تكملة الولادات الثلاث

تكملة كتاب الولادات الثلاث

(هول المطلع- العرض على الله-التناصف بين العباد)

بقلم
علي الكوراني العاملي
الطبعة الأولى- 1440-2018

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد
وآله الطيبين الطاهرين.
أحمد الله تعالى على أني بين مدة وأخرى أُذَكِّرُ نفسي وَأُرَوِّضُهَا بقراءة بعض فصول كتابي: الولادات الثلاث، استعداداً للموت ولقاء الله تعالى.
أسأله عز وجل أن يبارك لنا في حياتنا وفي لقائه، وأن يحاسبنا حساباً يسيراً، ويشملنا بشفاعة موالينا رسول الله وآله الأطهار صلوات الله عليهم.
وقد توفقت لإعادة النظر في الكتاب، فلم أرَ ضرورة لتصحيحٍ فيه أو تفصيل، فاكتفيت بإضافة فصول كنت أتمنى إضافتها ليتكامل الكتاب، وهي: مسألة هَوْل المطلع، ومسألة عرض العباد على الله تعالى، ومسألة التناصف بين العباد قبل محكمة القيامة.
وها أنا أدونها جزءً مستقلاً، لتضاف في مكانها في الكتاب عند الإمكان، فتكون الفصل السابع، والرابع عشر، والخامس عشر.
أسأله تعالى أن يلطف بنا في حياتنا وموتنا وحشرنا، فهو ولي التوفيق.
كتبه: على الكوراني العاملي
بقم المشرفة في التاسع عشر من صفر الخير 1440
* *

الفصل السابع: الشدائد الثلاث عند الموت

سكرات الموت وهول المطلع وضغطة القبر

بحثنا قبض الروح وبينا سهولته على المؤمنين، وبحثنا ضغطة القبروبينا نجاة الأبرار منها. ونبحث هول المطلع لأنا لم نستوفه في الولادات الثلاث.
وسكرات الموت: هي آلام نزع الروح.
وهَوْل المُطَّلع: الرعب من المشاهد التي يشاهدها في أول نزوله الى القبر.
وضغطة القبر: عندما ينضم القبر عليه فيضغطه بشدة وآلام.
ويظهر من أحاديث هذه الشدائد الثلاث، أنه يسهل على أحدنا أن يتفادى سكرات الموت فتقبض روحه براحة، ويستقبلونه باحترام ومحبة.
ويمكن أن ينجو من ضغطة القبر، فيكون قبره روضة من رياض الجنة.
أما هول المطلع فيصعب تفاديه ! وقد ورد الدعاء بأن يعينه الله عليه، وأن يهون مرحلته على الإنسان، كما ورد الدعاء للنجاة منه، ومعناه إمكان ذلك.

هول المطلع

معنى هَوْل المطلع ووقته:

الهَوْل: الخوف الشديد مع جهالة ماينتظرك وأين يُذهب بك.(العين:4/87). وهَوْل المَطْلَع أو المُطَّلَع أو المِطْلاع: هَوْلٌ يواجه الإنسان بعد الموت، عندما يوضع في القبر فيشرف على الآخرة، فهو رعب مما يراه، ومن أخذهم له نحومجهول، ولعل الحكمة من هذه المفاجأة المهولة والهزة الشديدة للإنسان، أن يستيقظ، ويذوق طرفاً من المجازاة على السيئات.
(المُطَّلَعُ: المَأْتَى، موضع الإطِّلاعِ من إِشْرافٍ إِلى انْحِدارٍ. وفي حديث عمر أَنه قال عند موته:لو أَنَّ لي ما في الأَرض جميعاً لافْتَدَيْتُ به من هَوْلِ المُطَّلَعِ! يريد به ما يُشْرِفُ عليه من أَمرالآخرة عَقِيبَ الموت). (لسان العرب(8/238).
ويبدأ من أول النزول في القبر، ولذا ورد النهي عن إنزال الميت دفعة واحدة، بل بالتدريج. قال أمير المؤمنين عليه السلام: (فإنكم لوقد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب). (نهج البلاغة:1/57).
وفي علل الشرائع (1/306) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إذا جئت بأخيك إلى القبر فلا تَفْدَحْهُ به، ضعه أسفل من القبر بذراعين أو ثلاثة حتى يأخذ لذلك أهبته، ثم ضعه في لحده. وإن استطعت أن تلصق خده بالأرض وتحسرعن خده فافعل، وليكن أولى الناس به مما يلي رأسه، وليتعوذ بالله من الشيطان، وليقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد وآية الكرسي، ثم ليقل مايعلم حتى ينتهى إلى صاحبه).
وفي من لايحضره الفقيه (1/171): (ويدخله القبر من يأمره ولي الميت، إن شاء شفعاً وإن شاء وتراً، ويقال عند النظر إلى القبر: اللهم اجعله رَوْضة من رياض الجنة، ولا تجعله حُفرة من حُفَر النيران).
وقال في جواهر الكلام (4 /282) ملخصاً:(ينقله، رجلاً كان أو امرأة، في ثلاث دفعات وفي الثالثة النزول، ولا يخفى بُعْدُه إذ الظاهر منه أن التقديم إلى شفيرالقبر هو نقل النزول، فيكون الرفع حينئذ دفعتين، نعم يتثلث الوضع بإدخال الوضع الذي على شفير القبر المتعقب له النزول فيها. بل الموجود في صحيح عبد الله بن سنان وروايتي محمد بن عطية ومحمد بن عجلان وغيرها إنما هو وضعه دون القبر هنيئة، ثم دفنه).
لا تفجأه بالقبر: لا تضعه فيه بغتة ودفعة. تفدح القبر به: تثقل القبر بالميت دفعة.

هول المطلع وأهوال القيامة:

استعملت الأحاديث الشريفة تعبير هَوْل المطلع وأهْوَال القيامة، وقد يقال إن أهوال القيامة لا تشمل هول المطلع، لأن أهوال القيامة تبدأ من المحشر، وهول المطلع في الدنيا عندما يوضع الإنسان في قبره.
لكن الصحيح أن أهوال القيامة تشمله لأن القيامة تبدأ من موت الإنسان !
فقد روى العامة: إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، وفي أمالي الطوسي/159: أن الحسين زار أخاه الحسن عليهما السلام في مرضه: (فقال له: كيف تجدك يا أخي؟ قال: أجدني في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا).
وقال أميرالمؤمنين عليه السلام (الكافي:3/231): (إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة مُثِّلَ له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك.قال: فيلتفت إلى وُلده فيقول: والله إني كنت لكم محباً وإني كنت عليكم حانياً فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك نواريك فيها. قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهداً وإن كنت عليَّ لثقيلاً فماذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك..الحديث).
فأحاديث أهوال القيامة تشمل هول المطلع، وهي كثيرة.

الدعاء للنجاة من هول المطلع:

1. كان الإمام الصادق عليه السلام: (إذا قام آخر الليل رفع صوته حتى يسمع أهل الدار، يقول: اللهم أعني على هول المطْلع، ووسع عليَّ المضجع، وارزقني خير ما قبل الموت، وارزقني خير ما بعد الموت). (الفقيه:1/480).
2. في الكافي (8 /174) من خطبة لأميرالمؤمنين عليه السلام يوم الجمعة: (مع أنه لم يصب امرؤ منكم في هذه الدنيا حَبْرة إلا أورثته عِبْرة، ولا يصبح فيها في جناح آمن إلا وهو يخاف فيها نزول جائحة، أو تَغُيَّرنعمة أو زوال عافية، مع أن الموت من وراء ذلك، وَهَوْل المطلع، والوقوف بين يدي الحَكَم العدل لتجزى كل نفس بما عملت).
3. في التهذيب (6/117):من الدعاء للميت:(اللهم صل على محمد وآله محمد واغفر له وارحمه واعف عنه، وعن جميع المؤمنين والمؤمنات. اللهم صل على محمد وآل محمد، وأعذه من هول المطلع ومن فزع يوم القيامة، وسوء المنقلب، ومن ظلمة القبر ووحشته،ومن مواقف الخزي في الدنيا والآخرة).
4.وصف أمير المؤمنين عليه السلام المتقين فقال (تحف العقول/160): (أما النهار فحكماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف أمثال القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ويقول: قد خولطوا، وقد خالط القوم أمر عظيم! إذا هم ذكروا عظمة الله تعالى وشدة سلطانه، مع ما يخالطهم من ذكر الموت وأهوال القيامة، أفزع ذلك قلوبهم، وطاشت له أحلامهم، وذهلت له عقولهم)!
5. في نهج البلاغة (2/130):(ومن خطبة له عليه السلام:أحمده شكراً لإنعامه، وأستعينه على وظائف حقوقه. عزيزُ الجند، عظيم المجد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا إلى طاعته، وقاهر أعداءه، جهاداً على دينه، لايثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لإطفاء نوره.فاعتصموا بتقوى الله فإن لها حبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته. وبادروا الموت في غمراته، وامهدوا له قبل حلوله، وأعدوا له قبل نزوله، فإن الغاية القيامة، وكفى بذلك واعظاً لمن عقل، ومعتبراً لمن جهل، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس، وشدة الإبلاس، وهَوْلِ المطلع، وروعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد، وخيفة الوعد، وغم الضريح، وردم الصفيح ! فالله الله عباد الله، فإن الدنيا ماضية بكم على سَنَن).
6. وفي مصباح المتهجد/133: (كان علي بن الحسين عليهما السلام يدعو بهذا الدعاء في جوف الليل إذا هدأت العيون: إلهي، إن ذكرت الموت وهول المطلع والوقوف بين يديك، نغصني مطعمي ومشربي، وأغصني بريقي).
ومعناه أنه مع علمه عليه السلام بأنه آمن من هول المطلع، لكنه لا يحتم على ربه عز وجل. وعلى هذا يحمل ما روي عن المعصومين عليهم السلام من خوفهم من هول المطلع.
7. في كامل الزيارات/517،والمتهجد/765 والفقيه(2/604): (اللهم إني أتقرب إليك بزيارتهم ومحبتهم، وأوالي وليهم، وأعادي عدوهم، فارزقني بهم خير الدنيا والآخرة واصرف عني بهم شر الدنيا والآخرة،وأهوال يوم القيامة).
8. وفي مصباح المتهجد/471: (اللهم لقني حجتي يوم الممات، ولا ترني عملي حسرات، ولا تفضحني بسريرتي يوم ألقاك، ولاتخزني بسيئاتي وببلائك عند قضائك، وأصلح ما بيني وبينك واجعل هواي في تقواك، واكفني هول المطلع، وما أهمني وما لم يهمني مما أنت أعلم به مني من أمر دنياي وآخرتي).
9. في تهذيب الأحكام (3/93) عن الإمام الصادق عليه السلام قال:(اللهم بارك لي في الموت.اللهم أعني على الموت. اللهم أعني على سكرات الموت. اللهم أعني على غم القبر. اللهم أعني على ضيق القبر. اللهم أعني على ظلمة القبر. اللهم أعني على وحشة القبر. اللهم أعني على أهوال يوم القيامة. اللهم بارك لي في طول يوم القيامة. اللهم زوجني من الحور العين).
10. في مصباح المتهجد/765:(وأوردنا موارد الأمن من أهوال يوم القيامة)
11. في الكافي (8 /132) من مناجاة الله لعيسى عليه السلام:(يا عيسى كن مع ذلك تُلَيِّن الكلام وتُفشي السلام، يقظان إذا نامت عيون الأبرار، حذراً للمعاد والزلازل الشداد وأهوال يوم القيامة، حيث لاينفع أهل ولا ولد ولا مال).
12. في الكافي (3 /250):(لما مات ذر بن أبي ذر، مسح أبو ذر القبر بيده ثم قال: رحمك الله يا ذر والله إن كنت بي لبَرّاً، ولقد قُبضتَ وإني عنك لراض. أما والله ما بي فقدك وما عليَّ من غضاضة، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك.
ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، والله ما بكيت لك ولكن بكيت عليك، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك. ثم قال: اللهم إني قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي، فهب له ما افترضت عليه من حقك، فأنت أحق بالجود مني).
13. في تهذيب الأحكام (6/116) من دعاء الزائر للمعصوم عليه السلام إذا كان نائباً، ملخصاً: (اللهم إن فلان بن فلان أوفدني إلى مولاه ومولاي لأزور عنه، رجاءً لجزيل الثواب وفراراً من سوء الحساب، اللهم إنه يتوجه إليك بأوليائك الدالين عليك في غفرانك ذنوبه وحط سيئاته، ويتوسل إليك بهم عند مشهد إمامه صلوات الله عليه، اللهم فتقبل منه واقبل شفاعة أوليائه صلوات الله عليهم فيه، اللهم جازه على حسن نيته وصحيح عقيدته، وصحة موالاته أحسن ما جازيت أحداً من عبيدك المؤمنين، وأدم له ما خولته، واستعمله صالحاً فيما آتيته، ولا تجعلني آخر وافد له يوفده، اللهم أعتق رقبته من النار وأوسع عليه من رزقك الحلال الطيب، واجعله من رفقاء محمد وآل محمد وبارك له في ولده وماله وأهله وما ملكت يمينه.
اللهم صل على محمد وآل محمد وحل بينه وبين معاصيه حتى لايعصيك، وأعنه على طاعتك وطاعة أوليائك حتى لاتفقده حيث أمرته، ولا تراه حيث نهيته. اللهم صل على محمد وآله محمد واغفر له وارحمه واعف عنه وعن جميع المؤمنين والمؤمنات. اللهم صل على محمد وآل محمد وأعذه من هول المطلع، ومن فزع يوم القيامة وسوء المنقلب، ومن ظلمة القبر ووحشته، ومن مواقف الخزي في الدنيا والآخرة.اللهم صل على محمد وآل محمد واجعل جائزته في موقفي هذا غفرانك، وتحفته في مقامي هذا عند إمامي صلوات الله عليه، أن تقيل عثرته وتقبل معذرته،وتتجاوز عن خطيئته وتجعل التقوى زاده،وما عندك خيراً له في معاده، وتحشره في زمرة محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وتغفر له ولوالديه، فإنك خير مرغوب إليه، وأكرم مسؤول اعتمد العباد عليه.اللهم ولكل موفد جائزة ولكل زائركرامة، فاجعل جائزته في موقفي هذا غفرانك والجنة، له ولي ولجميع المؤمنين والمؤمنات. اللهم وأنا عبدك الخاطئ المذنب المقربذنوبه فأسألك يا الله بحق محمد وآل محمد أن لاتحرمني بعد ذلك الأجر والثواب من فضل عطائك وكرم تفضلك. ثم ترفع يديك إلى السماء مستقبل القبلة عند المشهد وتقول: يا مولاي يا إمامي عبدك فلان بن فلان أوفدني زائراً لمشهدك، يتقرب إلى الله عز وجل بذلك، والى رسول الله واليك، يرجو بذلك فكاك رقبته من النار، من العقوبة، فاغفر له ولجميع المؤمنين والمؤمنات. يا الله يا الله يا الله،يا الله يا الله يا الله يا الله، لا إله إلا الله الحليم).
أقول: يتمنى المرء لبلاغة هذا الدعاء، أن يستنيب أحداً عنه للزيارة فيقرأه له في مشهد المعصوم عليه السلام.

