سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام - ج 1

--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
من الولادة إلى دوره في الفتوحات
علي الكوراني العاملي
المجلد الأول
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
من الولادة إلى دوره في الفتوحات
علي الكوراني العاملي
المجلد الأول
الطبعة الأولى
1439 - 2018
--------------------------- 4 ---------------------------
سرشناسه ، كورانى ، على ، 1944 - م . / Kurani . Ali
عنوان ونام پديدآور : سيره أمير المؤمنين ( ع ) / على الكوراني العاملي .
مشخصات نشر : قم : دار النشر المعروف ، 1438 ق = 2017 م . = 1396 -
مشخصات ظاهري : ج .
شابك : 4 - 02 - 8916 - 600 - 978 ج . 1
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
يادداشت : عربى .
مندرجات : ج . 1 . من الولادة إلى دوره في الفتوحات
موضوع : علي بن أبى طالب ( ع ) ، امام أول ، 23 قبل از هجرت - 40 ق .
موضوع : 600 - 661 Ali ibn abi - Talib , Imam I
رده بندى كنگره : 1396 9 س 85 ك / 37 BP
رده بندى ديويى : 951 / 297
شماره كتابشناسى ملى : 4992656
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
من الولادة إلى دوره في الفتوحات
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ربيع الثاني 1439 - 2018 Jan
المطبعة : باقرى - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 3000 نسخة .
شابك : 4 - 02 - 8916 - 600 - 978
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 158 - 37156 تلفون : 2532926175 ( 0 ) 0098
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------

مقدمة

( مقدمة لسيرة مختصرة لأمير المؤمنين صلوات الله عليه ،
نشرتها في سنة 1425 . وأنشرها الآن لأنها تأريخ للإعتداءات الوهابية
على زوار الحسين ( عليه السلام ) ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا
محمد وآله الطيبين الطاهرين .

فجائع . . على هامش عاشوراء

هزت وجدان العالم مشاهد مفجعة بثتها الفضائيات يوم عاشوراء ، من مدينتي كربلاء والكاظمية في العراق ، ومدينة كويته في باكستان ، وأثارت في النفوس ألواناً من مشاعرالغيظ والحزن ! فقد قام مجرمون بإلقاء متفجرات وسط ملايين المؤمنين الذين جاؤوا إلى كربلاء لزيارة قبرحفيد نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهم ما بين دموع الحزن وأناشيد الولاء ! لقد سمع الناس خبر شخص يلقي متفجرة في أماكن العبادة ، فيقتل العشرات عشوائياً ! لكن الجديد عليهم هذا المسكين الذي عبأه مشايخه ( الأتقياء ) بالعدوان ،
--------------------------- 6 ---------------------------
ودفعوه لأن يلف نفسه بمتفجرات ويفجر نفسه في وسط المحتشدين في مراسم دينية ، فيقتل معه عشرين أو خمسين منهم ، كباراً وصغاراً ، نساءً وأطفالاً ، لاذنب لهم إلا أنهم جاؤوا للمشاركة في هذه المناسبة الدينية !
ومن جهة ثانية ، أثارت هذه المشاهد مشاعر الإكبار لنُبْل الشيعة وتصرفهم تجاهها ، فقد سجل مراسلوا الفضائيات دهشتهم من أمرين : الأول ، السرعة التي انتهى فيها ذعرالناس في مكان تفجيرات كربلاء ومناظرها المرعبة ، فقد بادرمتطوعون منهم في مكان الحادث إلى نقل الجرحى وجمع الجثامين والأشلاء ، بينما واصل ملايينهم حتى الذين كانوا قرب المكان عملهم المقدس الأهم ، وهو أداء مراسمهم في عزاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، في مواكبهم الذاهبة إلى حرمه المقدس أوالعائدة منه بدموعها الحرَّى على سيد الشهداء ( عليه السلام ) ، وأناشيدها ولطمها الحزين !
قال لي شخص كان على بُعد أمتار من تفجيرات كربلاء : لقد أدهشني زوار الإمام الحسين ( عليه السلام ) ! فما هي إلادقائق حتى واصلوا مواكبهم بهتافهم المشهور : أبدْ والله ما ننسى حسينا ، وأضاف بعضهم إلى هتافهم : أبدْ والله بالتفجير ما ننسى حسينا . . واستمروا في المراسم ، وكأن شيئاً لم يحدث !
والثاني ، قرار الصبر والعض على الجراح ، الذي اتضح بسرعة ، وظهر منه أن الشيعة قد تبانوا عليه فيما بينهم ، واتخذوا موقفاً مسبقاً حازماً بعدم الإنجرار إلى الفتنة الطائفية ، بإجماع مراجعهم وجمهورهم .

