في هذا الطعن المغطى كتباً ونظموا أراجيز وسموها(موافقات عمر) ومعناها:موافقات الله تعالى لرأي عمر، ولو بتخطئة رأي النبي صلّى الله عليه وآله !
ففي الأعلام للزركلي (٢/٦٣):( أبوبكر بن زيد بن أبي بكر الحسني الجراعي الدمشقي( ٨٢٥ - ٨٨٣) له… نفائس الدرر في موافقات عمر).
وفي (٣/٣٠١): (الجلال السيوطي.. قطف الثمر في موافقات عمر).
وفي (٧/٤٤): ( محمد بن جمال سراج الدين عمر، من علماء حلب، واستقضيَ بدمشق والقاهرة. له كتب منها.. الموافقات العمرية للقرآن الشريف).
وفي معجم المؤلفين (٢/٢٢): (أحمد بن النقيب المقدسي..له الموافقات التي وقعت في القرآن لعمر
< صفحة > 204 < / صفحة >
بن الخطاب).
وفي إيضاح المكنون(١/٤٤٧): ( الدر المستطاب في موافقات عمر بن الخطاب، لحامد بن علي بن إبراهيم العمادي، المفتي الدمشقي الحنفي م. سنة ١١٧١).
وفي (٢/٦٥٨): ( نظم الدرر في موافقات عمر لبدر الدين محمد الغزي).
وفي هدية العارفين (١/٤٩٧): ( ابن البدر الخطيب البعلي الدمشقي. من اقتطاف الثمر في موافقات عمر).
وفي (٢/٢٣٣): ( محمد بن محمد بن بدر بن مفرج بن بدر بن عثمان الغزي…من تصانيفه… شرح نظم الدرر في موافقات عمر).
وقال ابن حجر في فتح الباري (١/٢٠٠): ( وروى البزار بإسناد حسن، من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وآله أذن لمعاذ في التبشير، فلقيه عمر فقال: لا تعجل، ثم دخل فقال: إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها! قال: فَرُدَّهُ! وهذا معدودٌ من موافقات عمر، وفيه جواز الإجتهاد بحضرته صلّى الله عليه وآله !
وقال في فتح الباري(٧/٤٢)، وتحفة الأحوذي (١٠/١٢٥): (فإن يك في أمتي أحد أي من المحدثين فعمر بن الخطاب. والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلّى الله عليه وآله من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي صلّى الله عليه وآله عدة إصابات).
وفي تاريخ المدينة لابن شبة (٣ / ٨٥٩): (موافقاته رضي الله عنه…قال ابن عمر: ما أنزل الله أمراً قط فقالوا فيه وقال فيه عمرإلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر)! (أحمد(٢/٩٥) والترمذي (٥/٢٨٠).
وروى عن ابن عمر أن النبي قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)!
ثم ذكرعمر بن شبَّه عدداً من موافقات الله تعالى لعمر، بعضها واضح الكذب، وبعضها محرَّف، وفي بعضها تخطئة صريحة للنبي صلّى الله عليه وآله !
فهل تقبل عقولكم أن يكون خير البشر وأفضل الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وآله بهذه المهانة التي تنسبونها اليه! فيخطئ في الأمور ويصيب عمر؟
وهل تقبل عقولكم أن عمر أفضل من النبي صلّى الله عليه وآله وأولى بالنبوة!
< صفحة > 205 < / صفحة >
ونختم بذكر عناوين افتراءتهم في الموضوع من كتابنا: ألف سؤال وإشكال:
مسألة ١٤٥: افتروا على النبي صلّى الله عليه وآله بأنه كان يشتم ويلعن ويؤذي ويضرب! بعكس عمر!
مسألة ١٤٦: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يعمل بالظن وينطق عن الهوى، بعكس عمر!
مسألة ١٤٧: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله بأنه ساذج، لم يسمع بتلقيح النخل فخرب الموسم!
مسألة ١٤٨: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله أمر بقطع كروم الطائف ونخيل خيبر فوبخه عمر!
مسألة ١٤٩: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله أمر المسلمين بذبح جمال جيش تبوك، فوبخه عمر!
مسألة ١٥٠: رووا أن النبي صلّى الله عليه وآله تأخر عن صلاة العشاء فصاح به عمر!
مسألة ١٥١: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس فأيقظه عمر!
مسألة ١٥٢: زعموا أن عمر انشغل يوم الخندق فصلى آخر الوقت أما النبي صلّى الله عليه وآله ففاتته!
مسألة ١٥٣: منهجهم في تعظيم عمر وتكبير شخصيته!
مسألة ١٥٤: اتهموا النبي صلّى الله عليه وآله بأنه كان يذبح للأصنام، وأن ابن عم عمر أتقى منه!
مسألة ١٥٥: زعموا أن عمر أمر النبي صلّى الله عليه وآله أن يحجب نساءه، فلم يطعه فنزل الوحي!
مسألة ١٥٦: اعتراض عمر على النبي صلّى الله عليه وآله لماذا أعطى قوماً من غنائم حنين!
مسألة ١٥٧: اعتراض عمر على نبينا صلّى الله عليه وآله لصلاته على جنازة منافق فأيده الله!
مسألة ١٥٨: زعم عمر أنه أصاب في أسرى بدر، وأن النبي صلّى الله عليه وآله أخطأ فعاقبه الله!
مسألة ١٥٩: انقلاب الأمة على النبي صلّى الله عليه وآله في حياته بقيادة عمر!
مسألة ١٦٠: قول عمر عندهم سنةٌ مطاعة، يردون به سنة النبي صلّى الله عليه وآله !
مسألة ١٦١: محمد صلّى الله عليه وآله هو النبي الفعلي. لكن عمر أيضاً له درجة النبوة!
مسألة ١٦٢: تعظيمهم لأي خليفة قرشي وتفضيله على الرسول الهاشمي صلّى الله عليه وآله !
المسألة ١٦٤: نسبوا القسوة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وقالت عائشة إن أباها وعمر أرحم منه!
**
< صفحة > 206 < / صفحة >

الفصل الخامس والخمسون : أجمع علماء الشيعة على أن كل أفعال النبي وحيٌ لا اجتهاد

النبي صلّى الله عليه وآله معصوم بلطف الله تعالى عن الخطأ والنسيان!

في صراط النجاة للسيد الخوئي والتبريزي( ٣/٤٤٤): (هل من الممكن أن يخطئ النبي في تبليغ آية أو ينساها في وقت معين ثم يصحح ما أخطأ به بعد ذلك، وهل من الممكن أن يتصدى لأمر من خلال أوضاعه الشخصية التي تكون متأثرة بضغوط داخلية أو خارجية، ثم يتراجع؟ أفتونا مأجورين:
جواب: إذا أمكن خطأ النبي في تبليغ آية أو نسيانها جاء احتمال الخطأ والنسيان في تصحيحه بعد ذلك أيضاً، وهذا مستلزم لبطلان النبوة، لاستلزامها العصمة،كما يدل عليه قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. وأما الشق الثاني من السؤال فهو باطل لأن مقتضى عصمة النبي صلّى الله عليه وآله أن لايتصدى، ولا يسعى لأي عمل إلّا إذا كان مطابقاً للوظيفة الشرعية، ولا يصدر منه أي أمر أو نهي إلا إذا كان مطابقاً للوحي، كما هو مفاد الآية المباركة: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ).
وفي ظلال نهج البلاغة للشيخ محمد جواد مغنية (٣ /١٩٧): (في كتب أصول الفقه للسنة بحث خاص في أن النبي هل له أن يجتهد ويحكم بما يرى. فأجاز ذلك جماعة ومنعه آخرون. وقال الشيعة بكلمة واحدة: إن النبي لا يجتهد إطلاقاً ولاينطق بحكم من الأحكام إلا عن الوحي، بدليل ما رواه السنة والشيعة أن المسلمين كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وآله في كثير من الأحيان عن بعض أمورهم فيقول: ما عندي بهذا علم من الله، ثم ينزل القرآن بالحكم فينبئهم النبي به. وكان يقول ويكرر: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.
< صفحة > 207 < / صفحة >
ونعطف على ذلك:أن القول بجواز الإجتهاد على النبي صلّى الله عليه وآله يفتح لأعداء الإسلام الطعن والشك فيه، وأن بعضه من ظن الرسول صلّى الله عليه وآله واستحسانه.
وعليه يفلت الزمام ويهبط الإسلام من السماء إلى الأرض.
كلا، إن الاسلام واحد لا يتجزأ، إنه رسالة الله من ألفه إلى يائه، ولا شائبة فيه للأرض وأهل الأرض: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَه ُ شَدِيدُ الْقُوى. والإسلام حين يجرد البشرية كلها من حق التشريع يجرد في الوقت نفسه كل إنسان من حق السيطرة والإستعلاء على غيره، ويضع الجميع على مستوى واحد أمام الله، ولا يبقي لأحد فضلاً وامتيازاً على آخر إلا بما يقدم من عمل صالح، وبالتالي يبطل مزاعم الذين يرون لأنفسهم حقوقاً مقدسة.
ومن بحث عن أسباب الآلام التي عانتها وتعانيها الآن الإنسانية، وجدها أو وجد أكثرها يعود إلى القوانين التي شرّعها الإنسان لمصلحته كفرد، أو لمصلحة مجموعة من الأفراد يرتبط بهم المشرع بسبب من الأسباب.
أما الديانة المسيحية فإنها ربطت الدين بأصوله وفروعه، ودعائمه وأحكامه ربطته بإرادة الكنيسة ورجالها، الذين خاطبهم إنجيل متي الإصحاح ١٨فقرة ١٨ وقال لهم: « كل ما تربطونه في الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تُحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء.
فالكنيسة هي تحلل وتحرم ثم تنسخ متى تشاء ما حللت وحرمت! ومن هنا جاء تجريد السيد المسيح من طبيعة الناسوت، والغفران والحرمان وبيع أذرع في السماء والجنة، وتحريم زواج الاكليروس، ولكن الكنيسة الإنكليزية التي حرمت الزواج على رجال الدين أباحت اللواط، كما أن بابا رؤساء برأ اليهود من دم السيد المسيح، وضرب بعرض الجدار النص الذي جاء في إنجيل متى.. إلى الكثير الكثير.. وكله عندهم حق من عند الله! ولا أدري كيف ينسب دين إلى الله، وهو من أوهام الناس؟
وكان من نتيجة هذه السلطة ثورة الملوك والأقوياء في أوروبا على الكنيسة لتدخلها في شؤونهم، وانفصال السياسة عن الدين، ولكن الثورة انتقلت من الحاكمين إلى داخل الاكليروس أنفسهم، فمنذ بضع سنوات ثار جماعة منهم في هولندا على سلطة البابا، ومن مطالبهم الرئيسية السماح بالزواج لرجال الدين، وقامت ثورة مماثلة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
< صفحة > 208 < / صفحة >
ويستحيل أن يحدث هذا بين المسلمين لاتفاق مذاهبهم على أن التشريع لله وحده: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ).
وقرأت في جريدة « أخبار اليوم » المصرية (تاريخ ٣١-١٢- ١٩٦٦) نقلاً عن كتاب « الإسلام في التاريخ الحديث » لصاحبه « ويلفريد سميث » ما نصه بالحرف: إن الإسلام نتيجة لتميزه بالقوة الروحية صمد للأحداث بعد انهيار الدولة العربية في بغداد عام ١٢٥٦ م. وأرغم الفاتحين من المغول والتتار الذين قضوا على الدولة الإسلامية، أرغمهم الإسلام على اعتناقه، مما أدى إلى تجدد الدولة الإسلامية بعد انتقال الحكم فيها من العرب إلى الأتراك العثمانيين، وإلى اتساع الرقعة الجغرافية للإسلام على أيدي الأتراك، ولا شك في أن هذه القوة الروحية هي التي مكّنت الإسلام من الصمود أمام السيطرة الغربية في السنوات الأخيرة.
قال «راسل» في كتاب « السلطان » فصل العقائد منابع السلطان: « لا ريب في أن الديانة التي جاء بها محمد كانت عنصراً أساسياً في النجاح الذي حققته بلاده وحققه قومه.. وقد أظهر المسلمون منذ بداية عهدهم تسامحاً في التعامل مع المسيحيين الذين أخضعوهم، ولا ريب أن الفضل في سهولة فتوحاتهم واستقرار أمبراطوريتهم يعود إلى هذا التسامح الذي يبدو بارزاً إذا ما قورن بالحماسة التعسفية والإضطهادية التي عرفت بها الكنيسة).

منطق النبي صلّى الله عليه وآله وفعله وسكوته بوحي ربه!

قال الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.
فالآية صريحة في أن كل حرف ينطقه النبي صلّى الله عليه وآله حق، ووحي من الله تعالى، وليس مثل كلام الناس ينشأ من رغبة الشخص وهواه في شيئ أو أمر. فكل كلامه صلّى الله عليه وآله سنة واجبة الإتباع كآيات القرآن. وهذا مقام عظيم لم يبلغه أحدٌ من أنبياء الله ورسله صلّى الله عليه وآله .
وواضح لكل ذي لب أن نفي الهوى عن منطق النبي صلّى الله عليه وآله يلزمه نفي الهوى عن فعله بطريق أولى، فمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، تقتضي ولايفعل عن الهوى، فكل أفعاله حق وسنة، يجب على المسلمين التأسي والإقتداء بها.
< صفحة > 209 < / صفحة >
وبهذا الميزان، نعرف أن قول بعض الصحابة إن النبي صلّى الله عليه وآله بشر يرضى ويغضب فيقول في الرضا والغضب! كما قالوا لعبد الله بن عمرو العاص وأمروه بأن لا يكتب كل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وآله ! نعرف أن قولهم يدل على عدم إيمانهم بالنبي صلّى الله عليه وآله ، بل يدل على نفاقهم!
وكذلك سؤال بعض الصحابة عن فعله صلّى الله عليه وآله : أمنك هذا أم من الله، فإن كان من الله قبلنا وإن كان منك فلا نقبل.
وكذلك قول القرشيين: حابى ابن عمه! لما رفع بيد علي عليه السلام وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وقال علي وليكم بعدي.
وكذلك قولهم إن كلامه اجتهاد منه وليس وحياً من الله تعالى لتجب طاعته!
فكلها محاولات للتفريق بين قول النبي صلّى الله عليه وآله وقول ربه، وبين أمره وأمر ربه، تكشف عن أنهم اشترطوا على ربهم في إسلامهم أن يكون لهم حق الإنتقاء فيقبلون من الإسلام ما أحبوا ويتركون ما لا يحبون! فهم من الذين قال تعالى لهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ! وقال عنهم: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
وواضح لكل ذي لب أن: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، تعني أن نطقه وسكوته صلّى الله عليه وآله لايكون عن الهوى بل من الوحي، لأن السكوت فعل من الأفعال. وإن قلنا ليس السكوت فعلاً بل عدم الكلام، فإن الكلام لايكون إلا بوحي فعدمه بعدم الوحي، وعدم وحي الله الكلام للنبي صلّى الله عليه وآله وحيٌ بالسكوت.
نعم الفرق بين الكلام والسكوت أن الكلام يفسر نفسه، والسكوت يحتاج الى تفسير، لأنه أنواع متعددة، فقد يدل على الإقرار والرضا، وقد يكون مراعاة للناس، او اعتراضاً، أو إعراضاً..الخ.

أنواع الوحي الستة

أما كيف يتم وحي الله تعالى الى نبيه صلّى الله عليه وآله فقد ذكرنا في الفصل الثاني عشر أن أنواع الوحي ستة، أما تسديد منطقه بالوحي فهو بأن يلقي الله في قلبه صلّى الله عليه وآله : قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلا وَحْيًا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِي حَكِيمٌ.
< صفحة > 210 < / صفحة >
وَحْيًا: أي يكلمه فيوحي اليه مباشرة بدون جبرئيل عليه السلام .
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ: أي يكلمه الله تعالى فيخلق كلامه في شيئ ويكلمه من وراء ستر.
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً: أي يكلمه بواسطة رسل من الملائكة كجبرئيل وغيره عليهم السلام .
فالوحي بالتكليم ثلاثة أنواع: بالوحي المباشر وهو الذي يصاب فيه الموحى اليه بالغشية ويتصبب عرقاً، وبالتكليم من وراء حجاب، وبالتكليم بالرسل.
ويضاف اليها ثلاثة أنواع بدون تكليم: بالرؤيا الصادقة، وبالنقر في السمع، وبالقذف في القلب. وهذه الأنواع الستة هي أنواع الوحي الأساسية.

دلالة سكوت النبي صلّى الله عليه وآله

لىس سكوت النبي صلّى الله عليه وآله عن فعل أو قول بمعنى رضاه به كما زعم فقهاء المذاهب الأربعة! بل هو تابع للقرائن، فقد يدل على إقراره ورضاه إذا وجدت قرينة لذلك، وقد يكون مراعاة للناس، وقد يكون إعراضاً يتضمن الإنكار، وقد يكون اعتراضاً..الخ.
لقد أفتوا بأكل الضب لأن النبي صلّى الله عليه وآله أعرض عنه ولم يأكله ولم ينطق بتحريمه! وكذا الحشرات والسباع كالذئب وابن آوى وحتى الكلاب، والجوارح آكلة اللحوم! أفتوا بأن أكلها حلال لأن النبي صلّى الله عليه وآله سكت عنها!
وقد ورد في عيون أخبار الرضا عليه السلام (١/٢٨٥) قول الحسين عن أبيه عليهما السلام في صفات النبي صلّى الله عليه وآله قال: (فسألته عن سكوت رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. فأما التقدير ففي تسويه النظر والإستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى. وجمع له الحلم في الصبر فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه وجمع له الحذر في أربع: أخذه الحسن ليقتدى به وتركه القبيح لينتهى عنه.
ومعنى الحلم: أنه صلّى الله عليه وآله لايريد أن يجيب المسيئ اليه، بل يعرض عنه.
والحذر: احتياطه صلّى الله عليه وآله أن يكون كلامه مضراً للطرف الآخر، لأنه لا يتحمله أو لايفهم هدفه، أو يستغله من يسمعه.
ومعنى التقدير:السياسة وتقدير المصلحة مع المخاطب ومن يصل اليه كلامه صلّى الله عليه وآله ، فيرى
< صفحة > 211 < / صفحة >
أن السكوت أصلح.
والتفكر: كما إذا سألوه وكان ينتظر أمر ربه فيه، فيسكت بانتظار الوحي.
مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٣٤، والعدد القوية /١٢٠، وأحمد: ١ / ٩٦، والحاكم:٢ /٦٠٥، ومجمع الزوائد: ٨ / ٢٧١ و ٢٧٦، وابن أبي شيبة: ٧ / ٤٤٦، وشمائل الترمذي / ١٥، ومسند أبي يعلى: ١ / ٣٠٤، والأحاديث الطوال / ٧٨، والمعجم الكبير: ٢٢ /١٥٥، والفايق: ٢ / ١٨٦، الطبقات الكبرى: ١ / ٤٢٢، والشفا لعياض:١ /١٥٥، وغيرها.
هذا، وفي سيرة النبي صلّى الله عليه وآله أنواع السكوت، وله أنواع من الدلالات.
ولعل أول سكوته لما أنذر عشيرته الأقربين ودعاهم الى الغداء، وأراهم معجزة إشباع أربعين رجلاً بطعام قليل، وأراد أن يتكلم(فبدرهم أبولهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل، فسكت النبي صلّى الله عليه وآله يومئذ فلم يتكلم). (العمدة/٧٦). فعاود دعوتهم في اليوم الثاني وكلمهم وأنذرهم.

ما ينطق عن الهوى رد على مشركي قريش وعلى منافقيها في المدينة

فقد كانت قريش في مكة تقول إن نبوته عن هوى وغرض دنيوي لتأسيس دولة لبني هاشم. ثم قال منافقوها في المدينة إن غضبه على قريش ولعنه إياهم من الهوى. وإن مدحه لعترته لينصبهم أئمة من بعده من الهوى! فأجابهم الله تعالى بأنه ما ينطق عن الهوى ولا يفعل عن الهوى.
ووقد كشفوا موقفهم بصراحة في قولهم لعبد الله بن عمرو العاص: لا تكتب ما يقوله محمد، فإنه بشر يغضب فيقول ويذم ويلعن، ويرضى فيقول ويمدح عترته، فقوله من الغضب البشري والرضا خطأ وليس حجة. وسنأخذ دولته بعد وفاته ونبطل ذمه لقريش، ومدحه لبني هاشم!
ومنه لعنه لزعماء بطون قريش لعناً مشدداً، ومدحه لعترته الأطهار مدحاً مؤكداً! وقد واصل سيرته في ذلك في بعثته كلها في مكة والمدينة، وكان هذا يؤرق قريشاً حتى الذين أسلموا منها، كأبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ثم عمرو العاص وخالد..
فقد كانوا متعصبين لقريش! ولذلك (نصحوا) النبي صلّى الله عليه وآله أن يرجع ولايقاتل قريشاً في بدر، ثم نصحوه أن لا يأخذ منهم أسرى وفدية، وكانت علاقتهم بزعماء قريش جيدة حتى أن زعماءها أوصوا في معركة أحد وغيرها أن لا يقتل أحدٌ أحداً من هؤلاء، ولحق عمر ضرار
< صفحة > 212 < / صفحة >
بن الخطاب وهو ليس أخ عمر، ووضع الرمح بين كتفيه، وقال إحفظ هذه عندك! وقد حفظها له فجعله في خلافته والياً! ثم تحالفوا مع سهیل بن عمر و أیدوا مطالیبه.

ارتكب الصحابة القرشيون الكذب لإبطال مرجعية سنة النبي صلّى الله عليه وآله !

كان القرشيون الذين أسلموا وهاجروا الى المدينة نحو عشرين نفراً، وقد بقي فيهم التعصب لقريش فكانوا يتألمون عندما يذم النبي صلّى الله عليه وآله قريشاً ويلعنهم، ويحسدون بني هاشم والعترة عندما يرونه يمدحهم ويرفع بمقامهم.
فاخترع المتعصبون لقريش مقولات شيطانية لإبطال سنة النبي صلّى الله عليه وآله بأن لهم الحق أن ينتقوا من سنته ما يريدون، ويرفضوا ما لا يريدون!
وحجتهم أن النبي صلّى الله عليه وآله بشر يرضى فيقول وقد يخطئ، ويغضب فيقول وقد يخطئ، فلا يجوز أن نعتبر سنته حجة كالوحي، ولا يجوز أن ندونها!
روى أبوداود (٢/١٧٦): (عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله بشريتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتاب! فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)! والحاكم:٣/٥٢٨، وصححه، وأحمد:٢/١٩٢.
فالذين نهوه عن الكتابة شيوخ قريش في المدينة وهم أبوبكر وعمر لا غير!
وقال عبد الله بن عمرو إن هؤلاء الذين نهوه عن كتابة السنة كانوا يكذبون على النبي صلّى الله عليه وآله في حياته! قال: (كان عند رسول الله ناس من أصحابه وأنا معهم وأنا أصغر القوم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار! فلما خرج القوم قلت: كيف تحدثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد سمعتم ما قال! وأنتم تنهمكون في الحديث عن رسول الله! فضحكوا فقالوا: يا ابن أخينا إن كل ما سمعته منه عندنا فيه كتاب)! (الزوائد:١/١٥١).
فهم قرشيون لقولهم له:يا ابن أخينا! وهم يكذبون على النبي صلّى الله عليه وآله عمداً مع أنهم سمعوه لتوِّهم يحذر من يكذب عليه بالنار! فضحكوا عليه وقالوا له: أيها الولد إن ما نسبناه اليه من الأقوال مكتوب عندنا، فلا تخف!
< صفحة > 213 < / صفحة >
أما وقت القصة فبعد إسلام عمرو العاص وخالد بعد خيبر، في السنة السابعة!
فقد نهى القرشيون عن كتابة سنة النبي صلّى الله عليه وآله في حياته، ثم أحرقوا ما جُمع منها بعد وفاته! حيث أن بعض الأنصار جمعوا قسماً من سنة النبي صلّى الله عليه وآله فأرسل أبوبكر وجمعها منهم فتخيلوا أنه يريد أن يبني عليها، أو يضيف اليها.. لكنه أحرقها!
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ(١/٥): ( قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيراً! قالت فغمني فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشئ بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها!فقلت لمَ أحرقتها؟ قال خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذاك)!
أما عمر فأحرق السنة ولم يتأرق أبداً! قال ابن سعد (٥/١٤٠): (عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم يملي عليَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها)!
هؤلاء القرشيون يريدون أن يقبلوا من الإسلام الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله والقرآن إيماناً مبهماً، بقدر ما يبرر أخذهم دولة النبي صلّى الله عليه وآله وأكلهم الدنيا باسمه!
قال أمير المؤمنين عليه السلام (شرح النهج:٢٠ /٢٩٨):«ولولا أن قريشاً جعلت إسمه صلّى الله عليه وآله ذريعة إلى الرياسة وسُلَّماً إلى العز والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً!
ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمِجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت لولا أنه حق لما كان كذا! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها! فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين! فكنا نحن ممن خمل ذكره وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير ممن يعرف ونشأ كثير ممن لا يعرف ».
**
< صفحة > 214 < / صفحة >

الفصل السادس والخمسون : حذفوا من السيرة سيطرة قريش سنتين على مكة بعد فتحها

خضعت قريش للنبي صلّى الله عليه وآله عند فتح مكة ثم نقضت ذلك!

في السنة الثامنة لهجرته فاجأ النبي صلّى الله عليه وآله قريشاً في مكة ببضعة آلاف مقاتل، فأسقط بأيديها ورأت أنها لا طاقة لها بقتاله، فجاءه أبوسفيان الى مركز قيادته، فأراه النبي صلّى الله عليه وآله عرضاً للمقاتلين، وأرسل معه بياناً الى أهل مكة: من ألقى سلاحه فهو آمن، من دخل داره فهو آمن، فطلب أبوسفيان أن يعطيه النبي صلّى الله عليه وآله شيئاً فقال له: ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن!
ودخل النبي صلّى الله عليه وآله مكة فاتحاً فخضع له زعماء قريش، وخطب في المسجد فقال: يا معشر قريش لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم وطردتم، وأخرجتم وفللتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني! يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟
قال سهيل بن عمر: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فعفا عنهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء، ولم يقل عتقاء!
وقال الطبري (٢/٣٣٧): (فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً وكانوا له فَيْئاً، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء).
قال البيهقي(٥/٥٨):(فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام)
فالنبي صلّى الله عليه وآله استرقهم فصاروا عبيداً له ولاؤهم له، ولأهل بيته عليهم السلام .ثم أطلقهم ولم يعتقهم كما زعم الطبري، ولم يسقط حقه في إعادتهم الى الرق!
< صفحة > 215 < / صفحة >

دخل النبي صلّى الله عليه وآله مكة فاتحاً رحيماً

في الكافي(٤/٢٢٥) عن الإمام الصادق عليه السلام قال:« لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله مكة يوم افتتحها، فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست، فأخذ بعضادتي الباب فقال:لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نظن خيراً ونقول خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف:لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لاينفر صيدها ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها (لايحش حشيشها) ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر والبيوت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله إلا الإذخر ».
ودخل وقت الظهر فأمر بلال فصعد على الكعبة وأذَّن فقال عكرمة: والله إن كنت لأكره أن أسمع صوت ابن رباح ينهق على الكعبة!
وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أباعتَّاب من هذا اليوم من أن يرى ابن رباح قائماً على الكعبة!
وقال سهيل: هي كعبة الله، وهو يرى، ولو شاء لغير!
وقال أبوسفيان: لا أقول شيئاً والله لو نطقت لظننت أن هذه الجدر تخبر به محمداً! وبعث صلّى الله عليه وآله إليهم فأخبرهم بما قالوا! فقال عتَّاب: قد والله قلنا يا رسول الله ذلك، فنستغفرالله ونتوب إليه، فأسلم وحسن إسلامه).

عفا عنهم وأعطاهم الأمان ودعاهم الى حرب النجديين معه

أعطى النبي صلّى الله عليه وآله الأمان لجميع أهل مكة ما عدا بضعة نفرأصحاب جرائم خاصة مع النبي صلّى الله عليه وآله . وبقي في مكة أسبوعين وعين عليها حاكماً أموياً مسلماً هو عتاب بن أسيد، وعين له معاوناً من الأنصار، وأمر قريشاً بطاعته.
ثم ندبهم ليذهبوا معه الى قتال هوازن وهي تجمع قبائل نجد الذين قصدوا مكة ليحتلوها وعسكروا في حنين قرب مكة، فخرج القرشيون معه على تثاقلٍ وغِلٍّ وكان عددهم نحو ألفين،
< صفحة > 216 < / صفحة >
وعدد جيش النبي صلّى الله عليه وآله ستة آلاف وقيل عشرة، فانهزم خالد في خیل بني سلیم، وانهزم الجميع من أول كمين نصبته هوازن، وثبت النبي صلّى الله عليه وآله وبنو عبد المطلب فقاتل النبي صلّى الله عليه وآله قتالاً شديداً ثم حماه بنو هاشم، وكان علي عليه السلام وحده يقصد أصحاب الرايات أي قادة هوازن ويقطف رؤوسهم، فقتل أربعين منهم، فوقعت فيهم الهزيمة وكتب الله النصر لنبيه صلّى الله عليه وآله .

سنتان من حكم سهيل بن عمرو لمكة حذفوها من السيرة!

بحثنا ما فعلته قريش بعد فتح مكة في كتابنا: آيات الغدير/١٩٨وفي رسالتنا: صراع قريش مع النبي صلّى الله عليه وآله ، وقلنا إنها لم تعترف بفتح النبي صلّى الله عليه وآله مكة ولا بالحاكم الذي عينه عليها، وأول ما قامت به أنها عزلت عن قيادتها أباسفيان واتهمته بأنه تآمر عليها مع محمد صلّى الله عليه وآله !
قال في ابن هشام (٤ /٨٦٢) : لما رجع أبوسفيان ينادي قريشاً لوضع سلاحهم! ( فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: أقتلوا الحميتَ الدسم الأحمس(الزق الوسخ) قبحه الله من طليعة قوم)!
وفي الكامل في السقيفة للعماد الطبري(٢/٣٢١):لما سمعت هند المنادي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالت: والله لحري (فرجها)أوسع من دار أبي سفيان. وقبضت عليه من لحيته وجرته من ثيابه ورأسه وقالت: صبوت)!
فذهب أبوسفيان الى النبي صلّى الله عليه وآله معزولاً شاكياً، فعينه النبي صلّى الله عليه وآله مسؤولاً على جمع صدقات نجران في اليمن.
واختارت قريش بدل أبي سفيان زعيماً قوياً برأيها يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً، هو سهيل بن عمرو، العقل السياسي المفكر والداهية المخطط! وأجمع عليه رؤساء بطون قريش، وسرعان ما صار محور قريش، وورث زعماءها المستهزئين الخمسة، وعتبة والد هند، وأباجهل!
فسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، هو في نظرهم قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام: ٢ / ٤٨٩) لكنه صاحب تاريخ في مواجهة محمد صلّى الله عليه وآله فهو أحد الزعماء الذين فاوضوا أباطالب ليسلمهم محمداً صلّى الله عليه وآله ليقتلوه.
< صفحة > 217 < / صفحة >
وهو من أعضاء دار الندوة الذين اتخذوا قرار مقاطعة بني هاشم.
وهو أحد الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد صلّى الله عليه وآله بعد وفاة أبي طالب، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة!
وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم، فقد عذب ولده أباجندل ثم هرب منه الى المسلمين!
وهو أحد عشرة من أثرياء المشركين الذين كانوا يطعمون الجيش في بدر!
وهو أحد المنفقين أموالهم لتجهيز الناس لحرب النبي صلّى الله عليه وآله في أحد والخندق..
وأحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله بفعالياتهم الخبيثة، فلعنهم الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وآله أن يلعنهم في قنوت صلاته بأسمائهم! وفيهم نزلت آية: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. (تفسير الصنعاني:١/٢٤٢).

حكم سهيل مكة وشل عمل الوالي الذي عينه النبي صلّى الله عليه وآله

لم تعترف قريش بفتح النبي صلّى الله عليه وآله لمكة فقد كانت ترى أن حاكمها سهيل بن عمر، وأن عتاب بن أسيد الذي نصبه النبي صلّى الله عليه وآله حاكم مكة، ليس حاكمهم فهو من جماعة محمد صلّى الله عليه وآله ومن بني عمه الأمويين!
وقد أحكم سهيل سيطرته على مكة وتجاوز حاكمها عتَّاباً، وكان يراسل النبي صلّى الله عليه وآله باسم القرشيين على أنهم حلفاء له، لكن لهم دولتهم واستقلالهم!
وحاول أن ينتزع اعترافاً من النبي صلّى الله عليه وآله بذلك، فكتب اليه يطالبه بأن يعيد اليهم أناساً أسلموا وتركوا مكة، فعليه أن يعيدهم اليهم حسب بنود اتفاقيتهم معه في الحديبية، أي قبل سنتين من فتح مكة!
كتب إليه سهيل ذلك، ثم جاء على رأس وفد قرشي ونزلوا في المدينة في بيت عمر وجاء معهم عمر وأبوبكر الى النبي صلّى الله عليه وآله ، وأيدا مطلبه وكلامه بإرجاع من أراد، فكشف ذلك عن توافق بينهم بعد فتح مكة!
قال له سهيل هؤلاء الأبناء والعبيد زعموا أنهم هاجروا إليك ليتفقهوا في الدين، عملاً بالآية:
< صفحة > 218 < / صفحة >
فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ. فأرجعهم الينا، ونحن نفقههم!
رواه الحاكم(٢/١٣٨) وصححه بشرط مسلم:(لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وآله مكة، أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا! فشاور أبابكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله! فقال لعمر: ما ترى؟ فقال مثل قول أبي بكر! [فغضب رسول الله وقال]: يا معشرقريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضرب رقابكم على الدين! فقال أبوبكر:أنا هو يا رسول الله، قال:لا.قال عمر:أنا هويا رسول الله قال:لا ولكنه خاصف النعل في المسجد وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها).
وفي رواية الترمذي (٥/٢٩٨):( يا رسول الله، خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم)!!
وفي هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة:
منها: تأييد أبي بكر وعمر مطلب قريش، وهما يعرفان أنه حيلة لانتزاع اعتراف النبي صلّى الله عليه وآله بدولة قريش في مكة دولة مستقلة وليست مدينة مفتوحة تحت حكمه، وقد حذفت بعض الروايات غضب النبي صلّى الله عليه وآله من كلام سهيل ومن عاونه، لكنه ظاهر من ذمه لقريش وتهديده إياهم!
كما حذفت رواية أبي داود إسم أبي بكر وعمر! فلا بد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين سهيل وبين الشيخين! وهذا يكشف لنا سبب مجيئ عمر الى مكة بعد حنين! فقد استجاز النبي صلّى الله عليه وآله وزعم أن عليه نذراً بالعمرة! فأذن له وبقي في مكة مدة، عند سهيل وزعماء قريش!
ومنها: أن سهيل بن عمرو سهمي عامري، أحد زعماء المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم. وأبابكر التيمي وعمر العدوي، من قبيلتين لا وزن لهما في قريش، ولكن لهما اليوم وزن مهم عند قريش لأنهما من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله الذين يؤيدون مطالب سهيل وقريش ضد النبي صلّى الله عليه وآله وضد الإسلام!
ومنها: غضب النبي صلّى الله عليه وآله من تفكير قريش ووقاحتها! وقد أعلن يأسه من أن تسلم قريش وتستقيم وتترك كبرياء اليهود وفرعنتهم، وتخضع للحق، إلا بقوة السيف!
< صفحة > 219 < / صفحة >
ففي عدة روايات أنه قال لهم: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا أي على الإسلام! (الحاكم:٢/١٢٥، وأبوداود:١/٦١١، والبيهقي في سننه:٩/٢٢٩، وكنز العمال:١٠/٤٧٣! وهو تصريح نبوي بأنهم لم يسلموا، ولن يسلموا إلا تحت السيف!
ومنها: تهديد قريش بسيف الله وسيف رسوله علي عليه السلام الذي ترتعد منه فرائصهم، لأنهم ذاقوا منه الأمرَّيْن، فقد قتل في حروبهم مع النبي صلّى الله عليه وآله نصف أبطالهم أو أكثر، وقتل كل المسلمين البقية!
ونلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وآله كنَّى عن الشخص الذي سيبعثه الله تعالى على قريش فيضرب أعناقهم على الدين، بأنه أنا أو رجل مني (مجمع الزوائد:٩/١٣٣).
وسماه لما سأله الشيخان عنه فقال: أنا أو خاصف النعل(كنز العمال: ٧/٣٢٦) وغرض النبي صلّى الله عليه وآله من هذا الإجمال أن لا تتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها! بل تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً إلى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش!
وغرضه صلّى الله عليه وآله من تعبيرمني أن يبين مكانة علي عليه السلام وأن تعلم قريش أنه من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده وتموت منه غيضاً! فلو أنه صلّى الله عليه وآله قال لهم: إن علياً عليه السلام سيقاتلهم على تأويل القرآن بعد ربع قرن، كما قاتلتهم أنا على تنزيله بالأمس لطمعوا وقالوا: إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان، ولكل حادثٍ حديث!

أعلن علي عليه السلام أنه سيقاتل قريشاً في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وبعد وفاته!

من أجل تقوية موقف النبي صلّى الله عليه وآله وتخويف قريش من إعلان الردة، أعلن علي هذا الإعلان في زمن النبي صلّى الله عليه وآله ،كما رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، قال ابن عباس قال: (مجمع الزوائد:٩/١٣٤):(إن علياً عليه السلام كان يقول في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله : إن الله عز وجل يقول: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، والله لاننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت.لا والله! إني لأخوه، ووليه، وابن عمه، ووارثه، فمن أحق به مني)!
وقد روت هذا الحديث مصادرهم، كخصائص ا النسائي/١٨، والسنن الكبرى (٥/ ١٢٥) والطبراني الكبير (١/١٠٧) والحاكم ( ٣ / ١٢٦) والرياض النضرة (٢/٢٢٦).
< صفحة > 220 < / صفحة >
ومنها: أن النبي صلّى الله عليه وآله لم يعترف بإسلامهم ولابملكيتهم، لأنه لم يُرجع اليهم أبناءهم ومماليكم، وأعتق مماليكهم لأنه ملكيتهم غير شرعية، بل هم ومماليكم شرعاً مملوكون له ولأهل بيته عليهم السلام ، وإن أطلقهم فعلاً ولم يعتقهم!

رغم كل هذا واصلت قريش أعمالها العدائية للنبي صلّى الله عليه وآله !

فقد قامت قريش بعد فتح مكة بالأعمال التالية:
حاولت في حنين قتل النبي صلّى الله عليه وآله .
شلَّت عمل حاكم مكة الذي عينه النبي صلّى الله عليه وآله ، ولم تحج معه!
طالبت النبي صلّى الله عليه وآله بإرجاع من يذهب اليه مسلماً!
شكلت غرفة عمليات لأخذ خلافته وعزل عترته، من عمر وسهيل بن عمرو وأبي بكر وأبي عبيده. ومعهم عائشة وحفصة وفيهما نزلت سورة التحريم.
وسهلة بنت سهيل بن عمر، التي علمت عائشة رضاع الكبير وكذبت على النبي صلّى الله عليه وآله بأنه قال لها أرضعي سالماً وهو رجل كبير له لحية، فأرضعته ليحرم عليها.
وكان لهؤلاء اتصال باليهود، وقالوا لهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. أي اتفاقهم السري.
واتهموا زوجة النبي صلّى الله عليه وآله مارية القبطية عليها السلام ، ونفوا عنه ابنه إبراهيم عليه السلام .
وقد بحثنا الصحيفة الملعونة الثانية التي تعاهدوا فيها أن يعزلوا بني هاشم عن خلافة النبي صلّى الله عليه وآله ، ولا بد أنهم أطلعوا عليها سهيل بن عمرو فرحب بها!
قرروا اغتيال النبي صلّى الله عليه وآله في رجوعه من تبوك، وباشروا بذلك فأحبط الله خطتهم!
أعادوا محاولة اغتياله في رجوعه من حجة الوداع بعد غدير خم في عقبة هرشى!
قاموا بتغيير ديمغرافي في المدينة فنقلوا من مكة ألوف الطلقاء الى المدينة وكان ولاؤهم لسهيل بن عمرو ووكيله في المدينة عمر بن الخطاب!
أحبطوا خطة النبي صلّى الله عليه وآله لإرسالهم في جيش أسامة الى مؤتة، وكان فيهم أبوبكر وعمر وسبع
< صفحة > 221 < / صفحة >
مئة من قريش كما قال ابن حجر (فتح الباري:٨/١١٦) فيهم بضعة عشر من المهاجرين، والباقون من الطلقاء الذي حشدوهم في المدينة!
أقول: هذه الأعمال كانت في مدة سنتين بعد فتح مكة، وكانت بمشاركة سهيل بن عمرو ومساندته. وكان أخطرها التغيير السكاني للمدينة، فقد حشدوا الطلقاء فيها فنقل سهيل منهم عدة آلاف من مكة.
وقاموا في المدينة بحملة لتسقيط بني هاشم، وکرروا قولهم إن محمداً نخلة نبتت في مزبلة!
وقد واجهوا النبي صلّى الله عليه وآله جهاراً في مرض وفاته ورفضوا أن يكتب وصيته وعهده!
ولم يحضروا جنازة النبي صلّى الله عليه وآله يوم الإثنين والثلاثاء، لأنهم انشغلوا بإقناع الأنصار!
وركضوا الى بيت سعد بن عبادة وصفقوا على يد أبي بكر وأعلنوه خليفة!
وزفَّ الطلقاء أبابكر الى المسجد، وأرسل أبوبكر عمر وجماعة الى بيت علي وفاطمة عليهما السلام ومن معهم يهددونهم إذا لم يأتوا ويبايعوا بأنه سيحرق البيت عليهم!
وقد فصلنا ذلك في كتبنا: صراع قريش مع النبي صلّى الله عليه وآله ، والسيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ، وآيات الغدير، وألف سؤال وإشكال على المخالفين لأهل البيت الطاهرين.
**
< صفحة > 222 < / صفحة >

الفصل السابع والخمسون : رزية يوم الخميس ونجاح مؤامرة قريش ضد النبي صلّى الله عليه وآله !

المشكلة الأزمة عند قريش: لمن تكون خلافة محمد صلّى الله عليه وآله ؟

بعد البعثة بقليل أمره الله تعالى أن يدعو كل بني هاشم، وأنزل عليه من سورة الشعراء: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
فجمع النبي صلّى الله عليه وآله بني هاشم وكانوا أربعين رجلاً، ودعاهم إلى الإسلام واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته، كما أمره ربه عز وجل.
وانتشر الخبر فاعتبره زعماء قريش نبأً عظيماً، وأخذ يتساءلون عنه، وأنزل الله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ.
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ.كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. وأرسلوا أباسفيان الى النبي صلّى الله عليه وآله يسأل عن الخبر، فزعماء البطون لايهمهم مضمون دعوة النبي صلّى الله عليه وآله ولامعجزاته! لأنهم لا يفهمون النبوة إلا انشقاقاً هاشمياً على قريش ومشروعاً لرئاسة الهاشميين!
وقام أبوسفيان باستطلاع الأمر، وروايته بسند صحيح عندهم، رواها في مناقب آل أبي طالب (٢/٢٧٦) من تفسير القطان عن وكيع، عن سفيان عن السدي، عن عبد خير، عن علي قال: أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: يا محمد هذا الأمر بعدك، لنا أم لِمَنْ؟ قال: يا صخرالأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى! قال فأنزل الله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ).
وبسبب وجود هذا الطمع بخلافته، كان صلّى الله عليه وآله يشرط على كل من بايعهم أن لاينازعوا الأمر أهله من بعده! وكلهم بايعوا على هذا الشرط ونقضوه!
< صفحة > 223 < / صفحة >
وفي كل حياة النبي صلّى الله عليه وآله كانت أكبر مشكلة عند قريش أنه صلّى الله عليه وآله يسير قدماً في ترتيب الأمر بعده لعلي، وبعده للحسن والحسين أولاد ابنته فاطمة عليهم السلام ، وقريش لا تطيق علياً، ولا أحداً من بني هاشم.
ولما أخبرهم النبي صلّى الله عليه وآله في حجة الوداع بأنه دُعي الى لقاء ربه ويوشك أن يجيب، فرحت قريش وأخذوا ينتظرون!
ولما مرض النبي صلّى الله عليه وآله استنفرالقرشيون يعدون الأيام لينفذوا خطتهم بالصفق على يد أبي بكر وإعلانه خليفة!
وجاءت لحظة صعبة عليهم لما دعا النبي صلّى الله عليه وآله المسلمين في مرض وفاته ليعهد اليهم عهده ويكتب لهم وصيته، فازدحموا في حجرته وملأ الطلقاء المسجد والسكة مع أنه صلّى الله عليه وآله أمرهم أن يكونوا في معسكر أسامة، ولما طلب أن يقربوا له دواة وكتفاً ليكتب لهم كتاباً يؤمِّنهم من الإختلاف والضلال إلى يوم القيامة، فنهض عمر الذي رتبه سهيل والطلقاء رئيساً لقريش، وقال بكل جرأة: لاتقربوا له شيئاً حسبنا كتاب الله، إن نبيكم غلب عليه الوجع، وفي طبعة البخاري في الهند قال: إن نبيكم ليهجرفاستفهموه، أي ليتكلم لأريكم أنه يهذي!
فصاح الطلقاء من خلفه الذين أحضرهم سهيل وعمر من مكة: القول ما قاله عمر، القول ما قاله عمر، لا تقربوا له شيئاً! ومنعوا النبي صلّى الله عليه وآله من كتابة ذلك العهد! وأجابتهم بعض نساء النبي من وراء الحجاب وقلن: قربوا لنبيكم يكتب لكم! فشتمهن عمر! فأجابه النبي صلّى الله عليه وآله إنهن خير منكم!
وواصل عمر والطلقاء إصرارهم وشعارهم، فغضب النبي صلّى الله عليه وآله فأمره جبرئيل عليه السلام أن يطردهم، فطردهم وقال لهم: قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه!
أي إنكم تدعوني لأن أصرَّ عليكم، فتعلنوا الردة!
وقد وصف المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب/١٨٢، أجواء المواجهة في كتابه القيِّم: عدالة الصحابة، فكتب تحت عنوان: المواجهة الصاخبة:
«النبي على فراش الموت، وجبريل الأمين لا ينقطع عن زيارته، وأكثر ما كان يأتيه جبريل في مرضه. النبي على علم بمستقبل هذه الأمة وقد أدى دوره كاملاً وبلغ رسالات ربه، وبين لهم كل
< صفحة > 224 < / صفحة >
شئ على الإطلاق، وهو على علم تام بما يجري حوله، ومدركٌ أنه السكون الذي يسبق الإنفجار، فينسف الشرعية السياسية والمرجعية! وبنسف الشرعية السياسية والمرجعية يتجرد الإسلام من سلاحه الجبار ويتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة.
ولكن مثل النبي لاينحني أمام العاصفة، ولا يقعده شئ عن متابعة إحساسه العميق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة! وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة الإلهية والبيان الإلهي الشامل لكل شئ تحتاجه الأمة، بما فيه كيف يتبول وكيف يتغوط أفرادها، إلا أنه أراد أن يلخص الموقف لأمته حتى تهتدي وحتى لاتضل، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها فتعكر صفو الإسلام وتعيق حركته وتغير مساره!
النبي على فراش المرض، وبيته المبارك يغص بأكابر الصحابة، وقد أصر النبي على تلخيص الموقف والتذكير بالخط المستقبلي لمسيرة الإسلام، فقال: قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً.ماهو الخطأ بهذا العرض النبوي؟
من يرفض التأمين ضد الضلالة؟ ولماذا؟ ولمصلحة من؟
ثم، إن من حق أي مسلم أن يوصي، ومن حق أي مسلم أن يقول ما يشاء قبل موته، والذين يسمعون قوله أحرار فيما بعد بإعمال هذا القول أو إبطاله!
هذا إذا افترضنا أن محمداً مجرد مسلم عادي، وليس نبياً وقائداً للأمة.
فتصدى الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال: إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!
فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، ومنهم من يقول: القول ما قاله عمر!
فلما أكثروا اللغو والإختلاف عند النبي قال لهم رسول الله: قوموا عني!
وفي رواية ثانية أن الرسول عندما قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، تنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا هجر رسول الله! قال النبي: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه!.
< صفحة > 225 < / صفحة >
وفي رواية ثالثة، قال النبي: إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقالوا: إن رسول الله يهجر.
وفي رواية رابعة للبخاري: إن النبي قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي غلبة الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وأكثروا اللغط! قال النبي: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع.
رواية بلفظ خامس للبخاري: إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولاينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما شأنه أهجر؟ إستفهموه. فذهبوا يرددون عليه فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
رواية بلفظ سادس للبخاري: قال النبي: إئتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما له أهجر، استفهموه، فقال النبي: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
رواية بلفظ سابع للبخاري: قال النبي: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله! واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والإختلاف عند النبي قال: قوموا عني.
وفي رواية أن عمر بن الخطاب قال: إن النبي يهجر. وقد اعترف الفاروق أنه صد النبي عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الأمر لعلي!
تحليل المواجهة:
أطراف المواجهة: الطرف الأول، محمد رسول الله وخاتم النبيين وإمام الدولة الإسلامية «رئيسها».
الطرف الثاني، عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة، ووزير من أبرز وزراء دولة النبي، والخليفة الثاني من خلفاء النبي فيما بعد.
مكان المواجهة: بيت النبي.
< صفحة > 226 < / صفحة >
شهود المواجهة: كبار الصحابة رضوان الله عليهم.
النتائج الأولية للمواجهة:
١- الإنقسام: إن الحاضرين قد انقسموا إلى قسمين: القسم الأول: يؤيد الفاروق فيما ذهب إليه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد. وحجة هذا الفريق أن الفاروق من كبار الصحابة، وأحد وزراء النبي، ومشفق على الإسلام، وأن النبي مريض، وبالتالي فلا داعي لإزعاجه بكتابة هذا الكتاب. ثم إن القرآن وحده يكفي، فهو التأمين ضد الضلالة، ولا داعي لأي كتاب آخر يكتبه النبي!
القسم الثاني:يرفض المواجهة أصلاً بين التابع والمتبوع وبين نبي ومصدق به وبين رسول يتلقى تعليماته من الله، وبين مجتهد يعمل بما يوحيه له اجتهاده وبين رئيس دولة ونبي بنفس الوقت وبين واحد من وزرائه.
ويرى هذا القسم أن تتاح الفرصة للنبي ليقول ما يريد، ولكتابة ما يريد لأنه نبي وما زال نبياً حتى يتوفاه الله، ولأنه رئيس الدولة وما زال رئيساً للدولة حتى يتوفاه الله ويحل رئيس آخر محله.
ثم على الأقل، لأنه مسلم يتمتع بالحرية كما يتمتع بها غيره، ومن حقه أن يقول ما يشاء وأن يكتب ما يشاء. ثم إن الأحداث والمواجهة تجري في بيته فهو صاحب البيت ومن حق أي إنسان أن يقول ما يشاء في بيته.
وقال المحامي الأردني: برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت أن تحول بين النبي وبين كتابة ما يريد،واستطاعت أن تستقطب لرأيها عدداً كبيراً من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور النبي نفسه»! انتهى كلام المحامي.
أقول: جاء انقلاب يوم الخميس ثمرة لصراع قريش مع النبي صلّى الله عليه وآله الذي أخذ منحى جديداً بعد فتح مكة، فقد قرر زعماء قريش أن يخوضوا معه المواجهة حول خلافته وأن تكون مواجهتهم بزعامة عمر! ونشطوا في إسكان الطلقاء في المدينة ليشدوا ظهر عمر، فبلغوا ثلث أهل المدينة أو نصفها! لأن القرشيين الذين كتبهم النبي في جيش أسامة سبع مئة! (فتح الباري:٨/١١٦).
و قد أخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله أن أمته ستختلف بعده كالأمم السابقة فقال: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ
< صفحة > 227 < / صفحة >
مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
فكان النبي صلّى الله عليه وآله يؤكد على مكانة أهل بيته عليهم السلام ويحذر أمته أن يرتدوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، لأجل الحكم والخلافة!
وخطب فيهم في حجة الوداع خمس خطب بيَّنَ فيها كل ما ينبغي بيانه، وبشرهم بالأئمة الإثني عشر عليهم السلام من عترته بعده، وأكد على وجوب اتباعهم وإلا وقعوا في الضلال والإنهيار!
ثم في خطبته السادسة في غدير خم صلّى الله عليه وآله أخذ بيد علي عليه السلام وأصعده المنبر وأعلنه خليفته، وأمرهم أن يهنئوه ويبايعوه ففعلوا، وكان عمر أول المهنئين!
فقد روى الخطيب البغدادي، والحافظ الحسكاني، وابن عساكر، وابن كثير، والخوارزمي، وابن المغازلي بسند صحيح بشرط الشيخين عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشرمن ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلّى الله عليه وآله بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم)!
وفي مرض وفاته صلّى الله عليه وآله أمره ربه عز وجل أن يدعو أصحابه ويتم عليهم الحجة فعرض عليهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته: أن يضمن لهم أن يكونوا سادة العالم إلى يوم القيامة، بشرط أن يقبلوا حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وآله ويلتزموا بتنفيذ ما يكتبه لهم!
فانبرى له عمر بالنيابة عن قريش فرد عليه وأعلن رفضهم لعرضه! فشد ظهر عمر أكثر الحاضرين وصاحوا في وجه نبيهم: القول ما قاله عمر، أي لا نريد أن تكتب لنا كتاباً، ولا نريد أمانك من الضلال، فقد غلب عليك الوجع وفقدت الصلاحية العقلية فأنت خَرِفٌ!
لقد ردوا على رسولهم صلّى الله عليه وآله وأهانوه وحكموا عليه بأنه خرفان فقد عقله!
واختاروا الضلال عن عمد وإصرار، وصادروا من نبيهم صلّى الله عليه وآله قيادة الأمة وأعطوها إلى عمر، زعيم قريش الجديد!
واضطرالنبي المظلوم صلّى الله عليه وآله إلى السكوت، لأنهم خيروه بين الكف عن كتابة عهده أو تعلن قریش ارتدادها عن الإسلام وإعلان أن محمداً ليس نبياً، بل يريد تأسيس ملك لأسرته
< صفحة > 228 < / صفحة >
كملك كسرى وقيصر! فاليوم ابن عمه ابن ثلاث وثلاثين سنة، وبعده أولاد ابنته الذين هم دون العاشرة، وإذا دخلت الخلافة فيهم فلن تخرج منهم ولا تصل إلى قبائل قريش أبداً، وهذا ظلم لقريش ما بعده ظلم!
لهذا، تقدم عمر بتخويل سهيل زعيم قريش وواجه النبي صلّى الله عليه وآله بأن بني هاشم تكفيهم النبوة! وخلافته يجب أن تكون لبقية البطون ويكون بنو هاشم فيها كغيرهم لا أكثر!
وسلاحه مقابل النبي صلّى الله عليه وآله تهديد قريش بالردة!
وقد اعتبرت قريش أنها انتصرت عليه، فمنعته من كتابة عهده لعترته عليهم السلام !
وما أن أغمض عينيه صلّى الله عليه وآله حتى سارعت بالصفق على يد خليفتها، وأسست نظام الخلافة القرشي على قانون الغلبة والتسلط!
وفتحت بذلك في الأمة صراعاً على السلطة لم تعرف أمة بعد رسولها أكثر منه سفكاً للدماء!
وكانت نتيجة نظام الخلافة بعض فتوحات محدودة على غير منهج، ثم غلبة غلمان بني أمية على الخلافة، ثم غلمان بني العباس، ثم غلمان الشراكسة والعثمانيين، حتى انهارت الخلافة والأمة بيد الغربيين ودفنوها في استانبول!
كانت المدة بين يوم الغدير يوم الخميس ١٨ ذي الحجة، وبين يوم الخميس يوم الرزية ٢٤ صفر من نفس السنة، ستاً وستين يوماً فقط!
نشط فيها القرشيون في المدينة ومكة ضد خلافة عترة النبي صلّى الله عليه وآله ووقعت أحداث ونزلت آيات، وصدرت من النبي صلّى الله عليه وآله خطب وأحاديث!
ومن أبرزها دعوته المسلمين إلى كتابة عهده، فأفشلوا أمره كما رأيت!
وقبلها إرساله الطلقاء والمنافسين لعلي عليه السلام في جيش أسامة ليخلو الجو منهم في المدينة، فيرتب الخلافة قبل وفاته! فأفشلوا جيش أسامة، وكان لحفصة وعائشة دور خطير كما قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ.
قال الطبري الشيعي في المسترشد/٦٨٠: أليس قال الرسول صلّى الله عليه وآله وقد تغرغر (أي شرق بكلماته
< صفحة > 229 < / صفحة >
حزناً) إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم ما لاتضلون معه بعدي، فقال الثاني: هجر رسول الله، حسبنا كتاب الله »!
وهنا بحوث لا يتسع لها المجال. راجع: ألف سؤال وإشكال:٢/٣٦٩.

جرائم علماء السلطة في تحريف حديث الرزية!

ارتكب علماء السلطة في حديث رزية الخميس أو حديث الدواة والكتف أنواعاً من الجرائم الحقيقية: من تحريف، وتعتيم، وتلبيس، وكذب صريح!
كل ذلك ليغطوا مواجهة عمر بن الخطاب الفظة للنبي صلّى الله عليه وآله ، بل حولوها الى منقبة لعمر! ليثبتوا صحة اتهامه للنبي صلّى الله عليه وآله بأنه يهذي ويهجر ويسقطوا كلامه عن الحجية، وزعموا أنه كان عند عمر قرائن فهم منها أن طلب النبي صلّى الله عليه وآله الدواة لم يكن طلباً حقيقياً، فلا تجب طاعته!
أما فقرة: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني اليه. في رواية البخاري (٤/٣١) وغيرها، فلم يشرحوها أبداً! فماذا يقصد النبي صلّى الله عليه وآله بقوله: الذي أنا فيه؟ وماذا يقصد بقوله: مما تدعوني اليه، فالى ماذا دَعَوْه، وبماذا دعوه؟
إنه نص صريح في أنهم مضافاً الى رفضهم كتابة عهده، دعوه الى شيئ خطير يردُّ الإسلام الى أسوأ مما هو فيه! فالنبي صلّى الله عليه وآله يقول لهم: دعوتكم لتقبلوا كتابة عهدي وتلتزموا به، فتكونوا سادة العالم الى يوم القيامة، فرفضتم! ودعوتموني الى أمر يجعل الإسلام في وضع أسوأ مما أنا فيه!
فقد دَعَوْهُ الى أن يصر على الكتابة فيعلنوا أنه خرفان يتكلم من عنده!
لقد تعمد علماء الخلافة القرشية امتهان القارئ، ليبرؤوا عمر من مواجهته الكافرة مع النبي صلّى الله عليه وآله وفي المقابل اتهموا النبي صلّى الله عليه وآله بأنه غلبه الوجع كما قال عمر، فلا تجب طاعته، وأنه طلب أن يوصي عن اجتهاد رأيه وليس بوحي من الله! فلا تجب طاعته في إحضار دواة وقرطاس!
وزعموا يجوز لأي شخص أن يجتهد مقابل اجتهاد النبي صلّى الله عليه وآله ، فكيف إذا كان عمر الذي ينطق الملك على لسانه؟!
لقد صادروا آية: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. وأعطوها لعمر! وقد وصل طعنهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وإهانتهم لشخصه المقدس الى ماقاله عياض!
< صفحة > 230 < / صفحة >
قال في الشفا (٢/١٩٢):(قال أئمتنا في هذا الحديث: إن النبي صلّى الله عليه وآله غير معصوم من الأمراض وما يكون من عوارضها من شدة وجعٍ وغشيٍ ونحوه مما يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ويؤدى إلى فساد في شريعته من هذيان أو اختلال في الكلام).
لاحظ تناقضهم! فالنبي صلّى الله عليه وآله قد يغلب عليه الوجع ويهجر، فلا تجب طاعته، لكن هجره لايطعن في نبوته! لقد نقضوا قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ، فقالوا لكن قد يهجر ويهذي فلا تطيعوه!
ونقضوا قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فقالوا وإن هجر نبيكم فلا تطيعوه، ولا تضر معصيته بإيمانكم!
ونقضوا قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ، فقالوا إن هجرلا نطيعه وأعمالنا لاتبطل!
ونقضوا قوله تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، فقالوا إن صار نبيكم يهجر، فلا يجب طاعته فيما أمر ونهى!
ثم اتهموه بأن قوله وأمره ونهيه في مرض وفاته اجتهادٌ منه لا تجب طاعته، وأبطلوا بذلك قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
فهم لأجل تصحيح كلام عمر وفعله حاضرون لأن يطعنوا في النبي صلّى الله عليه وآله ويرفضوأ آيات القرآن، فماذا يبقى لهم من الإسلام؟!
ثم لاحظ تبريرهم لقول عمر إن النبي صلّى الله عليه وآله هجر، كما في فتح الباري (٨/١٠٠): (قال المازري: إنما جاز للصحابة الإختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الإختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الإمتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلّى الله عليه وآله قال ذلك عن غير قصد جازم! وعزمه صلّى الله عليه وآله كان إما بالوحي وإما بالإجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلافبالاجتهاد أيضاً، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الإجتهاد في الشرعيات! (أي مخالفة اجتهاد النبي باجتهاد مقابله)!
< صفحة > 231 < / صفحة >
وقال النووي: اتفق قول العلماء على أن قول عمر حسبنا كتاب الله، من قوة فقهه ودقيق نظره! لأنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها، فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسد باب الإجتهاد على العلماء!
وفي تركه صلّى الله عليه وآله الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه! وأشار بقوله: حسبنا كتاب الله، إلى قوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْئ).
فعمر عنده قرائن تدل على أن النبي صلّى الله عليه وآله لم يأمر بنحو الوجوب!
وأمر النبي صلّى الله عليه وآله هنا کان باجتهاده وليس بأمر ربه عز وجل، فيجوز الإجتهاد مقابله وقد اجتهد عمر!
وبهذا أبطلوا قوله تعالى:وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. فصار النبي صلّى الله عليه وآله ينطق عن هوى واجتهاد، وعمر يجتهد بتسديد الملك الذي ينطق على لسانه! إنهم يستميتون في الدفاع عن الجبهة القرشية المضادة للنبي صلّى الله عليه وآله !
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
**

إحدى عشرة مسألة في حديث الرزية لم يستوفها الباحثون!

المسألة الأولى:كيف دعا النبي صلّى الله عليه وآله الناس وأخبرهم بأنه سيكتب لهم عهده والمفروض أن أكثرهم في معسكر أسامة الذي يبعد سبع كيلومترات؟
المسألة الثانية: هل كان في الذين صاحوا: القول ما قاله عمر، أحدٌ من غير الطلقاء، من المهاجرين القرشيين أو غيرهم، أو من الأنصار؟
المسألة الثالثة: من كان حاضراً من شخصيات المهاجرين والأنصار وأهل البيت عليهم السلام ؟ مثلاً أبوبكر، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وخالد بن سعيد، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وكبار الأنصار، والعباس وعلي عليه السلام ؟
المسألة الرابعة: هل كان سهيل بن عمرو يومها في المدينة أو في مكة، ومن كان أقرب الناس اليه في المدينة غير بنته سهيلة بنت سهل؟
< صفحة > 232 < / صفحة >
المسألة الخامسة:من التي صاحت من أزواج النبي صلّى الله عليه وآله :قربوا لنبيكم دواة وكتفاًً يكتب لكم، فشتمهن عمر؟وهل كانت عائشة وحفصة هناك؟
المسألة السادسة: ما الفرق بين يهجر وغلب عليه الوجع؟ ولماذا حذفوا يهجر من طبعة بولاق للبخاري؟وهل يوجد دليل قاطع على أن عمر قالها؟
المسألة السابعة: ما هو جواب عمر إذا سئل: أراد النبي صلّى الله عليه وآله أن يكتب وصيته في مرضه فمنعته، وأراد أبوبكر أن يكتب وصيته في مرضه فقلت للناس أسكتوا وأنصتوا يريد أن يكتب لكم وصيته! فما الفرق بين الحالتين؟
المسألة الثامنة: والى ماذا دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله بقوله: هلموا أكتب لكم..الخ. والى ماذا دعوه هم فأجابهم: قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه؟!
المسألة التاسعة: هل طرد النبي صلّى الله عليه وآله أصحابه غير هذه المرة؟!
وهل طرده إياهم يعني غضبه صلّى الله عليه وآله عليهم أو على بعضهم؟ وما هو الحكم الشرعي لمطرودي النبي صلّى الله عليه وآله والمغضوب عليهم منه؟!
المسألة العاشرة: هل فقرة: وأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب..الخ. التي وضعوها في الحديث بعد أن طردهم، وهي قوله: قوموا عني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، هل هي من حديث الرزية أم ألصقوها فيه إلصاقاً، وهي أجنبية عن حديث الرزية وذلك المجلس؟!
أما وقت طردهم فهو عندما لم يطيعوه ولغطوا: فلما أكثروا اللغو والإختلاف قال رسول الله: قوموا».(البخاري:٥ /١٣٧). وفي دلائل البيهقي(٧/١٨٢): (أوصاهم عند موته بثلاث). وهو يشير الى عدم علاقة هذه الوصایا بمجلس حديث الرزية!
المسألة الحادية عشرة: ماذا أراد النبي صلّى الله عليه وآله أن يكتب في تلك الجلسة العاصفة؟!
هم يقولون إنه أوصى في ذلك اليوم وبعده بما كان يريد أن يكتبه، وهي وصايا عامة ليس فيها تعيين خلفائه بعلي وعترته من أهل البيت!
وهذا قول بغير علم، يعارضه ما رويناه نحن وهم، رواه النعماني في الغيبة/١٨٥، وابن عقدة
< صفحة > 233 < / صفحة >
في فضائل علي عليه السلام بسند صحيح عند السنة والشيعة:(عن عبد الرزاق قال: حدثنا معمر بن راشد، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس: أن علياً عليه السلام قال لطلحة في حديث طويل عند ذكر تفاخر المهاجرين والأنصار بمناقبهم وفضائلهم: يا طلحة، أليس قد شهدت رسول الله صلّى الله عليه وآله حين دعانا بالكتف ليكتب فيها ما لاتضل الأمة بعده ولا تختلف فقال صاحبك ما قال: إن رسول الله يهجر، فغضب رسول الله وتركها؟ قال: بلى قد شهدته.قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وآله بالذي أراد أن يكتب فيها ويشهد عليه العامة، وأن جبرئيل عليه السلام أخبره بأن الله تعالى قد علم أن الأمة ستختلف وتفترق، ثم دعا بصحيفة فأملى عليَّ ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان الفارسي، وأباذر، والمقداد، وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر المؤمنين بطاعتهم إلى يوم القيامة، فسماني أولهم، ثم ابني هذا حسن، ثم ابني هذا حسين، ثم تسعة من ولد ابني هذا حسين، كذلك يا أباذر وأنت يامقداد؟ قالا: نشهد بذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله . فقال طلحة: والله لقد سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لأبي ذر: ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق، ولا أبر من أبي ذر، وأنا أشهد أنهما لم يشهدا إلا بالحق، وأنت أصدق وأبر عندي منهما).

أطول كلام لعلماء السلطة وعلمائنا في حديث الرزية

أطول محاولات الدفاع عن عمر بن الخطاب من علماء السلطة، ما كتبه القاضي عياض في الشفا، وبعده ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.
وهذا نموذج من دفاع عياض:
قال عياض(٢/١٩٣): (وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث وكيف اختلفوا بعد أمره صلّى الله عليه وآله أن يأتوه بالكتاب، فقال بعضهم أوامر النبي صلّى الله عليه وآله يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن، فلعل قد ظهر من قرائن قوله صلّى الله عليه وآله لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة بل أمر رده إلى اختيارهم وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كف عنه إذ لم يكن عزمه ولما رأوه من صواب رأى عمر: ثم هؤلاء قالوا ويكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي صلّى الله عليه وآله من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب وأن تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال إن النبي صلّى الله عليه وآله اشتد به الوجع، وقيل خشى عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة، ورأى
< صفحة > 234 < / صفحة >
أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الإجتهاد وحكم النظر وطلب الصواب فيكون المصيب والمخطئ مأجوراً، وقد علم عمر تقرر الشرع وتأسيس الملة وأن الله تعالى قال:اليوم أكملت لكم دينكم، وقوله صلّى الله عليه وآله : أوصيكم بكتاب الله وعترتي. وقوله عمر:حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبي! لاحظ جرأة عياض العمري على الإفتراء حيث جعل قول عمر رداً على من نازعه وقد كان بعد كلام النبي صلّى الله عليه وآله مباشرة قبل أن يتكلم أحد!
أما من علمائنا فأطول شرح لحديث الرزية ما كتبه آية الله الباحث السيد مهدي الخرسان حفظه الله في المجلد الأول من موسوعة ابن عباس، وقد بلغ ٢٢٤ صفحة، أورد فيه صيغ الحديث وألفاظه في خمس وعشرين صورة، ثم استعرض رواة الحديث ومصادره من القرن الأول الى القرن
العاشر. ثم ناقش شراحه الذين سماهم علماء التبرير، فرد على الخطابي، وابن حزم الظاهري، والبيهقي، والمازري، والقاضي عياض، وابن الأثير، والنووي، وابن تيمية، والشاطبي، وابن حجر العسقلاني، والقسطلاني، والوشتاني الآبي المالكي، والبدر العيني، والدهلوي، واللاهوري، والعقاد. وقد وصفهم بأنهم عمريون أكثر من عمر نفسه!ومما قاله ملخصاً:
( أوردنا نماذج من أقوال علماء التبرير، فوجدناهم في اندفاعهم يركبون الصعب والذلول، ويقولون المقبول وغير المقبول، بل وحتى غير المعقول، في سبيل تبرئة عمر من معرة كلمته الجافية النابية، والتي لم يتبرأ هو منها، ولكن القوم على مقولة: ملكيون أكثر من الملك.
فعمر قال كلمته بملء فمه دون تورية أو كناية، متحدياً شعور النبي صلّى الله عليه وآله ومشاعر الشرعية النبوية الربانية.
ثم قال: في الصورة الرابعة قال عمر: لما مرض النبي قال: إئتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لاتضلون بعدي فكرهنا ذلك أشد الكراهية!
لماذا يا أباحفص كرهتم ذلك أشد الكراهية؟ لا عليك أن تكشف السبب فإن علماء التبرير سيدافعون عنك، ولو كان على حساب الرسول صلّى الله عليه وآله !
وعمر يقول لابن عباس بعد لأيٍ من الزمن: ولقد أرادَ رسول الله أن يصرّح باسمه يعني علياً فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام!
وعلماء التبرير يقولون: ربما أراد أن يكتب شيئاً من الأحكام، أو أن يكتب خلافة أبي بكر من
< صفحة > 235 < / صفحة >
بعده، لا كما يقول الرافضة؟
وعمر يقول أيضاً لابن عباس: إن رسول الله أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله! أو كلَّما أراد رسول الله كان!
وعلماء التبرير يقولون: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله! كما قال ذلك الخطابي وأضرابه.
وعمر يقول لابن عباس: لقد كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله ذرواً من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً!
وعلماء التبرير يقولون: كان ذلك من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره!
ورابعة: عمر يقول لابن عباس: أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر!
ويقولون: ومهما كانت كلمته فلا يظن به ذلك.كما مر عن ابن الأثير.
وعمر يقول خامسة لابن عباس أيضاً: أول من راثكم عن هذا الأمر أبوبكر إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة!
وعلماء التبرير يقولون: فإن عمر اشتبه عليه هل كان قول النبي من شدة المرض فشك في ذلك فقال: ما له أهجر؟ كما مر عن ابن تيمية.
وبالتالي يقولون: وإنما قصده التخفيف عن النبي صلّى الله عليه وآله . كما مر عن البيهقي.
ويقولون: كان ما اختاره عمر صواباً، كما مر عن العيني.
وهكذا ظهرت كوامن نفوسهم على ألسنتهم فخطوها بأقلامهم، وبانت عمريتهم أكثر من عمر نفسه!
وأعجب من ذلك كله ما سال به قلم العقاد في عبقرياته من مكابراته ولنقرأ ما يقول، فإنه جاوز القوم في عمريته، وأتى بالعجاب في عبقريته!
قال في عبقرية عمر: ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس التي تدعم علم الأخلاق من الأساس، ذلك الصرح الشامخ الذي ننظر إلى أساسه فكأننا تسلقنا النظر إلى ذروته العليا،
< صفحة > 236 < / صفحة >
لأنه قرب بين الآمال والقواعد أوجز تقريب، إذ هو التقريب الملموس.
فلا جرم يراجع النبي في كل عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار.
اللهم إلا أن تستعصي المراجعة ويعظم الخطر، فهناك تأتي الخليقة العمرية بآية الآيات من الإستقلال والحب والحزم الذي يضطلع بجلائل المهمات. فلما دخل النبي في غمرة الموت ودعا بطرس يملي على المسلمين كتاباً يسترشدون به بعده، أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير وقال: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، ومال النبي إلى رأيه (!) فلم يَعد إلى طلب الطرس وإملاء الكتاب، ولو قد علم النبي أن الكتاب ضرورة لا محيص عنها، لكان عمر يومئذٍ أول المجيبين!
هذا ما تفتقت عنه عبقرية العقاد ولا نطيل عند أقواله. ولكن قوله إن نفس عمر هي تلك النفس التي تدعم الأخلاق من الأساس! هو من زخرف القول؟ فهذه كتب السيرة والتاريخ تذكر أن عمر كان فظاً غليظاً!
ثم ليت العقاد تروَّى قليلاً ولم يرسل القول على عواهنه، وراجع الكلمة قبل أن يكتبها! فقوله: وكثيراً ما جاراه النبي صلّى الله عليه وآله واستحب ما أشار به وعارض فيه؟ لماذا لم يوثق دعواه بشاهد صدق واحد من ذلك الكثير الذي زعمه. وأين كان ذلك المستحب من مشورته الذي جاراه فيه النبي صلّى الله عليه وآله .
وما أدري هل كان إعراض النبي صلّى الله عليه وآله عن أبي بكر وعن عمر حين شاور الناس في يوم بدر فتكلما فأعرض عنهما، هل كان ذلك من شواهد الكثير الذي زعمه؟
وما أدري لماذا تغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله من كلام عمر في صلح الحديبية!
ثم حين جاء عمر بسهيل بن عمرو الى النبي صلّى الله عليه وآله في المدينة وقال أبوبكر في قريش: إنهم جيرانك وحلفاؤك! فغضب وقال صلّى الله عليه وآله : يا معشرقريش والله لتنتهن أو ليبعثنّ الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين). انتهى كلام السيد الخرسان.
< صفحة > 237 < / صفحة >

الشيعة فقط فسروا قوله صلّى الله عليه وآله : فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه!

فقد اتفقت ألفاظ الحديث على أن النبي صلّى الله عليه وآله ختم المجلس بطردهم فقال: قوموا عني، أو دعوني، أو ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني اليه. (البخاري (٤/٣١) فلم يشرحها الشراح! بل حرفوا واقعة الطرد وكأن النبي صلّى الله عليه وآله اشتد به تعب المرض فدعا لهم وشكرهم، وقال تفضلوا أريد أن أرتاح!
وفسروا: الذي أنا فيه، بما يراه من الجنة وإكرام ربه، قبل موته بخمسة أيام!
واختلفوا في تفسيرقوله: مما تدعوني اليه، فقال بعضهم يقصد الكتابة، وقال ابن حجريقصد عدم الكتابة! ولم يشرحوا الى ماذا دَعَوْه وبماذا دعوه؟
إنه نص صريح في أنهم مضافاً الى رفضهم كتابة عهده، دعوه الى شيئ خطير يردُّ الإسلام الى أسوأ مما هو فيه!
فالنبي صلّى الله عليه وآله يقول لهم: إني دعوتكم لتقبلوا كتابة عهدي وتلتزموا به، فتكونوا سادة العالم الى يوم القيامة، فرفضتم! ودعوتموني الى أمر يجعل الإسلام في وضع أسوأ مما أنا فيه!
لكن علماء السلطة يعرفون أن قوله صلّى الله عليه وآله تدعوني اليه نص على أنهم دعوه الى أمر خطير فلم يطعهم به، ولو أطاعهم لزال الدين!
ومن دعاه منهم إلا عمر بقوله:استفهموه لأثبت لكم أنه يهجر! وهدفه من إثبات ذلك أن يفتح الباب لجمهوره الطلقاء عمر الذين أمده بهم سهيل، فيعلنوا هم في المدينة ثم يعلن سهيل شريكه في مكة ردة قريش لأنه ثبت عندها أن محمداً ليس نبياً بل طالب ملك لعترته!
إن علماء السلطة فيهم من أفهم الناس، لكنهم قرروا أن لا يفهموا شيئاً ينتقص من عمر، حتى لو كان ينتقص من النبي صلّى الله عليه وآله !
وأي انتقاص للنبي صلّى الله عليه وآله أكبر من اتهامهم إياه بأنه غلبه الوجع كما قال عمر، وبأنه لم يكن جاداً في كلامه، فلم تكن طاعته واجبة في إحضار دواة وقرطاس له! واتهامهم إياه بأن طلبه دواة لكتب عهده كان باجتهاد رأيه، وليس بوحي من الله تعالى!
إنها قضية واضحة وضوح الشمس فقد اضطر النبي صلّى الله عليه وآله أن يصرف النظر عن كتابة العهد
< صفحة > 238 < / صفحة >
ويتنازل عن تأمين مستقبل أمته، لأن ذلك خيرٌ من أن تعصف عاصفتهم بالإسلام من أصله، فتعلن قريش ردتها وتطيعها قبائل العرب، وتشن الحرب على آل النبي صلّى الله عليه وآله ومن يبقى على الإسلام من الأنصار، وتقضي عليهم قريش!
وأمام تهديد قريش بلسان زعيمها الجديد عمر، أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله أن لايضغط عليها فتكفر، وكان جبرئيل عليه السلام حاضراً عنده، فأمره أن ينهي المجلس ويطردهم! فإنما عليه البلاغ عن ربه، وقد بلَّغ وأتم عليهم الحجة!
ونلاحظ أن الحزب القرشي لم يهتم لطرد النبي صلّى الله عليه وآله لهم من بيته! بل فرحوا بأنهم حققوا نتيجة هائلة من ذلك المجلس حيث تراجع النبي صلّى الله عليه وآله أمامهم، فانتزعوا منه قيادة الأمة، ووضعوها في يد زعيمهم الجديد عمر!
وأن عمر سيضعها في مسار قبلي يخضع لقانون الغلبة، بدل المسار الرباني بقانون النص!
وقد أثمر قانون الغلبة آنياً، فحكم أبوبكر سنتين وشهرين، ثم قتلوه بالسم، فحكم عمر بعده عشر سنين، ثم قتلوه ونصبوا عثمان فحكم اثنتي عشرة سنة!
ولما تفاقم ظلم عثمان اضطر الصحابة لأن يثوروا عليه ويقتلوه، ويختاروا علياً عليه السلام ليحكم خمس سنين، فأفاقت قريش وحاربته وانتصرت عليه، وأعادت قانون الغلبة وما زال إلى يومنا هذا!
لقد فتح عمل عمر وقريش صراعاً دموياً على السلطة، لم تعرف أمةٌ بعد نبيها أسوأَ منه، ولا خلافةٌ لنبي أكثر منه سفكاً للدماء منه!
فلو أحصينا حروب الأمة وصراعاتها على السلطة لبلغت المئات، وبلغ قتلاها عشرات الملايين! وخساراتها المادية والمعنوية فوق التصور!
وكانت آخر ثمار قانون الغلبة: أن ضعفت الأمة ثم انهارت بيد الغربيين، فدفنوا خلافة قريش في استانبول، بلا مراسم توديع ولا تشييع، ولا بکاء ولا حزن!