14. الناجون من أهوال القبر والآخرة:

ورد الحديث بأن المؤمن الكامل ناجٍ من هول المطلع، وبقية أهوال القيامة.
قال الإمام الصادق عليه السلام (الكافي:2/248): (المؤمن مؤمنان، فمؤمن صدَّق بعهد الله ووفى بشرطه، وذلك قول الله عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فذلك الذي لاتصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة، وذلك ممن يَشفع ولا يُشفع له.ومؤمنٌ كخامة الزرع،تعوجُّ أحياناً وتقوم أحياناً، فذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة وذلك ممن يُشفع له ولا يَشفع.
ورواه في لفظ: ومؤمن زلت به قدم، فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة، ويشفع له وهو على خير).
وفي كامل الزيارات/168: (ما من عبد يحشر إلا وعيناه باكية إلا الباكين على جدي الحسين عليه السلام فإنه يحشر وعينه قريرة، والبشارة تلقاه، والسرور بين على وجهه، والخلقُ في الفزع وهم آمنون.. الى أن قال: فيقولون الحمد لله الذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة، ونجانا مما كنا نخاف).
وفي أمالي الطوسي/65، عن الصادق عليه السلام قال:(ياسالم، من صام يوماً من آخر هذا الشهر(رجب) كان ذلك أماناً له من شدة سكرات الموت، وأماناً له من هول المطلع، وعذاب القبر.ومن صام يومين من آخر هذا الشهر،كان له بذلك جواز على الصراط، ومن صام ثلاثة أيام من آخر هذا الشهر، أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده، وأعطي براءة من النار).
وقال العلامة في الرسالة السعدية/138:(عن سديرالصيرفي قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فذكروا عنده المؤمن فالتفت إلي فقال: ياأبا الفضل ألا أحدثك بحال المؤمن عند الله؟ قلت بلى فحدثني، قال: إذا قبض الله روح المؤمن صعد ملكاه إلى السماء فقالا: ربنا عبدك فلان ونعم العبد، كان لك سريعاً في طاعتك وبطيئاً في معصيتك وقد قبضته إليك فماذا تأمرنا من بعده؟ فيقول الله تعالى لهما: إهبطا إلى الدنيا فكونا عند قبرعبدي، فمجداني وسبحاني وهللاني وكبراني، واكتبا ذلك لعبدي حتى أبعثه من قبره.
ثم قال ألا أزيدك؟ فقلت: بلى فزدني، فقال: وإذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه، وكلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لاتحزن ولا تفزع، وأبشربالسرور والكرامة من الله. ولايزال يبشره بالسرور والكرامة من الله عز وجل، حتى يقف بين يدي الله فيحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنة، والمثال أمامه فيقول: رحمك الله نعم الخارج خرجت معي من قبري، وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله تعالى حتى رأيت ذلك، فمن أنت؟ فيقول له المثال: أنا السرور الذي كنت تدخله على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله منه لأبشرك).
وفي كفاية الأثر/136: (عن حذيفة اليمان قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: معاشر أصحابي أوصيكم بتقوى الله والعمل بطاعته، فمن عمل بها فاز وغنم وأنجح، ومن تركها حلت به الندامة، فالتمسوا بالتقوى السلامة من أهوال يوم القيامة، فكأني أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ماإن تمسكتم بهما لن تضلوا، ومن تمسك بعترتي من بعدي كان من الفائزين، ومن تخلف عنهم كان من الهالكين).
وفي مناقب ابن شاذان/65: (ألا ومن أحب علياً أظله الله في ظل عرشه، مع الصديقين والشهداء والصالحين، وآمنه من الفزع الأكبر، وأهوال يوم الصاخة).
وفي أمالي الطوسي/667: (وعليكم بحج هذا البيت، فأدمنوه فإن في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم، وأهوال يوم القيامة).

15.الشيعة غير المقبولين يدخلون النار لمدة:

اتفق المسلمون كافة على أن الموحد إذا مات على التوحيد، فقد يدخل النار بذنوبه لكن لمدة ولا يخلد فيها. واتفق علماء الشيعة على أن من يموت على ولاية أهل البيت عليهم السلام وتُقبل ولايته يدخل الجنة.
وقالوا: من مات على ولايتهم وليس من عاش، لأن الإنسان عند احتضاره تعمل له جردة حساب وتختم صحيفة أعماله، ولهذا العمل أصول وقوانين، فإن قبلت ولايته وأثبتت في صحيفته فقد نجا، لأنها تأكل سيئاته، وهذا معنى أن حبهم عليهم السلام حسنة لاتضر معه سيئة.
فقد يكون الشخص في حياته على ولايتهم لكنه يسلبها عند موته، بل قد يسلب التوحيد والإيمان بنبينا صلى الله عليه وآله ، بسبب سوء عمله، أعاذنا الله.
فأصل سلب العقيدة من بعضهم عند الموت متفق عليه عند المسلمين، وقد صح قول النبي صلى الله عليه وآله في معاوية إنه يموت على غير ملته.(مجمع الزوائد: 5/243).
وقد ورد أن الشيعة غير المقبولين يحبسون في جهنم طويلاً، قبل أن تدركهم شفاعة أهل البيت عليهم السلام، وقدسماهم أميرالمؤمنين عليه السلام المسرفين !
فقد قيل له عليه السلام كما في اعتقادات للصدوق/29: (صف لنا الموت، فقال: على الخبير سقطتم، هو أحد أمور ثلاثة يرد عليه: إما بشارة بنعيم الأبد، وإما بشارة بعذاب الأبد، وإما تخويف وتهويل وأمر مبهم لا يدري من أي الفرق هو؟ فأما ولينا والمطيع لأمرنا فهو المبشربنعيم الأبد، وأما عدونا والمخالف لأمرنا فهو المبشر بعذاب الأبد، وأما المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه، لايدري ما يؤول إليه حاله، يأتيه الخبرمبهماً مخوفاً ثم لن يسويه الله تعالى بأعدائنا، ولكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا وأطيعوا ولا تتكلوا ولاتستصغروا عقوبة الله، فإن من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلا بعد عذاب الله بثلاث مائة ألف سنة)!
فهؤلاء الدرجة السفلى من الشيعة، وورد التعبير بأراذل الشيعة، ولا أدري معنى ثلاث مئة ألف سنة، لأن تصورنا في هذه النشأة من محيطنا.