جذور الظلامة

والأمر الأهم الذي أثارته هذه الفواجع لدى المراقب : التأمل في جذورها الفكرية والتاريخية ، التي جعلت قتل الشيعي ( ديناً ) يربي المتطرفون عوامهم عليه ، ويقنعونهم بأن الشيعي مشركٌ مهدورالدم ، وأن عليهم أن يتقربوا إلى الله بإراقة دمه ، ونهب ماله ، وهتك عرضه !
فمتى بدأت هذه الحالة في تاريخنا الإسلامي ، وكيف تطورت ؟
--------------------------- 7 ---------------------------
إن موجة التكفيرالمعاصرة أو موجة استحلال الدماء وسفكها ، تعود جذورها القريبة إلى المتوكل العباسي ! فهذا ( الخليفة ) تبنى مذهب مجسمة الحنابلة المتعصبين ، وشكل ( ميليشيا ) في بغداد لمهاجمة مجالس عاشوراء ومنع الشيعة من إقامتها ! وسمى حزبه : أهل الحديث ، والمحدثين ، وأهل السنة ، بينما سماهم المسلمون : مجسمة الحنابلة ، والنواصب .
وقد روى الذهبي سخرية البغوي الإمام المعروف ، من هذه التسمية التي خص المتوكل بها حزبه ، فقال في سير أعلام النبلاء ( 14 / 449 ) : ( اجتاز أبو القاسم البغوي بنهرطابق على باب مسجد ، فسمع صوت مُسْتَمْلٍ فقال : من هذا ؟ فقالوا : ابن صاعد . قال : ذاك الصبي ! قالوا : نعم . قال : والله لا أبرح حتى أملي هاهنا ، فصعد دكةً وجلس ورآه أصحاب الحديث فقاموا وتركوا ابن صاعد . ثم قال : حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن يولد المحدثون ! وحدثنا طالوت قبل أن يولد المحدثون ! وحدثنا أبو نصر التمار . فأملى ستة عشرحديثاً ، عن ستة عشر شيخاً ، ما بقي من يروي عنهم سواه ) !
ومعنى قوله : ( ذاك الصبي . . قبل أن يولد المحدثون ! ) أن هؤلاء الصبيان ، أحداثٌ جمعهم المتوكل حول ابن حنبل ، وجعله إماماً لهم !
فالبغوي يقول : إن المتوكل هو الذي حَنْبَلهم ، أي اتخذ لهم ابن حنبل المروي مولى شيبان ، إماماً ، فصار اسمه : الإمام أحمد ، ودعاه إلى سامراء وأقام له مراسم احترام وتجليل ، وأشاع بين العوام كراماته !
وذات مرة مرضت جارية المتوكل المفضلة عنده من بين أربعة آلاف جارية ، فأرسلها إلى بغداد ليعالجها الإمام ! فلما رآها أحمد قال : لقد دخل فيها جني ، وأمره أن يخرج منها وهدده بالقبقاب ، فأطاعه الجني وخرج من الجارية ، وشفيت ! وانتشر الخبر بكرامة الإمام أحمد !
والمتوكل هو الذي أمر بنشرأحاديث التجسيم والنصب ، وبالغ في احترام ( المحدثين ) الذين يروونها ويتحمسون لها ، وأغدق عليهم ، وحَشَدَ الناس حولهم ، وحضر مجالسهم بنفسه ! »
--------------------------- 8 ---------------------------
والمتوكل هو الذي بَخَّرَهُم ، أي جعل لهم ابن إسماعيل بن بَرد زبه الفارسي أوالسلجوقي ، إماماً ، فصار اسمه الإمام البخاري ، وجعل كتابه إمام مصادر السنة النبوية ، صحيحاً من الجلد إلى الجلد !
والمتوكل هو الذي شجع التجسيم ، فجمع المجسمين وسلطهم على الناس ، وجاهر بالنصب ، وجاهر في بغض علي وأهل‌البيت النبوي صلوات الله عليهم ، وكان يعقد مجالس في دار الخلافة بسامراء للسخرية من علي ( عليه السلام ) ! فيأمرعُبادة المخنث أن يشد على بطنه مخدة ويمثِّل شخصية علي ( عليه السلام ) ويسخر منه ويضحك ، ويأمر المغنين والمغنيات أن يغنوا بسبه ويشرب الخمر على غنائهم !
والمتوكل هو الذي اضطهد شيعة علي ( عليه السلام ) وتتبعهم أينما كانوا ، واضطهد الأئمة المعصومين من العترة النبوية الطاهرة ، ففرض الإقامة الجبرية في سامراء على الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) ، ثم حبسه ، حتى قتلوه بعده بالسم ، ثم حبس ولده الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، وعمل بكل جهده لقتله !
والمتوكل هو صاحب العُقدة من قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) واحتشاد المسلمين لزيارته في كربلاء ، فمنعهم ، واضطهد من يزوره !
ولمَّا عجز عن منعهم ، أرسل فرقة جيش بقيادة يهودي اسمه ( زيرج ) ومعه ( ميليشيا السلفيين ) فهدموا قبرالحسين ( عليه السلام ) وحرثوا أرضه ! وأجروْا عليه الماء ، فحار الماء ودار حوله ، فسميت دائرته : الحائر الحسيني !
لقد هلك المتوكل وهو سكران ، ولقي جزاء عمله ، على يد بعض قادة جيشه الأتراك ، وقد يكون فيهم محبون لأهل‌البيت ( عليهم السلام ) فقتلوه ، ومعهم ابنه المنتصر ، الذي اعترض عليه يوماً لإهانته علياً ( عليه السلام ) فأمرالمتوكل المغنيات أن يغنين بسبِّ ولده وأمه !
قال ابن الأثير في تاريخه ( 6 / 108 ) : ( في هذه السنة ( 236 ) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يبذر ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق ، فهرب الناس وتركوا زيارته ، وخُرب وزُرع ! وكان المتوكل شديد
--------------------------- 9 ---------------------------
البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم ! وكان من جملة ندمائه عُبادة المخنث ، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ، ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكل ، والمغنون يغنون قد أقبل الأصلع البدين ، خليفة المسلمين ! يحكي بذلك علياً ، والمتوكل يشرب ويضحك ! ففعل ذلك يوماً والمنتصرحاضرفأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه فقال المتوكل ما حالك ؟ فقام وأخبره فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك ، وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ! فكل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله ! فقال المتوكل للمغنين : غنوا جميعاً :
غار الفتى لابن عمهْ * رأس الفتى في حرِ أمهْ
فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل المتوكل ) .
وقال العصامي في سمط النجوم ( 3 / 469 ) : ( كان المتوكل يبغض علياً فذكر يوماً عليٌّ عنده فغض منه ، فتمعَّر وجه ابنه المنتصر لذلك ، فشتمه أبوه المتوكل وأنشد مواجهاً له . . ) .
وفي مآثر الإنافة ( 1 / 228 ) : ( كان شديد البغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ولأهل بيته ، على خلاف ما كان عليه المأمون ) . وذكر القصة .
ومع أن المتوكل صاحب الخطة مات ، إلا أن حزبه بقي بلاءً على الأمة ، وامتحاناً للمسلمين عامة وللشيعة خاصة ! وعُرفوا باسم مجسمة الحنابلة .
ومع أن الخلفاء بعد المتوكل لم يتبنَّوهم رسمياً ، لكنهم كانوا يستفيدون منهم كحزب عنيف في بغداد ، فيدفعونهم للحد من نفوذ الشيعة ، الذين كان لهم جمهورهم وثقلهم ، في بغداد وخارجها .
كانت حكومة بغداد تدفع مجسمة الحنابلة لضرب الشيعة وتساندهم ، فإذا زاد طغيان المجسمة خلوا بينهم وبين الشيعة ، وربما ساعدوا الشيعة عليهم ! لذلك كان للطرفين أنصارٌ في وزراء الخليفة ، وأمراء جيشه !
* *
--------------------------- 10 ---------------------------
ثم جاء البويهيون في مطلع القرن الرابع فكانت دولتهم متنفساً للشيعة فتوقف نزفهم المتواصل من زمن المتوكل ، وضمَّدوا جراحهم .
والبويهيون آل بُويَهْ ، وهم فُرْس من شمال إيران وشيعة ، احتلوا بغداد وفرضوا أنفسهم على الخليفة بدل الأتراك ، وأجبروه أن يَرْسِم كبيرهم سلطاناً ، ويأمر الخطباء بالدعاء له بعد الخليفة ، فورثوا الأتراك في التسلط على مقدرات الدولة ، وكانوا ينصبون الخليفة ويجرون له مرتباً شهرياً ، وقد يعزلونه ! وفي عهدهم الذي استمر أكثر من قرن ( 334 - 447 هجرية ) ضعف مجسمة الحنابلة لكنهم لم ينتهوا ، فالبويهيون كانوا سياسيين ، وقلدوا الأتراك في لعبة الخلاف بين الشيعة والحنابلة ، فربما اختاروا الحياد ، وربما رجحوا كفة الشيعة ، أوكفة الحنابلة ! .
* *
واستمر الأمر على هذه الحال حتى جاءت ثورة السلاجقة الأتراك ، وهم بدوٌ من برِّ بخارى من جهة الصين ، فاحتلوا إيران والعراق ، وقضوا على بني بُويَه ، وسيطروا على الخلافة العباسية ( 447 - 581 هجرية ) وتبنوا مجسمة الحنابلة حزب المتوكل ، وشنوا على الشيعة موجة اضطهاد قاسية ، استباحوا فيها أحياءهم في بغداد قتلاً ونهباً وحرقاً ، خاصة منطقة الكرخ مركز ثقل الشيعة التاريخي ، وبدؤوأ هجومهم بإحراق خزانة كتب الكرخ العالمية التي أسسها البويهيون ! وقتلوا الألوف المؤلفة من الشيعة ، فاضطر أكثرهم إلى الاختفاء أو الهجرة ، وكان ممن نجا منهم مرجع الشيعة الشيخ الطوسي ( قدس سره ) الذي فرَّ إلى النجف الأشرف سنة 448 ، في السنة الثانية لاستيلاء السلاجقة ، وأسس الحوزة العلمية ونماها ، حتى توفي سنة 460 هجرية ( رحمه الله ) .
* *
وقد نشط مجسمة الحنابلة في عصر السلاجقة ، وساعدهم السلاجقة في كثير من الأحيان ، لكنهم ظلوا حزباً متطرفاً يراوح مكانه ولم يمتد في العالم الإسلامي ، بسبب نفوذ الشيعة وقوة التيار السني المخالف لهم .
--------------------------- 11 ---------------------------
ثم انحسر دعم السلاجقة لهم لسوء تصرفهم ، وكانت الحكومة تضطر أحياناً إلى تأديبهم لإرضاء عامة البغداديين الشاكين من عنفهم !
وبسقوط السطان بهلوان رئيس قبيلة قُزَل وآخرسلاطين السلاجقة ، سنة 582 هجرية ( سير أعلام النبلاء : 21 / 45 ) سقط معهم مجسمة الحنابلة ، وغلب على بغداد الإعتدال السني والميل إلى التشيع ، ولم نعد نسمع بالحنابلة المتطرفين لقرون !
ولم يظهر لهم طوال هذه القرون أي وجود لهم في بلاد المسلمين ، حتى جاء القرن الثامن فظهروا حزباً صغيراً في الشام بزعامة شخص متوتر هو الشيخ أحمد عبد الحليم بن تيمية ، الذي تبناه بعض الأمراء الشراكسة ، وعينه لمدة قصيرة في منصب شيخ الإسلام في الشام ، ثم عزلوه وسجنوه وحاكموه ، بحكم علماء المذاهب الأربعة ، وأبقوه في السجن حتى مات . وبموته تلاشى حزبه ، وغابت أفكاره لخمسة قرون ، حتى ظهرت على يد الشيخ محمد عبد الوهاب النجدي في حركة ضد الخلافة العثمانية يمولها ويديرها الإنكليز ! .
* *
--------------------------- 12 ---------------------------