إرادة النبي صلّى الله عليه وآله شخصية وإرادة عمر إرادة الله!

أعجب عمر بنفسه إذ انتصره بجمهوره الطلقاء على النبي صلّى الله عليه وآله ومنعه من كتابة عهده فاعتبر أن النبي صلّى الله عليه وآله أراد أمراً، وهو أراد أن لا يكتب فغلبت إرادته لأنها إرادة الله!
< صفحة > 239 < / صفحة >
والدليل عنده على أنها إرادة الله أنها وقعت وتحققت!
قال ابن أبي الحديد السني المعتزلي في شرح نهج البلاغة (١٢/٧٨): (وروى ابن عباس، قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته فقال لي: يا بن عباس، أشكو إليك ابن عمك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته؟قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم، قال أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة. قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له، فقال: يا ابن عباس، وأراد رسول الله الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله! أوَكلما أراد رسول الله كان! إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم)! انتهى.
وقد روى معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ وهو: إن رسول الله أراد أن يذكره للأمر في مرضه، فصددته عنه خوفاً من الفتنة وانتشار أمر الإسلام، فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك، وأبى الله الا إمضاء ما حتم)!
وقال الهادي الى الحق في التحفة العسجدية/١٤٤: قال عمر: (ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام. ورب هذه البنية لاتجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم! وقال: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر، صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً).
وأحمد ابن أبي طاهر مؤرخ موثوق وله عدة مؤلفات ينقل منها المؤرخون، وقد طبع بعض المستشرقين جزءً من كتابه تاريخ بغداد.
قال كوركيس عواد في كتابه الذخائر الشرقية (١/٣٢٩): (أحمد بن أبي طاهر، المتوفى سنة ٢٨٠ هـ. كتاب بغداد، الجزء السادس. نشره على الحجر المستشرق كلر H.Keller مع ترجمة ألمانية ليبسك ١٩٠٨.
وكان هذا المستشرق قد نشر قسماً من هذا الجزء في أطروحة طبعها في ليبسك سنة ١٨٩٨.ثم نشر هذا الجزء نفسه بعناية محمد زاهد الكوثري وعزت العطار الحسيني، القاهرة ١٩٤٩- ٢٣٩ صفحة. في هذا الجزء أنباء عهد المأمون).
وكلام عمر واضح صريح بأن النبي صلّى الله عليه وآله أراد علياً للخلافة وأراد أن يكتب ذلك في عهده
< صفحة > 240 < / صفحة >
قبل وفاته، وكانت إرادته شخصية لأنه ينطق عن الهوى، لكني منعته إشفاقاً على الإسلام، فكان عملي إرادة الله وليس عن هوى، لأنه وقع وتحقق!
وقد أطاع الطلقاء عمر بن الخطاب وأطاعته من ورائهم الأمة، وتركوا نبيهم يموت في غصته، وقد نزل عليه جبرئيل وهو مريض (أمالي الصدوق/٣٤٨): (فقال:يا أحمد، إن الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك خاصة، يسألك عما هو أعلم به منك يقول:كيف تجدك يا محمد؟
قال النبي صلّى الله عليه وآله : أجدني يا جبرئيل مغموماً، وأجدني يا جبرئيل مكروباً).

نتائج مواجهتهم للنبي صلّى الله عليه وآله على القرآن والسنة!

الى يوم الخميس يوم الرزية، كان الإيمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله ، ولما منعه عمر من كتابة عهده الى أمته وصاح أكثر الحاضرين من الطلقاء: القول ما قاله عمر، القول ما قاله عمر! حسبنا كتاب الله. تغير الحال فصار الدين بنبوة عمر!
وقد ذكرنا في تدوين القرآن نتائج هذه المواجهة على القرآن والسنة، وخلاصتها:
أن عمر استطاع أن يحقق بمساعدة الطلقاء هدفين ضخمين حول القرآن والسنة:
الأول: أن القرآن المصدر الرسمي للإسلام، والسنة مصدر انتقائي يختار منه عمر وقريش ما يناسبهم، ويتركون ما لا يناسب، أو يمنعون صدوره!
الثاني: أن عمر الزعيم المقبول من قبائل قريش ما عدا بني هاشم هو المفسر الرسمي للقرآن، وله الحق أن يمنع النبي صلّى الله عليه وآله من كتابة وصيته التي قد تلزم المسلمين بمفسر رسمي من بني هاشم!
والناظر في سيرة عمر يجد أنه طبق هذين المبدأين في خلافة أبي بكر وخلافته بقرارات جريئة لضبط مسألة القرآن والسنة! وهي خمسة قرارات:
١- منع رواية سنة النبي منعاً باتاً، تحت طائلة العقوبة، وقد عاقب عدداً من الصحابة على مجرد رواية الحديث عن النبي، بالضرب والسجن، وبقي عدد منهم في سجنه إلى أن مات!
٢- منع تدوين سنة النبي منعاً باتاً، وهو قرار اتخذه مع زعماء قريش من زمن النبي صلّى الله عليه وآله عندما رأوا بعض الغرباء وشباب قريش يكتبون كل ما يقوله النبي! وفي خلافة أبي بكر جمع
< صفحة > 241 < / صفحة >
أبوبكر المكتوب من السنة وأحرقه! وأمر بإحراق المكتوب في المناطق البعيدة أو إتلافه! وكذلك فعل عمر!
٣ - رفض الخليفة كتاب علي(الجامعة)الذي قال إن النبي صلّى الله عليه وآله أملاه عليه وفيه كل ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش. فالنبي صلّى الله عليه وآله عند عمر لم يخص علياً ولا أحداً من أهل بيته بشئ من العلم، ولم يترك علماً غير القرآن!
٤- انتقى عمر من روايات سيرة النبي صلّى الله عليه وآله حسب رأيه، وعمل على تعليمها للأمة على أنها السنة والسيرة الصحيحة دون غيرها!
٥ - رفع عمر شعار(سنة النبي) التي رفضها بالأمس، وعدل شعار(حسبنا كتاب الله) إلى شعار (حسبنا كتاب الله وسنة نبيه) أي كتاب الله كما يفهمه عمر، وسنة رسوله التي يقرها ويختارها!
٦- قرر عمر الإنفتاح على الثقافة اليهودية والمسيحية، وجعل وقتاً للحاخام كعب الأحبار، وللقسيس تميم الداري، للمحاضرة في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله !
بحجة أن النبي صلّى الله عليه وآله قال: حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج! أي عن انحرافهم وسيئاتهم، لكن عمر جعل معناها انقلوا الحديث عنهم ولاحرج!
٧ - اهتمم عمر بالشعر الجاهلي وأمر بتعلمه وكتابته، فراج سوقه بعد أفول!
وتتلخص قرارات عمر بشأن القرآن باثني عشر قراراً:
١ - رفض نسخة القرآن التي عند علي عليه السلام .
٢ - إخضاع علي وفاطمة عليهما السلام للسلطة بالقوة، ومنع تأثيرهما على الناس.
٣ - تكذيب أن علياً أو أحداً عنده القرآن كله أو تفسيره من النبي صلّى الله عليه وآله ، بل القرآن موزع عند الصحابة، وجمعه في نسخة من حق الخليفة فقط!
٤ - النسخة التي جمعها حذيفة في زمن عثمان، هي برأي عمر جزء قليل من القرآن، لا يبلغ ثلثه! فقد ضاع أكثر من ثلثيه بعد النبي، وتدارك الأمر عمر الأمر فجمع ما بقي منه لينشره حين يكتمل، ومات ولم ينشره!
< صفحة > 242 < / صفحة >
٥ - النسخة التي بأيدي الصحابة هي برأي عمركلها قرآن ما عدا البسملة وسورتي المعوذتين وبعض الآيات، فهي ليست عنده من القرآن!
٦ - يوجد آيات لم يكتبها الناس في القرآن كتب عمربعضها وقال في بعضها: لولا أن يقول الناس إن عمر زاد في كتاب الله لأمرت بوضعها فيه!
٧ - القرآن نزل بألفاظ قريش، فيجب أن يقرأ بلهجة قريش، ولا يجوز أن يقرأ بلهجة هذيل أو تميم، أو غيرهما من لهجات قبائل العرب.
٨ - القرآن فيه سعة للهجات العرب، وهو معنى قول النبي صلّى الله عليه وآله نزل القرآن على سبعة أحرف فقراءته بهذه اللهجات شرعية ولكن الأصح لهجة قريش. أما القول بأن القرآن نزل على حرف واحد من عند الواحد، فهو خطأ.
٩ - نص القرآن فيه مرونة فهو يتسع لأكثر من الأحرف السبعة ولهجات العرب، فيجوز قراءته بالمعنى بأي كلام عربي بشرط أن لاتغير المغفرة إلى عذاب والعذاب إلى مغفرة، وتكون قراءة شرعية منزلة من عند الله!
١٠ - تحاشياً لإحراج المفسر الرسمي للقرآن، تقرر إغلاق كل أنواع البحث في القرآن، ومعاقبة كل من يسأل عن شئ منه، أو يبحث في آياته.
١١- نظراً لخطورة موقع القراء وتعلق الناس بهم، ولمنع أن يتحولوا الى مراكز قوى يجب تقليل عددهم إلى أقل حد ممكن.
١٢ - يعمل القضاة بفهمهم للقرآن إذا لم يتعارض مع فهم الخليفة. ثم بما أفتى به الخليفة. ثم يجوز للقاضي أن يعمل بظنه.
**
< صفحة > 243 < / صفحة >

الفصل الثامن والخمسون : قال النبي صلّى الله عليه وآله : يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة

استطاع النبي صلّى الله عليه وآله أن يبلغ رسالته الى قريش رغم أنفها!

أهديَ الى النبي صلّى الله عليه وآله طائرٌ مشوي من الجنة، فدعا الله أن يأتيه بأحب خلقه اليه ليأكل معه، وانتظر، فجاءه علي عليه السلام .
نقلت هذا الحديث مصادرنا المعتمدة متواتراً بعدة طرق، وروته بعض مصادر السنة، ثم نكصوا وقالوا إنه حديث مستنكر لأنه يجعل علياً الأفضل، وقال صلّى الله عليه وآله : يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فعلى عاق أبويه لعنة الله!
وروته مصادرنا المعتمدة متواتراً بعدة طرق.
وأعرض عنه علماء السلطة، فلم تروه إلا مصادر الدرجة الثانية والثالثة رواه صاحب القاموس وتبعه الراغب في مفرداته/٧، والآلوسي في تفسيره بصيغة: رُوِيَ.وكذا ابن سيده المتوفى ٤٥٨ في المخصص (١٣/١٧٣).
وأسنده الحنفي الخلوتي في تفسيره روح البيان (١٠/٤٣٤) الى النبي صلّى الله عليه وآله بنحو القطع فقال: وقيل الوالد هو النبي عليه السلام وما ولد: أمته المرحومة لقوله عليه السلام : إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم أمر دينكم. ولقوله عليه السلام لعلي رضي الله عنه: أنا وأنت أبوا هذه الأمة).
وكذا الدقيقي المصري في تفسيره (١/٢٣٣) قال: ويقال فلان أُمُّ القوم وأبوهم إذا كان يحفظهم ويتولى أمرهم. ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أنا وأنت أبوا هذه الأمة. أي القيِّمان بأمرها).
< صفحة > 244 < / صفحة >
وكذا إخوان الصفا في رسائلهم (١/٢١٣) جاء فيها: (وأعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الأرواح كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي رضي الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة. قال الله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ. وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية).
لكن النبي صلّى الله عليه وآله استعمل أسلوباً لتبليغ هذا الحديث، جعل قريشاً ترويه ولا تفهمه الى أن يأتي غيرها ويفهمها إياه فتفيق! فقد كرر في حجة الوداع في خطبه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين ولعنته هو على من ادعى لغير أبيه، أو تولى غير مواليه، أو منع أجيراً أجره!
ويقصد أبوته وعلياً عليه السلام للأمة، وبالأجير نفسه، وبأجره طاعة عترته عليهم السلام .
رواه أحمد في مسنده (٤/١٨٧): ( ألا ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، أو عدلاً ولا صرفاً). وبألفاظ أخرى/٢٣٨ و ١٨٦و:٤/٢٣٩.
ورواه البخاري (٢/٢٢١، و:٤/٦٧) بلفظ: (والمدينة حرم ما بين عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومن تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك).
وفي سنن ابن ماجة(٢/٩٠٥): عن عمرو بن خارجة أن النبي صلّى الله عليه وآله خطبهم وهو على راحلته وإن راحلته لتقصع بجرانها، وإن لغامها ليسيل بين كتفي، قال: ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ).
وفي سنن الترمذي(٣/٢٩٣): عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول في خطبته عام حجة الوداع..مثله. والدارمي(٢/٢٤٤ و٣٤٤) وغيره.
وهي عقوبة أخروية، تتناسب مع مسؤولية النبي صلّى الله عليه وآله في التبليغ، والشهادة على الأمة. وقد جاءت بصيغة قرار من الله تعالى قاطع بلعن المخالفين لرسوله صلّى الله عليه وآله في أهل بيته، وطردهم من الرحمة الإلهية، وحكماً عليهم بعدم قبول توبتهم نهائياً، واستحقاقهم العذاب في النار.
ويزيد من شدتها، أنها كانت آخر فقرة من خطبه صلّى الله عليه وآله !
< صفحة > 245 < / صفحة >
ومقصوده بالأبوة: أبوته هو المعنوية للأمة، وبالولاء: ولايته وولاية أهل بيته عليها، وليس مراده الأبوة النسبية ولا ولاء المالك لعبده!
والدليل على مقصود النبي صلّى الله عليه وآله أن الولد لو هرب من أبيه، ونسب نفسه الى والد آخر، ثم تاب فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل!
ولو أن عبداً مملوكاً هرب من سيده ولجأ إلى شخص وادعى أنه سيده، ثم تاب، أوشخصاً منع أجيراً أجرته ثم تاب وأعطاه، يفتون بأن توبتهما تقبل.
بينما هذا الشخص في الحديث النبوي مصبوب عليه الغضب الإلهي إلى الأبد: (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً). والصرف التوبة، والعدل الفدية، فهي عقوبة لاتكون إلا لحالة الخيانة العظمى كالموت على الردة والشرك ونحوهما،ولايعقل أن تكون لولدٍ يدعو نفسه لغير أبيه، أو لعبد مملوك أو مظلوم يدعو نفسه لغير سيده!
ويؤيد ذلك تصريح بعض رواياتها بكفر من يفعل ذلك وخروجه من الإسلام!
ففي سنن البيهقي: ٨/٢٦، ومجمع الزوائد:١/٩، وكنز العمال:٥/٨٧٢ و (١٠/٣٢٤) (فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.أحمد عن جابر).
وفي/٣٢٦: من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتاً في النار. ابن جرير عن عائشة). وفي/٣٢٧: ( من تولى غير مواليه فقد كفر. ابن جرير عن أنس). وفي:١٦/٢٥٥: فهو كافر بما أنزل الله على رسوله)!

هذه اللعنات والعقوبات لمن أعرض عن أهل البيت عليهم السلام أو ظلمهم!

فقد وردت بعد ذكر تشريع الخمس لهم عليهم السلام بدل الزكاة والصدقات.
ففي مسند أحمد (٤/١٨٦): خطبنا رسول الله (بمنى في حجة الوداع) وهوعلى ناقته فقال: ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، وأخذ وبرة من كاهل ناقته فقال: ولا ما يساوي هذه، أو ما يزن هذه. لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه)!
كما ورد في مصادر الفريقين أن هذا الحديث كان مكتوباً في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيف النبي صلّى الله عليه وآله الذي ورثه علي عليه السلام ، فقد رواه البخاري في صحيحه(٤/٦٧) ومسلم (٤/١١٥، و ٢١٦) بعدة روايات، والترمذي(٣/٢٩٧) وغيرهم وغيرهم.
وقد أكثروا من روايته لأنهم زعموا فيه على لسان علي عليه السلام أن النبي صلّى الله عليه وآله لم يورث أهل بيته
< صفحة > 246 < / صفحة >
شيئاً من العلم، إلا القرآن وتلك الصحيفة المعلقة في ذؤابة السيف!
والعجيب أنهم رووا فيها لعن من تولى غير مواليه، أي لعنوا أنفسهم ولم يشعروا!

كرره النبي صلّى الله عليه وآله لما طفح سيل الطلقاء القرشيين في المدينة

وقد غطَّى كتَّاب السيرة الهجرة الجماعية للطلقاء الى المدينة بعد فتح مكة! ولا بد أنها كانت هجرة بالإتفاق بين سهيل بن عمرو وأبي بكر وعمر!
وكان سكان المدينة ستة آلاف، فوصل بعد هجرة الطلقاء الى اثني عشر ألفاً! ونشط الطلقاء في المدينة في انتقاص علي عليه السلام وبني هاشم، حتى قالوا: إنما مثل محمد كنخلة نبتت في كبا، أي في مزبلة فغضب النبي صلّى الله عليه وآله وصعد المنبر، كما غضب مرات ورد افتراءهم على علي والعترة عليهم السلام !
وهذا بحث مستقل، يحتاج الى تتبع أنشطة القرشيين في المدينة، وتمييزه عن أنشطة الأنصار، وكشف تغطية الرواة عليهم في حديث النبي صلّى الله عليه وآله بتجهيل القائل أو المقول له، واستعمال ضمير الغائب! لكن القاعدة أن كل ما فيه اعتراض أو شبه اعتراض على النبي صلّى الله عليه وآله فهو من مقولات قر يش، لأن الأنصار لم يكن من عقيدتهم أو أخلاقهم الإعتراض على النبي صلّى الله عليه وآله !
وقد وجدت خمس مناسبات أكد فيها النبي صلّى الله عليه وآله حديث: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، أو أرسل علياً عليه السلام الى المسجد وأمره يبلغ معناه الى المسلمين! ومنها لما تصاعد عمل الطلقاء في المدينة ضد أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وقالوا: إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا:أي مزبلة!
فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله فغضب، وأمر علياً عليه السلام أن يصعد المنبر ويجيبهم!
وأهم المناسبات لما رفضوا أن يكتب لهم النبي صلّى الله عليه وآله عهداً فلا يضلوا بعده، فغضب وطردهم، وفي تلك الأيام أرسل علياً عليه السلام يبلغهم في المسجد!
وسيأتي تفصيله في فصل الشدائد التي مرت على النبي صلّى الله عليه وآله .
**
< صفحة > 247 < / صفحة >

الفصل التاسع والخمسون : النبي صلّى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنه أرحم بهم من أنفسهم

ولاية الله تعالى على الناس وملكيته الكاملة الشاملة لهم

قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ.
وقال تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
فالله عز وجل مولى الخلق لأنه خلقهم من عدم، ومونهم بالحياة والنعم، فهو صاحب الحق المطلق عليهم، وليس لهم معه أمر إلا العبودية، ومن عصاه منهم بأدنى معصة يستحق العقاب، ولا يستحق أن يغفر له، إلا بالتفضل.
قال الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه إذا استقال من ذنوبه:(يَا إِلَهِي لَوْ بَكَيْتُ إِلَيْكَ حَتَّى تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ، وانْتَحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وقُمْتُ لَكَ حَتَّى تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، ورَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وسَجَدْتُ لَكَ حَتَّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وأَكَلْتُ تُرَابَ الأَرْضِ طُولَ عُمُرِي، وشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي، وذَكَرْتُكَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَّ لِسَانِي، ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إِلَى آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سَيِّئَاتِي. وإِنْ كُنْتَ تَغْفِرُ لِي حِينَ أَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَتَكَ، وتَعْفُو عَنِّي حِينَ أَسْتَحِقُّ عَفْوَكَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِي بِاسْتِحْقَاقٍ، ولَا أَنَا أَهْلٌ لَه بِاسْتِيجَابٍ، إِذْ كَانَ جَزَائِي مِنْكَ فِي أَوَّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنْتَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِي). وولاية الله للناس هي المفردة الكبرى في الإسلام، وفيها بحوث لسنا بصددها.
< صفحة > 248 < / صفحة >

ولاية النبي صلّى الله عليه وآله :الإيمان به وطاعته

قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ. وقال تعالى:وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِاللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا.
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا. فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ.
وقال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.
قال صاحب الجواهر (٣٨/١٠٣):(ولاطلاعه صلّى الله عليه وآله على المصالح الواقعية وكونه معصوماً عن ترك الأولى فضلاً عن غيره، صار أولى من المؤمنين بأنفسهم).
وقال السيد بحر العلوم في بلغة الفقيه (٣/٢٠٦):(إعلم أن للأم إطلاقات ثلاثة: أمهات النسب، وأمهات الرضاع، وأمهات التبجيل والعظمة، وهن زوجات النبي صلّى الله عليه وآله فإنهن أمهات المؤمنين، لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ. ويشاركن أمهات النسب في حرمة نكاحهن بالنص لاباطلاق الأمومة عليهن دون المحرمية، فلا يجوز عندنا النظر إليهن فيما يجوز النظر إلى المحارم، خلافاً لبعض من خالفنا على ما قيل فجوزوا النظر إليهن لإطلاق الأمومة عليهن، وهو مردود بالنهي عن التبرج، مضافاً إلى ما روته أم سلمة، قالت: كنت أنا وميمونة عند النبي صلّى الله عليه وآله فأقبل ابن أم مكتوم فقال: احتجبا عنه فقلنا إنه أعمى، فقال النبي صلّى الله عليه وآله فعمياوان أنتما.. الخبر.. وليس كل من حرم نكاحها جاز النظر إليها كأخت الزوجة. اللهم إلا أن تُدعى الملازمة بين تأبيد الحرمة والمحرمية، فلاينقض بأخت الزوجة المحرمة جمعاً لا تأبيداً. وفيه: أن الملازمة لو سلمت كليتها، فإنما هي بين التحريم بأحد العناوين المتقدمة والمحرمية لامطلقاً، وقد عرفت أن حرمة نكاحهن بالنص لا بإطلاق الأمومة عليهن، فقد استبان أن المراد أمومة الإجلال والكرامة، لا غير).
< صفحة > 249 < / صفحة >

أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله أن يعطي ولايته على الأمة الى الأئمة بعده عليهم السلام

في الكافي(١/٥٢٩): (بسند صحيح عن سُليم بن قيس قال: سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول: كنا عند معاوية، أنا والحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن أم سلمة وأسامة بن زيد، فجرى بيني وبين معاوية كلام فقلت لمعاوية: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد علي فالحسن بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسين من بعده أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابنه علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا علي، ثم ابنه محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا حسين، ثم تكمله اثني عشر إماماً تسعة من ولد الحسين، قال عبد الله بن جعفر: واستشهدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن أم سلمة وأسامة بن زيد، فشهدوا لي عند معاوية! قال سُليم: وقد سمعت ذلك من سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وذكروا أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله ).
وفي كفاية الأثر/١٩٦:(بسند صحيح عن سهل بن سعد الأنصاري قال: سألت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الأئمة فقالت: كان رسول الله يقول لعلي: يا علي أنت الإمام والخليفة بعدي، وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضيت فابنك الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فابنك الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسين فابنه علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى محمد فابنه جعفر أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى جعفر فابنه موسى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى موسى فابنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى محمد فابنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فالقائم المهدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. يفتح الله تعالى به مشارق الأرض ومغاربها. فهم أئمة الحق، وألسنة الصدق، منصور من نصرهم، مخذول من خذلهم).
وفي الكافي(١/٥٣٠): (عن أبي الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات وشهدت عمر حين بويع وعلي عليه السلام جالس ناحية فأقبل غلام يهودي جميل الوجه بهي، عليه ثياب حسان وهو من ولد هارون عليه السلام ، حتى قام على رأس عمر فقال: يا أمير المؤمنين أنت
< صفحة > 250 < / صفحة >
أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم؟قال: فطأطأ عمر رأسه فقال: إياك أعني وأعاد عليه القول، فقال له عمر:لم ذاك؟ قال إني جئتك مرتاداً لنفسي شاكاً في ديني! فقال: دونك هذا الشاب، قال: ومن هذا الشاب؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وآله وهذا أبوالحسن والحسين ابني رسول الله وهذا زوج فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله !
فأقبل اليهودي على علي عليه السلام فقال: أكذاك أنت؟ قال: نعم، قال: إني أريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة، قال: فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام من غير تبسم وقال: يا هاروني ما منعك أن تقول سبعاً؟ قال: أسألك عن ثلاث فإن أجبتني سألت عما بعدهن وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم، قال علي عليه السلام : فإني أسألك بالإله الذي تعبده لئن أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعن دينك ولتدخلن في ديني؟ قال: ما جئت إلا لذاك، قال فسل. قال: أخبرني عن أول قطرة دم قطرت على وجه الأرض أيُّ قطرة هي؟وأول عين فاضت على وجه الأرض أيُّ عين هي؟وأول شئ اهتز على وجه الأرض، أيُّ شئ هو؟ فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أخبرني عن الثلاث الأخر، أخبرني عن محمد كم له من إمام عدل؟ وفي أي جنة يكون؟ومن معه في جنته؟ فقال: يا هاروني إن لمحمد اثني عشر إمام عدل، لايضرهم خذلان من خذلهم ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم وإنهم في الدين أرسب من الجبال الرواسي في الأرض، ومسكن محمد في جنته معه أولئك الإثنا عشر الإمام العدل، فقال: صدقت والله الذي لا إله إلا هو إني لأجدها في كتب أبي هارون، كتبه بيده وإملاء موسى عمي عليهما السلام .
قال: فأخبرني عن الواحدة، أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده؟ وهل يموت أو يقتل؟ قال: يا هاروني يعيش بعده ثلاثين سنة، لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً، ثم يضرب ضربة ههنا يعني على قرنه فتخضب هذه من هذا قال: فصاح الهاروني وقطع كستيجه (حزامه) وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأنك وصيه، ينبغي أن تفوق ولا تفاق وأن تعظم ولا تستضعف. قال ثم مضى به علي عليه السلام إلى منزله فعلمه معالم الدين).
< صفحة > 251 < / صفحة >

أحاديث شريفة في مقامات النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام

١. في مختصر البصائر /١٢٥: (روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال: يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا).
٢. قال أمير المؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:٣/٣١): (ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين..فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا).
٣. في الكافي(١/٢٩٧): (عن يونس بن رباط قال: دخلت أنا وكامل التمار على أبي عبد الله عليه السلام فقال له كامل: جعلت فداك حديث رواه فلان؟فقال: أذكره فقال:حدثني أن النبي صلّى الله عليه وآله حدث علياً عليه السلام بألف باب يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه وآله كل باب يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب! فقال: لقد كان ذلك، قلت: جعلت فداك فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم؟
فقال: يا كامل باب أو بابان فقلت له: جعلت فداك فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان؟ قال: وما عسيتم أن ترووا من فضلنا، ما تروون من فضلنا إلا ألفاً غير معطوفة).
وفي بصائر الدرجات/٥٢٧: ( عن كامل التمار قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: يا كامل إجعلوا لنا ربا نؤوب إليه وقولوا فينا ما شئتم. قال قلت: نجعل لكم رباً تؤوبون إليه ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوى جالساً ثم قال: وما عسى أن تقولوا:ما خرج إليكم من علمنا إلا ألفٌ غير معطوفة).
٤. وفي الخرائج/٧٣٥: (عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي أبوعبد الله عليه السلام : ضع لي ماء في المتوضأ، فقمت فوضعت له، فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا وهو يدخل المتوضأ! فلما خرج قال:يا إسماعيل لاترفعوا البناء فوق طاقته فيهدم، إجعلونا عبيداً مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم إلا النبوة).
٥. روى في الكافي (١/١٨٧) بسند صحيح: (عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضا عليه السلام بخراسان وعنده عدة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال: يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا
< صفحة > 252 < / صفحة >
وقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وآله ما قلته قط، ولاسمعته من آبائي، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكني أقول: الناس عبيدٌ لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب).
٦. وفي الاحتجاج(٢/٢٣٣): (عن الإمام العسكري:أن أبا الحسن الرضا عليهما السلام قال: إن من تجاوز بأمير المؤمنين عليه السلام العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين. وقال أميرالمؤمنين عليه السلام :لاتتجاوزوا بنا العبودية ثم قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا، وإياكم والغلو كغلو النصارى، فإني برئ من الغالين).

ملاحظات من هذه الآيات والأحاديث

١. آيات ولاية النبي صلّى الله عليه وآله وأولويته بنا، صريحة في أن الله تعالى أعطى للنبي حق الولاية على الناس فصار مولاهم وصاروا غلمانه!
وهذه العبودية ليست كعبوديتهم لله تعالى، بل عبودية الطاعة، فالناس كلهم عبيد للنبي وآله في الطاعة لأن الله تعالى فرض طاعتهم عليهم.
في عيون أخبار الرضا عليه السلام (١/١٩٧): (بسند صحيح عن عبد السلام الهروي قال: فدخلت عليه وهو قاعد في مصلاه متفكراً، فقلت له: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما شئ يحكيه عنكم الناس؟ قال: وما هو؟ قلت: يقولون إنكم تدعون أن الناس لكم عبيد! فقال: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت شاهد بأني لم أقل ذلك قط، ولا سمعت أحداً من آبائي عليهم السلام قاله قط، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة، وأن هذه منها. ثم أقبل عليَّ فقال لي: يا عبد السلام إذا كان الناس كلهم عبيدنا على ما حكوه عنا فممن نبيعهم؟ قلت: يا بن رسول صدقت.ثم قال: يا عبد السلام، أمنكر أنت لما أوجب الله تعالى لنا من الولاية كما ينكره غيرك؟ قلت: معاذ الله بل أنا مقر بولايتكم).
٢. قال النبي صلّى الله عليه وآله : يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا. ولم أجد سنده لكن عدة من علمائنا نسبوه الى النبي صلّى الله عليه وآله بنحو الجزم , ونص الحافظ البرسي على صحته فقال في مشارق أنوار اليقين/١٧٢: (هذا حديث صحيح والناس مع صحته يدعون معرفة الله ورسوله، وصدق الحديث يوجب كذب دعواهم! ثم قال: وجه آخر في معنى قوله: ما عرف الله إلا أنا وأنت، وذاك أن العظمة التي رآها رسول الله صلّى الله عليه وآله ليلة المعراج
< صفحة > 253 < / صفحة >
واختراقه الحجب السماوية، ووصوله إلى قاب قوسين، والكلام الذي خوطب به بغير واسطة، مما لم ينله ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأن ذلك كله وصل إلى أمير المؤمنين عليه السلام ورآه كما رآه، وإليه الإشارة بقوله: إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع.
فما عرف الله سبحانه من جميع الخلائق بهذه المعرفة إلا هم، وكذلك ما عرف محمداً صلّى الله عليه وآله وعلياً عليه السلام على ما هم عليه إلا الله الذي أوجدهم من نور عظمته، وخصهم بسره وكرامته، وجعلهم في علو المقام تحت ذاته، وفوق جميع مخلوقاته.. ووجه آخر في معنى قوله: ما عرف الله إلا أنا وأنت، أنه ليس بيننا وبين الله واسطة من المخلوقات، بل نحن أول الخلائق، وعين الحقائق، ونحن في مقامنا اللاحق سادة العبيد، وعبيد الحق).
٣. يستعظم بعض الناس أن المسلمين موالي النبي صلّى الله عليه وآله فهم كالعبيد له، ثم موالي أهل بيته الإثني عشر عليهم السلام فهم كالعبيد لهم!
لكنهم لايستعظمون أن يكون رئيس أحمق، أو طفل من سلالة مالكة في بلد ملكاً ومالكاً لشعبه، فيكون سيدهم ويكونوا مواليه كالعبيد له!
وهذا منطق غير علمي، أما المنطق العلمي فيقول إن الطبيعة والكون والناس مملوكون لمن خلقهم، وله حق التصرف فيهم، أن يُمَلكهم لمن يشاء.
بل له الحق أن يتخذ منهم ولداً ويأمرهم بعبادته، لكنه لم يفعل! فقد قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ!
٤. معنى عبوديتك لله تعالى وتوحيدك له: أن تطيعه بالكامل ولاتتفذلك عليه، وتتعبد بأمره، ولا تتفلسف مقابله!
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام (الإحتجاج:١/٢٩٠):(يا علي إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي ومخاصم بين يدي الله، فأعدد للخصومة جواباً، فقلت: بأبي وأمي أنت بين لي ما هذه الفتنة التي ابتلى بها، وعلى ما أجاهد بعدك؟ فقال لي: إنك ستقاتل بعدي الناكثة، والقاسطة، والمارقة، وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً، وتجاهد من أمتي كل من خالف القرآن وسنتي، ممن يعمل في الدين بالرأي، ولا رأي في الدين إنما هو أمر الرب ونهيه!
فقلت: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة، فقال: نعم. إذا كان ذلك
< صفحة > 254 < / صفحة >
كذلك فاقتصر على الهدى، إذا قومك عطفوا الهدى على الهوى، وعطفوا القرآن على الرأي، فتأولوه برأيهم بتتبع الحجج من القرآن لمشتهيات الأشياء الطارية عند الطمأنينة إلى الدنيا،فاعطف أنت الرأي على القرآن. وإذا قومك حرفوا الكلمة عند مواضعه عند الأهوال الساهية، والأمراء الطامحة، والقادة الناكثة، والفرقة القاسطة، والأخرى المارقة أهل الإفك المردي والهوى المطغي، والشبهة الحالفة، فلا تنكلن عن فضل العاقبة، فإن العاقبة للمتقين).
٥. نلاحظ أن الله تعالى جعل لنبيه وآله حق استعباد قريش لما فتح مكة فملكهم وكان له حق استرقاقهم وقتلهم أو أخذ فداء منهم. لكنه أبقاهم عبيداً ولم يعتقهم بل أطلقهم إطلاقاً، فيحق له أن يسترقهم أو يقتلهم أو يفادهم!
أما ثقيف فأعتقهم فكانوا أحراراً لكنهم كالقرشيين ليسوا جزءاً من أمته.
٦. كما جعل الله العباس وأولاده عبيداً للنبي وآله صلّى الله عليه وآله لأن أم العباس أمة لهم.
روى في الخصال/٤٥٤: (سمعت جعفر بن محمد يحدث عن أبيه عليهما السلام قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ولد عبد المطلب فقال: عشرة، والعباس.
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: وهم عبد الله، وأبوطالب والزبير، وحمزة، والحارث وهو أسنهم، والغيداق، والمقوم، وحجل وعبد العزى وهو أبولهب، وضرار، والعباس، ومن الناس من يقول: إن المقوم هو حجل).
وروى في الكافي(٨/٢٥٩) تفسيرالإمام الصادق عليه السلام لقول النبي صلّى الله عليه وآله : عشرة والعباس فقال: (توفي مولى لرسول الله صلّى الله عليه وآله لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أباعبد الله عليه السلام وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك السنة، فجلس لهم فقال داود بن علي: الولاء لنا. وقال أبوعبد الله عليه السلام :بل الولاء لي. فقال داود بن علي: إن أباك قاتل معاوية. فقال: إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته. وقال: والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة، فقال له داود بن علي: كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق، فقال: أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق!
قال فقال هشام: إذا كان غداً جلست لكم، فلما أن كان من الغد خرج أبوعبد الله عليه السلام ومعه كتاب في كرباسة، وجلس لهم هشام، فوضع أبوعبد الله الكتاب بين يديه، فلما أن قرأه قال:
< صفحة > 255 < / صفحة >
أعدوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية، فرمى بالكتاب إليهما فقال: تعرفان هذه الخطوط؟ قالا: نعم، هذا خط العاص بن أمية، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش. وهذا خط حرب بن أمية، فقال هشام: يا أباعبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم؟ فقال: نعم، قال: فقد قضيت بالولاء لك، قال: فخرج وهو يقول:
إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرة
قال فقلت: ما هذا الكتاب جعلت فداك؟ قال: فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبد الله، فأخذها عبد المطلب فأولدها فلاناً، فقال له الزبير: هذه الجارية ورثناها من أمنا وابنك هذا عبد لنا، فتحمل عليه ببطون قريش، قال فقال: قد أجبتك على خلة على أن لايتصدر ابنك هذا في مجلس، ولايضرب معنا بسهم. فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه فهو هذا الكتاب).
أقول: معناه أن العباس وأولاده مضافاً الى أنهم من الطلقاء الذين لاتحل لهم الخلافة، فهم عبيد لأبناء عبد المطلب: الزبير، وأبي طالب، وعبد الله، الذين كانت أم العباس أمةً لأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم (دلائل النبوة/٩٩) وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها، فابنها تبعاً لها ملك لهم، لأنهم أحلوا أمه ولم يبيعوها!
فهذا يكشف لنا حقيقة فظيعة هي: أن من حكم أمة النبي صلّى الله عليه وآله بعده واضطهد
أهل بيته عليهم السلام وقتلهم، إنما هم عبيد لهم!

ناشد النبي صلّى الله عليه وآله الأمة بآية: أولى بهم من أنفسهم

تقول: نشدتك بالله هل كان كذا، أي سألتك بالله أن تصدقني في الجواب. وكذا ناشدتك بالله، أو نشدتك الله. وكذا قولك: ناشدتك وأناشدك بدون لفظ الجلالة. وقد تكون المناشدة بصيغة الإستفهام التقريري كقولك: أليس كذلك، ألستَ قلتَ لي كذا؟ والغرض من المناشدة أن تأخذ إقراراً من المخاطب بأمر لتوثقه أو لتبني عليه ما تريد أن تقوله. ومن هذا النوع قول النبي صلّى الله عليه وآله في غدير خم: أيها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. أو قالوا: اللهم نشهد. فقال: ألا من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.
وقد يطلب المناشد من مخاطبيه شهادة أو عملاً لإثبات ما أراده، كالحديث المتواتر بأن
< صفحة > 256 < / صفحة >
علياً عليه السلام ناشد الصحابة في رحبة الكوفة.(مسند أحمد: ١/١١٩):
(عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه شهد علياً في الرحبة قال: أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وشهده يوم غدير خم إلا قام ولا يقوم إلا من قد رآه، فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. فقاموا إلا ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته).
ومنهم أنس بن مالك دعا عليه بالبرص، وكان يقول: هذا من دعوة العبد الصالح!
وقد روى مناشدة النبي صلّى الله عليه وآله في غديرخم بقوله: ألست أولى بالمؤمنين، عامة من روى حديث الغدير، وهم نحو مئتين من الصحابة!
قال الحاكم(٣/١١٠): ( قام خطيباً صلّى الله عليه وآله فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال ما شاء الله أن يقول ثم قال: أيها الناس إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما: كتاب الله، وأهل بيتي عترتي.ثم قال:أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات؟قالوا: نعم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه. وحديث بريدة الأسلمي صحيح على شرط الشيخين).
وفي تفسير القمي(٢/١٧٥): (وقول رسول الله صلّى الله عليه وآله بغديرخم: يا أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، ثم أوجب لأميرالمؤمنين عليه السلام ما أوجبه لنفسه عليهم من الولاية فقال: ألا من كنت مولاه فعلي مولاه).

روى البخاري تفسير الآية مختصراً جدا!

في صحيح البخاري(٦/٢٢) عن أبي هريرة قال النبي صلّى الله عليه وآله : (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، إقرؤا إن شئتم:النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً، فليأتني وأنا مولاه).
قال في فتح الباري (١٢/٧): (هكذا أورده مختصراً.. وفي حديث جابر عند أبي داود أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه.. فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء، فعلينا قضاؤه).
< صفحة > 257 < / صفحة >

ولم يرو البخاري ولا مسلم حديث الغدير!

قال ابن حجر المكي في الصواعق المحرقة /٦٤: (حديث صحيح لا مرية فيه وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد وطرقه كثيرة جداً ومن ثم رواه ستة عشر صحابياً. وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي صلّى الله عليه وآله ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته. وكثير من أسانيده صحاح وحسان ولا التفات لمن قدح في صحته وقول بعضهم: إن اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه موضوعة، مردودٌ، فقد صحح الذهبي كثيراً من طرقها)!
وقال السيد الميلاني في رسالته: الصحيحان في الميزان/٢٥: (من غرائب تعصبات البخاري: طعنه في حديث الغدير المروي عن أكثر من مائة صحابي، والبالغ أضعاف شروط التواتر، والمصرَّح بتواتره من قبل الأئمة الثقات المتبحرين في الحديث عند أهل السنة، كما لا يخفى على من اقتطف الأزهار من: الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة. واستفاد من: الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة. وكلاهما للحافظ السيوطي.
راجع: شرح الجامع الصغير لنور الدين العزيزي، أو شرح الجامع الصغير للمناوي، أو المرقاة لعلي القاري، أو الأربعين في مناقب أمير المؤمنين لجمال الدين المحدث الشيرازي، أو السيف المسلول لثناء الله تلميذ ولي الله والد صاحب التحفة، أو أسنى المطالب لابن الجزري، وغير هذه الكتب.
قال ابن تيمية في حديث الغدير: « وأما قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، فليس في الصحاح، لكن مما رواه العلماء وتنازع الناس في صحته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم أنهم طعنوا فيه وضعفوه »!
يقول البدخشي: « هذا حديث صحيح مشهور، ولم يتكلَّم في صحته إلا متعصب جاحد لا اعتبار بقوله، فإن الحديث كثير الطرق جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وقد نصَّ الذهبي على كثير من طرقه بالصحة، ورواه من الصحابة عدد كثير. وكذلك نسب الحافظ ابن الجزري منكر حديث الغدير إلى الجهل والعصبية). انتهى كلام الميلاني.
وقال السيد مرتضى في سيرة الإمام علي عليه السلام (٧/١٩٣): (وطعن بعضهم في حديث الغدير: بأن البخاري ومسلم لم يخرِجاه. بل قال بعضهم: إن أحداً من أصحاب الصحاح لم يخرجه.
< صفحة > 258 < / صفحة >
مع أن الترمذي قد أخرجه في صحيحه، وكذلك ابن ماجة في سننه، فضلاً عمن عداهم، مثل الضياء في المختارة وغيره. وعدم إخراج الشيخين له إنما يوجب الطعن بهما، من حيث إنه يشير إلى تعصبهما، ومجانبتهما سبيل الإنصاف، واتباعهما طريق الإعتساف. على أن هناك آلافاً من الأحاديث التي لم يخرجها الشيخان، فراجع المستدرك للحاكم وتلخيصه للذهبي، فضلاً عن مستدركات أخرى ذكرها آخرون، فهل يرضى هؤلاء بإهمالها، أو بطمسها)!
**
< صفحة > 259 < / صفحة >

الفصل الستون : غزوة كاملة أنكروها بغضاً بعلي عليه السلام !

غزوة بني سليم أو غزوة ذات السلاسل

« ذات السلاسل » إسم منطقة في الحجاز على بعد خمس مراحل من المدينة ويعرف المكان باسم وادي الرمل، وباسم السلسلة، وقيل سميت الغزوة بذات السلاسل، لأنهم جاؤوا بالأسرى مربوطين ببعضهم كسلسلة.
وسببها كما ذكرت مصادرنا أن الله أخبر نبيه صلّى الله عليه وآله أن جمعاً من قبائل سليم كانوا يستعدون لغزو المدينة، فأرسل سرية من بضع مئات بقيادة أبي بكر، فرجع منهزماً، ثم أرسل عمر فرجع منهزماً، ثم أرسل عمرو بن العاص فرجع منهزماً. فأرسل علياً عليه السلام ومعه أبوبكر وعمر وخالد وابن العاص فسلك طريقاً بين الأودية، وأغار صباحاً مبكراً على تجمعهم فنزلت سورة: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا..وهزمهم وجاء بأسراهم مقرنين في الحبال كأنهم سلسلة.
ففي أمالي الطوسي/٤٠٧:« عن الحلبي قال:سألت أباعبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا؟ قال: وجَّه رسول الله عمر بن الخطاب في سرية فرجع منهزماً يجبن أصحابه ويجبنه أصحابه، فلما انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وآله قال لعلي: أنت صاحب القوم فتهيأ أنت ومن تريده من فرسان المهاجرين والأنصار. فوجهه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له: أكمن النهار، وسِر الليل ولا تفارقك العين. قال فانتهى علي إلى ما أمره به رسول الله صلّى الله عليه وآله فسار إليهم فلما كان عند وجه الصبح أغار عليهم فأنزل الله على نبيه: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا..).
وفي الإرشاد(١/١٦٢):« ثم كانت غزاة السلسلة وذلك أن أعرابياً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله فجثا بين يديه
< صفحة > 260 < / صفحة >
وقال له جئتك لأنصح لك. قال:وما نصيحتك؟ قال:قوم من العرب اجتمعوا بوادي الرمل وعملوا على أن يبيتوك بالمدينة».
وفي مناقب آل أبي طالب(٢/٣٢٨): « أبوالقاسم بن شبل الوكيل، وأبوالفتح الحفار بإسنادهما عن الصادق عليه السلام ، ومقاتل والزجاج ووكيع والثوري والسدي وأبوصالح وابن عباس: أنه أنفذ النبي صلّى الله عليه وآله أبابكر في سبع مائة رجل، فلما صار إلى الوادي وأراد الإنحدار فخرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً، فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله بعث عمر فرجع منهزماً، فقال عمرو بن العاص: إبعثني يا رسول الله فإن الحرب خدعة ولعلي أخدعهم، فبعثه فرجع منهزماً، وفي رواية أنه أنفذ خالداً فعاد كذلك، فساء النبي صلّى الله عليه وآله ذلك فدعا علياً عليه السلام وقال: أرسلته كراراً غير فرار، فشيعه إلى مسجد الأحزاب، فسار بالقوم متنكباً عن الطريق يسير بالليل ويكمن بالنهار، ثم أخذ على محجة غامضة فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه، ثم أمرهم أن يعكموا الخيل وأوقفهم في مكان وقال لا تبرحوا، وانتبذ أمامهم وأقام ناحية منهم، فقال خالد وفي رواية قال عمر: أنزلنا هذا الغلام في واد كثير الحيَّات والهوام والسباع، إما سبع يأكلنا أو يأكل دوابنا، وإما حية تعقرنا وتعقر دوابنا، وإما يعلم بنا عدونا فيأتينا ويقتلنا! فكلموه نعلو الوادي، فكلمه أبوبكر فلم يجبه، فكلمه عمر فلم يجبه، فقال ابن العاص: إنه لاينبغي أن نضيع أنفسنا! إنطلقوا بنا نعلو الوادي فأبى ذلك المسلمون!
وفي رواية أهل البيت عليهم السلام أنه أبت الأرض أن تحملهم! أي أرادوا أن يطيعوا عمرو العاص، فلم يستطيعوا المشي ليعلوا الوادي!
قالوا فلما أحس عليه السلام الفجر قال: إركبوا بارك الله فيكم، وطلع الجبل حتى إذا انحدر على القوم وأشرف عليهم قال لهم:أتركوا عكمة دوابكم! قال فشمت الخيل ريح الإناث فصهلت، فسمع القوم صهيل خيلهم فولوا هاربين.
وفي رواية مقاتل والزجاج أنه كبس القوم وهم غادون فقال:يا هؤلاء أنا رسول رسول الله إليكم أن تقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا ضربتكم بالسيف. فقالوا: إنصرف عنا كما انصرف الثلاثة فإنك لاتقاومنا! فقال عليه السلام : إنني لا أنصرف أنا علي بن أبي طالب، فاضطربوا وخرج إليه الأشداء السبعة وناصحوه وطلبوا الصلح فقال عليه السلام : إما الإسلام وإما المقاومة، فبرز
< صفحة > 261 < / صفحة >
إليه واحد بعد واحد، وكان أشدهم آخرهم وهو سعد بن مالك العجلي وهو صاحب الحصن فقتلهم، فانهزموا ودخل بعضهم في الحصن، وبعضهم استأمنوا وبعضهم أسلموا، وأتوه بمفاتيح الخزائن. قالت أم سلمة: إنتبه النبي صلّى الله عليه وآله من القيلولة فقلت: الله جارك ما لك؟ فقال: أخبرني جبرئيل بالفتح ونزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً!قال أبومنصور الكاتب:
أقسم بالعاديات ضبحا * حقاً وبالموريات قدحا
وقال المدني:
وقوله والعاديات ضبحا * يعني علياً إذْ أغار صُبحا
على سليم فشنها كفحا * فأكثر القتل بها والجرحا
وأنتـم في الفُـــــــرش نائمــــــــــــونا !
فبشر النبي صلّى الله عليه وآله أصحابه بذلك وأمرهم باستقباله والنبي يتقدمهم، فلما رأى علي النبي صلّى الله عليه وآله ترجل عن فرسه فقال النبي صلّى الله عليه وآله : إركب فإن الله ورسوله عنك راضيان فبكى علي عليه السلام فرحاً، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : يا علي لولا أني أشفق أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح.. الخبر.
وقال العوني:
من ذا سواه إذا تشاجرت القنا * وأبى الكماة الكر والإقدام
وتصلصلت حلق الحديد وأظهرت * فرسانها التصحاج والإحجاما
ورأيت من تحت العجاج لنقعها * فوق المغافــــــــــر والوجــــــــــوه قتاما
كشف الإله بســــــــــيفه وبرأيه * يظمي الجواد ويروى الصمصاما
ووزيره جبريل يقحمــــــــــه الوغى * طوعاً وميــــــــــكال الوغى إقحاما
وقال الحميري:
وفي ذات السلاسل من سليم * غداة أتاهــــــــــم الموت المبير
وقد هزموا أباحفص وعمراً * وصاحبــــــــــه مراراً فاستطيروا
< صفحة > 262 < / صفحة >
وقد قتلوا من الأنصار رهطاً * فحل النذر أو وجبت نذور
أذادَ الموت مشيحة ضخاماً * جحاجحة يسد بها الثغور ».
ورواه في الخرائج (١/ ١٦٧) وفيه: « وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كل عسكر يخرج إليهم من المدينة على الجادة، فيأخذون حذرهم واستعدادهم، فلما خرج علي ترك الجادة وأخذ بالسرية في الأودية بين الجبال فلما رأى عمرو بن العاص قد فعل علي ذلك علم أنه سيظفر بهم فحسده، فقال لأبي بكر وعمر ووجوه السرية: إن علياً رجل غِرٌّ لا خبرة له بهذه المسالك ونحن أعرف بها منه، وهذا الطريق الذي توجه فيه كثير السباع، وسيلقى الناس من معرتها أشد ما يحاذرونه من العدو، فاسألوه أن يرجع عنه إلى الجادة! فعرَّفوا أمير المؤمنين عليه السلام
ذلك، قال: من كان طائعاً لله ولرسوله منكم فليتبعني ومن أراد الخلاف على الله ورسوله فلينصرف عني. فسكتوا وساروا معه، فكان يسير بهم بين الجبال بالليل ويكمن في الأودية بالنهار، وصارت السباع التي فيها كالسنانير(لا تؤذي) إلى أن كبس المشركين وهم غارُّونَ آمنون وقت الصبح، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كله، وشد الرجال في الحبال كالسلاسل فلذلك سميت غزاة ذات السلاسل. فلما كانت الصبيحة التي أغار فيها أمير المؤمنين عليه السلام على العدو ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل، خرج النبي صلّى الله عليه وآله وصلى بالناس الفجر وقرأ: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً.. في الركعة الأولى، وقال: هذه سورة أنزلها الله عليَّ في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة علي على العدو ».
وسماها في الإرشاد(١/١٦٥) غزاة السلسلة، وقال: « فبشر النبي صلّى الله عليه وآله أصحابه بالفتح وأمرهم أن يستقبلوا أمير المؤمنين عليه السلام فاستقبلوه والنبي صلّى الله عليه وآله يقدمهم فقاموا له صفين، فلما بصر بالنبي صلّى الله عليه وآله ترجل عن فرسه فقال له النبي صلّى الله عليه وآله : إركب فإن الله ورسوله راضيان عنك! فبكى أمير المؤمنين عليه السلام فرحاً).
وفي تفسير فرات/٥٩١: « عن أبي ذر قال:خرج معه النبي صلّى الله عليه وآله يشيعه فكأني أنظر إليهم عند مسجد الأحزاب وعلي عليه السلام على فرس أشقر وهو يوصيه ثم ودعه.. قال وسار علي فيمن معه متوجهاً نحو العراق وظنوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه حتى أتاهم من الوادي، ثم جعل
< صفحة > 263 < / صفحة >
يسير الليل ويكمن النهار. فقتل منهم مائة وعشرين رجلاً وكان رئيس القوم الحارث بن بشر، وسبى منهم مائة وعشرين ناهداً ». وتفسير القمي(٢ / ٤٣٤) وإعلام الورى(١ / ٣٨٢) وسماها غزوة وادي الرمل. وسماها في كشف الغمة(١/٢٣٠) غزاة السلسلة. وكذا كشف اليقين/١٥١. وتأويل الآيات:٢/٨٣٩، و ٨٤٣، عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام ).
وروى في تفسير فرات / ٥٩٩، رواية مفصلة في سبب نزول سورة العاديات، خلاصتها أن أهل وادي اليابس جمعوا اثني عشر ألفاً لغزو المدينة، فأرسل لهم النبي صلّى الله عليه وآله أبابكر ثم عمر فانهزما، ثم أرسل علياً عليه السلام فهزمهم.
وفي رواية تأويل الآيات (٢/٨٤٠):« وأمر عليهم أبابكر فسار إليهم، فلقيهم قريباً من الحرة وكانت أرضهم أسنة كثيرة الحجارة والشجر ببطن الوادي والمنحدر إليهم صعب، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة..فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله عقد لعمر بن الخطاب وبعثه، فكمن له بنو سليم بين الحجارة وتحت الشجر، فلما ذهب ليهبط خرجوا عليه ليلاً فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر فرجع عمر منهم منهزماً. فقام عمرو بن العاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال:أنا لهم يا رسول الله إبعثني إليهم. فقال له:خذ في شأنك فخرج إليهم فهزموه وقتل من أصحابه ما شاء الله. قال:ومكث رسول الله صلّى الله عليه وآله أياماً يدعو عليهم.. قال أبوجعفر: وكأني أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله شيع علياً عند مسجد الأحزاب وعلي على فرس أشقر مهلوب وهو يوصيه.. فنزلت:وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. قال: فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يقول:صبَّح عليٌّ والله جمع القوم! ثم صلى وقرأ بها، فلما كان اليوم الثالث قدم علي عليه السلام المدينة وقد قتل من القوم عشرين ومائة فارس).

كيف أخفت الحكومات هذه الغزوة وحرفوها؟

١ - لم نجد في مصادر السلطة شيئاً عن سبب نزول العاديات إلا قولهم: «بعث صلّى الله عليه وآله خيلاً فأسهبت شهراً لم يأته منها خبر فنزلت: والعَاديَات ضَبْحاً »!
هذا كل ما في الأمر عندهم! (أسباب النزول للواحدي/٣٠٥، والفائق:٢/١٧٢).
ولا تعجب فالمطلوب أولاً ثم أولاً تغطية فرار الفارين، ثم إخفاء بطولة علي عليه السلام .بل لم يهدأ بالهم حتى جعلوا العاديات الأباعر وليس الخيل! ثم رووا ذلك عن علي عليه السلام !
< صفحة > 264 < / صفحة >
قال ابن حجر في فتح الباري:٨ / ٥٥٩:« وعند البزار والحاكم من حديث ابن عباس قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله خيلاً فلبثت شهراً لا يأتيه خبرها فنزلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، ضبحت بأرجلها، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا: قدحت الحجارة فأورت بحوافرها. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا:صبحت القوم بغارة، فأثَرْنَ به نَقْعاً:التراب. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا:صبحت القوم جميعاً. وفي إسناده ضعف، وهو مخالف لما روى ابن مردويه بإسناد أحسن منه! عن ابن عباس قال:سألني رجل عن العاديات فقلت:الخيل، قال فذهب إلى علي فسأله فأخبره بما قلت، فدعاني فقال لي:إنما العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة!».
وفي تفسير القرطبي(٢٠ / ١٥٥) أن ابن عباس رجع عن قوله بأنها الخيل إلى قول علي عليه السلام بأنها الإبل! وفرح ابن حجر فرح بذلك كبقية علماء السلطة، لأنه يغطي ذات السلاسل ويجعل للإبل حوافر توري بها الصوان قدحاً! فهم حاضرون لتغییب عقولهم بغضاً بعلي عليه السلام !
٢ - تقع ذات السلاسل من جهة مكة والبحر، وقد نصت رواياتها على أن مسافتها عن المدينة خمس مراحل أي خمسة أيام في المتوسط، وأن علياً عليه السلام اتجه أولاً نحو العراق ليخدع جواسيس سُليم بأنه متجه إلى العراق لا إليهم، فهم من الجهة المخالفة للعراق، وهي جهة مكة واليمن.
وجاء في إحدى رواياتها: « فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر فرجع عمر منهم منهزماً »
(تأويل الآيات:٢ / ٨٤٠). وهذا يعني أنها في جهة البحر الأحمر، وكأنها جبال رضوى التي هي منازل بني سليم (معجم البلدان:٣ / ١٨١). وسمتها بعض رواياتها غزوة بني سليم، قال في كشف الغمة(١/٢٣٢): (نزلت في حق علي عليه السلام وانتصاره على بني سليم).
أما الحكومة فجعلت ذا ت السلاسل بلاد بلي وعذرة، التي تقع وراء وادي القرى أي في أرض الشام قريب تبوك، وجعلها بعضهم في الكاظمة قرب البصرة.من الجهة المخالفة جغرافياً.
٣ - لا يمكنك أن تفهم روايتهم عن غزوة ذات السلاسل الحكومية، فلا أسماء فيها ولا قتال! ورواياتها متهافتة في الهدف والنتيجة والأحداث! تقول مرة إن النبي صلّى الله عليه وآله بعث ابن العاص في مئتي فارس إلى أخواله، عشيرة أمه النابغة، ليدعوهم إلى الإسلام أو يقاتلهم! وأن العدو كان قوياً فبعث إلى النبي صلّى الله عليه وآله يطلب مدداً فأمده بأبي عبيدة في ثلاث مئة فيهم أبوبكر وعمر!
وتقول إن الثلاثة اختلفوا مع ابن العاص لكنهم أطاعوه، ثم لا تذكر أحداثاً مع عدو ولا معركة! ومع ذلك تقول إن ابن العاص دوخ القبائل، ورجع!
< صفحة > 265 < / صفحة >
٤ - نلاحظ أن سياق هذه الغزوة كسياق محاصرة حصن القموص في خيبر، حيث عجز الصحابة عن فتحه، فبعث النبي صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام .
وكذلك مدحه لعلي عليه السلام يشبه ما قاله في حقه بعد فتح خيبر. وهو يكشف عن خطورة تجمع بني سليم وهم قبيلة كبيرة ومعهم لفيف من غيرهم.
٥ - كان وقت هذه الغزوة بعد مؤتة وتحشيد هرقل لغزو المدينة. وقد تكون قريش أو هرقل حرَّكوهم وأمدوهم بالمال ليغزوا المدينة.
قال ابن هشام(٤/١٠٤٠):« وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بلي وعذرة، وكان من حديثه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله بعثه يستنفر العرب إلى الشام. وذلك أن أم العاص بن وائل كانت امرأة من بلي، فبعثه رسول الله إليهم يستألفهم لذلك، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة، غزوة ذات السلاسل، فلما كان عليه خاف فبعث إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه رسول الله أباعبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبوبكر وعمر وقال لأبي عبيدة حين وجهه:لا تختلفا. فخرج أبوعبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو:إنما جئت مدداً لي، قال أبوعبيدة:لا، ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وكان أبوعبيدة رجلاً ليناً سهلاً هيناً عليه أمر الدنيا، فقال له عمرو: بل أنت مدد لي فقال أبوعبيدة: يا عمرو، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لي:لا تختلفا وإنك إن عصيتني أطعتك، قال:فإني الأمير عليك وأنت مدد لي، قال فدونك، فصلى عمرو بالناس..».
ونحوه الطبري(٢/٣١٥) وذكر أن عدد سرية عمرو كان ثلاث مئة، وقال: «ثم استمد رسول الله فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار، فيهم أبوبكر وعمر في مائتين، فكان جميعهم خمس مائة ».
أقول:لم يذكر ابن هشام ولا ابن إسحاق ولا الطبري نتيجة هذه الغزوة أو السرية والسبب: أنها مكذوبة ولا نتيجة ملموسة لحرب مكذوبة!
وتضحك من كلام ابن سعد في الطبقات(٢/١٣١) قال:« وكان عمرو يصلي بالناس، وسار حتى وطأ بلاد بلي ودوخها، حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. ثم قفل »!
< صفحة > 266 < / صفحة >
وذكر رواة السلطة أنها كانت في الشتاء فأراد عمر أن يشعل ناراً فنهاه ابن العاص، فكلمه أبوبكر وتصايحا فلم يقبل، وقال من أشعل ناراً ألقيته فيها! وهذا يؤيد أنها غير ذات السلاسل التي نزلت بشأنها سورة العاديات التي يبدو أنها كانت في الصيف، وأثارت الخيل بحوافرها النقع أي الغبار.
وذكروا أن ابن العاص ذبح بعيراً لآخرين وسلخه وأخذ أجرته من لحمه، فأطعمهم منه، ولما عرف أبوبكر أنه أجرة ذبحه تقيأ ما أكله، لأنه حرام! ( تاريخ دمشق:١٨ / ١٠ وابن هشام:٤ / ١٠٤١)
**
< صفحة > 267 < / صفحة >

الفصل الحادي والستون : بذاءة قريش وكفرها في تعاملها مع النبي صلّى الله عليه وآله !

سماه القرشيون: ابن ابي كبشة وأبوكبشة زوج حليمة السعدية!

الكبش: الذكر الذي ينطح، من الغنم والماعز، ويقال للمناطحة الكباش والمكابشة. وقد نص اللغويون على أن الكبشة ليست مؤنث الكبش لأنه لا مؤنث له من لفظه. لكن هذا لايمنع أن تسمى الأنثى التي تنطح كبشة ويكون اشتقاقها من الكبش، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال لعائشة: أنت رجلة، وفسره محبوها بأنه يقصد رجلة الرأي، فاشتق النبي صلّى الله عليه وآله الصفة للمؤنث من الرجل والرجل لا مؤنث له من لفظه.
وقد سمى المشركون النبي صلّى الله عليه وآله ابن أبي كبشة يقصدون أنه ابن أبيه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة، وقصدهم الخبيث الطعن في نسبه، ونفيه من بني عبد المطلب وقريش. وقد حاول الرواة تبرئة قريش من هذه الفرية، فقالوا إن جد أبي أمه آمنة بنت وهب الزهرية، كان يدعى أباكبشة. وقالوا إن أباكبشة رجل من خزاعة،كان يعبد الشعرى، خالف العرب، فلما جاءهم النبي بخلاف ما كانت العرب عليه قالوا هذا ابن أبي كبشة. وكلها محاولات للتغطية على طعنهم الخبيث بنسب النبي صلّى الله عليه وآله . (الإستيعاب لابن عبد البر:٤/١٧٣٨).
ويدل على أن لقب حليمة أم كبشة، أن النووي ذكر في تهذيب الأسماء/٤٨٥، والمقريزي في إمتاع الأسماع(١/١١) قال: ( أرضعته أم كبشة حليمة بنت أبي ذؤيب)
والفاسي في مستعذب الأخبار/٨١. وفي معجم بن هلال التميمي/٩٥): (وقيل هي:حليمة بنت أبي كبشة بنت ذؤيب).
< صفحة > 268 < / صفحة >
وقد عثرت أخيراً على كتاب: الأبيه فيمن نسب الى غير أبيه للفيروزآبادي صاحب القاموس، وقد نشره عبد السلام هارون في نوادر المخطوطات نشرته مكتبة البابي الحلبي١٩٧٢، جاء في الصفحة ٩٩ منه: (واختلف العلماء فيه فقيل أبوكبشة كنية زوج حليمة السعدية قاله ابن بطال.. وقال الزبير بن بكار: وليس مرادهم عيب النبي وإنما مرادهم مجرد التشبيه! وقال غيره: هذا منهم إيذاء للنبي وأقبح ماكانوا يدعونه به من الكنى والأسماء)!
وهذا القول هو الصحيح وإن حاولوا تغطية خبث بطون قريش كابن بكار!
وكان هذا إسم النبي صلّى الله عليه وآله عند قريش! ففي لسان العرب (٢/٣٣٢): (وفي حديث أَبي سفيان وهِرَقْل: لقد أُمِرَ أَمْرُ ابنِ أَبي كَبْشةَ، يعني رسولَ الله). وفي المناقب (١/١١٧) لما حمل أبي بن خلف على النبي صلّى الله عليه وآله في أُحد طعنه النبي بعنزة كالرمح: (فاعتنق فرسه فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور فقال أبوسفيان: ويلك ما أجزعك إنما هو خدش ليس بشئ، فقال: طعنني ابن أبي كبشة وكان يقول أقتلك، فكان يخور الملعون حتى صار إلى النار).
وفي مستدرك الحاكم(٣/٢٤٩): (أن سعيد بن العاص بن أمية مرض فقال: لئن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة ببطن مكة أبداً! فقال ابنه خالد بن سعيد عند ذلك: اللهم لا ترفعه، فتوفي في مرضه ذلك).
وفي مغازي الواقدي (١/٥١) لما خرج النبي صلّى الله عليه وآله الى بدر وأفلتت منه قافلة قريش: (فكان ممن عرف أنه أفلت عجير، فكان أول من جاء قريشاً بخبر النبي صلّى الله عليه وآله وأصحابه، فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة وأصحابه، وقد أخذوا سقاءكم، فماج العسكر وكرهوا ما جاء به).
وفي مغازي الواقدي(١/٢٩٧) عن حرب أحُد:( لما تحاجزوا وأراد أبوسفيان الإنصراف وأقبل يسير على فرسٍ له حواء أنثى فأشرف على أصحاب النبي في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته: أعل هبل! ثم يصيح: أين ابن أبي كبشة يومٌ بيوم بدر. ألا إن الأيام دولٌ وإن الحرب سجالٌ).
واستمر القرشيون يستعملون هذا الإسم للنبي صلّى الله عليه وآله حتى بعد إسلامهم الظاهري قال في شرح نهج البلاغة(٥/١٢٩): (روى الزبير بن بكار في الموفقيات، وهو غير متهم على معاوية ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي عليه السلام والإنحراف عنه: قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية فكان أبي يأتيه فيتحدث معه، ثم ينصرف إليَّ
< صفحة > 269 < / صفحة >
فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟فقال:يابنيَّ جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه! ملكَ أخو تيْم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبوبكر. ثم ملك أخو عَدِيّ فاجتهد وشمَّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر. وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات:أشهد أن محمداً رسول الله! فأي عملي يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبالك! لاوالله إلا دفناً دفناً)!
**

سماه المشركون ساحراً ومسحوراً وقالت عائشة إنه سحر ستة أشهر!

كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ما خلاصته:
قال الله تعالى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً. وقالت عائشة نعم لقد سُحِر النبي وأثَّر عليه السحر، فكان يتخيل أنه فعل الشئ ولم يفعله! وقالت إن يهودياً سَحَره فأخذ مشطه وبعض شَعره وجعل فيه سحراً ودفنه في بئر! وقالت: إنه فقد حواسه وذاكرته وبقي على تلك الحالة ستة أشهر رجلاً مسحوراً! حتى دلَّهُ رجلٌ أو ملَك على الشخص الذي سحره، والبئر التي أودع فيها المشط والمشاطة من شعره! فذهب إلى البئر، واستخرج المشط منها وفكَّ عقد خيط الجلد الذي لفَّه به، وأمر بدفن البئر ولم يقتل الذي سحره لأنه لم يُرِدْ أن يثير فتنة!
روى البخاري خرافة عائشة في خمسة مواضع! منها في (٧/٢٩):« كان رسول الله سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن! قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا »!
ومنها في(٤/٩١): «عن عائشة قالت: سُحر النبي حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا ثم قال: اُشْعِرتُ أن الله أفتاني فيما فيه شفائي، أتاني رجلان فقعد
< صفحة > 270 < / صفحة >
أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما وجعُ الرجل؟ قال: مَطْبُوب! قال:ومن طَبَّهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجَفِّ طلعةٍ ذكر! قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذِروان! فخرج إليها النبي ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: نخلها كأنها رؤوس الشياطين! فقلت: استخرجتهُ؟ فقال:لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيتُ أن يثير ذلك على الناس شراً ثم دُفِنَتْ البئر»! وفي:٤/٦٨: « كان يُخَيَّلُ إليه أنه صنع شيئاً ولم يصنعه »!
وفي:٧/٨٨: « مكث النبي كذا وكذا، يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي »!
وكرره بخاري ذلك بروايات ( ٧ / ٢٨ و ١٦٤) وروته عامة مصادرهم!
وقال إمامهم ابن حجر في مدة بقاء النبي صلّى الله عليه وآله مسحوراً مجنوناً معاذ الله : «ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة، وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد: ستة أشهر ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوماً من استحكامه!
وقال السهيلي: لم أقف في شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي فيها في السحر حتى ظفرت به في جامع معمر عن الزهري أنه لبث ستة أشهر! كذا قال. وقد وجدناه موصولاً بإسناد الصحيح فهو المعتمد». ( فتح الباري: ١٠ / ١٩٢).
أقول: يقصد السهيلي ما في مسند أحمد (٦/٦٣): « عن عائشة قالت: لبث رسول الله ستة أشهر يرى أنه يأتي نساءه، ولا يأتي »!
ثم تقرأ تفاصيل أسطورتهم وفريتهم في سحر نبينا صلّى الله عليه وآله وأن صبياً يهودياً مجهولاً سرق مشط النبي صلّى الله عليه وآله ومشاطة شعره وأعطاها إلى اليهودي الشاب لبيد الأعصم، فجعل معها خيطاً من جلد وعقده اثنتي عشرة عقدة، ثم قرأ عليها السحر المجهول أيضاً ولفَّ الجميع في قماشة، ثم دفنها تحت صخرة بئر ذروان الذي يقع خارج المدينة فصار ماء البئر بسبب السحر أحمر كالحنَّاء، وكان النخل الذي يسقى منها طلعه كأنه رؤوس الشياطين! ثم بعد ستة أشهر قضاها النبي صلّى الله عليه وآله نصف مجنون!دلَّه الملك على البئر فذهب إليها أو أرسل علياً والزبير، فاستخرجوا المشط وفكوا عقد الخيط، فشفي النبي من السحر! ( راجع المجموع: ١٢ / ٢٤٣).
ثم تجد تأكيد إمامهم الكبير ابن حجر على تأثير السحر على حواس النبي وبعض عقله! قال: « قوله: حتى كان رسول الله يخيَّل إليه أنه كان يفعل الشئ وما فعله. قال المازري: أنكر
< صفحة > 271 < / صفحة >
بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها.. قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي فيما يبلغه عن الله تعالى. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له)!
أقول: هذا بعض كلامهم الطويل العليل! ليقنعوك بأن نبيك صلّى الله عليه وآله كان لمدة ستة أو تسعة أشهر مسحوراً، وأنه مرض من ذلك وانتثر شعر رأسه وصار أقرع، وصار يذوب ولا يدري ما عراه! وكان يتصور أنه يرى شيئاً وهو لا يراه، وأنه أكل ولم يأكل، وأنه نام مع زوجته ولم يفعل!
ثم يريدون أن يطمئنوك بأن نبيك صلّى الله عليه وآله بخير وعافية، فالسحر قد تسلط على جسده وعلى قسم من عقله، وليس على كل عقله! ويقولون لك نعم إن نبيك معصوم لاينطق عن الهوى، لكن عصمته إنما هي في تبليغه الرسالة فقط - ما عدا حديث الغرانيق طبعاً!
أما في غير التبليغ فقد يصاب بالسحر وبالجنون، فيفقد التمييز في الأمور الدنيوية ومنها استخلاف من يقود المسلمين بعده فيعهد الى عترته!
وكل دليلهم على ذلك أن عائشة قالته فقولها حجة، ولو خالف القرآن!
إن الإفتراءات القرشية على نبينا صلّى الله عليه وآله فاقت افتراءات بني إسرائيل على أنبيائهم عليهم السلام !
ولذا قال النبي صلّى الله عليه وآله : ما أوذي نبي مثل ما أوذيت!

رد فرية السحر عن النبي صلّى الله عليه وآله

وقد رد هذه الفرية علماء الشيعة، وتجرأ على ردها معنا بعض علماء السنة! كالنووي في المجموع(١٩/٢٤٢) قال: « قال الشهاب بعد نقل التأويلات عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث سحره صلّى الله عليه وآله المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه. ونقل الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلةٌ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وقال: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، وكل ذلك باطل. وكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى، ومعلوم أن ذلك غير جائز ».
< صفحة > 272 < / صفحة >
أقول: أصل مشكلتهم أنهم يقدسون كلام عمر وعائشة والبخاري، حتى لو خالف القرآن! ولايسمحون لأحد أن يبحثه وينقده! وقد ورطهم ذلك في مشكلات عديدة في العقائد والفقه، وما زالوا فيها الى اليوم! ولم يجرؤ أحد منهم إلا النادر أن يقول: معاذ الله إنها تهمة الكفار لنبينا صلّى الله عليه وآله وقد برَّأه الله منها بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا.
ثم لو سألتهم: متى كانت هذه الحادثة الخطيرة ولماذا لم يرها أحد إلا عائشة؟ قالوا إنها في السنة السادسة بعد رجوعه من الحديبية، لكن اتفق المؤرخون على أنه صلّى الله عليه وآله بقي عشرين يوماً في المدينة وذهب الى خيبر. وكان مع الناس ولم يلاحظ أحد منهم عليه شيئاً، فبطل قول عائشة!

قالوا الدين قسمان: قسم وحي من الله وقسم من محمد!

لم يستطع القرشيون أن يقاوموا القرآن فقالوا نعم إنه منزل من الله تعالى، فآمن بعضهم بأنه نزل على محمد صلّى الله عليه وآله ، لكن إيمانهم به لايعني إيمانهم ببني هاشم، ولا بابن بني هاشم وإن نزل عليه القرآن. فهو دين نقبله، وما كان منه فهو كلام هاشمي لا نقبله!
وتقدم أن قريشاً أرسلت له بعد يوم الغدير جابر بن النضر العبدري، وقد روى ذلك السنة والشيعة بسند صحيح، ومن أقدم من رواه من أئمة السنيين أبوعبيد الهروي في كتابه: غريب القرآن قال: « لما بَلَّغَ رسول بغدير خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال: يا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك! ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيئ منك أم من الله؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : والذي لا إله إلا هو إن هذا إلا من الله! فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ..الآية ».
وقد ذكرنا في عطاءات النبي صلّى الله عليه وآله أن الطلقاء أثروا على الأنصار مع الأسف، فصار رئيسهم
< صفحة > 273 < / صفحة >
سعد بن عبادة يسأل عن قسمة النبي صلّى الله عليه وآله للأموال هل هي من الله تعالى أو من النبي صلّى الله عليه وآله ؟ وقال: إن كانت من الله قبلنا، وإن كانته منه لا نقبل!
ففي الكافي(٢/٤١١) بسند صحيح عن الإمام الباقر عليه السلام ،قال زرارة: «سألته عن قول الله عز وجل: والمُؤَلَّفَة قُلُوبُهُم. قال: هم قوم وحدوا الله عز وجل وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهم في ذلك شكاك في بعض ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله فأمر الله عز وجل نبيه أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا به، قريش وسائر مضر، منهم أبوسفيان بن حرب، وعيينة بن حصن الفزاري، وأشباههم من الناس، فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله بالجعرانة فقال: يا رسول الله أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم، فقال: إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئاً أنزله الله رضينا، وإن كان غير ذلك لم نرض! قال زرارة: وسمعت أباجعفر عليه السلام يقول: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله :يا معشر الأنصار أكُلُّكُمْ على قول سيدكم سعد؟ فقالوا: سيدنا الله ورسوله، ثم قالوا في الثالثة: نحن على مثل قوله ورأيه! قال زرارة: فسمعت أباجعفر عليه السلام يقول: فحط الله نورهم ».
فقد انحرف سعد بن عبادة مع الأسف وأثر على الأنصار، وطرح نفسه للخلافة، فلم يتوفق لنصرة أهل البيت عليهم السلام مقابل أهل السقيفة، ولا حصل على الخلافة فقد نفاه عمر ذليلاً من المدينة وقتلوه رخيصاً في حوران، وأنزل بقومه الذل!

وقالوا: يحابي ابن عمه علياً عليه السلام ويرفع خسيسته!