16.أما الشيعة المقبولون فكلهم في الجنة:

والأحاديث في مصادرنا عن نجاة الموالين لأمير المؤمنين عليه السلام وأئمة الهدى من العترة الطاهرة عليهم السلام، ودخولهم الجنة، متواترة ومتنوعة، نكتفي بإيراد نماذج منها:
أ. قال عمرو بن يزيد (الكافي:3/242):(قلت لأبي عبد الله(الصادق عليه السلام): إني سمعتك وأنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم؟ قال: صدقت كلهم والله في الجنة. قال قلت: جعلت فداك إن الذنوب كثيرة كبار؟فقال: أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي صلى الله عليه وآله، ولكني والله أتخوف عليكم في البرزخ. قلت: وما البرزخ؟ قال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة).
ب. في الخصال/25، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (يا نجم كلكم في الجنة معنا إلا أنه ما أقبح بالرجل منكم أن يدخل الجنة قد هتك ستره وبدت عورته، قال قلت له:جعلت فداك وإن ذلك لكائن؟قال: نعم، إن لم يحفظ فرجه وبطنه).
وفي رواية في شرح الأخبار(3/509):(ما أقبح بالرجل منكم يكون قد دخل الجنة مع قوم قد اجتهدوا وعملوا الأعمال الصالحة، ويكون هو بينهم قد هتك ستره وبدت عورته) ! فمعنى بدت عورته: ظهر نقصه عن غيره، كأن يكون في هيئة دون هيئتهم، ودرجة دنيا من الجنة !
جـ. في المحاسن للبرقي (1/181):(عن محمد بن مسلم الثقفي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن عن يمين العرش قوماً وجوههم من نور على منابر من نور يغبطهم النبيون ليسوا بأنبياء ولا شهداء، فقالوا: يا نبي الله وما ازدادوا هؤلاء من الله إذا لم يكونوا أنبياء ولا شهداء إلا قرباً من الله؟ قال: أولئك شيعة علي، وعلي إمامهم).
د. وفي قرب الإسناد/102:(قال رسول الله صلى الله عليه وآله:يبعث الله عباداً يوم القيامة تهلل وجوههم نوراً، عليهم ثياب من نور، فوق منابر من نور، بأيديهم قضبان من نور، عن يمين العرش وعن يساره، بمنزلة الأنبياء وليسوا بأنبياء وبمنزلة الشهداء وليسوا بشهداء. فقام رجل فقال: يا رسول الله، أنا منهم؟ فقال: لا. فقام آخر فقال:يا رسول الله، أنا منهم؟ فقال: لا. فقال: من هم يا رسول الله؟ قال:فوضع يده على منكب علي عليه السلام فقال: هذا وشيعته).
هـ. في أمالي الصدوق/157: (عن جابر بن عبد الله، قال: لما قدم علي عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله بفتح خيبر، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى للمسيح عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم قولاً لا تمر بملإ إلا أخذوا التراب من تحت رجليك، ومن فضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك، ترثني وأرثك وأنك مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، وإنك تبرئ ذمتي وتقاتل على سنتي، وإنك غداً على الحوض خليفتي، وإنك أول من يرد علي الحوض، وإنك أول من يكسى معي، وإنك أول داخل الجنة من أمتي، وإن شيعتك على منابر من نور، مبيضة وجوههم حولي، أشفع لهم، يكونون غداً في الجنة جيراني، وإن حربك حربي، وسلمك سلمي، وإن سرك سري، وعلانيتك علانيتي، وإن سريرة صدرك كسريرتي، وإن ولدك ولدي، وإنك تنجز عداتي، وإن الحق معك، وإن الحق على لسانك وقلبك وبين عينيك، الإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وإنه لن يرد علي الحوض مبغض لك، ولن يغيب عنه محب لك حتى يرد الحوض معك. قال: فخر علي عليه السلام ساجداً، ثم قال: الحمد لله الذي أنعم علي بالإسلام، وعلمني القرآن، وحببني إلى خير البرية خاتم النبيين وسيد المرسلين، إحساناً منه وفضلاً منه علي. قال فقال النبي صلى الله عليه وآله: لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي).
* *

الفصل الرابع عشر: وَعُرِضُـوا عَلَى رَبِّكَ صَـفًّا..

معنى النفختين في الصور

قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيْئَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
وقد خصصنا الفصل العاشرلبحث النفخ في الصور، وقلنا إنهما: نفخة إنهاء الحياة، ثم نفخة إعادتها من جديد. ونلاحظ أن آيات النفخة الأولى أقل من آيات الثانية، والسبب أن الأولى نفخة موت كل ذي روح في الأرض والسماء إلا من استثنى الله تعالى. أما الثانية فهي نفخة إحياء الأموات وسَوْقِهم إلى المحشر، وأحداثها متعددة، فهي أوسع من الأولى.
سئل الإمام الصادق عليه السلام (الإحتجاج:2/77): (أفتتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور. فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولامحسوس.ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها، وذلك أربع مائة سنة يسبت فيها الخلق، وذلك بين النفختين).
وسئل الإمام الصادق عليه السلام (الكافي:3/251) عن الميت يبلى جسده: (قال: نعم حتى لايبقى له لحم ولاعظم، إلا طينته التي خلق منها فإنها لا تبلى، تبقى في القبر مستديرة، حتى يُخلق منها كما خلق أول مرة).
(وأخرج البخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال:قال رسول الله (ص):بين النفختين أربعون. قالوا يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال: أبَيْتُ. قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبَيْتُ.قالوا:أربعون عاماً. قال: أبيت. ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شئ إلايبلى إلا عظماً واحداً وهوعُجْبُ الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة).(الدر المنثور: 5/337).
وروى الطبري في تفسيره (16/38) عن أبي هريرة أن الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين)!
والصحيح أن الصور العمران بالحياة، يقال: له صورٌ من نخل، فهي نفخة الفزع ثم نفخة الصعق، فأهل السماوات والأرضين يفزعون منها، ثم يصعقون.
أما رواية البخاري في عجب الذنب، فرواية الكافي قبلها أصح وأكثر منطقية.

يوم العرض الأكبر ومكانه

تبدأ مشاهد القيامة بالنفخ في الصور وموت المخلوقات، ثم يطوي الله السماء ويعيد خلق الكون، ثم يزرع الناس في الأرض فتنمو أجسادهم وترجع اليها الأرواح. ثم ينفخ في الصور فيخرج الناس من الأجداث، ويصنفونهم أصنافاً، ويصفونهم صفوفاً.
فتصنيف الناس هو أول مرحلة بعد خروجهم من قبورهم، ثم يعرضون على الله تعالى، ويظهرأن العرض يطول أياماً أو شهوراً، وتظهر معه أعمال الإنسان مكتوبة، أو مصورة، أو مجسدة، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. ومن أحداث العرض: عرض النار على الناس، وعلى المجرمين خاصة، وعرض الأشرار على النار.
وفي ختام العرض يخاطب الله تعالى عباده، ويأمرهم بأن يتناصفوا في ظلاماتهم ويتصافَوْا، فيأخذ المظلوم حقه من ظالمه من حسناته، أو يعطيه من سيئاته، أو يعفوعنه ابتغاء ثواب الله، فيثيبه الله إن كان المعفو عنه مؤمناً.
والملائكة تساعد الناس في العرض وفي الإصطفاف وفي التناصف، فمع كل شخص ملكان: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، والسائق إداري خبير بالمحشر والناس، يأخذ صاحبه الى من له عنده ظلامة، أو يأتي به اليه حسب درجته. والشهيد معه ملف أعماله كاملة، ما له وما عليه.
والمقصود بعرضهم صفوفاً الصفوف العامة، وداخل كل صف مجموعات وأصناف من الناس، حسب قوانين الحشر والتصنيف والتنظيم.
ونلاحظ في أحاديث المحشرأن الله عز وجل يكلم نبيه صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام مباشرة، وهو تكريم عظيم لهم. وروي أنه يخاطب القرآن، ويخاطب طفلاً، ورجلاً شيبة. أما الناس فيأمر ملكاً فيكلمهم، إلا عند العرض فيكلمهم ويأمرهم بالتناصف مع بعضهم.
وفي نهاية الحساب يخاطبهم جميعاً فرداً فرداً في آن واحد، خطاباً مهيباً تحار فيه العقول، ويظن كل منهم أنه يخاطبه وحده، وبعدها يقول له: إِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .
أما مكان العرض فهو غير أرض المحشر، ويظهر أنه نفس أرض التناصف فالناس يزرعون في الأرض فتنمو أجسامهم وترجع اليها الأرواح، ويخرجون من قبورهم وهم مئات المليارات ويتجهون الى مكان آخر من الأرض، يتم فيه تصنيفهم وعرضهم على الله تعالى، وهذا المكان دون عقبة المحشر، ولايسمح للناس أن يعبروها الى ساحة المحشر حتى يكملوا التناصف فيما بينهم، وتصفية ظلاماتهم مع بعضهم البعض.
وتطول مدة تصفية الظلامات، ويبقى منها القليل، فيحول الى محكمة المحشر، ويؤمر الناس بعبور عقبة المحشر، فيندفعون ويتجمعون في ساحته كل مع نبيه وإمامه، ويبدأ المحشر بخطبة الإفتتاح من نبينا صلى الله عليه وآله.

نوع العرض يوم القيامة

1. عرض كل الناس أمام الله تعالى:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا.
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى.
2. عرض الكذابين على الله تعالى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.
3. عرض الكافرين على النار:
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا.
4. عرض الكافرين على النار في البرزخ:
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ للَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ.
5. عرض جهنم للكافرين:
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً.وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للَّكَافِرِينَ عَرْضًا.الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِى.
6. عرض الظالمين على النار:
ِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ. وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِي وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ.
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْللَّ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ.
* *