كلمة في أسلوب هذه السيرة

تتسع الكتابة في سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) لأساليب من التأليف :
منها : أن يجمع المؤلف ما ورد في سيرة المعصوم ( عليه السلام ) من نصوص ، ويبوبها ويضع لها عناوين ، ويسلسلها من الولادة إلى الوفاة ويسرها سرداً ويشرح بعضها .
وهذا هو أسلوب المصنفين القدماء ، وأولهم ابن إسحاق .
ومنها : أن يقرأ المؤلف نصوص سيرة المعصوم ( عليه السلام ) من مصادرها ، ويقرأ مكتوبات أخرى حوله ، فيكوِّن صورة عن شخصيته وأحداثها ، ثم يبدأ بكتابة تصوره ، ويؤيد آراءه بنصوص من مصادرها . وهذا أسلوب الكتاب المنشئين ، مثل الجاحظ والمفيد والإربلي ، ومن المتأخرين : العقاد ، وعبدالمقصود ، والدكتور الصغير ، وجرداق .
ومنها : أن يرصد المؤلف ما كتبه الآخرون في سيرة المعصوم ( عليه السلام ) ، خاصة ما كتبه الخصوم ، فيؤيد المقولة ، أو ينقدها ويفندها . فيكون طابع الكتاب كلامياً نقدياً للسيرة الرسمية ، ومثاله من المعاصرين كتاب الصحيح من السيرة للسيد جعفر مرتضى .
ومنها : أن يهتم كاتب السيرة بجانب معين من سيرة المعصوم ( عليه السلام ) ، فيركز عليه ، كالجانب السياسي أو الروحاني أو التربوي ، فتأتي السيرة مطبوعة بذلك البُعد ، بمستوى ثقافة كاتبها ، لأن الكتاب مرآة مؤلفه في عقليته ، وذهنه ، وثقافته .
أما هذه السيرة فإن أسلوبها قد جمع إيجابيات ، وأهم ميزاتها :
1 . أن منهجها تاريخي عقلاني . فهي تعتمد النص الصحيح ، وقد تمحصه إن لزم ، وقد تطل على الرأي المخالف فتحاكمه .
2 . أنها تضيئ على عصرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ومحيطه دائماً ، من حياته في عهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى عهود أبي‌بكر وعمر وعثمان ، وحركة الفتوحات ، وخلافته ( عليه السلام ) .
فهي معنية بالمحيط لتبرز شخصية الإمام الربانية العظيمة سامقةً في أهل عصرها ، في تفكيرها ونبلها وأهدافها .
3 . تجد فيها فيها الكثير الجديد ، من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحياته ، في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعده ، في أعماله ، وكلماته ، وصفاته .
--------------------------- 13 ---------------------------
4 . كما تجد فيها مواضيع استوفيناها في بحث موضوعي ، مثل مالية الإمام ( عليه السلام ) مقارنة بمالية غيره ، وجهاز الحكم عنده مقارناً بجهاز الحكم عند غيره ، وأصول سياسته مع الحكام خاصة عثمان ، ودوره في الفتوحات ، وعمله لإعادة العهد النبوي .
د . وجدنا موضوعات مجملة عند الرواة والمؤلفين ، يكثر فيها الإبهام والخلط ، فتتبعنا مفرداتها وفككناها ، وأعطيناها التسلسل المنطقي ، مثل حرب الجمل ، فجاءت دراسة موضوعية مفصلة وجديدة .
أسأل الله تعالى أن يصليَ على نبيه ووصيه أمير المؤمنين ، وآلهما الأطهار ، وأن يتقبل هذا الجهد في أعمال نشر فضائلهم والدفاع عنهم . فهو ولي القبول .
حرره بقم المشرفة في السابع عشر من شهر رمضان 1438
علي الكوراني العاملي
* *
--------------------------- 14 ---------------------------
.
--------------------------- 15 ---------------------------