في كتاب المعيار والموازنة/٢١٣، وتفسير العياشي/٣٣١: ( عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن العباس مجتمعيْن، قالا: أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ويخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم).
والحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل (١/١٥٧) بأسانيد، وتاريخ دمشق (٢ /٨٥) والميزان (٦/٥٤).
وقال القاضي النعمان المغربي في دعائم الإسلام(١/١٤): (وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي
< صفحة > 274 < / صفحة >
صلى الله عليه أن رجلاً قال له: يا ابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري وخشيت أن يكذبني الناس، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني! قال له أبوجعفر: فهل حدثكم بالرسالة؟ قال: لا. قال: أما والله إنه ليعلم ما هي، ولكنه كتمها متعمداً! قال الرجل:يا ابن رسول الله جعلني الله فداك وما هي؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه، فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون فأمر الله عز وجل محمداً نبيه صلّى الله عليه وآله أن يبين لهم كيف يصلون. فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسراً.
وأمر بالزكاة، فلم يدروا ما هي ففسرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته، وبينه لهم.
وفرض عليهم الصوم، فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون، ففسره لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين لهم ما يتقون في الصوم، وكيف يصومون.
وأمر بالحج فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله أن يفسر لهم كيف يحجون حتى أوضح لهم ذلك في سنته.
وأمر الله عز وجل بالولاية فقال: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. ففرض الله ولاية ولاة الأمر، فلم يدروا ما هي فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله أن يفسر لهم ما الولاية، مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ذرعاً، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه يوم غدير خم، ونادى لذلك الصلاة جامعة، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب.
وكانت الفرائض ينزل منها شيئ بعد شيئ، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. قال أبوجعفر: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة قد أكملت لكم هذه الفرائض). ونحوه الكافي(١/٢٩٠).
وروى في شرح الأخبار(٢/٢٧٦): (فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية،
< صفحة > 275 < / صفحة >
وأخاف عليهم أن يرتدوا، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (في علي) وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فلم يجد رسول الله صلّى الله عليه وآله بداً من أن جمع الناس بغديرخم فقال: أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني! أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأني مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم؟ قالوا: بلى، فأخذ بيد علي عليه السلام فأقامه ورفع يده بيده وقال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، ومن كنت وليه فهذا علي وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار).
هذا، وقد روت مصادرنا كلماتهم بعد نصب النبي صلّى الله عليه وآله علياً يوم الغدير، مثل: بخبخة عمر وأبي بكر له، وقوله أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ومسلمة! وقول أبي ذر: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله أن سَلِّمُواْ عَلى أَخِي ووارثِي وخليفتِي في أُمّتي وولي كل مؤمن بعدي بالإمرة، فإنه أمير المؤمنين، وإنه زر الأرض الذي تسكن إليه الأرض، ولو قد فقدتموه لأنكرتكم الأرض ومن عليها وأهلها! قال أبوذر: فقالا: أحقٌّ من الله ورسوله؟ فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال: نعَمْ حَقٌّ مِنَ الله ورَسُولِهِ، أَمَرَني الله بِذلِك. فلما سلما عليه قال أحدهم لصاحبه: ما بال هذا الرجل يرفع خسيسة ابن عمّه! إنه ليحسن أمر ابن عمه، وقالوا: ما لنا عنده من خير ما بقي علي!
قال سليم فقلت: يا أباذر، هذا التسليم بعد حجة الوداع أو قبلها؟ فقال: أما التسليمة الأُولى فقبل حجة الوداع، وأما التسليمة الأُخرى فبعد حجة الوداع. قلت… وتعرفهم؟ قال: إي والله كلهم! وروي أنهم قالوا: ما يألوا أن يرفع خسيسة ابن عمه، لو يستطيع أن يجعله نبياً لفعل! وأيم الله لئن هلك لنزيلنه عما يريد!
وقال آخر: ما يألو رفعاً بضبع ابن عمه. لاوالله لا أسمع له ولا أطيع أبداً!
وقال آخر: إنه ليُحَسِّن أمر ابن عمه.. ما لنا عنده خير ما بقي علي).
(الأصول الستة عشر/١١٨، وكتاب سليم/٢٤٠، ٢٧١, والعقد النضيد/١١٣).
< صفحة > 276 < / صفحة >

وقالوا: محمد في بني هاشم كنخلة في مزبلة!

فقد قررت قريش أن تقبل نبوة محمد والقرآن فقط، وأن تأخذ خلافته، وتعزل أهل بيته! قال العلامة في تذكرة الفقهاء(٢/٤٥٩):(وكان عمر بن الخطاب عندهم ثاني الخلفاء صاحب الفتوح الكثيرة والسياسات العظيمة، وقد سب رسول الله في مرضه الذي توفى فيه، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وآله آتوني بدواة وكتف لأكتب فيه كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقال عمر: إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله! فأعرض النبي صلّى الله عليه وآله عنه مغضباً، ثم وقع التشاجر بين الصحابة فقال بعضهم القول ما قال عمر وقال آخرون القول ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله . وأمرهم النبي بالإنصراف عنه حيث آذوه بالصياح عنده، فسألوا منه الكتابة ففتح عينيه صلّى الله عليه وآله وقال: أبعد ما سمعت!
وقال يوماً: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله شجرة نبتت في كبا أي في مزبلة، وعنى بذلك رذالة أهله! فسمعه رسول الله صلّى الله عليه وآله ذلك فاشتد غيظه ثم نادى الصلاة جامعة، فحضر المسلمون بأسرهم فصعد رسول الله صلّى الله عليه وآله المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس ليقم كل منكم ينتسب إلى أبيه حتى أعرِّفه نسبه فقام إليه شخص من الجماعة وقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وآله أنا فلان بن فلان ابن فلان. فقال صدقت، ثم قام آخر فقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وآله أنا فلان بن فلان فقال: لست لفلان وإنما أنت لفلان وانتحلك فلان بن فلان فقعد خجلاً.
ثم لم يقم أحد فأمرهم بالقيام والإنتساب مرة واثنتين فلم يقم أحد فقال أين الساب لأهل بيتي ليقم إلي وينتسب إلى أبيه! فقام عمر وقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وآله أعف عنا عفى الله عنك، إغفر لنا غفر الله لك، إحلم عنا حلم الله عنك، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله كثير الحياء فقال: إذا كان يوم القيامة سجدت سجدة لا أرفع رأسي حتى لايبقى أحد من بني عبد المطلب إلا دخل الجنة!
وأيضاً قد سب أهل السنة والجماعة النبي صلّى الله عليه وآله حيث نسبوا إليه الكفر لأنه صلى يوماً صلاة الصبح وقرأ فيها سورة النجم إلى أن وصل إلى قوله تعالى: وَمُنَاةَ الثالثةَ الأخْرَى، قالوا فقرأ بعد ذلك: تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى. وهذا عين الكفر! وأي سب أعظم ممن نسب الكفر إلى من قال الله تعالى فيه قبل هذه الآية بكلمات: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، ونسبتهم إياه إلى الكفر!وأي سب أعظم من أن يقال للشخص يا ابن الكافر!
< صفحة > 277 < / صفحة >
بل سبوا الله تعالى حيث أسندوا جميع الموجودات من الحسن والقبح إليه تعالى، فجميع شر في العالم أو ظلم أو غير ذلك فهو صادر منه تعالى الله عن ذلك! وإذا سب الإنسان غيره فقال أنت كافر، كان معناه إنك أوجدت الكفر وفعلته! فبأي شئ يسب الله تعالى أعظم من ذلك)!

بعد فتح مكة سكن ألوف الطلقاء المدينة وأفسدوا جوها!

فقد قام الطلقاء بنشرالطعن في أسرة النبي صلّى الله عليه وآله وذمهم وسبهم والإفتراء عليهم، وروى ذلك السنة وصححوه قالوا (مسند أحمد: ٤/١٦٦، ومجمع الزوائد:٨/٢١٥): (أتى ناس من الأنصار النبي صلّى الله عليه وآله فقالوا: إنا نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم إنما مثل محمد نخلة نبتت في الكبا! قال حسين: الكبا الكناسة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أيها الناس من أنا؟ قالوا أنت رسول الله.قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: فما سمعناه ينتمي قبلها! ألا إن الله عز وجل خلق خلقه ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً ).
وكتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام : (تواصلت دعاية قريش ضد بني هاشم حتى كانوا يعبسون في وجوههم! فشكى بنو هاشم ذلك إلى النبي ووصف النبي صلّى الله عليه وآله ذلك بأن أحدهم إذا رأى هاشمياً فكأنما يفقأ في عينيه حب الرمان الحامض! وجاء العباس يوماً مغضباً وقال: يا رسول الله ما لنا ولقريش! إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة وإذا لقونا لقونا بغير ذلك! قال فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى احمر وجهه، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ». ( الترمذي:٥/٣١٧).
واختصرت القصة رواية مسند أحمد وغيرها. وقد جمعنا روايتهم من مصادرهم في كتاب: ألف سؤال وإشكال(١/١٧٩) تحت عنوان: عقدة بطون قريش من بني هاشم! وركزت قريش دعايتها ضد علي عليه السلام خاصة لإسقاط شخصيته، والإنتقام منه لقتله زعماءها وأبطالها، مقدمة لعزله بعد النبي صلّى الله عليه وآله وعملت لذلك أعمالاً عديدة في حرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلمه وسفره وحضره!
وقد غضب النبي صلّى الله عليه وآله من ذلك مراراً وشدد دفاعه عن علي عليه السلام ، وخطب أكثر من مرة مبيناً مكانته وفضله، ونفاق من يؤذيه ويبغضه، أو كفره!
< صفحة > 278 < / صفحة >
ولو لم يكن من ذلك إلا قصة بريدة الأسلمي، التي روتها مصادر السنيين بطرق عديدة وأسانيد صحيحة لكفى، فقد كشفت عن وجود شبكة عمل منظم ترسل الرسائل من اليمن إلى المدينة، وتضع الخطط ضد علي عليه السلام ! وروت إدانة النبي صلّى الله عليه وآله وغضبه عليهم وتصريحه بأن علياً (وليكم من بعدي) كما رواه أحمد والنسائي، وصرح بأن كل من ينتقد علياً عليه السلام ولا يحبه ولا يطيعه، فهو منافق خارج عن الإسلام! لكن القرشيين اعتبروا كلام النبي صلّى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام كلاماً هاشمياً من عنده ولم ينزل به الوحي، فعصوا أوامره فيه في حياته فكيف بعد وفاته!
ثم تزايدت فعالية القرشيين حتى وصلت في السنة التاسعة إلى وضع خطة قوية لقتل النبي صلّى الله عليه وآله في طريق رجوعه من تبوك بمؤامرة ليلة العقبة التي نزل فيها القرآن ورواها الجميع. وكانت خطتهم أن يقتلوا النبي صلّى الله عليه وآله ويبكوا عليه ويصفقوا على يد أحدهم ويبايعوه خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وآله !
راجع تفسير قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : «إن العرب كرهت أمر محمد صلّى الله عليه وآله وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه، حتى قذفت زوجته! ونَفَّرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها! وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته »! ( شرح النهج:٢٠ / ٢٩٨).
ثم جعلوا عدواتهم للنبي صلّى الله عليه وآله في أهل بيته عليهم السلام ميثاقاً سرياً بينهم وبين اليهود قال الله تعالى عنها في سورة محمد صلّى الله عليه وآله التي نزلت تلك السنة: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. أي أتفاقهم السري.
وروى محبوا عمر أنه قال لصفية مرة ولأم هاني ولغيرهما من بني هاشم: قرابتكم من محمد لا تنفعكم! فأخبروا النبي صلّى الله عليه وآله فقال: (ما بال أقوام يزعمون أن شفاعتي لاتنال أهل بيتي، وإن شفاعتي تنال حا وحكم). وحا وحكم قبيلتان في أقصى اليمن. (رواه مجمع الزوائد(٢/٢٥٧) ووثقه).
أقول: معناه أن كيل الطلقاء طفح حتى جاء الأنصار وشكوا الى النبي صلّى الله عليه وآله ، وأن طعنهم كان بذيئاً مباشراً لأسرة النبي، وبشكل غير مباشر للنبي نفسه صلّى الله عليه وآله !
< صفحة > 279 < / صفحة >
وأن الصحابة القرشيين كعمر كانوا يحمون الطلقاء بل نقل الكثير من الطعن بالعترة عنهم أنفسهم! وهدفهم من ذلك تهيئة الجو لعزل عترة النبي صلّى الله عليه وآله ونصب أحد القرشيين بدلهم! وقد فصلنا في العقائد الإسلامية وألف سؤال، رد النبي الغاضب عليهم في مراحل مختلفة، ودعوته الأنصار بالسلاح أكثر من مرة!

قالوا والداه كافران وزعموا أنه قال لشخص: أبي وأبوك في النار!

قال الصدوق قدّس سرّه في كتابه: اعتقادات الإمامية/١١٠:(إعتقادنا في آباء النبي صلّى الله عليه وآله أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وأن أباطالب كان مسلماً، وأمه آمنة بنت وهب كانت مسلمة).
لكن قريشاً افترت على النبي صلّى الله عليه وآله أن آباءه مثل آبائهم في النار، وزعمت أنه استأذن الله بأن يزور قبرأمه فأذن له، واستاذنه بأن يدعو لها فلم يأذن له لأنها كافرة ، وأن رجلاً سأله عن أبيه أين هو فقال: أبي وأبوك في النار!
وسبب إصرارهم على كفر آبائه صلّى الله عليه وآله أنهم إذا اعترفوا بإيمان عبد المطلب ومناقبه، ثبتت له ولذريته وراثة إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وثبت لعلي وراثته، ولم يبق محل لأبي بكر وعمر وبني أمية، بل تكون السقيفة انقلاباً قرشياً على هذا الفرع الذي اختاره الله تعالى!
والعجيب أنهم رووا أحاديث اختيار الله لأسرة النبي صلّى الله عليه وآله وامتيازها على قريش كقوله صلّى الله عليه وآله : «قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة فكنت خير الثلاثة، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشاً من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم ثم اختارني من بني عبد المطلب ». (الدر المنثور(٣/٢٩٤) والحاكم(٤/٧٣) والخصال/٣٦).
لكنهم قالوا إن هذ الكلام في تفضيل بني هاشم من عند محمد وليس وحياً من الله، وقالوا لا نقبل أن يكون بطن بني هاشم الفرع المختار من ذرية إبراهيم عليه السلام ، لأن بني هاشم عندهم كما زعموا كناسة ومزبلة!
ولهذا يُصرالقرشيون حتى المسلمون منهم على التنقيص من آباء النبي صلّى الله عليه وآله ويقولون كلهم
< صفحة > 280 < / صفحة >
في النار وأبوطالب في النار مهما نصره، لأنه لم يؤمن! وزعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله شفع لأبي طالب فلم تنفعه شفاعته إلا بأن أخرجه الله من قعر جهنم إلى ضحضاح من نار يغلي منه دماغه!
كل ذلك لئلا يعترفوا بأن آباء النبي صلّى الله عليه وآله هم الخط الوارث لإبراهيم عليه السلام . خاصة وأن آباءه صلّى الله عليه وآله لم يعبدوا الأصنام، وكانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل، وخاصة أن الله ميزهم عن قريش حتى في شكلهم، فورَّثهم جمال إبراهيم وبهاءه! فلما رأى أبرهة عبد المطلب، وكان « أبيض مديد القامة». (الأعلام:٤/١٥٤). «جعل ينظر في وجهه فراقه حسنه وجماله وهيئته فقال له: هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال:نعم أيها الملك كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء». (أمالي الطوسي/٦٨٢)
لكن قريشاً تعمدت أن تغمض عيونها عن معجزات عبد المطلب وكرامته في حفر زمزم، وإخباره عن آية أصحاب الفيل، وإخباره بنبوة حفيده صلّى الله عليه وآله ، وافتخار النبي صلّى الله عليه وآله يوم حنين بنبوته وبجده عبد المطلب! (بخاري: ٤ / ٢٨). وزعموا أن رجلاً سأله صلّى الله عليه وآله : أين أبي؟فقال: إن أبي وأباك في النار»! (مسلم:١ /١٣٢)وحاشا أباه صلّى الله عليه وآله من النار، وحاشاه من هذه القسوة اليهودية البدوية!
ونلاحظ أن الطامعين في سلطان النبي صلّى الله عليه وآله أكثرهم حماسة للتنقيص من آباء النبي صلّى الله عليه وآله وأسرته والطعن فيهم! يقولون لك: لا تذكر مناقب آبائه ولا مثالب آبائنا لأنهم مثلهم كفار! وهم صادقون في حق آبائهم لأنهم نكرات من قبائل مغمورة، وأكثرهم ملعون على لسان النبي صلّى الله عليه وآله .

رووا عن عمرو العاص أن النبي صلّى الله عليه وآله تبرأ من آل أبي طالب!

افترى عمرو العاص حديثاً على النبي صلّى الله عليه وآله يذم آل أبي طالب، فرفعوه علماً! رواه البخاري(٧/٧٣) ومسلم(١/١٣٦): (عن عمرو بن العاص قال سمعت النبي صلّى الله عليه وآله جهاراً غير سريقول: إن آل أبي.. ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين. قال عمر وفي كتاب محمد بن جعفر بياض! زاد عنبسة: ولكن لهم رحم أبلها ببلاها، يعني أصلها بصلتها)
قال ابن العربي في أحكام القرآن (٣/٤٦١):(قد بينه أبوداود في جمع الصحيحين عن شعبة بالسند الصحيح، فقال: آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين).
وقال السيد شرف الدين في النص والإجتهاد/٥٠٨، تحت عنوان: وضع الحديث في
< صفحة > 281 < / صفحة >
ذم أمير المؤمنين عليه السلام : ( ذكر شيخ المعتزلة الإمام أبوجعفر الإسكافي فيما نقله عنه ابن أبي الحديد: أن معاوية حمل قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا له ما أرضاه. قال: منهم أبوهريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين: عروة بن الزبير. قال: وروى الزهري: أن عروة بن الزبير حدثه فقال: حدثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله إذ أقبل العباس وعلي فقال لي صلّى الله عليه وآله : يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي. أو قال: على غير ديني! قال: وروى عبد الرزاق عن معمر قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي عليه السلام فسألته عنهما يوماً فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما؟ الله أعلم بهما وبحديثهما، إني لأتهمهما في بني هاشم.
قال: فأما الحديث الأول فقد ذكرناه، وأما الحديث الثاني فهو: أن عروة زعم أن عائشة حدثته قالت: كنت عند النبي صلّى الله عليه وآله فأقبل العباس وعلي. فقال: يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا، فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب!
قال: وأما عمرو بن العاص فروى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسنداً متصلاً بعمرو.قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين.
قال: وأما أبوهريرة فروى عنه الحديث الذي معناه أن علياً عليه السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله فأسخطه، فخطب على المنبر وقال: لاها الله لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله أبي جهل، إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي، وليفعل ما يريد! قال: والحديث مشهور في رواية الكرابيسي.
قال قلت: وهذا الحديث مخرج أيضاً في صحيح مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري فقد ذكره المرتضى في كتابه المسمى تنزيه الأنبياء والأئمة، وذكر أنه من رواية حسين الكرابيسي، وأنه مشهور الإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام وعداوتهم والمناصبة لهم، فلا تُقبل روايته.
إلى أن قال أبوجعفرالإسكافي: وروى الأعمش قال: لما قدم أبوهريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثى على ركبتيه ثم ضرب
< صفحة > 282 < / صفحة >
صلعته مراراً وقال:يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول: إن لكل نبي حرماً وإن المدينة حرمي، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قال: وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها؟فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة! وروى سفيان الثوري كما في ص٣٦٠ من المجلد الأول من شرح النهج، عن عبد الرحمن بن قاسم، عن عمر بن عبد الغفار أن أباهريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس إليه، فجاءه شاب من الكوفة فجلس إليه فقال:يا أباهريرة أنشدك الله أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟ فقال: اللهم نعم. قال فأشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه.ثم قام عنه وانصرف! وبالجملة: فإن معاوية لم يدع طريقاً من ظلم أمير المؤمنين عليه السلام إلاسلكه وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
**
< صفحة > 283 < / صفحة >

الفصل الثاني والستون : نماذج من بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله !

أنا أفصح من نطق بالضاد وأوتيت جوامع الكلم

كتبنا في الفصل الخامس من هذا الكتاب:
المشهور أن النبي صلّى الله عليه وآله قال: أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد. لكن قالوا لا أصل له بهذا اللفظ! (كشف الخفاء:١/ ٢٠٠) وفي فيض القدير (٣/٥٠): (أنا أعرب العرب، ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن)!
وقد صححه من علمائنا الشهيد الثاني بلفظ: (أنا أفصح العرب، بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة. وكانت هذه القبائل أفصح العرب، فافتخر صلّى الله عليه وآله بالرضاع والنشأة فيها كما افتخر بالنسب). (شرح اللمعة: ٥ / ١٦٥، ومسالك الأفهام: ١ / ٣٧٦، والنووي في المجموع: ١٨/ ٢٢٧).
فرضاع النبي صلّى الله عليه وآله الأول من أمه آمنة بنت وهب الزهرية عليها السلام هو المؤثر في شخصيته. ورضاعه الثاني من حليمة مكمل له!
ومعناه أنه صلّى الله عليه وآله رضع سنة وأكثر من أمه، ثم أكمل رضاعه في بني سعد. وقد كثرت أكاذيبهم وتناقضت روايتهم في كيفية أخذ حليمة له! والمرجح عندنا أن عبد المطلب كان يعرف زوجها الحارث السعدي فسلمه لهم، وأنها وزوجها الحارث كانوا على ملة إبراهيم عليه السلام .

رسول الله صلّى الله عليه وآله أفصح العرب وأبلغهم

الفصاحة صفة تتعلق بالألفاظ، فهي تعني اختیارالألفاظ القوية المعبرة.
< صفحة > 284 < / صفحة >
والبلاغة صفة تتعلق بالمعنى، فهي صفة لقوة التعبيروصياغة المعاني.
ولا يكون المرء فصيحاً حتى يكون خبيراً بألفاظ اللغة ويختار أقواها.
ولا يكون بليغاً حتى يكون خبيراً بالمعاني فيختار أقواها، وخبيراً بالمخاطب والخطاب فيختار أقوى ما يفهمه ويقرب المعنى الى ذهنه.
وقد يكون الإنسان فصيحاً قوي الألفاظ لكنه غير بليغ لأن معانيه غير قوية أو بليغاً غير فصيح فمعانيه قوية لكنه عبر عنها بألفاظ ركيكة غير فصيحة.
ومعنى أن النبي صلّى الله عليه وآله أفصح العرب وأبلغهم، أنه أخبرالناس بلغة العرب مفرداتها وتراكيبها، وأخبر الناس بالمعاني التي يريد أن يعبر عنها، وبطرق إيصالها الى أذهان الناس. فعندما يريد أن يصف نبوته وما قبلها، يقرب ذلك الى ذهن مخاطبيه بمثلٍ فيقول: ( إنما مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويعجبون بها ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين). (المناقب:١/١٩٨).
فالنبوة في المجتمعات البشرية بناءٌ بناه الله تعالى، فاكتمل داراً جميلة، فإذا دخلها الناس رأوا فيها موضع لبنة فراغاً بارزاً، فقالوا هلَّا وضعت؟
فالبلاغة فيه أن النبوة بناء وليست هدماً وخراباً، وأنها دار للناس وصرح جميل يأتونه مطمئنين فيدخلونه ويتفرجون عليه، ويرون فيه مكان آجرة أو رخامة خالياً فيتمنون أن توضع، وهذه الآجرة هي نبوة نبينا صلّى الله عليه وآله !
ومعناه أن النبي صلّى الله عليه وآله خبير بخطة الله تعالى في النبوات، وأن موقع نبوته منها مكمل وخاتم، فليطمئن أتباع الأديان بأن الإسلام مكمل وليس معادياً، ولخبرته صلّى الله عليه وآله بألفاظ اللغة اختار البناء واللبنة، وخبرته بالمخاطب اختار مثل بناء الدار، وأن دينه مكمل الأديان وخاتمها.
أنظر كيف صور البني صلّى الله عليه وآله الرخاء في زمن المهدي الموعود فقال: (لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً).(صحيح مسلم:٣/٨٤).
أي يتحقق الإكتفاء الفردي وتحول الزكاة الى المشاريع العامة، وتعود بلاد العرب الصحراوية
< صفحة > 285 < / صفحة >
القاحلة أنهاراً ومروجاً، كما كانت قبل ألوف السنين. فاستعمل فيض المال كالماء، وعودة أرض العرب الى ماضيها القديم! وهكذا العمق والبلاغة والفصاحة جارٍ في كل كلماته صلّى الله عليه وآله .

معنى قوله صلّى الله عليه وآله : أوتيت جوامع الكلم

قال صلّى الله عليه وآله : (أُعطيتُ خمساً لم يُعطها أحد قبلي: جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونُصرت بالرعب، وأُحل لي المغنم، وأُعطيت جوامع الكلم ، وأُعطيت الشفاعة). (الفقيه:١/٢٤٠).
فالسجود على الأرض كما هو مذهب أهل البيت عليهم السلام . ورعب أعداء النبي منه مشهور معروف. والمغنم ما يسيطر عليه من أموال العدو، لم تكن تحل لنبي قبل نبينا صلّى الله عليه وآله . وجوامع الكلم: الكلام الذي يجمع معان عديدة في عبارة قليلة. وقد جعله الله تعالى شفيع المحشر، لأنه يملك أكثر من من غيره من الأنبياء عليهم السلام فائض القيمة من حسناته.
أما في مصادر السنة فارتبط هذا الحديث بعمر بن الخطاب، ورووا بأسانيد صحيحة أن عمر كان يدرس عند اليهود مع أصحابه، فترجم له اليهود قسماً من التوراة، وجاء بها الى النبي صلّى الله عليه وآله ليعترف بشرعيتها! فغضب النبي ورفض، ثم جاءه عمر بقسم مترجم مرة ثانية وثالثة ورابعة.
ثم جاءه وقال له: إنا نسمع منهم كلاماً يأخذ بمجامع قلوبنا فأذن لنا أن نكتبه! فرفض ونهاه أن يحضر عندهم، وقال له: كيف يهدونكم وقد أضلوا أنفسهم! ثم رآه في الطريق يحمل أوراقاً فسأله فقال: شيئ كتبناه عن اليهود لنزدادا به علماً الى علمنا! فغضب النبي صلّى الله عليه وآله ودعا بالصلاة جامعة فحضر الأنصار بالسلاح وقالوا أغضب نبيكم! فخطب خطبته التي سمى فيها عمر وجماعته بالمتهوكين، وحذر منهم ونهى عن التهوك. وقال: لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني. وقد أوتيت جوامع الكلم.
قال السيوطي في الدر المنثور(٥/١٤٨):(وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها! فقال يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولكني أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصاراً!
< صفحة > 286 < / صفحة >
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب مرَّ برجل يقرأ كتاباً فاستمعه ساعة فاستحسنه، فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب، قال نعم فاشترى أديماً فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وآله فجعل يقرؤه عليه وجعل وجه رسول الله يتلون، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب وقال: ثكلتك أمك يا بن الخطاب! أما ترى وجه رسول الله منذ اليوم، وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب! فقال النبي صلّى الله عليه وآله عند ذلك: إنما بعثت فاتحاً وخاتماً وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه، واختُصِر لي الحديث اختصاراً، فلا يهلكنكم المتهوكون).
وقد كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ما خلاصته:
كان بيت عمر في عوالي المدينة قرب بني قريظة بعيداً عن مسجد النبي صلّى الله عليه وآله .
قال عمر كما في البخاري(١/٣١): « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلّى الله عليه وآله ينزل يوماً وأنزل يوماً فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم ». وكان يحضر دروسهم (الدر المنثور:١/٩٠)قال:«كنت أغشى اليهود يوم دراستهم، فقالوا: ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك، لأنك تأتينا »!
وطمع اليهود بعمر فعرَّبوا بعض توراتهم وكلفوه أن يأخذها إلى النبي ليعترف بها! قال عمر: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال فتغير وجه رسول الله.. الحديث.. وفيه: والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم». (فتح الباري:١٣/٤٣٨).
وأصر عمر وجاء ثانية فقال: « يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق! فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال عبد الله بن زيد: أمَسَخَ الله عقلك؟ ألا ترى الذي بوجه رسول الله)!( مجمع الزوائد: ١/١٧٤).
ثم جاء ثالثة، فقال: « انطلقت في حياة النبي صلّى الله عليه وآله حتى أتيت خيبر فوجدت يهودياً يقول قولاً فأعجبني فقلت: هل أنت مكتِّبي ما تقول؟ قال: نعم، فأتيته بأديم فأخذ يملي عليَّ فلما رجعت قلت:يا رسول الله إني لقيت يهودياً يقول قولاً لم أسمع مثله بعدك! فقال: لعلك كتبت منه؟ قلت: نعم قال: إئتني به، فانطلقت فلما أتيته قال: أجلس إقراه فقرأت ساعة ونظرت إلى وجهه فإذا هو يتلون فصرت من الفرق لا أجيز حرفاً منه، ثم رفعته إليه ثم جعل يتبعه
< صفحة > 287 < / صفحة >
رسماً رسماً يمحوه بريقه وهو يقول: لاتتبعوا هؤلاء فإنهم قد تهوكوا حتى محى آخر حرف »! ( كنز العمال: ١ / ٣٧٠، والدارمي:١/١١٥، والدر المنثور:٢ / ٤٨، و: ٥ / ١٤٨، وأسد الغابة: ٣ / ١٢٦).
وفي مرة قال عمر:«يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها!فقال:يا ابن الخطاب أمتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية وأعطيت جوامع الكلم» ( الدر المنثور:٥/١٤٨).
ومرة طلب عمر أن يجيزه النبي صلّى الله عليه وآله بأن يدرس التوراة عند اليهود فقال له: «لا تتعلمها وآمن بها وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به».(الدر المنثور:٥/ ١٤٨).
وساعدت حفصة أباها: «جاءت إلى النبي بكتاب من سورة يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي يتلون وجهه فقال: والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم». (عبد الرزاق:١١/١١٠).
واستمر عمر مع مجموعته بالحضور عند اليهود، حتى رآه النبي يوماً يحمل كتاباً فقال له: « ما هذا في يدك يا عمر! فقلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا! فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم، السلاح السلاح! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون! ». (الزوائد:١/١٧٣،وتدوين القرآن/٤١٦).
وعندما اتفق النبي صلّى الله عليه وآله مع عروة بن مسعود على أن يشجع بني قريظة أن يطلبوا رهائن من قريش، لم يوافق عمر وقال له: «يا رسول الله، أمر بني قريظة أهون من أن يؤثر عنك شئ من أجل صنيعهم! فقال: الحرب خدعة يا عمر!). (السير الكبير:١/١٢١).
لقد كان عمر وجماعته مغرمين بثقافة اليهود، وقد بلغ إعجابهم بأحاديثهم أنهم كتبوها، وأرادوا إمضاء النبي لعملهم فرفض!
< صفحة > 288 < / صفحة >

أعطيت جوامع الكلم: قالها في مقابل النصوص اليهودية

وهو يقصد أني رسول الله اليكم، وقد أعطاني الله القرآن وجوامع الكلم في حديثي، فلستم بحاجة الى من حرفوا كتابهم وسنة أنبيائهم، ولا يقاس ما عندكم بما عندهم! وآية صدق نبينا صلّى الله عليه وآله أنك لو قايست أحاديثه بمتون التوراة والتلمود، والأناجيل والنصوص المسيحية، لرأيت الفرق بينهما كالفرق بين الذهب والتراب. فضلاً عن نص القرآن الكريم.
قال العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء(٢/٤٢٩):( مسألة: لا يجوز الوقف على كتابة التوراة والإنجيل لأنهما منسوخان محرفان ولا نعلم فيه خلافاً، لما روى العامة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله خرج إلى المسجد فرأى في يد عمر صحيفة فيها شئ من التوراة فغضب النبي صلّى الله عليه وآله لما رأى الصحيفة مع عمر وقال له: أفي شك أنت يا بن الخطاب، ألم آت بها بيضاء نقية؟! لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي. ولولا أن ذلك معصية لما غضب منه)!

أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصاراً !

قال عمر بن الخطاب(مجمع الزوائد:١/١٧٣): (انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله: ما هذا الذي في يدك يا عمر؟ قلت:يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا!
فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار أغضب نبيكم السلاح السلاح! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله فقال: يا أيها الناس: إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصاراً ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون ! قال عمر فقمت فقلت رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً ).
وفي أسباب النزول للسيوطي(١/٢١) (كان يأتي اليهود فيسمع منهم التوراة). وفي الدر المنثور (٥/١٤٨): (أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها ! فقال(ص): يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولكني أعطيت جوامع
< صفحة > 289 < / صفحة >
الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً ) !
ومعنى جوامع الكلم: المعاني الكثيرة في الكلام القليل المختصر.

من كلمات النبي صلّى الله عليه وآله المبتكرة

أورد الصدوق في الفقيه(٤/٣٧٦) سبعين كلمة من ألفاظ رسول الله صلّى الله عليه وآله الموجزة التي لم يسبق إليها:
اليد العليا خير من اليد السفلى.
ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
خير الزاد التقوى.
رأس الحكمة مخافة الله عز وجل .
خير ما ألقيَ في القلب اليقين.
الإرتياب من الكفر .
النياحة من عمل الجاهلية.
السكر جمر النار.
الشعر من إبليس.
الخمر جماع الآثام.
النساء حبالة الشيطان.
الشباب شعبة من الجنون.
شر المكاسب كسب الربا.
شر المآكل أكل مال اليتيم ظلماً.
السعيد من وعظ بغيره.
الشقي من شقى في بطن أمه.
مصيركم إلى أربعة أذرع .
أربى الربا الكذب.
سباب المؤمن فسوق ، قتال المؤمن كفر ، أكل لحمه من معصية الله
عز وجل ، حرمة ماله كحرمة دمه.
< صفحة > 290 < / صفحة >
من يكظم الغيظ يأجره الله عز وجل.
من يصبر على الرزية يعوضه الله.
الآن حمي الوطيس .
لا يلسع المؤمن من جحر مرتين.
لا يجنى على المرء الا يده.
الشديد من غلب نفسه.
ليس الخبر كالمعاينة.
اللهم بارك لامتي في بكورها يوم سبتها وخميسها.
المجالس بالأمانة.
سيد القوم خادمهم.
لو بغى جبل على جبل لجعله الله دكا.
ابدأ بمن تعول.
الحرب خدعة.
المسلم مرآة لأخيه.
مات حتف أنفه .
البلاء موكل بالمنطق .
الناس كأسنان المشط سواء.
أي داء أدوى من البخل.
الحياء خير كله.
اليمين الفاجرة تذر الديار من أهلها بلاقع.
أعجل الشر عقوبة البغي.
أسرع الخير ثوابا البر.
المسلمون عند شروطهم.
إن من الشعر لحكمة ، وإن من البيان لسحرا.
ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.
من قتل دون ماله فهو شهيد.
< صفحة > 291 < / صفحة >
العائد في هبته كالعائد في قيئه.
لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه المؤمن فوق ثلاث.
من لا يرحم لا يرحم.
الندم توبة.
الولد للفراش وللعاهر الحجر.
الدال على الخير كفاعله.
حبك للشئ يعمى ويصم.
لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
لا يؤوى الضالة الا الضال.
تقوا النار ولو بشق تمرة .
الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف.
مطل الغنى ظلم .
السفر قطعة من العذاب.
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة.
صاحب المجلس أحق بصدر مجلسه.
أحثوا في وجوه المداحين التراب.
استنزلوا الرزق بالصدقة.
ادفعوا البلاء بالدعاء.
جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
ما نقص مال من صدقة.
لا صدقة وذو رحم محتاج.
الصحة والفراغ نعمتان مكفورتان.
عفو الملك أبقى للملك.
هبة الرجل لزوجته تزيد في عفتها.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
< صفحة > 292 < / صفحة >

ألأبعاد الثلاثة الأهم في كلام النبي صلّى الله عليه وآله

أبعاد الكلام النبوي متعددة ، فمنها البعد العقائدي ، والبعد الفقهي ، والبعد الروحي التربوي ، والبعد الإداري ، والبعد الأدبي ، والبعد الجمالي ..الخ.
ومن الطبيعي أن يكون البعد العقائدي هو الأهم لأن أهم هدف للنبي صلّى الله عليه وآله تبليغ العقيدة أي النظرة للكون والحياة ، وبناؤها .
ثم البعد الفقهي أي تبليغ الشريعة ونوع السلوك الذي يريده الله من العباد .
ثم البعد التربوي الروحي لأن مهمة النبي صلّى الله عليه وآله تزكية الناس وتربيتهم على الحياة بالعقيدة والشريعة ، وقيمها وروحانيتها .

ما كُتب في بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله

ذكر كثير من المؤلفين بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله ، لكن لم أجد كتاباً فيه دراسة بلاغية لكلامه صلّى الله عليه وآله ! وأشهر وأحسن ما كتب في ذلك ما كتبه الأديب محمد صادق الرافعي في ختام كتابه: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية/٢١٠: فصل البلاغة النبوية ، نحو أربعين صفحة وصف فيها بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله توصيفاً عاماً، وأورد بعض نماذج من كلامه، فأشار الى معانيها ولم يستوفها.
قال في صفحة/٢١٨، ملخصاً:(إن قريشاً كانوا أفصح العرب ألسنة وأخلصهم لغة، وأعذبهم بياناً، قد ارتفعوا عن لهجات رديئة اعترضت في مناطق العرب، فسلمت بذلك لغتهم، وإنما كان هؤلاء القوم أنضاد النبي صلّى الله عليه وآله من أعمامه وأهله وعشيرته، فلا جرم كان صلّى الله عليه وآله على حد الكفاية في قدرته على انتزاع المذاهب البيانية، حتى اقتضب ألفاظاً كثيرة لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، وهي تعد من حسنات البيان، لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها، وقوة دلالتها، وكلها قد صار مثلاً، وأصبح ميراثاً خالداً في البيان العربي، كقوله: مات حتف أنفه.
وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما سمعت كلمة غريبة من العرب يريد التركيب البياني إلا وسمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسمعته يقول: مات حتف أنفه، وما سمعتها من عربي قبله. ومثل ذلك قوله في الحرب: الآن حمي الوطيس. وقوله: بعثت في نَفَس الساعة، ومنه ألفاظ كان العرب أنفسهم يسألونه عنها ويعجبون لانفراده بها وهم عرب مثله، كما عجبوا لفصاحته التي اختص
< صفحة > 293 < / صفحة >
بها ولم يخرج من بين أظهرهم، كما روي من أنه صلّى الله عليه وآله قال لأبي تميمة الهجيمي: إياك والمخيلة. فقال: يا رسول الله نحن قوم عرب، فما المخيلة؟ فقال: سبل الإزار. ومرت الكلمة بعد ذلك على هذا الوضع يراد بها الكبر ونحوه.
وليس ذلك بأعجب من مخاطبته وفود العرب بما كان لهم من اللغات والأوضاع الغريبة التي لاتعرفها قريش من لغتها، ولا تتهدّى إلى معانيها، ولا يعرفها بعض العرب عن بعض، حتى قال له عليٌّ وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فقال صلّى الله عليه وآله : أدبني ربي فأحسن تأديبي.
ومن ذلك كتبه الغريبة التي كان يمليها ويبعث بها إلى قبائل العرب يخاطبهم فيهم بلحونهم، ولا يعدو ألفاظهم وعبارتهم، فيما يريد أن يلقيه إليهم، وهي ألفاظ خاصة بهم وبمن يداخلهم ويقاربهم، ولاتجوز في غير أرضهم ولا تسير عنهم فيما يسير من أخبارهم، ولا تأتلف مع أوضاع اللغة القرشية!
فما ندري أي ذلك أعجب:أن ينفرد النبي صلّى الله عليه وآله بمعرفة هذا الغريب من ألسنة العرب دون قومه وغير قومه ممن ليس ذلك في لسانهم، عن غير تعليم ولا تلقين ولا رواية، أو أن يكون قومه من قريش قد ضربوا في الأرض للتجارة حتى اشتقّ إسمهم منها، وخالطوا العرب وسمعوا مناطقهم في أرضهم، وحين يتوافون إليهم في موسم الحج، وهم مع ذلك لايعلمون من هذا الغريب بعض ما يعلمه، ولايديرونه في ألسنتهم، ولايورثونه أعقابهم فيما ينشئون عليه من السماع والمحاكاة، حتى كان هذا الباب فيه صلّى الله عليه وآله باباً على حدة.
أما الكتاب الذي أشرنا إليه فهو كتابه صلّى الله عليه وآله لوائل بن حجر الكندي، أحد أقيال حضرموت، ومنه: إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب.. وفيه: وفي التيعة شاة لا مقورة الألياط، ولا ضناك، وأنطوا الثبجة. وفي السّيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة، واستوفضوه عاماً. ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم. ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام ووائل بن حجر يترفل على الأقيال.
وانظر كتابه إلى همدان، ومنه: إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها، تأكلون علافها، وترعون عفاءها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب
< صفحة > 294 < / صفحة >
والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري، وعليهم فيها الصالغ والقارح.
فهذه طائفة يسيرة مما انتهى إلينا من غريب اللغات التي كان يعلمها النبي ولولا أنها وجه من التاريخ والسيرة، لقد كانت انقطعت بها الرواية فلم ينته إلينا منها شيئ، فهي ولا ريب لم تكن مجتلبة ولا متكلفة، ولا ترامي إليها البحث والتفتيش، وإنما جرت منه صلّى الله عليه وآله مجرى غيرها، مما قذفه الطبع المتمكن، وألقته السليقة الواعية، ولا ريب أن وراء ألفاظها من سائر ما انفردت به تلك اللغات عن القرشية، فلا بد أن يكون صلّى الله عليه وآله محيطاً بفروق تلك اللغات، مستوعباً لها على أتم ما تكون الإحاطة والإستيعاب، كأنه في كل لغة من أهلها، بل أفصح أهلها.
وإذا كانت تلك فطرته اللغوية، في تمكنها وشدتها واستحصافها وسبيلها إلى الإلهام، وانطوائها على أسرار الوضع، فانظر ما عسى أن يحدث من مبلغ أثرها في اللغة، وضعاً واشتقاقاً واستجازة وتقليباً.
إذا نظرت فيما صح نقله من كلام النبي صلّى الله عليه وآله على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيته في الأولى مسدّد اللفظ محكم الوضع جزل التركيب. متناسب الأجزاء في تأليف الكلمات: فخم الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه واللفظ وضريبه في التأليف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفاً مضطرباً ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه، ولا كلمة غيرها أتم منها أداء للمعنى وتأتياً لسره في الاستعمال. ورأيته في الثانية حسن المعرض، بيِّن الجملة، واضح التفضيل، ظاهر الحدود جيد الرصف، متمكن المعنى واسع الحيلة في تصريفه، بديع الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهاً، ولا ترى اضطراباً ولا خطلاً، ولا استعانة من عجز، ولا توسعاً من ضيق، ولا ضعفاً في وجه من الوجوه.
وختم الرافعي بقوله/٢٣٤: (فاعلم أن نسق البلاغة النبوية إنما هو في أكثر الحد الإنساني من ذلك الإعجاز، يعلو كلام الناس من جهة وينزل عن القرآن من جهته الأخرى، فلا مطمع لأبلغ الناس فيما وراءه، ولا معجزة عليه فيما دونه، وهو عنده أبداً بين القدرة على بعضه والعجز عن بعضه. وقد بقيت بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله أوصاف جمة من محاسن البلاغة النبوية في عقبه من أهل البيت رضوان الله عليهم ومن اتصل منهم بسبب، أورثهم ذلك أفصح الخلق ولادة، وجادت لهم طباعه الشريفة بهذه الإجادة، فما تعارضهم بمن يحسن البلاغة إلا كانت لهم
< صفحة > 295 < / صفحة >
في البلاغة الحسنى وزيادة!
ما برح أهل البيت رضوان الله عليهم يتوارثون بلاغة هي فوق بلاغة الناس إلى أن انقضت السلائق العربية، وذلك فضل لا يدفعه من هذه الأمة أحد وإنما هي ذرية بعضها من بعض. وقد نص العلماء على أن سبب فصاحة الحسن البصري من إرضاع أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله إياه وكانت أرضعته، فكيف بمن وشجت عروقه، وكان من تلك الغاية ومذهبه وطريقه). انتهى.
أقول: ما أوردناه هو روح رسالة الرافعي في بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله ، وقد أجاد وسبق غيره حتى من تأخر عنه، فلم يكتب الى الآن أحد مثله.
ونؤكد على ماذكره عن علي عليه السلام وأنه عندنا تلميذ النبي صلّى الله عليه وآله ووارث علمه وبلاغته مضافاً الى أنه إمام ملهم من الله عز وجل. وكذلك أهل البيت عليهم السلام . بل كذلك من اتصل منهم بسبب كما أشار، أي عاش في ولايتهتم وتعلم من علومهم.
ولا مجال للإفاضة في بلاغة من والاهم ونبوغ كبار الكتاب والشعراء منهم.
**
< صفحة > 296 < / صفحة >

علي والزهراء وأئمة العترة عليهم السلام يتلون النبي صلّى الله عليه وآله في البلاغة

(١)
فالخبير باللغة العربية ومفرداتها أدبها وشعرها ومتونها، يلمس بوضوع تميز النبي وعترته صلّى الله عليه وآله في كلامهم عن بقية الناس، كما يتميز كلام الله تعالى عن كلامهم وكلام الناس.وإذا مارست خطبهم وكلماتهم عليهم السلام تلمس أن لكل واحد منهم أسلوبه الخاص الفريد، فتجد الزهراء عليها السلام تفيض فيضاً عن لسان أبيها وتتكلم عن الله والأمة بحقائق تعيشها وتنبض بها، بجزالة ألفاظ، وسلطان على اللغة والمعاني، ويكفي أن تدرس خطبتها عليها السلام المتواترة عنها في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله بعد وفاته، ومنها:
( أيها الناس إعلموا أني فاطمة وأبي محمداً، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل شططاً لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المُعْزي إليه صلّى الله عليه وآله فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجف الأصنام وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفُهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص.
وكنتم على شفا حفرة من النار، مُذقةَ الشارب، ونهزةَ الطامع، وقبسةَ العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرَق، وتقتاتون القِدَّ، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد بعد اللتيا والتي،وبعد أن مُني ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمراً ناصحاً، مجداً كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال!
< صفحة > 297 < / صفحة >
فلما اختار الله لنبيه صلّى الله عليه وآله دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير شربكم.
هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة! أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ. فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنى تؤفكون! وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً! وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)!
(٢)
وحسبك في بلاغة علي عليه السلام كتاب نهج البلاغة في خطبه وكلماته، كقوله:
( أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه! فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً!
حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده! فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشد ما تشطَّرا ضرعيها! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والإعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خَرَم، وإن أسلس لها تقحَّم).
(ومن كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها: أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان،
< صفحة > 298 < / صفحة >
وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعقة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع! أوَأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها. أو أترك سدى أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل علي من زاده فيهجع! قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية. فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك). (نهج البلاغة:٣/٧٠).
(٣)
ومن هذا النوع كلام ابنه الإمام الحسن عليه السلام . ومن كلامه ما رواه ابن شعبة الحراني في تحف العقول/٢٣١، قال: (كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام : أما بعد فإنكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة والأعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح عليه السلام التي نزلها المؤمنون ونجا فيها المسلمون. كتبت إليك يا ابن رسول الله عند اختلافنا في القدر وحيرتنا في الاستطاعة، فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك عليهم السلام فإن من علم الله علمكم وأنتم شهداء على الناس والله الشاهد عليكم، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
فأجابه الحسن عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلي كتابك ولولا ما ذكرته من حيرتك وحيرة من مضى قبلك إذاً ما أخبرتك، أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أن الله يعلمه فقد كفر، ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر، إن الله لم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم
< صفحة > 299 < / صفحة >
يهمل العباد سدى من المملكة، بل هو المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيراً، فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً، وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل، وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً، ولا أُلزموها كرهاً، بل من عليهم بأن بصرهم وعرفهم وحذرهم وأمرهم ونهاهم، لا جبْلاً لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه، ولله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين. والسلام على من اتبع الهدى). (تحف العقول/٢٣١).
ومن خطبة للإمام الحسن عليه السلام : (أيها الناس إنه من نصح لله وأخذ قوله دليلاً، هديَ للتي هي أقوم، ووفقه الله للرشاد، وسدده للحسنى، فإن جار الله آمن محفوظ، وعدوه خائف مخذول، فاحترسوا من الله بكثرة الذكر، واخشوا الله بالتقوى، وتقربوا إلى الله بالطاعة فإنه قريب مجيب، قال الله تبارك وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. فاستجيبوا لله وآمنوا به، فإنه لاينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم، فإن رفعة الذين يعلمون عظمة الله أن يتواضعوا وعز الذين يعرفون ما جلال الله أن يتذللوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله أن يستسلموا له، ولا ينكروا أنفسهم بعد المعرفة ولايضلوا بعد الهدى.
واعلموا علماً يقيناً أنكم لن تعرفوا التقى حتى تعرفوا صفة الهدى، ولن تمسكوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نبذه، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه. فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على الله والتحريف ورأيتم كيف يهوي من يهوي! ولايُجهلنكم الذين لا يعلمون، والتمسوا ذلك عند أهله، فإنهم خاصة نور يستضاء بهم، وأئمة يقتدى بهم، بهم عيش العلم وموت الجهل، وهم الذين أخبركم حلمهم عن جهلهم، وحكم منطقهم عن صمتهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وقد خلت لهم من الله سنة ومضى فيهم من الله حكم إن في ذلك لذكرى للذاكرين.
واعقلوه إذا سمعتموه، عقل رعاية ولا تعقلوه عقل رواية، فإن رواة الكتاب كثير، ورعاته قليل. والله المستعان). (تحف العقول/٢٢٨).
(٤)
وكذلك بلاغة الإمام الحسين عليه السلام : (لما عزم على الخروج من مكة إلى العراق قام خطيباً
< صفحة > 300 < / صفحة >
فقال:الحمد لله ما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله وسلم. خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى اشتياق أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوَفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خطَّ بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه وينجز بهم وعده. من كان باذلاً فينا مهجته، ومُوطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله). (مثير الأحزان/٤١).
ومن خطبته عليه السلام يوم عاشوراء:
أما بعد فتباً لكم أيتها الجماعة وتَرَحاً، أحين استصرختمونا ولهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً كان في أيماننا، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً على أوليائكم ويداً لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، وعن غير حدث كان منا ولا رأيٍ تفيل عنا، فهلَّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لم يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبى وتداعيتم عنها كتداعي الفراش. فسحقاً وبعداً لطواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، ومحرفي الكلم ومطفئ السنن، وملحقي العهرة بالنسب، المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين.
والله إنه لخذْلٌ فيكم معروف، قد وشجت عليه عروقكم وتوارت عليه أصولكم، فكنتم أخبث ثمرة، شجىً للناطر، وأكلة للغاصب. ألا فلعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيْمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز منا بين اثنتين بين السِّلَّة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصراع الكرام.
وإني زاحف إليهم بهذه الأسرة على كلَب العدو وكثرة العدد، وخذلة الناصر، ألا وما تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس حتى تدور رحى الحرب وتعلق النحور، عهد عهده إلي أبي عليه السلام .
فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.). (تحف العقول/٢٤٠).
< صفحة > 301 < / صفحة >
(٥)
وحسبك صحيفة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام . وقد كتبنا في مقدمتها:
إن أبرز ما عرف به الإمام زين العابدين عليه السلام : تَأَلُّهُهُ وتَعَبُّدُهُ وحُبُّهُ لله تعالى، حتى سميَ: (شاعر الله) وسميت صحيفة أدعيته: زبور آل محمد مقابل:زبور آل داود، الذي أنزله الله عليه، وكان فيه مناجاة وأدعية! فالإمام عليه السلام متألهٌ، كل حبه لربه، وكل فكره وذكره وخشوعه ودموعه، في يومه وليله، وحله وترحاله.. وهو مع ربه عز وجل في غاية الأدب، ينتقي في تصرفاته الحركة والسكون، لأنه يعيش في محضر ربه عز وجل.
وهو شاعر الله، فلربه كل مدائحه وقصائده، يخصه بأبلغ المعاني وأعلى الكلام!
والى الآن لم نر دراسةً في تألُّه الإمام عليه السلام وغيره من المعصومين عليهم السلام ، تكشف أبعاد حضور الله تعالى في فكرهم وشعورهم وعملهم، ونوع جديتهم وصدقهم وعمقهم في تعاملهم مع ربهم عز وجل. كأدعية الإمام زين العابدين عليه السلام ، بشفافيتها الخاصة ونسيمها السماوي!
إن الصحيفة السجاديةكتابٌ لم يعرفه الناس، وأول ما تنظر فيه تَبْهُرُك فيه قدرة معماره على بناء العبارة العربية، فهو أقدر من المؤلف البليغ الممسك باللغة وتراكيبها!
تجد مفردات العربية تدور فيه كالنجوم أفعالاً وأسماءً وحروفاً وصِيَغَ تعبير، تعرض نفسها على أنامل فكر الإمام عليه السلام ليجعلها آجرَّةً في أحد صروحه، أو لُحمةً في إحدى لوحاته. فالكلمة عند الإمام عليه السلام موجود حيويٌّ، ينتقيها من أسفاط اللغة كما ينتقي الخبير جواهره فيصوغها ويصوغ بها.
كما أنها موجود حيويٌّ بمحيطها الذي يضعها فيه الإمام فتُحْييه ويُحْييها. وبخيوط ارتباطها التي يبتكرها الإمام في حروف التعدية فيشد بها الأفعال والأسماء والحروف. فتتقابل الكلمات والفقرات والحروف وتتناغم وتضئ ، في جدلية وتبادلية خاصة، غنية.
والفكرة عنده عليه السلام روحٌ تنبض في الكلمة وتنبض بها، تجئ قادمةً من أفق أعلى، غنيٍّ غزير، ينساب في الروح، ويلذُّ للعقل، ويناغي أوتار النفس. تنحدر من أفقٌ جمالي عالٍ، بأروعَ من عقد الجوهر، وأجمل من نظيم الورد، معانيَ ونسيماً، آتيةً من منابع الغيب الغنية.
< صفحة > 302 < / صفحة >
والكون عند الإمام جميل كله، لا يرى ما يعكره حتى خطايا الإنسان وحتى القوانين والمقادير.
صفاءٌ في الذهن، ونقاءٌ في الفكر، وشفافيةٌ في الروح، كوَّنت شخصيته وعاش بها بصدقٍ، فاتَّحَدَ في شخصيته نمط السلوك بفكر العقيدة، برفرفات الروح، فلا فصل بين النظرية والتطبيق والقول والعمل!
يقول عليه السلام : (يا غفار بنورك اهتدينا، وبفضلك استغنينا، وبنعمتك أصبحنا وأمسينا. ذنوبنا بين يديك، نستغفرك اللهم منها ونتوب إليك.
تتحبب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك أن تحوطنا بنعمك وتتفضل علينا بالآئك، فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مبدئاً ومعيداً، تقدست أسماؤك وجل ثناؤك وكرمت صنائعك وفعالك. أنت إلهي أوسع فضلاً وأعظم حلماً من أن تقايسني بفعلي وخطيئتي، فالعفو العفو سيدي سيدي سيدي).
ويقول عليه السلام : (اللهم يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعز الباقي على مر الدهور وخوالي الأعوام، ومواضي الأزمان والأيام، عزسلطانك عزاً لا حد له بأولية، ولا منتهى له بآخرية.. واستعلى ملكك علواً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده، ولا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين. ضلت فيك الصفات، وتفسخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام.
كذلك أنت الله الأول في أوليتك، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول.
وأنا العبد الضعيف عملاً، الجسيم أملاً،خرجت من يدي أسباب الوصلات إلا ما وصلته رحمتك، وتقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك. قلَّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر عليَّ ما أبوء به من معصيتك. ولن يضيق عليك عفو عن عبدك وإن أساء، فاعف عني).
إن كل واحد من هؤلاء الأئمة عليهم السلام يستحق أن تُدرس بلاغته في موضوع مستقل.
**
< صفحة > 303 < / صفحة >

دراسة بلاغية لنماذج من كلام النبي صلّى الله عليه وآله

(١)
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله: وما دخولهم في الدنيا؟ قال:اتباع السلطان! فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم).(الكافي:١/٤٦).
١- اختار صلّى الله عليه وآله لعلماء الدين إسم الفقهاء ومعناه الفُهماء لأن الفقه هو الفهم.
وقد أخذه من قوله تعالى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ.
وهذا يوجب مستوى ذهنياً عالياً لا بد أن يتصف به الفقيه ليستوعب ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله من عقيدة وشريعة، ويكون أميناً عليه.
٢. أعطاهم النبي صلّى الله عليه وآله منصباً عظيماً أنهم أمناء الرسل على الدين، ومعناه أن الرسول صلّى الله عليه وآله بعد وفاته له سلطان على رسالته، فهو يعين الأمين عليها الذي يؤديها الى الأمة. وله سلطان على أمته فهو يعين من يقودها بعده ويطبق رسالته، وقد عينه ونص عليه وهم عترته عليهم السلام ، لكن قريشاً تبغض بني هاشم فعزلتهم وجاءت بشخص منها، وسمته خليفة النبي صلّى الله عليه وآله !
٣. اشترط النبي صلّى الله عليه وآله للفقيه أن يكون فوق الدنيا ولايدخل فيها، ولا يقصد بعدم دخوله فيها أن يكون راهباً، أولايعيش مثل متوسط الناس، بل فسره بأن يكون تابعاً للسلطان ، وإلا فقد صفة الأمين وصار متهماً على الدين!
٤. يعتمد النبي صلّى الله عليه وآله على الناس ويطلب منهم أن يميزوا بين الفقهاء، ولا يأخذوا معالم دينهم من علماء السلطة، لأنهم غير أمينين عليها.
بل يدل تعبير فاحذروهم على دينكم أن الأصل في علماء السلطة أنهم متهمون، وأن الحذر منهم واجب من أن يحرفوا الدين لرغبة الحاكم!
٥. فالحديث يقرر وجود فقهاء في بنية الأمة من غير المعصومين عليهم السلام ، وينهاهم عن اتباع السلطان، ويحذر المسلمين منهم إن فعلوا.
(٢)
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : (ما أنا والدنيا، إنما مثلي فيها كمثل راكب سار في يوم صائف، فرفعت
< صفحة > 304 < / صفحة >
له شجرة، فنزل فقال في ظلها ساعة، ثم راح وتركها). (معارج نهج البلاغة للبيهقي:٢/٣٢٧).
أيها الفارس الآتي من الغيب، روحي فداك. الأعظم قدراً من الدنيا، الذي لم ير فيها إلا معبراً، ولم يأخذ منها إلا قيلولة ساعة في ظل شجرة.
لقد رسم النبي صلّى الله عليه وآله في هذا الحديث صورة نفسه في سطرين بأبلغ الكلمات، ليعلمنا بها أن يكون المؤمن أكبر من الدنيا، لأنها لا تستحق أن يثق بها ويجعلها لأنفسنا قدراً !
وافتتحها بقوله: ما أنا والدنيا، كما تقول ما أنا وأنت؟ متى عرفتك وكنت لي صديقاً؟ أو كانت لي معك علاقة؟ ما أنا وأنت، لنحسب على بعضنا، وكل واحد منا مقولة.
ما أنا وأنتِ يادنيا حتى نتساوى أو نقرن معاً، فأنا آتٍ من الغيب على صهوة جوادي، عابرٌ الى الآخرة ونعيمها، وأنت كامنة في الطريق تخدعين عباد الله.
وقد أخذ ذلك منه تلميذه أميرالمؤمنين عليه السلام فقال:(يادنيا إليك عني، أبي تعرضت أم إلي تشوفت! لاحان حينك، هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك! قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير. أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك، هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود. والله لو كنت شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني، وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر). (نهج البلاغة:٢/٧٤).
(٣)
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في خطبته في حجة الوداع: (أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب). (تحف العقول/٣٠).
وقال صلّى الله عليه وآله : (الناس سواسية كأسنان المشط، لافضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى). (سفينة النجاة/٢٧٣، وشرح المقاصد:٢/٣٠٢)
١. هدف النبي صلّى الله عليه وآله أن يقنع الناس بوحدتهم أمام الشريعة، فبدأ من وحدة الخالق، وقال للناس: ما دام ربكم واحداً فيجب أن تكونوا متساويين أمام الشرع والقانون.
< صفحة > 305 < / صفحة >
وأبوكم واحد: فأنتم إخوة وأخوات من كل الشعوب والألوان والمستويات.
فلا تفتخروا على بعضكم، فأصلكم من تراب، لأن أباكم مخلوق تراب.
والتمايز الوحيد الصحيح بينكم تقوى الله وفيها التواضع وخدمة الآخرين. وختمها بتحميل الحاضرين مسؤولية حمل هذه العقيدة ونشرها.
٢. سؤال النبي صلّى الله عليه وآله بعد كل فقرة: ألا هل بلغت؟ يهز المستمع لأنه يقول له: إني أوصلت اليك رسالة من ربك، فاشهد لي، وسأشهد عليك.
٣. المساواة بين البشر حقيقة جميلة لكنها كانت صادمة، وما زالت! فهي جميلة كشعار إنساني، لكنها صادمة في التطبيق، وقد كانت كذلك في الجاهلية فأزالها النبي صلّى الله عليه وآله ، لكنها سرعان ما عادت بعده في أصحابه.
روى في دعائم الإسلام(١/٣٨٤): (أمر عمار بن ياسر، وعبيد الله بن أبي رافع وأباالهيثم بن التيهان، أن يقسموا فيئاً بين المسلمين، وقال لهم: إعدلوا فيه ولا تفضلوا أحداً على أحد. فحسبوا فوجدوا الذي يصيب كل رجل من المسلمين ثلاثة دنانير، فأعطوا الناس، فأقبل إليهم طلحة والزبير ومع كل واحد منهما ابنه، فدفعوا إلى كل واحد منهم ثلاثة دنانير، فقال طلحة والزبير: ليس هكذا كان يعطينا عمر، فهذا منكم أو عن أمر صاحبكم؟ قالوا: بل هكذا أمرنا أمير المؤمنين عليه السلام ، فمضيا إليه فوجداه في بعض أمواله قائماً في الشمس على أجير له يعمل بين يديه، فقالا: ترى أن ترتفع معنا إلى الظل؟قال نعم، فقالا له: إنا أتينا إلى عمالك على قسمة هذا الفئ، فأعطوا كل واحد منا مثل ما أعطوا سائرالناس. قال: وما تريدان؟ قالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر.قال: فما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يعطيكما؟ فسكتا. فقال: أليس كان صلّى الله عليه وآله يقسم بالسوية بين المسلمين من غير زيادة؟ قالا: نعم. قال: أفسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله أولى بالإتباع عندكما أم سنة عمر؟
قالا: سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله ولكن يا أمير المؤمنين لنا سابقة وغَنَاء وقرابة، فإن رأيت أن لا تسوينا بالناس فافعل، قال:سابقتكما أسبق أم سابقتي؟ قالا: سابقتك، قال: فقرابتكما أقرب أم قرابتي؟ قالا: قرابتك، قال: فغَنَاؤكما أعظم أم غَنَائي(نصرتكما للإسلام)؟ قالا: بل أنت أعظم غَنَاء.
قال:فوالله ما أنا وأجيري هذا في هذا المال إلا بمنزلة واحدة، وأومأ بيده إلى الأجير الذي بين يديه! قالا: جئنا لهذا وغيره، قال: وما غيره؟ قالا: أردنا العمرة فأذن لنا.
< صفحة > 306 < / صفحة >
قال: إنطلقا فما العمرة تريدان! ولقد أُنبئت بأمركما وأُريت مضاجعكما! فمضيا وهو يتلو وهما يسمعان: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عظيماً)!
٤. أما الغربيون، فهم أصل التمييز والطبقية وهم أصحاب نظرية تفوق الرجل الأبيض، وقد لاقى العالم منهم أنواع الإضطهاد والتدمير والإفقار ونهب الثروات. وكمثال فإن فرنسا صاحبة أكبر احتياطي من الذهب في العالم، وهي تحكم جمهورية مالي الإفريقية وفيها أكثر من ٣٠٠ منجم لاستخراج لذهب، وليس عندها أي احتياطي منه!
ومثال آخر أن الأمريكان من عدة قرون جاؤوا بمئات الألوف من السود واستعبدوهم ليعملوا في أرضهم، والى الآن يعيشون الإضطهاد والتمييز!
وتمييز الغربي ليس ضد السود فقط، بل على إنسان العالم، الثالث بقولهم.
(٤)
قال صلّى الله عليه وآله : (أيَسُرُّ أحدكم أن يكون على بابه حِمَّةٌ يغتسل فيها كل يوم خمس مرات فلا يبقى من درنه شئ؟ فقالوا: نعم، قال: فإنها الصلوات الخمس). (وسائل الشيعة:٣/٢).
(الصلاة عمود الدين، إذا قبلت قبل ما سواها، وإذا ردت رد ما سواها). (وسائل الشيعة:٣/١٧)
وقال صلّى الله عليه وآله 🙁 إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله إليه حتى ينصرف وأظلته الرحمة من فوق رأسه إلى أفق السماء،والملائكة تحفه من حوله إلى أفق السماء، وكل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول له:أيها المصلي لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفت ولا زلت من موضعك أبداً).
(الكافي:٣/٢٦٥).
(بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلي فلم يتم ركوعه ولا سجوده، فقال صلّى الله عليه وآله : نقر كنقر الغراب! لئن مات هذا وهكذا صلاته، ليموتن على غير ديني).
(الكافي:٣/٢٦٨).
١. لو سألت شخصاً: هل ترغب أن يكون أمام دارك نبع ماء معدني (حِمَّة) تغتسل فيها فتعود نظيفاً وتذهب أوساخك؟ لقال: نعم. لكن كيف؟
إنه ابتكار نبوي في التحبيب بالصلاة، بأن جعلها عيناً معدنية تغسل ذنوب أحدنا كلما اغتسل
< صفحة > 307 < / صفحة >
فيها. وكثيراً ما يستعمل النبي صلّى الله عليه وآله تشبيه المعنوي بالمحسوس، ليجسد للمخاطب تأثير سلوكه على شخصيته، كما يؤثر محيط العمل على بدنه فيحتاج الى غسل.
٢. طبعاً ذنوب الإنسان متفاوتة، وبعضها تحتاج مع الصلاة الى غسلها بترضية من أساء اليهم وظلمهم، أو تحتاج الى عمل مع الصلاة.
لكن الذنوب التي تغسلها الصلاة كثيرة ومهمة، وعندما يفهم المصلي أنه يغسل ذنوبه بصلاته، يسأل عن معالجة الذنوب التي لا تعالج بالصلاة.
٣. يصور الحديث الشريف المجتمع المسلم بأنه مجتمع يتطهر يومياً بمياه معدنية، فهو مجتمع نظيف، وقد قال البابا السابق إنه كان له زميل مسلم وكان يعجبه منه كثرة صلاته كل يوم.
٤. المجتمع الذي يتطهر ويصلي يومياً عدة مرات، متميز على المجتمع الذي لا يتطهر ولا يصلي إلا قليلاً، والفرق بينهما أن سلوك الإرتباط بالله تعالى سلوك تطهيري محبب يؤثر على شخصية المصلي وعلى طابع المجتمع بعامة. بينما المجتمع غير المصلي أو الذي يصلي أفراده نادراً، مجتمع مفصول على الله تعالى، كما ينفصل الجزء من الكل والمحدود من المطلق.
٥. والتطهر وغسل الأسفلين بالماء مرات يومياً أمر في غاية الأهمية لسلامة المجتمع وصحته، وشعور المتطهر بالراحة والإطمئنان. ويعرف ذلك كبار المفكرين الغربيين ويجهرون به!
في سبعينات القرن الماضي راجعت مستشفى رويل فري المتخصص بالكبد في لندن، وأخذ لي صديقنا وقتاً من الدكتور ماكنتير رئيس المستشفى، وفحصني بأسئلة استغرقت أكثر من ساعة، ثم طمأنني بسلامة كبدي. وكنا نتناول أطراف الحديث فأعجبته وأحبني وقال بما أنه رجل دين لا آخذ منه أجرة، مع أني دخلت المستشفى وأخذوا مني جزءً من الكبد للفحص احتياطاً.
وحدثني عنه الدكتور سيد محمد بأنه معجب بنظام الطهارة الإسلامي، قال: كنت أعمل معه فطلب مني ذات يوم أن أعطيه شيئاً، قلت له: فقط أغسل يدي وآتي به، فقال: لماذا تغسل يديك وأنت تتوضأ للصلاة في اليوم مرات، ورآني لم أقتنع فقال: أسألك هل يوجد في الغرب من يغسل أسفليه بالماء مثلكم؟ قلت: لا. قال: إذن أنتم أنظف منا، فجئ به ولا تغسل يدك!
٦. هذا في الطهارة المادية من النجاسات والأقذار، لكن الحِمَّة التي تكلم عنها النبي صلّى الله عليه وآله طهارة معنوية من الذنوب، وهي أهم وأبعد أثراً في الروح والشخصية والمجتمع من الطهارة المائية، وإن
< صفحة > 308 < / صفحة >
كانت شرطاً فيها. ولذلك قال الله تعالى في الصلاة:وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وهو نهي نسبي حسب الشخصية، لكنه موجود حتى في شخصية المجرم!
٧. تعبير النبي صلّى الله عليه وآله عن الصلاة بأنها عمود الدين، يؤكد أن الصلاة ارتباط المحدود بالمطلق، والذي لايصلي مفصول عن ربه، فشخصيته كالخيمة التي تقوض عمودها!
(٥)
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله الكافي:١/١٢-٢٥): (ما قسَم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل. ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته. وما يضمرالنبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب، الذين قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

أحاديث مفسرة لهذا الحديث

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :يا علي لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل)
وقال صلّى الله عليه وآله : إذا بلغكم عن رجل حسن حال، فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازي بعقله).
وقال صلّى الله عليه وآله : إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له، وأثنى قوم بحضرته على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : كيف عقل الرجل؟ فقالوا: يا رسول الله نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير تسألنا عن عقله؟ فقال صلّى الله عليه وآله : إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم). (تحف العقول/٥٤).
وقال صلّى الله عليه وآله : (قسم الله العقل ثلاثة أجزاء فمن كن فيه كمل عقله ومن لم يكن فلا عقل له: حسن المعرفة بالله وحسن الطاعة لله وحسن الصبر على أمر الله. وقدم المدينة رجل نصراني من أهل نجران وكان فيه بيان وله وقار وهيبة، فقيل: يا رسول الله ما أعقل هذا النصراني! فزجر القائل وقال: مه، إن العاقل من وحد الله وعمل بطاعته). (تحف العقول/٥٤).
وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام : (ما بعث الله نبياً قط إلا عاقلاً، وبعض النبيين أرجح
< صفحة > 309 < / صفحة >
من بعض، وما استخلف داود سليمان حتى اختبر عقله، واستخلف داود سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة، وملك ذو القرنين وهو ابن اثني عشر سنة، ومكث في ملكه ثلاثين سنة). ( المحاسن:١/١٩٣).
وقال عليه السلام لهشام بن الحكم:( يا هشام لا دين لمن لا مروة له ، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً. أمَا إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها). (الكافي:١/١٩).
وسئل الإمام الصادق عليه السلام : ( ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال قلت: فالذي كان في معاوية؟ قال: تلك النكراء وتلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بعقل). ( المحاسن:١/١٩٥). وقال الإمام محمد الباقر عليه السلام : ( إنما يداقُّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا). ( المحاسن:١/١٩٥).
ملاحظات
١. للعقل في الإسلام مكانة الصدارة، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وقال إن الناس العقلاء قليلون: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. فهم أضل لأن الأنعام تتصرف بغريزتها، وليس عندها عقل وتركته كالإنسان! ولذا كان من الناس من هو شر الدواب: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
٢. تلاحظ في أول الكافي وهو أهم مصدر في الحديث عندنا: كتاب العقل والجهل، ولا تجده في كتب الحديث السنية.
ومما رواه في الكافي عن الصادق عليه السلام : حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل.
وروى عن الباقر عليه السلام : لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل،ثم قال له أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب اليَّ منك. إياك آمر وإياك أنهي، وإياك أثيب وإياك أعاقب. وفي رواية المحاسن: ولا أكملك إلا فيمن أحب.
< صفحة > 310 < / صفحة >
وروى عن الصادق عليه السلام : أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شئ إلا به، العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونوراً لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون، وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبرون، وأنه الباقي وهم الفانون، واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه، من سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، وليلة ونهاره، وبأن له ولهم خالقاً ومدبراً لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل، وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم، عليه العقل.
قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته، علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة، وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله، إن لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلا به).
٣. القدرة العقلية في الإنسان ذاتية وكسبية، فمن العقل ما هو مخلوق في الإنسان بتكوينه، ومنه مكتسب بتنمية الإنسان لعقله.
فقد يكون عند الشخص عشرة بالمئة من العقل مثلاً فينميها الى سبعين. أو يكون عنده خمسين فيعطلها ويخالفها فتصير عشرة بالمئة. فسلوك الإنسان وإرادته يزيد أو يُنقص من عقله، وبعض الأعمال تزيد فيه أو تنقصه.
ومعنى قول النبي صلّى الله عليه وآله : ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل: أي يتكامل النبي ببرنامج عملي من نفسه أو من ربه، ثم يبعثه نبياً أو رسولاً.
٤. قيمة الإنسان بعقله، فخفيف العقل ناقص القدر والقيمة، وعديم العقل لاقيمة له. ولأن العقل عالي القيمة فقد جعله الله في الدنيا قليلاً، ولذا قال النبي صلّى الله عليه وآله : ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، وطبيعي أن تكون قسمته بعدل واستحقاق،ففي عالم الذرأعطى الناس فرصاً وقدرات متساوية وامتحنهم، وكتب لكل واحد منهم ما استحقه.
قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ.
< صفحة > 311 < / صفحة >
٥. تكليف الله للإنسان على قدر عقله فصاحب العشرة بالمئة من العقل يكلف بقدرها فقط لا أكثر، وهكذا، والحساب يوم القيامة والجزاء بقدر ما أعطي من عقل. والذي لا عقل به أو المجنون لا تكليف عليه، فإذا أخذ الله ما وهب سقط عن الإنسان ما وجب.
(٦)
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( يا بني عبد المطلب، إن الرائد لا يكذب أهله. والذي بعثني بالحق نبياً، لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وما بعد الموت دار إلا جنة أو نار).
(الإعتقادات للصدوق/٦٤)
أقول: هذه فقرة من حديث الدار المعروف لما نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ونذكر حوله بعض النقاط:
١. الحديث متواتر بالمعنى، فقد روته عامة المصادر ومختلف الفرق. وخلاصته:أن الله تعالى أمر نبيه أن ينذر عشيرته الأقربين بني هاشم فدعاهم وكانوا أربعين رجلاً أو خمساً وأربعين، وأمر علياً فصنع لهم فخذ شاة وعِسَّ لبن، فأكلوا كلهم وشربوا ولم ينقص الطعام، فقال أبولهب: سحركم صاحبكم! ثم قال: هؤلاء عمومتك وبنو عمك، فتكلم لما تريد، ودع الصلاة، واعلم أنه ليست لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأن أحق من أخذك فحبسك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك، فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدها العرب! فما رأيت، يا بن أخي، أحداً قط جاء بنى أبيه بشرّ مما جئتهم به!
وأسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم يتكلم في ذلك المجلس، ومكث أياماً وكبر عليه كلام أبي لهب، فنزل جبريل فأمره بإمضاء ما أمره الله به وشجعه عليه، فجمعهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ثانية فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله. والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم. ولو غررت الناس ما غررتكم. والله الذي لا إله إلا هو، إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة. والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءً، وإنها للجنة أبداً والنار أبداً، وأنتم لأول من أُنذر.
فقال أبوطالب: ما أحب إلينا معاونتك ومرافدتك، وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقنا
< صفحة > 312 < / صفحة >
لحديثك وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم، غير أني والله أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، وزاد غيرنا قول أبي طالب وهو مكذوب! (غير أني لا أجد نفسي تطوع لي فراق دين عبد المطلب حتى أموت على ما مات عليه).
وتكلم القوم كلاماً ليناً غير أبي لهب فإنه قال: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعت الناس؟يا بني عبد المطلب هذه والله السوءة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن أسلمتوه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم. فقال أبوطالب: يا عورة! والله لننصرنه ثم لنمنعنه. يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح، والله لنمنعه ما بقينا!
ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله :يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال فأحجم القوم عنها جميعاً. وقال علي: يا نبي الله أنا أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)!
٢. الحديث كما ترى نص على خلافة علي عليه السلام في أول بعثة النبي صلّى الله عليه وآله ، ولهذا لايروق لأتباع أصحاب السقيفة، ويحرفه رواتهم فيحذفون منه، فقد رواه الطبري في تاريخه وفيه: (ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا). ورواه في تفسيره وفيه: (ثم قال: إن هذا أخي، وكذا وكذا! وتبعه ابن كثير في البداية والنهاية(٣ /٤٠) وتفسيره(٣ /٣٥١).
٣. كما أن محمد حسين هيكل أورده من تاريخ الطبري في كتابه حياة محمد. في الطبعة الأولى/١٠٤، ثم عاد فحذف من الطبعة الثانية /١٣٩ سنة ١٣٥٤، واقتصر على قوله: ويكون أخي ووصيي، وذلك بطلب سفارة السعودية في القاهرة لقاء خمس مائة جنيه، أو لقاء شراء ألف نسخة من كتابه (ذكر ذلك الشيخ محمد جواد مغنية في: فلسفة التوحيد والولاية/١٧٩).
٤. قال المفيد في الإرشاد (١/٤٩): « أجمع على صحته نُقاد الآثار، حين جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً، فيما ذكره الرواة وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر، ويُعَدَّ لهم صاعاً من اللبن، وقد
< صفحة > 313 < / صفحة >
كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة (الذبيحة) في مقام واحد، ويشرب الفرق (السطل) من الشراب في ذلك المقام وأراد صلّى الله عليه وآله بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه. ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوا منه، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه. ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب: يا بني عبد المطلب، إن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال عز وجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فلم يجب أحد منهم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً، وأحمشهم ساقاً، وأرمصهم عيناً، فقلت: أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال: أجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فاصمتوا، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال: أجلس. ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: أجلس، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أباطالب، ليهنك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميراً عليك!
وهذه منقبة جليلة اختص بها أمير المؤمنين عليه السلام ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار، ولا أحد من أهل الإسلام، وليس لغيره عدل لها من الفضل ولا مقارب على حال ».