الإمام زين العابدين عليه السلام يبين قانون العرض والتناصف

كان المشروع الأموي يهدد وجود الإسلام كدين، لأنه يتبنى المادية الوثنية، كما يتبنى سياسة إبادة أهل البيت النبوي عليهم السلام وأنصارهم !
لذلك كان الهدف الأول للإمام زين العابدين عليه السلام تثبيت الإسلام كدين، وترسيخه في نفوس المسلمين وشعوب البلاد المفتوحة، تثبيت عقائده في الله تعالى وعلمه وقدرته، وعدله المطلق وأسمائه الحسنى، ونبوة نبينا صلى الله عليه وآله والإعتقاد بالآخرة وحسابها وجزائها، فكانت حياته ثورة فكرية وروحية على الفكر المادي.
وكان يحدث المسلمين في مسجد جده صلى الله عليه وآله ويصحح مسار الأمة ما استطاع. فكان له خطبة يوم الجمعة يبين فيها معالم الدين، وقد رووا عنه عليه السلام وصفه لمشهد العرض على الله تعالى في حديث صحيح (الكافي:8/104) قال: (حدثني أبي أنه سمع أباه علي بن أبي طالب عليه السلام يحدث الناس قال: إذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حفرهم غُرْلاً بُهماً جرداً مرداً، في صعيد واحد، يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة، حتى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضهم بعضاً، ويزدحمون دونها، فيمنعون من المضي، فتشتد أنفاسهم ويكثرعرقهم وتضيق بهم أمورهم، ويشتد ضجيجهم وترتفع أصواتهم، قال: وهو أول هَوْلٍ من أهوال يوم القيامة.
قال:فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظُلَلٍ من الملائكة فيأمر ملكاً من الملائكة فينادي فيهم: يا معشرالخلائق أنصتوا واستمعوا منادي الجبار، قال فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم، قال: فتنكسرأصواتهم عند ذلك وتخشع أبصارهم، وتضطرب فرائصهم، وتفزع قلوبهم، ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت مهطعين إلى الداع.
قال: فعند ذلك يقول الكافر: هَذَا يَوْمٌ عَسِرْ. قال: فيشرف الجبار عز وجل الحكم العدل عليهم فيقول: أنا الله لا إله إلا أنا الحكَم العدل الذي لا يجور. اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لايظلم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القوي بحقه، ولصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات وأثيب على الهبات. ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالمٌ، ولا أحد عنده مظلمة إلا مظلمة يهبها صاحبها وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب. فتلازموا أيها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهد لكم عليهم، وكفى بي شهيداً.
قال: فيتعارفون ويتلازمون فلا يبقى أحد له عند أحد مظلمة أو حق إلا لزمه بها. قال: فيمكثون ما شاء الله، فيشتد حالهم ويكثر عرقهم، ويشتد غمهم وترتفع أصواتهم بضجيج شديد، فيتمنون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها ! قال: ويطلع الله عز وجل على جَهْدِهم فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى يسمع آخرهم كما يسمع أولهم: يا معشرالخلائق أنصتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: أنا الوهاب، إن أحببتم أن تواهبوا فتواهبوا، وإن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم.
قال: فيفرحون بذلك لشدة جهدهم وضيق مسلكهم وتزاحمهم. قال: فيهب بعضهم مظالمهم رجاء أن يتخلصوا مما هم فيه، ويبقى بعضهم فيقول: يا رب مظالمنا أعظم من أن نهبها ! قال: فينادي مناد من تلقاء العرش: أين رضوان خازن الجنان جنان الفردوس؟ قال: فيأمره الله عز وجل أن يطلع من الفردوس قصراً من فضة بما فيه من الأبنية والخدم، قال: فيطلعه عليهم، في حفافة القصرالوصائف والخدم، قال: فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى: يا معشر الخلائق إرفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر، قال: فيرفعون رؤوسهم فكلهم يتمناه ! قال: فينادي مناد من عند الله تعالى: يا معشرالخلائق هذا لكل من عفا عن مؤمن! قال: فيعفون كلهم إلا القليل.
قال فيقول الله عزو جل: لايجوز إلى جنتي اليوم ظالم، ولا يجوز إلى ناري اليوم ظالم، ولأحد من المسلمين عنده مظلمة، حتى يأخذها منه عند الحساب. أيها الخلائق: إستعدوا للحساب. قال: ثم يخلى سبيلهم فينطلقون إلى العقبة يكرد بعضهم بعضاً، حتى ينتهوا إلى العرصة، والجبار تبارك وتعالى على العرش، وقد نشرت الدواوين ونصبت الموازين، وأحضرالنبيون والشهداء، وهم الأئمة عليهم السلام يشهد كل إمام على أهل عالمه بأنه قد قام فيهم بأمرالله عز وجل ودعاهم إلى سبيل الله.
قال فقال له رجل من قريش: يا ابن رسول الله، إذا كان للرجل المؤمن عند الرجل الكافر مظلمة، أي شئ يأخذ من الكافر وهو من أهل النار؟
قال فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: يطرح عن المسلم من سيئاته بقدر ما له على الكافر، فيعذب الكافر بها مع عذابه بكفره، عذاباً بقدر ما للمسلم قبله من مظلمة. قال فقال له القرشي: فإذا كانت المظلمة للمسلم عند مسلم، كيف تؤخذ مظلمته من المسلم؟ قال: يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر حق المظلوم، فتزاد على حسنات المظلوم. قال فقال له القرشي: فإن لم يكن للظالم حسنات؟ قال: إن لم يكن للظالم حسنات فإن للمظلوم سيئات، يؤخذ من سيئات المظلوم، فتزاد على سيئات الظالم).
وفي الكافي (2/443): (صعد أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الذنوب ثلاثة، ثم أمسك، فقال له حبة العرني: يا أمير المؤمنين قلت: الذنوب ثلاثة ثم أمسكت؟ فقال: ما ذكرتها إلا وأنا أريد أن أفسرها، ولكن عرض لي بَهَر(تعب في التنفس) حال بيني وبين الكلام. نعمْ الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور وذنب غير مغفور وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه. قال: يا أمير المؤمنين فبينها لنا؟ قال: نعم، أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا، فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين، وأما الذنب الذي لايغفر فمظالم العباد بعضهم لبعض، إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال: وعزتي و جلالي لايجوزني ظلم ظالم ولو كفٌّ بكف، ولو مسحةٌ بكف، ولو نطحةٌ ما بين القرناء إلى الجماء، فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتى لاتبقى لأحد على أحد مظلمة، ثم يبعثهم للحساب.وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على خلقه ورزقه التوبة منه، فأصبح خائفاً من ذنبه راجياً لربه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة ونخاف عليه العذاب).

ملاحظات

1. يكلم الله الخلائق في سائر المشاهد بأن يأمرملكاً فينادي فيسمعونه كلهم. ولا يكلهم سبحانه بنفسه مباشرة إلا في العرض وفي ختام الحساب.
ومعنى تكليمه الناس مباشرة أنه يخلق كلامه فيما شاء من مخلوقاته، كما كلم موسى عليه السلام فجعل صوته يخرج من شجرة العُلَّيق، لأنه سبحانه منزه أن يكون جسماً، وأن يكون له فم ولسان مثلنا.
2.عندما يخرج الناس من قبورهم يتحركون سراعاً الى هدف فيتجمعون عنده، ويصنفونهم أصنافاً ويصفونهم صفوفاً، ثم يتحركون نحو عقبة المحشر ليعبروها الى أرض المحشر، فيوقفون في أرض العرض دون العقبة.
أما أرض المشتل فلا نجد في أحاديث القيامة لها ذكراً بعد خروج الناس منها، ولا تسمي الرواية المكان الذي يركضون اليه، لكن يظهرأنه يتم فيه تصنيفهم وعرضهم وتناصفهم، ثم ينطلقون باتجاه العقبة الى أرض المحشر.
3. قول الإمام عليه السلام: (يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشرفيركب بعضهم بعضاً ويزدحمون دونها، فيمنعون من المضي، فتشتد أنفاسهم ويكثر عرقهم، وتضيق بهم أمورهم، ويشتد ضجيجهم، وترتفع أصواتهم. قال: وهو أول هَوْلٍ من أهوال يوم القيامة).
ومعناه أنهم يحبون عبور العقبة الى أرض المحشر، لأن امتيازاتها أحسن من مكان العرض ! لكنهم يمنعون حتى يتم تناصفهم.
ومعنى يسوقهم النور أن الأرض تضيئ فيسيرون، ثم تكون الظلمة فيقفون لأنهم لايستطيعون المشي فيها، كما تمنعهم الملائكة التي ترافقهم وتحيط بهم. فالنور والظلمة يستعملان للتحكم بحركة الخلائق الى آخر مرحلة، كما قال الله تعالى:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ للَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ. يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وهذه الآيات تتحدث عن مشهد في أواخر أحداث القيامة، بعد أن يتميز المؤمنون والمنافقون، فيتحرك المؤمنون في نور والمنافقون في ظلمة، فيقولون لهم إصبروا لنستضئ بنوركم فلا يقبلون، ويضرب بينهم بسور يميز أرض أهل الجنة عن أرض أهل النار، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله:(فإذا فُرغ من الحساب ضُرب بينهم بسور، فَرْقَاً بين أرض الجنة، وأرض النار). (مجمع البيان:8/55).
فالأرض دون السور أرض أهل الجنة والنار، أما نفس الجنة والنار فليستا في أرض المحشر، لأن مكان الجنة بعد الصراط، ومكان النار تحته يسقط فيها أهلها، كما قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا. ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا.ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا. وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
4. فأرض المحشرثلاثة أقسام: أرض المشتل الذي يزرع فيه الخلائق وينبتون ويخرجون من قبورهم. وهم يتركونها بمجرد النفخة الثانية، ولايعودون اليها. والثاني: الأرض التي يتراكضون اليها، وفيها يتم تصنيفهم وتنظيمهم صفوفاً / وفيها أو يتصل بها أرض العرض والتناصف، دون عقبة المحشر.
وفي آخر مرحلة العرض يكلمهم الله تعالى ويأمرهم بالتناصف، ويمنعهم من عبور العقبة حتى يتناصفوا، وفي كل ذلك يساقون بالنور، والظلمة.
5. قال عليه السلام:ينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى يسمع آخرهم كما يسمع أولهم. ولايمكن أن يفهم الناس كلام المنادي بالأمرالإلهي، ولغاتهم بالآلاف، إلا بأن يعلمهم الله لغة واحدة هي لغة القيامة، وقد ورد أن لغة أهل الجنة العربية، وورد أنها الفارسية، ولايصح شيئ من ذلك.فلا بد أن الله تعالى الذي علم آدم الأسماء كلها، يُعَلِّمهم لغة القيامة والجنة والنار.
6. يفهم من أحاديث مظالم الناس أن الذنوب التي يتوب منها الإنسان في الدنيا تمحى من صحيفة سيئاته ولايحاسب عليها، والذنوب التي يسامحه بها أهلها في الدنيا أو في المحشرتمحى أيضاً. فلا يبقى إلا الظلامات التي لم يعف أهلها عنها، والحق العام لله تعالى، فيحاسب عليها في محكمة المحشر.
7. قال أميرالمؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:4/104): (الغنى والفقر بعد العرض على الله). أي لا تقل لأحد هو غني أو فقيرحتى يتبين أمره بالعرض على الله تعالى لأن العرض يكشف حاله ويعين مصيره.وذلك قبل محاكمته المفصلة في المحشر. أما قبل العرض فوضعه معلق غير مستقر، في أهل الجنة أو النار.
وفي معاني الأخبار/262، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله:كل محاسب معذب.فقال له قائل: يا رسول الله فأين قول الله عز وجل: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قال: ذلك العرض، يعني التصفح).
قال الصدوق في الإعتقادات/73:« ومن الخلق من يدخل الجنة بغير حساب، فأما السؤال فهو واقع على جميع الخلق لقوله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. يعني عن الدين. وأما الذنب فلا يسأل عنه إلا من يحاسب، قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ، يعني من شيعة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام دون غيرهم، كما ورد في التفسير. وكل محاسبٍ معذب، ولو بطول الوقوف، ولاينجو من النار ولا يدخل الجنة أحد بعمله، إلا برحمة الله تعالى. والله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة، يسمع منها كل واحد قضيته دون غيرها، ويظن أنه المخاطب دون غيره، ولا تشغله تعالى مخاطبة عن مخاطبة، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا !
ويخرج الله لكل إنسان كتاباً يلقاه منشوراً، ينطق عليه بجميع أعماله لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فيجعله الله حسيب نفسه والحاكم عليها، بأن يقال له: إِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ».
أقول: لا تنافي بين إكمال حساب البشر في ساعة من ساعات الدنيا، وبين ما نص على طول الحساب ومواقفه الخمسين، التي تكون قبل الصراط وفيه..
فهذا الحساب لصنف من الناس وذاك لصنف آخر، والحساب منه مجمل في العرض، ومفصل بعده.
* *