الفصل الأول: كنت وعلياً نورا قبل الخلقً

1 . روت أحاديث عالم النور مصادر الشيعة والسنة

عقدنا في أول السيرة النبوية فصلاً بعنوان : أول ما خلق الله تعالى نور نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأوردنا فيه أحاديث من مصادر الطرفين في الموضوع ، وملاحظات حولها .
ونورد هنا عدداً من الأحاديث والملاحظات ، ونضيف إليها بحثاً حول الميثاق الذي أخذه الله على البشر في عالم الذر ، وعلى الأنبياء ( عليهم السلام ) بولاية نبينا وعترته صلوات الله عليهم .
إن عقيدتنا نحن أتباع أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أن الله تعالى خلق النبي وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل خلق البشر ، فكانوا أنواراً مؤيدة بروح القدس ، يسبحون الله عز وجل ويطوفون حول العرش ، ثم أودعهم في صلب آدم ( عليه السلام ) . وقد روت ذلك مصادر السنة أيضاً وصححته .
ففي مناقب علي لأبي‌بكر بن مردويه / 285 ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين ، فجزءٌ أنا وجزء علي » .
وفي الكافي ( 1 / 530 ) : ( عن أبي حمزة قال : سمعت علي بن الحسين ( عليه السلام ) يقول : إن الله خلق محمداً وعلياً وأحد عشر من ولده ( عليهم السلام ) من نور عظمته ، فأقامهم أشباحاً في ضياء نوره ، يعبدونه قبل خلق الخلق ، يسبحون الله ويقدسونه ) .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « سلك ذلك النور في صلبه [ آدم ( عليه السلام ) ] فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب ، حتى أقره في صلب عبد المطلب ، فقسمه قسمين : قسماً في صلب عبد الله ،
--------------------------- 16 ---------------------------
وقسماً في صلب أبي طالب ، فعلي مني وأنا منه ، لحمه لحمي ، ودمه دمي ، فمن أحبه فبحبي أحبه ، ومن أبغضه فببغضي أبغضه » . ( الخصال للصدوق / 640 ) .
ورواه العلامة في كشف اليقين / 11 ، ونهج الحق / 212 ، عن ابن مردويه وابن حنبل ، وابن المغازلي ، وفيه : « حتى قسمه جزءين ، فجعل جزءً في صلب عبد الله ، وجزءً في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبياً ، وأخرج علياً ولياً » .
وفي علل الشرائع ( 1 / 208 ) عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، لا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر ، يسعد بنا قوم ويشقى بنا آخرون ، فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب ، أخرج ذلك النور فشقه نصفين ، فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب ، ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة ، والنصف إلى فاطمة بنت أسد ، فأخرجتني آمنة وأخرجت فاطمة علياً .
ثم أعاد عز وجل العمود إليَّ فخرجت مني فاطمة ( عليها السلام ) .
ثم أعاد عز وجل العمود إلى عليٍّ ( عليه السلام ) فخرج منه الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، يعني من النصفين جميعاً ، فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن ( عليه السلام ) ، وما كان من نوري صار في ولد الحسين ( عليه السلام ) ، فهو ينتقل في الأئمة من ولده ( عليهم السلام ) إلى يوم القيامة ) .
وفي علل الشرائع ( 1 / 5 ) والعيون ( 1 / 237 ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني ، قال : علي ( عليه السلام ) فقلت يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل ( عليه السلام ) ؟ فقال :
يا علي ، إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك ، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا ! يا علي ، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا ، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ، ولا الجنة ولا النار ، ولا السماء ولا الأرض ، فكيف لا تكون أفضل من الملائكة ، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه ، لأن أول ما خلق الله عز وجل خلق أرواحنا فانطقنا بتوحيده وتحميده ، ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نوراً
--------------------------- 17 ---------------------------
واحداً ، استعظموا أمرنا ، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون ، وأنه منزه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا ، لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد ولسنا بآلهة ، يجب أن نعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلا الله .
فلما شاهدوا كبرمحلنا كبرنا ، لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به ، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العز والقوة ، قلنا لا حول ولا قوة إلا بالله ، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله .
فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة ، قلنا : الحمد لله ، لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمته ، فقالت الملائكة : الحمد لله . فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله ، وتسبيحه ، وتهليله ، وتحميده ، وتمجيده .
ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبهُ ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً ، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون .
وإنه لما عرج بي إلى السماء أذن جبرئيل مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى ، ثم قال لي تقدم يا محمد ، فقلت له : يا جبرئيل أتقدم عليك ؟ فقال : نعم ، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين ، وفضلك خاصة ، فتقدمت فصليت بهم ولا فخر ، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل : تقدم يا محمد ، وتخلفَ عني ، فقلت : يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني ؟ فقال : يا محمد إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعديَّ حدود ربي جل جلاله . فزج بي في النور زجةً حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علو ملكه ، فنوديت : يا محمد ، فقلت : لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت ، فنوديت : يا محمد أنت عبدي وأنا ربك ، فإياي فاعبد وعليَّ فتوكل ، فإنك نوري في عبادي ، ورسولي إلى خلقي ، وحجتي على بريتي ، لك ولمن أتبعك خلقت جنتي ، ولمن خالفك خلفت ناري ، ولأوصيائك أوجبت
--------------------------- 18 ---------------------------
كرامتي ، ولشيعتهم أوجبت ثوابي .
فقلت : يا رب ومن أوصيائي ، فنوديت يا محمد : أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي ، فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش ، فرأيت اثني عشر نوراً في كل نور سطر أخضر ، عليه اسم وصي من أوصيائي ، أولهم : علي بن أبي طالب ، وآخرهم مهدي أمتي ، فقلت : يا رب هؤلاء أوصيائي من بعدي ؟ فنوديت : يا محمد هؤلاء أوليائي وأوصيائي وحججي بعدك على بريتي ، وهم أوصياؤك وخلفاؤك ، وخير خلقي بعدك . وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني ، ولأعلين بهم كلمتي ، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأمكننه مشارق الأرض ومغاربها ، ولأسخرن له الرياح ، ولأذللن له السحاب الصعاب ، ولأرقينه في الأسباب ، ولأنصرنه بجندي ، ولأمدنه بملائكتي ، حتى تعلو دعوتي ، ويجتمع الخلق على توحيدي ، ثم لأديمن ملكه ، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة ) .
وروى أحمد في فضائل الصحابة ( 2 / 262 ) عن سلمان قال : « سمعت حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
يقول : كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا وجزء علي » .
وقد اجتزأه أحمد ، فهو كما في تاريخ دمشق : 42 / 67 : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله مطيعاً ، يسبح الله ذلك النور ويقدسه ، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم رَكَزَ ذلك النور في صلبه ، فلم نَزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي » .
ورواه في شرح النهج « 9 / 171 » عن الفردوس ، وقال : « رواه أحمد في المسند ، وفي كتاب فضائل علي ، وذكره صاحب كتاب الفردوس ، وزاد فيه : ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب ، فكان لي النبوة ولعلي الوصية » .
وقد حذفوه من مسند أحمد ، وبقي في مناقب الصحابة ، أما في الفردوس فنصه الموجود » 3 / 283 « كرواية أحمد ، وكذا في الرياض النضرة للطبري / 392 ، فأَعجب
لهذا التحريف !
--------------------------- 19 ---------------------------

2 . نقاط من أحاديث عالم الأنوار

1 . عالم الأنوار خاص بأصحاب الكساء ( عليهم السلام ) لا يشركهم فيه غيرهم : ( عن أبي سعيد الخدري قال : كنا جلوساً مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذ أقبل إليه رجل فقال : يا رسول الله أخبرني عن قوله عز وجل لإبليس : قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ . فمن هو يا رسول الله الذي هو أعلى من الملائكة ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين ، كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا ، قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام ، فلما خلق الله عز وجل آدم أمرالملائكة أن يسجدوا له ، ولم يأمرنا بالسجود : فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ، ولم يسجد ، فقال الله تبارك وتعالى : أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ، عنَى من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم في سرادق العرش . فنحن باب الله الذي يؤتى منه ، بنا يهتدي المهتدي . فمن أحبنا أحبه الله وأسكنه جنته ، ومن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره . ولا يحبنا إلا من طاب مولده ) !
( فقد شمل الأمر بالسجود كل الملائكة ، وشمل إبليس الذي كان في مجتمعهم وهو من الجن . ولم يشمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) الذين كانوا أنواراً تامة العقل والحياة ، يعيشون في منطقة عُلْيَا حول العرش ) . ( فضائل الشيعة للصدوق / 8 )
2 . اتفق الجميع على صحة عدد من أحاديث عالم الأنوار ، وفيها أن الله تعالى أظهر عالم الأنوار وأهله لأبينا آدم ، فرآهم ( عليهم السلام ) وعرفه مقامهم .
3 . تدل الأحاديث على أن أهل عالم الأنوار ( عليهم السلام ) أعلى أنواع المخلوقات كلها ، فلا يصح أن يقدم عليهم غيرهم ، ولا أن يقاس بهم الصحابة ، وحتى بقية الأنبياء ( عليهم السلام ) .
ولولاهمُ لم يخلق الله آدماً * ولا كان زيدٌ في الوجود ولا عمرو
وهم مؤيدون بروح القدس ، وهي فوق الأرواح التي في أبداننا : ( أشباح نور بين يدي الله ، قلت : وما الأشباح ؟ قال : ظل النور ، أبدان نورانية بلا أرواح ،
--------------------------- 20 ---------------------------
وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس ، فبه كان يعبد الله وعترته كذلك ، خلقهم حلماء علماء ، بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم ، والسجود والتسبيح والتهليل ) . ( الكافي : 1 / 442 ) .
4 . وكانوا موجودين قبل الملائكة ، وقد تعلم منهم الملائكة خمسة أمور : ( ومنا تعلمت الملائكة التسبيح والتقديس والتوحيد والتهليل والتكبير ، ونحن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه ، فتاب عليه ) . ( المحتضر / 136 ) إشارة إلى قوله تعالى : فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ .
وفي رواية : ( كنا أشباح نور ندور حول عرش الرحمان ، فتعلم الملائكة منا التسبيح والتهليل والتحميد ) . ( علل الشرائع : 1 / 23 ) .
5 . كثرت الرواية وتفاوتت في ترتيب خلق الله تعالى لنبيه وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولبقية الخلق ، ففي بعضها أن الله خلق نور محمد وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من نوره ، وفي بعضها خلقه من نور عظمته . وفي بعضها خلق أربعة عشر معصوماً من نور عظمته . وفي بعضها أنه خلق علياً والأئمة ( عليهم السلام ) من نور محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وفي بعضها فتق نورمحمد فخلق منه العرش . وفي بعضها خلق منه السماوات والأرض وفي بعضها ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة ، ثم فتق نور فاطمة ، والحسن ، والحسين . . الخ .
وفي بعضها : « إن الله كان إذ لا كان ، فخلق الكان والمكان ، وخلق الأنوار ، وخلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار ، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار ، وهو النور الذي خلق منه محمداً وعلياً فلم يزالا نورين أولين ، إذ لا شئ كون قبلهما ، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة ، حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب » .
وفي بعضها خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، وفي بعضها خُلِقْتُ من نور الله عز وجل وخُلق أهل بيتي من نوري ، وخُلق محبوهم من نورهم .
وفيها أحاديث صحيحة وأحاديث مرسلة ، وبحوثها مهمة لكنها خارجةعن هدف الكتاب .
--------------------------- 21 ---------------------------
6 . كما كثرت الرواية وتفاوتت في المدة التي أمضاها النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عالم النور ، ففي بعضها ألفا عام ، وفي بعضها أربعة آلاف عام ، وفي بعضها سبعة آلاف عام ، وفي بعضها ألف دهر ، وفي بعضها أربعين ألف عام ، وفي بعضها خمسين ألف سنة . وقد يكون ذلك لتفاوت معني السنة .
7 . كما تنوعت الرواية في الطينة التي خلق منها النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبقية الخلق ، ففي بعض الروايات أنها طينة مخلوقة من نور عظمة الله تعالى ، وفي بعضها طينة مخزونة مكنونة تحت العرش ، فأسكن ذلك النور فيها ، وفي بعضها طينة عليين ، وفي بعضها طينة من أعلى عليين .