رواية الطبري في تاريخه

(حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال لي: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه
< صفحة > 314 < / صفحة >
حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبوطالب وحمزة والعباس وأبولهب. فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول ورسول الله صلّى الله عليه وآله حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى مالهم بشئ حاجة، وما أرى إلا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: إسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً.وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يكلمهم بدره أبولهب إلى الكلام فقال: لقد ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال الغد: يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعُدَّ لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلى. قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعا بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة. ثم قال: إسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!
حدثني زكرياء بن يحيى الضرير قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا أبوعوانة عن عثمان ابن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد، أن رجلاً قال لعلي: يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمك دون عمك؟فقال علي: هاؤم ثلاث مرات حتى اشرأب الناس ونشروا آذانهم، ثم قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله أو دعا رسول الله بني عبد المطلب منهم رهطه كلهم يأكل الجذعة
< صفحة > 315 < / صفحة >
ويشرب الفرق. قال: فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس! قال: ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس ولم يشربوا! قال ثم قال: يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم بخاصة وإلى الناس بعامة وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي، فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر القوم، قال فقال: أجلس. قال: ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي أجلس حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي! قال فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي). يقصد عمه العباس. (تاريخ الطبري:٢/٦٢).

رواية البلاذري

(وحدثني محمد بن سعد والوليد بن صالح، عن محمد بن عمر الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله، عن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم قال: لما نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله : وأنذر عشيرتك الأقربين، اشتدّ ذلك عليه وضاق به ذرعا. فمكث شهرا أو نحوه جالساً في بيته، حتى ظن عماته أنه شاك، فدخلن عليه عائدات، فقال: ما اشتكيت شيئاً، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فأردت جمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى الله. قلن: فادعوهم، ولا تجعل عبد العزى فيهم يعنين أبالهب فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه. وخرجن من عنده، وهن يقلن: إنما نحن نساء. فلما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا ومعهم عدة من بني عبد مناف، وجميعهم خمسة وأربعون رجلاً. وسارع إليه أبولهب وهو يظن أنه يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون. فلما اجتمعوا، قال أبولهب: هؤلاء عمومتك وبنو عمك، فتكلم لما تريد ودع الصلاة، واعلم أنه ليست لقومك بالعرب قاطبة طاقة. وأن أحق من أخذك فحبسك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدها العرب فما رأيت. يا بن أخي، أحداً قط جاء بني أبيه بشرٍّ مما جئتهم به.
وأسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم يتكلم في ذلك المجلس، ومكث أياماً وكبر عليه كلام أبي لهب، فنزل جبريل فأمره بإمضاء ما أمره الله به وشجعه عليه، فجمعهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ثانية، فقال: الحمد لله أحمده، واستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو
< صفحة > 316 < / صفحة >
غررت الناس ما غررتكم. والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة. والله، لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءً. وإنها للجنة أبداً والنار أبداً. وأنتم لأول من أنذر.
فقال أبوطالب: ما أحب إلينا معاونتك ومرافدتك وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك. وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أنى والله أسرعهم إلى ما تحب. فامض لما أمرت به فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، (غير أني لا أجد نفسي تطوع لي فراق دين عبد المطلب حتى أموت على ما مات عليه). وتكلم القوم كلاماً ليناً غير أبي لهب فإنه قال: يا بني عبد المطلب، هذه والله السوءة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن أسلمتوه حينئذ، ذللتم وإن منعتموه قتلتم. فقال أبوطالب: والله، لنمنعه ما بقينا). (أنساب الأشراف:١/١١٨).

ملاحظات من الحديث

١. (يا بني عبد المطلب، إن الرائد لا يكذب أهله. والذي بعثني بالحق نبياً لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وما بعد الموت دار، إلا جنة أو نار). (الإعتقادات للصدوق/٦٤). وفي رواية: وإنها للجنة أبداً أو النار أبداً.
٢. الرائد: الذي يرسله القوم ليستطلع العشب والماء، فإن رجع وأخبرهم أنه وجده في المكان الفلاني فهو صادق لا يكذب علىهم. وفي رواية: والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس ما غررتكم.
٣. هذا أول قسم للنبي صلّى الله عليه وآله بصيغة: والذي بعثني بالحق، وهو يدل على يقينه بربه ونبوته وبما يبلغه ويقسم عليه. وقد تعلمه الناس منه فصاروا يقسمون: والذي بعث محمداً بالحق، وفي خطابهم له: والذي بعثك بالحق.
٤. من أبلغ الكلام النبوي تصوير صلّى الله عليه وآله الموت والبعث بأنه نوم واستيقاظ. والنبي صلّى الله عليه وآله يأخذ مفاهيمه من الوحي والقرآن، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى. فالموت ليس فناء وانتهاء، ولا أمراً مهولاً، بل نومة يتبعها يقظة وبعث الى المحشر، يختم بجنة أو نار. وبهذا الإختصار رسم النبي صلّى الله عليه وآله أهم مراحل رحلة الإنسان.
**
< صفحة > 317 < / صفحة >

الفصل الثالث والستون : أم سلمة بطلة نساء النبي صلّى الله عليه وآله بعد خديجة عليها السلام

ضرورة فهم صراع بطون قريش مع بني هاشم

لا يمكن لباحث أن يفهم الإسلام، سواءً عصر النبوة أو بعده، حتى يفهم التركيبة القبلية لقريش، وصراع بطون قريش مع بني هاشم.
فعندما بُعث النبي صلّى الله عليه وآله كانت قريش أكثر من عشرين قبيلة صغيرة وكبيرة، وكان عدد نفوسها جميعاً نحو ثلاثين ألفاً، وبعض القبائل لا يزيد عددها عن ثلاثين أو أربعين نفراً، كبني تيم وعدي قبيلتي أبي بكر وعمر.
والقبائل المؤثرة معدودة والباقون تابعون لها، وقد ظهر ذلك لما بَنَتْ قريش الكعبة فاختلفوا مَن يضع الحجر الأسود مكانه، فمثلتها خمس قبائل ورضي بذلك الجميع. ففي الكافي(٤/٢١٨): ( فلما بلغ البناء إلى موضع الحجر الأسود تشاجرت قريش في موضعه، فقال كل قبيلة نحن أولى به نحن نضعه، فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا: هذا الأمين قد جاء فحكموه، فبسط رداءه وقال بعضهم كساء طاروني كان له (كساء خز) ووضع الحجر فيه ثم قال: يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى، وأبوحذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي صلّى الله عليه وآله في موضعه).
وذكر المؤرخون والمحدثون ترتيب قبائل قريش حسب ما رآه عمر، من أجل عطاءات الدولة وتحمُّل الدية، كالتالي:
< صفحة > 318 < / صفحة >
١ - بني هاشم وبني المطلب. ٢- بني عبد شمس وبني نوفل.٣- بني أسد بن عبد العزى. ٤- بني عبد الدار. ٥- بني زهرة. ٦- بني مخزوم، وألحق بهم بني تيم عشيرة أبي بكر. ٧- بني سهم ولم يقبلوا بإلحاق بني عدي بهم. ٨- بني جمح. ٩- بني عامر بن لؤي أو بني فهر. ١٠- بني عدي.(كتاب الأم للشافعي:٤/١٦٦).
وكانت قبائل العرب تحترم قريشاً لمكانة الكعبة عندها، وكان لها نفوذ فيها وتحالفات مع بعضها، من أبرزها تحالف بني هاشم مع خزاعة، وتحالف بني عبد الدار وعبد شمس مع كنانة.
هذه كل قريش التي واجهت النبي صلّى الله عليه وآله ووصفها الله تعالى بأنهم الفراعنة، وأئمة الكفر!
وأخبر بأن أكثرهم حق عليهم القول فلن يؤمنوا أبداً حتى في المستقبل: لِتُنْذِرَ قوماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
وهذه قريش التي حاربت النبي صلّى الله عليه وآله وعترته وأنصاره بكل ما استطاعت، حتى انتصر عليها ودخل مكة فاتحاً فأخضعها ودخلت في الإسلام مرغمة، ثم سيطرت على دولته بعد وفاته وعزلت عترته واضطهدتهم واضطهدت شيعتهم، إلى يومنا هذا!
وهذه قريش، التي صنعت تاريخ الإسلام الرسمي وأسست مذاهبه وفقهه، وجعلت ولاية زعمائها جزءً منه، وربَّتْ عليه الأجيال إلى يومنا هذا!

بنو مخزوم أهم بطون قريش بعد بني هاشم وأمية

١. كان ترتيب عمرلبطون قريش باعتبار الشرف والمكانة في حسابهم، لكن عملياً كانت البطون الأهم بنو هاشم وبنو أمية ثم مخزوم.
روى الحاكم (٤/٤٨٧): (قال أبوسعيد الخدري قال رسول الله صلّى الله عليه وآله إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً، وإن أشد قومنا لنا بغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم). وبنو المغيرة فرع أبي جهل من مخزوم.
وكان رئيس مخزوم الوليد بن المغيرة رئيس المستهزئين الناشطين في عداوة النبي صلّى الله عليه وآله ثم ورثه أبوجهل عمرو بن هشام، الذي عذب أسرة عمار.
والمستهزؤون برسول الله صلّى الله عليه وآله خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب،
< صفحة > 319 < / صفحة >
والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن طلاطلة الخزاعي. وقد أنذروا رسول الله صلّى الله عليه وآله الى يوم معين أن يرجع عن نبوته، وإلا قتلوه بكل طريقة، فأتاه جبرئيل عليه السلام وأراه كيف قتلهم في ذلك اليوم واحداً واحداً وقرأ عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ.
فبدأت المرحلة الثانية في نبوته، وذهب الى الحِجْر ودعا الناس الى الإسلام.
٢. من صفات المستهزئين الخمسة: الإلحاد، والمادية، والتكبر، والتعقيد النفسي! بحيث أن الله تعالى الذي وسع حلمه كل شئ، قال عنهم وعن رئيسهم الوليد: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ.
قال في الكشاف (٤/١٤٢): « العتل: الجافي. والزنيم: الدعي. وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده ».
وكان زنديقاً ملحداً لا يؤمن بشئ، وكذا العاص بن وائل، وعدد من كبار قريش. ( المنمق / ٢٨٨، وعمدة القاري:١١/٢٠٩). وقد قاد الوليد كل زعماء بطون قريش في عداوة النبي صلّى الله عليه وآله والعمل لقتله.
٣. قال الوليد بن المغيرة للنبي صلّى الله عليه وآله : «والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأنني أكبر منك سناً، وأكثر منك مالاً ».( المناقب: ١ / ٤٧، والإحتجاج: ١ / ٢٦، وابن هشام: ١ / ٢٤٢). فأنزل الله تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.
٤. في السنة الأولى لبعثة النبي صلّى الله عليه وآله دعا الوليد زعماء البطون ليتفقوا على الموقف من النبي صلّى الله عليه وآله ! ففي الطبراني الكبير(١١/١٠٢): « صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر ».
٥. أبرز أولاد الوليد بن المغيرة: أبوقيس بن الوليد، وقد أسلم في مكة ثم ارتد مع ابن أخيه الفاكه (عمدة القاري: ١٨/١٨٧) ثم كان مع المشركين في بدر فقتله علي عليه السلام ( شرح الأخبار: ١ / ٢٦٥، وابن هشام: ٢ / ٥٢٨). وعمارة بن الوليد الذي جاؤوا به إلى أبي طالب ليعطيهم النبي صلّى الله عليه وآله فيقتلوه ويأخذه بدله! ثم أرسلوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي فهلك هناك.
والوليد بن الوليد، زعموا أنه أسلم سراً وأن النبي صلّى الله عليه وآله كان يدعو له في قنوته: « فيقول:اللهم
< صفحة > 320 < / صفحة >
أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سني يوسف».( البخاري: ١/١٩٤، ورواه سبع مرات).
وتوفي الوليد بن الوليد في المدينة في حياة النبي صلّى الله عليه وآله ، ففي الكافي(٥/١١٧) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: فقالت أم سلمة (المخزومية) للنبي صلّى الله عليه وآله : إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالت:
أنعى الوليد بن الوليد * أبا الوليد فتى العشيرة
حامي الحقيقــــــة ماجد * يســـــمو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثاً في السنين * وجعفـــــــــراً غدقاً وميرة
قال: فما عاب ذلك عليها النبي صلّى الله عليه وآله ولا قال شيئاً ».
وهشام بن الوليد بن المغيرة، كان من المؤلفة قلوبهم.(الإستيعاب:٤/١٥٤١).
وهوالذي هدد عثمان لما ضرب عمار بن ياسرحليفه فقال:أما والله لئن مات عمارمن ضربه هذا لأقتلن به رجلاً عظيماً من بني أمية (الإمامة والسياسة:١/٥١».

تحدى أبوسلمة وأم سلمة الوليد بن المغيرة وأعلنا إسلامهما

قال ابن حجر في الإصابة(٤/١٣١)ملخصاً: (عبد الله بن عبد الأسد المخزومي من السابقين الأوليين إلى الاسلام. قال بن إسحاق: أسلم بعد عشرة أنفس، وكان ابن عمة النبي صلّى الله عليه وآله أمه برة بنت عبد المطلب وهو مشهور بكنيته أكثر من إسمه، ومات بالمدينة بعد أن رجعوا من أحد. قال ابن سعد: شهد بدراً وأحداً فجرح بها، ثم بعثه النبي صلّى الله عليه وآله سرية إلى بني أسد في صفر سنة أربع ثم رجع فانتقض جرحه، فمات في جمادى الآخرة).
وفي سيرة ابن هشام(٢/٢٢١): (هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، كان قدم على رسول الله ص مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجراً).
< صفحة > 321 < / صفحة >
وقال ابن عبد البر في الإستيعاب(٣/٩٣٩): (كان عند وفاته قال: اللَّهمّ اخلفني في أهلي بخير، فأخلفه رسول الله صلّى الله عليه وآله على زوجته أم سلمة، فصارت أماً للمؤمنين، وصار رسول الله صلّى الله عليه وآله ربيب بنيه: عمر، وسلمة، وزينب).

كان أبو سلمة ابن أخت أبي طالب فحماه من مخزوم!

قال ابن هشام(١/٢٤٨): (قال ابن إسحاق: إن أباسلمة لما استجار بأبي طالب مشى إليه الرجال من بني مخزوم، فقالوا له: يا أباطالب، لقد منعت منا ابن أخيك محمداً، فمالك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي، وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبولهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ! ما تزالون توثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد، قال فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أباعتبة، وكان لهم ولياً وناصراً على رسول الله صلّى الله عليه وآله فأبقوا على ذلك، فطمع فيه أبوطالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال يحرض أبالهب على نصرته ونصرة رسول الله صلّى الله عليه وآله :
وإن امرأ أبوعتيبــــــــــة عمـــــــــه * لفي روضة ما إن يسام المظالما
أقول له وأين منـــــــــه نصيحتي * أبامعتب ثبت ســـــــــوادك قائما
ولا تقبلن الدهـــــــــر ما عشت خطة * تسب بها إما هبطت المواسما
وول سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نَصف ولن ترى* أخا الحرب يعطي الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانماً أو مغارما
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * وتيمـــــــــاً ومخزوماً عقوقـــــــــاً ومأثما
بتفريقهم مـــــــــن بعـــــــــد ود وألفة * جماعتنا كيمـــــــــا ينالوا المحارما
كذبتم وبيت الله نبـــــــــزي محمـــــــــداً * ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما
قال ابن هشام: نبزى، نسلم. قال ابن هشام: وبقي منها بيت تركناه).
< صفحة > 322 < / صفحة >
وروى القاضي النعمان في المناقب/١٢٣، البيت الذي تركه ابن هشام وهو:
أطاعوا ابن ذكوان وقيساً ودَيْسماً * فضلوا وذاقوا بالجميع المياسما
يعني بابن ذكوان: عقبة بن أبي معيط نسبه الى ذكوان اليهودي غلام أمية. ودَيْسم: الوليد بن المغيرة. والدَّيْسَم: ابن الذئب من الكلبة وقيس: قيس بن عاقل »! ( لسان العرب:١٢/٢٠١).
وكان أبوطالب عليه السلام يطعن في نسب الوليد بن المغيرة، وقد صدَّقه الله تعالى فقال عن الوليد: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. أي ابن حرام!
كما صدَّقه النبي صلّى الله عليه وآله في طعنه بنسب عقبة بن أبي معيط فقال له في بدر: « ما أنت وقريش، وهل أنت إلا يهودي من صفورية»! (الإصابة:٥/٣٩٨).
وذكر ابن هشام (١/١٧٩) قول أبي طالب في لاميته في قيس بن عاقل:
بني أمة محبوبـــــــــة هندكية * بني جمح عبيد قيس بن عاقل).
فجد بني جمح عنده عبدٌ لقيس بن عاقل.
أقول: وهكذا استطاع أبوطالب عليه السلام أن يحمي ابن أخته المسلم، وقد احترم النبي صلّى الله عليه وآله ابن عمته أباسلمة وقربه. وكانت حماية زوجته أم سلمة لا تقل أهمية عن حمايته، لأنها بنت عم أبي جهل رئيس مخزوم!

زار النبي صلّى الله عليه وآله أباسلمة وهو محتضر ودعا له

في أسد الغابة(٣/١٩٥): (قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة قالت: لما حضر أباسلمة الموت حضره رسول الله صلّى الله عليه وآله فلما شخص أغمض رسول الله صلّى الله عليه وآله عينيه ورواه أبوقلابة عن قبيصة وزاد بعد: فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال: لاتدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون. ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين).
< صفحة > 323 < / صفحة >

أم سلمة أفضل أزواج النبي صلّى الله عليه وآله بعد خديجة عليهما السلام

قال الإمام الصادق عليه السلام :(الخصال/١٢٠، و/٤١٩):
(تزوج رسول الله|بخمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة منهن، وقبض عن تسع. فأما اللتان لم يدخل بهما فعمرة والسني.
وأما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن فأولهن خديجة بنت خويلد، ثم سودة بنت زمعة، ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية، ثم أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر، ثم حفصة بنت عمر، ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين ثم زينب بنت جحش، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، ثم ميمونة بنت الحارث، ثم زينب بنت عميس، ثم جويرية بنت الحارث، ثم صفية بنت حيي بن أخطب. والتي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وآله خولة بنت حكيم السلمي، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه: مارية، وريحانة الخندفية.
والتسع اللاتي قبض عنهن: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وصفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث، وسودة بنت زمعة. وأفضلهن خديجة، ثم أم سلمة ، ثم ميمونة بنت الحارث).
وفي الطبقات (٨/٨٩): (فلما انقضت عدتها خطبها أبوبكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالت: مرحباً برسول الله، أخبر رسول الله أني امرأة غَيْرى وأني مُصْبِيَة، وأنه ليس أحد من أوليائي شاهد.
فبعث إليها رسول الله صلّى الله عليه وآله : أما قولك إني مصبية فإن الله سيكفيك صبيانك وأما قولك إني غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك. وأما الأولياء فليس أحد منهم شاهد ولا غائب إلا سيرضاني. قال: قالت لابنها: يا عمر قم فزوج رسول الله. قال رسول الله: أما إني لا أنقصك مما أعطيت أختك فلانة رحيين وجرتين ووسادة من أدم حشوها ليف.
قال: وكان رسول الله يأتيها فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها،وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله حيياً كريماً يستحيي فيرجع، فعل ذلك مراراً، ففطن عمار بن ياسر لما تصنع قال فأقبل ذات يوم وجاء عمار وكان أخاها لأمها (من الرضاعة) فدخل عليها فانتشطها من حجرها
< صفحة > 324 < / صفحة >
وقال دعي هذه المقبوحة التي آذيت بها رسول الله! فدخل فجعل يقلب بصره في البيت يقول: أين زناب ما فعلت زناب؟ قالت جاء عمار فذهب بها. قال: فبنى رسول الله صلّى الله عليه وآله بأهله).
«لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وآله أم سلمة قال لها إني أهديت إلى النجاشي أواقاً من مسك وحلة، وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد، فإذا ردت فهي لك. فلما ردت إليه الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك وأعطى سائره أم سلمة ».
(كبير الطبراني:٢٥/٨١).
وقالت عائشة: « لما تزوج رسول الله أم سلمة حزنتُ حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها! قالت: فتلطفت لها حتى رأيتها فرأيتها والله أضعاف ما وُصفت لي في الحسن والجمال)!
( الطبقات:٨ /٩٤).

أم سلمة أرقى من بقية نساء النبي عدا خديجة

فقد تميزت عنهن بإسلامها المبكر وعمق إيمانها، ووفرة عقلها، ووعيها، وجمالها، فإذا حدثت بحديث فهي بليغة مستوعبة، وإذا وصفت شخصاً أوحدثاً أجادت.
كما تميزت بمكانة أهلها وقومها بني مخزوم. فأبوها أبوأمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم! ابن عم أبي جهل: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم». (دلائل الإمامة/٨١، وعمدة القاري: ١٧/٨٤).
روى الحاكم (٤/١٩)أنهم سألوها في المدينة فقالت:(إنها ابنة أبي أمية بن المغيرة فكذبوها وقالوا ما أكذب الغرائب. حتى نشأ ناس إلى الحج فقيل لها تكتبين إلى أهلك فكتبت معهم، فرجعوا إلى المدينة فصدقوها وازدادوا لها كرامة).
وقد كتبنا عنها في السيرة النبوية وهذه الخلاصة مكملة لسيرتها عليها السلام .

وصفت أم سلمة هجرة المسلمين الى الحبشة وصفاً بليغاً

كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام (١/٣٣٩): (من أصح روايات الهجرة إلى الحبشة ما رواه السنة والشيعة عن أم سلمة عليها السلام قالت: « لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب
< صفحة > 325 < / صفحة >
رسول الله صلّى الله عليه وآله وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله لايستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً. فلما رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً، أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيؤوا له هدية على ذي حدة، وقالوا لهما إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموه فيهم ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا! فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته وكلموه وقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل.
ثم قدما إلى النجاشي هداياه، وكان أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم. فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجؤوا إلى بلادك، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عيناً. فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عيناً، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك!
فغضب ثم قال: لا لعمرو الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم، وأنظر ما أمرهم؟ قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أخلِّ بينهم وبينهم ولم أنعمهم عيناً!
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شئ أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم! فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول؟ نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلّى الله عليه وآله كائن في ذلك ما كان!
< صفحة > 326 < / صفحة >
فلما دخلوا عليه كان الذي كلمه منهم جعفر بن أبي طالب فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر: أيها الملك، كنا قوماً على الشرك نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئاً ولا نحرمه!
فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم ولا نعبد غيره. فقال: هل معك شئ مما جاء به؟وقد دعا أساقفتة فأمرهم فنشروا المصاحف حوله. فقال له جعفر: نعم، قال: هلم فاتل عليَّ ما جاء به، فقرأ عليه صدراً من كهيعص! فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى! إنطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عيناً! فخرجا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة، فقال له عمرو بن العاص:والله لآتينه غداً بما أستأصل به خضراءهم! لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد! فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا، فإن لهم رحماً ولهم حقاً. فقال: والله لأفعلن! فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه! فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول! فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عويداً بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود! فتناخرت بطارقته فقال: وإن تناخرتم والله! إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي. والسيوم الآمنون، ومن سبكم غُرِّم ثلاثاً! ما أحب أن لي دبيراً وأني آذيت رجلاً منكم. والدبير بلسانهم الذهب! فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها واخرجا من بلادي، فخرجا مقبوحين مردود عليهما ما جاءا به! فأقمنا مع خير جار في خير دار.
< صفحة > 327 < / صفحة >
فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد منه فرَقاً أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لايعرف من حقنا ما كان يعرف، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله بعضهم لبعض: مَن رجل يخرج فيحضرالوقعة حتى ينظر على من تكون؟ فقال الزبير: وكان من أحدثهم سناً: أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى جنب التقاء الناس، فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله وظهر النجاشي عليه، فجاءنا الزبير فجعل يلمح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي! فوالله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي. قالت: ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله ».
( ذخائر العقبى / ٢٠٩، وسيرة ابن إسحاق: ٤ / ١٩٣، وابن هشام: ١ / ٢٢٤، والخرائج: ١ / ١٣٣).

وصفت هجرتها الى المدينة وكيف ردها بنو مخزوم!

في سيرة ابن هشام(٢/٣٢٢): (قال ابن إسحاق: فحدثني أبي إسحاق بن يسار عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله قالت: لما أجمع أبوسلمة الخروج إلى المدينة من مكة، رحَّل بعيراً له وحملني وحمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام تترك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني، وغضبت عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى سلمة وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، وحبسني بنو المغيرة عندهم. وانطلق زوجي أبوسلمة حتى لحق بالمدينة، ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي، حتى أمسي سنة أو قريبها، حتى مر بي رجل من بني عمي من بني المغيرة فرأى ما بي، فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها، فقالوا لي: إلحقي بزوجك إن شئت، ورد علي بنو عبد الأسد عند ذلك ابني، فرحلت بعيري ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، فقلت: أتبلغ
< صفحة > 328 < / صفحة >
بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال: أين يا بنت أبي أمية؟ قلت:أريد زوجي بالمدينة. فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا والله، إلا الله وابني هذا. فقال: والله مالك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب أراه كان أكرم منه، إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني وقال: إركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ننزل. فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبوسلمة نازلاً بها فدخلتها على بركة الله تعالى ثم انصرف راجعاً إلى مكة. وكانت تقول: ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة)!

كان النبي صلّى الله عليه وآله يُعَلم أم سلمة فحسدتها عائشة!

فقد كانت أم سلمة ذات مستوى ذهني وعقلي وإيماني يميزها عن بقية نسائه وكانت الوحيدة المهتمة بسنة النبي صلّى الله عليه وآله بأقواله وأفعاله.
فكان بيتها مركز النبي صلّى الله عليه وآله بعد حجرته الشريفة، وكان يحدثها ويعلمها فتحفظ أو تكتب، وكان يوصيها فستوعب، ويعدها لدور عظيم بعده، ولا بد أنه أخبرها بأنها ستعيش طويلاً، وأنها آخر زوجاته لحاقاً به. أما بقية نسائه فبعضهن مؤمنات لكن ليس لهن مؤهلات حفظ العلم، وبعضهن مستغرقات في أمورهن الشخصية.
وقد روى ابن سعد (٨ /٨٠) أن عائشة افتخرت بأنها وبخت النبي صلّى الله عليه وآله لطول مكوثه في بيت أم سلمة: (قالت فاطمة الخزاعية: إن عائشة قالت لها: دخل عليَّ يوماً رسول الله فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ قال: يا حميراء كنت عند أم سلمة. فقلت: ما تشبع من أم سلمة »!
ومعنى هذا أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يمضي كثيراً من وقته عند أم سلمة، فتخيلت عائشة أنه يمضي وقته في لذته فقط! بينما كان يعلمها ويعدها لدور بعده.
روى ابن سعد (٨/١٧٠): « عن عائشة قالت: كان رسول الله قلَّ يوم إلا وهو يطوف على نسائه
< صفحة > 329 < / صفحة >
فيدنو من أهله فيضع يده، ويقبل كل امرأة من نسائه حتى يأتي على آخرهن، فإن كان يومها قعد عندها وإلا قام، فكان إذا دخل بيت أم سلمة يحتبس عندها!
فقلت أنا وحفصة وكانتا جميعاً يداً واحدة: ما نرى رسول الله يمكث عندها إلا أنه يخلو معها تعنيان الجماع! قالت: واشتد ذلك علينا حتى بعثنا من يطلع لنا ما يحبسه عندها، فإذا هو إذا صار إليها أخرجت له عكة من عسل وفتحت له فمها فيلعق منه لعقاً، وكان العسل يعجبه فقالتا: ما من شئ نكرهه إليه حتى لايلبث في بيت أم سلمة؟ فقالتا: ليس شئ أكره إليه من أن يقال له نجد منك ريح شئ! فإذا جاءك فدنا منك فقولي: إني أجد منك ريح شئ! فإنه يقول من عسل أصبته عند أم سلمة، فقولي له أرى نحله جَرَسَ عرفطاً!
فلما دخل على عائشة فدنا منها قالت: إني لأجد منك شيئاً! ما أصبت؟ فقال: عسل من بيت أم سلمة، فقالت: يا رسول الله أرى نحله جرس عرفطاً. ثم خرج من عندها فدخل على حفصة فدنا منها فقالت مثل الذي قالت عائشة! فلما قالتاه جميعاً اشتد عليه فدخل على أم سلمة بعد ذلك فأخرجت له العسل فقال:أخريه عني لاحاجة لي فيه)
فقالت عائشة (البخاري: ٦/١٦٧): « فقلتُ أما والله لنحتالن له! فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك فإذا دنا منك فقولي أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك؟ فإنه سيقول لك سقتني أم سلمة شربة عسل فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك. وقولي أنت يا صفية ذاك. قالت: تقول سودة فوالله ما هو إلا أن قام على الباب فأردت أن أبادئه بما أمرتني به فرقاً منك، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني أم سلمة شربة عسل.فقالت: جرست نحله العرفط! فلما دار إليَّ قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه ».
وفي أسباب النزول للواحدي/٢٩٢، قالت عائشة لحفصة: « فإذا دخل فخذي بأنفك، فإذا قال مالك قولي: أجد منك ريحاً لا أدري ما هي، فإنه إذا دخل علي قلت مثل ذلك، فدخل رسول الله فأخذت بأنفها فقال: مالك؟ قالت: ريحاً أجد منك وما أراه إلا مغافير ».
عن عبد الله بن رافع قال:سألت أم سلمة عن هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي
< صفحة > 330 < / صفحة >
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ؟ قالت: كانت عندي عكة من عسل أبيض يجرس نحله الضرو، فكان النبي يلعق منها وكان يحبه فقالت له عائشة: نحلها تجرس عرفطاً فحرمها، فنزلت هذه الآية »!
قال الخليل في العين(٧/٥٦): (الضَّرْوُ: ضرب من الشجر يُجعل ورقه في العطر، وبعضهم يكسر الضاد، وجرة ضارية بالخل قد ضريت ضراوة).
وقال الخليل(٢/٣٢٧، و١٢٤): (العرفط: شجرة من شجر العضاه، تأكله الإبل الواحدة بالهاء… يخرج منه شبه صمغ حلو يضيع بالماء فيشرب).
وهذا يرد قول عائشة وحفصة بأن رائحته كريهة ولكنه: كيدكن!

أحاديث أم سلمة عليها السلام مميزة بصدقها ودقتها

إذا تأملت أحاديث أم سلمة يأخذك الإعجاب من دقتها وحفظها، وأسئلتها للنبي صلّى الله عليه وآله ، ووعيها وفقاهتها، وتنوع اهتماماتها. فترى نفسك أمام شخصية محدثة من الدرجة الأولى، مدركة لمحيطها وأهداف الإسلام، ومؤمنة عميقة الإعتقاد بالله تعالى ورسوله والآخرة، ومعالم الإسلام.
وإذا فحصت تعبيرها تجد ه نفس تعبيرالنبي صلّى الله عليه وآله أو قريباً منه مصيباً معناه. ولهذا فرضت نفسها على الصحابة، فكانوا يسألونها ويستشيرونها فتكلمهم من وراء حجاب، وترشدهم وتفتيهم الفتوى وتذكر دليل فتواها.
فلماوجه معاوية بُسر بن أرطاة في ثلاثة آلاف رجل، فقال له: سرحتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها وأخفْ من مررت به وانهبْ مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا، فاستباح المدينة وقتل منها خلقاً كثيراً، وأمرهم بالبيعة على أنهم عبيد قن ليزيد إن شاء باع وإن شاء استبقى!
(فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله فقال: إني قد خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلال! قالت: إذاً فبايع، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلُب ويحضرون الأعياد مع قومهم). (تاريخ اليعقوبي:٢/١٩٧).
< صفحة > 331 < / صفحة >

روت أم سلمة كل عقائد الشيعة

جزى الله أم المؤمنين أم سلمة خير الجزاء عن أمة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقد وفت له بعد موته؟ صلّى الله عليه وآله وبلغت عنه ما كتمه غيرها من وصيته لعلي عليه السلام ، ونصه على إمامة الإئمة الإثني عشرمن عترته علي الحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين عليهم السلام ، وسمتهم كما سماهم النبي صلّى الله عليه وآله .
قال في كفاية الأثر في النص على الإئمة الإثني عشر/١٨٠:( باب ما جاء عن أم سلمة: حدثنا علي بن الحسن بن محمد بن مندة، قال: حدثنا أبوالحسين زيد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخزاز بالكوفة في سنة سبع وسبعين وثلاث مائة، قال حدثنا العباس بن العباس الجوهري ببغداد في دار عميرة، قال: حدثني عفان بن مسلم قال: حدثني حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن سداد بن أوس قال: لما كان يوم الجمل قلت: لا أكون مع علي ولا أكون عليه، وتوقفت عن القتال إلى انتصاف النهار، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة، قالت: من أين أقبلت؟ قلت: من البصرة. قالت: مع أي الفريقين كنت؟ قلت: يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال إلى انتصاف النهار، وألقى الله عز وجل في قلبي أن أقاتل مع علي. قالت: نعم ما عملت، لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: من حارب علياً فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله. قلت: فترين أن الحق مع علي؟ قالت: إي والله، علي مع الحق والحق معه، والله ما أنصفت أمة محمد نبيهم صلّى الله عليه وآله إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله وأخروا من قدمه الله تعالى ورسوله! وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم، وأبرزوا حليلة رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى الفناء! والله سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: لأمتي فرقة وجعلة، فجامعوها إذا اجتمعت، وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا، وإن سالموا فسالموا، وإن زالوا فزولوا معهم، فإن الحق معهم حيث كانوا.
قلت: فمن أهل بيته؟ قالت: أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم هم الأئمة بعده كما قال: عدد نقباء بني إسرائيل: علي وسبطاه، وتسعة من صلب الحسين هم أهل بيته، هم المطهرون والأئمة المعصومون. قلت: إنا لله هلك الناس إذاً! قالت: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
وتقدم حديثها وأمرالنبي صلّى الله عليه وآله إياها أن تبلغ إمامة علي عليه السلام :
< صفحة > 332 < / صفحة >
ففي أمالي الصدوق/٤٦٣، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (بلغ أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه وآله أن مولى لها يتنقص علياً عليه السلام ويتناوله فأرسلت إليه، فلما أن صار إليها قالت له: يا بنيَّ بلغني أنك تتنقص علياً وتتناوله! قال لها: نعم يا أماه. قالت: أقعد ثكلتك أمك حتى أحدثك بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله ثم اختر لنفسك. إلى أن قالت: فدخلتُ وعليٌّ جاثٍ بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إذا كان كذا وكذا، فما تأمرني؟ قال: آمرك بالصبر. ثم أعاد عليه القول الثانية فأمره بالصبر، فأعاد عليه القول الثالثة، فقال له: يا علي يا أخي، إذا كان ذاك منهم فسُلَّ سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قُدُماً قدماً، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم!
ثم التفت صلّى الله عليه وآله إليَّ فقال لي: ما هذه الكآبة يا أم سلمة؟ قلت: للذي كان من ردك لي يا رسول الله. فقال لي: والله ما رددتك من مَوْجَدة وإنك لعلى خير من الله ورسوله، لكن أتيتني وجبرئيل عن يميني وعليٌّ عن يساري، وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصي بذلك علياً!
يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب، أخي في الدنيا وأخي في الآخرة.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، حامل لوائي في الدنيا وحامل لوائي غداً في القيامة.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي، والذائد عن حوضي.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
قلت: يا رسول الله من الناكثون؟قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة. قلت: من القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب النهروان. فقال مولى أم سلمة: فرجت عني فرج الله عنك، والله لا سببت علياً أبداً).
< صفحة > 333 < / صفحة >

روت أم سلمة: وصية النبي صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام

في مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان(١/٥٠٧) عن عبيد الله بن أبي رافع قال: «كنا جلوساً في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله عام حج معاوية بن أبي سفيان، ومعي عبد الله بن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، فأتانا معاوية فسلم وقعد إلينا، فاشمأز منه ابن عباس حين قعد إليه حتى عرف ذلك معاوية فقال له: يا ابن عباس كأنك مشمئز مني كأنك واجد عليَّ أن طلبت بدم أمير المؤمنين، وكنتُ أحق من طلب بدمه وأقواهم عليه؟ فقال له ابن عباس: وبمَ أنت أحق الناس؟ قال: أليس ابن عمي قتل وهو أمير المؤمنين؟ فقال ابن عباس: فهذا! وأشار إلى ابن عمر أحق بالأمر منك! قد قتل أبوه وهو خليفته! فقال له معاوية: قتل أباه مشرك وقتل ابن عمي المسلمون. فقال ابن عباس: فذاك أشر إذن. قال: ثم التفت معاوية إلى سعد فقال: يا سعد ما منعك أن تقاتل معي وتخرج إذ طلبت بدم أميرالمؤمنين؟ فقال له سعد: أقاتل علي بن أبي طالب وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى! فقال له معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله . فقال: قوموا بنا إليها فقمنا جميعاً فدخلنا عليها فقال لها سعد: يا أم المؤمنين إني ذكرت لمعاوية أن رسول الله قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فأنكر ذلك وقال: من سمعه معك فذكرتك فهل سمعت ذاك من رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ فقالت أم سلمة: أما مرة واحدة فلا، ولكن سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله مراراً! فقال معاوية لسعد: أنت أظلم وأقل عذراً إذ سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم تخرج إليه ولم تقاتل معه ولم تنصره، فلو سمعتُ هذا من رسول الله لم أقاتله »!
ورواه ابن عساكر (٢٠/٣٦٠) عن المديني، وفيه: ( فقال معاوية لسعد: يا أباإسحاق ما كنت ألومك الآن إذ سمعت هذا مع من رسول الله وجلست عن علي! لو سمعت هذا من رسول الله لكنت خادماً لعلي حتى أموت »!

روت: أم سلمة أن أهل بيتي مصطلح خاص بالعترة

رواه الترمذي(٥/٣٠ و ٣٢٨) (عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلّى الله عليه وآله قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وآله : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، في بيت أم سلمة فدعا
< صفحة > 334 < / صفحة >
فاطمة وحسناً وحسيناً وعليٌّ خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله، قال أنت على مكانك وأنت على خير).
ورواه الحاكم(٢/٤١٦) وصححه بشرط البخاري. وفي (٣/١٠٨) وصححه بشرط الشيخين).

أراد عمر أن يبطل حقوق أهل البيت عليهم السلام فردت عليه!

في قرب الإسناد/٦٠، عن الصادق عليه السلام قال: « كانت امرأة من الأنصار تُدعى حسرة، تغشى آل محمد صلّى الله عليه وآله وتحن، وإن فلاناً وفلاناً لقياها ذات يوم فقالا: أين تذهبين يا حسرة؟فقالت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم وأحدث بهم عهداً فقالا: ويلك إنه ليس لهم حق، إنما كان هذا على عهد رسول الله! فانصرفت حسرة ولبثت أياماً ثم جاءت فقالت لها أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه وآله : ما أبطأ بك عنا يا حسرة؟ فقالت: إستقبلني فلان وفلان فقالا: أين تذهبين يا حسرة؟ فقلت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم الواجب. فقالا: إنه ليس لهم حق إنما كان هذا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله ! فقالت أم سلمة:كذبا لعنهما الله! لايزال حقهم واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة»!
وصاحت به يوماً كما في البخاري(٦/٦٩):« فقالت أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شئ حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه »!

روت ثواب من تذاكروا فضائل أهل البيت عليهم السلام

في الروضة لشاذان بن جبرئيل/١٨٩: (عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: ما اجتمع قوم يذكرون فضل علي بن أبي طالب إلا هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحف بهم، فإذا تفرقوا عرجت الملائكة إلى السماء، فيقول لهم الملائكة: إنا نشم من رائحتكم ما لا نشمه من الملائكة، فلم نر رائحة أطيب منها فيقولون: كنا عند قوم يذكرون محمداً وأهل بيته عليهم السلام ، فعلق علينا من ريحهم فتعطرنا، فيقولون: إهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرقوا ومضى كل واحد منهم إلى منزله، فيقولون: إهبطوا بنا حتى نتعطر بذلك المكان).
< صفحة > 335 < / صفحة >

أمينة النبي صلّى الله عليه وآله على تربة الحسين عليه السلام

وقد روى ذلك عامة المسلمين، ففي مسند أحمد (٣/٢٤٢) عن أنس بن مالك: «أن ملك المطر استأذن ربه أن يأتي النبي صلّى الله عليه وآله فأذن له فقال لأم سلمة: إملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، قال: وجاء الحسين ليدخل فمنعته فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلّى الله عليه وآله وعلى منكبه وعلى عاتقه قال فقال الملك للنبي صلّى الله عليه وآله : أتحبه؟ قال: نعم. قال: أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه! فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها، قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء ». والزوائد: ٩ / ١٨٧، ووثقه، و ١٨٩، والآحاد والمثاني: ١ / ٣١٠، والكبير للطبراني: ٣ / ١٠٦، و ١٠٩.
ومن مصادرنا أمالي الطوسي/٣١٥، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله فخرجت يتوجه بن قائدي إلى منزلها، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلما انتهيت إليها قلت: يا أم المؤمنين ما بالك تصرخين وتغوثين؟فلم تجبني وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وابكين معي فقد والله قتل سيدكن وسيد شباب أهل الجنة، قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين!
فقيل: يا أم المؤمنين ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في المنام الساعة شَعِثاً مذعوراً فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم! قالت: فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال: إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك، وأعطانيها النبي صلّى الله عليه وآله فقال: إجعلي هذه التربة في زجاجة أو قال: في قارورة ولتكن عندك، فإذا صارت دما عبيطاً فقد قتل الحسين! فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور! قال: وأخذت أم سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين عليه السلام ، فجاءت الركبان بخبره، وأنه قتل في ذلك اليوم!
قال عمرو بن ثابت قال أبي: فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي منزله فسألته عن هذا الحديث وذكرت له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبد الله بن عباس فقال: أبوجعفر عليه السلام حدثنيه عمر بن أبي سلمة، عن أمة أم سلمة ».
< صفحة > 336 < / صفحة >

أمينة النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام

قالت أم سلمة (بصائر الدرجات/١٨٨و١٨٨): « أعطاني رسول الله صلّى الله عليه وآله كتاباً قال: أمسكي هذا فإذا أنا قبضت فقام رجل على هذه الأعواد يعني المنبر فأتاك يطلب هذا الكتاب فادفعيه إليه. قالت: فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله صعد أبوبكر المنبر فانتظرته به فلم يأت، فلما مات صعد عمر فانتظرته فلم يأت، فلما مات عمر صعد عثمان فانتظرته فلم يأت، فلما مات عثمان صعد أمير المؤمنين فلما صعد ونزل جاء فقال:يا أم سلمة أريني الكتاب الذي أعطاك رسول الله صلّى الله عليه وآله . فقالت: وإنك أنت صاحبه؟فقالت: أما والله إن الذي كنت أحب أن يحبوك به، فأخرجته إليه ففتحه فنظر فيه ثم قال: إن في هذا لعلماً جديداً. قالت قلت: أي شئ كان ذلك؟ قال: كل شئ يحتاج إليه ولد آدم! قال عمر بن أم سلمة:« ثم قالت لي أمي: يا بنيَّ إلزمه فلا والله ما رأيت بعد نبيك إماماً غيره »!
وفي الكافي(١/٢٩٨) عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال: « إن علياً حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية فلما رجع الحسن عليه السلام دفعتها إليه ».
وفي الكافي(١/٣٠٤) عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال: « إن الحسين صلوات الله عليه لما صار إلى العراق استودع أم سلمة رضي الله عنها الكتب والوصية، فلما رجع علي بن الحسين عليه السلام دفعتها إليه ».
وفي غيبة الطوسي/١٩٥: « وقال لها: إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما دفعت إليك، فلما قتل الحسين أتى علي بن الحسين صلّى الله عليه وآله أم سلمة فدفعت إليه كل شئ أعطاها الحسين عليه السلام ».

كانت أم سلمة تشتري العبيد وتعتقهم

من امتيازاتها على نساء النبي صلّى الله عليه وآله أنها كانت تشتري العبيد وتعتقهم، وربما اشترت الصغير فربته حتى يكبر وأعتقته، ففي الإصابة(٧/٤): « أبوإبراهيم مولى أم سلمة، قال: كنت عبداً لأم سلمة، فكنت أبيت على فراش النبي وأتوضأ من محجنته، فلما بلغت مبالغ الرجال أعتقتني ».
وكانت تشجع المملوك على العمل ليحرر نفسه، ففي الطبقات(٥/٢٩٦): عن نصاح بن سرجس بن يعقوب عن أبيه شيبة قال:« كاتبتني أم سلمة على نجوم (أقساط)وفيتها، فكلمتها أن تحط عني وتقاطعني على ذهب أو ورق، ففعلت وعجلت لها ذلك ووضعت عني. وكان شيبة إمام أهل المدينة في القراءة في دهره ».
< صفحة > 337 < / صفحة >
وفي الهداية الكبرى / ١١٥، في حديث زفاف فاطمة عليها السلام : « فخرج مولى لأم سلمة زوجة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فنثر سكراً ولوزاً ونثر الناس من كل جانب ».
وفي الطبقات: ٥ / ٢٩٧: « عبد الله بن رافع مولى أم سلمة زوج النبي عليه السلام عتاقةً، سمع من أم سلمة، وبقي حتى سمع منه عبد الله بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وقدامة بن موسى وجارية بن أبي عمران، وكان ثقة كثير الحديث. ناعم بن أجيل مولى أم سلمة..قيس مولى أم سلمة ويكنى أباقدامة.. أبوميمونة مولى أم سلمة وكان قارئ أهل المدينة في زمانه، وهو الذي قرأ عليه نافع بن أبي نعيم كثير بن أفلح ».
وفي المغني: ١٢ / ٣٣٩: « عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة أن النبي صلّى الله عليه وآله قال: إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي، فلتحتجب منه ».
«وفي إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق » ( المجموع: ١٦ / ١٣٦).
« عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة ». ( الموطأ: ١ / ٨).
« عن طلحة بن يحيى عن عبد الله بن فروخ مولى أم سلمة». (الجوهر النقي: ٦ / ١٨٩).
« سفينة هو مولى أم سلمة وشرطت عليه أن يخدم النبي ». (المحلى: ٥ / ١٥٧).
« أفلح مولى لرسول الله وقيل مولى لأم سلمة ». ( سبل السلام: ٣ / ٢١٦).
« عن ناعم مولى أم سلمة ». ( مسند أحمد: ٢ / ١٦٣).
« عن السائب مولى أم سلمة ». (مسند أحمد: ٦ / ٢٩٧)
« حبيب عن ناعم مولى أم سلمة عن أم سلمة». ( مسند أحمد: ٦ / ٢٩٩).
« أن أبا الجراح مولى أم سلمة أخبره ». ( مسند أحمد: ٦ / ٣٢٦).
« عبد الله بن زياد بن سمعان مولى أم سلمة مكي ». ( رجال الطوسي / ٢٣١).
« القزاز قال: سمعت مولى لأم سلمة يقول سمتني أم سلمة مخوضاً وكنت طويلاً ».
(علل أحمد: ١ / ٢٢١).
« عبد الله بن زياد بن سمعان هو مولى أم سلمة » ( التاريخ الصغير للبخاري: ٢ / ١٠٦).
« نجيح أبومعشر السندي المدني مولى أم سلمة ». ( التاريخ الصغير للبخاري: ٢/١٨٧).
< صفحة > 338 < / صفحة >
« نفيع مولى أم سلمة » « يزيد مولى أم سلمة ». ( التاريخ الكبير للبخاري: ٤ / ١٥٣).
« عن أبي الجراح مولى أم سلمة عن أم سلمة ». ( كنى البخاري / ١٩).
« أحمر مولى أم سلمة قيل هو اسم سفينة ». ( الإصابة: ١ / ١٨٧).
« من طريق إبراهيم بن عبد الرحمن بن صبيح مولى أم سلمة » ( الإصابة: ٣ / ٣٢٧).
« المهاجر مولى أم سلمة يكنى أباحذيفة صحب النبي صلّى الله عليه وآله وخدمه وشهد فتح مصر واختط بها ثم تحول إلى طحا فسكنها إلى أن مات ». (الإصابة: ٦ / ١٨١).
« عن أبي سليمان مولى أم سلمة ». ( الإصابة: ٦ / ٥٠١).
« قيس مولى أم سلمة ». ( تعجيل المنفعة / ٣٤٦).
ويقال بل كانت أم الحسن ( البصري) مولاة لأم سلمة. فيذكرون أن أمه كانت ربما غابت فيبكي الصبي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجئ أمه فدر عليها ثديها فشربه فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك ». ( الطبقات: ٧ / ١٥٦).
«عن أبي الأحوص مولى أم سلمة قال: إني مع الحسن عليه السلام بعرفات) (دلائل الإمامة/١٧١).

انتصرت لعمار بن ياسر مقابل عثمان

كان عمار رضي الله عنه شخصية مميزة في الصحابة، وقد اجتمع عدد من كبارهم وكتبوا رسالة الى عثمان وعددوا فيها مخالفاته للقرآن والسنة، ولم يجرؤ أحد على حملها وتقديمها الى عثمان إلا عمار، فضربه عثمان وغلمانه ضرباً شديداً حتى أغمي عليه!
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة(١/٣٥): (قال عثمان إضربوه، فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله فأدخل منزلها، وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم. وقال هاشم بن الوليد بن المغيرة لعثمان: أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلاً عظيما من بني أمية).
وحركت أم سلمة المسلمين ليقفوا مع عمار، وكانت أخته من الرضاعة، وكان حليف قومها بني مخزوم. وهي حادثة مفصلة لا مجال بتفصيلها.
< صفحة > 339 < / صفحة >

جعلوا لقب أم المؤمنين خاصاً بعائشة!

فترى القوم في كل مصادرهم لايسمون أم سلمة: أم المؤمنين، مع مكانتها العظيمة! فيذكرون اسمها مجرداً، بينما يذكرون اسم عائشة مقروناً بأم المؤمنين، دائماً أو غالباً! وبذلك تعرف موقفهم من مرويات أم سلمة عليها السلام ، وهي أرقى من روايات عائشة في النوعية، وكميتها كثبيرة، وليس فيها إفراط عائشة ومبالغاتها في مدح نفسها ولا إسفافها في الأمور الجنسیة!
وسبب موقفهم من أم سلمة أنها عليها السلام شيعية متشددة، أما عائشة فهي ناصبية متشددة، فهي أحب إلى قلوبهم منها!
قال العلامة الحلي(منهاج الكرامة/٧٥): « وعظموا عائشة على باقي نسوانه صلّى الله عليه وآله وساعدوها على حرب أمير المؤمنين عليه السلام ! ولم ينصرأحد منهم بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله لما طلبت حقها من أبي بكر ولا شخص واحد بكلمة واحدة! وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك»!
وقال أبوالفتح الكراجكي في التعجب من أغلاط العامة/١٠٢: « ومن عجيب أمرهم تفضيلهم عائشة بنت أبي بكر على جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وآله . وكثرة ترحمهم عليها وإظهارهم الخشوع والبكاء عند ذكرها، ثم لا يذكرون خديجة بنت خويلد، وفضلها متفق عليه وعلو قدرها لا شك فيه، وهي أول من آمن برسول الله صلّى الله عليه وآله وأنفقت عليه مالها. وكان يكثر ذكرها ويحسن الثناء عليها ويقول: ما نفعني مال كمالها، ورزقه الله الولد منها »!

قالت عائشة: حزبي وحزب أم سلمة!

قال البخاري (٣/١٣٢) قالت عائشة: « إن نساء رسول الله كنَّ حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة. والحزب الآخر:أم سلمة وسائر نساء رسول الله»!
وكان ظاهر الأمر حسد الضرائر لكن القضية أعمق من ذلك، فوراء عائشة وحفصة الحزب القرشي، وقد تفاقم الأمر بعد أن رزق النبي صلّى الله عليه وآله ولداً من مارية ونظر إليه الحزب القرشي على أنه ولي عهده، فزاد أذاهم لمارية وأم سلمة حتى طلق النبي صلّى الله عليه وآله حفصة ثم أرجعها، وأراد أن يطلق سودة، واعتزل نساءه، وتدخل الوحي لنصرة النبي صلّى الله عليه وآله فنزلت سورة التحريم بتهديد عائشة وحفصة، قال عز وجل: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ
< صفحة > 340 < / صفحة >
بَعْضٍ.. إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ.. عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ.

ردت أم سلمة على عائشة وروت مناقب علي عليه السلام

قال البخاري(٣/١٨٦): (ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصياً فقالت: متى أوصى إليه! وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري، فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه قد مات! فمتى أوصى إليه؟!). ورواه أيضاً في(٥/١٤٣) ورواه مسلم(٥/٧٤) و٧٥والنسائي (١/٣٢ و٧٥ و: ٦/٢٤١، وابن ماجة(١/٥١٩) وأحمد:٦/٣٢).
وردت عليها أم سلمة في حديث صحيح بشرط الشيخين رواه الحاكم(٣ /١٣٨): (قالت: والذي أحلف به أن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه وآله . عدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله غداة وهو يقول جاء علي جاء علي مراراً! فقالت فاطمة رضي الله عنها: كأنك بعثته في حاجة، قالت فجاء بعد. قالت أم سلمة فظننت أن له إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وجعل يساره ويناجيه، ثم قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله من يومه ذلك، فكان علي أقرب الناس عهداً).
وروى الصدوق في الخصال/٦٤٢، عن أم سلمة، قال: (حدثنا أبي رضي الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثني أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن عبد الجبار، عن محمد بن خالد البرقي، عن فضالة بن أيوب عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، عن مولاة حمزة بن رافع، عن أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه وآله قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه: أدعوا لي خليلي فأرسلت عائشة إلى أبيها فلما جاء غطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وجهه، وقال: أدعوا لي خليلي فرجع أبوبكر وبعثت حفصة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وجهه وقال: أدعوا لي خليلي فرجع عمر، وأرسلت فاطمة إلى علي فدخل ثم جلل علياً بثوبه. قال علي عليه السلام : فحدثني بألف حديث يفتح كل حديث ألف حديث، حتى عرقت وعرق رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فسال عليَّ عرقه، وسال عليه عرقي).
وفي الكافي (١/٢٩٦): (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه:
< صفحة > 341 < / صفحة >
أدعوا لي خليلي، فأرسلتا إلى أبويهما فلما نظر إليهما رسول الله صلّى الله عليه وآله أعرض عنهما، ثم قال: أدعوا لي خليلي، فأرسل إلى علي عليه السلام فلما نظر إليه أكب عليه يحدثه، فلما خرج لقياه فقالا له: ماحدثك خليلك؟ فقال: حدثني ألف باب يفتح كل باب ألف باب).
وفي الإرشاد(١/١٨٥): « ثم ثقل وحضره الموت وأمير المؤمنين حاضرعنده. فلما قرب خروج نفسه صلّى الله عليه وآله قال له: ضع رأسي يا علي في حجرك، فقد جاء أمر الله عز وجل فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى. فأخذ علي رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه، فأكبت فاطمة تنظر في وجهه وتندبه وتبكي ».
وقد حرفوه في مسند أحمد فروى (١/٣٥٦):(عن ابن عباس قال لما مرض رسول الله صلّى الله عليه وآله مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة فقال أدعوا لي علياً قالت عائشة ندعولك أبابكر، قال ادعوه قالت حفصة يا رسول الله ندعو لك عمر قال أدعوه، قالت أم الفضل يا رسول الله ندعو لك العباس قال أدعوه فلما اجتمعوا رفع رأسه فلم ير علياً، فسكت)!
ولكن عائشة نفسها قالت في خبر صحيح إنها انشغلت بمرض النبي صلّى الله عليه وآله وكانت غرفتها فارغة وآيات رضاع الكبير تحت سريرها، فدخلت السخلة وأكلتها! (عن عائشة قالت: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً. ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها).(ابن ماجة(١/٦٢٥) ومعناه أن النبي صلّى الله عليه وآله لم يمت في غرفتها!

ردت أم سلمة زعم عائشة جواز رضاع الكبير!

قال أحمد بن حنبل في مسنده(٦/٢٧١): (كانت عائشة تأمر أخواتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها. وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلّى الله عليه وآله أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد). وهي مسألة مفصلة خالفت بها عائشة كل نساء النبي صلّى الله عليه وآله .
< صفحة > 342 < / صفحة >

وتكلمت أم سلمة بعد خطبة فاطمة عليها السلام التاريخية

فحثَّت المسلمين على نصرتها، ففي دلائل الإمامة/١٢٤، والدر النظيم/٤٨٠، أن أم سلمة قالت بعد خطبة فاطمة عليها السلام وجواب أبي بكر لها: « ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا القول! هي والله الحوراء بين الإنس والنفس للنفس، ربيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأ، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يعلمها وقد قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، أفأنذرها وخالفت متطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان وعديلة ابنة عمران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله! رويداً ورسول الله بمرأى منكم! وعلى الله تردون، واهاً لكم، فسوف تعلمون! قال: فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة »!

أوصت فاطمة عليها السلام بأن تشارك أم سلمة في جنازتها

قال أمير المؤمنين عليه السلام : (أخذت علي عهد الله ورسوله صلّى الله عليه وآله أنها إذا توفيت لا أعلم أحداً إلا أم سلمة زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وأم أيمن، وفضة، ومن الرجال ابنيها والعباس، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، والمقداد، وأباذر، وحذيفة. وقالت: إني قد أحللتك أن تراني بعد موتي، فكن مع النسوة فيمن يغسلني، ولا تدفني إلا ليلاً.ولاتعلم أحداً قبري).(دلائل الإمامة/١٣٣).

نصحت أم سلمة عائشة نصيحة بليغة

نصيحة أم سلمة لعائشة أن لا تعصي النبي صلّى الله عليه وآله وكان لها موقف تاريخي مع عائشة، فقد نصحتها، وحاولت أن تثنيها عن الفتنة فلم ينفع معها.
قال الشريف المرتضى في رسائله(٤/ ٦٦): « ومن الأخبار الطريفة ما رواه نصر بن مزاحم.. عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي قال: كنت بمكة مع عبد الله بن الزبير وطلحة والزبير فأرسلا إلى عبد الله بن الزبير فأتاهما وأنا معه فقالا له: إن عثمان قتل مظلوماً وإنا نخاف أن ينقض أمرأمة محمد فإن رأت عائشة أن تخرج معنا لعل الله أن يرتق بها فتقاً ويشعب بها صدعاً!
قال: فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبد الله بن الزبير في سمرها (ليلاً) وجلستُ
< صفحة > 343 < / صفحة >
على الباب، فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله ما أمرت بالخروج وما تحضرني امرأة من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة، فإن خرجت خرجت معها! فرجع إليهما فأبلغهما ذلك فقالا: إرجع إليها فلتأتها فإنها أثقل عليها منا، فرجع إليها فبلغها فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت أم سلمة: مرحباً بعائشة والله ما كنت لي بزائرة فما بدا لك! قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً!
قال: فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار فقالت: يا عائشة أنت بالأمس تشهدين عليه بالكفر، وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوماً، فما تريدين!
قالت: تخرجين معي فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد صلّى الله عليه وآله فقالت:يا عائشة أخرج وقد سمعت من رسول الله ما سمعت! نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت، أتذكرين يومك من رسول الله فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها وهو يقول: والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية فسقط الإناء من يدي فرفع رأسه إلي فقال: ما بالك يا أم سلمة؟ قلت: يا رسول الله ألا يسقط الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول؟ما يؤمنني أن أكون أنا هي! فضحكتِ أنتِ فالتفتَ إليك فقال: ما يضحكك يا حمراء الساقين إني لأحسبك هي!
ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسريَ بنا رسول الله صلّى الله عليه وآله من مكان كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب يحدثنا، فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك وقال: أما والله ما يومك منه بواحد ولا بليته منك بواحدة، أما إنه لا يبغضه إلا منافق أو كذاب!
وأنشدك الله يا عائشة أتذكرين مرض رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي قبض فيه فأتاك أبوك يعوده ومعه عمر وقد كان علي بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول الله صلّى الله عليه وآله ونعله وخفه ويصلح ما وهى منها، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وهي حضرمية وهو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه فأذن لهما فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد الله تعالى. قالا: ما بد من الموت؟ قال صلّى الله عليه وآله :لا بد منه. قالا: يا رسول الله فهل استخلفت أحداً؟ فقال: ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل، فخرجا فمرا على علي وهو يخصف النعل!
< صفحة > 344 < / صفحة >
كل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه لأنك سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله !
ثم قالت أم سلمة: يا عائشة أنا أخرج على علي بعد هذا الذي سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله ! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت: يا ابن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة بعد الذي سمعته من أم سلمة، فرجع فبلغهما. قال: فما انتصف الليل حتى سمعنا رغاء إبلها ترتحل، فارتحلت معهما ».
وأضاف المرتضى قدّس سرّه : « و من العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الذي يتضمن النص بالخلافة، وكل فضيلة غريبة، موجوداً في كتب المخالفين وفيما يصححونه من روايتهم ويصنفونه من سيرتهم ولا يتبعونه، لكن القوم رووا ما سمعوا وأودعوا كتبهم ما حفظوا ونقلوا، ولم يتخيروا ويتبينوا ما وافق مذهبهم دون ما خالفهم. وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحق »!
( شرح النهج٢ /٧٨، والعقد الفريد ٣ / ٩٦، والبدء والتاريخ٢ / ١٠٩، والفائق للزمخشري:١/١٩٠».
وروى نحوه في الإختصاص/١١٦، وفيه تفصيلات، قال: « لما أجمعت عائشة على الخروج إلى البصرة، أتت أم سلمة وكانت بمكة فقالت: يا بنت أبي أمية أنت كبيرة أمهات المؤمنين وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقمأ في بيتك، وكان يقسم لنا في بيتك، وكان ينزل الوحي في بيتك. قالت لها: يا بنت أبي بكر لقد زرتني وما كنت زوارة، ولأمر ما تقولين هذه المقالة؟ قالت: إن ابني وابن أخي أخبراني أن الرجل قتل مظلوماً وإن بالبصرة مائة ألف سيف يطاعون، فهل لك أن أخرج أنا وأنت لعل الله أن يصلح بين فئتين مشاجرتين؟ فقالت: يا بنت أبي بكر أبدم عثمان تطلبين؟ فلقد كنت أشد الناس عليه وأن كنت لتدعينه بالتبري أم أمر ابن أبي طالب تنقضين فقد تابعه المهاجرون والأنصار، إنك سدة بين رسول الله عليه السلام وبين أمته وحجابة مضروبة على حرمه، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه، وسكني عقيراك فلا تضحي بها. الله من وراء هذه الأمة وقد علم رسول الله صلّى الله عليه وآله مكانك ولو أراد أن يعهد إليك فعل، قد نهاك رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الفراطة في البلاد. إن عمود الإسلام لا ترأبه النساء إن انثلم، ولا يشعب بهن إن انصدع، حماديات النساء غض بالأطراف وقصر الوهادة.وما كنت قائله لو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله عرض لك ببعض الفلوات وأنت ناصة قلوصاً من منهل إلى آخر! إن بعين الله مهواك وعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله تردين قد وجهت سدافته وتركت عهيداه! أقسم بالله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً صلّى الله عليه وآله هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ! إجعلي حصنك بيتك، وقاعة الستر قبرك حتى
< صفحة > 345 < / صفحة >
تلقيه وأنت على ذلك أطوع.
ثم قالت: لو ذكَّرتك من رسول الله صلّى الله عليه وآله خمساً في علي لنهشتني نهش الحية الرقشاء المطرقة ذات الحبب! أتذكرين إذ كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً فأقرع بينهن فخرج سهمي وسهمك، فبينا نحن معه وهو هابط من قديد ومعه علي ويحدثه فذهبت لتهجمي عليه فقلت لك: رسول الله صلّى الله عليه وآله معه ابن عمه ولعل له إليه حاجة فعصيتني ورجعت باكية فسألتك، فقلت: بأنك هجمت عليهما فقلت له:يا علي إنما لي من رسول الله يوم من تسعة أيام وقد شغلته عني! فأخبرتني أنه قال لك: أتبغضيه فما يبغضه أحد من أهلي ولا من أمتي إلا خرج من الإيمان!
أتذكرين هذا ياعائشة؟قالت: نعم.
ويوم أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله سفراً وأنا أحشُّ له حشيشاً فقال: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب، فرفعت يدي من الحشيش وقلت: أعوذ بالله أن أكونه، فقال: والله لابد لأحدا كما أن تكونه، إتقي الله يا حميرا أن تكونيه! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم.
ويوم تبذلنا لرسول الله صلّى الله عليه وآله فلبست ثيابي ولبست ثيابك، فجاء رسول الله فجلس إلى جنبك، فقال: أتظنين يا حميرا أني لا أعرفك، أما إن لأمتي منك يوماً مُراً! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم.
ويوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فجاءك أبوك وصاحبه يستأذن فدخلت الخدر فقالا: يا رسول الله إنا لا ندري قدر مقامك فينا، فلو جعلت لنا إنساناً نأتيه بعدك، قال: أما إني أعرف مكانه وأعلم موضعه، ولو أخبرتكم به لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن عيسى بن مريم!
فلما خرجا خرجت إليه أنا وأنت وكنت حزينة عليه فقلت له: من كنت جاعلاً لهم؟ فقال: خاصف النعل. وكان علي بن أبي طالب يصلح نعل رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا تخرقت ويغسل سل ثوبه إذا اتسخ. فقلت: ما أرى إلا علياً فقال: هو ذاك! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت: نعم.
قالت: ويوم جمعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله في بيت ميمونة فقال: يا نسائي إتقين الله ولا يسفر بكن أحد! أتذكرين هذا يا عائشة؟
قالت: نعم، ما أقبلني لوعظك وأسمعني لقولك فإن أخرج ففي غير حرج وإن أقعد ففي غير بأس، وخرجت! فخرج رسولها فنادى في الناس: من أراد أن يخرج فليخرج، فإن
< صفحة > 346 < / صفحة >
أم المؤمنين غير خارجة. فدخل عليها عبد الله بن الزبير فنفث في أذنها وقلبها في الذروة ، فخرج رسولها فنادى: من أراد أن يسير فليسر، فإن أم المؤمنين خارجة!
فلما كان من ندمها ما كان أنشأت أم سلمة تقول:
لو كان معتصماً من زلة أحــــــــــد * كانت لعائشة العتبى على الناس
كم ســــــــــنة لرســــــــــول الله تاركة * وتلو آي من القــــــــــرآن مدراس
قد ينزع الله من ناس عقولهــــــــــم * حتى يكون الذي يقضي على الناس).
وفي رواية ابن أعثم في الفتوح(٢/٤٥٤) أن عائشة قالت لها: « فهل لك أن تسيري بنا إلى البصرة لعل الله تبارك وتعالى أن يصلح هذا الأمر على أيدينا؟ قال فقالت لها أم سلمة: يا بنت أبي بكر بدم عثمان تطلبين! والله لقد كنت من أشد الناس عليه وما كنت تسميه إلا نعثلاً، فما لك ودم عثمان وعثمان رجل من عبد مناف وأنت امرأة من بني تيم بن مرة!
ويحك يا عائشة! أعلى علي وابن عم رسول الله صلّى الله عليه وآله تخرجين! وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟ ثم جعلت أم سلمة تذكر عائشة فضائل علي عليه السلام ، وعبد الله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله، فصاح بأم سلمة وقال: يا بنت أبي أمية، إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير!
فقالت أم سلمة: والله لتوردُنَّها ثم لا تصدرُنَّها أنت ولا أبوك! أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة، وعلي بن أبي طالب حي وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ فقال عبد الله بن الزبير: ما سمعنا هذا من رسول الله ساعة قط، فقالت أم سلمة: إن لم تكن أنت سمعته قد سمعته خالتك عائشة وها هي فاسألها! فقد سمعته يقول: علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني! أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟فقالت عائشة: اللهم نعم!
قالت أم سلمة: فاتقي الله يا عائشة في نفسك، واحذري ما حذرك الله ورسوله ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب، ولا يغرنك الزبير وطلحة، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئاً! قال: فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها! ثم إنها بعثت إلى حفصة فسألتها أن تخرج معها إلى البصرة فأجابتها حفصة إلى ذلك. قال: فعند ذلك أذن مؤذن طلحة والزبير بالمسير إلى البصرة، فسار الناس في التعبية والآلة والسلاح، وسارت معهم عائشة وهي تقول: اللهم إني
< صفحة > 347 < / صفحة >
لا أريد إلا الإصلاح بين المسلمين فأصلح بيننا إنك على كل شئ قدير..

رسالة أم سلمة الى أمير المؤمنين عليه السلام

وكتبت أم سلمة إلى علي بن أبي طالب: لعبد الله علي أمير المؤمنين، من أم سلمة بنت أبي أمية، سلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال، خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً وأنهم يطلبون بدمه! والله كافيكم وجاعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى. وتالله لولا ما نهى الله عز وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن، وما أوصى به رسول الله صلّى الله عليه وآله عند وفاته لشخصت معك ولكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي صلّى الله عليه وآله وإليك ابني عمر بن أبي سلمة. والسلام.
فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له: ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عز وجل أن تقر فيه، وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة لشقاقي وفراقي!
فقال له محمد: يا أمير المؤمنين لا عليك، فإن الله معك ولن يخذلك، والناس بعد ذلك ناصروك، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله.
قال فعندها نادى علي في أصحابه فجمعهم ثم قال: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى بعث كتاباً ناطقاً لايهلك عنه إلا هالك… ألا إن طلحة والزبير قد تمالآ عليَّ بسخط أقاربي، ودعوا الناس إلى مخالفتي وأنا سائر إليهم ومنابذهم حتى يحكم الله بيني وبينهم.. قال فأجابه الناس إلى ذلك. وجاءت أم سلمة بولديها محمد وسلمة إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقالت له: هما عليك صدقة، فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك». (رجال الطوسي / ٤٨).
وتقدمت عائشة فيمن معها من الناس حتى إذا بلغت إلى ماء الحوأب وذلك في وقت السحر، نبحت الكلاب فسمعت عائشة رجلاً من أهل عسكرها يسأل ويقول: أي ماء هذا؟ فقيل له: هذا ماء الحوأب، فقال عائشة: ردوني! فقيل لها: ولم ذلك؟ فقالت: لأني سمعت رسول الله يقول: كأني بامرأة من نسائي تنبح عليها كلاب الحوأب، فاتقي الله أن تكوني أنت يا حميراء»!
< صفحة > 348 < / صفحة >
فدبروا لها شهوداً بالرشوة وحلفوا لها أنه ليس ماء الحوأب!

يا حائط! ألم أقل لك ألم أنهك!

وروى البيهقي في المحاسن/١٨١، وطبعة/٢٢١، أنها: « دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً، من أجل مسيرها إلى محاربة علي بن أبي طالب، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين، فقالت: يا حائط، ألم أنهك ألم أقل لك؟ قالت عائشة: فإني أستغفر الله وأتوب إليه، كلميني يا أم المؤمنين! قالت: يا حائط! ألم أقل لك ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت!
وقامت عائشة وهي تبكي، وتقول: وا أسفاه على ما فرط مني)!

أم سلمة آخر أمهات المؤمنين موتاً

عاشت أم سلمة إلى خلافة يزيد بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام سنة اثنتين وستين، وهي آخر أمهات المؤمنين موتاً. وأوصت أن يصلى عليها سعيد بن زيد خشية أن يصلى عليها مروان بن الحكم).
(ابن إسحاق: ٢/١٨٠، ومناقب آل أبي طالب:١/١٣٨،والحاكم: ٤/١٨، وأسباب النزول/١٩٩، والطبقات: ٨/٤٣).

أولاد أم سلمة الستة

كان لها من أبي سلمة ثلاثة أبناء هم: سلمة ومحمد وعمر، وثلاث بنات: درة وزينب وأم كلثوم، فهم صحابة وربائب النبي صلّى الله عليه وآله . وأشهرهم عمر ويسمى أيضاً عمرو، ثم زينب التي روي أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يلاعبها ويقول: يا زوينب، يا زوينب، مراراً ». ( الجامع الصغير: ٢/٣٩٦).
وكان عمر أنبه من أخويه، فقد اختارته أمه ليزوجها بالنبي صلّى الله عليه وآله كولي لها: «زوجها إياه عمر بن أبي سلمة وهو صغير لم يبلغ الحلم».(الكافي:٥/٣٩١).
وقال ابن عقدة: جاءت بعمر وسلمة. وشهد عمر مع علي حرب الجمل ثم استعمله على فارس، وتوفي في خلافة عبد الملك بن مروان بالمدينة. وعاش أخوه سلمة إلى خلافة عبد الملك ».
(مذيل الطبري/٥٨).
وفي نهج البلاغة(٣/٦٧): « ومن كتاب له عليه السلام إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله
< صفحة > 349 < / صفحة >
على البحرين، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه: أما بعد فإني قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك، فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم:
فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين إن شاء الله ».
وفي رواية اليعقوبي(٢/٢٠١):(فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين ونصر الهدى، جعلنا الله وإياك من الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر فشهد معه ثم انصرف وتبع علياً إلى الكوفة فمكث معه سنة وبعض أخرى».
**
< صفحة > 350 < / صفحة >

الفصل الرابع والستون : من مقامات رسول الله صلّى الله عليه وآله ونمط تعامل الناس معه

١. كان في سرادق العرش في العالين

قال الله تعالى في سورة صاد:
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ.
في فضائل الشيعة للصدوق/٧: (عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلّى الله عليه وآله إذ أقبل إليه رجل فقال: يا رسول الله أخبرني عن قوله عز وجل لإبليس: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، فمن هو يا رسول الله الذي هو أعلى من الملائكة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا، قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عز وجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، ولم يأمرنا بالسجود فسجد الملائكة كلهم الا إبليس فإنه أبى ولم يسجد فقال الله تبارك وتعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، عَنَى من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم في سرادق العرش! فنحن باب الله الذي يؤتى منه، بنا يهتدى المهتدي، فمن أحبنا أحبه الله وأسكنه جنته، ومن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره، ولا يحبنا الا من طاب مولده).
وفي الخصال/٤٨١ عن علي عليه السلام : « إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلّى الله عليه وآله قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن خَلَقَ آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام ).
وفي فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل(٢/٢٦٢) قال النبي صلّى الله عليه وآله : «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشـر ألف عام).
< صفحة > 351 < / صفحة >

٢. كان أول من أجاب ببلى في عالم الذر

في بصائر الدرجات/٨٣،عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إن بعض قريش قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله : بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من أقرَّ بربي، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وكنت أنا أول نبي قال: بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله ».
يشير صلّى الله عليه وآله الى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى… وعالم الذر نشأة كاملة خلق الله فيها الناس وامتحنهم قبل خلقهم في الدنيا. فما اختاروه هناك طبقوه في الدنيا.

٣. تاب الله على آدم عليهم السلام بتوسله بالنبي وآله صلّى الله عليه وآله

في شرح الأخبار:٣/٦، عن صفوان الجمال قال:«دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام وهو يقرأ هذه الآية:فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، ثم التفت إليَّ فقال: يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم عليه السلام أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبحون الله ويقدسونه، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟قال: يا آدم صفوتي من خلقي لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، خلقت الجنة لهم ولمن والاهم، والنار لمن عاداهم..الخ.).
وروت ذلك مصادر السنة، ففي مجمع الزوائد: ٨/٢٢٣: «عن ميسرة العجر، قال: قلت يا رسول الله متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح ».

٤. دعوة أبيه إبراهيم وبشارة الأنبياء عليهم السلام

قال الله تعالى في سورة الصف: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وقال في سورة البقرة: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْت َ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
< صفحة > 352 < / صفحة >
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وروى الصدوق في الخصال عن أبي أمامة، قال: (قلت: يا رسول الله ما كان بدء أمرك، قال: دعوة أبي إبراهيم عليه السلام وبشرى عيسى بن مريم عليه السلام . ورأت أمي أنه خرج منها شئ أضاءت منه قصور الشام).

٥. يجب على كل الناس الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله

من سورة الأعراف:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
ومن سورة النساء:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً.
ومن سورة الحجرات:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

٦. وجوب طاعة النبي صلّى الله عليه وآله

القاعدة في كل الرسل عليهم السلام أن الله تعالى أرسلهم ليبلغوا الناس فيطيعونهم، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ. وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
مضافاً الى تأكيد الآيات على وجوب طاعة النبي صلّى الله عليه وآله وتحذيرها من معصيته.
فمن سورة البقرة:
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.
ومن سورة آل عمران:
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
< صفحة > 353 < / صفحة >
ومن سورة النساء:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ.
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْئ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا.
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا.. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
ومن سورة المائدة:
وإذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ.
ومن سورة الأعراف:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ومن سورة الأنفال:
< صفحة > 354 < / صفحة >
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
ومن سورة التوبة:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
ومن سورة النور:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
ومن سورة الفرقان:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا. وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا. وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا.
ومن سورة الأحزاب:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا.
< صفحة > 355 < / صفحة >
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا.
إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.
ومن سورة محمد:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ.
ومن سورة الزخرف:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ.
ومن سورة الفتح:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا.
ومن سورة المجادلة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
ومن سورة التغابن:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

٧. وجوب توقير النبي وتعظيمه صلّى الله عليه وآله

من سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا
< صفحة > 356 < / صفحة >
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ومن سورة النور:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
ومن سورة الأحزاب:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا. إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْئ عَلِيمًا. لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَاللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّشَيْئ شَهِيدًا. إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا. مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا.
ومن سورة المجادلة:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ
< صفحة > 357 < / صفحة >
سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْئ عَلِيمٌ.أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّابِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
ومن سورة الفتح:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وفي أمالي الشريف المرتضى(٤/١٣٩): (فانصرف عن مخاطبة الرسول إلى مخاطبة المرسل إليهم ثم قال: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، يعني الرسول صلّى الله عليه وآله ثم قال: وَتُسَبِّحُوهُ، وهو يعني مُرسِلَ الرسول. فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والخطاب منتقل من واحد إلى غيره).
وفي تفسير القمي (٢/٣١٥): (ثم عطف على نفسه عز وجل فقال: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، معطوفاً على قوله لتؤمنوا بالله).