آيات حشر الناس وتنظيم المحشر

يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا:
قال تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ.
وقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ.
وقال تعالى:يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ.
وتَشَقُّقُ الأرض يكون بعد اكتمال الأجساد وعودة الأرواح اليها، والسرعة ليست للتشقق بل للخارجين من قبورهم، أو من رحم أمهم الأرض. وقد شبهت الآية حركتهم بالراكضين الى علامة نصبت هدفاً لهم.
قال الخليل (7/66): (أوفضتُ الإبل: أعجلتها.وقوله تعالى:كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، أي يسرعون). أي دفعوا دفعاً كما تُعْجَل الإبل فتدفع الى السرعة.
وقال الخليل(7/136) وابن فارس(5/434): (النصُب:حجر كان ينصب فيُعبد. والنصُب: العَلَم. يقال نصبت الرمح وغيره أنصبه نصباً. والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر).
وقال الخليل (7/257): (النَّسْلان: مشية الذئب إذا أعنقَ وأسرعَ، والماشي ينسلُ أي يُسرع نَسْلاناً: إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، أي يُهرولون ويسرعون).
فنَسَل فيها معنى الهرولة، وفيها معنى أنهم نسل من الأرض بعد نسل آدم عليه السلام.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى:
ورد في آيتين أن الناس يأتون الى ربهم فرادى، الأولى عندما يموتون، والثانية عندما يحشرون. قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
وفُرَادَى: أي مجردين مما ملكتم من الدنيا، من مال وولد، وزينة، وممتلكات.
كَمَا خَلَقْنَاكُمْ: أي من بطون أمهاتكم.
وشفعاؤهم: رؤساؤهم المطاعون من دون الله , قال الإمام الصادق عليه السلام: نزلت هذه الآية في معاوية وبني أمية، وشركائهم وأئمتهم.(القمي:1/211).
يَأتون أفواجاً:
قال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا.
وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً.
وقال تعالى: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ.
وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ.
قال الخليل(6/190):(الفوج: القطيع من الناس، والجميع: الأفواج).
وقال ابن فارس(4/458):(الجمع أفواج وجمع الجمع أفاوج وأفاويج. وأما أفاج الرجل إذا أسرع فهو من ذوات الياء، والفيج منه). وهو الرجل البريد.
يصنف الناس زمَراً:
قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا.
وقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.
قال الخليل(7/365):(الزمرة: فوج من الناس، ويقال: جماعة في تفرقة، بعض على أثر بعض). والصحيح أن الزمرة فوج متجانس في العقيدة والخط السياسي، بقرينة مجيئ الصحابة زمراً في المحشر.
وقال الثعالبي في فقه اللغة/201:(تَرْتِيب جَمَاعَاتِ النَّاسِ وَتَدْرِيجهَا مِنَ القِلَّةِ إلى الكَثْرَةِ عَلَى القِيَاسِ والتَّقْرِيبِ:نَفَر، وَرَهْطٌ، ولُمة، وشِرْذِمَة، ثُمَّ قَبِيل، وَعُصْبَة، وَطَائِفَةٌ، ثُمَّ ثُبَة، وثُلَّة، ثُمَّ فَوْجٌ، وفِرْقَةٌ ثُمَّ حِزْب، وزُمْرَة، وزُجْلَة ثُمَّ فِئَامٌ، وجِزْلَة، وحَزِيقٌ، وَقِبْصٌ، وَجُبلَةٌ، وجُبُلُّ). وهو تقسيم تقريبي كما ذكر.
وَبَرَزُوا للَّهِ جَمِيعاً:
قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ. سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
وقال تعالى: وَبَرَزُوا للَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ للَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَئٍْ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ.
ويظهر أن تقييدهم بالأصفاد أو الأغلال والقيود، يكون بعد حسابهم، عندما يؤمر بهم الى النار، أو بعد أن يسقطوا فيها وهم يعبرون على الصراط.
مائةٌ وعشرونَ ألف صف:
معنى قوله تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا: أنهم يُصَفون مئة وعشرين ألف صفاً في عرض الأرض، بتعبير الإمام الصادق عليه السلام، أي يكون طول الصف بقدر عرض الأرض كلها، وعرض الأرض اليوم أوقطرها نحو250 ألف كيلو متر، وقد تكون يومها أكثر عرضاً وتسطيحاً، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا. طَهَ:105 فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا. لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ للَّرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا.
وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ. سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ.
فلا يكون فيها جبال ولا أودية ولا بحار ولا أنهار، لكن الإنسان يُنبع الماء حسب حاجته، فيجعلها عيناً أو ساقية.
وفي تفسير العياشي (2/236):(عن علي بن الحسين عليه السلام:يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ، يعني بأرض لم تكتسب عليها الذنوب. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ليست عليها جبال ولا نبات، كما دحاها أول مرة).
وفي متشابه القرآن لابن شهر آشوب (2/99): (تبدل صورتها من الآجام والآكام والبحار والأنهار. وتبدل السماوات، فتذهب شمسها وقمرها ونجومها).
وفي شرح الأخبار (3/280): (قال الإمام الباقر عليه السلام: إن الله عز وجل يقول:يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ، فيحشر الناس يوم القيامة على الأرض، وتكون لهم كالخبزة النقية يأكلون منها،وأنهار متفجرة يشربون منها إلى أن يفرغ من حسابهم). وقال الإمام الصادق عليه السلام: (إنما بني الجسد على الخبز).
(عن النبي صلى الله عليه وآله:ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدَّلة من الأولى يعني قوله: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ، وهي أرض القيامة، وعليها يقع الحساب. فإذا فُرغ من الحساب ضُرب بينهم بسور فَرْقَاً بين أرض الجنة وأرض النار).(مجمع البيان:8/55).
أي أرض أهل الجنة وأهل النار، لأن الجنة والنار في مكان آخر.
يوم القيامة يوم الجمع:
قال تعالى:قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال تعالى:كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال تعالى:فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ.
وقال تعالى:اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال تعالى:رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال تعالى:يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ.
وقال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال تعالى:يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ.
وقال تعالى:هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَلِينَ.
وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً.وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للَّكَافِرِينَ عَرْضًا.
روى في معاني الأخبار/156، وتفسير القمي(2/256) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (يَوْمُ التَّلَاق: يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض. ويوم التناد: يوم ينادي أهل النار أهل الجنة:أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله. ويوم التغابن:يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، ويوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح). ويعطى المؤمنون الخلود.
وقال الرضي في تلخيص البيان/335:(فكأن المؤمنين ابتاعوا دار الثواب وكأن الكافرين اعتاضوا منها دار العقاب، فتفاوتوا في الصفقة وتغابنوا في البيعة، فكان الربح مع المؤمنين والخسران مع الكافرين).
وقال الجوهري(6/2173): (التَّغَابُن: أن يغبن القوم بعضهم بعضاً، ومنه قيل يوم التغابن ليوم القيامة، لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار).
وهكذا فسراللغويون التغابن، لأنه من باب التفاعل يتقوم بطرفين غابن ومغبون، وأخطأ فيه الغزالي ففسره بالخسارة من طرف واحد، لكنه من طرف واحد يكون غبناً لا تغابناً .
يحشر المؤمنون بأكفانهم ويحشرغيرهم عُرْياً لكن بُهْماً !
قال تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيئِ.
وقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
فهم يحشرون صفوفاً لكن فرادى. قال في مجمع البيان (6/352): (يعرضون على الله تعالى يوم القيامة صفاً، أي:مصفوفين، كل زمرة وأمة صفاً. وقيل: يعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة. وقيل:يعرضون صفاً واحداً لا يحجب بعضهم بعضاً، ويقال لهم:لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، معناه: لقد جئتمونا ضعفاء فقراء عاجزين، في الموضع الذي لايملك فيه الحكم غيرنا،كما كنتم في ابتداء الخلق لاتملكون شيئاً).
ولابأس بكلامه&على ضعف فيه، فالزمرة غير الأمة، والصفوف متعددة مئة وعشرون ألف صف، كما قال الإمام الصادق عليه السلام.
وفسرت مصادر العامة:كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، بأن الناس يحشرون عراة، فقد روى البخاري (4/110):(إنكم تحشرون حفاة عراة غُرْلاً (غيرمختونين) ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ. وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام. وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي! فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)!
لكن رووا حديثاً آخر عن أبي سعيد الخدري قال: (سمعت النبي(ص) يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها).(فتح الباري:11/331).
وتقدم أن بعض الناس يحشرون عرياً، لكن بُهْماً لا ترى سوآتهم، أما المؤمنون فيحشرون في أكفانهم، ولذا أفتى فقهاؤنا باستحباب إجادة الكفن.
فقد قال الإمام الصادق عليه السلام (الكافي:3/149):(تنوَّقوا في الأكفان، فإنّكم تبعثون بها). وروى الآخرون نحوه كالذي تقدم من فتح الباري وعمدة القاري(8/220).
وقال أحدهم للإمام الصادق عليه السلام (الإحتجاج: 2/77):(الناس يحشرون يوم القيامة عراة؟ قال:بل يحشرون في أكفانهم.قال: أنى لهم بالأكفان وقد بليت! قال: إن الذي أحيا أبدانهم جدد أكفانهم. قال: فمن مات بلا كفن؟ قال: يسترالله عورته بما يشاء من عنده. قال: أفيعرضون صفوفاً؟ قال عليه السلام: نعم، هم يومئذ عشرون ومائة ألف صف، في عرض الأرض).
كما ورد في مصادر الطرفين أن النبي صلى الله عليه وآله كفن فاطمة بنت أسد عليها السلام بقميصه لتنجو من ضغطة القبر وتبعث يوم القيامة كاسية، وأنها كانت سمعت من النبي أن الناس يحشرون عراة، فخافت. وروى ذلك الكافي (1/453).
وأجاب عنه المرجع التبريزي +في صراط النجاة (2/567) بأن استحباب إجادة الكفن ثابت، نعم قد يحشرالفساق والكفار عراة، وليس أهل الإيمان. وذكرأن النبي صلى الله عليه وآله ضمن لفاطمة بنت أسد عليها السلام عدم ضغطة القبر وليس عدم العري، ورواية ذلك ضعيفة، فلاتوجب التشكيك في الأمر بإجادة الكفن.
تعرض جهنم ليراها الناس:
وقال تعالى:وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى.
وقال تعالى: وَأُزْلِفَتِ أَلْجَنَّةُ للَّمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ أَلْجَحِيمُ للَّغَاوِينَ.
وقال تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا.قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّى فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا. وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للَّكَافِرِينَ عَرْضاً.
معناه: أن الله يكشف النار للناس في أوائل المحشر فيرون أنواع عذابها، ليكون ذلك دافعاً لهم للشعور بالمسؤولية، ولكي ينتظموا في الحساب.
وقد أخطأ بعضهم فقالوا إن المقصود بآية: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ: يأجوج ومأجوج، والصحيح أنه الناس، وإن ذكر يأجوج ومأجوج جاء قبلها. قال ابن حجر في فتح الباري(13/94):(وذلك حين يخرجون من السد. وجاء في صفتهم ما أخرجه ابن عدي وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه من حديث حذيفة رفعه قال: يأجوج أمة ومأجوج أمة كل أمة أربعمائة ألف،لايموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح..وللنسائي من رواية عمرو بن أوس عن أبيه رفعه: إن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاءوا ولايموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً). وروى عنهم أساطير بني إسرائيل، وكذا كل شراح البخاري !
وروينا عن علي عليه السلام (العياشي:2/351): (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ: يعنى يوم القيمة). وفي تفسير القمي(2/46): أي يختلطون.
وقال الرضي في تلخيص البيان/217: (أصل الموَجَان من صفات الماء الكثير، وإنما عبر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم ودخول بعضهم في بعض لكثرة أضدادهم، تشبيهاً بموج البحر المتلاطم).
وقال الطبري(16/37):(يختلط جنهم بإنسهم).لكن الجن يحشرون وحدهم !
لا يحس الموتى بالزمن حتى يبعثوا !
قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ.قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ.قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وقال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً.
وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ.
وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا.
وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ.
وقال تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ.
وقال تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْماً.
روى الطبري في تفسيره (18/82) أن معناها: فاسأل الحُسَّاب، أي علماء الحساب.
وقال في الكاشف(5/392) معناها: (أين نحن من هذا السؤال، كفانا ما نحن فيه! وإن كان لا بد من الجواب فقد مكثنا ساعات. ومن أراد معرفة ذلك فليسأل من كان يحصي علينا أعمارنا وأعمالنا ولا يدع منها صغيرة ولا كبيرة، أما نحن ففي ذهول عن كل شيئ). وذكر نحوه البيضاوي (4/170).
والصحيح ما قاله القمي في تفسيره (2/95):(فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، قال:سل الملائكة الذين كانوا يعدون علينا الأيام، ويكتبون ساعاتنا وأعمالنا التي اكتسبناها).
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِم:
قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ. يعني أنهم يصنفون حسب مذاهبهم. قال الإمام الباقر عليه السلام (الكافي:1/215):(لما نزلت هذه الآية قال المسلمون:يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله، من أهل بيتي، يقومون في الناس فيُكَذَّبون، ويظلمهم أئمة الكفروالضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني. ألاومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي، وأنا منه برئ).
وفي المحاسن (1/143) ونحوه الكافي (1/536) قال الإمام الصادق عليه السلام:(إنه ليس من قوم ائتموا بإمامهم في الدنيا، إلا جاء يوم القيامة يلعنهم ويلعنونه، إلا أنتم ومن كان على مثل حالكم.أما ترضون أن يأتي كل قوم يلعن بعضهم بعضاً إلا أنتم ومن قال بقولكم. وفي رواية: فيجئ رسول الله صلى الله عليه وآله في قرنه، وعلي عليه السلام في قرنه، والحسن عليه السلام في قرنه، والحسين عليه السلام في قرنه، وكل إمام في قرنه الذي هلك بين أظهرهم).