أخذ الله ميثاق الخلق بولاية محمد وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . دلت آية : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ . . على أن الله تعالى أخذ الميثاق على توحيده من جميع الخلق . وهناك أنواع من المواثيق ذكرتها آيات القرآن ، وأحاديث السنة ، قد تبلغ ثلاثين نوعاً .
منها : ميثاق الله تعالى على الأنبياء ( عليهم السلام ) ، قال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا .
ومنها : ميثاقه على الأنبياء بأن يطيعوا من يرسله ، قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ اقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا . قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ .
ومنها : المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل كقوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا للَّنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ .
وقوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ . فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً .
--------------------------- 22 ---------------------------
وقوله تعالى : وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا . فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا .
وقال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .
وقال تعالى : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ .
ومنها ميثاق الله على النصارى ، قال تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ .
ومنها ميثاقه على اليهود والنصارى ، قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ للَّنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ .
ومنها : ميثاقه على المسلمين بمقتضى إسلامهم ، قال تعالى : وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
وقال تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ .
ومنها مدح الذين يفون بميثاقهم ، وذم الذين ينقضونه ، قال تعالى : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ . . وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ .
ومنها التحذير من نقض الميثاق الذي تضمنه عقد الزوجية : وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا .
2 . وقد نصت الأحاديث على أن الله تعالى أخذ ميثاق الأنبياء ( عليهم السلام ) بالولاية لنبينا وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وأخذ ميثاق كل الخلق بالولاية لنبينا وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
روى الكليني في الصحيح ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 3 / 415 ) : ( قال له رجل كيف سميت الجمعة ؟ قال : إن الله عز وجل جمع فيها خلفه لولاية محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه ( عليه السلام ) في الميثاق ، فسماه يوم الجمعة ، لجمعه فيه خلقه ) .
--------------------------- 23 ---------------------------
3 . وقال الصدوق في الهداية / 23 : ( ويجب أن يعتقد أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أفضل من محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن بعده الأئمة صلوات الله عليهم وأنهم أحب الخلق إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه ، وأولهم إقراراً به لما أخذ الله ميثاق النبيين في الذر ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى . وبعدهم الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وأن الله بعث نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الأنبياء ( عليهم السلام ) في الذر ، وأن الله أعطى ما أعطى كل نبي على قدر معرفته نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسبقه إلى الإقرار به . ويعتقد أن الله تبارك وتعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنه لولاهم ما خلق الله السماء والأرض ، ولا الجنة ولا النار ، ولا آدم ولا حواء ، ولا الملائكة ، ولا شيئاً مما خلق ، صلوات الله عليهم أجمعين ) .
4 . وأخيراً نشير إلى المواثيق التي أخذت على المؤمن ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( الكافي : 2 / 2 ) :
( إن الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع ، أيسرها عليه مؤمن يقول بقوله يحسده ، أو منافق يقفو أثره ، أو شيطان يغويه ، أو كافر يرى جهاده ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أخذ الله ميثاق المؤمن على أن لا تصدق مقالته ، ولا ينتصف من عدوه ، وما من مؤمن يشفي نفسه إلا بفضيحتها ، لأن كل مؤمن مُلجم ! ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث ، ولربما اجتمعت الثلاث عليه ، إما بغض من يكون معه في الدار ، يغلق عليه بابه يؤذيه ، أو جار يؤذيه ، أو من في طريقه إلى حوائجه يؤذيه ، ولو أن مؤمناً على قلة جبل لبعث الله عز وجل إليه شيطاناً يؤذيه ، ويجعل الله له من إيمانه أنساً لا يستوحش معه إلى أحد .
وفي رواية : ( مؤمن يحسده وهو أشدهن عليه ، ومنافق يقفو أثره ، أو عدو يجاهده ، أو شيطان يغويه .
وفي رواية : ما كان ولا يكون وليس بكائن مؤمن إلا وله جار يؤذيه ، ولو أن مؤمناً في جزيرة من جزائر البحر لابتعث الله له من يؤذيه ) .
--------------------------- 24 ---------------------------

عوالم وجودنا قبل هذا العالم !

من أعجب ما تقرأ في القرآن والسنة ، أنا كنا موجودين في عوالم أخرى قبل أن نولد من آبائنا وأمهاتنا في هذا العالم !
تقرأ مثلاً قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .
( الأعراف : 172 - 174 )
فالآيات تقول لك : إن الله تعالى استخرج أبناء آدم ( عليه السلام ) من ظهره ، ثم من ظهور أبنائه إلى آخر أب ، ثم كوَّنَهم بشكل معين فكانوا مخلوقات تامة ، وأشهدهم فأقروا ، وكلمهم وأخذ عليهم المواثيق ، ثم أعادهم إلى حالتهم الأولى في ظهر آدم ( عليه السلام ) !
تقول لك : إنك كنت معهم وأديت امتحانك الكامل هناك ، وأخذت عليك عهود ومواثيق ، وقد نسيتها فعلاً وسوف تذكرها ، وهي مسجلة عليك حرفياً !
وتقول لك الأحاديث : إن الله بدأ الخلق بنور خلقه من نور عظمته ، ثم خلق من هذا النورمحمداً وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكانوا أجساماً نورانية ، وكائنات في قمة الشعور والعقل والوعي ، يعيشون حول عرش الله تعالى ، وأرواحهم تختلف عن أرواحهم التي فيهم في هذه النشأة : ( يا جابر ، إن الله أول ما خلق خلق محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعترته الهداة المهتدين ، فكانوا أشباح نور بين يدي الله . قلت : وما الأشباح ؟ قال : ظل النور ، أبدان نورانية بلا أرواح . وكان مؤيداً بروح واحدة هي روح القدس فبه كان يعبد الله . وعترته ، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ، ويصلون الصلوات ويحجون ويصومون ) . ( الكافي : 1 / 442 ، بسند صحيح ) .
هنا يقف ذهنك ، وتكل قدرته عن التصور ، خاصة أنك نسيت مواثيق الله عليك ، لكن العقل يقول لك : إقبل الأمر ، لأن الذي يخبرك به هو الله تعالى ، الذي يعلم ولا تعلم ، ولا يمكنك أن تحيط بعلمه .
وقد ضغطت هذه الحقائق لثقلها على أذهان بعض المفسرين فقالوا إن الأخذ في
--------------------------- 25 ---------------------------
الآية مجازي ! والمعنى خلقهم وأشهدهم على ربوبيته بتكوينهم ، فهذا هو الأخذ ، ومنهم صاحب تفسير الميزان ، قال ( 8 / 305 ) : ( ومعنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد ، وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا ، فاعترفوا بذلك قائلين : بلى شهدنا أنك ربنا . وعلى هذا يكون قولهم : بلى شهدنا ، من قبيل القول بلسان الحال ، أو إسناداً للازم القول إلى القائل بالملزوم ، حيث اعترفوا بحاجاتهم ، ولزمهم الاعتراف بمن يحتاجون إليه ) . لكن رأيه لا يصح ، لأن ظهور الألفاظ يأباه ، وتأباه الروايات المتواترة المفسرة للآية ، عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) .
ثم قال صاحب الميزان عن عالم الذر : ( هو عالم الملكوت والخزائن ) وأطال الكلام حوله ، واختصرالإستدلال عليه . وهو تفسير لا يصح لأنه استحساني ولا دليل عليه ، ولو صح لما حل المشكلة لأن عالم الملكوت يشمل كل عوالم ملكه تعالى ، ففي أي عالم من ملكوت الله تعالى كان خلق الناس ، وأخذ الميثاق منهم ؟
إن أحاديث عوالم وجود النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ووجود والناس قبل هذا العالم ، صريحة متواترة فلا يمكن ردها ، ولا إغفالها في البحث ، ولا دمجها في عالم واحد ، كعالم الملكوت أو الخزائن !