٨.حق رسول الله صلّى الله عليه وآله أعظم من حق الوالدين

قال الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق: (إعلم رحمك الله أن لله عز وجل عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت بها، بعضها أكبر من بعض. وأكبر حقوق اللّه عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تتفرع.
< صفحة > 358 < / صفحة >
ثم ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، وللسانك عليك حقاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقاً، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال).
وفي تفسير الإمام العسكري/٢٥: ( عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في حديث: أوَتدري ما هذه الرحم التي من وصلها وصله الرحمن ومن قطعها قطعه؟ فقيل: يا أمير المؤمنين حث بهذا كل قوم على أن يكرموا أقرباءهم ويصلوا أرحامهم، فقال لهم: أيحثهم على أن يصلوا أرحامهم الكافرين! قالوا: لا، ولكنه حثهم على صلة أرحامهم المؤمنين، قال فقال: أوجب حقوق أرحامهم لاتصالهم بآبائهم وأمهاتهم، قلت: بلى يا أخا رسول الله.
قال: فهم إذا إنما يقضون فيهم حقوق الآباء والأمهات، قلت: بلى يا أخا رسول الله. قال: فآباؤهم وأمهاتهم إنما غذوهم من الدنيا، ووقوهم مكارهها، وهي نعمة زائلة، ومكروه ينقضي، ورسول ربهم ساقهم إلى نعمة دائمة، ووقاهم مكروهاً مؤبداً لا يبيد، فأي النعمتين أعظم؟
قلت: نعمة رسول الله صلّى الله عليه وآله أعظم وأجل وأكبر، قال: فكيف يجوز أن يحث على قضاء حق من صغر حقه، ولا يحث على قضاء حق من كبر حقه! قلت: لا يجوز ذلك، قال: فإذاً حق رسول الله صلّى الله عليه وآله أعظم من حق الوالدين، وحق رحمه أيضاً أعظم من حق رحمهما، فرحم رسول الله صلّى الله عليه وآله أولى بالصلة، وأعظم في القطيعة، فالويل كل الويل لمن قطعها، والويل كل الويل لمن لم يعظم حرمتها، أو ما علمت أن حرمة رحم رسول الله صلّى الله عليه وآله حرمة رسول الله صلّى الله عليه وآله !
وإن حرمة رسول الله صلّى الله عليه وآله حرمة الله تعالى! وإن الله تعالى أعظم حقاً من كل منعم سواه! وإن كل منعم سواه إنما أنعم حيث قيَّضه لذلك ربه ووفقه له).
وفي فقه الرضا/٣٣٤: (عليك بطاعة الأب وبره، والتواضع والخضوع والإعظام والاكرام له إلى أن قال: وقد قرن الله عز وجل حقهما بحقه، فقال الله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
وروي أن كل أعمال البر يبلغ العبد الذروة منها، إلا ثلاثة حقوق: حق رسول الله، وحق الوالدين، فاسأل الله العون على ذلك).
وفي وسائل الشيعة (١٤/٤٤٤): (عن عبد الرحمن بن كثير قال: قال أبوعبد الله: لو أن أحدكم حج دهره ثم لم يزر الحسين عليه السلام لكان تاركاً حقاً من حقوق رسول الله صلّى الله عليه وآله لأن حق رسول الله
< صفحة > 359 < / صفحة >
فريضة من الله واجبة على كل مسلم).
هذا، وقد عقدنا فصلاً لقول النبي صلّى الله عليه وآله : ياعلي أنا وأنت أبوا هذه الأمة.
ولما رفضوا أن يكتب لهم النبي صلّى الله عليه وآله عهداً فلا يضلوا بعده، فغضب وطردهم، وفي تلك الأيام أرسل علياً عليه السلام يبلغهم في المسجد..!
ورواه الطوسي في أماليه/١٢٣، والمفيد في أماليه/٣٥١: ( أخبرنا محمد بن محمد قال: أخبرني أبوبكر محمد بن عمر الجعابي، قال: حدثنا أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال: حدثنا أبوعوانة موسى بن يوسف القطان الكوفي، قال: حدثنا محمد بن سليمان المقرئ الكندي، عن عبد الصمد بن علي النوفلي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأصبغ بن نباتة السعدي، قال: لما ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام غدونا عليه نفر من أصحابنا، أنا والحارث وسويد بن غفلة وجماعة معنا، فقعدنا على الباب فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج إلينا الحسن بن علي عليهما السلام فقال: يقول لكم أمير المؤمنين: انصرفوا إلى منازلكم، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله، فبكيت وخرج الحسن عليه السلام وقال: ألم أقل لكم انصرفوا. فقلت: لا والله يا ابن رسول الله ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أن انصرف حتى أرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه. قال: وبكيت. فدخل فلم يلبث أن خرج فقال لي: أدخل، فدخلت على أمير المؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند، معصوب الرأس بعمامة صفراء، قد نزف واصفر وجهه، ما أدري وجهه أصفر أم العمامة، فأكببت عليه فقبلته وبكيت فقال لي: لا تبك يا أصبغ، فإنها والله الجنة. فقلت له: جعلت فداك، إني أعلم والله أنك تصير إلى الجنة وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين. جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً.قال: نعم يا أصبغ، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً فقال لي: يا علي، إنطلق حتى تأتي مسجدي ثم تصعد منبري ثم تدعو الناس إليك فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاة كثيرة، ثم تقول: أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي، على من انتمى إلى غير أبيه أو ادعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره! فأتيت مسجده صلّى الله عليه وآله وصعدت منبره، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي، فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسول الله صلّى الله عليه وآله صلاة كثيرة،
< صفحة > 360 < / صفحة >
ثم قلت: أيها الناس، إني رسول رسول الله صلّى الله عليه وآله إليكم، وهو يقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.
قال: فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب، فإنه قال: قد أبلغت يا أبا الحسن، ولكنك جئت بكلام غير مفسر. فقلت: أبلغ ذلك رسول الله فرجعت إلى النبي صلّى الله عليه وآله فأخبرته الخبر، فقال: إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري فاحمد الله واثن عليه، وصل عليَّ ثم قل: يا أيها الناس، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره، ألا وإني أنا أبوكم، ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم. ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم).

٩. تعامل المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وآله

١. قدم المؤمنون أمثلة رائعة عن تعاملهم مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فكانوا يجلسون مؤدبين في مجلسه وينصتون اليه، فإذا أمر بأمر بادروا اليه، وإذا توضأ تبركوا بماء وضوئه، وكانوا يستشفون بفضل شرابه، ويأتون بأطفالهم ليباركهم ويدعو لهم، وكانت النساء ترسل بناتها ليأخذن هدبة من ثيابه فيستشفين بها لمرضاهم.
وفي بحار الأنوار(٢٠/٣٣٢):لما بعثت قريش عروة بن مسعود الى النبي صلّى الله عليه وآله في الحديبية (جعل يرمق صحابة النبي صلّى الله عليه وآله إذا أمرهم رسول الله ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا أخفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
قال فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها).
٢. لما أرسل النبي صلّى الله عليه وآله رسالة الى هرقل يدعوه الى الإسلام، كان هرقل في الشام فأحضرتجار قريش ليسألهم عنه، وكان منهم أبوسفيان فسأله هرقل:
(قال أبوسفيان: فو الله لو لا الحياء يومئذ من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه، ولكني
< صفحة > 361 < / صفحة >
استحييت فصدقته وأنا كاره، ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقلت هو فينا ذو نسب قال: قل له هل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال قلت: لا، قال: هل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن الآن منه فى مدة، ونحن لا نخاف غدره، وفي رواية: ونحن منه فى مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال أبوسفيان: ولم تمكني كلمة أغمزه بها لا أخاف عليَّ فيها شيئاً غيرها. قال:فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: دول سجال، ندال عليه مرة ويدال علينا أخرى، قال: فما يأمركم به؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد أباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.
فقال لترجمانه قل له: إني سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك: هل قال هذا القول منكم أحد قبله، فزعمت أن لا، فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم بقول قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك هل كان من آبائه ملك فقلت: لا. فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم، فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أو ينقصون، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حتى تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد. وسألتك: هل قاتلتموه، فقلت: نعم، وأن حربكم وحربه دول سجال، ويدال عليكم مرة وتدالون عليه أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.
وسألتك: ماذا يأمركم به، فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة. وهو نبي وقد كنت أعلم أنه خارج لكم ولكن لم أظن أنه فيكم، وإن كان ما أتاني عنه حقاً فيوشك أن يملك موضع قدميَّ هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو
< صفحة > 362 < / صفحة >
كنت عنده لغسلت قدميه.
قال أبوسفيان: ثم دعا بكتاب رسول الله فقرئ، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم لتسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
قال أبوسفيان: فلما قضى مقالته وفرغ من الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا، وأمر بنا فأخرجنا، فلما خرجت أنا وأصحابي وخلصنا، قلت لهم: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، هذا ملك بني الأصفر يخافه)! (الإكتفاء للكلاعي:٢/٦).

١٠. أنواع تعامل المشركين والمنافقين مع النبي صلّى الله عليه وآله

في المقابل اتهم المشركون النبي صلّى الله عليه وآله بأنواع التهم، وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ!
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ.
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا.
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.
وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا.
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ.
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا.. الخ.
ولم يكتفوا بهذا،فعملوا بكل ما استطاعوا لقتله، وكادوا المكائد وخططوا الخطط!
أما المنافقون من أصحابه صلّى الله عليه وآله فكانوا أشد عليه من المشركين، خاصة مرضى القلوب
< صفحة > 363 < / صفحة >
منهم الذين قالوا نريد الشراكة مع النبي صلّى الله عليه وآله في القيادة مناصفةً، ولو أنه جعلنا شركاء معه في معركة أحد لما قتلنا ها هنا!
وقد وصفهم الله تعالى فقال: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا. إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا… وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْئ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
فاسأل نفسك عن الذين طالبوا النبي صلّى الله عليه وآله بأن يكونوا شركاءه في القيادة في حياته قبل وفاته بسبع سنين، كيف يتركون القيادة بعد وفاته؟!
إن مرضى القلوب هم الحزب السياسي في المنافقين الذين يعملون للزعامة والوصول
الى السلطة، وقد نزلت فيهم اثنتا عشرة آية كشفت كثيراً من أعمالهم. وظهروا في أحُد كما رأيت، وظهروا قبلها في بدر، وذكرهم الله في سورة الأنفال وهي سورة بدر فقال عنهم:
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وهم الذين أشاروا على النبي صلّى الله عليه وآله لما فاتته قافلة قريش أن يرجع ولا يقاتل قريشاً، لأن فريشاً حسب قولهم: ما ذلت منذ عزت!
وهم الذين جادلوا النبي صلّى الله عليه وآله في الذهاب الى بدر، بعدما تبين لهم الحق وأخبرهم أن الله وعده بالنصر وأراهم ساحة المعركة وقتلى قريش! فقال تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
هذا، وقد عقدنا فصلاً للإنقلاب على النبي صلّى الله عليه وآله في حياته وسبب نزول قوله تعالى في أحُد: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ.
< صفحة > 364 < / صفحة >
وبلغ مرضى القلوب أوج فعاليتهم بمحاولتهم قتل النبي صلّى الله عليه وآله في عودته من تبوك!
روى مسلم في صحيحه(٨ /١٢٣)عن أبي الطفيل قال: «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال فقال له القوم: أخبره إذْ سألك! قال: كنا نُخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد!
وروى المفسرون مؤامرة العقبة في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.
قال البيضاوي (٣/١٥٨): « وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا، من الفتك بالرسول وهو أن خمسة عشرمنهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل!
فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا ».
وفي الخصال/٤٩٩، عن حذيفة، أنهم أربعة عشر وعدَّدهم وقال: وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ».
وقد كان طريق العقبة ممر ناقة واحدة، فكمنوا له ليلاً في أعلى الجبل ليلقوا عليه الصخور ويقتلوه ثم ينزلون ويبكون عليه ويبايعون أحدهم بالخلافة!
ولما ألقوا أول صخرة نزل جبرئيل عليه السلام فضرب بجناحه فأضاء الجبل ورآهم النبي صلّى الله عليه وآله ولعنهم واحداً واحداً، فغطوا وجوهم ونزلوا، وأمر النبي صلّى الله عليه وآله حذيفة وعماراً أن يكتموا أسماءهم، وكتمها هو كما أمره ربه لئلا ترى قريش أنها افتضحت فترتد عن الإسلام!
وفرح الحزب القرشي بكتمان أسمائهم!
< صفحة > 365 < / صفحة >

١١. من تعامل الأجلاف والخشنين مع رسول الله صلّى الله عليه وآله

١.كانت معصية النبي صلّى الله عليه وآله ظاهرة عامة في المنافقين وظاهرة موجودة في غيرهم. فكانت الآيات تؤكد دائماً على طاعة النبي صلّى الله عليه وآله وتحذر من معصيته.
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
ثم وصف الله تعالى عاقبة من عصى الرسول صلّى الله عليه وآله وكتم ما أنزل الله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً.
ثم رسم عز وجل مشهد صحابي كبير انحرف بعد النبي صلّى الله عليه وآله وعصاه وأطاع صاحبه الذي كان يوسوس له، فقال: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنيِ لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً. وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا.وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.
٢. الخشونة والبداوة ظاهرة عامة في مجتمع الجزيرة ، وقد تصير سوء أدب!
وقد لاقى النبي صلّى الله عليه وآله من ذلك الكثير، فكانوا لا يتأدبون بين يديه، ويرفعون أصواتهم على صوته! وكانوا ينادونه من وراء بيته: يامحمد أخرج الينا!
قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ. وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ.
وقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا.
وقال محذراً من إبطال أعمالهم بمعصية الرسول صلّى الله عليه وآله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ.
وقال تعالى محذراً من الضلال إن عصوه: قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فإن تَوَلَّوْا فإنما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ
< صفحة > 366 < / صفحة >
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
وقال عن المنافقين الذين لا يقبلون حكم الرسول صلّى الله عليه وآله :وإذا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً.
وقاله محذراً الذين لا يحترمون النبي صلّى الله عليه وآله ويتحايلون على أمره: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وقال أبومليكة: كاد أبوبكر وعمر أن يهلكا، وروى البخاري(٦/٤٦) قصتهما وأنهما تصايحا ورفعا صوتيهما عند النبي صلّى الله عليه وآله ، قال: (حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع لا أحفظ إسمه، فقال أبوبكر لعمر: ما أردت إلا خلافي! قال: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد هذه الآية حتى يستفهمه). فنزلت سورة الحجرات فيهما وفي الذين يصرخون من وراء بيته! قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقد جعل رواة السلطة هذه الآيات مدحاً لأبي بكر وعمر وأخفوا مخالفتهما للأحكام التي فيها! وكرر البخاري ذلك ( ٦/٤٦، و:٨/١٤٥).
وقالوا كانا بعدها يخفضان صوتيهما عند النبي صلّى الله عليه وآله فلا يسمع كلامهما حتى يعيدانه عليه! لكن هذا لايصح لأن عمر رفع صوته على النبي صلّى الله عليه وآله في مرض وفاته وقال غلبه الوجع أو يهجر، حسبنا كتاب الله لا نريد أن تكتب لنا تأميناً من الضلال، ومنعه بخشونة أن يكتب عهده!
< صفحة > 367 < / صفحة >
وصاح أنصاره الطلقاء: القول ما قاله عمر! فطردهم النبي صلّى الله عليه وآله وقال: قوموا عني!
ومعنى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ: لا تتفلسفوا على ربكم ورسوله فتأمرون وتنهون بدله، وتقولون له: إفعل ولا تفعل، فالأمر له وليس لكم!
وزعموا أن المنادين من وراء الحجرات ليسوا أبابكر وعمر بل وفد بني تميم.
ومنها أنهما قدما بين يدي الله ورسوله، فقال أحدهما ولَّ فلاناً، وقال الآخر: بل ولِّ فلاناً! ونلاحظ أن هذا دأبهما، فلما رجعا من فرارهما في حنين، أخذا يتدخلان في الغنائم! «وقال أبوقتادة: يا رسول الله إني ضربت رجلاً على جبل العاتق وعليه درع له قد تحصفت عنه فأعجلت عنه قال فانظر من أخذها، فقام رجل فقال: أنا أخذتها فأرضه عنها فلو أعطيتنيها؟
فقال عمر: لا والله لا يفيؤها الله على أسد من أسده، ويعطيكها! فضحك رسول الله».(كنز العمال:١٠/٥٥٢). طبعاً ضحك من فضول عمر بعد هروبه!
ورواها أبوداود (١/٦١٦) عن أبي بكر قال: «لاها الله، إذاً يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : صدق فأعطه إياه »!
وحذف منه البخاري (٣ /١٦) ذكر أبي بكر وعمر! لكنه روى شكوى أم سلمة من فضول عمر(٦/٦٩): «فقالت أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شئ حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وأزواجه »!
ولعمر سوابق مع النبي صلّى الله عليه وآله منها أن النبي صلّى الله عليه وآله تأخر عمداً عن صلاة العشاء فصاح عمر: نام النساء والصبيان! قال مسلم(٢/١١٥) فخرج النبي وقال: ما كان لكم أن تنزروا رسول الله على الصلاة وذاك حين صاح عمر)!
وفسروا تنزروا بتُلِحُّوا، لكن نزر فيه قطع عمل إنسان والإصرار عليه! والنتيجة: أن سلوكهما مع النبي صلّى الله عليه وآله وسياق السورة يرجح أنها نزلت فيهما، کما نزلت سورة التحریم في بنتیهما.
**
< صفحة > 368 < / صفحة >

الفصل الخامس والستون : تعامل النبي صلّى الله عليه وآله مع الحيوانات والطيور

آيات قرآنية في نعمة الحيوانات علينا

المقصود بالأنعام في القرآن والفقه:الأنعام الأربعة: الإبل والبقر والغنم والماعز.
من سورة النحل:
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ.
من سورة المؤمنون:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ.
من سورة الشعراء:
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
من سورة غافر:
< صفحة > 369 < / صفحة >
اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ.
من سورة الزخرف:
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ.
من سورة الأنعام:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
من سورة فاطر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
من سورة الشورى:
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
من سورة محمد:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ.
من سورة المائدة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
< صفحة > 370 < / صفحة >

زين للناس امتلاك الحيوانات

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ.

الأنعام نزلت الى الأرض من السماء!

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ.

الحج مناسبة شكر الله على نعمة الأنعام

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.

أبطل الإسلام تشريعات الجاهلية في الأنعام

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ.وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
< صفحة > 371 < / صفحة >
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.

نعمة حشرة النحل والعسل

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
في الكافي(٦/٣٣٢) عن الصادق عليه السلام قال:كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يعجبه العسل.كان النبي صلّى الله عليه وآله يأكل العسل ويقول: آيات من القرآن. ومضغ اللبان يذيب البلغم).
وفي أمالي الصدوق/٥١٢:(نهى عن قتل النحل ونهى عن الوسم في وجوه البهائم).

قواعد نبوية في التعامل مع الحيوان

في كلِّ كبدٍ حرّى أجر. في كل ذات كبد رطبة أجر.

  • إنّ الله يحبّ إبراد الكبد الحرى، ومن سقى كبداً حرى من بهيمة وغيرها، أظلَّه الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلَّا ظله.
  • أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله إنه شكى إليَّ أنك تجيعه وتدئبه.
  • ملعون من ضرب وجه الحيوان أو وسم وجهه، أي كواه.
  • ملعون ملعون من نكح بهيمة.
  • إنَّ الله تعالى كتب الإحسان على كل شيئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته.
    أمر بحَدّ الشفار، وأن تُوَارى عن البهائم، وإذا ذبح أحدكم فَلْيُجْهِزْ.
  • قالت عائشة:كنت على بعير صعب فجعلت أضربه فقال لي رسول الله: عليك بالرفق فإن الرفق لايكون في شئ إلا زانه ولا ينزع من شئ إلا شانه.
    < صفحة > 372 < / صفحة >
  • مر برجل يكرع الماء بفيه يعني يشربه من إناء أو غيره من وسطه فقال: أتكرع ككرع البهيمة! إن لم تجد إناء فاشرب بيديك، فإنها من أطيب آنيتكم.
  • أيها الناس إن السباع همتها التعدي، وإن البهائم همتها بطونها، وإن النساء همتهن الرجال، وإن المؤمنين مشفقون خائفون وجلون.

من معجزات النبي صلّى الله عليه وآله مع بعض الحيوانات

في بصائر الدرجات/٣٧٠: (عن جابر بن بن عبد الله قال: لما أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله من غزوة ذات الرقاع وهي غزوة بني ثعلبة حتى إذا كان قريباً من المدينة إذا بعير حل يرقل حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فوضع جرانه على الأرض ثم خرخر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : هل تدرون ما يقول هذا البعير؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: إنه أخبرني أن صاحبه عمل عليه حتى إذا أكبره وأدبره وأهزله أراد أن ينحره ويبيع لحمه. ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا جابر إذهب به إلى صاحبه فأتني به فقلت: لا أعرف صاحبه. قال: هو يدلك. قال فخرجت معه حتى انتهيت إلى بني واقف فدخل في زقاق فإذا بمجلس فقالوا يا جابر كيف تركت رسول الله وكيف تركت المسلمين؟ قلت صالحون،ولكن أيكم صاحب هذا البعير؟قال بعضهم: أنا، فقلت: أجب رسول الله صلّى الله عليه وآله قال مالي؟قال: إستعدى عليك بعيرك! قال فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال إن بعيرك أخبرني أنك عملت عليه حتى إذا أكبرته وأدبرته وأهزلته أردت نحره وبيع لحمه. قال الرجل قد كان ذلك يا رسول الله صلّى الله عليه وآله . قال: بعه مني قال بل هو لك يا رسول الله قال: بل بعه مني، فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وآله ثم ضرب على صفحته فتركه يرعى في ضواحي المدينة فكان الرجل منا إذا أراد الروحة والغدوة منحه رسول الله صلّى الله عليه وآله . فقال جابر: رأيته وقد ذهب عنه دبره وصلح).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما نفَّروا برسول الله صلّى الله عليه وآله ناقته [قال لها: أثبتي] قالت لرسول الله صلّى الله عليه وآله :لاوالله لا أزلت خفاً عن خف ولوقطعت إرباً إرباً)!
وفي مختصر بصائر الدرجات/١٥: (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: وأما الذئب فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله فشكى إليه الجوع فدعى رسول الله صلّى الله عليه وآله أصحاب الغنم فقال: أفرضوا للذئب شيئاً
< صفحة > 373 < / صفحة >
فشحوا، فذهب ثم عاد الثانية فشكى الجوع فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله فشحوا، ثم عاد الثالثة فشكى الجوع فدعاهم فشحوا، فقال رسول الله للذئب: إختلس. ولو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله فرض للذئب شيئاً ما زاد الذئب عليه شيئاً حتى تقوم الساعة).
وفي أمالي الطوسي/٤٥٣: (عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: مر رسول الله بظبية مربوطة بطنب فسطاط، فلما رأته أطلق الله عز وجل لسانها فكلمته فقالت: يا رسول الله، إني أم خشفين عطشانين، وهذا ضرعي قد امتلأ لبنا، فخلني لأنطلق فأرضعهما ثم أعود فتربطني كما كنت. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله : وكيف وأنت ربيطة قوم وصيدهم. قالت: بلى يا رسول الله، أنا أجئ فتربطني أنت بيدك كما كنت. فأخذ عليها موثقاً من الله لتعودن وخلى سبيلها فلم تلبث إلا يسيراً حتى رجعت، وقد أفرغت ما في ضرعها فربطها رسول الله صلّى الله عليه وآله كما كانت، ثم سأل: لمن هذا الصيد؟ فقيل له: هذه لبني فلان، فأتاهم النبي صلّى الله عليه وآله وكان الذي قنصها منهم منافقاً، فرجع عن نفاقه وحسن إسلامه، فكلمه النبي صلّى الله عليه وآله في بيعها ليشتريها منه، قال: بل أخلي سبيلها فداك أبي وأمي يا نبي الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لو أن البهائم يعلمن من الموت ما تعلمون أنتم ما أكلتم منها سميناً).
وفي المعجم الأوسط للطبراني(٩/٥٣): (أقبلنا راجعين فجاء رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله بعش طير يحمله فيه فراخ وأبواه يتبعانه ويقعان على يد الرجل فأقبل النبي صلّى الله عليه وآله على من كان معه فقال: أتعجبون بفعل هذين الطيرين بفراخهما والذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من هذين الطيرين بفراخهما)!!
وقال ابن سعد(١/١١٦): « كان رسول الله صلّى الله عليه وآله مع أمه آمنة بنت وهب فلما بلغ ست سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً. فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك: لما نظر إلى أطَمِ بني عدي بن النجار عرفه وقال:كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه.ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب، وأحسنت العوم في بئر
< صفحة > 374 < / صفحة >
بني عدي بن النجار.
وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه فقالت أم أيمن:فسمعت أحدهم يقول هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامه.
ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت. فلما مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله في عمرة الحديبية بالأبواء قال: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله صلّى الله عليه وآله ).

دفاع النبي صلّى الله عليه وآله عن الحيوانات وأمره بالرفق بها

في صحيح البخاري(٣/٧٧): (أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار. قال فقال والله أعلم: لا أنت أطعمتيها ولا سقيتيها حين حبستيها،ولاأنت أرسلتيها فأكلت من خشاش الأرض). وخشاش الأرض: هوامها، وفي بعض رواياتها: عذبت امرأة في هرة، بدل دخلت النار، وهو أكثر منطقية.
وفي الخصال/٦١٨: (من سافر منكم بدابة فليبدأ حين ينزل بعلفها وسقيها. لا تضربوا الدواب على وجوهها فإنها تسبح ربها).
وفي من لا يحضره الفقيه:٢/٢٩٠: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إن الله تبارك وتعالى يحب الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتم الدواب العجاف فأنزلوها منازلها فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عليها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها).
وفي الفقيه:٢/٢٩١: (وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الإبل عز لأهلها. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يُتخطى القطار قيل: يا رسول الله ولم؟قال: لأنه ليس من قطار إلا وما بين البعير إلى البعير شيطان. وأبصر ناقة معقولة وعليها جهازها، فقال: أين صاحبها، مروه فليستعد غداً للخصومة.
وفي خبر آخر قال صلّى الله عليه وآله : أخروا الأحمال فإن اليدين معلقة، والرجلين موثقة.
عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعقبون بعيراً بينهم، وهم منطلقون إلى بدر).
< صفحة > 375 < / صفحة >
وفي من لايحضره الفقيه:٢/٢٨٩: (روي عن أبي ذر أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إن الدابة تقول:اللهم ارزقني مليك صدق يشبعني ويسقيني ولايحملني مالا أطيق).
وروى أحمد (٥/١٦٢ و١٧٠) والنسائي (٦/٢٢٣) والبيهقي(٦ /٣٣٠): ( أن أباذر كان في مراغة مصر يروِّض فرسه، فسألوه عن حبه له فقال [سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول]: ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده، فمنها المستجاب ومنها غير المستجاب. ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً).
رسائل الشريف المرتضى(٢/٣٧٣): (فقتل البهائم التي لا أذية منها لا يجوز على وجه لأن السمع لم يبحه. وكذلك ما يؤذي أذى يسيراً متحملاً كالنمل وما أشبهه، فإن المؤذيات من البهائم المضرات مباح قتلها، كالسباع والأفاعي).

حيوانات مدحها النبي صلّى الله عليه وآله

في الفقيه (٢/٢٨٣): (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والمنفق عليها في سبيل الله عز وجل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها. فإذا أعددت شيئاً فأعده أقرح، أرثم، محجل الثلاثة، طلق اليمين، كميتاً ثم أغر. تسلم وتغنم.
وسمعته يقول: من ربط فرساً عتيقاً محيت عنه عشر سيئات وكتبت له إحدى عشرة حسنة في كل يوم، ومن ارتبط هجيناً محيت عنه في كل يوم سيئتان وكتبت له تسع حسنات في كل يوم.
ومن ارتبط برذوناً يريد به جمالاً أو قضاء حاجة أو دفع عدو محيت عنه في كل يوم سيئة وكتبت له ست حسنات.

  • أهدى أمير المؤمنين علي عليه السلام لرسول الله صلّى الله عليه وآله أربعة أفراس من اليمن فأتاه فقال: يا رسول الله أهديت لك أربعة أفراس، قال: صفها. قال: هي ألوان مختلفة، قال: فيها وضح؟ قال: نعم، قال: فيها أشقر به وضح؟ قال: نعم، قال: فأمسكه لي، وقال: فيها كميتان أوضحان، قال: أعطهما ابنيك، قال:والرابع أدهم بهيم قال: بعه واستخلف قيمته لعيالك، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح.
    < صفحة > 376 < / صفحة >
    وبهامشه: الأقرح يكون في وسط جبهته قرحه وهي بياض يسير. الأرثم: الذي أنفه وشفته العليا أبيض. المحجل: الذي يجاوز البياض في قوائمه الأرساغ ولا يجاوز الركبتين لأنهما مواضع الأحجال وهي الخلاخيل والقيود. ولا يكون التحجيل باليدين ما لم يكن معها رجل أو رجلان. وطلق اليمين:إذا لم يكن بها تحجيل. والكميت: الأحمر الذي تخالط حمرته سواد. والشيَة بكسرالشين: كل لون في الحيوان يكون معظم لونه على خلافه. ومحجل الثلاثة: أي يده اليسرى ورجلاه فيها بياض. والأغر: في جبهته بياض.
    وفي الكافي (١/٢٣٦) عن الإمام الصادق عليه السلام قال:(لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين عليه السلام فقال للعباس: يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق صلّى الله عليه وآله هنيئة ثم قال:ياعباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح. قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها، ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟ فقال: نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي. قال العباس: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي، قال: فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم. ثم صاح: يا بلال عليَّ بالمغفر، والدرع، والراية، والقميص، وذي الفقار، والسحاب، والبرد، والأبرقة، والقضيب. قال: فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك-يعني الأبرقة- فجيئ بشقة كادت تخطف الأبصار، فإذا هي من أبرق الجنة فقال: يا علي إن جبرئيل أتاني بها،وقال: يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة. ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف، والقميصين القميص الذي أسري به فيه، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر،وقلنسوة العيدين والجمع، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه.
    ثم قال:يا بلال علي بالبغلتين: الشهباء والدلدل، والناقتين: العضباء والقصوى، والفرسين: الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وحيزوم، وهو الذي كان يقول أقدم حيزوم، والحمار عفير،
    < صفحة > 377 < / صفحة >
    فقال: إقبضها في حياتي. فذكر أمير المؤمنين عليه السلام أن أول شئ من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله قطع خطامه ثم مر يركض، حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها، فكانت قبره).
    **
    وفي الفقيه:٢/٢٩١:( سئل النبي صلّى الله عليه وآله أيُّ المال خير؟ قال: زرع زرعه صاحبه وأصلحه، وأدى حقه يوم حصاده، قيل: يا رسول الله فأي المال بعد الزرع خير؟ قال: رجل في غنمه قد تبع بها مواضع القطر يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة قيل: يا رسول الله فأي المال بعد الغنم خير؟ قال: البقر تغدو بخير وتروح بخير. قيل: يا رسول الله فأي المال بعد البقر خير؟ فقال: الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل. نعم الشئ النخل من باعه فإنما ثمنه بمنزلة رماد على رأس شاهقة اشتدت به الريح في يوم عاصف إلا أن يخلف مكانها، قيل: يا رسول الله فأي المال بعد النخل خير؟ فسكت فقال له رجل: فأين الإبل؟ قال: فيها الشقاء والجفاء والعناء وبعد الدار، تغدو مدبرة وتروح مدبرة لا يأتي خيرها إلا من جانبها الأشأم، أما إنها لا تعدم الأشقياء الفجرة.
    قال مصنف هذا الكتاب: معنى قوله صلّى الله عليه وآله : لا يأتي خيرها إلا من جانبها الأشأم: هو أنها لا تحلب ولا تركب إلا من الجانب الأيسر.
    وقال صلّى الله عليه وآله في الغنم: إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت، والبقر إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أدبرت، والإبل إذا أقبلت أدبرت وإذا أدبرت أدبرت).

ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله في القطة

في الإستذكار لابن عبد البر(١/١٦٤): (عن النبي عليه السلام أنه كانت تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه، ثم يتوضأ بفضلها).
وفي الفايق للزمخشري(٢/٣١٠):(قال صلّى الله عليه وآله :ليست الهرة بنجس إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات وكان يصغى لها الإناء، جعلها بمنزلة المماليك).
< صفحة > 378 < / صفحة >

ما ورد في النهي عن قتل الخطاف

وفي جواهر الكلام(٣٦/٣١١): (وفي خبر التميمي عن محمد بن جعفر عن أبيه عليه السلام : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : استوصوا بالصنينات خيراً يعني الخطاف، فإنهن آنس طير الناس بالناس، ثم قال: أتدرون ما تقول الصنينة إذا هي مرت وترنمت، تقول: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حتى تقرأ أم الكتاب، فإذا كان في آخر ترنمها قالت: ولا الضالين).
وفي الخصال/٣٢٧: (عن داود بن كثير الرقي قال: بينما نحن قعود عند أبي عبد الله عليه السلام إذ مر بنا رجل بيده خطاف مذبوح، فوثب إليه أبوعبد الله عليه السلام حتى أخذه من يده، ثم دحى به الأرض، ثم قال: أعالمكم أمركم بهذا أم فقيهكم لقد أخبرني أبي ، عن جدي عليهما السلام أن رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى عن قتل ستة: النحلة، والنملة، والضفدع، والصرد، والهدهد، والخطاف. فأما النحلة فإنها تأكل طيباً وتضع طيباً وهي التي أوحى الله عز وجل إليها، ليست من الجن ولا من الانس، وأما النملة فإنهم قحطوا على عهد سليمان بن داود عليهما السلام فخرجوا يستسقون فإذا هم بنملة قائمة على رجليها، مادة يدها إلى السماء وهي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، لا غنى بنا عن فضلك، فارزقنا من عندك، ولا تؤاخذنا بذنوب سفهاء ولد آدم، فقال لهم سليمان: ارجعوا إلى منازلكم فإن الله تبارك وتعالى قد سقاكم بدعاء غيركم، وأما الضفدع فإنه لما أضرمت النار على إبراهيم شكت هوام الأرض إلى الله عز وجل واستأذنته أن تصب عليها الماء، فلم يأذن الله عز وجل لشئ منها إلا الضفدع فاحترق منه الثلثان وبقي منه الثلث، وأما الهدهد فإنه كان دليل سليمان عليه السلام إلى ملك بلقيس. وأما الصرد فإنه كان دليل آدم عليه السلام من بلاد سرانديب إلى بلاد جدة شهراً، وأما الخطاف، فان دورانه في السماء أسفا لما فعل بأهل بيت محمد صلّى الله عليه وآله تسبيحه قراءة الحمد لله رب العالمين، ألا ترونه وهو يقول: ولا الضالين).
وفي التهذيب (٩/٨١): (كان النبي صلّى الله عليه وآله يوماً يمشى فإذا شقراق قد انقض فاستخرج من خفه حية، وعن الذي ينضب عنه الماء من سمك البحر قال: لا تأكله، وعن الخطاف قال: لا باس به هو مما يحل اكله لكن كره لأنه استجار بك ووافى منزلك، وكل طير يستجير بك فأجره).
< صفحة > 379 < / صفحة >

ما ورد في النهي عن قتل القنبرة

في مناقب ابن المغازلي/١٤٢، ونحوه مستدرك الوسائل (١٦/١٢٣): ( باب كراهة قتل القنبرة، وأكلها، وسبها، وإعطائها الصبيان يلعبون بها:لا تأكلوا القبرة، ولا تسبوها، ولا تعطوها الصبيان يلعبون بها، فإنها كثيرة التسبيح لله، وتسبيحها: لعن الله مبغضي آل محمد عليهم السلام ).

ما ورد في جواز قتل الحيوانات والحشرات المؤذیة

في من لايحضره الفقيه(٣/٣٥١): (سأل الحلبي أباعبد الله عليه السلام عن قتل الحيات، فقال: أقتل كل شئ تجده في البرية إلا الجان، ونهى عن قتل عوامر البيوت، وقال:لاتدعوهن مخافة تبعاتهن فإن اليهود على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله قالت: من قتل عامر بيت أصابه كذا وكذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : من تركهن مخافة تبعاتهن فليس مني، وإنما تتركها لأنها لاتريدك.وقال:ربما قتلتهن في بيوتهن).
وفي جواهر الکلام(٢٠/١٦٩): (في خبر محمد بن الفضیل سأل أبا الحسن عليه السلام عن المحرم وما يقتل من الدواب فقال: يقتل الأسود والأفعي والفأرة والعقرب وكل حية، وإن أرادك السبع فاقتله ، وإن لم يردك فلا تقتله ، والكلب العقور إن أرادك فاقتله ، ولا بأس للمحرم أن يرمي الحدأة.
وفي خبر حنان بن سدير عن أبي جعفر عليه السلام الذي رواه مع سابقه في الفقيه قال : « أمر رسولالله صلّى الله عليه وآله بقتل الفأرة في الحرم والأفعى والعقرب ، والغراب الأبقع ترميه ، فإن أصبته فأبعده الله ، وكان يسمي الفأرة الفويسقة ، وقال : إنها توهي السقاء وتصرم البيت على أهله.
وخبر أبي البختري المروي عن قرب الاسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم السلام يقتل المحرم ما عدا عليه من سبع وغيره ، ويقتل الزنبور والعقرب والحية والنسر والذئب والأسد ، وما خاف أن يعدو عليه من السباع والكلب العقور ).
أقول: في الکافي (٤/٣٦٣) قاعدة عامة: (عن الصادق عليه السلام قال: کل ما خاف المحرم علی نفسه من السباع والحیات وغیرها فلیقتله فإن لم يردك فلا ترده).
< صفحة > 380 < / صفحة >

نهى النبي صلّى الله عليه وآله عن أذى الحيوان والطير وذبحه لغير حاجة

في الخلاف للطوسي (٥/٥١٩): (وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه: نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكله، ونهى عن قتل الحيوان صبراً).
وفي تذكرة الفقهاء (٩/٧٢): (قال الصادق عليه السلام : في وصية النبي صلّى الله عليه وآله : ولا تعقروا البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله ).
في الوسائل(٨/٣٣١): (عن أبي حمزه قال: كان لابن ابنتي حمامات فذبحتهن غضبا، ثم خرجت إلى مكة، فدخلت على أبي جعفر عليه السلام فرأيت عنده حماماً كثيراً فأخبرته وحدثته اني ذبحتهن فقال: بئسما صنعت، أما علمت أنه إذا كان من أهل الأرض عبث بصبياننا يدفع عنهم الضرر بانتقاض الحمام، وإنهن يؤذن بالصلاة في آخر الليل فتصدق عن كل واحدة منهن ديناراً فإنك قتلتهن غضباً).
وفي الأسير في الإسلام للأحمدي/٣٨: (نهى عن سلخ الذبيحة قبل أن تموت، ونهى أن يقطع رأسها قبل أن تموت. ونهى أن يعرقب الدابة إذا حرنت في أرض العدو. ونهى عن إخصاء الدواب والغنم إلا للإصلاح.
نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يحرق شيء من الحيوان.
مر رسول الله صلّى الله عليه وآله على قوم نصبوا دجاجة حية وهم يرمونها بالنبل فقال: من هؤلاء لعنهم الله. لعن اللَّه من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً(هدف رماية).
لعن اللَّه من مثل بالحيوان. روي أنه كان رجل من بني إسرائيل ناسك يعبد اللَّه فبينما هو يصلي وهو في عبادته إذ بصر بغلامين صبيين قد أخذوا ديكاً وهما ينتفان ريشه، فأقبل على ما فيه من العبادة ولم ينههما عن ذلك، فأوحى اللَّه إلى الأرض أن سيخي بعبدي فساخت به الأرض)!
وفي نهج البلاغة(٢/٧٨) قال أمیرالمؤمنین عليه السلام : (فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله یقول: إیاکم والمثلة ولو بالکلب العقور).
< صفحة > 381 < / صفحة >

كان النبي صلّى الله عليه وآله يأكل اللحم

(قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :اللحم سيد الطعام في الدنيا والآخرة) (الكافي(٦/٣٠٨).
وفي الكافي(٦/٣١٧): (عن أبي عبد الله عليه السلام : قال النبي صلّى الله عليه وآله :الثريد بركة. اللهم بارك لأمتي في الثرد والثريد. قال جعفر: الثرد ما صغر، والثريد ما كبر).
وفي الكافي(٦/٣٢٠): (في حديث آخر: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله شكى إلى ربه عز وجل وجع الظهر فأمره بأكل الحب باللحم، يعني الهريسة).
وفي الإستنصار/٩: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إ الله اختار من كلى شئ شيئاً اختار من الأرض مكة، واختار من الأنعام إناثها، واختار من الغنم الضأن).
وفي مسند زيد بن علي عليه السلام /٢٥١: (لما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله صلاة يوم النحر تلقاه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله أكرمني اليوم بنفسك، فقال وما ذاك؟ قال إني أمرت بنسكي قبل أن أخرج أن يذبح، فأحببت أن أبدأ بك يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله فشاتك شاة لحم، قال يا رسول الله إن عندي عناقاً لي جذعة! قال:إذبحها ولا رخصة فيها لأحد بعدك). لأنها أنثى.
وفي الكافي(٦/٣١٢): (قال صلّى الله عليه وآله : من سره أن يقل غيظه فليأكل لحم الدراج).
وفي الكافي(٦/٣٠٩): (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله لحِماً يحب اللحم. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنا معاشر قريش قوم لَحِمون. وقال: من أتى عليه أربعون يوماً ولم يأكل اللحم، فليستقرض على الله عز وجل وليأكله).
وفي الكافي(٦/٣١٥): (قلت لأبي عبد الله عليه السلام : لم كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يحب الذراع أكثر من حبه لسائر أعضاء الشاة؟فقال عليه السلام : لأن آدم عليه السلام قرب قرباناً عن الأنبياء من ذريته، فسمى لكل نبي من ذريته عضواً عضواً، وسمى لرسول الله صلّى الله عليه وآله الذراع، فمن ثم كان صلّى الله عليه وآله يحبها ويشتهيها ويفضلها. وسمَّت اليهودية النبي صلّى الله عليه وآله في ذراع وكان النبي صلّى الله عليه وآله يحب الذراع والكتف، ويكره الورك لقربها من المبال).
< صفحة > 382 < / صفحة >

نهى النبي صلّى الله عليه وآله عن أكل اللحم نيئاً

وفي الكافي(٦/٣١٣):عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أن رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى أن يؤكل اللحم غريضاً (نيئاً)وقال: إنما تأكله السباع.ولكن حتى تغيره الشمس (القديد) أو النار).

ما يؤكل من الطيور والسباع

في التهذيب(٩/١٤): (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله عن إتيان الطير بالليل وقال: إن الليل أمان لها. قال: لا تأتوا الفراخ في أعشاشها ولا الطير في منامه حتى يصبح ولا تأتوا الفرخ في عشه حتى يريش، فإذا طار فأوتر له قوسك وانصب له فخك.
الحسن بن محبوب، عن سماعة قال: سألت أباعبد الله الصادق عليه السلام عن المأكول من الطير والوحش فقال: حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من الوحش، قلت: إن الناس يقولون من السبع، فقال لي: يا سماعة السبع كله حرام وإن كان سبع لا ناب له فإنما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله هذا تفصيلاً، وحرم الله عز وجل ورسوله المسوخ جميعاً فكل الآن من طير البر ما كان له حوصلة، ومن طير الماء ما كانت له قانصة كقانصة الحمام لا معدة كمعدة الإنسان.
وكل ما صف فهو ذو مخلب وهو حرام، والصفيف كما يطير البازي والحدأة والصقر وما أشبه ذلك، وكل ما دف فهو حلال والقانصة والحوصلة يمتحن بها من الطير ما لم يعرف طيرانه، وكل طير مجهول.

ما يؤكل من البيض والطير

في من لا يحضره الفقيه(٤/٣٦٦) من وصية النبي صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : يا علي: كل من البيض ما اختلف طرفاه، ومن السمك ما كان له قشر، ومن الطير ما دف، واترك منه ما صف، وكل من طير الماء ما كانت له قانصة أو صيصية.يا علي: كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، فحرام أكله، ولا تأكله).
وفي الوسائل(٢٥/٧٩و٨٠): عن علي عليه السلام قال[رسول الله صلّى الله عليه وآله ]:إن نبياً من الأنبياء شكى إلى الله قلة النسل في أمته فأمره أن يأمرهم بأكل البيض ففعلوا فكثر النسل فيهم.
< صفحة > 383 < / صفحة >
وعن الصادق عليه السلام : أما إنه خفيف يذهب بقرم اللحم. وليست له غائلة اللحم. ومخ البيض خفيف والبياض ثقيل).

ما يؤكل من السمك

في الكافي(٦/٣٢٣) عن الصادق عليه السلام قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا أكل السمك قال: اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا به خيراً منه.
وورد عن أهل البيت عليهم السلام وحديثهم حديث جدهم صلّى الله عليه وآله (المحاسن(٢/٤٧٦) والفقيه (٣/٣٥١) والكافي (٦/٣٢٤): اللحم ينبت اللحم، والسمك يذيب الجسد، لا تدمنوا أكل السمك فإنه يذيب الجسد.أكل الحيتان يورث السل. والسمك الطري يذيب شحم العين.وأكل الحيتان يورث السل. ومن بات وفى جوفه سمك لم يتبعه بتمر وعسل، لم يزل عرق الفالج يضرب عليه حتى يصبح. والدباء يزيد في الدماغ، وكثرة أكل البيض يزيد في الولد، وما استشفي مريض بمثل العسل، ومن أدخل جوفه لقمة شحم أخرجت مثلها من الداء).
أقول: يؤيد هذه الأحاديث الشريفة أن آكلي السمك من الصيادين والذين يغلب على طعامهم السمك في سواحل البحار، من النادر أن ترى فيهم سميناً!
**
< صفحة > 384 < / صفحة >

الفصل السادس والستون : سياسة النبي صلّى الله عليه وآله مع الأسرى

آيات قرآنية في الأسرى

من سورة محمد:
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ.
من سورة الأنفال:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا.وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.
< صفحة > 385 < / صفحة >

أسر اليهود بعضهم لبعض!

قا الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
في الخلاف(٥/٣١٩): (الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل، وقوله تعالى: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. قد بينا أن الضمير في ( كان) راجع إلى المؤمن الذي تقدم ذكره، فكأنه قال: وإن كان المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله، بأن يكون نازلاً بينهم، أو أسلم عندهم ولم يخرج إلينا، أو كان أسيراً في أيديهم).
وفي الخلاف (٥/٣٤١): (وروي أن رجلاً أسيراً جئ به إلى علي عليه السلام يوم صفين، فقال: لا أقتلك صبراً، إني أخاف الله رب العالمين).

أكثر من أسرهم النبي صلّى الله عليه وآله أسلموا أو تأثروا بأخلاقه ومعاملته

ثمامة سيد اليمامة هدية من الله الى رسوله صلّى الله عليه وآله
كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام : كان ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة الذين يسيطرون على اليمامة، واليمامة هي سافلة نجد مما يلي البحرين، وتبلغ ثلث ما يعرف اليوم بنجد.
في اللباب لابن الأثير:١/٣٩٦: «هذه النسبة إلى حنيفة وهم قبيلة كثيرة من ربيعة بن نزار نزلوا اليمامة، وهم حنيفة بن لجيم بن صعب… بن ربيعة بن نزار، ينسب إليه خلق كثير، منهم ثمامة بن أثال الحنفي له صحبة، وخولة أم محمد بن الحنفية، وهو ابن علي بن أبي طالب ».
وكان النبي صلّى الله عليه وآله يحب أن يحاصر قريشاً ويمنع عنها التموين من جهة نجد والعراق، كما منعه من جهة المدينة والشام، لعلها تفكر وتخضع لربها وتسمع لرسوله صلّى الله عليه وآله ، وقد يكون جبرئيل عليه السلام علمه أن يدعو الله تعالى أن يوقع ثمامة سيد اليمامة في قبضته ويهدي قلبه، فكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة.
< صفحة > 386 < / صفحة >
ففي الكافي: ٨/٢٩٩، عن الإمام الباقر عليه السلام قال:« إن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي صلّى الله عليه وآله ، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: اللهم أمكني من ثمامة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : إني مخيرك واحدة من ثلاث: أقتلك، قال: إذاً تقتل عظيماً! أو أفاديك، قال: إذاً تجدني غالياً! أو أمنُّ عليك، قال: إذاً تجدني شاكراً! قال: فإني قد مننت عليك. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله، وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك، وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق »!
قال الطوسي في الخلاف(٤/١٩٢): (فأطلقوه فمر واغتسل وجاء وأسلم وكتب إلى قومه فجاؤوا مسلمين. وهذا نص في جواز المن لأنه أطلقه من غير شئ).
وفي الإستيعاب(١/٢١٤): « فخرج حتى إذا قدم مكة، فلما سمع به المشركون جاؤوه فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك؟قال: لا أدري ما تقولون إلا أني أقسمت برب هذه البُنَيَّة لايصل إليكم من اليمامة شئ مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم! قال:وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة!
ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضرَّ بهم كتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل! فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم! وكان ثمامة حين أسلم قال: يا رسول الله، والله لقد قدمت عليك وما على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، ولا دين أبغض إلى من دينك، ولا بلد أبغض إلى من بلدك، وما أصبح على الأرض وجه أحب إلي من وجهك، ولا دين أحب إلى من دينك، ولا بلد أحب إلي من بلدك)!

ذاقت قريش سنين القحط لكنها لم تتضرع لربها!

قال الواحدي في أسباب النزول/٢١١: « قال ابن عباس: لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي إلى رسول الله «ص» فأسلم وهو أسير فخلى سبيله، فلحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من يمامة وأخذ الله تعالى قريشاً بسني الجدب حتى أكلوا العلهز(الوبر بالدم) فجاء أبوسفيان إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقال: أنشدكم الله والرحم، إنك تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، قال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء
< صفحة > 387 < / صفحة >
بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ».
وقبل إسلام ثمامة دعا النبي صلّى الله عليه وآله على قريش بعد الأحزاب:«اللهم اشدد وطأتك على مضروابعث عليهم سنين كسني يوسف،فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز».«مختلف ابن قتيبة/٢٣٣ ».
ثم جاءهم قرار ثمامة بمنع وصول أي مادة غذائية لهم فاشتد الأمر عليهم، لكنهم لم يخضعوا لربهم ولا دعوه، ولا طلبوا من النبي صلّى الله عليه وآله أن يدعو لهم، بل كتبوا له إنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة منع عنا الميرة فكتب الى ثمامة!
«الوافي:١١/١٤» وأسباب النزول للواحدي/٢١١، والحاكم:٢ /٣٩٤، وابن حبان: ٣ /٢٤٧».
لقد فاقوا اليهود في تكبرهم وعنادهم!حيث قرروا أن لا يؤمنوا بنبي من بني هاشم، مهما رأوا من آياته، ومهما أصابهم من عقوبات!

عزل أبوبكر ثمامة فاضطهده مسيلمة الكذاب!

قال محمد بن إسحاق كما في الإستيعاب (١/٢١٤): (ارتد أهل اليمامة عن الإسلام غير ثمامة بن أثال ومن اتبعه من قومه، فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، ويقول إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاءٌ على من لم يأخذ به منكم يا بني حنيفة! فلما عصوه ورأى أنهم قد أصفقوا على اتباع مسيلمة عزم على مفارقتهم. ومر العلاء بن الحضرمي ومن معه على جانب اليمامة «في البحرين» فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين: إني والله ما أرى أن أقيم مع هؤلاء مع ما قد أحدثوا، وإن الله تعالى لضاربهم ببلية لايقومون بها ولا يقعدون، وما نرى أنت نتخلف عن هؤلاء وهم مسلمون، وقد عرفنا الذي يريدون، وقد مروا قريباً ولا أرى إلا الخروج إليهم فمن أراد الخروج منكم فليخرج، فخرج ممداً للعلاء بن الحضرمي ومعه أصحابه من المسلمين، فكان ذلك قد فتَّ في أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد بني حنيفة! وقال ثمامة في ذلك:
دعانا إلى ترك الديانة والهدى * مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجعُ
< صفحة > 388 < / صفحة >
فيا عجباً من معشر قد تتابعوا * له في سبيل الغي والغيُّ أشنعُ».
راجع في ثمامة:تفسير الثعلبي: ٥/ ١٢، والرازي:٢٣/١١٣، والإصابة: ١/٥٢٥، وابن هشام: ٤/١٠٢٦، و١٠٥٣، وتاريخ المدينة: ٢/٤٣٥. وتفصيله في كتابنا:قراءة جديدة في حروب الردة.

الرجل اليماني المجادل السخيّ

في الكافي: ٤/٣٩، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وفد من اليمن وفيهم رجل كان أعظمهم كلاماً وأشدهم استقصاء في محاجة النبي فغضب النبي صلّى الله عليه وآله حتى التوى عرق الغضب بين عينيه، وتربد وجهه وأطرق إلى الأرض، فأتاه جبرئيل فقال: ربك يقرؤك السلام ويقول لك: هذا رجل سخي يطعم الطعام. فسكن عن النبي صلّى الله عليه وآله الغضب ورفع رأسه، وقال له: لولا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخيٌّ تطعم الطعام، لشردت بك وجعلتك حديثاً لمن خلفك! فقال له الرجل: وإن ربك ليحب السخاء؟ فقال: نعم. فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والذي بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً »!

رجع أسرى بدر كفاراً ما عدا ثلاثة

قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
في الكافي(٨/٢٠٢): (نزلت في العباس وعقيل ونوفل. قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبوالبختري(العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزى) فأسروا فأرسل علياً عليه السلام فقال: أنظر من هاهنا من بني هاشم قال: فمر علي عليه السلام على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه فقال له عقيل: يا ابن أم علي، أما والله لقد رأيت مكاني قال: فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال: هذا أبوالفضل في يد فلان وهذا عقيل في يد فلان وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان، فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى انتهى إلى عقيل فقال له: يا أبايزيد قتل أبوجهل قال: إذا لاتنازعون في تهامة فقال: إن كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم فقال: فجيئ بالعباس فقيل له: أفد نفسك وأفد ابن أخيك فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي فقال: أعط مما
< صفحة > 389 < / صفحة >
خلفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ فقال: أتاني به جبرئيل عليه السلام من عند الله عز وجل، فقال ومحلوفه: ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي أشهد أنك رسول الله، قال: فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل كرم الله وجوههم وفيهم نزلت هذه الآية..).
وفي الكواكب السيارة لابن الزيات/١٧٣: (قال يزيد ابن أبي حبيب: قلت لعبد الله بن الحارث في مجلس فيه بعض قبط مصر: إن هذا القبطي جاري فادع له بالاسلام رغبة فيه. فقال: إن سبقت له سابقة كما سبقت لي آمن، لقد كنت على شرك فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه وآله في فداء أسير من بني المصطلق وغيبت في بعض الطريق جارية سوداء وبعض ما معي خوفاً أن يأخذه مني فجئت اليه وكلمته في فك الأسير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما جئت به؟ فقلت ما جئت بشئ! فقال: أين الجارية السوداء، ثم جعل يحدّثني ويقول خلفتها في موضع كذا وكذا! قال فقلت: أشهد أن لا اله الا اللّه وأشهد أن محمداً رسول الله. والله ما كان معي من أحد، ولا سبقني اليه أحد فقال القبطي من أخبره؟ قال: يزيد بن أبي حبيب: الله أخبره. فقال: صدقت وأنا أشهد أن لا اله الا اللّه وأن محمداً رسول الله).
وفي الخلاف للطوسي (٤/١٩٠): وروي أن أباعزة الجمحي وقع في الأسر يوم بدر فقال: يا محمد إني ذو عيلة فامنن علي. فمنَّ عليه على أن لا يعود إلى القتال فمر إلى مكة فقال: إني سخرت بمحمد! وعاد إلى القتال يوم أحد، فدعا رسول الله أن لا يفلت فوقع في الأسر، فقال: إني ذو عيلة فامنن علي. فقال النبي صلّى الله عليه وآله : أمنُّ عليك حتى ترجع إلى مكة فتقول في نادي قريش: إني سخرت بمحمد مرتين، لا يلسع المؤمن من جحر مرتين! فقتله صلّى الله عليه وآله بيده، وهذا نص في جواز المن.
وأما الدليل على جواز المفاداة بالرجال ما رواه أبوقلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وآله فادى رجلاً برجلين.
وأما الدليل على جواز المفاداة بالمال ما فعله النبي صلّى الله عليه وآله يوم بدر، فإنه فادى جماعة من كفار قريش بمال! وروي أن أبا العاص زوج زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله كان ممن وقع في الأسر وكانت هي بمكة، فأنفذت مالاً لتفكه من الأسر وكانت فيه قلادة كانت لخديجة أدخلت بها
< صفحة > 390 < / صفحة >
زينب على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وآله عرفها، فرق لها رقة شديدة، فقال: لو خليتم أسيرها ورددتم مالها؟ قالوا: نعم. ففعلوا ذلك. وهذا نص لأنهم فادوه بالمال، ثم منوا عليه برد المال عليه).
وفي تفسير القمي(١/٢٦٩): (وكان القتلى ببدر سبعين والأسرى سبعين قتل منهم أمير المؤمنين عليه السلام سبعة وعشرين ولم يأسر أحداً، فجمعوا الأسارى وقرنوهم في الحبال وساقوهم على أقدامهم وجمعوا الغنائم، وقتل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله تسعة رجال فمنهم سعد بن خثيمة وكان من النقباء فرحل رسول الله صلّى الله عليه وآله ونزل الأثيل عند غروب الشمس وهو من بدر على ستة أميال فنظر إلى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة وهما في قران واحد، فقال النضر لعقبة يا عقبة أنا وأنت من المقتولين. فقال عقبة من بين قريش؟ قال: نعم، لأن محمداً قد نظر الينا نظرة رأيت فيها القتل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله يا علي عليَّ بالنضر وعقبة وكان النضر رجلاً جميلاً عليه شعر، فجاء علي فأخذ بشعره فجره إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال النضر يا محمد أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني وإن فاديتهم فاديتني وإن أطلقتهم أطلقتني. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لارحم بيني وبينك قطع الله الرحم بالإسلام، قدمه يا علي فاضرب عنقه، فقال عقبة يا محمد ألم تقل لا تصبر قريش أي لا يقتلون صبراً! قال: أفأنت من قريش؟ إنما أنت علج من أهل صفورية!لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له لست منها. قدمه ياعلي فاضرب عنقه فقدمه وضرب عنقه).
وهؤلاء النوعية الذين قتلهم النبي صلّى الله عليه وآله كانت لهم جرائم متمادية في عداوتهم له وللمسلمين، ولا يتصرف النبي صلّى الله عليه وآله إلا بأمر ربه عز وجل.
**

خلاصة من كتاب الأسير في الإسلام

لمؤلفه الشيخ علي أحمدي ميانجي، قال في (١/٤٠و٤٤):
(نعم أصدروا قوانين وشكلوا مؤتمرات وأعلنوا المواثيق والمعاهدات في تحرير البشر وحفظ حقوقه. ألا ترى في سنة ١٦٢٥ م كتب « كروشيس » كتاب قانون الحرب والسلام وسنة ١٦٤٨م جاءت معاهدة « دستغاليا » وسنة ١٧٤٨ كتب « مونتسكيموا » كتاب روح القوانين
< صفحة > 391 < / صفحة >
وكتب « روسو » يدافع عن الأسرى وكذا « دى فانيل » وفي منتصف القرن التاسع عشر اتسع نطاق القانون الدولي العام وتطورت قواعده وابتدأت الدول تعقد المعاهدات والتصريحات والاتفاقات لتنظيم مركز أسرى الحرب، وتقرير أنواع من الحماية القانونية لأشخاصهم وأموالهم بغية القضاء على القسوة وسوء المعاملة التي كان يلقاها الأسرى، كما في تصريح بروكسل عام ١٨٧٤م واتفاقية « لاهاي » عام ١٨٩٩ م و ١٩٠٧م واتفاقية جنيف لأسرى الحرب عام ١٩٢٩ م وأخيراً اجتمع مندوبو ٦٢ دولة في جنيف عام ١٩٤٩ ووقعوا في ١٢ آب اتفاقية جديدة لحماية ضحايا الحرب لا زالت سارية المفعول.
هذا ولكن كلها مقررات ومعاهدات بقيت على الأوراق يقرؤونها ويحبذونها لفظاً وبين القول والعمل بون بعيد ولنذكر هنا نماذج مما جرى على الأسرى في الحروب الواقعة بعد طلوع الإسلام.
في الحرب العالمية الثانية من عام ١٩٣٩م حتى ١٩٤٥م تعرض الإنسان لأفظع ضروب القسوة والوحشية وداس الغزاة والفاتحون بأقدامهم اتفاقية جنيف لعام ١٩٢٩ م. وعومل الأسرى أسوأ معاملة وقتل الألمان آلاف الأسرى وقضى الكثيرون نحبهم بسبب الجوع والمرض والأعمال الشاقة وجرت في معسكرات الإعتقال النازية أفظع الأعمال، وأشدها وحشية الإنتقام من القوات الروسية، ففتكت بالأسرى في بولندة وألمانيا وغيرها كما احتفظت بالآلاف منهم في روسيا لفترة طويلة ليعمروا ما خربته الحرب!
كما تنكرت اليابان لاتفاقية أسرى الحرب فعاملتهم بقسوة واتبعت وسائل بربرية في استنطاقهم.
ولجأ الروس إلى القسوة والعنف أثناء تقدمهم في الأراضي الألمانية عقب تراجع الألمان. وحدثني شاهد عيان كان موجوداً في برلين عن أعمال النهب والسلب والحرق والإغتصاب التي قام بها الروس عند دخولهم المدينة وتفتيش البيوت ولجوئهم إلى قتل كل من يحاول أن يحمي عائلته أو يدافع عن ابنته وزوجته. لقد وصف المارشال كونييف أحد القادة الروس مسير معركة قال: لقد رفضت ألمانيا التسليم فحوصر حوالي مائة ألف آلماني ولم يستسلموا فبعثرت الدبابات أسلحتهم ثم قضى عليهم الفرسان القوزاق نهائياً لقد تركنا للقوزاق حرية التصرف فقطعوا تلك الأيدي التي ارتفعت للتسليم.
< صفحة > 392 < / صفحة >
ويقول ميلوفان دجيلاس في كتابه محادثاتي مع ستالين خلال حديثي له عن أسلوب الحرب في يوغوسلافيا أشرت إلى أننا لم نأخذ أسرى الألمان لأنهم قتلوا جميع الأسرى اليوغسلاف! قاطعني ستالين ضاحكاً وقال: كان أحد رجالنا يقود فريقاً من الأسرى الألمان وخلال الطريق قتل الجميع إلا واحداً. كما أقدم الجنود الروس أثناء عبورهم بروسيا الشرقية على قتل جميع الألمان من نساء وأطفال. فقد بلغ عدد الأسرى الألمان في ستالينغراد ٩١٠٠٠ عاد منهم ٥٠٠٠ اضطروا إلى السير لمسافات طويلة فوق الثلوج والجليد بالرغم من تعبهم وأصابتهم بجروح فتفشى فيهم مرض التيفوس!
ولقد بقي الأسرى الألمان في روسيا فترة طويلة إذ لم يعودوا إلا في عام ١٩٥٦م. بعد زيارة أديناور لروسيا. أما عدد الأسرى في ألمانيا فقد تجاوز الخمسة ملايين فقد منهم مليونان.
الأسرى في حرب كوريا الشمالية مع أمريكا:
انتهت الحرب العالمية الثانية وانقسمت كوريا إلى منطقتي احتلال الروس في الشمال والأمريكيون في الجنوب. وفي ٢٥ حزيران عام ١٩٥٠م زحفت قوات كوريا الشمالية براً وبحراً.
وفي ٢٧ حزيران أصدر الرئيس الأمريكي أمره إلى القوات الجوية والبحرية الأمريكية بالإشتراك في العمليات الحربية ضد جيش كوريا الشمالية وفي ٢٨ حزيران احتل جيش كوريا الشمالية العاصمة وتدخل مجلس الأمن واعتبر كوريا الشمالية معتدية، وتراجعت قوات كوريا الجنوبية واستمر زحف كوريا الشمالية وقامت القوات الأمريكية بهجوم ضد الشيوعيين إلى ١٩٥١ وكان لدى الشيوعيين٧١٩٠ أسيراً امريكياً بينما بلغ عدد الأسرى الصينيين والكوريين الشماليين ١٢٠٠٠٠ ولقد تبادلت القوات المتقاتلة الإتهامات بخصوص إساءة معاملة الأسرى واضطهادهم والضغط عليهم لتقديم اعترافات غير صحيحة.
ويدعي الأمريكيون أن معاملة الشيوعيين للأسرى كانت على العموم قاسية وان المئات قد ماتوا أثناء مسيرهم من الجبهة إلى معسكرات الإعتقال وأن استحقاقهم من الطعام ضئيل ويتألف بصورة رئيسية من الأرز.
الأسرى في حرب فيتنام:
وجرى نحوه في حرب فيتنام الجنوبية والشمالية وتدخل أمريكا فيها من عام ١٩٦٠م
< صفحة > 393 < / صفحة >
وبرزت مشكلة الأسرى وتبادل الجانبان الإتهامات بشأن إساءة معاملة الأسرى وتعذيبهم وعدم الإلتزام بنصوص اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب المؤرخة في ١٢ آب ١٩٤٩ م. ووضعت العراقيل والعقبات في سبيل الإتصال بالأسرى أو اتصال الأسرى بالخارج.
وعجزت منظمات الصليب الأحمر عن ممارسة نشاطها الإنساني بسبب إحجام أطراف النزاع عن تقديم أية معونة أو معلومات أو تسهيلات ووضع الأسرى في أقفاص وغرف ضيقه وضاعت الحقائق من جزاء تلك الدعايات والمبالغات وطال الحوار والنقاش بين أمريكا وفيتنام الشمالية في الأسرى. شوهد في كمين تانك سبع نفرات من النساء والأطفال يساقون إلى وسط البلدة وقد بقرت بطونهم وأكبادهم ليعتبر بهم غيرهم! وذبحت امرأة حبلى في وسط المجتمع واصعدوا عدة نساء إلى مكان مرتفع من قرية أخرى فبقروا بطونهم على أعين الناس، واخرجوا الجنين من الرحم وصار ٦٨٥٠٠٠ نفر من الناس ناقص العضو بالأسلحة أو بالتعذيب.
وكانوا يدخلون الأفاعي السمية في أرحام النساء ومن هذا الطريق يسوقونهن إلى الموت تحت التعذيب الشديد كما أنهم يدخلون القارورة في فروج النساء المحترمات ذات الشخصية الإجتماعية حتى يغمى عليهن أو يمتن! إلى غير ذلك مما ذكره في كتاب « جنگ ويتنام » مما يشمئز من سماعه وقراءته الإنسان وتتبرأ منه الإنسانية من أنواع التعذيب والسجون.
الأسرى في حرب إسرائيل:
أن دولة كهذه قامت على اغتصاب الأراضي وذبح السكان لن تلتزم بعرف أو قانون أو قرار لمنظمة عالمية لذلك كانت معاملتها للأسرى العرب في غاية الشدة والقسوة فهي لم تلتزم باتفاقية جنيف لحماية ضحايا الحرب الموقعة في ١٩٤٩ م فهجرت السكان ونفت بعضهم واعتدت على الأماكن المقدسة ونهبت الكنوز والآثار. وأما معاملتها للمعتقلين من السكان العرب أو إفراد المقاومة الفلسطينية فقاسية وفظيعة تمثل عهود البربرية الأولى فالإهانات من صفع وركل وإيذاء وشتم تبدأ بابتداء التحقيق، ثم تتطور وتشتد لتتخذ أفظع أشكال التعذيب الوحشي!
ونحوه ما جرى ويجري في معتقلات العراق بالنسبة إلى أفراد المقاومة العراقية وقد قرأت كتاب النافذة إلى الجحيم، وهو يحتوي أنواع التعذيب والاعتقال والسجون ومراحله ومراتبه.
< صفحة > 394 < / صفحة >
ونحوه ما كان يجري على الثائرين المعتقلين في سجون الشاه وقد شاهدها الشباب والفتيات في المعتقلات كثيراً ولا نكرر ذكرها.
وأما أسرى الحرب في الحكومة البعثية العراقية عندما كانت الحرب بينها وبين إيران فهم في شرائط قاسية يعيشون في ضيق العيش وضنك الحياة على ما ينقله الذين أطلقوا من السجن ويعيشون معنا الآن ويكتب المسجونون إلى عائلتهم ونقرأ في الجرائد والمجلات.
والنتیجة: أنه لم تراع حقوق الأسير إلا في زمن النبي صلّى الله عليه وآله .
وقال الأحمدي(١/٦٥): (وعن أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه قال: أتيَ النبي صلّى الله عليه وآله بفرات بن حبان يوم الخندق، وكان عيناً للمشركين، وأمر بقتله، فقال إني مسلم فقال صلّى الله عليه وآله : إن منكم من أتألفه على الإسلام وأكِلُه إلى إيمانه منهم فرات بن حبان.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله بعث سرية، فأتيَ بناس من الأعراب فادعى الإسلام بعضهم، فقال: من يشهد لك؟ قال: عباد قد سمعه قال: يا عباد أسمعته؟ قال: نعم سمعته يشهد أن لا إله إلا الله، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وآله .
نقل عن وحشي قاتل حمزة أنه قال:
لما افتتح رسول الله مكة هربت إلى الطائف فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله يسلموا تعيت عليَّ المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فو الله إني ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه واللّه لا يقتل أحداً من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق، فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله المدينة فلم يرعه إلا بي قائماً على رأسه أشهد شهادة الحق! فلما رآني قال لي: أوحشي أنت؟ قلت:نعم يا رسول الله قال: أقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة؟ قال فحدثته، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك غيِّب عني وجهك فلا أرينَّك!
وقد فر سهيل بن عمرو من الإسار في الطريق من بدر إلى المدينة بين السقيا والملل، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله والمسلمون في طلبه وقال: من وجده فليقتله فوجده رسول الله صلّى الله عليه وآله ولم يقتله، بل أمر به فربطت يداه إلى عنقه إلى المدينة!
وروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يلقى السمّ في بلاد المشركين.
< صفحة > 395 < / صفحة >
ثم قال الأحمدي(١/٩٤): (هذا مضافاً إلى عمل رسول الله صلّى الله عليه وآله في حروبه، فإنه لم يقتل صبياً ولا امرأة، وإنما سباهم واسترقهم أو عفا عنهم.
قال العلّامة قدّس سرّه في التذكرة:لايجوز قتل صبيان الكفار ونساؤهم إذا لم يقاتلوا لأن النبي صلّى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء والصبيان، والمجنون كالصبي).
**

معنى:وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا

اتفق المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسنين عليهم السلام لما صاموا وآثروا بإفطارهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وتفاوتت الرواية في كيفية ذلك.
فروى ابن المغازلي في مناقب علي/٢٢٢: (عن لَيْثِ بن أبي سُلَيْم عن طاوس في هذه الآية: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً ويَتِيماً وَأسِيراً.. نزلت في علي بن أبي طالب، وذلك أنّهم صاموا وفاطمة وخادمتُهم، فلما كان عند الإفطار، وكانت عندهم ثلاثة أرْغِفَة قال: فجلسوا ليأكلوا فأتاهم سائل فقال: أطعِمُوني فإني مِسكين! فقام عليّ فأعطاه رغيفَه، ثمَّ جاء سائل فقال: أطعِمُوا اليتيمَ! فأعْطَتْه فاطمة الرَّغيف، ثمَّ جاء سائل فقال: أطعِمُوا الأسير! فقامت الخادمة فأعْطَتْهُ الرَّغيف، وباتوا ليلتهم طاوِينَ فشكر الله لهم فأنزل فيهم هذه الآيات).
وروى الصدوق في أماليه/٣٣٣:(قال شعيب في حديثه:وأقبل علي بالحسن والحسين نحو رسول الله صلّى الله عليه وآله وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهمالنبي قال: يا أبا الحسن، شد ما يسوءني ما أرى بكم، انطلق إلى ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها وهي في محرابها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وآله ضمها إليه وقال: واغوثاه بالله، أنتم منذ ثلاث فيما أرى! فهبط جبرئيل فقال: يا محمد، خذ ما هيأ الله لك في أهل بيتك. قال:وما آخذ يا جبرئيل؟ قال: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا.. حتى بلغ: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا). وفي تفسير الثعلبي عن ابن عباس(١٠/١٠١): (قال : فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القراح).
وشاهدنا أن الأسير لم يأت مستعطياً بل أتى مضيفه وطلب له، لأن النبي صلّى الله عليه وآله كان
< صفحة > 396 < / صفحة >
يوزع الأسرى على البيوت، وكان المضيف ينفق على أسيره أو أسراه، فإن لم يكن عنده يستعطي له.

رفع اليهود أسرى بني قريظة قميص عثمان!

حاول اليهود ومن تبعهم من الغربيين أن يجعلوا من بني قريظة ظلامةً لليهود، وتناسوا أنهم كانوا معاهدين للنبي صلّى الله عليه وآله فنقضوا عهدهم ومزقوه، وانضموا الى الأحزاب، بعد نشاطهم وتجوال حاخاماتهم على قبائل العرب يجمعونهم لقتال النبي صلّى الله عليه وآله ويعطونهم المال، وكان أبرز الناشطين الحاخام حي بن أخطب. قال القمي«٢/١٩١» والواقدي«١/٥١٤»: ثم قدم حي بن أخطب فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك؟فقال: والله يا محمد! ما ألوم نفسي في عداوتك، ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل الجهد، ولكن من يخذل الله يخذل! ثم قال حين قدم للقتل:
لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه * ولكنه من يخــــــذل الله يُخذلِ
فقدم فضرب عنقه).
وبعد هزيمة الأحزاب أمر الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وآله أن يقاتل بني قريظة، فحاصرهم. قال ابن هشام «٣/٧٢٠»: « إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصروا بني قريظة: يا كتيبة الإيمان!وقال:والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم. فقالوا: يامحمد ننزل على حكم سعد ».
وقال الواقدي(٢/٥٠١): «فقال كعب بن أسد: يا معشر بني قريظة:والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل، فهو حيث جعله الله! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعني حي بن أخطب علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منا!
لايستبقي محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال: تركت الخمر والخمير والتأمير، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير؟! قالوا: وما ذلك؟ قال: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر. قال كعب: فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا ونسائنا وأموالنا، فنكون بمنزلة
< صفحة > 397 < / صفحة >
من معه. قالوا: لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة، ونكون تبعاً لغيرنا ».
وقد أسر النبي صلّى الله عليه وآله منهم نحو سبع مئة، وقتل منهم من عمل في نقض العهد وساعد الأحزاب لما حاصروا المدينة. وباع الباقين، وأرسل ثلاث مئة امرأة وباعهن في نجد واشترى بثمنهن خيلاً، فكأن الله أراد أن تكون أمهات النجديين يهوديات ليبتلي بهم الأمة!
روى ذلك ابن هشام«٣/٧٢٥»والبيهقي «٩/١٣٩».
وقال اليعقوبي:٢/٥٢:« اصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء بني هاشم، وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة. وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم، فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهماً، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس، وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً ».
**
< صفحة > 398 < / صفحة >

الفصل السابع والستون : من تأثير القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله

بعض الآيات في فضل القرآن

من أوصاف القرآن
من سورة الحجر:
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.. وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ.
من سورة يوسف:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ.
من سورة النحل:
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
من سورة القصص:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
من سورة المزمل:
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.
< صفحة > 399 < / صفحة >
من سورة يونس:
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ
من سورة الأنعام:
قُلْ أَيُّ شَيئٍْ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.
من سورة طه:
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى…
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا.
من سورة الأعراف:
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
من سورة النساء:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
من سورة محمد:
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ. أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا.
من سورة الكهف:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.
من سورة الروم:
< صفحة > 400 < / صفحة >
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ
من سورة الزمر :
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
من سورة البقرة:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.
من سورة الإسراء:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا..وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا.وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا. وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا.
من سورة التوبة:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
من سورة النمل:
طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ
< صفحة > 401 < / صفحة >
فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ.
من سورة فصلت:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ. فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
من سورة الأحقاف:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
من سورة القمر:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
من سورة الرحمن:
الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآَنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.
من سورة الحشر:
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
من سورة الدخان:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا. فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ. كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
< صفحة > 402 < / صفحة >
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا.
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلّ ِشَيْئٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا. قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا.
سورة القدر:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ

يتعجب النبي صلّى الله عليه وآله كيف يقرأ القرآن ولا يشيب!

في الكافي (٢/٦٣٢): (عن ميمون القداح قال: قال لي أبوجعفر عليه السلام : إقرأ، قلت، من أي شئ أقرأ؟ قال: من السورة التاسعة. قال: فجعلت التمسها فقال: إقرأ من سورة يونس قال: فقرأت:
< صفحة > 403 < / صفحة >
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ.
قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إني لاعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن)!
فالقرآن كلام رباني عجيب، مهما قرئ فهو يبهرالعقل والوجدان، حتى للرسول الذي نزل عليه وفهمه صلّى الله عليه وآله ، ففيه من البلاغة والتأثير والعجائب، ما يستحق أن يشيب قارؤه لإعجازه!
لقد تعود العرب أن يسجدوا للكلام البليغ الذي يشبه المعجز، ونقل الرواة سجود جرير لمصرع بيت أنشده عدي بن الرقاع العاملي، فقد قال يصف غزالة: تزجي أغنَّ كأن إبرة رُوقه.. فقال جرير وقع العاملي فبماذا يشب إبرة قرن ابن الغزالة؟ فلما قال: قلم أصاب من الدواة مدادها. سجد جرير ومن معه لبلاغته!
وقد هز القرآن عقول العرب ووجدانهم، فكانوا يخضعون له ويتحيرون بماذا يصفونه! ومن الطبيعي أن فهم النبي صلّى الله عليه وآله للقرآن أعلى من فهم الناس جميعاً، ولذلك كان بمجرد قراءته جديراَ بأن يشيب من عظمة حقائقه!