أسماء يوم القيامة

قال الغزالي في إحياء علوم الدين (16/35):(وقد وصف الله بعض دواهيها وأكثر من أساميها، لتقف بكثرة أساميها على كثرة معانيها، فليس المقصود بكثرة الأسامي تكرير الأسامي والألقاب، بل الغرض تنبيه أولي الألباب، فتحت كل إسم من أسماء القيامة سرٌّ، وفي كل نعت من نعوتها معنى، فاحرص على معرفة معانيها، ونحن الآن نجمع لك أساميها، وهي:
يوم القيامة، ويوم الحسرة، ويوم الندامة، ويوم المحاسبة، ويوم المساءلة، ويوم المسابقة، ويوم المناقشة، ويوم المنافسة، ويوم الزلزلة، ويوم الدمدمة، ويوم الصاعقة، ويوم الواقعة، ويوم القارعة، ويوم الراجفة، ويوم الرادفة، ويوم الغاشية، ويوم الداهية، ويوم الآزفة، ويوم الحاقة، ويوم الطامة، ويوم الصاخة، ويوم التلاق، ويوم الفراق، ويوم المساق، ويوم القصاص، ويوم التناد، ويوم الحساب، ويوم المآب، ويوم العذاب، ويوم الفرار، ويوم القرار، ويوم اللقاء، ويوم البقاء، ويوم القضاء، ويوم الجزاء، ويوم البلاء، ويوم البكاء، ويوم الحشر، ويوم الوعيد، ويوم العرض، ويوم الوزن، ويوم الحق، ويوم الحكم، ويوم الفصل، ويوم الجمع، ويوم البعث، ويوم الفتح، ويوم الخزي، ويوم عظيم، ويوم عقيم، ويوم عسير، ويوم الدين، ويوم اليقين، ويوم النشور، ويوم المصير، ويوم النفخة، ويوم الصيحة، ويوم الرجفة، ويوم الزجرة، ويوم السكرة، ويوم الفزع، ويوم الجزع، ويوم المنتهى، ويوم المأوى، ويوم الميقات، ويوم الميعاد، ويوم المرصاد، ويوم القلق، ويوم العرق، ويوم الإفتقار، ويوم الإنكدار، ويوم الإنتشار، ويوم الإنشقاق، ويوم الوقوف، ويوم الخروج، ويوم الخلود، ويوم التغابن، ويوم عبوس، ويوم معلوم، ويوم موعود، ويوم مشهود، ويوم لا ريب فيه، ويوم تبلى السرائر، ويوم لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ويوم تشخص فيه الأبصار، ويوم لا يغني مولى عن مولى شيئا، ويوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، ويوم يدعون إلى نار جهنم دعّاً، ويوم يسحبون في النار على وجوههم، ويوم تقلب وجوههم في النار، ويوم لا يجزي والد عن ولده، ويوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، ويوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، يوم لا مرد له من الله، يوم هم بارزون، يوم هم على النار يفتنون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم لا تنفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، يوم ترد فيه المعاذير، وتبلى السرائر، وتظهر الضمائر، وتكشف الأستار، يوم تخشع فيه الأبصار، وتسكن الأصوات، ويقل فيه الالتفات، وتبرز الخفيات، وتظهر الخطيئات. يوم يساق العباد، ومعهم الأشهاد ويشيب الصغير، ويسكر الكبير، فيومئذ وضعت الموازين، ونشرت الدواوين وبرزت الجحيم، وأغلي الحميم، وزفرت النار، ويئس الكفار، وسعرت النيران، وتغيرت الألوان، وخرس اللسان، ونطقت جوارح الإنسان، فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم).
أقول: هذه الصفات يمكن اعتبارها أسماء. وقال السيد البروجردي المفسرفي تفسيره الصراط المستقيم (3/475):(وقد ضبطها بعضهم بواحد ومائة).
(راجع: إعجاز القرآن للسيوطي(3/120) وخريدة العجائب للحلبي (1/472) وموسوعة القرآن لحفني (2 /1640) ولطائف اللَّبَابِيدي (1/63).
* *

خلاصة عرض الناس في المحشر

1. وقت هذا العرض بعد النفخة الثانية، وبعد اكتمال نمو الأجساد، ورجوع الأرواح اليها، فيخرج الناس من قبورهم مسرعين، مع كل شخص ملكان سائق وشهيد، يأخذانه الى مكانه في الصفوف.
والمؤمن يحشربكفنه الذي دفن فيه أومثله،وغيره عارياً لكن لا ترى عورته.
2. أرض العرض على الله، غيرمحكمة المحشر، وهي أرض يتحرك فيها الناس: يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة، حتى يقفوا على عقبة المحشر فيركب بعضهم بعضاً ويزدحمون دونها فيمنعون من المضي، فتشتد أنفاسهم ويكثرعرقهم وتضيق بهم أمورهم! كما يأتي من قول الإمام زين العابدين عليه السلام.
3. من العرض تصنيف الناس، وعرضهم زمراً أو مع أنبيائهم وأئمتهم الذين عينهم لهم الله تعالى، ومع رؤسائهم وأئمتهم الذين اتخذوهم أنداداً وزعموا أنهم شفعاء لهم، وشركاء فيهم مع الله تعالى.
4. والعرض على الله تعالى أنواع، فمنه مثل تفتيش صفوف الجنود في عرض عسكري، أو تفتيش الإصطفاف العام وسمي التصفح.
ومنه عرض للإنسان مع أعماله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ.
وعرض مع الأشهاد: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
والكافرين: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِأَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا.
والمستكبرين: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ.
وعرض جهنم ليراها الكافرون: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا. وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للَّكَافِرِينَ عَرْضًا.
5. وعندما يخرج الناس من قبورهم يعين مكان كل واحد منهم فيسكن فيه وينام فيه، ويرجع من العرض أو العمل الواجب اليه، ويكون باستطاعته أن يفجر منه الماء، عيناً أو ساقية، يغتسل فيها ويشرب منها.
أما طعامه فمن تراب الأرض، ويكون تراباً نقياً كالخبزة البيضاء طيب الطعم، يتمثل كله في بدن الإنسان ولا تكون له فضلات، فأهل المحشر وأهل الجنة لايتغوطون ولايبولون، ولا ثقوب لهم من الخلف، وفضلات أبدانهم عرق كالماء، وقد يجري عرقهم على الأرض.

يخاطب الله بنفسه عباده مرتين

يخاطبهم عز وجل في أواخر مشاهد العرض ويأمرهم أن يتناصفوا بينهم لأنه لايجوز أن يعبر الى محكمته في المحشر من كان في عنقه ظلامة للعباد.
فيبدأ التناصف وتصفية الظلامات، ويبدو أن ذلك في نفس مكان العرض أما محكمة المحشر فهي في مكان آخر، يذهبون اليه بعد إكمال التناصف.
وبعد محكمة المحشر التي تضم أنواع المحاكم وفي آخر مرحلة منها، يخاطب الله تعالى عباده مخاطبة واحدة لمليارات البشر وكل واحد منها يرى أنه يخاطبه وحده، ويشرح له نعمه عليه وعمله هو، ويطلب منه أن يحكم على نفسه !
قال الصدوق في الإعتقادات/73: (والله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة، يسمع منها كل واحد قضيته دون غيرها، ويظن أنه المخاطب دون غيره، ولا تشغله تعالى مخاطبة عن مخاطبة، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا ! ويخرج الله لكل إنسان كتاباً يلقاه منشوراً، ينطق عليه بجميع أعماله لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فيجعله الله حسيب نفسه والحاكم عليها، بأن يقال له: إِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ».