3 . فاطمة بنت أسد ( عليها السلام ) أول هاشمية ولدت لهاشمي

« كانت جليلة القدر ، كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوها أمي ، ولما توفيت صلى عليها ودخل قبرها وترحم عليها » . ( عمدة الطالب / 30 ، ومقاتل الطالبيين / 4 ) .
« فاطمة بنت أسد أول هاشمية ولدت من هاشمي ، وكانت بمحل عظيم من الأعيان في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) ( الحاكم : 3 / 108 ) .
وكانت : ( أول امرأة هاجرت إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من مكة إلى المدينة ، على قدميها ) . « الكافي : 1 / 453 » .
--------------------------- 26 ---------------------------

4 . ولد ( عليه السلام ) في الكعبة في الثلاثين من عمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 59 ) : ( أول هاشمي ولد من هاشميين ، وأول من ولد في الكعبة ، وأول من آمن ، وأول من صلى ، وأول من بايع ، وأول من جاهد وأول من تعلم من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأول من صنف ، وأول من ركب البغلة في الإسلام بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وعلي ( عليه السلام ) آخر الأوصياء ، وآخر من آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وآخر من فارقه عند موته ، وآخر من وسده في قبره وخرج » .
أي أول من ولد مع إخوته وأخواته من هاشمييْن ، فهو الأول مع أشقائه .
وفي كشف الغمة ( 1 / 62 ) وأمالي الصدوق / 194 ، عن سعيد بن جبير ، عن الإمام الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) عن يزيد بن قعنب ، وفي أمالي الطوسي / 706 : ( عن الزهري ، عن عائشة . . عن أنس بن مالك والعباس بن عبد المطلب . . وعن الصادق ( عليه السلام ) قال : كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق ، فقالت : يا رب إني مؤمنة بك ، وبما جاء من عندك من رسل وكتب وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وإنه بنى البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا البيت والمولود الذي في بطني إلا ما يسرت عليَّ ولادتي .
قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشق عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله ، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أن ذلك من أمر الله تعالى ، ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ثم قالت : إني فضلت على من تقدمني من النساء ، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله سراً في موضع لا يحب الله أن يعبد فيه إلا اضطراراً ، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً ، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف وقال : يا فاطمة سمه علياً فهو علي والله العلى الأعلى يقول : اشتققت اسمه من اسمي وأدبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي . وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني
--------------------------- 27 ---------------------------
ويمجدني ، فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن أبغضه وعصاه .
قال : فولدت علياً ولرسول الله ثلاثون سنة فأحبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً شديداً ، وقال لها : إجعلي مهده بقرب فراشي وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يلي أكثر تربيته وكان يطهرعلياً في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ورقبته ، ويقول هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها ) .
أقول : ترد إشكالات على رواية ابن قعنب ، منها أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) لا يحتاج أن يرويها عنه ، ومنها معارضة روايات أخرى لها ، والمرجح عندنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء بها إلى الكعبة وأدخلها إليها ، كما روى ابن المغازلي ، ونحوه في المناقب / 25 : ( فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منُظفاً لم أر كَحُسنِ وجهه ، فسماه أبو طالب علياً ، وحَمله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى أداه إلى منزلها » .

5 . اسمه ونسبه ( عليه السلام )

سماه أبوه علياً ، وسمته أمه حيدرة ، وفي الإنجيل إيليا وحيدار ، وهو معرب اسم قيدار بن إسماعيل ( عليهم السلام ) .
روى الصدوق في التوحيد / 398 ، عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ذات يوم جالساً في مسجده ، إذ دخل عليه رجل من اليهود فقال : يا محمد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله . قال : يا محمد أخبرني عن هذا الرب الذي تدعو إلى وحدانيته ، وتزعم أنك رسوله . كيف هو ؟ قال : يا يهودي إن ربي لا يوصف بالكيف ، لأن الكيف مخلوق وهو مُكيفه . قال : فأين هو ؟ قال : إن ربي لا يوصف بالأين ، لأن الأين مخلوق وهو أيَّنَه . قال : فهل رأيته يا محمد ؟ قال : إنه لا يُرى بالأبصار ولا يُدرك بالأوهام .
قال : فبأي شئ نعلم أنه موجود ؟ قال : بآياته وأعلامه . قال : فهل يحمل العرش أم العرش يحمله ؟ فقال : يا يهودي إن ربي ليس بحال ، ولا محل . . قال اليهودي :
--------------------------- 28 ---------------------------
يا محمد إني أجد في التوراة أنه لم يكن لله عز وجل نبي إلا كان له وصي من أمته ، فمن وصيك ؟ قال : يا يهودي وصيي علي بن أبي طالب ، واسمه في التوراة إليا وفي الإنجيل حيدار ، وهو أفضل أمتي ، وأعلمهم بربي ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وإنه لسيد الأوصياء كما أني سيد الأنبياء .
فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأن علي بن أبي طالب وصيك حقاً ، والله إني لأجد في التوراة كل ما ذكرت في جواب مسائلي ، وإني لأجد فيها صفتك وصفة وصيك ، وأنه المظلوم ومحتوم له بالشهادة ، وأنه أبو سبطيك وولديك شبر وشبير ، سيدي شباب أهل الجنة ) .
وفي معاني الأخبار / 58 : ( عن أبي جعفر محمد بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة ، بعد منصرفه من النهروان ، وبلغه أن معاوية يسبه ويلعنه ويقتل أصحابه ، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكر ما أنعم الله على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعليه ، ثم قال . . أنا اسمي في الإنجيل إليا ، وفي التوراة برء ، وفي الزبور أري ، وعند الهند كبكر ، وعند الروم بطريسا ، وعند الفرس جبتر ، وعند الترك بثير ، وعند الزنج حيتر ، وعند الكهنة بويئ ، وعند الحبشة بثريك ، وعند أمي حيدرة ، وعند ظئري ميمون ، وعند العرب علي ، وعند الأرمن فريقو . . ألا وقد جُعِلْتُ محنتكم . ببغضي يعرف المنافقون ، وبمحبتي امتحن الله المؤمنين ، هذا عهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، وأنا صاحب لواء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا والآخرة ، ورسول الله فَرَطي وأنا فَرَط شيعتي ، والله لا عطشَ محبي ، ولا خاف وليي ، وأنا ولي المؤمنين ، والله وليي ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 318 ) : ( فخرج إليه مرحب في عامة اليهود ، وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على أم رأسه ، وهو يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر اني مرحبُ * شاكِ سلاحي بطلٌ مجرب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب * إذا الليوث أقبلت تلتهب
--------------------------- 29 ---------------------------
فقال علي ( عليه السلام ) :
أنا الذي سمتني أمي حيدرَهْ * ضرغام آجام وليثٌ قسورهْ
على الأعادي مثل ريحٍ صرصرهْ * أكيلكم بالسيف كيل السندره
أضرب بالسيف رقاب الكفرة
قال مكحول : فأحجم عنه مرحب لقول ظئر له : غالب كل غالب الحيدر بن أبي طالب ، فأتاه إبليس في صورة شيخ فحلف أنه ليس بذلك الحيدر ، والحيدر في العالم كثير ، فرجع ) .