شيبتني سورة هود: كلام كنائي بين النبي صلّى الله عليه وآله وأبي بكر

روت عامة المصادر السنية وتسرب منها لى بعض مصادرنا عن عكرمة عن ابن عباس أن أبابكر قال للنبي صلّى الله عليه وآله : يارسول الله، لقد أسرع اليك الشيب. فقال: شيبتني سورة هود، وفي رواية: أضاف مع هود أخواتها، والواقعة، والقيامة، والمرسلات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت، والحاقة، وسأل سائل.. وفي رواية ابن سعد (١/٤٣٥) والدر المنثور(٣/٣٢٠): (شيبتني هود وأخواتها، وما فعل بالأمم قبلي).
وفي رواية أبي سعيد (كشف الخفاء:٢/١٦): (قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشيب)!
وروى ابن سعد:١/٤٣٦، وابن عساكر في تاريخ دمشق:٤/١٧٥: (عن أنس قال: بينما أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب جالسان في نحر المنبر إذ طلع عليهما رسول الله صلّى الله عليه وآله من بيوت نسائه يمسح لحيته ويرفعها فينظر إليها، قال أنس: وكانت لحيته أكثر شيباً من رأسه، فلما وقف عليهما سلم قال أنس: وكان أبوبكر رجلاً رقيقاً وكان عمر رجلاً غليظاً فقال أبوبكر،
< صفحة > 404 < / صفحة >
بأبي وأمي لقد أسرع إليك الشيب يا رسول الله فرفع لحيته بيده فنظر إليها فاغرورقت عينا أبي بكر ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله أجل شيبتني سورة هود وأخواتها قال أبوبكر: بأبي وأمي وما أخواتها قال الواقعة، والقارعة، وسأل سائل بعذاب واقع، وإذا الشمس كورت، والحاقة).
أقول: فالموضوع يتعلق بسؤال غير مباشر من أبي بكر وعمر للنبي صلّى الله عليه وآله ، وجوابه أنه شيبه ما جرى على الأمم قبله من انحرافها بعد رسلها، وهو ما سيجري على أمته! وهو جواب بليغ لمن يعملان لأخذ الخلافة بعده! فقد شبه النبي صلّى الله عليه وآله نفسه برسول الله هود عليه السلام ، وشبه أمته بقوم عاد!
فيجب أن نبحث عما في سورة هود مما جرى على الأمم قبله، فهو جوابه صلّى الله عليه وآله !
وسورة هود تضمنت ما جرى على قوم نوح من الهلاك لتكذيبهم نبيهم، ثم ما جرى على قوم هود، ثم ماجرى على قوم صالح، ثم ما جرى على قوم لوط، وشعيب، ثم قوم موسى عليه السلام .
ثم ختم السورة بالأمر بأخذ العبرة من هؤلاء الأقوام، وقال:
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
فالموضوع إذن أن أبابكر وعمر رأيا شيب النبي صلّى الله عليه وآله فقالا له: لقد أسرع الشيب اليك وتقدم بك العمر! فقال لهما: شيبني ما جرى على الأمم قبلي، وسيجري على أمتي!
وقد أخبرهم صلّى الله عليه وآله مرات بأنكم ستتبعون سنن من كان قبلكم خاصة اليهود!
والذين فسروا الحديث بغير ذلك مازالوا يطرحون الظنون ويركضون وراءها!

لو أظهر النبي صلّى الله عليه وآله صوته بالقرآن لصعق الناس من حسنه

في الكافي(٢/٦١٥): ( قال النوفلي: ذكرت الصوت عند الإمام الكاظم عليه السلام فقال: إن علي بن الحسين عليه السلام كان يقرأ، فربما مر به المار فصعق من حسن صوته، وإن الامام لو أظهر من ذلك
< صفحة > 405 < / صفحة >
شيئا ًلما احتمله الناس من حسنه، قلت: ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون.
وقال صلّى الله عليه وآله : لم تعط أمتي أقل من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ.
وقال صلّى الله عليه وآله : لكل شئ حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن).

كان أحياناً يقوم الليلة بآية من القرآن!

في دلائل النبوة لأبي نعيم (١/٦٠٩): (قال لعائشة: ائذني لي أتعبد في هذه الليلة، فقام إلى الصلاة إلى الصباح راكعاً , وساجداً , وباكياً , وربما خرج إلى البقيع فتعبد فيها , ويزور أهلها , وربما قام ليلة بآية إلى الصباح يرددها كالمناجي) وروي أنها آية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
وروي أنها آية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
**

كيف هزَّ القرآن وجدان العرب؟

كان القرآن معجزة النبي صلّى الله عليه وآله الباهرة، فكان بإعجازه الأدبي والفكري يثير العقل ويهز الوجدان، فيصعقون به ويقولون هذا سحر ويهربون منه!
ثم يوصون بعضهم بعضاً أن لاتسمعوا اليه، وإن قرأه محمد أمامكم فشوشوا عليه بأصواتكم وصفيركم حتى تغلبوه! وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.. وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا..

١. الوليد بن المغيرة رئيس بطن مخزوم

في إعلام الورى(١/١١٠) وتفسير القمي(٢ / ٣٩٣) والتسهيل(٤ /١٦١): «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله لايكف عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون هذا شعر محمد! ويقول بعض: بل هو كهانة! ويقول بعضهم:بل هو خطب.
وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً وكان من حكام العرب، يتحاكمون إليه في الأمور
< صفحة > 406 < / صفحة >
وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له بنون لا يبرحون مكة، وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وملك القنطار في ذلك الزمان، والقنطار جلد ثور مملوء ذهباً، وكان من المستهزئين برسول الله صلّى الله عليه وآله ، وكان عم أبي جهل بن هشام، فقالوا له: يا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد أسحرٌ أم كهانة أم خُطَب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه! فدنا من رسول الله وهو جالس في الحجر فقال: يا محمد أنشدني من شعرك. فقال: ما هو شعر ولكنه كلام الله الذي بعث أنبياءه ورسله. فقال: أتلُ عليَّ منه، فقرأ عليه رسول الله: ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فلما سمع الرحمن استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن؟ قال: لا ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم. ثم افتتح:حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ. قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
فلما بلغ إلى قوله:فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وسمعه اقشعر جلده، وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش! فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبا أبوعبد شمس إلى دين محمد! أما تراه لم يرجع إلينا، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله! فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا عليه أبوجهل فقال: يا عم نكست برؤوسنا وفضحتنا! قال: وما ذلك يا ابن أخي؟ قال: صبوت إلى دين محمد! قال: ما صبوت وإني على دين قومي وآبائي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود. قال أبوجهل: أشعرٌ هو؟ قال:ما هو بشعر. قال: فخُطَب هي؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور، لا يشبه بعضه بعضاً، له طلاوة. قال: فكهانة هو فكأنه هي؟ قال: لا. قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه. فلما كان من الغد، قالوا: يا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه أخذ بقلوب الناس،
< صفحة > 407 < / صفحة >
فأنزل الله تعالى فيه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ».
وفي سيرة ابن هشام(١/٢٤٢): (الوليد بن المغيرة، قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها! ويترك أبومسعود بن عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين! فأنزل الله تعالى فيه فيما بلغني: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
وفي سيرة ابن هشام(١/٢٤٠):(قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله حتى أفحمه، ثم تلى عليه وعليهم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ. لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ. لهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ).
وفي الإمتاع للمقريزي(٤/٣٤٨ وابن هشام (١/١٧٤)): (جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له: إقرأ عليَّ، فقرأ عليه: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، قال: أعد، فأعاد النبي صلّى الله عليه وآله فقال الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر!
عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قول بعضكم بعضاً. فقالوا: أنت يا أباعبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقوم به، فقال: بل أنتم فقولوا أسمع، فقالوا: نقول كاهن فقال ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره، فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا مخالجته ولا وسوسته، قال: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه،فما هو
< صفحة > 408 < / صفحة >
بالشعر. قال: فنقول ساحر، فما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: ما تقول يا أباعبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، إن أصله لمغدق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فيقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وبين زوجه، وبين المرء وبين عشيرته، فيتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم من أمره فأنزل الله تعالى في الوليد ابن المغيرة من قوله:ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ.
وأنزل الله في النفر الذين كانوا معه ويطيعون له القول في رسول الله فيما جاء به من هدى الله: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ، أي أصنافاً. فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله لمن أتوا من الناس. قال: وصدرت العرب من ذلك الموسم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها).

٢. عتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وعبد شمس

روى ابن إسحاق في سيرته (٤/١٨٧وابن هشام:١/١٨٩): (أن عتبة ابن ربيعة كان سيداً حليماً، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلّى الله عليه وآله جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب ورأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم فكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم فاستمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله قل يا أبا الوليد أسمع، فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفاً شرفناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك
< صفحة > 409 < / صفحة >
،وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، ولعل هذا الذي يأتي به شعر جاش به صدرك فإنكم لعمري يا بني عبد المطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد.
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلّى الله عليه وآله يستمع منه، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال فاستمع مني، قال: أفعل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ. قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. فمضى رسول الله صلّى الله عليه وآله يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت له وألقى بيده خلف ظهره معتمداً عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: يحلف بالله لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولاً ما سمعت لمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة! يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم،كنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم).

٣. أسعد بن زرارة الخزرجي الأنصاري

قال الطبرسي في إعلام الورى (١/١٣٦): « قال علي بن إبراهيم : قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهراً طويلاً، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث وكانت للأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب
< صفحة > 410 < / صفحة >
يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له : إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناك نطلب الحلف عليهم.
فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرغ لشئ.
قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة : خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله سفَّه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شباننا وفرق جماعتنا! فقال له أسعد : من هو منكم؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً! وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم النضير وقريظة وقينقاع أن هذا أوانُ نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب. فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلمه فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب. فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لا بد لي أن أطوف بالبيت! قال: ضع في أذنيك القطن!
فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه بالقطن، فطاف بالبيت ورسول الله صلّى الله عليه وآله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه! فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أحدٌ أجهل مني! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول الله صلّى الله عليه وآله : أنعم صباحاً، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وآله رأسه إليه وقال: قد أبد لنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة السلام عليكم. فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى مَ تدعو يا محمد؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأدعوكم إلى أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت
< صفحة > 411 < / صفحة >
وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعز منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك، والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، ويبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك. والله ما جئنا إلا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل مما أتينا له.
ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلمَّ فأسلم فأسلم ذكوان، ثم قالا: يا رسول الله إبعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهما، ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً، فخرجا إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان..الخ.).

٤. وفدٌ من علماء النصارى جاؤوا مع جعفر

كان جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه يتصل بالبطارقة ويدعوهم إلى الإسلام، وجاء منهم بوفود إلى مكة للقاء النبي صلّى الله عليه وآله ومشاهدة معجزاته، ولم تجرأ قريش على التعرض له ولضيوفه! قال الطبري في تفسيره ( ٧ /٤) في قوله تعالى: َلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. قال: هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة).
وقال القرطبي(١٣/٢٩٦): «وهم أربعون رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة، وثمانية نفر أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى: منهم بحيراء الراهب، وأبرهة، والأشرف، وعامر، وأيمن وإدريس، ونافع. كذا سماهم الماوردي ».
< صفحة > 412 < / صفحة >
وفي تفسير القمي(١/١٧٦): «وبعث (النجاشي) ثلاثين رجلاً من القسيسين فقال لهم: أنظروا إلى كلامه والى مقعده ومشربه ومصلاه، فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن.. فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول الله، وقرأوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون ».
وقال ابن إسحاق (٤/١٩٩وابن هشام:١/٢٦٣): «فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه فكلموه وساءلوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلّى الله عليه وآله عما أرادوا، دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبوجهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم! ما نعلم ركباً أحمق منكم! فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألو أنفسنا خيراً »!
وفي أسباب النزول للواحدي/١٣٦: (وقال آخرون: قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي وفداً إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وهم بحيرا الراهب، وأبرهليه وإدريس وأشرف وتمام وقثم وذر وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات).

٥. أربعة من كبار الأدباء الملحدين

في الإحتجاج(٢/١٤٢): عن هشام بن الحكم قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبوشاكر
الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤن بالحاج ويطعنون بالقرآن. فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله، فإن في نقض القرآن إبطال نبوة محمد، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من
< صفحة > 413 < / صفحة >
قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا. فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا، فشغلتني هذه الآية عن التفكر فيما سواها.
فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‎. ولم أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال أبوشاكر : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية:لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا، لم أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال ابن المقفع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‎، لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.
قال هشام: فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد، والله ما رأيناه قط إلا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته، ثم تفرقوا مقرين بالعجز)!

٦. الفيلسوف الكندي

روى في مناقب آل أبي طالب (٢/٥٢٦): (عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل: أن إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وإن بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري فقال له أبومحمد عليه السلام : أما فيكم رجلٌ رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن! فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الإعتراض عليه في هذا أوفي غيره. فقال له أبومحمد عليه السلام : أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل قد حضـرتني مسأله أسألك عنها، فإنه
< صفحة > 414 < / صفحة >
يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع. فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه!
فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليَّ فأعاد عليه، فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شئ عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال كلا، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة فعرفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبومحمد عليه السلام . فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت! ثم إنه دعا بالنار، وأحرق جميع ما كان ألفه).
أقول: يظهرأن ذلك التلميذ رَبَطَ أستاذه الكندي بإمامه العسكري عليه السلام ، وأنه بدأ برسائله الى الإمام عليه السلام ، وقد روى منها في الكافي (١/٩٥): (عن محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم، عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله: كيف يعبد العبد ربه وهو لايراه؟ فوقع عليه السلام : يا أبايوسف جل سيدي ومولاي، والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى. قال: وسألته: هل رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله ربه؟ فوقع: إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله صلّى الله عليه وآله بقلبه من نور عظمته ما أحب).
وأبويوسف لقب الكندي، والراوي عنه علي بن أبي القاسم هوعبد الله بن عمران البرقي، عالم شيعي معروف وهوكندي.(ثواب الأعمال/١١٤).
وقال في الوافي (١/١٧٧): إن صاحب الرسالة هو الكندي الفيلسوف. ومعناه أنه أحرق ما كتبه في تناقض القرآن، وأرسل أسئلته الى الإمام عليه السلام ، فأجابه. ثم إن الكندي سكن مدة في سامراء كما نصت عليه في الموسوعة الحرة.
قال القفطي في أخبار العلماء (١/٢٨٢): (قال أبومعشـر: وكانت على يعقوب بن إسحاق أنه كان في ركبته خام (قرحة) وكان يشـرب له الشـراب العتيق فيصلح، فتاب من الشـراب وشرب شراب العسل فلم تنفتح له أفواه العروق، ولم يصل إلى أعماق البدن وأسافله شئ من
< صفحة > 415 < / صفحة >
حرارته، فقوي الخام فأوجع العصب وجعاً شديداً حتى تأتي ذلك الوجع إلى الرأس والدماغ، فمات الرجل، لأن الأعصاب أصلها من الدماغ).
أقول: أبومعشر الفلكي المعروف تلميذ الكندي، وشهادته له بالتوبة عن الخمر تؤيد اتصاله بالإمام العسكري عليه السلام ، كما يدل تحمله للمرض وعدم رجوعه الى شرب الخمر، على صدق تدينه وتوبته رحمه الله . ولعل الله تعالى ختم للكندي بالإيمان، وربما ختم له بالشهادة لتشيعه!
وروى ابن هشام (١/٢٥٦) عن الطفيل بن عمرو الدوسي قصة مماثلة لأسعد بن زرارة. وأنا أشك فيها لأن دوساً مشهورين بالكذب ويكفيهم أبوهريرة، وقد رأيت شيخاً ذا لحية طويلة في مكة يبيع العقيق فاشتريت منه، وسألته: من أي قبيلة أنت؟ قال أنا من قبيلة لا تحبونها هي دوس قبيلة أبي هريرة، فقلت له ممازحاً: هل أنت تكذب مثل عمك أبي هريرة؟ فضحك ضحكة عريضة وقال: نعم وكل الناس تكذب!

المكي والمدني من القرآن قماش واحد!

لا يقاس القرآن بكتب البشر، وهو المعجزة الخالدة التي ما زالت تتحدى أهل الأرض فيخضعون أمامها، أو يتولون معرضين!
وهو كتاب متوسط الحجم يقع في نحو أربع مئة صفحة، لأن مجموع كلماته نحو٨٠ ألف كلمة، ومعدل السطر عشر كلمات، والصفحة عشرون سطراً.
وقد تنزَّل في مدة بعثة النبي صلّى الله عليه وآله خلال ثلاث وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة، نزل فيها بضع وثمانون سورة، في ٤٤٧٥ آية، أي ثلاثة أرباع القرآن، لأن مجموعه ٦٢٢٦ آية، ونزل بقيته نحو بضع وثلاثين سورة في المدنية في نحو ١٧١٦ آية. وقلنا (بنحو) لاختلاف الإجتهاد في تعداد الآيات. راجع: تفسير التبيان للطوسي: ١٠ / ٤٣٨، وفهرست ابن النديم / ٢٨، وشواهد التنزيل: ٢ / ٤١٠، والبرهان للزركشي: ١ / ١٩٤.
والصحيح أنه لا فرق في البلاغة والإعجاز والجوهر بين النص المكي والمدني وإن اختلف ظرفاهما، فالمنبع والصيغة ورؤية المؤلف عز وجل فيهما واحدة، ولو نطق النص عن شخصية مؤلفه لقال إنه كلام العليم بالمطلق سبحانه.
< صفحة > 416 < / صفحة >
وقد كتب بعضهم عن المكي والمدني في القرآن والفرق بينهما، في محاولة معادية تهدف إلى إثبات أن القرآن من تأليف النبي صلّى الله عليه وآله ! وأنه خضع للتطور البشري في التأليف، في فترة معاداة قريش ومحاصرتها له في مكة، ثم في فترة حروبه صلّى الله عليه وآله وانتصاره، ثم مرحلة تكوينه الدولة الإسلامية والمجتمع.
وحاول بعض المسلمين، أن يجد فروقاً بين السور المكية والمدنية، ووقع في تعميمات لا تصح وظنون لا تغني عن الحق، وتأثر بعضهم بالمستشرقين!
إن نقطة الضعف الأساسية في بحث المكي والمدني في القرآن، أنه لا يمكن تقسيم القرآن بالكامل الى مكي ومدني لا بحسب المكان والزمان لتناقض الروايات في كثير من الآيات بل في السور. كما لايمكن تقسيم القرآن الى مكي ومدني بحسب المضمون والأسلوب.
واعلم أن الذين طرحوا المكي والمدني هم الغربيون والقرشيون، أما الغربيون فأرادوا إثبات تطور الأسلوب والمضمون القرآني حسب حالة مؤلفه ويقصدون النبي صلّى الله عليه وآله كما يتطور تدوين المؤلف لكتابه في ثلاث وعشرين سنة ، وقد فشلوا في ذلك.
وأما القرشيون فأرادوا إبعاد المنافين عنهم وحصرهم بالأنصار بحجة أن القرآن المكي لم يذكر المنافقين أبداً،بل ذكرهم القرآن المدني فهم من الأنصار!
وقد فشلوا في ذلك لأن القرآن تحدث عن المنافقين الذين كانوا يحثون النبي صلّى الله عليه وآله في مكة على قتال قريش، وسماهم مرضى القلوب وهم المنافقون السياسيون، وهم أخطر على الإسلام من المنافقين العاديين، لأنهم أصحاب طموح سياسي، ولذلك سماهم الله تعالى «مرضى القلوب» وذكرهم في أوائل سور القرآن فقال في المدثر: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً.. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً.. ثم تحدث عنهم في اثنتي عشرة آية! ووصفهم بأنهم وقحون، يفرون في الحرب، ويحملون النبي صلّى الله عليه وآله مسؤولية الهزيمة،لأنه لم يشركهم في القيادة! فقال عنهم في آيات أحُد: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا!
وكاد القرآن أن يسميهم لما وصفهم بأنهم كانوا في مكة مستعجلين ليقاتل النبي قريشاً ببني
< صفحة > 417 < / صفحة >
هاشم الشجعان ليقطفوا هم الثمار، لكنهم لما كتب القتال في بدر نكصوا وخوفوا النبي صلّى الله عليه وآله من قريش! فذكَّرهم الله بنفاقهم في مكة وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً.
في برهان الزركشي: ١/٤٢٢: «فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً! هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا، من القوم الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ».
وقال ابن حجر في أسباب النزول: ٢/٩١٨: « نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وهما من بني زهرة، وقدامة بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال: لم أؤمر بالقتال، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال، كره بعضهم ذلك»!.والحاكم: ٢/٦٦، وصححه بشرط بخاري.، وفسرها النسائي: ٦/٣، والبيهقي: ٩/١١، بابن عوف وأصحابه.
وكذبوا على المقداد رحمه الله فجعلوه من هؤلاء المنافقين، مع أن البخاري روى قوله للنبي صلّى الله عليه وآله (٥/١٨٧): « يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن إمض ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله ». ومعناه أن النبي صلّى الله عليه وآله كان غاضباً من أهل آية: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وليس من المقداد رحمه الله !
وفي تفسير الرازي(١٠/١٨٤): « والأولى حمل الآية على المنافقين،لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين ».
**

كثرة الكذب والتناقض في رواياتهم لأسباب النزول

فلا يمكن الثقة بروايتهم عن أسباب نزول الآيات وأمكنتها وأوقاتها، إلا ما ندر، لكثرة مكذوبات السلطة فيها.
مثلاً في سبب نزول قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، روى الواحدي/١٣٥، روايات متناقضة:
< صفحة > 418 < / صفحة >
فروى عن الحسن البصري أنها في أول الرسالة والمعنى يعصمك من قريش واليهود أن يقتلوك!
وروى عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله قال ذات ليلة:من يحرسنا الليلة، فجاء سعد وحذيفة وقالا:جئنا نحرسك فنام رسول الله حتى سمعت غطيطه، ونزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله من قبة أدم وقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله. ومعناه أنه كان في المدينة!
وروى عن عكرمة قال: كان يرسل معه أبوطالب رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية.. قال: فأراد أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله قد عصمني من الجن والإنس. ومعناه أنه كان في مكة!
وروى عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أي في رجوع النبي صلّى الله عليه وآله من حجة الوداع، في الثامن عشر من ذي الحجة.
لاحظ أن رواياتهم غطت كل بعثة النبي صلّى الله عليه وآله من أولها الى حجة الوداع، وبما أن الآية في سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن، فرواية أبي سعيد الخدري هي الصحيحة، والعصمة في الآية ليست من القتل لأن حراسته استمرت الى آخر حياته صلّى الله عليه وآله ، بل من ردة قومه خاصة قريش وعدم قبولهم لما يبلغه من ولاية عترته عليهم من بعده!وباقي الروايات وضعوها للتغطية على الحقيقة!
**
< صفحة > 419 < / صفحة >

الفصل الثامن والستون : من أقوال علماء الغرب في النبي صلّى الله عليه وآله والقرآن

من أقوالهم في النبي صلّى الله عليه وآله

نقتطف هذا الفصل من كتاب: قالوا في الإسلام، للدكتور عماد الدين خليل وما جمعه الشيخ محسن آل عصفور من أقوال غربيين في شخصية النبي صلّى الله عليه وآله :
https://ebadalrahman.ahlamontada.com/t51-topic
المؤرخ آدم متز:
أشاد بتسامح الرسول الكريم مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، ولم يكن معروفاً في أوروبا،وقال: كان وجود النصارى بين المسلمين سبباً لظهور مبادئ التسامح التي ينادي بها المصلحون المحدثون، وكانت هناك الحاجة إلى المعيشة المشتركة وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق مما أوجد من أول الأمر نوعاً من التسامح الذي لم يكن معروفاً في أوروبا في العصور الوسطى، ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان.
الفيلسوف إدوار مونته الفرنسي :
عُرِفَ محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، فقد وجههم وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم..
المستشرق الفرنسي أميل ردمنغم:
كان محمد أنموذجاً للحياة الإنسانية بسيرته وصدق إيمانه ورسوخ عقيدته القويمة، بل مثالاً
< صفحة > 420 < / صفحة >
كاملاً للأمانة والإستقامة، وإن تضحياته في سبيل بث رسالته الإلهية خير دليل على سمو ذاته ونبل مقصده وعظمة شخصيته وقدسية نبوته.
المؤرخ البريطاني الكبير آرنولد توينبي:
قال: الذين يريدون أن يدرسوا السيرة النبوية سيجدون أمامهم من الأسفار ما لاً يتوافر مثله للباحثين في حياة أي نبي من أنبياء الله الكرام. إنني أدعو العالم إلي الأخذ بمبدأ الاخاء والمساواة اإلسالمي، فعقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام هي أروع الأمثلة على فكرة توحيد العالم.
بوزورث سمث:
قال: لقد كان محمد قائداً سياسياً وزعيماً دينياً في آن واحد. لكن لم تكن لديه عجرفة رجال الدين، كما لم تكن لديه فيالق مثل القياصرة. ولم يكن لديه جيوش مجيشة أو حرس خاص أو قصر مشيد أو عائد ثابت. إذا كان لأحد أن يقول إنه حكم بالقدرة الإلهية فإنه محمد، لأنه استطاع الإمساك بزمام السلطة دون أن يملك أدواتها ودون أن يسانده أهلها.
وقال: إن محمداً بلا منازع أعظم المصلحين على الإطلاق.
برتراند راسل:
أحد فلاسفة بريطانيا والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام ١٩٥٠م، قال: لقد قرأت عن الإسلام ونبي الإسلام فوجدت أنه دين جاء ليصبح دين العالم والإنسانية، فالتعاليم التي جاء بها محمد والتي حفل بها كتابه مازلنا نبحث ونتعلق بذرات منها، وننال أعلى الجوائز من أجلها.
وقال أيضاً: أخلاق محمد تمنح معنى للوجود.
الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل:
أفرد في كتابه الأبطال وعبادة البطل الحديث عن الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله واستعرض فيه نواحي العظمة في حياته ورد على افتراءات الكارهين له ولرسالته العظيمة حتى أنه اتهم بالتحيز للإسلام ومما قاله:
قوم يضربون في الصحراء عدة قرون لايؤبه بهم ولهم، فلما جاءهم النبي العربي أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والمعرفات، وكثروا بعد قلة، وعزوا بعد ذلة،ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم.
< صفحة > 421 < / صفحة >
وقال: إنما محمد شهاب أضاء العالم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومما قال: إن العار أن يصغي الإنسان المتمدن من أبناء هذا الجيل إلى القول إنه لم يكن على حق، لقد أخطأ القائلون إن دين الإسلام دين كذب وإن محمداً كذاب، علينا أن نحارب هذه الإدعاءات السخيفة المخجلة، فالرسالة التي دعا إليها هذا أربعة عشر قرناً من الزمن لملايين ظلت سراجاً منيراً للناس، فهل من المعقول أن تكون هذه الرسالة التي عاشت عليها هذه الملايين وماتت أكذوبة كاذب أو خديعة مخادع؟!
ولو أن الكذب والتضليل يروجان عند الخلق هذا الرواج الكبير لأصبحت الحياة سخفاً وعبثاً، وكان من الأجدر بها أن لاتوجد… إن الرجل الكاذب يستطيع أن يبني بيتاً من الطوب لجهله بخصائص البناء، وإذا بناه فما ذلك الذي يبنيه إلا كومة من أخلاط هذه المواد، فما بالك بالذي يبني بيتاً دعائمه هذه القرون العديدة وتسكنه مئات الملايين من الناس.
وعلی ذلك فمن الخطأ أن نعد محمداً كاذباً بالحيل والوسائل متصنعاً لغاية أو مطمع، فما الرسالة التي أداها إلا متذرعاً الصدق والحق وما كلمته إلا صوت حق صادر من العالم المجهول وما هو إلا شهاب أضاء العالم أجمع… وإن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه المقصد بما يتجلي فيها من شدة إخلاص، فقد كان محمد مصلحا ياً ذا عقيدة راسخة.
وقال : وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم بعيداً، كريماً، رؤوفاً، تقياً، فاضلاً، حراً، رجلاً، شديد الجد، مخلصاً، وهو مع ذلك لين العريكة، جم البشر والطالقة، حميد العشرة، حلوسهل الجانب، لين الإيناس، بل ربما مازح وداعب.
كان عادلاً، صادق النية، ذكي اللب، شهم الفؤاد، لوذعياً، کان نبیاً بفطرته، رجلاً عظيماً، مصباح كل ليل بهيم. هكذا تكون العظمة، هكذا تكون البطولة، هكذا تكون العبقرية.
جورج برنارد شو الكاتب البريطاني:
رفض أن يكون أداة لتشويه صورة الرسول صلّى الله عليه وآله عندما طلب منه البعض أن يمسرح حياة النبي حيث جاء رفضه قاطعاً وله مؤلف أسماه محمد، وقد أحرقته السلطة البريطانية بعد صدوره، ومما قاله فيه عن الإسلام ورسوله: قرأت حياة رسول الإسلام جيداً، مرات ومرات لم أجد فيها إلا الخلق كما يجب أن يكون، وأصبحت أضع محمداً في مصاف بل على قمم المصاف
< صفحة > 422 < / صفحة >
من الرجال الذين يجب أن يتبعوا.
وقال : إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، وإن رجال الدين للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد في القرون الوسطى صورةً قاتمةً بل يجب أن يسمى منقذ البشرية.
وقال : لقد اطلعت على تاريخ هذا الرجل العظيم محمد، فوجدته أعجوبة خارقة، لا بل منقذاً للبشرية،وفى رأيي لو تولى العالم الأوروبى رجل مثل محمد صلّى الله عليه وآله لشفاه من علله كافة.. لقد نظرت دائماً الى ديانة محمد بأعلى درجات السمو بسبب حيويتها الجميلة، إنها الديانة الوحيدة في نظري التي تملك قدرة الإندماج بما يجعلها جاذبة لكل عصر، واذا كانت لديانة معينة أن تنتشر فى انجلترا بل في أوروبا في خلال مئات السنوات المقبلة، فهي الإسلام. إني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجمع كل الشروط اللازمة الموافقة لكل مرافق الحياة، ما أحوج العالم اليوم الى رجل كمحمد ليحل مشاكل العالم.
شاعر ألمانيا الشهير جوته:
قال: إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لايتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد.. وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد.
وقال: كلما قرأت القرآن شعرت أن روحي تهتز داخل جسمي، فهو كتاب الكتب وإني أعتقد هذا كما يعتقده كل مسلم فلم يعتر القرآن أي تبديل أو تحريف، وعندما تستمع إلی آياته تأخذك رجفة الإعجاب والحب، وبعد أن تتوغل في دراسة روح التشريع فيه لايسعك إلا أن تعظم هذا الكتاب العلوي وتقدسه، وظني أن التشريع في الغرب ناقص بالنسبة للتعاليم الإسلامية، وإننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لايتقدم عليه أحد، وقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي العربي محمد.
ولما بلغ جوته السبعين من عمره، أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بليلة القدر تلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن الكريم على النبي محمد صلّى الله عليه وآله !
جوستاف لوبون:
قال في كتابه حضارة العرب/١١٥: إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من
< صفحة > 423 < / صفحة >
أعظم من عرفهم التاريخ، وقد أخذ علماء الغرب محمداً مع أن التعصب أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الإعتراف بفضله.
جيبون أوكلي:
قال: ليس انتشار الدعوة الإسلامية هو ما يستحق الإنبهار وإنما استمراريتها فما زال الإنطباع الرائع الذي حفره محمد في وثباتها على مرالعصور له نفس الروعة والقوة في نفوس الهنود والأفارقة والترك حديثي العهد بالقرآن، رغم مرور اثني عشر قرناً من الزمان.
لقد استطاع المسلمون الصمود يداً واحدة في مواجهة فتنة الإيمان بالله، رغم أنهم لم يعرفوه إلإ من خلال العقل والمشاعر الإنسانية.
الفيلسوف الهندوكي راما كرشنا:
قال في كتابه محمد النبي: لم تكن الجزيرة العربية شيئاً مذكوراً , فاستطاع محمد بروحه العظيمة أن ينشئ منها عالـماًً جديداً ومملكة جديدة امتدت من مراكش الى شبه القارة الهندية، واستطاع أن يؤثر في فكر وحياة ثلاث قارات هي: آسيــا، وأفريقية، وأوروبا.
وقال : لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة، فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً.
الدكتورة زيجرد هونكة الألمانية:
قالت: إن محمداً والإسلام شمس الله التي أشرقت على الغرب.
المستر سنكس:
قال: ظهر محمد بعد المسيح بخمس مائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الإعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.
< صفحة > 424 < / صفحة >
إن الفكرة الدينية الإسلامية، أحدثت رقياً كبيراً جداً في العالم، خلصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره.
ولقد توصل محمد ـ بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق إلى تخليص الفكر اإلنساني من عقيدة التجسيد الغليظة.
شبرك النمساوي :
قال: إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنه قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمته.
وليم المؤرخ الإنجليزي:
قال في كتابه حياة محمد: لقد امتاز محمد بوضوح كلامه ويسر دينه، و قد أتم في الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير، كما فعل نبي الإسلام محمد.
الأديب الروسي ليو تولستوي:
قال: هو مؤسس ورسول. كان من عظماء الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة. ويكفيه فخراً أنه أخرج أمة برمتها إلى نور الحق وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لايقدم عليه إلا شخص أوتي قوة. لايوجد نبي حظي باحترام أعدائه سوى النبي محمد مما جعل الكثرة من الأعداء يدخلون الإسلام.
شاعر فرنسا الشهير المارتين:
قال: من ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟ ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان! فأعظم حب في حياتي هو أنني درست حياة محمد دراسة وافية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود. لقد هدم المعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق وإذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أياً من عظماء التاريخ الحديث بمحمد في عبقريته؟
< صفحة > 425 < / صفحة >
هؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأقاموا الأمبراطوريات فلم يجنوا إلا أمجاداً بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانيهم..لكن هذا الرجل محمداً لم يقدم الجيوش ويسن التشريعات ويقم الأمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط، وإنما قاد الأميين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينذاك، ليس هذا فقط، بل إنه قضي علی الأنصاب والأزلام والأفكار والمعتقدات الباطلة.
مايكل هارت:
قال في كتابه الخالدون الما ئة/١٣: لقد اخترت محمداً في أول هذه القائمة، لأن محمداً هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي، دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد ١٣ قرناً من وفاته، فإن أثر محمد ما يزال قوياً متجدداً.
فهناك ُرسل وأنبياء وحكماء بدؤوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته.
ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة، وحَّد القبائل في شعـب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الإنطلاق إلى العالم. فيمكن أن يقال إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ.
البروفيسور يوشيودي كوزان مدير مرصد طوكيو:
قال: أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود.
القس إبراهيم خليل أحمد:
رجل دين ومبشر نصراني من مواليد الإسكندرية وجهته الكنيسة إلى دراسة القرآن الكريم من أجل الطعن فيه، وتشكيك المسلمين فيه فلم يستطع أن يخالف ضميره اليقظ، ويقول في القرآن مقالة سوء، بل نراه في حياد تام يصف القرآن بقوله: يرتبط هذا النبي بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا المسيح في قوله:ويخبركم بأمور آتية، هذا الإعجاز هو القرآن الكريم معجزة الرسول الباقية
< صفحة > 426 < / صفحة >
ما بقي الزمان. فالقرآن يسبق العلم الحديث في كل ناحية من طب، وفلك، وجغرافيا، وجيولوجية، وقانون، واجتماع، وتاريخ..
ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف».

من أقوال الغربیین في القرآن

قوث أدیب ألماني:
يجذب المرء في وقت قصير يجعله ينبهر به في كل مرة يمسك به.
يتسم أسلوب القرآن ومحتوياته بالكمال والقوة والعظمة.وسيبقى كذلك على مدى الدهر.
م/جون داون بورت:
قال: من أخص ما ذكر في القرآن قدرته سبحانه وعظمته..إنه بعيد عن الأحاسيس البشريه.. بليغ ولا تجد فيه الصفات القبيحه والعادات والأخلاق السيئة منزه عن النقائص. مع العلم أن جميع النقائص والتحريف موجودة في كتبهم.
إدوارد جبون مؤرخ إنجليزي:
قال: الذین ما بين نهر الجانج والمحيط الأطلسي علمو أن القرآن نهج حياة وروحه التي لا تستقيم إلا به. بنظر القرآن لا فرق بين الحاكم الظالم والفقير المعدم. إنه أتى بأحكام وقوانين لا نظير لها.إنه أكبر دليل لوحدانية الله عز وجل. فصاحب العقل والمنطق السليم يقر بأنه الحق ولا يتردد في ذلك، فالإسلام أعلى مما نفكر به اليوم.
توماس كارليل مفكر إنجليزي:
قال: حين تقرؤون القرآن لمرة واحدة بعناية ودقة تجدون وتظهر لكم المميزات الخاصة به. جمال القرآن يختلف عن سائر الأعمال الأدبية الأخرى.
ومن أهم خصوصيات القرآن أنه لم يحرف. فمن رأي أن القرآن من أوله إلى آخره ملئ بالصدق والإنصاف..فما بعث به النبي وبلغه حق وحقيقة.
البرفسور/جرالد ج جورنجر:
أستاذ مشارك في علم الأجنة - جامعه جورج تاون:
< صفحة > 427 < / صفحة >
قال: هناك بعض الآيات القرآنيه تُعرِّف وتبين خلقة الإنسان من بدايته من مراحل تكوين الخلية إلى خلقه وتكوينه كاملاً، فهذه المصطلحات لا نظير لها. معظم الحالات التي يتم تسجيلها في الكتابات العلمية التقليدية، وتطوير الأجنة البشرية قد سبق تعريفها منذ مئات السنين!
جوكوهام دورلوف:
قال: لنعترف أولاً بأن القرآن الكريم أعلى شرفاً من الكتب السماوية الأخرى، فلو أخذنا بعين الإعتبار القواعد القرآنية البسيطه الكامله لوجدنا بأن هذا الكتاب المقدس أنقذ العالم، أنقذه وأنقذ آسيا من أن تمثل خطراً عظيما عليهاً.الإسلام أوجب النظافة والنزاهة لجميع المسلمين، ومحی الجراثيم وأزال الأخطار.
الأمير بسمارك:
قال: لأدير شؤون البلاد قرأت وتمعنت في جميع الكتب السماوية المنزلة من عند الله في جميع العصور، ولم أجد في أي واحد منها الحكمة والإصابة. لكني دققت القرآن من جميع الجهات ففي كل كلمة فيه حكم عظيمه، فأعداء الإسلام إن ادعوا بأن هذا الكتاب قول محمد، إن ادعوا أن هذا التكامل وهذه الروعة صادرة من دماغ بشرفهذ ليس إلا إعماء البصيرة عن الحقائق، ودس الحقد والضغينة، وهذا يناقض العلم والحكمة.
فأنا أدعي بأن محمد قوه رائعه ممتازة لا يأتي له مثيل ولا يحتمل ذلك. ماتعلمه وتبلغه ليس لك هو إلهي فإنكار ذلك كإنكار كتب العلم. لهذا، قد شهدت البشرية المتميزة، مثلك مرة واحدة ولن تشهد مرة أخرى. إنني أنحني لدى حضرته بالمحبة والإحترام.
دكتور موريس بوكيل:
رئيس قسم الجراحة الإكلينيكية- جامعة باريس:
قال: مع تحليل القرآن اليوم في ضوء العلم الحديث نجد القرب والتوافق بينهما. فلا نستطيع أن ونقول بأن شخصاً من زمن محمد بالعلم البسيط الذي يملكه كتب القرآن، إن تلك الأفكار تكشف عن أن القرآن لا مثيل له، وتجبر صاحب التفكير المادي على قبول تقصيره في ايجاد أدلته وتفسيرها..
وقال في كتابه حول القرآن والكتب السماوية الأخرى والعلم: لقد قمت بدراسة القرآن الكريم
< صفحة > 428 < / صفحة >
وذلك دون فكر مسبق وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث.. فأدركت أنه لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث.
وقال: لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية، فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقته تماماً للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. في البداية لم يكن لي إيمان بالإسلام، وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة.
المستشرق الأمريكي واشنجتون إيرفنج:
قال: كانت التوراة في يوم ما هي مرشد الإنسان وأساس سلوكه. حتى إذا ظهر المسيح عليه السلام اتبع المسيحيون تعاليم الإنجيل، ثم حلَّ القرآن مكانهما، فقد كان القرآن أكثر شمولاً وتفصيلاً من الكتابين السابقين، كما صحح القرآن ما قد أدخل على هذين الكتابين من تغيير وتبديل. حوى القرآن كل شيئ وحوى جميع القوانين إذ أنه خاتم الكتب السماوية.. ويدعو القرآن إلى الرحمة والصفاء، وإلى مذاهب أخلاقية سامية.
القانوني الفرنسي مارسيل بوازار:
قال في كتابه:إنسانية الإسلام، عن القرآن:لا بد عند تعريف النص المقدس في الإسلام من ذكر عنصرين، الأول أنه كتاب منزل أزلي غير مخلوق، والثاني أنه قرآن أي كلام حي في قلب الجماعة. وهو بين الله والإنسانيةالوسيط الذي يجعل أي تنظيم كهنوتي غير ذي جدوى، لأنه مرضي به مرجعاً أصلياً، وينبوع إلهام أساسي. وما زال حتى أيامنا هذه نموذجاً رفيعاً للأدب العربي تستحيل محاكاته، إنه لايمثل النموذج المحتذى للعمل الأدبي الأمثل وحسب بل يمثل كذلك مصدر الأدب العربي والإسلامي الذي أبدعه لأن الدين الذي أوحي به هو في أساس عدد كبير من المناهج الفكرية التي سوف يشتهر بها الكتاب.إن القرآن كتاب تربية وتثقيف، وليس كل ما فيه كلاماً عن الفرائض والشعائر، وإن الفضائل التي يحث عليها المسلمين من أجمل الفضائل وأرجحها في موازين الأخلاق، وتتجلى هداية الكتاب في نواهيه كما تتجلى في أوامره».
**
< صفحة > 429 < / صفحة >

الفصل التاسع والستون : الشدائد التي مر بها النبي صلّى الله عليه وآله

فهرس الشدائد التي مر بها النبي صلّى الله عليه وآله

١. كان صغيراً لما توفي أبوه، لكنه سمع عنه من أمه وجده عبد المطلب عليهم السلام وأحس باليتم وفقدان الأب، ولا بد أنه حفظ شعر أمه آمنة وعمه أبي طالب في رثاء أبيه عليهم السلام .
ثم زار قبره في المدينة مع أمه في السنة السادسة من عمره وكان يتحدث عن ذلك، ويقول إن قبره كان في غرفة.
٢. موت أمه آمنة في رجوعهم من المدينة في منطقة الأبواء.
٣. موت جده عبد المطلب رضي الله عنه وكان يومها في الثامنة من عمره.
٤. فوران قريش وحملتها الضارية عليه وعلى بني هاشم، لما سمعوا أنه قال إن الله تعالى أرسله نبياً، فطالبوا بني هاشم بتسليمه لهم ليقتلوه!
٥.اجتمعت بطون قريش ومعهم قبيلة كنانة، ووقعوا صحيفة مقاطعة بني هاشم مقاطعة كاملة حتى يسلموهم محمداً، وحصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ونصفاً. فرأى النبي صلّى الله عليه وآله وعشيرته في الشعب أنواع الشدائد.
٦. مرت عليه في مكة محاولات اغتيال متعددة قبل حصار الشعب وبعده.
٧. اجتمعت عليه مصيبتان بعد الخروج من الشعب وفاة ناصره عمه أبي طالب، ووفاة سنده زوجته خديجة عليهم السلام ، فسماه عام الحزن.
< صفحة > 430 < / صفحة >
٨. لما ذهب مع علي عليه السلام الى الطائف فدعاهم الى الله فردوه أسوأ رد، فدعا بالدعاء المعروف، وفیه: اللهم: إن لم یکن بك غضب عليَّ فلا أبالي.
٩. لما رجع الى من الطائف الى مكة، وخاف أن يقتلوه عنوة، فأخذ عهداً من جبير بن مطعم لأيام فدخل وطاف، ثم رد عليه أمانه.
١٠. في ليالي الهجرة حيث اشتدت مؤمراتهم لقتله بعد موت عمه وناصره أبي طالب عليه السلام ، فاضطر أن يختبئ أياماً في الحجون.
١١. في ليلة معركة بدر وهي أول مواجهة غير متكافئة بينه وبين قريش.
١٢. في معركة أحد لما فر المسلمون وبقي هو وعلي، فقاتل ووقع في الحفرة، فجاء علي وجبرئيل عليهما السلام وكشفا عنه المشركين وأخذاه الى ظل الصخرة. وجاءت فاطمة فبکت وغسلت جرحه.
١٣. في أيام حفر الخندق وقد أثر على المسلمين الجوع والصوم.
١٤. بعد أن وصل جيش المشركين وتحرك بنو قريظة فحاصروا المسلمين!
١٥. في الحديبية لما لم يطعه أكثر المسلمين في حل إحرامهم.
١٦. في خيبر لما انهزم المسلمون مرات في فتح حصن القموص، فغضب النبي صلّى الله عليه وآله وأرسل الى علي عليه السلام وكان في منطقة أخرى، وقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار.
١٧. في حنين لما انهزم المسلمون كلهم، وثبت النبي صلّى الله عليه وآله وبنو هاشم ومعهم أيمن وحموا النبي صلّى الله عليه وآله . وقام علي عليه السلام بحملات على أصحاب رايات هوازن الأربعين وقتلهم، فتضعضعوا ونزلت بهم الهزيمة قبل عودة الصحابة الفارين!
١٨. في تبوك لما حاولوا اغتياله ليلاً في رجوعه من تبوك وصعد العقبة، فألقوا عليه الصخور فنزل جبرئيل عليه السلام وكشفهم، فلعنهم النبي صلّى الله عليه وآله . ففطوا وجوههم و خلطوا انفسهم بالمسلمین.
١٩. في مرض وفاته لما أبعد كل خصوم علي وبعثهم في جيش أسامة الى مؤته فأخذوا يماطلون عن الحركة، فحثهم، ولعن من تخلف عن جيش أسامة!
٢٠. في مرض وفاته لما أحضرهم وطلب منهم أن يأتويه بدواة وقرطاساً ليكتب لهم كتاباً
< صفحة > 431 < / صفحة >
إن عملوا به لا يضلون من بعده، فردوا عليه واتهموه بأنه قد خرف، ومنعوه أن يكتب عهده، فغضب وطردهم وقال: قوموا عني!
٢١. في مرض وفاته لما نزل عليه جبرئيل عليه السلام وبلغه أن الله تعالى يسأله وهو أعلم كيف حاله؟ فأجاب في الثلاثة أيام: أجدني مغموماً، أجدني مكروباً!
**

الشدة الأولى في حياة النبي صلّى الله عليه وآله : نشأته يتيماً

قال داود الرقي، وهو من كبار أصحاب الإمام الصادق عليه السلام «الكافي:٤/٥٤٤»: «دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ولي على رجل مال قد خفت تَوَاهُ «ذهابه» فشكوت إليه ذلك فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافاً وصل ركعتين عنه، وطُف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن عبد الله طوافاً وصل عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين، ثم ادع أن يرد عليك مالك. قال ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف يقول: يا داود حبستني! تعال إقبض مالك ».
أقول: هذه عقيدتنا في أبي طالب وفي والدي النبي صلّى الله عليه وآله أنهم كلهم عليهم السلام مؤمنون بملة إبراهيم عليه السلام وبرسالة النبي صلّى الله عليه وآله .
وقال الكليني في الكافي (١/٤٣٩): «وتوفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وماتت أمه آمنة بنت وهب وهو ابن أربع سنين، ومات عبد المطلب وللنبي صلّى الله عليه وآله نحو ثمان سنين، وتزوج خديجة وهو ابن بضع وعشرين سنة ».
قال ابن سعد «١/١١٦»: «فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً. فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك: لما نظر إلى أطَمِ بني عدي بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب. وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار).
< صفحة > 432 < / صفحة >
أقول: رأيت البيت الذي فيه قبر والد النبي صلّى الله عليه وآله سنة ١٩٦٤م. وهو غربي المسجد في سوق تصعد اليه بدرجات ثم تميل على يسارك مسافة نحو مئة متر. وزرته من أمام الباب وكان مغلقاً، وعلى عتبته نقوش بالتركية: هذا قبر والد النبي صلّى الله عليه وآله .
لكن الوهابية لهم عداوة مع آثار النبي وآبائه الأبرار وآله الأطهار صلّى الله عليه وآله فهم يبادرون الى إزالتها حتى لوكانت مساجد أو بيوتاً مملوكة للناس، بحجة أنها يُتبرك بها!
وفي نفس الوقت حافظوا على حصن عدو الإسلام اليهودي كعب بن الأشرف، الذي حاول اغتيال النبي صلّى الله عليه وآله وأبقوه بسوره وساحته وبئره وغرفه العشـرة، بعهدة بلدية المدينة المنورة، جنب حديقة البلدية العامة! وتجد صورته في شبكة النت!
ولا بد أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يزور قبر أبيه عليه السلام ويدل عليه حرصه على زيارة قبر أمه عليها السلام في الأبواء في سفره الى الحديبية، وروى المسلمون بكاءه صلّى الله عليه وآله وبكاء الناس لبكائه.
قالت آمنة بنت وهب ترثي زوجها عبد الله بن عبد المطلب:
عفا جانب البطحاء من ابن هاشم * وجاور لحداً خارجاً في الغماغم
دعتــــــه المنايا دعـــــــــوة فأجابها * وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
عشيّة راحــــــــوا يحملون سريره * تعاوره أصحـــــــــابه في التزاحم
فإن يك غالته المنايا وريبها * فقد كان معطاء كثير التراحم
وقال أبوطالب يرثي أخاه عبد الله والد النبي صلّى الله عليه وآله :
عيني ائذني ببكاء آخـــــــــر الأبد * ولا تملّي على قرم لنـــــــــا سند
أشكو الذي بي من الوجد الشديد له * وما بقلبي من الآلام والكمـــــــــد
أضحى أبوه له يبكي وإخوته * بكل دمع على الخدين مطّرد
لو عاش كان لفهر كلها علماً * إذ كان منها مكان الروح في الجسد).
(المحاضرات و المحاورات للسيوطى (١/٥٧)
أقول: نشأ النبي صلّى الله عليه وآله يتيماً، ولله في ذلك حكم وأسرار. ولا بد أن يُتْمَهُ زاده حناناً ورحمة. ونحن
< صفحة > 433 < / صفحة >
نعتقد بعصمته صلّى الله عليه وآله عصمة شاملة قبل البعثة وبعدها، في تبليغ الرسالة، وفي أموره الشخصية، بدليل: قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. وقول علي عليه السلام : ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم. فقد كان من طفولته نبياً، أما في الأربعين فبعث رسولاً.
أما قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى: فمعناه أن الله أنعم عليك بأن هيأ لك جدك عبد المطلب وعمك أباطالب عليهما السلام فكفلاك في يتمك ونشأتك. ومن نعمه عليك أنه هداك من صغرك، بعد أن كنت متحيراً ضالاً فيما يجب عليك عمله، فهداك بالرسالة الى دعوة الناس الى دينه. ووجدك عائلاً عليك نفقة بيتك ومن تريد مساعدتهم، فأغناك بخديجة، فوهبتك ثروتها كما وهبت سارة ثروتها لإبراهيم عليه السلام .
**

الشدة الثانية في حياة النبي صلّى الله عليه وآله : فقده لأمه عليها السلام

المرجح عندنا أن عبد المطلب أرسل أباطالب ليأتي بآمنة من المدينة وهي رواية الحموي في معجم البلدان«١/٧٩»: إن أباطالب زار أخواله بالمدينة، وحمل معه آمنة أم رسول الله، وفي طريقه إلى مكة، توفيت آمنة بالأبواء. والأبواء على بعد ٢٠٠ كلم جنوب المدينة باتجاه مكة، مرضت هناك آمنة وتوفيت فتيتم النبي صلّى الله عليه وآله ! ولا بد أنه كان لوفاتها أمامه وقع عظيم على نفسه صلّى الله عليه وآله . ووصل به عمه أبوطالب بعد خمسة أيام من وفاة أمه الى جده عبد المطلب رضي الله عنه، فعاش في كنفه يتيم الأبوين، وكان شديد الحب له والحنان عليه، فعوض ذلك كثيراً من ألم يتمه!
قال في مراصد الإطلاع(١/١٩): «الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. وبالأبواء قبر آمنة أم النبي ».
وقد شذ الوهابية عن كافة المسلمين فحرموا زيارة قبرأم النبي صلّى الله عليه وآله وعاقبوا من زاره!
ثم رشوا على قبرها المازوت حتى لايأخذ المسلمون من ترابه للتبرك.
ثم طغوا وفجَّروا القبر بالديناميت! فكتب عبد الحسين البصـري في شبكة الموسوعة الشيعية «٢٨/٣ /٢٠٠٠»موضوعاً بعنوان:ديناميت السلفية!قال فيه: « للتاريخ فقط، ولتبقى صفحة سوداء
< صفحة > 434 < / صفحة >
في وجة خوارج العصر، نؤرخ لحدث وقع أصاب كبد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ألا وهو تفجير قبر آمنه بنت وهب أم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، الواقع في الأبواء وذلك في الثامن من مارس سنة ٢٠٠٠ ميلادي! ألا لعنة الله على القوم الظالمين).
**

الشدة الثالثة في حياته صلّى الله عليه وآله : فقده جده عبد المطلب عليه السلام

في الكافي(١/٤٤٨) عن الإمام الصادق عليه السلام :«كان عبد المطلب يُفرش له بفناء الكعبة لايُفرش لأحد غيره، وكان له وُلْدٌ يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وهوطفل يدرج حتى جلس على فخذيه فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه فقال له عبد المطلب: دع ابني فإن المُلك قد أتاه »!
وفي رواية كمال الدين/١٧١، عن ابن عباس، قال:« دعوا ابني فوالله إن له لشأناً عظيماً، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، إني أرى غرته غرة تسود الناس، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول: ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط، ولا جسداً ألين منه ولا أطيب منه. ثم يلتفت إلى أبي طالب وذلك أن عبد الله وأباطالب لأم واحدة، فيقول: يا أباطالب إن لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به، فإنه فردٌ وحيدٌ، وكن له كالأم، لا يوصل إليه بشئ يكرهه، ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعاً. وكانت هذه حاله حتى أدركت عبد المطلب الوفاة، فبعث إلى أبي طالب، ومحمد على صدره وهو في غمرات الموت، وهو يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول: يا أباطالب أنظر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ولا ذاق شفقة أمه، أنظر يا أباطالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فإني قد تركت بنيَّ كلهم وأوصيتك به لأنك من أم أبيه.
يا أباطالب، إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس وأعلم الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصـره بلسانك ويدك ومالك، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي.
يا أباطالب، ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ولا أمه على حال أمه،
< صفحة > 435 < / صفحة >
فاحفظه لوحدته، هل قبلت وصيتي فيه؟
فقال: نعم قد قبلت واللهُ عليَّ بذلك شهيد، فقال عبد المطلب: فمُدَّ يدك إليَّ فمد يده إليه فضرب يده على يده ثم قال عبد المطلب: الآن خفَّ عليَّ الموت!
ثم لم يزل يقبله ويقول: أشهد أني لم أقبل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحس وجهاً منك، ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه! فمات عبد المطلب وهو صلّى الله عليه وآله ابن ثمان سنين، فضمه أبوطالب إلى نفسه لايفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام معه لايأتمن عليه أحداً »!
وروى اليعقوبي:٢/١٢، أنه أوصى لأبي طالب برسول الله صلّى الله عليه وآله وبزمزم، وقال:
« أوصيك يا عبد مناف بعدي * بمفرد بعــــــــــد أبيه فـــــــــرد
فارقه وهـــــــــو ضجيع المهد * فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد * فأنت من أرجى بَنِيَّ عندي
لدفـع ضيـم أو لشــــــــــد عقـد
وتوفي عبد المطلب ولرسول الله ثماني سنين، ولعبد المطلب مائة وعشرون سنة، وقيل مائة وأربعون سنة، وأعظمت قريش موته، وغُسل بالماء والسدر وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولُفَّ في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى سترهُ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام، إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب)!
وقالت أم أيمن«الطبقات: ١/١١٩»: «رأيته صلّى الله عليه وآله وهو ابن ثمان سنين يبكي خلف سرير عبد المطلب، حتى دفن بالحجون ».
**

الشدة الرابعة: مجموعة الشدائد في حصار الشعب

اجتمعت بطون قريش ومعهم قبيلة كنانة، ووقعوا صحيفة مقاطعة بني هاشم مقاطعة كاملة حتى يسلموهم محمداً، ویجلوا عن مکة، فاضطروا للتجمع في شعب أبي طالب، واستمرت المقاطعة والمحاصرة عليهم ثلاث سنوات ونصفاً. واجه فيها النبي صلّى الله عليه وآله وعشيرته أنواع الشدائد.
< صفحة > 436 < / صفحة >
فقد خسرت خديجة بيتها الواسع ومركز عملها الذي تحول الى مركز عمل النبي صلّى الله عليه وآله بعد بعثته. وعاشت مع طفلتها وزوجها في خيمة في الشعب. وكان النبي صلّى الله عليه وآله مضطراً لأن ينام كل ليلة في مكان بحراسة علي وجعفر، وقد يأتي أبوطالب وسط الليل ويقول لهم غيروا مكانكم فقد بلغني أنه توجد مؤامرة للتسلل من جبل أبي قبيس الى داخل الشعب لقتل محمد!
هذا مضافاً الى شح المواد الغذائية وعدم استطاعتهم أحياناً أن يشتروها لتحريم قريش مبايعتهم، ومعاقبة من يبايعهم!
قال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في:المواجهة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله /١٧٥: «وعانوا الحرمان والجوع، فأكلوا نبات الأرض، وأخذ الأطفال يَمُصُّون الرمال من العطش، وكانت بطون قريش تشاهد كل هذا وتتلذذ به، دون أي إحساس بالحرج! ولكن الهاشميين لم يركعوا ولم يستسلموا ولم يستجيبوا لبطون قريش في طلبها تسليم النبي. لقد تحملوا ما لم تتحمله قبيلة على وجه الأرض في سبيل محمد صلّى الله عليه وآله وفي سبيل دينه ولولا صبرهم وثباتهم لقتلت البطون رسول الله صلّى الله عليه وآله كما قتل غيره من الأنبياء وأجهضت دعوته في مهدها، ولكن الله أراد أن يظهر دينه، وأن يتحمل البطن الهاشمي أعباء مرحلة التأسيس الحاسمة).
في هذه الأزمة أرسل الله تعالى جبرئيل عليه السلام الى النبي صلّى الله عليه وآله قائلاً برواية البخاري (٤/٢٣١): (يا رسول الله هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة [من قصب] لا صخب فيه ولا نصب).
وكانت عائشة تحسدها وتغار منها، وقد قالت (فتح الباري:٧/١٠٢): (ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة، حين بشرها النبي ببيت ».
ثم هونت عائشة من شأن بيت خديجة فقالت إنه بيت من قصب وسعف النخل! فنسبت ذلك الى النبي صلّى الله عليه وآله !ثم قالوا هو قصب الذهب! لكن العربية تأباه فلم يرد القصب وصفاً لقصور الجنة في حديث آخر!
وقد روى بعض مصادرهم حديث بيت خديجة عليها السلام بدون قصب! ففي فضائل الصحابة للنسائي/٧٥: « بشـر رسول الله خديجة ببيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب ».
وقال الإمام الباقر عليه السلام : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام :إن جبرئيل عليه السلام عهد إليَّ أن بيت
< صفحة > 437 < / صفحة >
أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون، من لؤلؤة جوفاء لاصخب فيه ولا نصب ».«شرح الأخبار:٣/١٧».
وعللت عائشة كون بيت خديجة عليها السلام من قصب بأنها لم تصلِّ «فتح الباري: ١/٢٧» أما بيت عائشة فهو من لؤلؤ لأنها صلَّت!
لكن المعروف المتواتر أن الصلاة فرضت في أول البعثة، وأن خديجة كانت تصلي مع النبي صلّى الله عليه وآله الى أن توفيت قبيل هجرته! لكنه الحسد باعتراف عائشة!
وكان النبي صلّى الله عليه وآله يذكر خديجة كل عمره ويمدحها، فتتصدى له عائشة ويسكتها، ولما فتح مكة نصب خيمته عند قبر خديجة وفاء لها عليها السلام .
**

الشدة الخامسة: فقده خديجة وعمه أباطالب عليهما السلام

وقد بلغ من حزنه صلّى الله عليه وآله أنه سمى ذلك العام (عام الحزن)!
قال ابن واضح اليعقوبي وهو مؤرخ ثبت وهو أقدم من الطبري، قال: إن خديجة توفيت قبل أبي طالب عليها السلام بعد كسر الحصار بقليل.
وقد حزن عليها النبي صلّى الله عليه وآله حزناً عميقاً، وكان يمضي وقته في بيته أو يزور عمه أباطالب حتى جاءه الخبر:توفي ناصرك وهوت الشجرة الظليلة الحانية!
قال اليعقوبي «٢/٣٥»: «توفي أبوطالب بعد خديجة عليهما السلام بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله : إن أباطالب قد مات عظُم ذلك في قلبه، واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسرثلاث مرات ثم قال: يا عم، ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عني خيراً. ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم، وجزيت خيراً.
وقال صلّى الله عليه وآله : اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب ».
إن فعل النبي صلّى الله عليه وآله وكلامه بليغ، فقد كان موت خديجة وأبي طالب عليهما السلام مصيبتان على أمة الإسلام
< صفحة > 438 < / صفحة >
وعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله لأنهما مجاهدان في تأسيس هذه الأمة وحمايتها، ونصرة ومؤسسها.
ورويَ عن الصادق عليه السلام أنه قال: « لما مات أبوطالب وقف رسول الله صلّى الله عليه وآله على قبره فقال: جزاك الله من عم خيراً، فقد ربيتني يتيماً، ونصرتني كبيراً ».
وروى ابن أبي حاتم في الدر النظيم/٢٢١، عن علي عليه السلام قال: «أخبرت رسول الله صلّى الله عليه وآله بموت أبي طالب فبكى ثم قال: إذهب فغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه، ففعلت ثم أمرني فاغتسلت ونزلت في قبره، وجعل يستغفر له، وبقي أياماً لا يخرج من بيته ».
أقول: تأهبت قريش لقتل النبي صلّى الله عليه وآله بمجرد وفاة أبي طالب رحمه الله ! ومع ذلك شارك في مراسم تشييعه في بيته القريب، وحمله معهم على سريره، وشيع جنازته الى قبره في الحجون رغم الخطر على حياته كماروي عن الإمام الصادق عليه السلام ، ثم اعتكف في بيته أياماً، وهو يعالج نشاط قريش وتخطيطهم لقتله بعد موت ناصره.
وقيل أوكل دفنه الى علي بسبب أنه بلغة مؤامرة لقتله، ثم ذهب الى قبره بعد ذلك.
وفي الفصول المختارة للمفيد/٢٨٣: (ورد على الإستفاضة بأن جبرئيل عليه السلام نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله عند موت أبي طالب رضوان الله عليه فقال له: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: أخرج من مكة فقد مات ناصرك).
وهذه الفترة من موت أبي طالب الى الهجرة هي الأخطر على حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقد قال: «ما زالت قريش كاعَّة عني حتى مات أبوطالب». أي منكمشة عن أذاه خوفاً من أبي طالب. «إعلام الورى:١/٥٣، والحاكم:٢/٦٢٢».
وكثفت قريش محاولاتها ليل نهار لقتله صلّى الله عليه وآله فكانت تتجسس عن مكانه وتضع الخطط لقتله، وكان جبرئيل عليه السلام يخبره، وذات مرة أمره أن يفر ويختبئ مع علي عليه السلام في الحجون لأن بيته صلّى الله عليه وآله كان وسط مكة قرب المسجد.
قال الإمام الصادق عليه السلام «الكافي: ١/٤٤٩»: «لما توفي أبوطالب نزل جبرئيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: يا محمد أخرج من مكة فليس لك فيها ناصر، وثارت قريش بالنبي صلّى الله عليه وآله فخرج هارباً حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون، فصار إليه».
< صفحة > 439 < / صفحة >
ومعنى ثاروا به: أنهم هاجموا بيته ليقتلوه!
وفي مجمع الزوائد «٦/١٥»: «وعن أبي هريرة قال: لما مات أبوطالب تحينوا النبي صلّى الله عليه وآله فقال: ما أسرع ما وجدتُ فقدك يا عم ».
وقال اليعقوبي في تاريخه (٢/٣٦): « واجترأت قريش على رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه، وهموا به مرة بعد أخرى ».
وفي تفسير القمي«٢/٤٣١»:«لما مات أبوطالب عليه السلام فنادى أبوجهل والوليد عليهما لعائن الله: هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره! فقال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُو الزَّبَانية. قال: كما دعا إلى قتل محمد رسول الله نحن أيضاً ندع الزبانية ».
أقول: هذا يدل على نزول هذه الآيات مرتين، وهو كثير في القرآن.
وفي الطبري (٢/٨٠): « وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب ».
**

تأثير وفاة خديجة عليها السلام على النبي صلّى الله عليه وآله

لما توفيت خديجة جعلت فاطمة عليهما السلام تتعلق برسول الله صلّى الله عليه وآله وهي تبكي وتقول: أين أمي أين أمي؟ فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال قل لفاطمة: إن الله تعالى بنى لأمك بيتاً في الجنة لانصب فيه ولاصخب. فقالت فاطمة عليها السلام : إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام ».
«ودفنت خديجة بالحجون ونزل في قبرها رسول الله صلّى الله عليه وآله ».«الحاكم: ٣/١٨٢».
والحجون في مكة على يسار الذاهب الى منى، وفيها قبور أجداد النبي وعمه أبي طالب، والمشهور منها قبر عبد المطلب، وأبي طالب، وزوجته خديجة سلام الله عليهم، وكان المسلمون منذ الجيل الأول يزورونها ويصلون ويدعون الله تعالى عندها، ويستشفعون الى الله بأصحابها، وبنوا عليها قباباً.الى أن جاء النجديون صنيعة الإنكليز فهدموها وقالوا زيارتها شرك!
قال الحائري في شجرة طوبى(٢/١٧٥)يصف هدمهم لقبرها:«وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون بالقوافي ويستهزؤن بالقبور التي هدموها! هدموا قبة مولد
< صفحة > 440 < / صفحة >
النبي صلّى الله عليه وآله وقالوا هذا الموضع الذي ولدت فيه تلك المرأة ذلك المولود!
وقالوا عندما هدموا قبر خديجة: طالما عبدك الناس فالآن قومي وامنعينا! ونادى بعضهم هاك يا خديجة! وقالوا: أطلعوا للقبب واهدموها واطرحوا الأصنام وارموها، حتى لا يكون لكم معبود غير الله! وهدموا مولد سيدتنا فاطمة عليها السلام . ودخلوا حرم النبي صلّى الله عليه وآله فأقدمت جماعة من الأعراب على تخريب قبور أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله ! ثم منعوا الناس عن قول يا رسول الله! وجعلوا ينادون غيرهم بلفظ: يامشرك وياكافر! ».
**

الشدة السادسة: لما ذهب صلّى الله عليه وآله الى الطائف فردوه أسوأ رد!

قال المؤرخ محمد بن حبيب البغدادي في المحبر/١١:«توفيت خديجة رضي الله عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام (والصحيح قبله). وخرج إلى الطائف بعد ذلك بثلاثة أشهر وثمانية أيام، وأقام بالطائف شهراً ويومين ».
وقال البلاذري «١/٢٢٧»: «وكان خروج النبي صلّى الله عليه وآله إلى الطائف لثلاث ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة، وقدم مكة يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة ».
والظاهر أنهم أخطؤوا في تاريخ سفره الى الطائف وعودته، لأنه لما عاد أرسل من حراء يطلب جوار مطعم بن عدي، ولا بد أن يكون ذلك قبل الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم، فلو كان فيها لما احتاج الى جوار.
وفي المناقب «١/١١٣و٦٢»: «لما دخل النبي صلّى الله عليه وآله الطائف رأى عتبة وشيبة جالسين على سرير فقالا: هو يقوم قبلنا «أي لا نقوم للسلام عليه» فلما قرب النبي منهما خرالسرير ووقعا على الأرض، فقالا: عجز سحرك عن أهل مكة، فأتيت الطائف! فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالأحجار ودموا رجليه فخلص منهم واستظل في ظل حبلة «كرمة» منه وقال: اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي: وناصري وهواني على الناس يا أرحم الراحمين.
فأنفذ عتبة وشيبة ابنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي غلام يدعى عداساً وكان نصرانياً، فلما مد يده وقال: بسم الله، فقال: إن أهل هذا البلد لا يقولونها، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : من أين أنت؟
< صفحة > 441 < / صفحة >
قال: من بلدة نينوى، فقال صلّى الله عليه وآله : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى قال: وبما تعرفه؟ قال: أنا رسول الله والله أخبرني خبر يونس، فخرَّ عداس ساجداً لرسول الله وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فقال عتبة لأخيه: قد أفسد عليك غلامك، فلما انصرف عنه سئل عن مقالته فقال: والله إنه نبي صادق، فقالوا: إن هذا رجل خداع لايفتننك عن نصرانيتك، وقالوا: لو كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منع الموت عن أقاربه. ولما مات أبوطالب وخديجة فنزل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ».
دعاء النبي صلّى الله عليه وآله في الطائف
في حلية الأبرار (١/١٢٩، و١٣١) وابن هشام( ٢/٢٨٥): « فعمد لحائط من كرومهم وجلس مكروباً فقال: اللهم إني أشكو إليك غربتي وكربتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت رب المكروبين. اللهم إن لم يكن لك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك. لاأحصي الثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، لك الحمد حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ».
وذكرت أكثر مصادرهم أن النبي صلّى الله عليه وآله كان وحده في سفره الى الطائف، أو معه زيد فقط! قال في الطبقات:١/٢١١:« فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، فأقام بالطائف عشرة أيام ».
لكن قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ٤/١٢٧: « فكان معه علي وزيد بن حارثة في رواية أبي الحسن المدائني، ولم يكن معهم أبوبكر).
**

الشدة السابعة: لما رجع من الطائف وطلب جوار مطعم بن عدي

لما عاد النبي صلّى الله عليه وآله من الطائف ووصل الى قرب مكة بعث معتمده الجهني بكر بن أبي أريقط الى مطعم بن عدي، وطلب منه أن يدخل مكة بجواره، وغرضه كسر قرار قريش بقتله.
وكان مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف زعيم بني نوفل، من الذين واجهوا النبي صلّى الله عليه وآله مع أنه من بني عبد مناف، وقد ورد ذمه في شعر أبي طالب. وعاش سبعاً وتسعين سنة وتوفي قبل بدر. «فتح الباري: ٧/٢٤٩» وشارك أخوه طعيمة في بدر وقتل، وشارك فيها ابنه جبير
< صفحة > 442 < / صفحة >
وفاوض النبي صلّى الله عليه وآله باسم قريش على أسرى بدر، وزعم رواة السلطة أن النبي قال: « لوكان مطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»! « بخاري:٥/٢٠».
وجبير ابنه صاحب وحشي الذي وعده أن يعتقه إن قتل محمداً أو علياً أو حمزة، وجعلت له هند آكلة الأكباد جائزة فقتل حمزة! (ابن إسحاق: ٣/٣٠٢).
وبقي جبير على كفره حتى أسلم مع الطلقاء في فتح مكة. وكان يقول: « كنت آذى قريش لمحمد صلّى الله عليه وآله » «الخرائج: ١/١٣٠».
وسكن المدينة وجاء مع عثمان إلى النبي صلّى الله عليه وآله وطلبا سهماً في الخمس لأنهم من بني عبد مناف فقالا: يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً وقرابتنا مثل قرابتهم! فقال: « إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد. ولم يقسم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئاً ». «صحيح بخاري: ٥/٧٩».
وكان مطعم بن عدي صديقاً لبني أمية، وهذا سبب مدح رواة السلطة له بأنه عمل لنقض صحيفة المحاصرة، وأنه أجار النبي صلّى الله عليه وآله في رجوعه من الطائف، وكذبوا في أن النبي صلّى الله عليه وآله بقي سنتين في جواره الى أن هاجر! والحقيقة أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يستطيع دخول مكة بحماية حمزة وعلي وحدهما، فضلاً عن بقية بني هاشم! بل يستطيع دخولها لأنه في شهر ذي القعدة الحرام كما رووا، وفيه يأمن الناس. لكنه أراد أن يخفف غلواء قريش بعد أن اشتدت محاولاتهم لقتله بعد وفاة حاميه أبي طالب عليه السلام فيدخل مكة علناً وهو معتمر فيطوف ويسعى بحماية أحد أعدائه من زعماء قريش، فبعث الى مطعم أن يحميه حتى يؤدي عمرته فقَبِلَ، فدخل صلّى الله عليه وآله واعتمر، ثم رد عليه جواره!
وبذلك كسر قرار قريش وإجماعهم على قتله، وخفَّض من خطرهم على حياته، لأن قتله صار يعني الخلاف بين زعماء قريش أنفسهم!
وقال الطبرسي في إعلام الورى:١/١٣٥:«قال علي بن إبراهيم بن هاشم: ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله من الطائف وأشرف على مكة وهو معتمر، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سراً فقال له: إئت الأخنس بن شريق فقل له: إن محمداً يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر. فأتاه وأدى إليه ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال الأخنس: إني لست من قريش، وإنما أنا حليف فيهم والحليف لايجير
< صفحة > 443 < / صفحة >
على الصميم، وأخاف أن يخفروا جواري فيكون ذلك مسبة. فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فأخبره، وكان رسول الله في شعب حراء مختفياً مع زيد فقال له: إئت سهيل بن عمرو فاسأله أن يجيرني حتى أطوف بالبيت وأسعى، فأتاه وأدى إليه قوله فقال له: لا أفعل. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : إذهب إلى مطعم بن عدي فسله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى. فجاء إليه وأخبره فقال: أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه فقال: هو قريب، فقال: إئته فقل له: إني قد أجرتك فتعال وطف واسع ما شئت. فأقبل رسول الله وقال مطعم لولده وأختانه «أصهاره» وأخيه طعيمة بن عدي: خذوا سلاحكم فإني قد أجرت محمداً، وكونوا حول الكعبة حتى يطوف ويسعى، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح، وأقبل رسول الله حتى دخل المسجد، ورآه أبوجهل فقال: يا معشر قريش هذا محمد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به! فقال له طعيمة بن عدي: يا عم لا تتكلم، فإن أباوهب قد أجار محمداً! فوقف أبوجهل على مطعم بن عدي فقال: أباوهب أمجير أم صابئ؟ قال: بل مجير. قال: إذاً لا يُخفر جوارك!
فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم فقال: أباوهب قد أجرت وأحسنت فرد عليَّ جواري. قال: وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال: أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم. قال مطعم: يا معشر قريش إن محمداً قد خرج من جواري ».
أقول: ردَّ السيد جعفر مرتضى«٣/٢٦٩» رواية جوار مطعم للنبي صلّى الله عليه وآله بحجة أنه: « لم يكن يقبل أن يكون لمشرك عنده يد يستحق الشكر عليها وهذه يد ولا شك ». لكن لا دليل عليه في سيرة نبينا صلّى الله عليه وآله أو غيره من الأنبياء عليهم السلام ، ويكفي لإثبات استجارته صلّى الله عليه وآله بمطعم أن يرويه علي بن إبراهيم والطبرسي وابن شهرآشوب «المناقب: ١/١٥» وقد أورده علماؤنا من مسلَّمات السيرة.
ونشير في الختام الى حكيم بن جبير بن مُطعم، فقد كان من خاصة أصحاب الإمام زين العابدين عليه السلام ، فهو على العكس من جده مطعم وأبيه جبير.
في الكشي(١/٤٤ و٣٣٨): « ارتد الناس بعد الحسين عليه السلام إلا ثلاثة: أبوخالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا ».
**
< صفحة > 444 < / صفحة >

الشدة الثامنة: لما زاد نشاط قريش لقتله بعد عودته من الطائف

كانت الفترة بعد وفاة عمه وناصره أبي طالب الى الهجرة هي الأخطر على حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، حتى اضطر لأن يختبئ أياماً في الحجون.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : «ما زالت قريش كاعَّة عني حتى مات أبوطالب». أي منكمشة عن أذاه خوفاً من أبي طالب. «إعلام الورى:١/٥٣، والحاكم:٢/٦٢٢».
وفي مجمع الزوائد «٦/١٥»: «وعن أبي هريرة قال: لما مات أبوطالب تحينوا النبي «ص» فقال: ما أسرع ما وجدتُ فقدك يا عم »!
وفي الطبري (٢/٨٠): « وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب ».
وقال اليعقوبي في تاريخه (٢/٣٦): « واجترأت قريش على رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه، وهموا به مرة بعد أخرى ».
ولم يذكر رواة السلطة أين كان عمر بن الخطاب في تلك الفترة وأین زعمهم أن النبي صلّى الله عليه وآله دعا الله أن يعز به الإسلام! ولماذا كان يذوب في الشدة كالملح، ويظهر في الرخاء؟!
**

الشدة التاسعة: ليلة الهجرة لما طوقت قريش بيته لتقتله

في تفسير القمي(١/٢٧٥)واليعقوبي(٢/٣٩): «وأمر رسول الله أن يفرش له ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب: إفدني بنفسك، قال نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي والتحف ببردتي، فنام علي على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله والتحف ببردته، وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ. وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار وكان من أمره ما كان.
فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب عليٌّ في وجوههم فقال: ما
< صفحة > 445 < / صفحة >
شأنكم؟ قالوا له أين محمد؟ قال أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم! فأقبلوا يضربون أبالهب ويقولون أنت تخدعنا منذ الليلة، فتفرقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبوكرز يقفو الآثار، فقالوا له يا أبا کرز اليومَ اليومَ، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: هذه قدم محمد والله إنها لأخت القدم التي في المقام! وكان أبوبكر استقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله فرده معه، فقال أبوكرز: هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، ثم قال: وهاهنا عبر ابن أبي قحافة.
فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار، ثم قال: ما جاوزا هذا المكان! إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض. وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال: ما في الغار واحد فتفرقوا في الشعاب وصرفهم الله عن رسوله صلّى الله عليه وآله ثم أذن لنبيه في الهجرة ».
وفي الخرائج (١/١٤٣): «فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة، فقد أمرني الله تعالى بذلك. فقلت له: السمع والطاعة، فنمت على فراشه وفتح رسول الله الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. ومضى وهم لايرونه، فرأى أبابكر قد خرج في الليل يتجسس عن خبره، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم فأخرجه معه إلى الغار. فلما طلع الفجر تواثبوا إلى الدار وهم يظنون أني محمد، فوثبت في وجوههم وصحت بهم، فقالوا: علي! قلت: نعم. قالوا: وأين محمد؟ قلت: خرج من بلدكم. قالوا: والى أين خرج؟قلت: الله أعلم فتركوني وخرجوا ».
في أمالي الطوسي/٤٦٩:« قال أبواليقظان: فحدثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله ونحن معه بقباء عما أرادت قريش من المكر به، ومبيت علي عليه السلام على فراشه، قال: أوحى الله عز وجل إلى جبرئيل وميكائيل أني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه؟فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: عبديَّ ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين نبيي فآثره بالحياة على نفسه، ثم رقد على فراشه يفديه بمهجته، إهبطا إلى الأرض كلاكما فاحفظاه من عدوه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل
< صفحة > 446 < / صفحة >
يقول:بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله عز وجل يباهي بك الملائكة! قال: فأنزل الله عز وجل في علي عليه السلام : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ). روته مصادر الجميع مستفيضاً كشواهد التنزيل: ١/١٢٣، والثعلبي في تفسيره: ٢/١٢٥، والمسترشد لابن جرير/٣٦٠ والصراط المستقيم: ١/١٧٣، وأسد الغابة: ٤/٢٥، والفضائل لابن عقدة/١٧٩، وكشف اليقين/٨٩، وأمالي الطوسي/٤٦٨، والعمدة/٢٣٩، والطرائف/٣٧، وسعد السعود/٢١٦، وخصائص الوحي المبين/١٢٠، والجواهر السنية/٣٠٧.
قال عبيد الله بن أبي رافع: وقد قال علي بن أبي طالب عليه السلام شعراً يذكر فيه مبيته على الفراش ومقام رسول الله صلّى الله عليه وآله في الغار ثلاثاً:
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصـى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجْرِ
محمـــــــــدُ لما خاف أن يمكروا به * فوقَّاه ربي ذو الجلال من المكـــــــــر
وبتُّ أراعيهـــــــــم متى ينشرونني * ووطنت نفسي على القتل والأسر
وبات رســـــــــول الله في الغار آمناً * هناك وفي حفظ الإله وفي ســـــــــتر
أقـــــــــام ثلاثاً ثم زمت قلائص * قلائص يفرين الحصا أينما تفري »
**

الشدة العاشرة: ليلة بدر أول معركة غير متكافئة مع قريش

أكثر ما روي من الأدعية عن النبي صلّى الله عليه وآله في الحروب: أدعية معركة بدر. « ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه، يستنجز الله وعده » «القرطبي:٣/٢٥٦».
فمن أدعيته صلّى الله عليه وآله لما خرج من المدينة: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالةٌ فأغنهم من فضلك.قال: فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهراً، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عارياً، وأصابوا طعاماً من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى ». «الإمتاع: ١٢/١٧٨ ».
وعن علي عليه السلام قال:« كان صلّى الله عليه وآله إذا لقي العدو قال: اللهم إنك أنت عصمتي وناصري ومعيني. اللهم بك أصول وبك أقاتل).«دعائم الإسلام: ١/٣٧١».
< صفحة > 447 < / صفحة >
وعن الباقر عليه السلام «الطبري: ٢/١٣٤»: « لما نظرالنبي صلّى الله عليه وآله إلى كثرة المشركين وقلة المسلمين استقبل القبلة وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتعبد في الأرض. فنزلت: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ».
وقال ابن مسعود: «ما سمعنا مناشداً ينشد حقاً له أشد مناشدة من محمد يوم بدر يقول: اللهم إني أنشدك ما وعدتني، إن تهلك هذه العصابة لاتعبد. ثم التفت كأن وجهه القمر فقال:كأني أنظر إلى مصارع القوم». «الزوائد: ٦/٨٢».
وأراد البخاري أن يمدح أبابكر فزعم أن النبي صلّى الله عليه وآله أفرط في الدعاء حتى نهاه أبوبكر!
قال في صحيحه:٦/٥٤:«قال النبي«ص» وهو في قبة: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لاتعبد بعد اليوم! فأخذ أبوبكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك! وهو «أي النبي صلّى الله عليه وآله » يَثِب «يقفز» في الدرع! فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر»!
وتعبيره لايخلو من انتقاص للنبي صلّى الله عليه وآله ! ليمدح من يحبه من الصحابة!
**

الشدة الحادية عشرة: في أحُد لما فر أصحابه وتركوه لسيوف المشركين!