مشهد ختام الحساب تتحير فيه العقول

1. إنه مشهد عظيم لقدرة الله التي لا يعجزها شيئ، حيث يكلم الله المليارات في آن واحد بمليارات الخطاب، كل بما يخصه وكأنه لا يكلم غيره، فيحجه ويقنعه ويطلب منه أن يحكم ويقول له: إِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.
وقد فاتنا أن نركز على هذا المشهد في كتاب الولادات الثلاث.
2. قال الله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ. أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ..
وفي القرآن آيات أخرى بهذا المعنى، ومعنى الحسيب: أنه تعالى عالم بالمحسوبات، وسرعة حسابه: سرعته في الأعمال التي تحتاج الى حساب، وسرعة محاسبته لعباده.
3. روي أنه تعالى يحاسبهم في غداة واحدة، وروي في ساعة، وروي في نصف ساعة، وبقدر حلب شاة، وروي في مقدار لمح البصر، ودفعة واحدة (أمالي المرتضى:1/103، والبحار:7/254). وكلها تأكيد على قصر المدة، والمرجح عندي أنها تتم خارج الزمن، فيراها الإنسان تمر بسرعة، كذهاب نفس النائم الى الملأ الأعلى بمجرد نومه وعبورها ملايين الكيلو مترات، وعودتها عند إيقاظه.
كما أن اعتراف جميع الخلق بتقصيرهم وبعدل الله تعالى، وباستحقاقهم الحكم الذي تضمنه كتابهم، يدل على أنهم يعطون من العقل والمنطق ما يجعلهم يفهمون خطاب الله تعالى، ويجعلهم يقرؤون كتابهم.
قال أمير المؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:4/72):(وسئل عليه السلام: كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ فقال: كما يرزقهم على كثرتهم. فقيل له: كيف يحاسبهم ولا يرونه؟ قال: كما يرزقهم ولا يرونه).
وقال متولي الشعراوي في تفسيره (19/11735): (وقد حل لنا الإمام علي كرم الله وجهه هذه القضية حينما سئل:كيف يحاسب الله الناس جميعاً من لدن آدم إلى قيام الساعة في وقت واحد؟ فقال: يحاسبهم جميعاً في وقت واحد، كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد، لأنه سبحانه لايشغله شأن عن شأن).
وقال الفخر الرازي(18/234):(يروى أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة. وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي، وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن).
وفي العقد الفريد/288، أن الذي سأله عليه السلام هو سلمان الفارسي رضي الله عنه. ورواه عامة المفسرين، وشذ ابن تيمية (الفتاوى:5/246) فنسبه الى ابن عباس بدل علي عليه السلام.
وفي تفسير القمي (2/26): (عن الرضا عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة أوقف المؤمن بين يديه فيكون هو الذي يتولى حسابه، فيعرض عليه عمله فينظر في صحيفته، فأول ما يرى سيئاته فيتغير لذلك لونه وترتعش فرائصه وتفزع نفسه، ثم يرى حسناته فتقر عينه وتسر نفسه وتفرح روحه، ثم ينظر إلى ما أعطاه الله من الثواب فيشتد فرحه ثم يقول الله للملائكة: هلموا الصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها، قال: فيقرؤونها ثم يقولون: وعزتك إنك لتعلم أنا لم نعمل منها شيئاً ! فيقول: صدقتم، نويتموها، فكتبناها لكم، ثم يثابون عليها)! فتبارك الله أكرم الأكرمين.
4.توجد عند الله تعالى أنظمة عديدة لضبط أعمال الإنسان وتسجيلها وحفظها، وكذلك لتنميتها، وقد ذكر القرآن منها الإحصاء والكتابة والإستنساخ:
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ شَهِيدٌ. هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِى الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ.
ويدل ظاهر قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. على أن الأعمال تتجسد أمام الإنسان فيراها ويجزى ببعضها. ويكون حفظها بوسائل أقوى من الفيديو وضبط الصوت.
* *

الفصل الخامس عشر: تناصف العباد من بعضهم

قانون التناصف كما بينه الإمام زين العابدين عليه السلام

نعيد بعض خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وآله (الكافي:8/104): في تناصف الناس مع بعضهم: (قال عليه السلام: فيشرف الجبار عز وجل الحكَم العدل عليهم فيقول: أنا الله لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور. اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لايظلم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القوي بحقه، ولصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات، وأثيب على الهبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم ولا أحد عنده مظلمة إلا مظلمة يهبها صاحبها وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهد لكم عليهم، وكفى بي شهيداً. قال: فيتعارفون ويتلازمون فلا يبقى أحد له عند أحد مظلمة أو حق إلا لزمه بها...
قال: فيمكثون ما شاء الله، فيشتد حالهم ويكثر عرقهم، ويشتد غمهم وترتفع أصواتهم بضجيج شديد فيتمنون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها! قال: ويطلع الله عز وجل على جهدهم، فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى يسمع آخرهم كما يسمع أولهم: يا معشرالخلائق أنصتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا إن الله تبارك وتعالى، يقول لكم: أنا الوهاب، إن أحببتم أن تواهبوا فتواهبوا، وإن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم.
قال:فيفرحون بذلك لشدة جهدهم وضيق مسلكهم وتزاحمهم ! قال: فيهب بعضهم مظالمهم، رجاء أن يتخلصوا مما هم فيه. ويبقى بعضهم فيقول: يا رب مظالمنا أعظم من أن نهبها ! قال: فينادي مناد من تلقاء العرش أين رضوان خازن الجنان جنان الفردوس؟ قال:فيأمره الله عز وجل أن يطلع من الفردوس قصراً من فضة بما فيه من الأبنية والخدم، قال:فيطلعه عليهم، في حفافة القصرالوصائف والخدم، قال: فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى: يا معشر الخلائق إرفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر، قال: فيرفعون رؤوسهم فكلهم يتمناه ! قال: فينادي مناد من عند الله تعالى: يا معشرالخلائق هذا لكل من عفا عن مؤمن! قال: فيعفون كلهم إلا القليل. قال: فيقول الله عزو جل: لا يجوز إلى جنتي اليوم ظالم، ولا يجوز إلى ناري اليوم ظالم،ولأحد من المسلمين عنده مظلمة حتى يأخذها منه عند الحساب. أيها الخلائق إستعدوا للحساب.
قال فقال له رجل من قريش: يا ابن رسول الله، إذا كان للرجل المؤمن عند الرجل الكافر مظلمة، أي شئ يأخذ من الكافر وهو من أهل النار؟
قال فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: يطرح عن المسلم من سيئاته بقدر ما له على الكافر، فيعذب الكافر بها مع عذابه بكفره، عذاباً بقدر ما للمسلم قبله من مظلمة. قال فقال له القرشي: فإذا كانت المظلمة للمسلم عند مسلم، كيف تؤخذ مظلمته من المسلم؟ قال: يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر حق المظلوم، فتزاد على حسنات المظلوم. قال فقال له القرشي: فإن لم يكن للظالم حسنات؟ قال: إن لم يكن للظالم حسنات فإن للمظلوم سيئات، يؤخذ من سيئات المظلوم فتزاد على سيئات الظالم).
* *

التشديد الشرعي في النهي عن ظلم الناس لبعضهم

قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا.
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا.
ثُمَّ قِيلَ للَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ.
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ للَّحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا.
وَسَيَعْلَمُ أَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ.
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً.
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ الْقَوْلَ.
ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
أما الحديث فقد تواتر التحذير من الظلم، وعقد الكليني باب الظلم (2/330) روى فيه أكثر من عشرين حديثاً في التحذير من الظلم، أكثرها بسند صحيح، منها: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إتقوا الظلم فإنه ظلماتٌ يوم القيامة.
وقال صلى الله عليه وآله: من أصبح لا يهم بظلم أحد غفرالله ما اجترم.
وفسره الإمام الصادق عليه السلام بقوله: ما لم يسفك دماً، أو يأكل مال يتيم حراماً.
وقال صلى الله عليه وآله: من خاف القصاص كف عن ظلم الناس.
وقال صلى الله عليه وآله: من ظلم أحداً ففاته، فليستغفر الله له، فإنه كفارة له.
وقال عليه السلام: الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لايغفره الله، وظلم لا يدعه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأما الظلم الذي لايدعه فالمداينة بين العباد. وقال الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: إنَّ رَبَّكَ لَبِالمرْصَاد: قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة.
وقال عليه السلام: إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين، أن إئت هذا الجبار فقل له: إنني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فاني لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً.
وقال عليه السلام: العامل بالظلم والمعين له والراضي به، شركاء ثلاثتهم.
وقال عليه السلام:من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره الله على ظلامته.
وقال عليه السلام: إن العبد ليكون مظلوماً، فما يزال يدعو حتى يكون ظالماً !
عن شيخ من النخع قال قلت لأبي جعفر عليه السلام: إني لم أزل والياً منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا فهل لي من توبة؟ قال: فسكت ثم أعدت عليه، فقال: لا، حتى تؤدي إلى كل ذي حق حقه.
وقال الباقر عليه السلام: لما حضر علي بن الحسين الوفاة ضمني إلى صدره، ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (ظلم الضعيف أفحش الظلم. والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو اُجرّ في الأغلال مُصفّداً، أحبُّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشئ من الحُطام، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلبَ شعيرة ما فعلت). (مستدرك الوسائل:12/97).
وفي الإختصاص/40، (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما شفاعتي ففي أصحاب الكبائرمن أمتي، ما خلا الشرك والمظالم).
وفي دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: وأسألك في مظالم عبادك عندي، فأيُّما عبد من عبيدك أو أمة من إمائك كانت له قِبَلي مظلمة ظلمتها إياه، في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وولده، أو غيبة اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفةٍ أو حميةٍ أو رياءٍ أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحياً كان أو ميتاً، فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردها إليه والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيته ومسرعة إلى إرادته، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن ترضيه عني بما شئت، وتهب لي من عندك رحمة إنه لا تنقصك المغفرة، ولا تضرك الموهبة. يا أرحم الراحمين).
وقال الصادق عليه السلام (الوسائل:4 /1176):(إن الله عز وجل يقول:وعزتي وجلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة ظلمها ولأحد عنده مثل تلك المظلمة).
مساعدة الأئمة عليهم السلام للمؤمنين في رد مظالمهم
قال النبي صلى الله عليه وآله (أمالي الطوسي/164): (حبنا أهل البيت يكفر الذنوب، ويضاعف الحسنات، وإن الله تعالى ليحمل عن محبينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد، إلا ما كان منهم فيها على إصرار وظلم للمؤمنين، فيقول للسيئات: كوني حسنات).
وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام (2/63):(قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا، فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عز وجل حكمنا فيها فأجابنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا، ومن كانت مظلمته بينه وبيننا، كنا أحق من عفى وصفح).
وفي الروضة لابن شاذان/224، قال صفوان الجمال: (دخلت على أبي عبد الله (الصادق عليه السلام) قلت: جعلت فداك سمعتك تقول:شيعتنا في الجنة وهم أقوام يذنبون ويركبون الفواحش، ويأكلون أموال الناس، ويشربون الخمور، ويتمتعون في دنياهم! فقال: نعم هم في الجنة، إعلم أن المؤمن من شيعتنا ما يخرج من الدنيا، حتى يبتلى بهم، أو بدين، أو بفقر، فإن عوفي من ذلك فبزوجة سوء تؤذيه، فإن عوفي من ذلك، شدد الله عليه النزع عند خروج روحه، حتى يخرج من الدنيا ولا ذنب عليه! فقلت: فداك أبي وأمي، ومن يرد المظالم؟ قال: إن الله تعالى يجعل حساب الخلق الى محمد صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام فكل من كان من شيعتنا حسبنا لهم بما لنا من الحق في أموالهم من الخمس، وكان كلما بينه وبين خالقنا استوهبناها منه. ولم نزل حتى ندخله الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام).
وفي أمالي الطوسي/100: (عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة فدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وبقي أهل المظالم، نادى مناد تحت العرش: تتاركوا المظالم بينكم، فعلي ثوابكم).
أقول: روى هذا الحديث عامة مصادر السنة، ولا بد أن يكون النداء قبل دخولهم الجنة والنار، فمعنى دخولهم هنا الحكم عليهم بذلك.