في معركة أحد لما فر المسلمون وبقي هو وعلي صلّى الله عليه وآله ، فقاتل ووقع في الحفرة، فجاء علي وجبرئيل عليهما السلام وكشفا عنه المشركين وأخذاه الى ظل الصخرة.
قال السيد شرف الدين في الفصول المهمة /١١٨:« لما اشتد البلاء وعظم الخطب بفرار المسلمين أرهف المشركون لقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله غِرار عزمهم، وأرصدوا لذلك جميع أهبهم، فتعاقد خمسة من شياطينهم على ذلك، كانوا كالفدائية في هذا السبيل وهم: عبد الله بن شهاب الزهري(والد الزهري المعروف وهو يهودي حداد حليف بني زهرة) وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة الليثي أبيُّ بن خلف، وعبد الله بن حميد الأسدي القرشي، لعنهم الله وأخزاهم، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته الميمونة، وأما عتبة فرماه، تبَّت يداه، بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشق شفته، وأما ابن قميئة قاتله الله فكمَّ وجنته ودخل من حلق المغفر فيها وعلاه بالسيف، شُلَّت
< صفحة > 448 < / صفحة >
يداه، فلم يطق أن يقطع فسقط صلّى الله عليه وآله إلى الأرض. وأما أبيُّ بن خلف فشد عليه بحربته فأخذها رسول الله منه وقتله بها، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبودجانة الأنصاري شكر الله سعيه وأعلى في الجنان مقامه، فإنه ممن أبلى يومئذ بلاء حسناً. ثم حمل ابن قميئة على مصعب بن عمير وهو يظنه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقتله ورجع إلى قريش يبشرهم بقتل محمد، فجعل الناس يقولون: قتل محمد قتل محمد! فانخلعت قلوب المسلمين جزعاً وكادت نفوسهم أن تزهق هلعاً، وأوغلوا في الهرب مدلهين مدهوشين، لايرتابون في قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد أسقط في أيديهم ».
وفي المناقب لابن سُلَيْمان(١/٤٦٦) عن ابن أبي ليلى قال: « لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه! جرح النبي صلّى الله عليه وآله وقتل حمزة، وانكشف الناس عن النبي صلّى الله عليه وآله فتركوه وهو يقول: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب ».
فرماه ابن قمئة بقذافة فأصاب كفه، ورماه عبد الله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه، وضربه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد على وجهه، فشج رأسه فنزل عن فرسه، ونهبه ابن قمئة وقد ضربه على جنبه »! وابن هشام (٣/٥٩٧) نحوه.
وفي مصنف ابن أبي شيبة (٤/٥٨٦): (شُجَّ النبي صلّى الله عليه وآله وكسرت رباعيته، وذلق من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه وتركه أصحابه، فجاء أبي بن خلف يطلب بدم أخيه أمية بن خلف فقال: أين هذا الذي يزعم أنه نبي فليبرز لي فإن كان نبياً قتلني! فأخذ صلّى الله عليه وآله الحربة ثم مشى إليه فطعنه فصرعه عن دابته، وحمله أصحابه فاستفردوه فقالوا: ما نرى بك بأساً! فقال: إنه قد استسقى الله دمى، إني لأجد لها ما لو كان على مضر وربيعة لوسعتهم).
وفي النص والإجتهاد/٣٤٣: (وقاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله يومئذ قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتى فني نبله، وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره، وأصيب بجرح في وجنته، وآخر في جبهته، وكسرت رباعيته السفلى، وشقت بأبي هو وأمي شفته وعلاه ابن قمئة بالسيف. وقاتل دونه علي ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي الله عنهم وأرضاهم، وترس أبودجانة رسول الله صلّى الله عليه وآله بنفسه، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول الله صلّى الله عليه وآله فرجع إلى قريش يقول لهم: قتلت محمداً، فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد! فأوغل المسلمون في الهرب على غير
< صفحة > 449 < / صفحة >
رشد، وكان أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله حي لم يقتل، فأشار إليه صلّى الله عليه وآله أن أنصت. لئلا يعرف مكانه.
«ورويَ عن علي بن الحسين عليه السلام : قال: ما من يوم أشد على رسول الله صلّى الله عليه وآله من يوم أحُد، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب).«المقتل لأبي مخنف/١٧٦».
وفي تفسير القمي «١/١١٤»:«ونظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى رجل من كبار المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار! فرمى بترسه فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان »! يقصد أبابكر وعمر.

أصعب اللحظات في حياة علي عليه السلام !

وصف علي عليه السلام أصعب اللحظات عليه،كما في الإرشاد:١/٨٦، والمناقب: ٢/٣١٥، قال: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله ليفر وما رأيته في القتلى، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله صلّى الله عليه وآله قد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه فنظر إليَّ وقال: ما صنع الناس يا علي؟ فقلت: كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك! فنظر النبي صلّى الله عليه وآله إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار. فقال لي النبي صلّى الله عليه وآله : أما تسمع يا علي مديحك في السماء، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي: لاسيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي. فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه على نعمته ».
وقوله: وقع على الأرض مغشياً عليه! لما جرح ووقع في الحفرة، وتكاثر عليه المشركون فجاء علي وجبرئيل عليهما السلام فأخذاه الى ظل الصخرة.
**
< صفحة > 450 < / صفحة >

الشدة الثانية عشرة: لما جرح النبي صلّى الله عليه وآله وجاءت فاطمة عليها السلام

لما صاح إبليس: قتل محمد ركضت فاطمة عليها السلام الى قلب المعركة كالصقر المنقض!
ففي تفسير القمي(١/١٢٤) عن الإمام الصادق عليه السلام قال:«خرجت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله صلّى الله عليه وآله وقعدت بين يديه، فكان إذا بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله بكت لبكائه، وإذا انتحب انتحبت»!
وكان بكاؤه صلّى الله عليه وآله حباً وشكراً لفاطمة عليها السلام ، وبكاؤها تأثراً لوحدته وجراحه!
ومعنى ذلك أنها حضرت لما جاء علي وجبرئيل عليهما السلام بالنبي صلّى الله عليه وآله الى ظل الصخرة، فجاء الله تعالى بفاطمة لتغسل جراحه وتكون الى جنبه! ومعناه أنها جاءت ركضاً تمشي في سفوح وادي قُبا الشرقية، لأن الوادي كانت بيد جيش قريش ولو رأوها لأخذوها أسيرة وكان ذلك نصراً عظيماً لهم!ويظهر أنها جاءت وحدها فلم يذكر أحدٌ معها!
ولما انجلت المعركة وانسحب المشركون أرسل النبي صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام خلفهم، فبقيت فاطمة عليها السلام معه وحدهما، وهذا خطر آخر تعرض له النبي صلّى الله عليه وآله !
وقد طمس رواة السلطة دورها عليها السلام في أحُد، ولم يشيدوا بمجيئها إلى المعركة والناس فارُّون! وغاية مارووه أنها وعلياً عليهما السلام غسلا جرح النبي صلّى الله عليه وآله !
قال بخاري في صحيحه(٣/٢٢٧): « لما كسرت بيضة النبي «ص» على رأسه وأدميَ وجهه وكسرت رباعيته، كان عليٌّ يختلف بالماء في المجنَّ، وكانت فاطمة عليها السلام تغسله، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرةً، عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه يعني رمادها، فرقأ الدم ».
وفي المناقب(١/١٦٦):«وصاح إبليس من جبل أحد: ألا أن محمداً قد قتل! فصاحت فاطمة عليها السلام ووضعت يدها على رأسها، وخرجت تصرخ »!
وفي إعلام الورى(١/١٧٧):«ذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة فصاحت فاطمة عليها السلام ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا وضعت يدها على رأسها! وخرجت فاطمة عليها السلام تصرخ! قال الإمام الصادق عليه السلام :فلما دنت فاطمة من رسول الله صلّى الله عليه وآله ورأته قد شج في وجهه وأدمي فوهُ إدماءً، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله!
< صفحة > 451 < / صفحة >
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ! قال الصادق عليه السلام : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب!
قال أبان بن عثمان: حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت: كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء؟ قال عليه السلام : لاوالله ما قبضه الله إلا سَليماً ولكنه شُجَّ في وجهه.قلت: فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وآله صار إليه؟ قال: والله ما برح مكانه ».
**

الشدة الثالثة عشرة: في أيام حفر الخندق وضنك المعيشة!

ركب النبي صلّى الله عليه وآله فرساً ورسم لهم الخندق، وكان طوله نحو خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه سبعة أذرع.وهو من الجهة الغربية للمدينة، أما بقية الجهات ففيها حواجز طبيعية يسهل معها منع العدو من مهاجمة المدينة.
وتفاوتت الرواية في مدة الحفر ويبدو أنها نحو شهر، وقد عمل فيه المسلمون بسرعة ليتم قبل قدوم الأحزاب، وفرغوا منه قبل وصولهم بثلاثة أيام.
وقسَّم النبي صلّى الله عليه وآله العمل وجعل كل أربعين ذراعاً بين عشرة، وبدأ بنفسه في حفر الخندق فأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين وعلي عليه السلام ينقل التراب، حتى عرق النبي صلّى الله عليه وآله وهو يقول:لا عيشَ إلا عيش الآخرة. اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين. فلما نظر الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله يحفر اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكَّروا إلى الحفر، وكان صلّى الله عليه وآله يحمل التراب على ظهره أو على عاتقه، ثم يجلس حتى يستريح، وجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله نحن نكفيك فيقول: أريد مشاركتكم في الأجر. قال أبوواقد: ولقد رأيته يوماً بلغ منه فجلس، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر. وكان المسلمون في فقر شديد أيام حفر الخندق حتى كان النبي صلّى الله عليه وآله يشد على بطنه حجراً من الجوع.
وفي عيون أخبار الرضا(١/٤٣) عن علي عليه السلام قال:«كنا مع النبي صلّى الله عليه وآله في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة عليها السلام ومعها كسرة خبز، فدفعتها إلى النبي فقال: ما هذه الكسرة؟ قالت: قرصاً خبزتها للحسن والحسين، جئتك منه بهذه الكسرة، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث»!
< صفحة > 452 < / صفحة >
وفي مغازي الواقدي(١/٤٥٣) وسبل الهدى(٤/٣٦٩): (عن ابن عباس أن جابراً رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم الخندق عاصباً بطنه بحجر من الجوع وأنهم لبثوا ثلاثة أيام لايذوقون ذواقاً. قال جابر: فاستأذنت رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى المنزل فأذن لي، فذهبت فقلت لامرأتي: إني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله خمصاً شديداً، ما في ذلك صبر، فعندك شئ؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فأخرجت إناء فيه صاع من شعير، وذبحت العناق، وطحنت الشعير، وجعلنا اللحم في البرمة، فلما انكسر العجين وكادت البرمة أن تنضج وأمسينا، وأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله الإنصراف قال: وكنا نعمل نهاراً، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا قالت لي: لاتفضحني برسول الله صلّى الله عليه وآله
ومن معه. فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله فساررته فقلت: طُعَيْمٌ لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. فشبك أصابعه في أصابعي وقال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب لا تنزلن برمتكم ولاتخبزن عجينكم حتى أجئ، وصاح رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم سوراً فحيَّهلا بكم، وصار رسول الله صلّى الله عليه وآله يقدم الناس، ولقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقلت: جاء الخلق، والله إنها للفضيحة على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي فقلت:ويحك! جاء النبي صلّى الله عليه وآله بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، فقالت: بك وبك، وفي رواية:هل سألك؟قلت: نعم. وفي رواية قالت: أنت دعوتهم أو هو؟ قلت: بل هو دعاهم. قالت: دعهم، الله ورسوله أعلم نحن قد أخبرناه بما عندنا، فكشفَت عني. فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال: أدخلوا عشرة عشرة ولا تضاغطوا، فأخرجت له عجيناً فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، فقال لنا: أخبزوا واغرفوا وغطوا البرمة، ثم أخرجوا الخبز من التنور وغطوا الخبز، ففعلنا، فجعلنا نغرف ويغطي البرمة، ثم نفتحها فما نراها نقصت شيئاً! ونخرج الخبز من التنور، ثم نغطيه فما نراه نقص شيئاً، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويقرب إلى أصحابه ويقول لهم: كلوا. فإذا شبع قوم قاموا، ثم دعا غيرهم حتى أكلوا وهم ألف! وانصرفوا وإن برمتنا لتغطُّ كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، فقال: كلوا واهدوا، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة.فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله ذهب ذلك)!
**
< صفحة > 453 < / صفحة >

الشدة الرابعة عشرة: في أيام محاصرة الأحزاب للمدينة

وصل جيش المشركين بل جيوشهم الى المدينة، ومدخلها الوحيد من الغرب من وادي قُبا، فوجدوا المسلمين حفروا خندقاً وقعدوا على أبوابه يرمون المهاجمين ويمنعونهم. فحاصروهم وأخذوا يحاولون العبور اليهم.
ونقض بنو قريظة عهدهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وانضموا الى قريش.فكان الأحزاب يحاصرون المدينة من غربيها، وبنو قريظة من شرقي المدينة « حَرَّة بني قريظة» مع الأحزاب كالطوق عليهم، وكان خطرهم يعادل خطر بقية الأحزاب!
قالت أم سلمة رضي الله عنها: « شهدت معه صلّى الله عليه وآله مشاهد فيها قتال وخوف: المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله صلّى الله عليه وآله ولا أخوف عندنا من الخندق! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة«الطوق»وأن قريظة لانأمنها على الذراري، فالمدينة تحرس حتى الصباح نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا».«إمتاع الأسماع: ١/٢٣٥».
لذلك أمر النبي صلّى الله عليه وآله بتجميع النساء والأطفال في«الآطام» أي المباني المحصنة.
قال ابن سعد(٢/٦٧): كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل وزيد بن حارثة في ثلاث مئة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة. وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله صلّى الله عليه وآله مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة. وكانت المدينة تحرس حتى الصباح يسمع فيها التكبير حتى يصبحوا ».
وففي تفسير القمي(٢/١٨٦): « وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله أمرأصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، وكان أمير المؤمنين عليه السلام على العسكر كله، بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم ».
ولما نقض بنو قريظة عهدهم ومزقوه وأعلنوا الحرب على المسلمين: «كان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان.. وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلاً، وبعث حيي بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم فجاء الخبر بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فعظم البلاء ».« الإمتاع: ١/٢٣٣».
< صفحة > 454 < / صفحة >

طال الحصار فظهر المنافقون في أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله

طال الحصار نحو شهر، وأخذ المسلمون يتسللون من معسكر النبي صلّى الله عليه وآله ، فيذهبون بحجة الإطمئنان على عوائلهم من خطر بني قريظة، ولا يرجعون.
قال عبد الله بن عمر:« بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال: من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا، وكان ذلك في برد شديد، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا. قال:فلا والله ما عطف عليَّ منهم اثنان أو واحد». «صححه في مجمع الزوائد: ٦/١٣٥».
وروى الحاكم عن حذيفة«٣/٣١» :«أن الناس تفرقوا عن رسول الله ليلة الأحزاب فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا جاثم من البرد وقال: يا ابن اليمان قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب فانظر إلى حالهم. قلت:يارسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلاحياء منك من البرد».
وقد شهد البيهقي في سننه(٩/٣١): « فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله «ص» ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول: والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً وأن يدفع الله عز وجل مفاتح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصرولتنفقن كنوزهما في سبيل الله! فقال رجل ممن معه لأصحابه: ألاتعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن يغنمنا كنوز فارس والروم، ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله لمَاَ يعدنا إلا غرواً! وقال آخرون ممن معه: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة. وقال آخرون: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا. وسمى ابن إسحاق القائل الأول: معتب بن قشير، والقائل الثاني: أوس بن قيظي»! وهذه التسميات سياسية للتغطية على القائل الحقيقي!
وروى أحمد عن عائشة «٦/١٤١» وحسَّنه في الزوائد «٦/١٣٨» وصفها اختباء عمر وطلحة في حديقة، وذكرت أن عمر كان يتخوف من الهزيمة والفرار العام!
وقال القمي في تفسيره(٢/١٨٦) قال: «فلما طال على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله الأمر واشتد
< صفحة > 455 < / صفحة >
عليهم الحصار وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة، وخافوا من اليهود خوفاً شديداً، تكلم المنافقون بما حكى الله عنهم. ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا نافق إلا القليل! وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود من أسفل، وأنه ليصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون:مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا، وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا فإنها في أطراف المدينة وهي عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها. وقال قوم: هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله »!

تآمر مرضى القلوب على النبي صلّى الله عليه وآله مع الأحزاب!

اتصل المشركون ببعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وطلبوا منهم أن يسلموهم النبي وبني عبد المطلب لينصرفوا عنهم، فأخذوا يعملون لذلك سراً!
فقال: «والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك»! «كتاب سُلَيْم/٢٤٩»
ثم لما رأوا عدم إمكان ذلك طلبوا منهم أن يدلوهم على نقطة ضعف في الخندق، فدلوهم على الثغرة التي عبر منها عمرو بن ود وجماعته!
كان عرض الخندق نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً، ومن الصعب أن يقفز الفرس هذه المسافة، فالمرجح أن يكون أحدٌ توطأ معهم وردم جانب الخندق من جهة النبي صلّى الله عليه وآله ! ولذا بادر النبي صلّى الله عليه وآله وأمر علياً أن يعالج الثغرة ويحرسها، ويقتل من يعترض عمله في ذلك!
ونشط مرضى القلوب الذين حمَّلوا النبي صلّى الله عليه وآله هزيمة أحُد لأنه لم يشركهم في القيادة وقالوا: لوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا! فأشاعوا فكرة المصالحة مع النجديين بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً لينصرفوا، وقد أحبطها النبي صلّى الله عليه وآله باستشارة الزعيمين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وهو يعرف أنهما يرفضانها، فرفضاها وانتهت.
وكان عبور المشركين الخندق باتفاق مع منافقين لأن عمرو بن ود، أمر جنده قبل عبوره أن يتهيؤوا للقتال غداً! « مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيؤوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون
< صفحة > 456 < / صفحة >
من الفرسان اليوم».« ابن هشام: ٣/٧٠٥».
ولهذا ركز النبي صلّى الله عليه وآله اهتمامه على الثغرة! فأمر علياً عليه السلام أن يبادر بسرعة فيأخذها، فإن اعترض أحد من «المسلمين» فليقتله!
قال القاضي النعمان في شرح الأخبار(١/٢٩٤): «وتسلل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أكثر أهل المدينة فدخلوا بيوتهم كالملقين بأيديهم، فاقتحم عمرو بن عبد ود وأصحابه الخندق على المسلمين، فلما نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى ذلك وأن خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وقربوا من مناخ رسول الله، تخوف أن يمدهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق فدعى علياً عليه السلام فقال: يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه! فمضى علي عليه السلام في نفر جمعوا معه يريدون الثغرة، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها، فلما رأوهم وهم أقل من الذين اقتحموها منهم، توقفوا لينظروا ما يكون من أمر أصحابهم، وعطف عليهم ابن عبدود بمن كان معه تعنق بهم خيلهم، حتى قربوا منهم ».

مبارزة علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود

تمكن عمرو بن ود العامري أن يعبرالخندق بفرسه من النقطة التي دله عليها المنافقون ، وعبر معه ابنه حسيل، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة وثلاثتهم من بني مخزوم، وضرار بن الخطاب، ومرداس، وهما فهريان.
وأخذ ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ومرة برمحه، أو يركزه في الأرض ويدور بفرسه حوله، ويقول: أبرز اليًّ يا محمد، ثم يقول: إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار؟ ألا يحب أحدكم أن يُقْدِم على الجنة، أو يبعث عدواً له إلى النار؟ إلا هل من مبارز؟!
ولقد بححت من النــــــــــدا * ء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشــــــــــجا * ع موقف الخصـــــــم المناجز
إني كذلك لــــــــــــم أزل * متســـــــــــرعاً نحــــــــــو الهزاهز
إن الشــــــــــجاعة في الفتى * والجود من كــــــــــرم الغرائز
< صفحة > 457 < / صفحة >
وأخذ النبي صلّى الله عليه وآله يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير! فقال علي عليه السلام : أنا له يارسول الله، فأمره بالجلوس، وواصل النبي صلّى الله عليه وآله دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه منهم أحد! فقام علي عليه السلام ثانيةً وقال: أنا له يارسول الله، فقال له: أجلس، وبرواية ابن إسحاق: يا علي إنه عمرو، فأجابه: وأنا علي يارسول الله! فقال له النبي صلّى الله عليه وآله : أدن مني، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه، ودعا له، وأطلق كلماته الرسولية بحقه.
وتقدم علي عليه السلام مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز، وذهب معه خمسة يتفرجون على المبارزة: جابر الأنصاري، وحذيفة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمر، وكان عمرو راكباً، وعلي عليه السلام راجلاً، وهو يقول:
لاتعجلــــــــــنَّ فقــــــــــد أتاك * مجيب صوتك غيرُ عاجز
ذو نيــــــــــةٍ وبصيــــــــــرةٍ * والصدق مُنجي كلِّ فائز
إني لأرجــــــــــو أن تقــــــــــو * م عليك نائحــــــــــةُ الجنائز
من طعنة نجلاء يبقى * ذكرهــــــــــا بين الهزاهــــــــــز
وجرى بينهما كلام طويل، حتى غضب عمرو وأهوى بسيفه الى علي عليه السلام بضربة قوية، فتلقاها علي عليه السلام بترسه، فشقت الترس والخوذة والعمامة ووصلت الى رأسه عليه السلام فجرحته في قرنه، فانفجر الدم يجري على رأسه وكتفه، ولم يتأخر علي عليه السلام فضربه على ترقوته برواية البيهقي وابن إسحاق فهوى عمرو صريعاً وكبَّر علي عليه السلام بصوته الجهوري فكبر النبي والمسلمون.
وفي شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ٢/١٠، بسنده عن حذيفة، قال:« فجاء حتى وقف على عمرو فقال: من أنت؟ فقال عمرو: ما ظننت أني أقف موقفاً أُجهل فيه، أنا عمرو بن عبد ود؟ فمن أنت؟ .. إلى أن قال : وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها علي بالترس فلحق ذباب السيف في رأس علي عليه السلام حتى قطعت تسعة أكوار حتى خط السيف في رأس علي. وتسيَّف عليٌّ رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه، فثارت بينهما عجاجة فسُمع علي عليه السلام يكبر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : قتله والذي نفسي بيده!
< صفحة > 458 < / صفحة >
وفرح النبي صلّى الله عليه وآله بقتل علي عمرواً وأخبرهم بأن ميزان القوة تغير! وقال: ضربة علي تعدل عند الله عمل الثقلين. وقال: الآن نغزوهم ولا يغزوننا». «إعلام الورى: ١/٣٨٢، والإرشاد: ١/١٠٢).
**

الشدة الخامسة عشرة: لما تثاقل المسلمون عن أمره في الحديبية!

أمرهم النبي صلّى الله عليه وآله بالنحر والحلق فتثاقلوا!

قال القمي في تفسيره:٢/٣١٠: « فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمد رسول الله وعقده، وقامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش وعقدها. وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ونسخة عند سهيل بن عمرو. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لأصحابه: أنحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم، فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة؟! فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وآله من ذلك، وشكى ذلك إلى أم سلمة فقالت: يا رسول الله إنحر أنت واحلق، فنحر رسول الله صلّى الله عليه وآله وحلق ونحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله تعظيماً للبدن: رحم الله المحلقين، وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول الله والمقصرين؟ لأن من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله ثانياً: رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي، فقالوا يا رسول الله والمقصرين؟ فقال رحم الله المقصرين ».

غضبَ عمر في الحديبية وانشق على النبي صلّى الله عليه وآله !

في المسترشد للطبري الشيعي/٥٣٦: « فغضب الثاني وقال لصاحبه: يزعم أنه نبي وهو يرد الناس إلى المشركين! ثم أتى النبي صلّى الله عليه وآله فقال: ألست برسول الله حقاً؟ قال: بلى قال: ونحن المسلمون حقاً؟ قال: بلى، قال: وهم الكافرون؟ قال: بلى، قال: فعلى مَ نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له النبي صلّى الله عليه وآله : إنما أعمل بما يأمرني به الله ربي، إنه من خرج منها إليهم راغباً فلا خير لنا في مقامه بين أظهرنا ومن رغب فينا منهم، فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. فقال:والله ما شككت في الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك! وقام من عند النبي صلّى الله عليه وآله متسخطاً لأمر الله وأمر رسوله صلّى الله عليه وآله غير راض بذلك، ثم أقبل يمشي في الناس ويؤلب على رسول الله صلّى الله عليه وآله ويعرض
< صفحة > 459 < / صفحة >
به ويقول: وعدنا برؤياه التي زعم أنه رآها يدخل مكة، وقد صددنا عنها ثم ننصرف الآن، وقد أعطينا الدنية في ديننا! والله لو أن معي أعواناً ما أعطيت الدنية أبداً!
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في:أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها/٢٧٣: «صلح الحديبية من أعظم الإنجازات الإسلامية على الإطلاق بل هو الثمرة المباركة لكافة المعارك التي خاضها رسول الله، وقد وصف تعالى في كتاب العزيز هذا الصلح بالفتح المبين والنصر العزيز، لأن هذا الصلح قد حسم الموقف نهائياً لصالح الإسلام دون إراقة قطرة دم واحدة! ولو تغاضينا عن هذه النتائج الباهرة فإن كل ما فعله الرسول كان بأمر ربه. لقد أعلن الرسول صلّى الله عليه وآله أن روح القدس قد نزل عليه وأمره بالبيعة، وقد فهم الجميع أن الصلح قد تم بتوجيه إلهي فقد قال الرسول للجميع: إني رسول الله ولست أعصيه. وقال أبوبكر مخاطباً عمر: أيها الرجل إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره! وبالرغم من كل ذلك، فإن عمر بن الخطاب اعتبر الصلح الذي رضي به الله ورسوله«دنية في الدين» وأن ما فعله الرسول كان خاطئاً وغير صحيح! وحاول عمر أن يقنع الحاضرين بأن الصلح الذي ارتضاه الله ورسوله دنيةٌ في الدين، ليفرضوا على الرسول إلغاء الصلح والرجوع عنه! ولما يئس من إقناعهم قال: لو وجدت أعواناً ما أعطيت الدنية في ديني! والمثير أنهم رغم ذلك سجلوه شاهداً على صك صلح الحديبية! وكما تعلم فإن سنة الرسول تعني: قول الرسول وفعله وتقريره ».
وقال المحامي يعقوب في كتاب: المواجهة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله /٣٦٩: « لقد اعتبر عمر هذه المعاهدة (دنية)! وقال للرسول أمام المسلمين: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا! وظهر الرجل بمظهر من يزاود على الرسول صلّى الله عليه وآله بالدين، الذي علمه الرسول إياه!وقبل يوم واحد فقط طلب رسول الله صلّى الله عليه وآله من عمر أن يذهب إلى بطون قريش ليقول لها: بأن رسول الله لم يأت لقتال أحد، إنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف، فرفض وقال: يا رسول الله إني أخاف قريش على نفسي وليس بها من بني عدي من يمنعني! (مغازي الواقدي: ٢/٦٠٠).
وهو نفس عمر الذي اشترك في معركة بدر! والذي لم يثبت أنه قتل مشركاً أو جرحه! وهو نفسه الذي هرب من معركة أحد! وقد ذكَّره الرسول بذلك يوم أقبل عليه فقال له: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم! (مغازي الواقدي: ٢/٦٠٩).
< صفحة > 460 < / صفحة >
وهو نفس الرجل الذي لم يكن له أي دورمميز في أي معركة من معارك الإسلام التي سبقت صلح الحديبية! ومع ذلك يزاود على رسول الله صلّى الله عليه وآله ويصف المعاهدة التي وقعها النبي ورضي عنها بأنها دنية في ديننا! وأعلن عمر أنه لو وجد أعواناً ما أعطى الدنية »!
قال البخاري:٥/٦٩: «عن نافع قال إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله يبايع عند الشجرة وعمر لايدري بذلك، فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله يبايع تحت الشجرة، قال فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله ».
أقول: لانقبل قولهم إنه بايع لأنه اعترف بأن النبي صلّى الله عليه وآله بقي غاضباً عليه لايكلمه ولا يجيبه على كلامه، حتى رجعوا ووصلوا بعد يومين الى كراع الغميم فنزلت سورة الفتح فأرسل عليه وقرأ له السورة! ومعناه أنه كان مغاضباً له لايكلمه، وأراد أن يتم عليه الحجة فأرسل اليه ليسمع السورة مع المسلمين فتساءل عمر: هل هذا فتح، وفي رواية أنه قال: والله ما هذا بفتح؟!
**

الشدة السادسة عشرة: لما انهزم المسلمون مرات في خيبر!

فتح النبي صلّى الله عليه وآله القسم الأول من خيبر، وترك فيه علياً عليه السلام يرتب وضعه، وقصد القسم الثاني الأصعب وهو على بعد بضع كيلومترات، وهو ثلاثة حصون على رؤوس جبال، وأكبرها حصن القموص فحاصره، وكان يرسل كل يوم شخصاً فتكررت منهم الهزيمة، فغضب النبي صلّى الله عليه وآله وأرسل الى علي عليه السلام ، وقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار.
هنا قال البخاري كان علي تخلف عن النبي في خيبر فأرسل اليه، موهماً أنه تخلف في المدينة، مع أنه كان حامل الراية، وهو الذي فتح حصن ناعم في القسم الأول من خيبر ودحا بابه كما قال النووي!
وقد غضب النبي صلّى الله عليه وآله لما رأى هزيمة المسلمين يومياً، ورأى غطرسة مرحب!
< صفحة > 461 < / صفحة >
قال المرتضى في رسائله (٤/١٠٣):« روى أبوسعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله أرسل عمر إلى خيبر فانهزم هو ومن معه، حتى جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله يجبن أصحابه ويجبنونه، فبلغ ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله كل مبلغ، فبات ليلته مهموماً فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال: لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار!
فتعرض لها المهاجرون والأنصار، ثم قال: أين علي؟ فقالوا: يا رسول الله هو أرمد، فبعث إليه سلمان وأباذر، فجاءا به وهو يقاد لايقدر على فتح عينيه، فقال صلّى الله عليه وآله : اللهم أذهب عنه الرمد والحر والبرد وانصره على عدوه، فإنه عبدك يحبك ويحب رسولك، ثم دفع إليه الراية. فقال حسان بن ثابت: يا رسول الله أتأذن لي أن أقول فيه شعراً؟ فأذن له فقال:
وكان عــــــــــلي أرمد العين يبتغي * دواء فلمــــــــــا لم يحس مداويا
شفاه رســــــــــول الله منه بتفلة * فبورك مرقياً وبورك راقيــــــــــا
وقال سأعطي الراية اليوم ماضياً * كمياً محبــــــــــاً للرسول مواليــــــــــا
يحب إلهي والرســــــــــول يحبه * به يفتــــــــــح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بهــــــــــا دون البرية كلها * علياً وسمــــــــــاه الوزير المؤاخيا
فقال: إن علياً لم يجد بعد ذلك أذى في عينيه، ولا أذى حر ولا برد).

وصل علي عليه السلام الى الحصن قبل الجيش!

في مناقب آل أبي طالب:٢/٣٢٠: «الواقدي: فوالله ما بلغ عسكر النبي أُخَيْرَاه حتى دخل عليٌّ حصون اليهود كلها، وهي قموص وناعم وسلالم ووطيح، وحصن المصعب بن معاد، وغنم. وكانت الغنيمة نصفها لعلي ونصفها لسائر الصحابة. شعبة وقتادة والحسن وابن عباس: أنه نزل جبرئيل على النبي صلّى الله عليه وآله فقال له: إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك:إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره، وعزتي وجلالي ما رمى علي حجراً إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر سهماً له وسهم جبرئيل معه».
قال أحمد:(٤/٥٢):« فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال:
< صفحة > 462 < / صفحة >
قد علمت خيبر أني مرحبُ * شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهَّب
فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره
أوفيهمُ بالصاع كَيْلَ السنَّدرة
ففلق رأس مرحب بالسيف، وكان الفتح على يديه ».
« وسمع أهل العسكر صوت ضربته! فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم».
(الطبري: ٢/٣٠٠).
قالت أم سلمة:«سمعت وقْع السيف في أسنان مرحب»! (الزوائد: ٦/١٥٢).
وكانت أم سلمة في خيمة القيادة للنبي صلّى الله عليه وآله على بعد نحو كيلو مترين من الحصن!

ذهب النبي صلّى الله عليه وآله الى الحصن وبشره بنزول الوحي فيه!

في إعلام الورى (١/٢٠٧): «خرج البشير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن علياً دخل الحصن فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله فخرج علي عليه السلام يتلقاه فقال صلّى الله عليه وآله : قد بلغني نبأك المشكور وصنيعك المذكور، قد رضي الله عنك ورضيت أنا عنك. فبكى علي فقال له:ما يبكيك يا علي؟ فقال: فرحاً بأن الله ورسوله عني راضيان».
أقول: جاء النبي صلّى الله عليه وآله الى حصن خيبر لأول مرة فخرج علي عليه السلام يتلقاه! وما أن أخبره برضا الله ورضاه عليه حتى بكى! فاعجب لهذه الرقة الإنسانية والعبودية المرهفة لله تعالى، من رجل دوَّى صوت ضربته قبل ساعتين، وقدَّ هامة بطل اليهود نصفين، رجل انقضَّ على الحصن كأنه كاسحة ألغام، فقلع بابه ورفعه وأردى أبطال اليهود وأخضعهم! وإذا به أمام رسول الله صلّى الله عليه وآله يبكي بكاء الطفل، فرحاً برضا الله ورسوله صلّى الله عليه وآله عليه!
**
< صفحة > 463 < / صفحة >

الشدة السابعة عشرة: لما انهزم المسلمون في حنين!

كان جيش المسلمين مع النبي صلّى الله عليه وآله يسيرون في أرض مبسوطة منحدرة فكمنت لهم هوازن وفاجأتهم فانهزم خالد وكان على خيل بني سُليم وانهزم بعده المسلمون كلهم، وثبت النبي صلّى الله عليه وآله وبنو هاشم ومعهم أيمن ونسيبة! فالتفوا حول النبي صلّى الله عليه وآله وحموه.
وفي البخاري: ٤/٢٨: «فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أنا النبي لاكذب. أنا ابن عبد المطلب. فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه »!
وقام علي بحملاته المتوالية على أصحاب رايات هوازن الأربعين وقتلهم وكان آخرهم القائد النجدي المشهور أبوجرول، فتضعضعوا ونزلت بهم الهزيمة، قبل عودة الفارين! وكان علي بعد كل حملة يعود الى رسول الله صلّى الله عليه وآله ليطمئن عليه وقد يأتي معه بأسير أو أكثر!
قال ابن هشام:٤/٨٩٦:« فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله »!
فمن أسرهم وكتَّفهم قبل رجوع الفارِّين والكل فارُّون ما عدا بني هاشم الذين يحرسون النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وحده في المعركة؟!
قال السرخسي في سيره: ١/١١٧:«فانكشفت أول الخيول خيل بني سليم مولية ثم تبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس مدبرين لايلوي أحد على أحد ».
وأنزل الله تعالى في إعجاب أبي بكر بالكثرة: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ.، يعني أمير المؤمنين علياً عليه السلام ومن ثبت مع النبي صلّى الله عليه وآله .
وقد اعترف الجميع بالفرار، ففي صحيح بخاري:٤/٥٧، قال أبوقتادة :«فلحقت عمر بن الخطاب فقلت ما بال الناس؟ قال: أمر الله »!
ومعناه أن عمر نسب الفرار الى الله تعالى!
وقال ابن هشام: ٤/٨٩٣ :« وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال: أين الناس هلموا إليَّ أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله! قال: فلا شئ »!
< صفحة > 464 < / صفحة >
أي لم يستجب له احد!
وفي المناقب: ١/٣٥٥:« وقف علي عليه السلام يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف. وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أباجرول، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس».
وقد بخلت مصادر السلطة في ذكر بطولاته عليه السلام وكيف حقق النصرالمبين للمسلمين بعد فرارهم! وكيف نزلت السكينة على قلوب الثابتين، ثم نزلت الملائكة، وذلك بعد قتال علي عليه السلام .
وقد ادعوا أن ثمانين من الفارين أو مئة رجعوا قبل غيرهم، ونسبوا بطولات علي عليه السلام أو قسماً منها اليهم! لكنهم لم يسموا منهم أحداً إلا عبد الله بن مسعود، وهو ضعيف صغير الجثة غير مقاتل!
ثم نسبوا النصر الى دعاء النبي صلّى الله عليه وآله وإلقائه حفنة الحصى والتراب على جيش هوازن وهو صحيح، لكنه لا يلغي دور علي عليه السلام !والى نزول جبرئيل والملائكة عليهم السلام وهو صحيح لكنه لا يلغي دور علي المميز!
**

الشدة الثامنة عشرة: لما ألقوا عليه الصخور ليقتلوه بعد تبوك!

حاولوا اغتيال النبي صلّى الله عليه وآله ليلاً في رجوعه من تبوك لما صعد العقبة، فألقوا عليه الصخور فنزل جبرئيل عليه السلام وأضاء عليهم وكشفهم فلعنهم النبي صلّى الله عليه وآله .
وقد كتبنا في السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام : مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي صلّى الله عليه وآله في طریق تبوك!
اعترفت كل المصادر بحصول هذه المؤامرة، وتُعرف بليلة العقبة، ويُعرف منفذوها بأصحاب العقبة! لكنهم اتفقوا على إخفاء إسمائهم! روى مسلم في صحيحه: ٨/١٢٣، عن أبي الطفيل قال:«كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال فقال له القوم: أخبره إذْ سألك! قال: كنا نُخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد! وعَذَرَ ثلاثة قالوا: ما سمعناه منادي
< صفحة > 465 < / صفحة >
رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا علمنا بما أراد القوم! ».
وتدل هذه الرواية الرسمية على أن المتآمرين كانوا بعد النبي صلّى الله عليه وآله بين المسلمين وكان حذيفة وعمار يعرفانهم، وكذا أهل البيت عليهم السلام .
وقد أبهمت الرواية الموضوع وذكرت أن النبي صلّى الله عليه وآله عَذَر ثلاثة منهم غير الأربعة عشر، لأنهم قالوا إنهم كانوا في محل الجريمة صدفةً، ولم يكونوا مع المتآمرين الذين ألقوا الصخور، حيث لم يسمعوا منادي النبي صلّى الله عليه وآله يطلب من المسلمين أن يمروا من الوادي، ولا يصعدوا العقبة التي يسلكها النبي صلّى الله عليه وآله !
أما قصة الماء ونهي النبي صلّى الله عليه وآله أن يشربوا منه إذا وصلوا اليه قبله، فهي منفصلة عن مؤامرة العقبة، فقد كان ذلك الماء قليلاً وأراد النبي صلّى الله عليه وآله أن يباركه ويجريه بما يكفي الجيش والمنطقة، فوصل اليه جماعة قبله وشربوا منه، وهم من أصحاب العقبة! فلعنهم النبي صلّى الله عليه وآله ثانية بعد لعنة العقبة!
وروى المفسرون مؤامرة العقبة في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قال البيضاوي في تفسيره:٣/١٥٨:« وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا، من الفتك بالرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل! فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا ».
وفي الخصال/٤٩٩، عن حذيفة أنهم أربعة عشر، ثم عدَّد أسماءهم كما يأتي، وقال: «وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ».
اتفقت روايتهم على أن المؤامرة كانت لقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله في نقطة معينة من العقبة! قال الصحابي عامر بن واثلة كما في روايتهم الصحيحة:« أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه». (مسند أحمد: ٥/٤٥٣).كما اتفقوا على أن غزوة تبوك كانت في الصيف وكانوا يسيرون ليلاً
< صفحة > 466 < / صفحة >
اتقاء الحر، وكان أمامهم طريق مختصر من العقبة لايناسب جيشاً من ثلاثين ألفاً،فسلك الجيش طريق الوادي وقرر النبي صلّى الله عليه وآله أن يسلك طريق العقبة، وأحس بأن بعضهم يأتمر عليه فنادى مناديه أن لايسلك أحد العقبة، فبادر المتآمرون وصعدوا الجبل ليدحرجوا صخوراً كبيرة عليه فتقتله، أو تنفر ناقته صلّى الله عليه وآله فتسقط في الوادي، وكان مسلكاً ضيقاً يتسع في نقطة منه لجمل واحد، وكان واديه عميقاً، روي أنه مقدار ألف رمح! (البحار: ٨٢/٢٦٧).
كما ورد ذكر الدِّبَاب، وهي كراتٌ كبيرة من جلود أو خشب، يلقونها فتصدر منها أصوات تنفر الناقة: « فسبق بعضهم إلى تلك العقبة وكانوا قد أخذوا دباباً كانوا هيأوها من جلد حمار، وضعوا فيها حصى وطرحوها بين يدي الناقة». (الصحيح من السيرة:٣٠/١٤٣).
وفي الإحتجاج: ١/٦٤: « وجاء الأربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم لبعض: من رأيتموه هنا كائناً من كان فاقتلوه، لئلا يخبروا محمداً أنهم قد رأونا هاهنا، فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة إلا نهاراً فيبطل تدبيرنا عليه! وسمعها حذيفة… فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله بما رأى وسمع فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أوَعرفتهم بوجوههم؟ فقال: يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم فلما فتشوا المواضع فلم يجدوا أحداً أحدروا اللثام، فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم: فلان وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا حذيفة إذا كان الله يثبِّت محمداً، لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه، إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ولو كره الكافرون).
وفي سبل الهدى للصالحي(٥/٤٦٦): (قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاء الناس أن تُضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه، فسماهم لهما ثم قال: أكتماهم)!
**

الشدة التاسعة عشرة: لما تخلفوا عن جيش أسامة!

مرض النبي صلّى الله عليه وآله قبل وفاته بأسبوعين، وفي ثاني يوم من مرضه أمر بتسيير جيش أسامة الى مؤتة وبعث كل خصوم علي عليه السلام في جيش أسامة فأخذوا يماطلون عن الحركة، فحثهم ولعن
< صفحة > 467 < / صفحة >
من تخلف عن جيش أسامة!
قال المفيد في الإرشاد : ١/١٧٩: «ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأيه على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته صلّى الله عليه وآله من يختلف في الرئاسة ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده، ولا ينازعه في حقه منازع. فعقد له الإمرة على من ذكرناه وجدَّ صلّى الله عليه وآله في إخراجهم، فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف، وحث الناس على الخروج إليه والمسير معه وحذرهم من التلوُّم والإبطاء عنه).
وفي إعلام الورى: ١/٢٦٣: «ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله المدينة من حج الوداع بعث بعده أسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه، وقال له: أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم. وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان المهاجرين ووجوه الأنصار وفيهم أبوبكر وعمر وأبوعبيدة. وعسكر أسامة بالجرف فاشتكى رسول الله صلّى الله عليه وآله شكواه التي توفي فيها وكان يقول في مرضه: نفذوا جيش أسامة ويكرر ذلك، وإنما فعل ذلك لئلا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة ويطمع في الإمارة، ويستوسق الأمر لأهله».
وفي كتاب سليم بن قيس رحمه الله /٤٢٤:« وفي ذلك الجيش أبوبكر وعمر، فقال كل واحد منهما: لاينتهي يستعمل علينا هذا الصبي العبد »!
وقال ابن حجر في فتح الباري:٨/١١٥، وهو من كبار أئمة السلطة:« وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبوبكر وعمر في بعث أسامة، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه:بدأ برسول الله صلّى الله عليه وآله وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش. فذكر القصة وفيها: لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبوبكر وعمر. وعند الواقدي أن ذلك الجيش كان ثلاثة آلاف، فيهم سبع مائة من قريش ».
أقول: أوردنا كلام ابن حجر لإثبات أن النبي صلّى الله عليه وآله تعمد أن يُفرغ المدينة من القرشيين، ومن
< صفحة > 468 < / صفحة >
كل من يمكن أن يعارض استخلاف علي عليه السلام . وتعمد أن يؤمِّر عليهم أسامة الشاب الأسود ابن الثمان أو السبع عشرة سنة حتى لايعترض أحد على سن علي عليه السلام الذي كان في الثالثة وثلاثين من عمره. كما نلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وآله أخبر عن النتائج السيئة لما يجري حوله، وأطلق تحذيره لأجيال الأمة من الفتن التي سيسببها طمع قريش في خلافته!
وفي منهاج الكرامة/١٠٠: «وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله في مرض موته مرة بعد أخرى مكرراً لذلك: أنفذوا جيش أسامة! لعن الله المتخلف عن جيش أسامة! وكان الثلاثة معه ».
وفي تقريب المعارف/٣١٤: « ولا فرق بين خلافه صلّى الله عليه وآله فيما أمر به من المسير مع أسامة، وبين خلافه فيما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة، وذلك فسق لاشبهة فيه، ودعوى خروج أبي بكر من البعث لايفي شيئاً لثبوت الرواية».
وروى ابن هشام «٤/١٠٥٧» أن النبي صلّى الله عليه وآله لما رجع من البقيع في أول مرضه وتحدث عن الفتن وقال لعائشة:«ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ قالت قلت: والله لكأني بك لو قد فعلتُ ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك»!
وقد وصف أمير المؤمنين عليه السلام عملهم لإفشال جيش أسامة وعجلتهم في بيعة الفلتة في جوابه للحبر اليهودي عن امتحانات الله لوصي النبي صلّى الله عليه وآله فقال(الخصال/٣٧١):
«وأما الثانية يا أخا اليهود، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله أمَّرني في حياته على جميع أمته وأخذ على من حضره منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب في ذلك، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أمره إذا حضرته، والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمور، في حياة النبي صلّى الله عليه وآله ولا بعد وفاته.ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه، إلا وجهه في ذلك الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده. ثم كان
< صفحة > 469 < / صفحة >
آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز، وأكد فيه أكثر التأكيد!
فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلّى الله عليه وآله إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله صلّى الله عليه وآله في أعناقهم فحلوها، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب، أو مشاركة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي!فعلوا ذلك وأنا برسول الله صلّى الله عليه وآله مشغول، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها)!
وقال السيد شرف الدين في المراجعات/٣٦٥: «سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو الروم، وهي آخر السرايا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وقد اهتم فيها بأبي وأمي اهتماماً عظيماً فأمر أصحابه بالتهيؤ لها وحضهم على ذلك، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهافاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم، فلم يُبق أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار، كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم، إلا وقد عبأه بالجيش…فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف، ثم تثاقلوا هناك فلم يبرحوا، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم… وطعن قوم منهم في تأمير أسامة كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقالوا في ذلك فأكثروا مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة… حتى غضب صلّى الله عليه وآله من طعنهم غضباً شديداً، فخرج بأبي وأمي معصب الرأس مدثراً بقطيفته محموماً ألماً…فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال فيما أجمع أهل الأخبار على نقله واتفق أولوا العلم على صدوره: أيها الناس ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله! وأيم الله إنه كان لخليقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق بها! وحضهم على المبادرة إلى السير فجعلوا يودعونه ويخرجون إلى العسكر بالجرف وهو يحضهم على التعجيل.
ثم ثقل في مرضه فجعل يقول: جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة، أرسلوا بعث
< صفحة > 470 < / صفحة >
أسامة.. لعن الله من تخلف عنه… وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السير أولاً، وتخلفوا عن الجيش أخيراً، ليحكموا قواعد سياستهم ويقيموا عمدها، ترجيحاً منهم لذلك على التعبد بالنص.
وإنما أمَّر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة، لَيّاً لأعنِة البعض، ورداً لجِمَاح أهل الجماح منهم، واحتياطاً على الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس.. لكنهم فطنوا إلى ما دبر صلّى الله عليه وآله فطعنوا في تأمير أسامة وتثاقلوا عن السير معه، فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبي صلّى الله عليه وآله بربه…
فهذه خمسة أمور في هذه السرية لم يتعبدوا فيها بالنصوص الجلية،إيثاراً لرأيهم في الأمور السياسية، وترجيحاً لاجتهادهم فيها على التعبد بنصوصه صلّى الله عليه وآله ».
**

الشدة العشرون: لما منعوه أن يكتب عهده!

عرف مخالفوا علي عليه السلام أن النبي صلّى الله عليه وآله يريد أن يكتب عهده وينص فيه على خلافة علي والحسن والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين عليهم السلام .
وطلب أن يحضر من حضر من أصحابه، وكان، أول الحاضرين المتخلفین عن جيش أسامة، فكثفوا حضورهم واحتشد الطلقاء في المسجد والسكة، ولما طلب منهم النبي صلّى الله عليه وآله أن يحضروا دواة وقرطاساً ليكتب لهم كتاباً إن عملوا به لايضلون من بعده، فتصدى له عمر ورد عليه واتهمه بأنه قد خرف، وصاح الطلقاء: القول ما قاله عمر، ومنعوه أن يكتب عهده، فغضب وطردهم وقال: قوموا عني!وقد روت كل المصادر حديث الإنقلاب على النبي صلّى الله عليه وآله الذي قاده عمر بمناصرة طلقاء قريش، فقد وقف في وجه النبي صلّى الله عليه وآله في مرضه وردَّ عليه ومنعه أن يكتب لأمته عهداً يُؤمِّنُها من الضلال، ويجعلها سيدة العالم! فقدصاح عمر: حسبنا كتاب الله.. وصاح خلفه الطلقاء: القول ما قاله عمر، لا تقربوا له شيئاً!
قال البخاري(١/٣٦): «عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلّى الله عليه وآله وجعه قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا! فاختلفوا: وكثر اللغط! قال صلّى الله عليه وآله : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين كتابه ».
< صفحة > 471 < / صفحة >
«فلما أكثروا اللغو والإختلاف قال رسول الله: قوموا». (بخاري:٥/١٣٧).
وفي مسلم:٥/٧٥: «عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ! قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقالوا: إن رسول الله يهجر! وفي رواية أخرى: فقال عمر: إن رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله».
وفي مسند أحمد(٣/٣٤٦):« دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لايضلون بعده قال فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها »!
وفي مجمع الزوائد(٩/٣٣): «عن عمر بن الخطاب قال:لما مرض النبي قال: أدعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لاتضلون بعدي أبداً، فكرهنا ذلك أشد الكراهة! ثم قال: أدعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لاتضلون بعده أبداً! فقال النسوة من وراء الستر: ألاتسمعون ما يقول رسول الله؟ فقلت: إنكن صواحبات يوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن وإذا صح ركبتن رقبته. فقال رسول الله: دعوهن فإنهن خير منكم»!
وقد وصف المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب/١٨٢، أجواء المواجهة في كتابه القيِّم: عدالة الصحابة، فكتب تحت عنوان: المواجهة الصاخبة..وقد تقدم الحديث فیها في فصل رزية يوم الخميس.
وقال المحامي الأردني: برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت أن تحول بين النبي وبين كتابة ما يريد، واستطاعت أن تستقطب لرأيها عدداً كبيراً من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور النبي نفسه »! انتهى كلامه.
أقول: جاء انقلاب يوم الخميس نتيجة صراع قريش مع النبي صلّى الله عليه وآله الذي أخذ منحى جديداً بعد فتح مكة، فقد قرر زعماء البطون أن يخوضوا مع النبي صلّى الله عليه وآله المواجهة حول خلافته بزعامة عمر! وكثفوا وجود الطلقاء في المدينة لشد ظهر عمر فبلغوا ألوفاً! لأن الذين كتب النبي صلّى الله عليه وآله أسماءهم في جيش أسامة كانوا سبع مئة قرشي! «فتح الباري:٨/١١٦».
وقد أخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله أن أمته ستختلف بعده كالأمم السابقة: « وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ». (البقرة: ٢٥٣).
< صفحة > 472 < / صفحة >
فكان النبي صلّى الله عليه وآله يؤكد على مكانة أهل بيته عليهم السلام ويحذر أمته أن يرتدوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، لأجل الحكم والخلافة! وخطب فيهم في حجة الوداع خمس خطب بيَّنَ فيها كل ما ينبغي بيانه وبشرهم بالأئمة الإثني عشر عليهم السلام من عترته بعده، وأكد على وجوب اتباعهم وإلا وقعوا في الضلال والإنهيار!
وفي خطبته السادسة بغديرخم أخذ بيد علي عليه السلام وأصعده المنبر وأعلنه خليفته، وأمرهم أن يهنئوه ويبايعوه ففعلوا، وكان عمر أول المهنئين! فقال كما في حديثهم الصحيح: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ».
وفي مرض وفاته صلّى الله عليه وآله أمره ربه عز وجل أن يدعو من حضر من أصحابه ويتم عليهم الحجة، فعرض عليهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته! أن يضمن لهم أن يكونوا سادة العالم إلى يوم القيامة، بشرط أن يقبلوا حكم الله ورسوله ويلتزموا بتنفيذ عهد يكتبه لهم! فانبرى له عمر بالنيابة عن قريش فرد عليه، وأعلن رفضهم لعرضه! فشد ظهر عمر أكثر الحاضرين وصاحوا في وجهه صلّى الله عليه وآله : القول ما قاله عمر، أي لا نريد أن تكتب لنا كتاباً، ولا نريد أمانك من الضلال! فقد غلب عليك الوجع وفقدت الصلاحية العقلية فأنت تهذي! فردوا عليه وأهانوه صلّى الله عليه وآله ، وحكموا عليه بأنه فقد عقله فهو يهذي! واختاروا الضلال عن عمد وإصرار، وأن يصادروا من نبيهم صلّى الله عليه وآله قيادة الأمة ويعطوها إلى عمر، زعيم قريش الجديد!
واضطر النبي المظلوم صلّى الله عليه وآله إلى السكوت، لأنهم خيروه بين الكف عن كتابة عهده وبين أن يعلنوا الردة، وأنه ليس نبياً بل أراد تأسيس ملك لأسرته بطن بني هاشم كملك كسرى وقيصر! فاليوم ابن عمه علي ابن الثلاث وثلاثين سنة ثم من بعده أولاد ابنته الذين هم دون العاشرة، وإن دخلت الخلافة فيهم فلن تخرج منهم، ولن يصل إلى قبائل قريش شئ، وهذا ظلم لقريش ما بعده ظلم! لهذا، تنطع بتخويل زعماء قريش، وواجه النبي صلّى الله عليه وآله بالقول إن بني هاشم تكفيهم النبوة، والخلافة يجب أن تكون لبقية البطون، وبنو هاشم فيها كغيرهم لا أكثر!
قال عمر لعبد الله بن عباس(شرح النهج(١٢/٢١): (يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه (علي) شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول الله نص عليه؟ قلت: نعم، وأزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال: صدق. فقال عمر: لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ
< صفحة > 473 < / صفحة >
(طرف) من قول لايثبت حجة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما،ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام!
لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك). ثم قال ابن أبي الحديد: (ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً).
وهكذا اعتبرت قريش أنها انتصرت على النبي صلّى الله عليه وآله في مرض وفاته، فمنعته من كتابة عهده لعترته! وما أن أغمض عينيه صلّى الله عليه وآله حتى سارعت بالصفق على يد خليفتها، وأسست نظام الخلافة القرشي على قانون الغلبة والتسلط!
وفتحت بذلك صراعاً على السلطة لم تعرف أمة بعد رسولها أكثر منه سفكاً للدماء! وكان نتيجة هذا النظام بعض فتوحات على غير منهج، ثم غلبة غلمان بني أمية على الخلافة، ثم غلمان بني العباس، ثم غلمان الشراكسة والعثمانيين، حتى انهارت الخلافة ودفنها الغربيون في استانبول!

أعلن النبي صلّى الله عليه وآله في الحج اللعنة على من عصاه في أهل بيته!

كان النبي صلّى الله عليه وآله أطلق هذه المقولة مرات في خطبه في حجة الوداع، لكنه هذه المرة أرسل علياً ليصعد منبره في المسجد، ويطلق هذه اللعن النبوية!
وقد استعمل النبي صلّى الله عليه وآله أسلوباً لتبليغ هذه العقيدة، جعل قريشاً ترويه ولا تفهمه، حتى يأتي غيرها ويفهمها إياه فتفيق!
فقد أطلق لعنة الله وملائكته والناس أجمعين ولعنته هو على من ادعى لغير أبيه، أو تولى غير مواليه، أو منع أجيراً أجره! ويقصد أبوته وعلياً عليه السلام للأمة، وبالأجير نفسه، وبأجره طاعة عترته عليهم السلام .
ورواه أحمد في مسنده (٤/١٨٧): ( ألا ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، أو عدلاً ولا صرفاً). وبألفاظ أخرى/٢٣٨ و ١٨٦و:٤/٢٣٩.
ورواه البخاري (٢/٢٢١، و:٤/٦٧) بلفظ: (والمدينة حرم ما بين عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومن
< صفحة > 474 < / صفحة >
تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك).
وفي سنن ابن ماجة(٢/٩٠٥): عن عمرو بن خارجة أن النبي صلّى الله عليه وآله خطبهم وهو على راحلته وإن راحلته لتقصع بجرانها، وإن لغامها ليسيل بين كتفي، قال: ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ).
وفي سنن الترمذي(٣/٢٩٣): عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول في خطبته عام حجة الوداع..مثله. والدارمي(٢/٢٤٤ و٣٤٤) وغيره.
وهي عقوبة أخروية، تتناسب مع مسؤولية النبي صلّى الله عليه وآله في التبليغ، والشهادة على الأمة. وقد جاءت بصيغة قرار من الله تعالى قاطع بلعن المخالفين لرسوله صلّى الله عليه وآله في أهل بيته، وطردهم من الرحمة الإلهية، وحكماً عليهم بعدم قبول توبتهم نهائياً، واستحقاقهم العذاب في النار.
ومقصوده بالأبوة: أبوته هو المعنوية للأمة، وبالولاء: ولايته وولاية أهل بيته عليها، وليس مراده الأبوة النسبية ولا ولاء المالك لعبده، لکنها أقوی الأبوات!
والدليل على أن هذا مقصوده صلّى الله عليه وآله أن الولد لو هرب من أبيه، ونسب نفسه الى والد آخر، ثم تاب فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل!
ولو أن مملوكاً هرب من سيده ولجأ إلى شخص وادعى أنه سيده، ثم تاب، أوشخصاً منع أجيراً أجرته ثم تاب وأعطاه، فقد أجمعوا على قبول توبتهم!
بينما هذا الشخص في الحديث النبوي مصبوب عليه الغضب الإلهي واللعنة إلى الأبد: (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً). والصرف التوبة، والعدل الفدية، فهي عقوبة لاتكون إلا لحالة الخيانة العظمى كالموت على الردة والشرك ونحوهما،ولايعقل أن تكون لولدٍ يدعو نفسه لغير أبيه، أو لعبد يدعو نفسه لغير سيده!
ويؤيد ذلك تصريح بعض رواياتها بكفر من يفعل ذلك وخروجه من الإسلام!
ففي سنن البيهقي: ٨/٢٦، ومجمــــــع الزوائد:١/٩، وكنز العمال:٥/٨٧٢ و (١٠/٣٢٤) (فقد خلع ربقــــــة الإسلام من عنقــــــه.
أحمد عن جابر). وفي/٣٢٦: من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتاً في النار. ابن جرير عن عائشة). وفي/٣٢٧: (من تولى غير مواليه فقد كفر. ابن جرير عن أنس). وفي:١٦/٢٥٥: فهو كافر بما أنزل الله على رسوله)!
< صفحة > 475 < / صفحة >

ولما منعوه أن يكتب عهده أرسل علياً عليه السلام ليعلن لعنته!

ومنها ما رواه الطوسي في أماليه/١٢٣، والمفيد في أماليه/٣٥١: ( أخبرنا محمد بن محمد، قال: أخبرني أبوبكر محمد بن عمر الجعابي، قال: حدثنا أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال: حدثنا أبوعوانة موسى بن يوسف القطان الكوفي، قال: حدثنا محمد بن سليمان المقرئ الكندي، عن عبد الصمد بن علي النوفلي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأصبغ بن نباتة السعدي، قال: لما ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام غدونا عليه نفر من أصحابنا، أنا والحارث وسويد بن غفلة وجماعة معنا، فقعدنا على الباب فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج إلينا الحسن بن علي عليهما السلام فقال: يقول لكم أمير المؤمنين: انصرفوا إلى منازلكم، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله، فبكيت وخرج الحسن عليه السلام وقال: ألم أقل لكم انصرفوا. فقلت: لا والله يا ابن رسول الله ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أن انصرف حتى أرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه. قال: وبكيت. فدخل فلم يلبث أن خرج فقال لي: أدخل، فدخلت على أمير المؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند، معصوب الرأس بعمامة صفراء، قد نزف واصفر وجهه، ما أدري وجهه أصفر أم العمامة، فأكببت عليه فقبلته وبكيت فقال لي: لا تبك يا أصبغ، فإنها والله الجنة. فقلت له: جعلت فداك، إني أعلم والله أنك تصير إلى الجنة، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين. جعلت فداك حدثني بحديثي سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً.قال: نعم يا أصبغ، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً فقال لي: يا علي، إنطلق حتى تأتي مسجدي ثم تصعد منبري ثم تدعو الناس إليك فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاة كثيرة، ثم تقول: أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي، على من انتمى إلى غير أبيه أو ادعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.
فأتيت مسجده صلّى الله عليه وآله وصعدت منبره، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي، فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسول الله صلّى الله عليه وآله صلاة كثيرة، ثم قلت: أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيرا أجره.
< صفحة > 476 < / صفحة >
قال: فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب، فإنه قال: قد أبلغت يا أبا الحسن، ولكنك جئت بكلام غير مفسر. فقلت: أبلغ ذلك رسول الله فرجعت إلى النبي صلّى الله عليه وآله فأخبرته الخبر، فقال: إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري فاحمد الله واثن عليه، وصل عليَّ ثم قل: يا أيها الناس، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره، ألا وإني أنا أبوكم، ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم. ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم).
ومنها ما رواه فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره/٣٩٢، قال: (حدثنا عبد السلام بن مالك قال: حدثنا محمد بن موسى بن أحمد قال: حدثنا محمد بن الحارث الهاشمي قال: حدثنا الحكم بن سنان الباهلي، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لفاطمة بنت الحسين عليه السلام : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث، واحتج به على الناس. قالت: نعم، أخبرني أبي أن النبي صلّى الله عليه وآله كان نازلاً بالمدينة، وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله فريضة يستعين بها على من أتاه، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وقالوا: قد رأينا ما ينوبك من النوائب، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك. قال: فأطرق النبي صلّى الله عليه وآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئت به شيئاً، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشيئ، وإن أمرت به أعلمتكم. قال: فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك، وقد أنزل الله عليهم فريضة: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. قال فخرجوا وهم يقولون: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء، وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد المطلب. قال: فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل: أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار، ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار! قال فقام رجل وقال:يا أبا الحسن ما لهن من تأويل؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله فأخبره، فقال رسول الله: ويل لقريش من تأويلهن، ثلاث مرات!
ثم قال:يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين، وأنا وأنت أبوا المؤمنين).
أقول: لايصح أن يكون قول: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء لبني عبد المطلب. من
< صفحة > 477 < / صفحة >
كلام لأنصار الذين جاؤوا ليبذلوا ثلث أموالهم للنبي صلّى الله عليه وآله ، فلم ينطقوا يوماً بحرف من نوع هذا الكلام. بل الذين قالوا ذلك هم الطلقاء، لما أخبرهم الأنصار بمجلسهم مع النبي صلّى الله عليه وآله ، ونزول آية المودة في قرباه.
**

الشدة الحادية والعشرون: الأيام الثلاثة الأخيرة أشد أيام حياته صلّى الله عليه وآله !

في كل يوم كان يقول لجبرئيل: أجدني مغموماً مكروباً

روى الجميع حديثاً مهماً وبعض طرقه عندهم صحيحة، فقد رواه ابن سعد والبيهقي والشافعي في مسنده، وبقي بن مخلد في جزئه وغيرهم، وروته مصادرنا مستفيضاً كالصدوق في أماليه، وغيره. ووثق الصالحي في سبل الهدى (١٢/٢٦٣) حديث بقي بن مخلد، قال:( لما كان قبل وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله بثلاثة أيام هبط جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقال:يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك، ليسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً!! فلما كان اليوم الثاني هبط إليه جبريل فقال: يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً!!
فلما كان اليوم الثالث هبط جبريل.. فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك، يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً.
وفي حديث أبي الحويرث عند البيهقي: قال له: إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: إن شئت شفيتك وكفيتك، وإن شئت توفيتك، وغفرت لك قال: ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء.
ثم استأذن لملك الموت وكان على الباب، فقال جبريل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي كان قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال: إئذن له، فدخل.
فوقف بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك فيما أمرتني، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها يا أحمد، وإن أمرتني أن أتركها تركتها قال: وتفعل ذلك يا
< صفحة > 478 < / صفحة >
ملك الموت؟ قال نعم، بذلك أمرت أن أطيعك في كل أمرتني، فقال جبريل: يا أحمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك. فقال:يا ملك الموت إمض لما أمرت به..).
وفي أمالي الصدوق/ ٣٨٤، أنه دخل على الإمام زين العابدين عليه السلام رجلان من قريش فقال: ألا أحدثكما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ فقالا: بلى حدثنا عن أبي القاسم. قال : سمعت أبي عليه السلام يقول : لما كان قبل وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله ثلاثة أيام هبط عليه جبرئيل فقال : يا أحمد، إن الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك وخاصة، يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك يا محمد؟ قال النبي صلّى الله عليه وآله : أجدني يا جبرئيل مغموماً وأجدني يا جبرئيل مكروباً!
[فلماكان اليوم الثاني هبط إليه جبريل فقال: يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك يقول لك كيف تجدك فقال: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً.
فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل وملك الموت، ومعهما ملك يقال له إسماعيل في الهواء على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبرئيل عليه السلام فقال: يا أحمد، إن الله عز وجل أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك خاصة، يسألك عما هو أعلم به منك، فقال : كيف تجدك يا محمد؟ قال : أجدني يا جبرئيل مغموماً، وأجدني يا جبرئيل مكروباً!
فاستأذن ملك الموت فقال جبرئيل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك لم يستأذن على أحد قبلك، ولايستأذن على أحد بعدك.. الخ.
وفي الإرشاد/١٨٧: « ثم قضى صلّى الله عليه وآله ويد أمير المؤمنين عليه السلام اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها، ثم وجَّهَه وغمضه ومد عليه إزاره، واشتغل بالنظر في أمره ».

حديث المغموم المكروب يجعل الولدان شيباً!

وكيف لايشيب المسلم وهو يرى نبيه صلّى الله عليه وآله بعد أن رفضت أمته أن يكتب لها عهده يعيش أشد ثلاثة أيام عليه من يوم خميس الرزية الى الإثنين، ويغادر أمته وهو مملوء منها غماً وكرباً لأنها انقلبت عليه في حياته، وأصرت على معصيته، ورفضت أن يكتب لها ما يؤمنها من الضلال ويجعلها سيدة الأمم!
< صفحة > 479 < / صفحة >
كان يرى صلّى الله عليه وآله أن جهود ثلاث وعشرين سنة في بناء الأمة والدولة وإرساء قواعد الإسلام، قد سطت عليها قريش في حياته جهاراً نهاراً، وقررت أن تأخذ سلطانه وتنحرف برسالته، وأن تضطهد عترته من بعده!
وتذكر روحي فداه يوم ذهب الى المسجد، وبيده تربة الحسين عليه السلام وأخبرهم بأنهم سيقتلونه! ثم جاء بالحسين ثانية وثالثة وأخبرهم وحذرهم!
ثم لخصت المشهد فاطمة عليها السلام لما دخلت على أبيها في مرض وفاته وانفجرت باكية بين يديه، وعلا صوتها، كما رواه الطبراني في معجمه الكبير(٣/٥٧) والأوسط (٦/٣٢٧) وأبونعيم وغيره، بإسنادهم عن أبي سعيد الخدري وعن جابر الأنصاري قال: (دخلتُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله في شكاته التي قبض فيها، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه، قال فبكت حتى ارتفع صوتها، فرفع رسول الله طرفه إليها فقال:حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك؟فقالت: أخشى الضيعة من بعدك! فقال: يا حبيبتي أما علمت أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض إطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك، وأوحى إلي أن أنكحك إياه! يا فاطمة: ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم يُعْطَها أحد قبلنا..الخ.).
وفي رواية سلمان (كمال الدين/٢٦٢):(فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء، ثم قال: يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا..الخ).وقد تقدم في فصل إخبار النبي صلّى الله عليه وآله بظلم أمته لأهل بيته عليهم السلام .
وفي أمالي الطوسي/١٨٨: ( عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي وما يصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه يا أبتاه، فلايعينها أحد من أمتي).
وروى المحب الطبري في الرياض النضرة (٣/١٨٤): (عن علي عليه السلام قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وآله في بعض طرق المدينة فمررنا على حديقة فقلت يا رسول الله: ما أحسن هذه الحديقة؟ قال: لك في الجنة أحسن منها. ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت: يا رسول الله ما أحسنها! قال: لك في الجنة أحسن منها، حتى أتينا على سبع حدائق، أقول يا رسول الله ما أحسنها: فيقول: لك في الجنة أحسن منها. وفي رواية فلما خلى الطريق اعتنقني وأجهش باكياً
< صفحة > 480 < / صفحة >
فقلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: ضغائن في صدور أقوام لايبدونها لك إلا من بعدي! فقلت: في سلامة من ديني؟فقال: في سلامة من دينك).
قال المحب الطبري: أخرجه أحمد فى المناقب. ورواه في مجمع الزوائد (٩/١١٨) بروايات وثق بعضها.وكنز العمال(١٣/١٧٦) عن البزار وابن النجار، ورواه البلاذري(٤/٥) والخوارزمي في المناقب/٦٥، وابن حجر في المطالب العالية (١٦/١٠١) وتاريخ دمشق(٤٢/٣٢٢) وفي/٣٢٤، وفيه: ( قال ضغائن في صدور أقوام لايبدونها لك حتى أفارق الدنيا! فقال علي:فما أصنع يا رسول الله؟قال: تصبر). وقال في الصحيح من السيرة (٣١/١٤٢):(وفي بعض المصادر: أن ذلك كان منه صلّى الله عليه وآله حين حضرته الوفاة).
وفي أمالي المفيد/ ٢٨٨، عن علي عليه السلام قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله :(إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان. يا علي إن الهدى هو اتَّباع أمر الله دون الهوى والرأي، وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن وأخذوا بالشبهات، واستحلوا الخمر بالنبيذ، والبخس بالزكاة، والسحت بالهدية! قلت: يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك أهم أهل ردة أم أهل فتنة؟ قال: هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل! فقلت: يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا؟ فقال: بل منا، بنا يفتح الله وبنا يختم، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة، فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله).
ومقصود النبي صلّى الله عليه وآله أن الله فتح الخير بنبوته فألف بين القلوب بعد الشرك، وسيختم بولده المهدي عليه السلام فيؤلف بين القلوب بعد الفتنة!
**
< صفحة > 481 < / صفحة >

الفصل السبعون : إتمام النبي صلّى الله عليه وآله الحجة على خصوم علي عليه السلام

مواقف نبوية لرد خصوم علي عليه السلام

١. هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا

هذه فقرة من حديث الدار المعروف، في أول بعثة النبي صلّى الله عليه وآله لما جمع بني هاشم وأخبرهم بنبوته، وطلب منهم أن يسلموا وأن يتفرغ شخص منهم ليكون عضده في الدعوة. وقد أوردناه في فصل بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله لما نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ورويناه نحن مستفيضاً وقال المفيد أجمع النقاد على صحته، ورواه عدد من علماء السنة منهم الطبري في تاريخه (٢/٦٢) بسنده عن ابن عباس، عن علي عليه السلام قال:(لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، دعاني رسول الله فقال لي: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول ورسول الله صلّى الله عليه وآله حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى مالهم بشئ حاجة، وما أرى إلا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: إسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً. وأيم الله إن كان الرجل الواحد
< صفحة > 482 < / صفحة >
منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقدماً سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله !
فقال الغد: يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعُدَّ لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إليَّ. قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعا بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة. ثم قال: إسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال:
يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)!
أقول: الحديث كما ترى نص على خلافة علي عليه السلام في أول بعثة النبي صلّى الله عليه وآله ، ولهذا لايروق لأتباع أصحاب السقيفة، ويحرفه رواتهم فيحذفون منه، فقد رواه الطبري في تاريخه وفيه:(ثم قال:إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا). ورواه في تفسيره وفيه: (ثم قال: إن هذا أخي، وكذا وكذا! وتبعه ابن كثير في البداية والنهاية (٣ /٤٠) وتفسيره(٣ /٣٥١ !).
كما أن محمد حسين هيكل أورده من تاريخ الطبري في كتابه حياة محمد في الطبعة الأولى في الصفحة/١٠٤، ثم عاد فحذف من الطبعة الثانية /١٣٩ سنة ١٣٥٤، واقتصر على قوله: ويكون أخي ووصيي، وذلك بطلب سفارة السعودية في القاهرة لقاء خمس مائة جنيه، أو لقاء شراء ألف نسخة من كتابه (ذكر ذلك الشيخ محمد جواد مغنية في: فلسفة التوحيد والولاية/١٧٩).

٢. غضبَ النبي صلّى الله عليه وآله من خصوم علي عليه السلام وأعدائه مرات

فتح النبي صلّى الله عليه وآله مكة فخضع له القرشيون في الظاهر، فجمعهم ووبخهم فأعلنوا إسلامهم وطلبوا منه العفو فعفا عنهم، وعين على مكة حاكماً مسلماً من بني أمية. لكن بطون قريش
< صفحة > 483 < / صفحة >
بكبريائهم رفضوا أن يكونوا خاضعين للنبي صلّى الله عليه وآله وحاكمه في مكة، فعزلوا أبا سفيان عن قيادتهم بحجة أنه تواطأ مع النبي صلّى الله عليه وآله وأدخله مكة، ونصبوا سهيل بن عمرو لأنه أشد عداء للنبي، فقاد البطون وشلَّ عمل حاكم مكة، وكانت علاقته وثيقة مع أبي بكر وعمر وقد تعاونوا في العمل لأخذ خلافة النبي صلّى الله عليه وآله وعزل بني هاشم عزلاً كاملاً. وأول ما قاموا به أنهم كثفوا وجود بطون قريش في المدينة، فنقلوا اليها خمسة آلاف من الطلقاء، فصاروا نصف سكان المدينة وأكثر.
وأول ما قاموا به في المدينة حملة لتسقيط بني هاشم، فكانوا يقولون في مجالسهم وأمام الأنصار: إن بني هاشم زبالة ومثَل محمد فيهم كنخلة نبتت في كناسة أو في كبا أي مزبلة! ويقولون إن النبي لا يحبهم ولا يشفع لهم يوم القيامة، ويقول إن آل طالب ليسوا بأوليائي! وبلغ الأمر بهم أنهم إذا دخل عليهم هاشمي أو رأوه قطبوا وجوههم له، يظهرون نفرتهم منه واحتقاره!
روى الترمذي(٥/٣١٧) وغيره قال:(إن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله مغضباً وأنا عنده فقال: ما أغضبك؟ قال يا رسول الله ما لنا ولقريش! إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة وإذا لقونا لقونا بغير ذلك! قال فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى احمر وجهه، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله »!
فغضب النبي صلّى الله عليه وآله وصعد المنبر وبين فضل بني هاشم وبني عبد المطلب خاصة، وأن الله اختارهم، وفي مرة أمر بالنداء الى الصلاة جامعة فخطب وأفاض وأطال وتحدى من انتقص أسرته بني هاشم أن يقوم ويسأله من أبوه وكان جبرئيل الى جنبه! وقد جمعنا روايتها من مصادرهم في كتاب: ألف سؤال وإشكال(١/١٧٩) بعنوان: عقدة بطون قريش من بني هاشم!
هذا، ولو أردنا استقصاء فعاليات الطلقاء في المدينة ومكة في هاتين السنتين بعد فتح مكة، ومواجهة النبي صلّى الله عليه وآله لها، لبلغ ذلك مجلداً أو نحوه!
وقد ركزت قريش حملتها الحاقدة على علي عليه السلام خاصة لإسقاط شخصيته، والإنتقام منه لقتله زعماء البطون وأبطالهم، مقدمة لعزله بعد النبي صلّى الله عليه وآله !
ففي الفضائل لشاذان بن جبرئيل/١٣٤: (عن أبي ذر والمقداد وسلمان قالوا قال لنا أمير المؤمنين: إني مررت بالصهاكي يوماً فقال لي ما مثل محمد في أهل بيته إلا كمثل نخلة نبتت في كناسة قال:
< صفحة > 484 < / صفحة >
فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله فذكرت ذلك له فغضب غضباً شديداً فقام فخرج مغضباً وصعد المنبر ففزعت الأنصار ولبسوا السلاح لما رأوا من غضبه، ثم قال: ما بال أقوام يعيرون أهل بيتي وقد سمعوني أقول في فضلهم ما أقول،وخصصتهم بما خصهم الله تعالى به، وفضل علياً عليهم لسبقه إلى الإسلام وبلائه وإنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي. ثم إنهم يزعمون أن مثلي في أهل بيتي كمثل نخلة نبتت في كناسة!
ألا إن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه وفرقهم فرقتين وجعلني في خيرها شَعباً وخيرها قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً، حتى حصلت في أهل بيتي وعشيرتي وبنى أبي أنا وأخي علي بن طالب. ثم إن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارني منهم. ثم اطلع عليهم ثانية فاختار أخي وابن عمي ووزير ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي ومولى كل مؤمن ومؤمنة من بعدي، فمن والاه فقد والاني ومن عاداه فقد عاداني، ومن عاداني فقد عادى الله. ومن أحبه فقد أحب الله تعالى، ومن أبغضه فقد أبغض الله تعالى، فلا يحبه الا مؤمن ولا ولا يبغضه الا كافر، فهو زين الأرض بعدى وزين من سكنها وهو كلمة الله التقوى وعروته الوثقى. ثم قال: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ.
أيها الناس: ليبلغ مقالتي الشاهد منكم الغائب، اللهم اشهد عليهم. إن الله عز وجل نظر الى أهل الأرض نظرة ثالثة فاختار منها أحد عشر إماماً وهم من أهل بيتي خيار أمتي بعد أخي علي، كلما هلك منهم واحد قام آخر، كمثل نجوم السماء كلما غاب نجم طلع آخر، وهم أئمة هادون مهديون لا يضرهم كيد من كادهم، ولا خذلان من خذلهم. لعن الله من كادهم ومن خذلهم. هم حجج الله تعالى في أرضه وشهداؤه على خلقه، من أطاعهم فقد أطاع الله تعالى ومن عصاهم فقد عصى الله تعالى. ثم هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه، حتى يردوا عليَّ الحوض، أولهم ابن عمي علي بن أبي طالب، وهو خيرهم وأفضلهم، ثم ابني الحسن ثم ابني الحسين وأمهم فاطمة ابنتي، ثم تسعه من ولد الحسين ثم بعدهم جعفر بن أبي طالب ثم عمي حمزة بن عبد المطلب.
أنا خير النبيين والمرسلين وعليٌّ خير الوصيين وأهل بيتي خير بيوت أهل النبيين، وفاطمة ابنتي سيدة نساء أهل الجنة أجمعين.
< صفحة > 485 < / صفحة >
أيها الناس أترجون شفاعتي لكم، وأعجز عن أهل بيتي!
أيها الناس: ما من أحد غداً يلقى الله تعالى مؤمناً لا يشرك به شيئاً إلا أجره الجنة، ولو أن ذنوبه كتراب الأرض.
أيها الناس: لو أخذت بحلقه باب الجنة ثم تجلى لي الله عز وجل فسجدت بين يديه، ثم أذن لي في الشفاعة لم أؤثر على أهل بيتي أحداً.
أيها الناس: عظموا أهل بيتي في حياتي وبعد مماتي وأكرموهم وفضلوهم.لا يحل لأحد أن يقوم لأحد غير أهل بيتي فانسبوني من أنا.
قال: فقام الأنصار وقد أخذوا بأيدهم السلاح وقالوا: نعوذ الله من غضب الله وغضب رسوله، أخبرنا يا رسول الله من آذاك يا رسول الله من آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه!
قال: أنا محمد بن الله عبد المطلب ثم انتهى بالنسب إلى نزار، ثم مضى إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، ثم مضى منه إلى نوح. ثم قال: أنا وأهل بيتي كطينة آدم، نكاح غير سفاح.
سلوني، والله لا يسألني رجل إلا أخبرته عن نسبه وعن أبيه! فقام إليه رجل فقال: من أنا يا رسول الله؟ فقال أبوك فلان الذي تدعى إليه!
ثم قال صلّى الله عليه وآله والغضب ظاهر في وجهه: ما يمنع هذا الرجل الذي يعيب على أهل بيتي وأهلي وأخي ووزيري وخليفتي من بعدي وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي، أن يقوم ويسألني عن أبيه أين هو في جنة أم في نار؟
قال: فعند ذلك خشي الثاني على نفسه أن يذكره رسول الله ويفضحه بين الناس. فقام وقال نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، ونعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، أعف عنا عفا الله عنك، أقلنا أقالك الله، أسترنا سترك الله، إصفح عنا جعلنا الله فداك فاستحيا النبي صلّى الله عليه وآله ، وسكت فإنه كان من أهل الحلم وأهل الكرم وأهل العفو. ثم نزل)!
**
أقول: غضب النبي صلّى الله عليه وآله من ذلك مراراً وشدد دفاعه عن علي عليه السلام ، وخطب أكثر من مرة مبيناً مكانته وفضله عليه السلام ، ونفاق من يؤذيه ويبغضه، أو كفره!
< صفحة > 486 < / صفحة >
وكان في كل مرة يطلق مقولاته الفريدة في علي عليه السلام .
فمرة يقول: من آذى علياً فقد آذاني، فقد روى أحمد(٣/٤٨٣) والحاكم والطبراني: (عن عمرو بن شاس الأسلمي قال، وكان من أصحاب الحديبية: خرجت مع علي إلى اليمن فجفاني في سفري ذلك حتى وجدت في نفسي عليه فلما قدمت أظهرت شكايته في المسجد، حتى بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله فدخلت المسجد ذات غدوة ورسول الله صلّى الله عليه وآله في ناس من أصحابه فلما رآني أبدني عينيه يقول حدد إلى النظر، حتى إذا جلست قال: يا عمرو والله لقد آذيتني! قلت: أعوذ بالله أن أوذيك يا رسول الله! قال: بلى من آذى علياً فقد آذاني).
وصحح الهيثمي(٩/١٢٩):(عن سعد قال: كنت جالساً في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي! فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله غضبان يعرف في وجهه الغضب فتعوذت بالله من غضبه فقال:مالكم ومالي! من آذى علياً فقد آذاني)!
ومن طرقنا روى الطوسي في أماليه بسند صحيح عندهم/١٣٣: (عن زر بن حبيش، قال: كانت عصابة من قريش في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله ، فذكروا علي بن أبي طالب وانتهكوا منه، ورسول الله صلّى الله عليه وآله قائل في بيت بعض نسائه، فأتيَ بقولهم فثار من نومه في إزار ليس عليه غيره، فقصد نحوهم ورأوا الغضب في وجهه فقالوا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. فقال رسول الله: ما لكم وعلي! أما تدعون علياً، ألا إن علياً مني وأنا منه، من آذى علياً فقد آذاني، من آذى علياً فقد آذاني).
ومرة يقول: كذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً. (أمالي الصدوق/١٨٧). ومن أبغض علياً فقد أبغضني. (الحاكم(٣/١٣٠) وصححه بشرط الشيخين قال: (قال رجل لسلمان: ما أشد حبك لعلي! قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول من أحب علياً فقد أحبني ومن أبغض علياً فقد أبغضني).

ومرة يقول لهم: علي مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي!

واشتهر منه حديث بريدة الأسلمي الذي روته عامة مصادرهم وصححوه، قال بريدة (مسند أحمد:٥/٣٥٦): (بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله بعثين إلى اليمن على أحدهما علي بن أبي طالب وعلى الآخر خالد بن الوليد فقال إذا التقيتم فعليٌّ على الناس وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده.
< صفحة > 487 < / صفحة >
فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية فاصطفى علي امرأة من السبي لنفسه. قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله
يخبره بذلك فلما أتيت النبي صلّى الله عليه وآله دفعت الكتاب فقرئ عليه فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقلت يا رسول الله هذا مكان العائذ بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه ففعلت ما أرسلت به! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي، وإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي) وكررها.
وفي فتح الباري(٨/٥٣):(وأخرجه أحمد أيضاً والنسائي من طريق سعيد بن عبيدة عن عبد الله بن بريدة مختصراً وفي آخره فإذا النبي صلّى الله عليه وآله قد احمرَّ وجهه يقول: من كنت وليه فعلى وليه. وأخرجه لحاكم من هذا الوجه مطولاً وفيه قصة الجارية نحو رواية عبد الجليل. وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً).

ومرة يقول لهم: من أحب علياً فهو مؤمن، ومن أبغض علياً فهو منافق

وقال ابن مسعود:سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول:من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض علياً، فهو كاذب ليس بمؤمن).(أمالي الطوسي/٢٤٩).
وقال ابن أبي شيبة (٧/٥٠٣):(عن أم سلمة قالت:سمعت رسول الله يقول: لايبغض علياً مؤمن، ولايحبه منافق).وأحمد:١/٩٥, والترمذي :٥/٣٠٦ والنسائي:٨/١١٦)
والعجب من ابن حجر على علمه ومكانته يشهد بصحة الحديث ثم يحرف معناه! قال في فتح الباري(١/٦٠): (ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي صلّى الله عليه وآله قال له:لايحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. وهذا جار باطراد في أعيان الصحابة! لتحقق مشترك الإكرام لما لهم من حسن العناء في الدين. قال صاحب المفهم: وأما الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة. ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد)!
فقد خرب مقصود النبي صلّى الله عليه وآله من البغض واستثنى منه بغض الصحابة! وجعل الحب يشمل
< صفحة > 488 < / صفحة >
حتى الصحابة المنافقين! فلم يبق للحديث معنى!
أقول: صاحب المفهم الذي ينقل عنه ابن حجر هو القرطبي من علماء الحنابلة في القرن السابع، وله كتاب المفهم في شرح أسانيد البخاري ومسلم.
وله اعتراف خطير يشمله هو، نقله ابن كثير في الباعث الحثيث (١/١٩٩) قال: (استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس الجلي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله نسبة قولية، فيقولون في ذلك: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله كذا! ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة، لأنها تشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها سنداً)!
ومعناه أن الفقهاء المحترمين الصادقين الذين يعملون بالقياس، مثل القربطي هذا يستحلون الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله لأن قياساتهم دلت على مضمونه!

٣. قدمت اليهم بالوعيد وأخبرتهم رجلاً رجلاً!

روى ابن طاووس في الطرف (١/١٦٢) بسنده ، والمجلسي في البحار(٢٢/٤٨٤) آخر ما تكلم به النبي صلّى الله عليه وآله مع علي عليه السلام في آخر ساعة من عمره الشريف، قال:
(عن الكاظم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام حين دفع إليه الوصية: إتخذ لها جواباً غداً بين يدي الله تبارك وتعالى رب العرش، فإني محاجك يوم القيامة بكتاب الله حلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه على ما أنزل الله، وعلى ما أمرتك، وعلى فرائض الله كما أنزلت وعلى الأحكام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتنابه، مع إقامة حدود الله وشروطه، والأمور كلها، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لأهلها، وحج البيت، والجهاد في سبيل الله، فما أنت قائل يا علي؟ فقال علي: بأبي أنت وأمي أرجو بكرامة الله لك ومنزلتك عنده ونعمته عليك أن يعينني ربي، ويثبتني فلا ألقاك بين يدي الله مقصراً ولا متوانياً ولا مفرطاً، ولا أمغر وجهك، وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي وقاء وجهك، بل تجدني بأبي أنت وأمي مشمراً متبعاً لوصيتك ومنهاجك وطريقك ما دمت حياً حتى أقدم بها عليك، ثم الأول فالأول من ولدي لا مقصرين ولا مفرطين. قال علي عليه السلام : ثم انكببت على وجهه وعلى صدره وأنا أقول: وا وحشتاه بعدك، بأبي أنت وأمي، ووحشة ابنتك وبنيك، بل واطول غمي بعدك يا أخي، انقطعت من منزلي
< صفحة > 489 < / صفحة >
أخبار السماء، وفقدت بعدك جبرئيل وميكائيل فلا أحس أثراً ولا أسمع حساً. فأغمي عليه طويلاً ثم أفاق صلّى الله عليه وآله .
قال أبو الحسن الكاظم عليه السلام : فقلت لأبي عليه السلام : فما كان بعد إفاقته؟ قال: دخل عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات وضج الناس بالباب من المهاجرين والأنصار، فبينا هم كذلك إذ نودي: أين علي؟ فأقبل حتى دخل عليه. قال علي عليه السلام : فانكببت عليه فقال: يا أخي إفهم فهمك الله وسددك وأرشدك ووفقك وأعانك وغفر ذنبك ورفع ذكرك :إعلم يا أخي أن القوم سيشغلهم عني ما يشغلهم، وإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله للناس علماً، وإنما تؤتى من كل فج عميق ونأي سحيق ولا تأتي، وإنما أنت علم الهدى، ونور الدين، وهو نور الله.
يا أخي، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد بعد أن أخبرتهم رجلاً رجلاً ما افترض الله عليهم من حقك، وألزمهم من طاعتك، وكلٌّ أجاب وسلم إليك الأمر، وإني لأعلم خلاف قولهم، فإذا قبضت وفرغت من جميع ما أوصيك به وغيبتني في قبري فالزم بيتك، واجمع القرآن على تأليفه، والفرائض والأحكام على تنزيلها، ثم امض على غير لائمة على ما أمرتك به، وعليك بالصبر على ما ينزل به وبها حتى تقدموا علي).

٤. أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وآله بما الأمة صانعة بي بعده

عقدنا الفصل الحادي والخمسين لبيان ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وآله وقد أخبر علياً بأن الأمة ستغدر به، وأخبره بتفصيل ما يجري بعده بالأحداث والأسماء حتى قال علي عليه السلام (كتاب سليم بن قيس/٢١٥):أخبرني رسول الله بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله صلّى الله عليه وآله أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت. فقلت: يا رسول الله، فما تعهد إلي إذا كان ذلك؟ قال: إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً. وأخبرني صلّى الله عليه وآله أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري، وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له موسى: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي. قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. وإنما يعني أن موسى أمر هارون
< صفحة > 490 < / صفحة >
حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم. وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله صلّى الله عليه وآله : لم فرقت بين الأمة ولم ترقب قولي وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك؟
فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله بغسله ودفنه، ثم شغلت بالقرآن فآليت على نفسي أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمعه في كتاب، ففعلت. ثم حملت فاطمة وأخذت بيد ابنيَّ الحسن والحسين، فلم أدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به، أما حمزة فقتل يوم أحد، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة، وبقيت بين جلفين جافيين ذليلين حقيرين عاجزين: العباس وعقيل، وكانا قريبي العهد بكفر. فأكرهوني وقهروني. فقلت كما قال هارون لأخيه: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي! فلي بهارون أسوة حسنة ولي بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله حجة قوية).

٥. وذهب النبي صلّى الله عليه وآله الى بيت عمر خاصة وأخذ بلحيته!

في حلية الأولياء (٥/١١٩): (عن أبي عبيدة بن الجراح، عن عمر بن الخطاب قال: أخذ رسول الله بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أتاني جبريل آنفاً فقال لي: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقلت: أجل إنا لله وإنا إليه راجعون فممَّ ذاك يا جبريل؟فقال: إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من دهر غير كثير!فقلت فتنةَ كفر أو فتنةَ ضلالة؟ فقال:كلٌّ سيكون! فقلت: ومن أين وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال: فبكتاب الله يفتنون وذلك من قبل أمرائهم وقرائهم، يمنع الناس الأمراء الحقوق فيظلمون حقوقهم ولا يعطونها فيقتتلون ويفتنون، ويتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون! فقلت كيف يسلم من سلم منهم؟قال بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه). والحكيم الترمذي، والدر المنثور(٣/٥٥)
وهذه المرة الوحيدة التي جاء فيها النبي صلّى الله عليه وآله الى بيت عمر، فلم يسجل التاريخ غيرها! ولم يتكلم بشئ إلا الصرخة والتحذير من خطر الأئمة المضلين على أمته!
< صفحة > 491 < / صفحة >
وكان يحذر باستمرار بأنواع التحذير من تسلط الأئمة المضلين بعد وفاته!
ففي مسند أحمد (٤/١٢٣): (وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة).
وفي أحمد (٥/١٤٥) عن أبي ذر قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: لَغَيْرُ الدجال أخوفني على أمتي، قالها ثلاثاً، قال قلت: يا رسول الله، ما هذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك؟ قال: أئمة مضلون).
وابن أبي شيبة(١٥/١٤٢) عن علي قال: (كنا عند النبي صلّى الله عليه وآله جلوساً وهو نائم فذكرنا الدجال فاستيقظ محمراً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عليكم عندي من الدجال: أئمةٌ مضلون).
وقد أخبر أن الأئمة المضلين سيسفكون دماء عترته عليهم السلام وسرعان ما تحقق قوله صلّى الله عليه وآله فقد قتلوا الخمسة أصحاب الكساء علياً وفاطمة والحسنين عليهم السلام !
ففي أمالي الطوسي(٢/١٢٦) وطبعة/٥١٢، عن عبد الله بن يحيى الحضرمي قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: كنا جلوساً عند النبي صلّى الله عليه وآله وهو نائم ورأسه في حجري فتذاكرنا الدجال فاستيقظ النبي محمراً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عليكم من الدجال: الأئمة المضلون، وسفك دماء عترتي من بعدي، أنا حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم).
وفي كنز العمال (٥/٧٦١): (عن بشر بن عاصم ابن شقيق الثقفي أن عمر بن الخطاب كتب له عهده فقال: لا حاجة لي فيه فإني سمعت رسول الله يقول: إن الولاة يجاء بهم فيوقفون على جسر جهنم، فمن كان مطواعاً لله تناوله بيمينه حتى ينجيه، ومن كان عاصياً لله انخرق به الجسر إلى وادٍ من نار يلتهب التهاباً! فأرسل عمر إلى أبي ذر وسلمان فقال لأبي ذر: أنت سمعت الحديث من رسول الله؟ قال: نعم والله وبعد الوادي واد آخر من نار. وسأل سلمان فكره أن يخبره بشيئٍ! فقال عمر: من يأخذها بما فيها؟ فقال أبو ذر: من سَلَتَ الله أنفه وعَينه وأمْرَغَ خدَّه إلى الأرض).
أقول: قول عمر: من يأخذها بما فيها؟يقصد من يأخذ مني الخلافة ويخلصني من خطرها في الآخرة؟ فلم يقبل أحد، وأجابه أبو ذر بأنه يأخذها منك من أهانه الله وكتب له جهنم! وهذه لحظة مر فيها عمر وانتهت، وكلامه فيها غير جدي! فلو أن شخصاً قال له: أنا آخذها فاصعد المنبر وأخبر المسلمين أنك تنازلت لي عن الخلافة، لفعل به عمرالأفاعيل!
< صفحة > 492 < / صفحة >

٦. جاهدت من أمرني بجهاده وسماهم لي رجلاً رجلاً

قال أمير المؤمنين عليه السلام وهو على فراش الموت(دعائم الإسلام:٢/٣٥٥): (جاهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله بأمر الله وأمر رسوله. فلما قبض الله رسوله صلّى الله عليه وآله جاهدت من أمرني بجهاده من أهل البغي، وسماهم لي رجلاً رجلاً، وحضني على جهادهم، وقال:يا علي تقاتل الناكثين وسماهم لي، والقاسطين وسماهم لي، والمارقين وسماهم لي. فلا تكثر منكم الأقوال، فإن أصدق ما يكون المرء عند هذا الحال، فقالوا خيراً وأثنوا بخير وبكوا.
فقال للحسن: يا حسن أنت ولي دمي وهو عندك وقد صيرته إليك،يعني ابن ملجم، ليس لأحد فيه حكم، فإن أردت أن تقتل فاقتل، وإن أردت أن تعفو فاعف، وأنت الإمام بعدي، ووارث علمي، وأفضل من أترك بعدي وخير من أخلف من أهل بيتي،وأخوك ابن أمك، بشَّركما رسول الله صلّى الله عليه وآله بالبشرى فأبشرا بما بشركما، واعملا لله بالطاعة، فاشكراه على النعمة.
ثم لم يزل يقول:اللهم أكفنا عدوك الرجيم، اللهم إني أشهدك أنك لا إله إلا أنت، وأنك الواحد الصمد، لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد، فلك الحمد عدد نعمائك لديَّ وإحسانك عندي، فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين).

٧.أخذ النبي صلّى الله عليه وآله برأسيهما وقال لهما: إن لم تدريا فادريا!

في الكافي (١/٢٤٩) عن الإمام الصادق عليه السلام قال:(كان علي عليه السلام كثيراً ما يقول: ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يقرأ: إنا أنزلناه، بتخشع وبكاء، فيقولان: ما أشد رقتك لهذه السورة؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وآله : لما رأت عيني ووعا قلبي، ولما يرى قلب هذا من بعدي! فيقولان: وما الذي رأيت وما الذي يرى هذا قال: فيكتب لهما في التراب: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. قال ثم يقول: هل بقي شئ بعد قوله عز وجل: كل أمر فيقولان: لا، فيقول: هل تعلمان من المنزل إليه بذلك؟ فيقولان: أنت يا رسول الله، فيقول: نعم، فيقول: هل تكون ليلة القدر من بعدي؟ فيقولان: نعم، قال فيقول: فهل ينزل ذلك الأمر فيها؟ فيقولان: نعم، قال فيقول: إلى من؟ فيقولان: لا ندري، فيأخذ برأسيهما ويقول: إن لم تدريا فادريا، هو هذا من بعدي! قال: فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله من شدة ما
< صفحة > 493 < / صفحة >
يداخلهما من الرعب)!

٨. وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحاربتما عليه!

قال أحمد بن همام (الإحتجاج:١/٢٩١): «أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر فقلت: يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف؟ فقال: يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثونا! فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي بكر، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله أحق بالنبوة من أبي جهل! قال: وأزيدكم: إنا كنا ذات يوم عند رسول الله صلّى الله عليه وآله فجاء علي وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله صلّى الله عليه وآله فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل عليٌّ على أثرهما، فكأنما سُفِيَ على وجه رسول الله الرماد! ثم قال: يا عليُّ أيتقدمانك هذان، وقد أمَّرك الله عليهما؟!
فقال أبو بكر: نسيت يا رسول الله، وقال عمر: سهوت يا رسول الله! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما نسيتما ولا سهوتما! وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله! وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا! ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها وذلك لأمر قد قضي!
ثم بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى سالت دموعه ثم قال:يا عليُّ الصبرَ الصبرَ حتى ينزل الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك. فإذا أمكنك الأمر فالسيفَ السيفَ، القتلَ القتلَ، حتى يفيئوا إلى أمر الله وأمر رسوله، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل، وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة ».
أقول: لهذا لم يصلَّ علي عليه السلام مأموماً بأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ولم يقبل ولا الحسنان عليهم السلام أي منصب من أبي بكر وعمر وعثمان!
ففي الفتوح لابن الأعثم(١/٥٧) أن أبا بكر قال لعمر:« إني عزمت على أن أوجه إلى هؤلاء القوم علي بن أبي طالب فإنه عدل رضا عند أكثر الناس لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه وفهمه ورفقه بما يحاول من الأمور، قال: فقال له عمر بن الخطاب: صدقت إن علياً كما ذكرت وفوق ما وصفت ولكني أخاف عليك خصلة منه واحدة، قال له أبو بكر صلّى الله عليه وآله وما هذه الخصلة التي تخاف علي منها منه؟ فقال عمر: أخاف أن يأبى قتال القوم فلا يقاتلهم فإن أبى ذلك فلم تجد
< صفحة > 494 < / صفحة >
أحداً يسير إليهم إلا على المكروه منه، ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة فإنك لاتستغني عنه وعن مشورته، واكتب إلى عكرمة بن أبي جهل فمره بالمسير إلى الأشعث وأصحابه، فإنه رجل حرب وأهلٌ لما أهل له، فقال أبو بكر: هذا هو الرأي).
وروى المسعودي في مروج الذهب(٢/٣٠٩) أن عثمان أشار على عمر بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر فقال له:« إبعث رجلاً له تجربة بالحرب وبَصَر بها، قال عمر: ومن هو؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: فالقه وكلمه وذاكره ذلك، فهل تراه مسرعاً إليه أولا؟ فخرج عثمان فلقي علياً فذاكره ذلك فأبى علي ذلك وكرهه، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: ومن ترى؟ قال: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: ليس بصاحب ذلك ».
وروى في شرح النهج(٩/١٧٤): « قيل لعمر: ولِّ علياً أمر الجيش والحرب، فقال: هو أتيه من ذلك »! والتحفة العسجدية ليحيى بن الحسين بن القاسم/١٤٢.
وفي فتوح البلاذري(٢/٣١٣):«كتب المسلمون إلى عمر يعلمونه كثرة من تجمع لهم من أهل فارس ويسألونه المدد..وعرض على عليٍّ الشخوص فأباه».
بل امتنع علي عليه السلام حتى من مرافقة عمر عندما ذهب إلى الشام!
ففي شرح النهج(١٢/٧٨، والتحفة العسجدية/١٤٦) عن ابن عباس أن عمر قال له: «يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولم أزل أراه واجداً، فيمَ تظن موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم! قال: أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة. قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله أراد الأمر له. فقال: يا ابن عباس، وأراد رسول الله الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله! أوَكلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله كان »!
وكان يجب على عمر أن يقول: أراد الله ورسوله أمراً وأردنا غيره، وقد سمح أن يقع ما يخالفه ويخالف الرسل، وهذا السماح إرادة تكوينية لا تشريعية حتى يصح نسبة الأمر إلى تعالى، وإلا كانت كل المعاصي منه سبحانه!
وبسبب ما قدمناه، كان علي عليه السلام يصلي في المسجد مفرداً ولم يأتم بأحد منهم. ونهض بنفسه للدفاع عن المدينة، ووجههم في حروب الردة والفتوح ولم يشارك بنفسه لئلا يكون تحت إمرة
< صفحة > 495 < / صفحة >
أحد، ولو حضر في أي منها لاشتهر ذلك، لأن مكانه في الحرب لا يخفى. وهذا تطبيق منه لقول النبي صلّى الله عليه وآله : يا عليُّ أيتقدمانك هذان، وقد أمَّرك الله عليهما؟!
أما الحسنان عليهما السلام فروى البلاذري (٢/ ٤١١) أنهما شاركا في الفتوح في عهد عثمان، رواه بصيغة تضعيف فقال: قيل، قال: فغزا سعيد طبرستان، ومعه في غزاته فيما يقال الحسن والحسين أبناء علي بن أبي طالب عليهم السلام ».
ويكفي لرد القول بمشاركتهما أنهما لو شاركا لاشتهر ذلك، وأن أمير المؤمنين كان شديد المحافظة على حياتهما، وفي ذهابهما خطر على حياتهما من المنافقين قبل المعارك، وقد بعث أمير المؤمنين من يرد الحسن في صفين (نهج البلاغة (٢/١٨٦) فقال: «وقد رأى الحسن عليه السلام يتسرع إلى الحرب: إملكوا عني هذا الغلام، لا يهدني، فإني أنفس بهذين، يعني الحسن والحسين على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله صلّى الله عليه وآله ).

٩. أمر النبي صلّى الله عليه وآله الصحابة بأن يسلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين

روى السنة والشيعة أن النبي صلّى الله عليه وآله أمر المسلمين بالسلام على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين، وذلك بعد حرب قريظة، ويوم الغدير، وفي مناسبات أخری.
ففي الفضائل لشاذان بن جبرئيل/١٣٣: (عن أبي ذر قال: أمرنا رسول الله وقال سلموا على أخي ووارثي وخليفتي في قومي وولي كل مؤمن ومؤمنة من بعدى سلموا عليه بإمرة المؤمنين فإنه ولي كل من يسكن الأرض إلى يوم القيامة ولو قدمتموه لأخرجت الأرض بركاتها فإنه أكرم من عليها من أهلها قال أبو ذر فرأيت عمر قد تغير لونه وقال: أحق من الله يا رسول الله؟ قال: نعم يا عمر حق من الله تعالى أمرني به وبذلك أمرتكم. قال فقام وسلم عليه بإمرة المؤمنين وكذلك أبو بكر، ثُم أقبلا على أصحابهما وقالا ما قالاه).
وفي أمالي المفيد/١٩: (بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن أبيه، عن جده قال: إن الله جل جلاله بعث جبرئيل عليه السلام إلى محمد صلّى الله عليه وآله أن يشهد لعلي بن أبي طالب بالولاية في حياته، ويسميه بإمرة المؤمنين قبل وفاته، فدعا نبي الله صلّى الله عليه وآله تسعة رهط فقال: إنما دعوتكم لتكونوا شهداء الله في الأرض أقمتم أم كتمتم. ثم قال: يا أبا بكر قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين، فقال: أعن
< صفحة > 496 < / صفحة >
أمر الله ورسوله؟ قال: نعم، فقام فسلم عليه بإمرة المؤمنين. ثم قال: قم يا عمر فسلم على علي بإمرة المؤمنين، فقال: أعن أمر الله ورسوله نسميه أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فقام فسلم عليه.ثم قال للمقداد بن الأسود الكندي: قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين، فقام فسلم، ولم يقل مثل ما قال الرجلان من قبله.ثم قال لأبي ذر الغفاري: قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين، فقام فسلم عليه. ثم قال لحذيفة اليماني: قم فسلم على أمير المؤمنين، فقام فسلم عليه. ثم قال لعمار بن ياسر: قم فسلم على أمير المؤمنين، فقام فسلم عليه.
ثم قال لعبد الله بن مسعود: قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين فقام فسلم عليه. ثم قال لبريدة: قم فسلم على أمير المؤمنين وكان بريدة أصغر القوم سنا فقام فسلم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنما دعوتكم لهذا الأمر لتكونوا شهداء الله أقمتم أم تركتم).
وفي الكافي(١/٢٩٢): (عن زيد بن الجهم الهلالي، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: لما نزلت ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام وكان من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله : سلموا على علي بإمرة المؤمنين، فكان مما أكد الله عليهما في ذلك اليوم يا زيد قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لهما: قوما فسلما عليه بإمرة المؤمنين فقالا أمن الله أو من رسوله يا رسول الله؟ فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وآله : من الله ومن رسوله، فأنزل الله عز وجل: ولا تنقضوا الايمانبعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون).
وفي الخصال للصدوق/٤٦٤، في كلام الإثني عشر من المهاجرين والأنصار الذين اعترضوا على أهل السقيفة: (ثم قام بريدة الأسلمي فقال: يا أبا بكر نسيت أم تناسيت أم خادعتك نفسك! أما تذكر إذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله فسلمنا على علي بإمرة المؤمنين، ونبينا صلّى الله عليه وآله بين أظهرنا فاتق الله ربك وأدرك نفسك قبل أن لا تدركها وأنقذها من هلكتها، ودع هذا الأمر وأوكله إلى من هو أحق به منك، ولا تمادَ في غيك، وارجع وأنت تستطيع الرجوع فقد نصحتك نصحي وبذلت لك ما عندي، فإن قبلت وفقت ورشدت).
وفي رواية: (فاتق الله وتدارك نفسك قبل أن لا تدركها، وأنقذها مما يهلكها، واردد الأمر إلى من هو أحق به منك، ولا تتماد في اغتصابه، وراجع وأنت تستطيع أن تراجع، فقد محضتك النصح ودللتك على طريق النجاة، فلا تكونن ظهيراً للمجرمين).
وفي الهداية الكبرى/١١٦: (عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: لما كثر قول المنافقين وحساد أمير المؤمنين
< صفحة > 497 < / صفحة >
صلوات الله عليه فيما يظهره رسول الله صلّى الله عليه وآله من فضله ويبصِّر الناس ويدلهم ويأمرهم بطاعته ويأخذ البيعة له من كبرائهم ومن لا يؤمن غدره، ويأمرهم بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين، ويقول لهم: إنه وصيي، وخليفتي، وقاضي ديني، ومنجز وعدي، والحجة على خلقه من بعدي، من اطاعه سعد ومن خالفه ضل وشقي!
قال المنافقون: لقد ضل محمد في ابن عمه علي وغوى وجن، والله ما فتنه فيه ولا حببه إليه إلا قتل الشجعان والفرسان يوم بدر وغيره من قريش وسائر العرب واليهود، وإن كل ما يأتينا به ويظهره في علي من هواه وكل ذلك يبلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى اجتمع التسعة الرهط المفسدون في الأرض في دار الأقرع بن حابس التميمي فقالوا: قد أكثر رسول الله في أمر علي وزاد فيه حتى لو أمكنه أن يقول لنا أعبدوه لقال)!
وروى في الخرائج(٢/٨٠٦) بسند صحيح أن النبي صلّى الله عليه وآله بعد وفاته ظهر لأبي بكر وأقام عليه الحجة: (عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام لقي أبا بكر فقال له: أما تعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله أمرك أن تسلم علي بإمرة المؤمنين وأن تتبعني؟ قال: فجعل يتشكك عليه، وقال: لأجعل بيني وبينك حكما. فقال له: أترضى برسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ قال: ومن لي به. قال: فأخذ بيده فمضى به حتى أدخله مسجد قبا، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وآله قاعد في المحراب فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : ألم آمرك أن تسلم لعلي وتتبعه؟ قال: بلى. قال: فاعتزل وسلم إليه واتبعه تسلم. قال: نعم.
فلقي عمر صاحبه فعرفه الخبر، فقال له: أنسيت سحر بني هاشم! وذكره بأشياء، فأمسك وأقام على أمره إلى أن مات)!

١٠. ما لك تفضل علياً علينا: ما أنا فضلته بل الله فضله

في الهداية الكبرى/١١١: (عن سلمان الفارسي قال: دخل أبو بكر وعمر وعثمان على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا: يا رسول الله ما لك تفضل علياً علينا في كل الأفعال والأشياء ولاترى لنا معه فضلاً! قال لهم: ما أنا فضلته بل الله فضله. ثم قال: أنا أحملكم وعلياً واجعل سلماناً شاهداً عليكم فمن أحيا الله له أصحاب الكهف وأجابوه كان الأفضل. قالوا رضينا يا رسول الله،
< صفحة > 498 < / صفحة >
فأمر رسول الله أن يبسط بساطاً له، ودعا بعلي فأجلسه في البساط وأجلس كل واحد منهم قرن قال سلمان: وأجلسني القرنة الرابعة وقال: يا ريح احمليهم إلى الصحاب الكهف ورديهم إليَّ فدخلت الريح وسارت بنا فإذا نحن في كهف عظيم فحطت عليه. قال أمير المؤمنين يا سلمان هذا الكهف والرقيم فقل للقوم: تتقدمون أو أتقدم؟ فقالوا: نحن نتقدم فقام كل واحد منهم صلى ودعا وقال: السلام عليكم يا أصحاب الكهف فلم يجبهم أحد، فقام بعدهم أمير المؤمنين عليه السلام صلى ركعتين ودعا بدعوات خفيات فصاح الكهف وصاح القوم من داخله بالتلبية فقال أمير المؤمنين عليه السلام : السلام عليكم أيها الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى. فقالوا: وعليك السلام يا أخا رسول الله ووصيه، لقد أخذ الله العهد علينا بعد إيماننا بالله وبرسوله محمد، ولك يا أمير المؤمنين بالولاية إلى يوم الدين، قال فسقط القوم لوجوههم وقالوا يا أبا الحسن ردنا فقال عليه السلام : يا ريح رديهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فحملتنا فإذا نحن بين يديه، فقص عليهم رسول الله القصة كما جرت فقال: حبيبي جبريل أخبرني أن علياً فضله الله عليكم).

١١. وأتم الحجج بقوله صلّى الله عليه وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه

وفي تأويل الآيات(٢/٧١٤): (عن عبد الله بن سنان عن حسان الجمال قال: حملت أبا عبد الله عليه السلام من المدينة إلى مكة، فلما بلغ غديرخم نظر إلي وقال: هذا موضع قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله حين أخذ بيد علي عليه السلام وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. وكان عن يمين الفسطاط أربعة نفر من قريش سماهم لي. فلما نظروا إليه وقد رفع يده حتى بان بياض إبطيه قالوا: انظروا إلى عينيه قد انقلبتا كأنهما عينا مجنون! فأتاه جبرئيل فقال إقرأ: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. والذكر: علي بن أبي طالب عليه السلام .فقلت: الحمد لله الذي أسمعني هذا منك. فقال: لولا أنك جَمَّالي لما حدثتك بهذا، لأنك لا تُصدَّقُ إذا رويْت عني).
وفي تفسير القمي(١/٣٠١) بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لما أقام رسول الله صلّى الله عليه وآله أمير المؤمنين يوم غدير خم كان بحذائه سبعة نفر من المنافقين وهم فلان وفلان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة وسالم مولى أبى حذيفة والمغيرة بن شعبة. قال الثاني: أما ترون عينيه تدوران كأنما هما عينا مجنون، يعنى النبي صلّى الله عليه وآله ! الساعة يقوم ويقول: قال لي ربي!
< صفحة > 499 < / صفحة >
فلما قام قال: أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: الله ورسوله. قال: اللهم فاشهد، ثم قال: ألا من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. وسلَّموا عليه بإمرة المؤمنين. فنزل جبرئيل وأعلم رسول الله بمقالة القوم فدعاهم وسألهم فأنكروا وحلفوا فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا..).
وفي شرح الأخبار(١/١٩٨): (عن أبي الجارود، عن عمر المرادي قال: كنت أرى رأي الخوارج لأني لم أر قوماً أشد منهم اجتهاداً ولا أسخى نفوساً بالموت، وكنت أأتي القضاة والفقهاء، فقال لي رجل يوماً من الأيام: هل أدلك على امرأة ليس بالبصرة فقيه ولا مجتهد إلا وهو يأتيها؟ قلت: وددت ذلك. فوصف لي منزلها، فدخلت عليها، فإذا بامرأة قد طعنت في السن، علبها أثر العبادة، في ناحية من دارها رجل ملتف في خلق، فظننت أنه بعض من يخدمها. فقالت لي: ما حاجتك يا عبد الله؟ قلت: إني رجل أرى رأي الخوارج لأني رأيتهم أشد الناس اجتهاداً وأسخاهم نفوساً بالموت، فرفع إلي الشيخ رأسه، وقال: إنك لتحطب في حبل قوم في النار يسبون الله ورسوله بسبهم أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله .
فأقبلت عليه كالمنكر لما قال. فقالت لي المرأة: يا عبد الله أتدري من هذا الشيخ؟ هذا أبو الحمراء خادم رسول الله صلّى الله عليه وآله ).
**

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله بما يجري على ابنته فاطمة وأبنائها عليهم السلام

أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن فاطمة قبل ولادتها، قال الإمام الصادق عليه السلام : (فلما حملت بفاطمة كانت عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة عليهما السلام ، فقال لها: يا خديجة، من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. قال: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وإن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه). (أمالي الصدوق/٦٩١).
وقد كتبنا في الفصل الثامن عشر شريطاً موجزاً لسيرتها عليها السلام ، ونورد هنا نماذج:
< صفحة > 500 < / صفحة >
في أمالي الشيخ الطوسي/١٨٨: (عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي وما يصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه يا أبتاه، فلايعينها أحد من أمتي).
في أمالي الصدوق/١٧٥: عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن، فلما رآه بكى ثم قال: إليَّ يا بني، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين فلما رآه بكى، ثم قال: إلي يا بني، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى. ثم أقبلت فاطمة فلما رآها بكى ثم قال: إليَّ يا بنية فأجلسها بين يديه.
ثم أقبل أمير المؤمنين فلما رآه بكى ثم قال: إليَّ يا أخي، فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً من هؤلاء إلا بكيت أوَما فيهم من تُسَرُّ برؤيته! فقال صلّى الله عليه وآله : والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، إني وإياهم لأكرم الخلق على الله عز وجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب إلي منهم!
أما علي بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي وبعد مماتي. محبه محبي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة!
وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي، حتى إنه ليزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي أنظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار!
< صفحة > 501 < / صفحة >
وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي! كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها وهي تنادي: يا محمداه فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث!
فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجدت بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يا فاطمة: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عز وجل إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علتها، فتقول عند ذلك: يا رب إني قد سئمت الحياة وتبرمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي، فيلحقها الله عز وجل بي، فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علي محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك:اللهم العن من ظلمها وعاقب من غصبها، وأذلَّ من أذلها وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها،فتقول الملائكة عند ذلك: آمين.
وأما الحسن فإنه ابني وولدي، ومني، وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة وحجة الله على الأمة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنه مني ومن عصاه فليس مني، وإني لما نظرت إليه تذكرت ما يجرى عليه من الذل بعدي، فلا يزال الأمر به حتى يقتل بالسم ظلماً وعدواناً فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كل شئ حتى الطير في جو السماء والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمي العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام.
وأما الحسين فإنه مني، وهو ابني وولدي، وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين ومولى المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وغياث المستغيثين، وكهف المستجيرين وحجة الله على خلقه أجمعين، وهو سيد شباب أهل الجنة، وباب نجاة الأمة، أمره أمري وطاعته طاعتي، من تبعه فإنه مني ومن عصاه فليس مني، وإني لما رأيته تذكرت ما يصنع به بعدي، كأني به
< صفحة > 502 < / صفحة >
وقد استجار بحرمي وقبري فلا يجار، فأضمه في منامه إلى صدري، وآمره بالرحلة على دار هجرتي وأبشره بالشهادة، فيرتحل عنها إلى أرض مقتله، وموضع مصرعه، أرض كرب وبلاء وقتل وفناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمتي يوم القيامة، كأني أنظر إليه وقد رُمِيَ بسهم فخرَّ عن فرسه صريعاً، ثم يذبح كما يذبح الكبش مظلوماً! ثم بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وبكى من حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثم قام وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي، ثم دخل منزله »!
فصول من الكتاب تتصل بهذا الفصل
نكتفي بما أوردناه في هذ ا الفصل، ونحيل القارئ الكريم على الفصول المتصلة به من الكتاب، اتصالاً وثيقاً، وهي:
الفصل الرابع والعشرون: صحيفتا قريش الملعونتان!
التاسع والثلاثون: ظلامات النبي صلّى الله عليه وآله من قريش
الأربعون: أحقاد قريش وبغضها لبني هاشم !
الخمسون: أتم النبي صلّى الله عليه وآله الحجة على أمته بالحسين عليه السلام !
الحادي والخمسون:أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن ظلم أمته لأهل بيته عليهم السلام بالتفصيل
الثاني والخمسون:أخبر النبي صلّى الله عليه وآله أمته بأنها ستسقط في الفتن بعده مباشرة!
الرابع والخمسون: خلافنا مع عُبَّاد قريش في العقيدة بالنبي صلّى الله عليه وآله
السابع والخمسون: رزية الخميس ونجاح مؤامرة قريش ضد النبي صلّى الله عليه وآله !
الثاني والستون: بذاءة قريش وكفرها في تعاملها مع النبي صلّى الله عليه وآله !
الثامن والخمسون:حكم الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وآله :طليق وعتيق وملعون ومأبون!
**
(تم المجلد الثاني من الجديد في سيرة النبي صلّى الله عليه وآله والحمد لله رب العالمين).
< صفحة > 503 < / صفحة >
الفهرس
الفصل الحادي والأربعون
أجداد النبي صلّى الله عليه وآله من إسماعيل الى قصي ٥
إيمان آباء النبي صلّى الله عليه وآله وأجداده الى آدم عليه السلام ٥
لم يعبد قصي الأصنام ولا أجداد النبي صلّى الله عليه وآله ٦
واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام: دعوة عامة أو خاصة؟ ٧
قبيلة جرهم وأبناء إسماعيل عليه السلام ١٠
اختلاف أبناء إسماعيل كان سبب تفرق العرب! ١١
أذن الله بهلاك جرهم فتسلطت أياد ثم خزاعة ١٢
حكمت قبيلة أياد بن نزار مكة بعد جرهم ١٤
ثم حكمت خزاعة فنشرت عبادة الأصنام في العرب! ١٥
أخذت خزاعة ولاية البيت من بني إسماعيل! ١٦
أعاد عمرو بن لُحي عبادة أصنام ما قبل نوح ١٧
علي عليه السلام یصف حب العرب لأصنامهم! ١٩
لم يستوعب المؤرخون المدة من إسماعيل الى محمد صلّى الله عليه وآله ٢٠
لماذا قال النبي صلّى الله عليه وآله : إذا بلغ نسبي الى عدنان فأمسكوا! ٢٢
< صفحة > 504 < / صفحة >
الفصل الثاني والأربعون
قصي الجد الرابع للنبي صلّى الله عليه وآله ٢٤
جمع قصيٌ قريشاً واستعاد حق أبناء إسماعيل عليه السلام ٢٤
رواية البلاذري لقصة قصي ٢٩
أم قصي أزدية من عائلة أصيلة ٣١
الفصل الثالث والأربعون
عبد مناف الجد الثالث للنبي صلّى الله عليه وآله ٣٤
إسمه المغيرة وليس عبد مناف ولم يعبد صنماً ٣٤
الفصل الرابع والأربعون
هاشم بن عبد مناف الجد الثاني للنبي صلّى الله عليه وآله ٣٩
هاشم الذي أخذ الإيلاف من قيصر لقريش ٣٩
كيف أخذ هاشم الإيلاف لقريش من قيصر ٤٢
شارك هاشم الملوك في تجارته ٤٢
حسد أمية بن عبد شمس لعمه هاشم ٤٣
أسس هاشم إطعام الحجيج ٤٤
رتب هاشم حراسة مكة ٤٥
تزوج هاشم من بني النجار ٤٥
أولاد هاشم رضي الله عنهم ٤٦
من هاجر مع النبي صلّى الله عليه وآله من بني هاشم ٤٧
روايتهم عن مدة عمْر هاشم غير معقولة! ٤٨
المظنون أن أمية واليهود قتلوا هاشماً بالسم ٤٨
قضية قبر هاشم في مسجد حي الدورة بغزة ٤٩
عبد مناف لم يدفن في غزة ٥٩
المجلس الشيعي في فلسطين ٥٩
< صفحة > 505 < / صفحة >
وعاد التشدد الوهابي مع قبر هاشم عليه السلام وزواره ٦١
بنو هاشم وبنو أمية: تناقض الخير والشر ٦٢
لو لم يبق من بني أمية إلا عجوز شمطاء لبغت لدين الله عوجا ٦٣
الشجرة الملعونة في القرآن ٦٣
نلعنُ بني أمية قاطبة ونترك الإستثناء لله ٦٣
الفصل الخامس والأربعون
المُطَّلب أخو هاشم وعم النبي صلّى الله عليه وآله ٦٥
المُطَّلب أخو هاشم شخصية استثنائية ٦٥
بنو المطلب وبنو هاشم واحد ٦٨
أولاد المطلب بن عبد مناف ٦٩
الفصل السادس والأربعون
عبد المطلب الجد الأول للنبي صلّى الله عليه وآله ٧٢
سموْهُ عبد عمه المطلب لأنه أتى به ٧٢
ألهم الله عبد المطلب أن يحفر زمزم ٧٢
حسدت قريش عبد المطلب وتحالفت ضده ٧٥
استنجد عبد المطلب بأخواله لمنع ظلم أعمامه ٧٨
عبد المطلب مع أبرهة قائد الجيش لهدم الكعبة ٧٩
وفد قريش برئاسة عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن ٨٦
كانت قريش تسمي عبد المطلب: إبراهيم الثاني ٨٨
أولاد عبد المطلب رضي الله عنه ٨٩
نَذَر عبد المطلب أحد أبنائه قرباناً لله تعالى! ٩٠
كان يعرف أن النبي الموعود حفيده يتيم عبد الله صلّى الله عليه وآله ٩٣
< صفحة > 506 < / صفحة >
الفصل السابع والأربعون
القاعدة النبوية: دعوا مقاديرالله تجري ٩٧
معنى مقادير الله وتدبير الله تعالى ٩٧
لا يكون شيئ إلا بسبع مراحل أو سبعة شروط ٩٨
الأئمة عليهم السلام بينوا معنى القدر ٩٨
المقادير في حياتنا ثلاثة أقسام ٩٩
مقادير الله وتدبيره بمعنى واحد ٩٩
لو أن الناس رضوا بمقاديرالله تعالى وتدبيره لتغير العالم ١٠٠
دعوا الناس يرزق بعضهم بعضاً ١٠١
هذا في السلوك العام، ومثله السلوك الفردي ١٠٢
ترك النبي صلّى الله عليه وآله مقاديرالله تجري في الحسين عليه السلام ١٠٢
تعامل نبينا صلّى الله عليه وآله وأئمتنا أرقى من تعامل الأنبياء عليهم السلام ١٠٤
ترك النبي صلّى الله عليه وآله مقادير الله تجري في أمته ١٠٧
ملاحظات ١٠٧
الفصل الثامن والأربعون
التسليم للنبي صلّى الله عليه وآله وأوصيائه عليهم السلام ١٠٩
صلوا عليه وسلموا تسليما، وليس سلاماً ١٠٩
مشكلة المسلمين معصيتهم لنبيهم صلّى الله عليه وآله في حياته وبعد وفاته ١١٠
الفصل التاسع والأربعون
بيَّن النبي صلّى الله عليه وآله مستقبل أمته بالتفصيل ١١٣
الإنكار والطمس منهج اليهود وقريش! ١١٣
أنكرت قريش أنه أوصى لعلي أو تحدث عن الخلافة بعده أبداً أبداً! ١١٥
تفننت عائشة في الإنكار! ١١٦
وقال أهل البيت: الكتمان والإعلان يتبع المصلحة ١١٨
< صفحة > 507 < / صفحة >
جعلت قريش رواية الطعن بأهل البيت عليهم السلام عن لسانهم! ١١٩
الفصل الخمسون
التحالف الثلاثي بعد فتح مكة: عمر وأبوبكر وسهيل ١٢٢
بدأ عمر بالدفاع العلني عن قريش يوم فتح مكة! ١٢٢
بعد حنين رجع عمر وحده الى مكة وعقد الصفقة مع سهيل! ١٢٢
قال عمر: أراد رسول الله ومنعته فكان ما أراد الله! ١٢٣
أنكر عمر وقريش مئات الأحاديث في انحراف الأمة وظلم العترة! ١٢٥
الحديث من مصادر غيرنا ١٢٦
الحديث من مصادرنا ١٢٧
المرة الوحيدة التي جاء فيها النبي صلّى الله عليه وآله الى بيت عمر! ١٢٩
الخطر فقط من الأئمة المضلين! ١٣٠
وصف علي عليه السلام حكاماً بأنهم أئمة الضلالة والدعاة الى النار! ١٣١
الفصل الحادي والخمسون
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن ظلم أمته لأهل بيته عليهم السلام بالتفصيل ١٣٥
أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله عن مستقبل أمته والعالم تبلغ مجلداً! ١٣٥
من نماذجه يوم أجهش النبي صلّى الله عليه وآله بالبكاء! ١٣٦
ومن نماذجه يوم دخل أبوبكر وعمر أمام علي عليه السلام ١٣٧
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام بما الأمة صانعة به! ١٣٨
جيش أسامة الى مؤتة! ١٤٢
شكى علي عليه السلام قريشاً كما شكاها النبي صلّى الله عليه وآله ١٤٣
وصية النبي صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام في آخر ساعة من عمره الشريف ١٤٥
بعد رجوعه صلّى الله عليه وآله من حجة الوداع أكد على أهل بيته عليهم السلام ١٤٦
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله أن علياً عليه السلام سيقاتل على تأويل القرآن ١٤٨
أمر النبي صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام أن يعلن تهديده بقتال المرتدين! ١٤٨
< صفحة > 508 < / صفحة >
حديث أم سلمة عن الناكثين والقاسطين والمارقين ١٤٩
حديث أبي أيوب عن الناكثين والقاسطين والمارقين ١٥٠
أخبر النبي بما يجري على ابنته فاطمة وأبنائها عليهم السلام ١٥١
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله بما يجري على الحسن والحسين عليهما السلام ١٥٩
كان النبي صلّى الله عليه وآله يخبر أهل بيته وخاصته بخطط قريش ضدهم ١٦٠
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن تكريم ابنته الزهراء عليها السلام يوم القيامة! ١٦٤
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن تكريم ولده زين العابدين عليه السلام ! ١٦٥
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله عن ولده محمد الباقر عليه السلام ! ١٦٦
بشر النبي صلّى الله عليه وآله الأمة بالأئمة الإثني عشر من عترته عليهم السلام ! ١٦٩
أحاديث البشارة النبوية بالأئمة لإثني عشر عندنا متواترة ١٧١
الفصل الثاني والخمسون
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله أمته بأنها ستسقط في الفتن بعده مباشرة! ١٧٥
قال لهم: إن الفتن على أبوابهم تنتظر وفاته! ١٧٥
وأخبر أمته بأن الفتنة تبدأ بظلمهم لأهل بيته عليهم السلام ١٧٦
وقالت الزهراء عليها السلام صلّى الله عليه وآله صدق أبي صلّى الله عليه وآله فقد سقطوا في الفتنة ! ١٧٦
وعملت قريش لتبعد أحاديث الفتنة عن عصر خلفائها ! ١٧٧
قادة الفتن أئمة مضلون دعاة الى النار أخطر من الدجال! ١٧٧
فشل رواة السلطة في تنزيه الصحابة عن الفتن! ١٧٨
وتبلغ فتنتهم أوجها بسفك دماء عترة النبي صلّى الله عليه وآله ١٧٩
الفصل الثالث والخمسون
أتم النبي صلّى الله عليه وآله الحجة على أمته بالحسين عليه السلام ! ١٨١
أنكروا أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله بأن أمته سقتل ابنه الحسين عليه السلام ! ١٨١
قرأ النبي صلّى الله عليه وآله تعزية الحسين عليه السلام وحذر قاتليه ومسببي قتله! ١٨٢
المشهد العجيب بين النبي صلّى الله عليه وآله وأمته! ١٨٣
< صفحة > 509 < / صفحة >
أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله مطابقة لنص التوراة والإنجيل ١٨٣
الفصل الرابع والخمسون
خلافنا مع عُبَّاد قريش في العقيدة بالنبي صلّى الله عليه وآله ١٨٥
لو كانت عقيدتنا في النبي صلّى الله عليه وآله واحدة لما اختلفنا في الإمامة! ١٨٥
القرشيون أصحاب عقدة من بني هاشم حتى من أسلم منهم ! ١٨٥
أصل المشكلة أن عمر قال: نقبل من السنة ونرفض! ١٨٨
أجمعت المذاهب السنية على أن النبي صلّى الله عليه وآله يجتهد وقد يخطئ! ١٨٩
وا افقنا الجبائي المعتزلي فرد مقولة اجتهاد النبي صلّى الله عليه وآله ١٩٢
استدلت دار الإفتاء المصرية بآية يحكمان في الحرث ١٩٥
انتقص القرشيين قدر النبي صلّى الله عليه وآله ورفعوا من قدر عمر وأبي بكر! ١٩٨
رفعوا عمر الى درجة فوق العصمة وفوق النبي ٢٠٠
سؤالهم النبي صلّى الله عليه وآله : أهذا منك أو من الله؟!! ٢٠١
انتقصت قريش النبي صلّى الله عليه وآله وجعلت تعظيم عمر ديناً يدان به ! ٢٠١
الأخطاء النبوية والتصحيحات العمرية! ٢٠٣
الفصل الخامس والخمسون
أجمع علماء الشيعة على أن كل أفعال النبي وحيٌ لا اجتهاد ٢٠٦
النبي صلّى الله عليه وآله معصوم بلطف الله تعالى عن الخطأ والنسيان! ٢٠٦
منطق النبي صلّى الله عليه وآله وفعله وسكوته بوحي ربه! ٢٠٨
أنواع الوحي الستة ٢٠٩
دلالة سكوت النبي صلّى الله عليه وآله ٢١٠
ما ينطق عن الهوى رد على مشركي قريش وعلى منافقيها في المدينة ٢١١
ما ينطق عن الهوى: كلامه وحي واجب الطاعة! ٢١١
ارتكب الصحابة القرشيون الكذب لإبطال مرجعية سنة النبي صلّى الله عليه وآله ! ٢١٢
< صفحة > 510 < / صفحة >
الفصل السادس والخمسون
حذفوا من السيرة سيطرة قريش سنتين على مكة بعد فتحها ٢١٤
خضعت قريش للنبي صلّى الله عليه وآله عند فتح مكة ثم نقضت ذلك! ٢١٤
دخل النبي صلّى الله عليه وآله مكة فاتحاً رحيماً ٢١٥
عفا عنهم وأعطاهم الأمان ودعاهم الى حرب النجديين معه ٢١٥
سنتان من حكم سهيل بن عمرو لمكة حذفوها من السيرة! ٢١٦
حكم سهيل مكة وشل عمل الوالي الذي عينه النبي صلّى الله عليه وآله ٢١٧
أعلن علي عليه السلام أنه سيقاتل قريشاً في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وبعد وفاته! ٢١٩
رغم كل هذا واصلت قريش أعمالها العدائية للنبي صلّى الله عليه وآله ! ٢٢٠
الفصل السابع والخمسون
رزية يوم الخميس ونجاح مؤامرة قريش ضد النبي صلّى الله عليه وآله ! ٢٢٢
المشكلة الأزمة عند قريش: لمن تكون خلافة محمد صلّى الله عليه وآله ؟ ٢٢٢
جرائم علماء السلطة في تحريف حديث الرزية! ٢٢٩
إحدى عشرة مسألة في حديث الرزية لم يستوفها الباحثون! ٢٣١
أطول كلام لعلماء السلطة وعلمائنا في حديث الرزية ٢٣٣
الشيعة فقط فسروا قوله صلّى الله عليه وآله : فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه! ٢٣٧
إرادة النبي صلّى الله عليه وآله شخصية وإرادة عمر إرادة الله! ٢٣٨
نتائج مواجهتهم للنبي صلّى الله عليه وآله على القرآن والسنة! ٢٤٠
الفصل الثامن والخمسون
قال النبي صلّى الله عليه وآله : يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة ٢٤٣
استطاع النبي صلّى الله عليه وآله أن يبلغ رسالته الى قريش رغم أنفها! ٢٤٣
هذه اللعنات والعقوبات لمن أعرض عن أهل البيت عليهم السلام أو ظلمهم! ٢٤٥
كرره النبي صلّى الله عليه وآله لما طفح سيل الطلقاء القرشيين في المدينة ٢٤٦
< صفحة > 511 < / صفحة >
الفصل التاسع والخمسون
النبي صلّى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنه أرحم بهم من أنفسهم ٢٤٧
ولاية الله تعالى على الناس وملكيته الكاملة الشاملة لهم ٢٤٧
ولاية النبي صلّى الله عليه وآله :الإيمان به وطاعته ٢٤٨
أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله أن يعطي ولايته على الأمة الى الأئمة بعده عليهم السلام ٢٤٩
أحاديث شريفة في مقامات النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ٢٥١
ملاحظات من هذه الآيات والأحاديث ٢٥٢
ناشد النبي صلّى الله عليه وآله الأمة بآية: أولى بهم من أنفسهم ٢٥٥
روى البخاري تفسيرالآية مختصراً جدا! ٢٥٦
ولم يرو البخاري ولا مسلم حديث الغدير! ٢٥٧
الفصل الستون
غزوة كاملة أنكروها بغضاً بعلي عليه السلام ! ٢٥٩
غزوة بني سليم أو غزوة ذات السلاسل ٢٥٩
كيف أخفت الحكومات هذه الغزوة وحرفوها؟ ٢٦٣
الفصل الحادي والستون
بذاءة قريش وكفرها في تعاملها مع النبي صلّى الله عليه وآله ! ٢٦٧
سماه القرشيون: ابن ابي كبشة وأبوكبشة زوج حليمة السعدية! ٢٦٧
سماه المشركون ساحراً ومسحوراً وقالت عائشة إنه سحر ستة أشهر! ٢٦٩
رد فرية السحر عن النبي صلّى الله عليه وآله ً ٢٧١
قالوا الدين قسمان: قسم وحي من الله وقسم من محمد! ٢٧٢
وقالوا: يحابي ابن عمه علياً عليه السلام ويرفع خسيسته! ٢٧٣
وقالوا: محمد في بني هاشم كنخلة في مزبلة! ٢٧٦
بعد فتح مكة سكن ألوف الطلقاء المدينة وأفسدوا جوها! ٢٧٧
قالوا والداه كافران وزعموا أنه قال لشخص: أبي وأبوك في النار! ٢٧٩
رووا عن عمرو العاص أن النبي صلّى الله عليه وآله تبرأ من آل أبي طالب! ٢٨٠
< صفحة > 512 < / صفحة >
الفصل الثاني والستون
نماذج من بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله ! ٢٨٣
أنا أفصح من نطق بالضاد وأوتيت جوامع الكلم ٢٨٣
رسول الله صلّى الله عليه وآله أفصح العرب وأبلغهم ٢٨٣
معنى قوله صلّى الله عليه وآله : أوتيت جوامع الكلم ٢٨٥
أعطيت جوامع الكلم: قالها في مقابل النصوص اليهودية ٢٨٨
أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصاراً ! ٢٨٨
من كلمات النبي صلّى الله عليه وآله المبتكرة ٢٨٩
ألأ بعاد الثلاثة الأهم في كلام النبي صلّى الله عليه وآله ٢٩٢
ما كُتب في بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله ٢٩٢
علي والزهراء وأئمة العترة عليهم السلام يتلون النبي صلّى الله عليه وآله في البلاغة ٢٩٦
دراسة بلاغية لنماذج من كلام النبي صلّى الله عليه وآله ٣٠٣
أحاديث مفسرة لهذا الحديث ٣٠٨
رواية الطبري في تاريخه ٣١٣
رواية البلاذري ٣١٥
ملاحظات من الحديث ٣١٦
الفصل الثالث والستون
أم سلمة بطلة نساء النبي صلّى الله عليه وآله بعد خديجة عليها السلام ٣١٧
ضرورة فهم صراع بطون قريش مع بني هاشم ٣١٧
بنو مخزوم أهم بطون قريش بعد بني هاشم وأمية ٣١٨
تحدى أبوسلمة وأم سلمة الوليد بن المغيرة وأعلنا إسلامهما ٣٢٠
كان أبوسلمة ابن أخت أبي طالب فحماه من مخزوم! ٣٢١
زار النبي صلّى الله عليه وآله أباسلمة وهو محتضر ودعا له ٣٢٢
أم سلمة أفضل أزواج النبي صلّى الله عليه وآله بعد خديجة عليهما السلام ٣٢٣
< صفحة > 513 < / صفحة >
أم سلمة أرقى من بقية نساء النبي عدا خديجة ٣٢٤
وصفت أم سلمة هجرة المسلمين الى الحبشة وصفاً بليغاً ٣٢٤
وصفت هجرتها الى المدينة وكيف ردها بنو مخزوم! ٣٢٧
كان النبي صلّى الله عليه وآله يُعَلم أم سلمة فحسدتها عائشة! ٣٢٨
أحاديث أم سلمة عليها السلام مميزة بصدقها ودقتها ٣٣٠
روت أم سلمة كل عقائد الشيعة ٣٣١
روت أم سلمة: وصية النبي صلّى الله عليه وآله لعلي عليه السلام ٣٣٣
روت: أم سلمة أن أهل بيتي مصطلح خاص بالعترة ٣٣٣
أراد عمر أن يبطل حقوق أهل البيت عليهم السلام فردت عليه! ٣٣٤
روت ثواب من تذاكروا فضائل أهل البيت عليهم السلام ٣٣٤
أمينة النبي صلّى الله عليه وآله على تربة الحسين عليه السلام ٣٣٥
أمينة النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ٣٣٦
كانت أم سلمة تشتري العبيد وتعتقهم ٣٣٦
انتصرت لعمار بن ياسر مقابل عثمان ٣٣٨
جعلوا لقب أم المؤمنين خاصاً بعائشة! ٣٣٩
قالت عائشة: حزبي وحزب أم سلمة! ٣٣٩
ردت أم سلمة على عائشة وروت مناقب علي عليه السلام ٣٤٠
ردت أم سلمة زعم عائشة جواز رضاع الكبير! ٣٤١
وتكلمت أم سلمة بعد خطبة فاطمة عليها السلام التاريخية ٣٤٢
أوصت فاطمة عليها السلام بأن تشارك أم سلمة في جنازتها ٣٤٢
نصحت أم سلمة عائشة نصيحة بليغة ٣٤٢
رسالة أم سلمة الى أمير المؤمنين عليه السلام ٣٤٧
يا حائط! ألم أقل لك ألم أنهك! ٣٤٨
أم سلمة آخر أمهات المؤمنين موتاً ٣٤٨
أولاد أم سلمة الستة ٣٤٨
< صفحة > 514 < / صفحة >
الفصل الرابع والستون
من مقامات رسول الله صلّى الله عليه وآله ونمط تعامل الناس معه ٣٥٠
١. كان في سرادق العرش في العالين ٣٥٠
٢. كان أول من أجاب ببلى في عالم الذر ٣٥١
٣. تاب الله على آدم عليهم السلام بتوسله بالنبي وآله صلّى الله عليه وآله ٣٥١
٤. دعوة أبيه إبراهيم وبشارة الأنبياء عليهم السلام ٣٥١
٥. يجب على كل الناس الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله ٣٥٢
٦. وجوب طاعة النبي صلّى الله عليه وآله ٣٥٢
٧. وجوب توقيرالنبي وتعظيمه صلّى الله عليه وآله ٣٥٥
٨.حق رسول الله صلّى الله عليه وآله أعظم من حق الوالدين ٣٥٧
٩. تعامل المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وآله ٣٦٠
١٠. أنواع تعامل المشركين والمنافقين مع النبي صلّى الله عليه وآله ٣٦٢
١١. من تعامل الأجلاف والخشنين مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ٣٦٥
الفصل الخامس والستون
تعامل النبي صلّى الله عليه وآله مع الحيوانات والطيور ٣٦٨
آيات قرآنية في نعمة الحيوانات علينا ٣٦٨
زين للناس امتلاك الحيوانات ٣٧٠
الأنعام نزلت الى الأرض من السماء! ٣٧٠
الحج مناسبة شكر الله على نعمة الأنعام ٣٧٠
أبطل الإسلام تشريعات الجاهلية في الأنعام ٣٧٠
نعمة حشرة النحل والعسل ٣٧١
قواعد نبوية في التعامل مع الحيوان ٣٧١
من معجزات النبي صلّى الله عليه وآله مع بعض الحيوانات ٣٧٢
دفاع النبي صلّى الله عليه وآله عن الحيوانات وأمره بالرفق بها ٣٧٤
< صفحة > 515 < / صفحة >
حيوانات مدحها النبي صلّى الله عليه وآله ٣٧٥
ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله في القطة ٣٧٧
ما ورد في النهي عن قتل الخطاف ٣٧٨
ما ورد في النهي عن قتل القنبرة ٣٧٩
ما ورد في جواز قتل الحيوانات والحشرات المؤذیة ٣٧٩
نهى النبي صلّى الله عليه وآله عن أذى الحيوان والطير وذبحه لغير حاجة ٣٨٠
كان النبي صلّى الله عليه وآله يأكل اللحم ٣٨١
نهى النبي صلّى الله عليه وآله عن أكل اللحم نيئاً ٣٨٢
ما يؤكل من الطيور والسباع ٣٨٢
ما يؤكل من البيض والطير ٣٨٢
ما يؤكل من السمك ٣٨٣
الفصل السادس والستون
سياسة النبي صلّى الله عليه وآله مع الأسرى ٣٨٤
آيات قرآنية في الأسرى ٣٨٤
أسر اليهود بعضهم لبعض! ٣٨٥
أكثر من أسرهم النبي صلّى الله عليه وآله أسلموا أو تأثروا بأخلاقه ومعاملته ٣٨٥
ذاقت قريش سنين القحط لكنها لم تتضرع لربها! ٣٨٦
عزل أبوبكر ثمامة فاضطهده مسيلمة الكذاب! ٣٨٧
الرجل اليماني المجادل السخيّ ٣٨٨
رجع أسرى بدر كفاراً ما عدا ثلاثة ٣٨٨
خلاصة من كتاب الأسير في الإسلام ٣٩٠
معنى:وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ٣٩٥
رفع اليهود أسرى بني قريظة قميص عثمان! ٣٩٦
< صفحة > 516 < / صفحة >
الفصل السابع والستون
من تأثير القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله ٣٩٨
بعض الآيات في فضل القرآن ٣٩٨
يتعجب النبي صلّى الله عليه وآله كيف يقرأ القرآن ولا يشيب! ٤٠٢
شيبتني سورة هود: كلام كنائي بين النبي صلّى الله عليه وآله وأبي بكر ٤٠٣
لو أظهر النبي صلّى الله عليه وآله صوته بالقرآن لصعق الناس من حسنه ٤٠٤
كان أحياناً يقوم الليلة بآية من القرآن! ٤٠٥
كيف هزَّ القرآن وجدان العرب؟ ٤٠٥
١. الوليد بن المغيرة رئيس بطن مخزوم ٤٠٥
٢. عتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وعبد شمس ٤٠٨
٣. أسعد بن زرارة الخزرجي الأنصاري ٤٠٩
٤. وفدٌ من علماء النصارى جاؤوا مع جعفر ٤١١
٥. أربعة من كبار الأدباء الملحدين ٤١٢
٦. الفيلسوف الكندي ٤١٣
المكي والمدني من القرآن قماش واحد! ٤١٥
كثرة الكذب والتناقض في رواياتهم لأسباب النزول ٤١٧
الفصل الثامن والستون
من أقوال علماء الغرب في النبي صلّى الله عليه وآله والقرآن ٤١٩
من أقوالهم في النبي صلّى الله عليه وآله ٤١٩
من أقوال الغربیین في القرآن ٤٢٦
الفصل التاسع والستون
الشدائد التي مر بها النبي صلّى الله عليه وآله ٤٢٩
فهرس الشدائد التي مر بها النبي صلّى الله عليه وآله ٤٢٩
الشدة الأولى في حياة النبي صلّى الله عليه وآله : نشأته يتيماً ٤٣١
< صفحة > 517 < / صفحة >
الشدة الثانية في حياة النبي صلّى الله عليه وآله : فقده لأمه عليها السلام ٤٣٣
الشدة الثالثة في حياته صلّى الله عليه وآله : فقده جده عبد المطلب عليه السلام ٤٣٤
الشدة الرابعة: مجموعة الشدائد في حصار الشعب ٤٣٥
الشدة الخامسة: فقده خديجة وعمه أباطالب عليهما السلام ٤٣٧
تأثير وفاة خديجة عليها السلام على النبي صلّى الله عليه وآله ٤٣٩
الشدة السادسة: لما ذهب صلّى الله عليه وآله الى الطائف فردوه أسوأ رد! ٤٤٠
الشدة السابعة: لما رجع من الطائف وطلب جوار مطعم بن عدي ٤٤١
الشدة الثامنة: لما زاد نشاط قريش لقتله بعد عودته من الطائف ٤٤٤
الشدة التاسعة: ليلة الهجرة لما طوقت قريش بيته لتقتله ٤٤٤
الشدة العاشرة: ليلة بدر أول معركة غير متكافئة مع قريش ٤٤٦
الشدة الحادية عشرة: في أحُد لما فر أصحابه وتركوه لسيوف المشركين! ٤٤٧
أصعب اللحظات في حياة علي عليه السلام ! ٤٤٩
الشدة الثانية عشرة: لما جرح النبي صلّى الله عليه وآله وجاءت فاطمة عليها السلام ٤٥٠
الشدة الثالثة عشرة: في أيام حفر الخندق وضنك المعيشة! ٤٥١
الشدة الرابعة عشرة: في أيام محاصرة الأحزاب للمدينة ٤٥٣
طال الحصار فظهر المنافقون في أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله ٤٥٤
تآمر مرضى القلوب على النبي صلّى الله عليه وآله مع الأحزاب! ٤٥٥
مبارزة علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود ٤٥٦
الشدة الخامسة عشرة: لما تثاقل المسلمون عن أمره في الحديبية! ٤٥٨
غضبَ عمر في الحديبية وانشق على النبي صلّى الله عليه وآله ! ٤٥٨
الشدة السادسة عشرة: لما انهزم المسلمون مرات في خيبر! ٤٦٠
وصل علي عليه السلام الى الحصن قبل الجيش! ٤٦١
ذهب النبي صلّى الله عليه وآله الى الحصن وبشره بنزول الوحي فيه! ٤٦٢
الشدة السابعة عشرة: لما انهزم المسلمون في حنين! ٤٦٣
الشدة الثامنة عشرة: لما ألقوا عليه الصخور ليقتلوه بعد تبوك! ٤٦٤
< صفحة > 518 < / صفحة >
الشدة التاسعة عشرة: لما تخلفوا عن جيش أسامة! ٤٦٦
الشدة العشرون: لما منعوه أن يكتب عهده! ٤٧٠
أعلن النبي صلّى الله عليه وآله في الحج اللعنة على من عصاه في أهل بيته! ٤٧٣
ولما منعوه أن يكتب عهده أرسل علياً عليه السلام ليعلن لعنته! ٤٧٥
الشدة الحادية والعشرون: الأيام الثلاثة الأخيرة أشد أيام حياته صلّى الله عليه وآله ! ٤٧٧
في كل يوم كان يقول لجبرئيل: أجدني مغموماً مكروباً ٤٧٧
حديث المغموم المكروب يجعل الولدان شيباً! ٤٧٨
الفصل السبعون
إتمام النبي صلّى الله عليه وآله الحجة على خصوم علي عليه السلام ٤٨١
مواقف نبوية لرد خصوم علي عليه السلام ٤٨١
١. هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ٤٨١
٢. غضبَ النبي صلّى الله عليه وآله من خصوم علي عليه السلام وأعدائه مرات ٤٨٢
ومرة يقول لهم: علي مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي! ٤٨٦
ومرة يقول لهم: من أحب علياً فهو مؤمن، ومن أبغض علياً فهو منافق ٤٨٧
٣. قدمت اليهم بالوعيد وأخبرتهم رجلاً رجلاً! ٤٨٨
٤. أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وآله بما الأمة صانعة بي بعده ٤٨٩
٥. وذهب النبي صلّى الله عليه وآله الى بيت عمر خاصة وأخذ بلحيته! ٤٩٠
٦. جاهدت من أمرني بجهاده وسماهم لي رجلاً رجلاً ٤٩٢
٧.أخذ النبي صلّى الله عليه وآله برأسيهما وقال لهما: إن لم تدريا فادريا! ٤٩٢
٨. وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحاربتما عليه! ٤٩٣
٩. أمر النبي صلّى الله عليه وآله الصحابة بأن يسلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين ٤٩٥
١٠. ما لك تفضل علياً علينا: ما أنا فضلته بل الله فضله ٤٩٧
١١. وأتم الحجج بقوله صلّى الله عليه وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه ٤٩٨
أخبر النبي صلّى الله عليه وآله بما يجري على ابنته فاطمة وأبنائها عليهم السلام ٤٩٩
فصول من الكتاب تتصل بهذا الفصل ٥٠٢