جعل البخاري موقف التناصف بعد الحساب ولا يصح

روى البخاري عن أبي سعيد (3 /97):(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا وهذبوا، أُذن لهم بدخول الجنة).
ولايصح ذلك لأن التناصف كما عرفت قبل الورود في محكمة القيامة، وهو مرحلة المشاورة المعروفة في القانون والمحاكم، حيث يأمر القاضي الخصوم أن يجلسوا ويتشاوروا، فلعلهم يتفقون فيما بينهم، كلياً أو جزئياً.
ومعنى آخر حديثه: أن كل واحد منهم يعرف الطريق الى منزله في الجنة أحسن مما يعرف الطريق الى بيته في الدنيا، وهو لا يصح أيضاً لأن الأدلاء يكونون معهم.

أنواع المظالم في موقف التناصف ومحكمة القيامة

*ظلم الإنسان لله تعالى بالشرك وادعاء الشركاء له في ملكه.
*ظلم الإنسان للأنبياء والرسل والأوصياء عليهم السلام بتكذيبهم وعداوتهم.
*ظلم الإنسان للبشرية، بصد الناس عن سبيل الله وعن اتباع الرسل.
*ظلم الناس بالتعدي عليهم وعلى مالهم وأعراضهم وأنفسهم.
*ظلم الناس بالبغي عليهم وحكمهم والتسلط عليهم بدون حق.
*ظلم الناس، بالتعدي على بقية مقدراتهم وحرماتهم.
* *

كيف يعرف الإنسان ما له وماعليه من ظلامات

يجب على المؤمن أن يرد مظالم الناس في الدنيا
قال المفيد في أوائل المقالات/87: (يجب على الظالمين استفراغ الجهد مع التوبة في الخروج من مظالم العباد، فإنه إذا علم الله ذلك منهم قبل توبتهم وعوض المظلومين عنهم إذا عجز التائبون عن رد ظلاماتهم، وإن قصر التائبون من الظلم فيما ذكرناه، كان أمرهم إلى الله عز وجل فإن شاء عاقبهم وإن شاء تفضل عليهم بالعفو والغفران. وعلى هذا إجماع أهل الصلاة من المتكلمين والفقهاء).
فإن لم يفعل بقيت عليه الى يوم القيامة وأمره الله تعالى أن يرضي أصحابها بأن يعطيهم من حسناته، أو يأخذ من سيآتهم.
تصور للتناصف حسب قول الإمام زين العابدين عليه السلام:
فقد بين عليه السلام أصول قوانين رد المظالم هناك، ويمكن أن نرسم منها هذا التصور:
فقد يقول إنسان يوم القيامة: إن الله تعالى أمرنا أن نتناصف بيننا ونخرج من مظالم العباد، وقد عشت سبعين سنة وتعاملت مع الناس، واختلفت معهم واختلفوا معي، وظلمتُ وظُلمت، فكيف أعرف ما لي وما عليَّ؟
فيجيبه الشاهد: هل تريد أن تعرف ما لك من ظلامات وما عليك؟ فيقول: نعم. فيخرج له من أجهزته صحيفته ويقول له مثلاً: لك مئة وخمسون ظلامة وعليك ثلاث مئة ظلامة.
الظلامة الأولى لك: عند فلان بن فلان، اشتريت منه مسكناً على أن يكون بناؤه بالمواصفات التي أخبرك بها، لكنه غشك وكذب عليك، فقد كانت المواصفات أقل، فكان عمرالمسكن قليلاً وخرب !
فهل تريد أن ترى المنزل وكلامك معه والعقد ومواضع الغش؟!
والظلامة الثانية: عند فلان، سرق منك مبلغ كذا، ولم تعرف به.
والثالثة: عند فلان، وشى عليك الى الحكومة وكذب، فسبب لك الضرر. والرابعة: عند فلان اغتابك وافترى عليك وأشاع عنك شائعة كاذبة..الخ.
وأما التي عليك، فأولها لفلان، ظلمته في فتنة أوقعتها بينه وبين زوجته، فسببت اختلافهما حتى طلقها وضاع أولاده وعاشوا في تشرد ومهانة !
فهل تريد أن أريك يوم فتنت بينهما، وما تسبب من فعلك من اختلافهما وهدم بيته وتشريد زوجته وأولاده؟
والثانية: أنك كنت أميناً لفلان فخنت الأمانة، وتاجرت بماله لك، بدل أن تتاجر مضاربة بينك وبينه، ثم أكلت عليه شطراً من المال.
فهل تريد أن أريك اتفاقك معه، وكم مرة خنت الأمانة، وكم ربحت من ماله وأكلت الربح، ولم تعط حقه؟
والثالثة:كنت كبير إخوتك ووصي أبيك، فظلمته وخنت أمانته، ولم تنفذ وصيته، ولا أعطيت حق إخوتك وأخواتك، وأكلت الحرام وأطعمت أولادك الحرام. فهل تريد أن أريك وصية أبيك المكتوبة، وأن تشاهد صورته وهو يوصيك وأنت تعده بالأمانة والوفاء.
فهذه ظلامة لوالدك وإخوتك وأخواتك، وظلامة لزوجتك وأولادك لأنك أطعمتهم المال الحرام، وأسكنتهم وأنفقت عليهم منه !
ثم يعدد له ظلاماته التي عليه والتي له، فيندم الرجل، ويسأله: والآن ماذا نفعل؟ فيقول له: لا بد أن نبدأ بها واحدة واحدة ونرى طرف كل واحدة أو أطرافها، فإما أن تتواهبوا، وإن لم يرض صاحب الظلامة فلا بد أن تعطيه من حسناتك، أو تأخذ من سيئاته؟!
فيقول له: ماذا نعمل؟ فيقول: نبدأ بالظلامة الأولى. فيقول: نذهب الى صاحبها؟ فيقول: ننظر في درجته فإن كان أعلى منك مقاماً ذهبنا اليه، وإن كنت خيراً منه جئنا به اليك.
ويبدؤون العمل، ويأتي دور السائق زميل الشهيد، فهو يعرف المحشر بكل شوارعه وصفوفه، وأسماء كل الناس وعناوينهم.
فيتصل السائق بالشخص المطلوب ويأخذ منه موعداً، وينقل صاحبه اليه في سرعة قياسية، وعندما يصلون يقول الشخص المظلوم لظالمه: جئت لا بارك الله فيك ! هل تذكر ما فعلت بي وبأسرتي !
فيقول له الشهيد: كله محفوظ، وقد جئناك لتهب له ظلمه، أو تأخذ منه بدله، ويقول له الظالم: يا أبا فلان أنا أخطأت معك وأعترف بظلمي لك، وأنا دخيل عليك، أرجوك بحق الله تعالى أن تسامحني. فيقول له: لاسامحك الله وعذبك بالنار، فيقول له الشهيد: يمكنك أن تسامحه وتأخذ مقابل ظلامتك من حسناته. فيقول وهل عنده حسنات؟ إن كان عنده فأريد منه مئة حسنة لأسامحه، فيقول له الشهيد: ظلامته لك قيمتها عشرون حسنة مثلاً، فلا تستطيع أن تأخذ أكثر، فيقبل المظلوم والظالم، فيسجل له الشهيد صاحب المظلوم عشرين حسنة في صحيفته، ويمحوها الشهيد صاحب الظالم من حسناته، ويشكرونه ويذهبون. فتكون تمت معالجة أول ظلامة.
وهكذا يعملون كل يوم بنحو هذا العمل، وبعض الظلامات تستغرق وقتاً طويلاً، ويكون لها أطراف متعددون، وبعضها لا تستغرق وقتاً.

وربما يتدخل الله تعالى لمساعدة المؤمنين في ظلاماتهم

قال الإمام زين العابدين عليه السلام: (ويطلع الله عز وجل على جَهْدِهم فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى يسمع آخرهم كما يسمع أولهم: يا معشر الخلائق أنصتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: أنا الوهاب، إن أحببتم أن تواهبوا فتواهبوا، وإن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم. قال: فيفرحون بذلك لشدة جهدهم وضيق مسلكهم وتزاحمهم. قال: فيهب بعضهم مظالمهم رجاء أن يتخلصوا مما هم فيه، ويبقى بعضهم فيقول: يا رب مظالمنا أعظم من أن نهبها ! قال: فينادي مناد من تلقاء العرش:أين رضوان خازن الجنان جنان الفردوس؟ قال: فيأمره الله عز وجل أن يطلع من الفردوس قصراً من فضة بما فيه من الأبنية والخدم، قال: فيطلعه عليهم، في حفافة القصرالوصائف والخدم، قال: فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى: يا معشر الخلائق إرفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر، قال: فيرفعون رؤوسهم فكلهم يتمناه ! قال: فينادي مناد من عند الله تعالى: يا معشرالخلائق هذا لكل من عفا عن مؤمن! قال: فيعفون كلهم إلا القليل). وهذا القليل ترحل ظلامته الى محكمة القيامة.

مدة التناصف وتصفية المظالم قد تكون طويلة

لو فرضنا أن شخصاً له خمس مئة ظلامة، وعليه سبع مئة مثلاً، فهو يحتاج الى وقت لينجزها جميعاً ويعطي ما عليه ويأخذ ما له، فلو كان ينجز كل يوم ظلامة لاحتاج الى ألف ومئتي يوم، أي لسنوات.
وقد يقال: هذا أمر يطول، فقد يحتاج الى بقائهم مئة سنة وأكثر في أرض التناصف. والجواب: لا مانع من ذلك، فالله تعالى لايعجل لعجلة العباد !
وقد ورد أن مواقف القيامة خمسون موقفاً، فيكون موقف التناصف بين العباد أحدها، والعرض على الله موقفاً آخر، والعبورالى أرض المحكمة موقفاً، وافتتاح المحشر موقفاً، وختامه موقفاً، وبقية المواقف بينهما.
قال الصادق عليه السلام (الكافي:8/143): (فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفاً، كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).
لكن إحساسنا بالزمن هناك مختلف،قال أبو سعيد الخدري(مجمع البيان:10/120): (قيل يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟ فقال: والذي نفس محمد بيده، إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا) !
فمرحلة التناصف بين العباد قصيرة تمر بسرعة، على رغم طولها !
* *