6 . اسم أبي طالب ( عليه السلام )

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة ( 8 / 114 ) : ( قيل اسمه عبد مناف ، وهوالأصح لقول أبيه عبد المطلب في وصيته له بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أوصيك يا عبد مناف بعدي ) .
ثم ضعَّف رواية أن اسمه عمران ، ثم نقل قول الحاكم : أكثر المتقدمين على أن اسمه كنيته . وذكر أنه يوجد بآخر مصحف بخطه ( عليه السلام ) : كتبه علي بن أبو طالب .
وقال الحاكم أيضاً ( 3 / 108 ) : ( وقد تواترت الأخبار بأن أبا طالب كنيته اسمه ) .
واستدل المسعودي ( مروج الذهب : 2 / 109 ) بأن علياً ( عليه السلام ) كتب في كتاب ليهود خيبر : وكتب علي بن أبي طالب ، بإسقاط الألف ) . أي أسقطها من ابن لأنه وقع بين علمين .
أقول : لا يمكن الاعتماد على رواية أن اسمه عمران ، لأنها لم ترد في أمهات المصادر ، بل نسبها في المناقب ( 3 / 43 ) إلى قول ، وفي فتح الباري ( 7 / 147 ) إلى بعض الروافض ! ولا عبرة بسقوط الألف من ابن فقد يكون من اجتهاد الناسخ ، ولا برواية أنه كتب أبو بالواو لأن الياء والواو يتشابهان . أما التواتر الذي قاله الحاكم فيعارضه أن أكثر المصادر روت أبيات عبد المطلب ( عليه السلام ) وسمته عبد مناف ، كما قال ابن إسحاق ( 1 / 47 ) ونهاية الأرب ( 16 / 31 ) وابن البطريق / 21 . وقال اليعقوبي ( 2 / 13 ) : ( قال لأبي طالب :
أوصيك يا عبد منافٍ بعدي * بمفردٍ بعد أبيه فردِ
فارقَه وهو ضجيعُ المهد * فكنتُ كالأم له في الوجد
--------------------------- 30 ---------------------------
تدنيه من أحشائها والكبْد * فأنت من أرجى بنيَّ عندي
لدفع ضيمٍ أو لشد عقد ) .
ويتصور بعضهم أن منافاً صنم ، لكن ابن بشرالكلبي قال في الأصنام ( 1 / 32 ) إنه جد قريش ولم يثبت أنه صنم ، قال : ( كانت تسمى قريش : عبد مناف ، ولا أدري أين كان [ مناف ] ولا من نصبه ) ! فهو جد قريش ، وإن صح أنه صنم فقد يكون بعضهم سمى صنماً باسم جدهم .
قال ابن منظور ( 9 / 342 ) : ( وأَناف الشئُ على غيره : ارتفع وأَشرف . ويقال لكل مُشرف عل غيره : إنه لمُنيف ) . والمناف اسم مفعول بمعنى اسم الفاعل : المُنيف .
ويؤيد أن عبد مناف لقب لجدهم وليس إسماً ، ما رواه الصدوق في أماليه / 700 : ( اسم عبد مناف المغيرة ، فغلب اللقب على الاسم ) .
والظاهرأن يكون عبد مناف لقب تعظيم يطلق للرجل المحترم ، أي غلام جده .

7 . أخذه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي طالب ( عليه السلام ) وهو طفل صغير

1 . ولد علي ( عليه السلام ) قبل زواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنحو سنتين . وقالت أمه ( عليها السلام ) كما في « كشف اليقين / 23 » : « فأحبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً شديداً وقال لي : إجعلي مهده بقرب فراشي . وكان يلي أكثر تربيته ، وكان يطهرعلياً في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره . . . » .
2 . وفي شرح النهج ( 13 / 200 ) : ( كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يمضغ اللحمة والتمرة حتى تلين ، ويجعلهما في فم علي ( عليه السلام ) وهو صغير في حجره ) .
وفي الصراط المستقيم ( 1 / 253 ) : ( أسند أبو العلاء القطان أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتاه قِنْوُ مَوْزٍ ، فجعل يقشره ويضعه في فم علي ( عليه السلام ) فقيل : إنك تحبه ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أو ما علمت أنه مني وأنا منه ) .
3 . لما تزوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طلب من عمه أبي طالب ( عليه السلام ) أحد أولاده ليكون له عضداً فخيره بينهم ، فاختار علياً ( عليه السلام ) وكان عمره نحو ثلاث سنوات .
--------------------------- 31 ---------------------------
ففي رواية أبي رافع الصحيحة « المناقب : 2 / 29 » : « ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب : إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني ، وأشكر لك بلاك عندي . فقال أبو طالب : خذ أيهم شئت ، فأخذ علياً ( عليه السلام ) » .
قال علي ( عليه السلام ) ( النهج : 2 / 357 ) : « وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ، ويمسني جسده ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشئ
ثم يلقمنيه » .
وقلنا إنه كان في نحو الثالثة لأن عمره ( عليه السلام ) عند البعثة عشر سنين ، وعاش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاثاً وثلاثين سنة وبعده ثلاثين ، منها أيام أبي‌بكر سنتان وأربعة أشهر ، وأيام عمر تسع سنين وأشهر ، وأيام عثمان اثنتا عشرة سنة ، ومدة خلافته خمس سنين وأشهر . واستشهد في الثالثة والستين ، بعمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأمر بإخفاء قبره لئلا ينبشه بنو أمية ، حتى أظهره الإمام الصادق ( عليه السلام ) .
4 . زعم رواة السيرة الرسمية أن قريشاً أصابتها أزمة شديدة ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعمه العباس انطلق بنا إليه لنخفف عن أبي طالب ( عليه السلام ) من عياله ، فأخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً ( عليه السلام ) فضمه إليه . ولا نقبل هذه الرواية لأن أصلها مجاهد بن جبر « ابن هشام : 1 / 162 » وهو مولى بني مخزوم ، وظاهرها مدح علي ( عليه السلام ) بأن فقر أبيه كان سبب أخذ تربية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له ! مع أن أبا طالب كان ينفق على سقاية الحجاج أكثر من ثلاثين ألف درهم .
وقد روج لهذه المقولة محمد بن سلام الجمحي توفي 231 ، وهو من أتباع المتوكل المشهور بنصبه وبغضه لعلي ( عليه السلام ) ، وغرضهم منها القول إن أبا طالب ( عليه السلام ) كان فقيراً ، وأن العباس أنفق على أولاده ثم زعموا أنه اشترى منه حق السقاية والرفادة ، فصارت للعباسيين . وكله لا يصح .
--------------------------- 32 ---------------------------

8 . نسبه وشمائله ( عليه السلام )

هو : علي بن أبي طالب ، بن عبد المطلب ، بن هاشم بن عبد مناف ، بن قصي ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن النضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان . . أمه : فاطمة بنت أسد ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصي . . إلى آخر النسب الشريف . . وهو نسب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من عبد المطلب فما بعده . وقد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا .

9 . حاولوا تشويه صفة علي ( عليه السلام ) !

1 . قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1123 ) : ( أحسن ما رأيت في صفة علي رضي الله
عنه أنه كان ربعة من الرجال ، إلى القصر ما هو ، أدعج العينين ، حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المنكبين ، شئن الكفّين ، عتداً ( تام الخلق ) أغيد ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه ، كبير اللحية ، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضاري ، لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجاً ، إذا مشى تكفَّأ ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفَسه فلم يستطع أن يتنفس ، وهو إلى السمن ما هو ، شديد الساعد واليد ، وإذا مشى للحرب هرول ، ثبت الجنان ، قويٌّ شجاع ، منصور على من لاقاه ) .
2 . صح عندنا مدح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لصفة الأنزع البطين ، فقد روى الطوسي في أماليه / 293 : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، إن الله قد غفر لك ولشيعتك ، ومحبي شيعتك ، فأبشر فإنك الأنزع البطين ، منزوع من الشرك ، بطين من العلم ) .
وصح عندنا قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( خذوا بحجزة هذا الأنزع فإنه الصديق الأكبر ، والهادي لمن اتبعه ، ومن سبقه مرق من دين الله ، ومن خذله محقه الله ، ومن اعتصم به فقد اعتصم بالله ، ومن أخذ بولايته هداه الله ، ومن ترك ولايته أضله الله ، ومنه سبطا أمتي الحسن والحسين وهما ابناي ، ومن ولد الحسين الأئمة الهداة والقائم المهدي ، فأحبوهم وتوالوهم ، ولا تتخذوا عدوهم وليجة من دونهم ، فيحل عليكم غضب
--------------------------- 33 ---------------------------
من ربكم وذلة في الحياة الدنيا ، وقد خاب من افترى ) . ( كامل الزيارات / 115 ) .
لكن تعالَ انظر كيف شوهوا شكله ( عليه السلام ) وأخذوا بكذبة عمرو بن العاص !
3 . قال ابن شهرآشوب في المناقب ( 3 / 91 ) : ( ابن إسحاق ، وابن شهاب : أنه كتب حلية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن ثبيت الخادم عن عمره ( أي ثبيت الضبي ، عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ) فأخذها عمرو بن العاص فزمَّ بأنفه ( أي امتعض مستكبراً ) فقطعها وكتب : إن أبا تراب كان شديد الأدمة ، عظيم البطن ، حمش الساقين ، ونحو ذلك ! فلذلك وقع الخلاف في حليته ) .
فجعله عمرو شديد السمرة يميل إلى السواد ، ولا يوجد هاشمي بهذا اللون ، بل هو لون عمر بن الخطاب ، قال إنه جاءه من أخواله الأحباش إخوة صهَّاك . أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقد وصفوه بأنه أحمر ، أي أبيض .
وزعموا : أن علياً كان أعمش العينين ، بينما كانت عيناه عظيمتين جميلتين .
وزعموا : أن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) شكت من شكله فقالت للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : زوجتنيه أُعيمش عظيم البطن ! فقال لها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لقد زوجتكه وإنه لأول أصحابي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً .
وزعموا : أنه قصير القامة وهومعتدل القامة . وقالوا : له سنامٌ كسنام الثور . وقالوا : أحمش الساقين . والحمش صفة لسيقان السود .
وقالوا أنزع الشعر كبير الصلعة ، وهي صفة عمر ، حتى أن امرأة خافت من صلعته فقالت له : ما هذا يا أبا غفر ، حفص الله لك .
وقالوا كان يسيل المذي منه كثيراً ، وإنه وضع في آلته فتيلة ! ( سنن البيهقي : 1 / 356 ) !
وقالوا ، وقالوا . . وتسربت بعض مقولاتهم إلى كتبنا مع الأسف !
4 . قال نصر في كتاب صفين / 233 : ( كان على رجلاً دحداحاً ، أدعج العينين ، كأن وجهه القمر ليلة البدر حُسناً ، ضخم البطن ، عريض المسربة ، شثن الكفين ، ضخم الكسور ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا خفاف
--------------------------- 34 ---------------------------
من خلفه ، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري ، إذا مشى تكفأ به ومارَ به جسده ، لا تبين عضده من ساعده ، قد أدمجت إدماجاً ، لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس ، وهو إلى السمرة ، أذلف الأنف ، إذا مشى إلى الحرب هرول ، وقد أيده الله بالعز والنصر ) .
5 . وفي حلية الأبرار ( 2 / 394 ) : ( ومما ورد في صفته ( عليه السلام ) ما أورده صديقنا العز المحدث ( الحنبلي الموصلي ) وذلك حين طلب منه السعيد بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ، أن يخرج أحاديث صحاحاً وشيئاً مما ورد في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وصفاته ، وكتب على أتوار الشمع الاثني عشرالتي حملت إلى مشهده ( عليه السلام ) وأنا رأيتها ، قال : كان ربعة من الرجال ، أدعج العينين ، حسن الوجه ، كأنه القمر ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المنكبين ، شئن الكفين ، أغيد كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ، كث اللحية ، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري ، لا يبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجاً ، إن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه ، فلم يستطع أن ينفس ، شديد الساعد واليد ، إذا مشى إلى الحرب هرول ، ثبت الجنان ، قوى ، شجاع ، منصور على من لاقاه ) .
6 . وفي الخصال / 440 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( بينما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الرحبة والناس عليه متراكمون فمن بين مستفت ومن بين مستعدٍ إذ قام إليه رجل فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فنظر إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعينيه هاتيك العظيمتين ثم قال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، من أنت ؟ فقال : أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك قال : ما أنت من رعيتي وأهل بلادي ، ولو سلمت علي يوماً واحداً ما خفيتَ عليَّ ، فقال : الأمان يا أمير المؤمنين ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هل أحدثت في مصري هذا حدثاً منذ دخلته قال : لا ، قال : فلعلك من رجال الحرب ؟ قال : نعم ، قال : إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس . قال : أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلاً لك أسألك عن شئ بعث فيه ابن الأصفر وقال له : إن كنت أنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمد ، فأجبني عما أسألك ، فإنك إذا فعلت ذلك اتبعتك وأبعث إليك بالجائزة ، فلم يكن عنده جواب ، وقد أقلقه ذلك فبعثني إليك لأسألك عنها .
--------------------------- 35 ---------------------------
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قاتل الله ابن آكلة الأكباد ما أضله وأعماه ومن معه ! والله لقد أعتق جارية فما أحسن أن يتزوج بها ! حكم الله بيني وبين هذه الأمة ، قطعوا رحمي ، وأضاعوا أيامي ، ودفعوا حقي ، وصغروا عظيم منزلتي . . الخ ) .
7 . وفي كامل ابن الأثير ( 3 / 397 ) : كان من أحسن الناس وجهاً ، لا يغير شيبه ، كثيرالتبسم . قال في جامع الأصول في كتاب النون عند ذكره صفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : رجل ربعة معتدل القامة بين الطول والقصر . صفاته ( عليه السلام ) مواطئة
لصفات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
* *
--------------------------- 36 ---------------------------

الفصل الثاني: علي ( عليه السلام ) من طفولته إلى بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

« تميزه ( عليه السلام ) في نشأته وصباه »

روت عامة المصادر تميز أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ولادته ونشأته . مثل كلامه وهو في المهد ، وقوته البدنية ، وقوة شخصيته . ومهما شكك البعض فإن مجموعها يدل على أن الله تعالى أعطاه كرامات ومعجزات . ( راجع : مناقب آل أبي طالب ( 2 / 120 ) ) .

1 . شاء الله أن يولد في الكعبة :

في أمالي الطوسي / 706 : ( عن الزهري ، عن عائشة . . عن أنس بن مالك والعباس بن عبد المطلب . . وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين . . . وقد تقدم .

2 . كان وهو طفل يفك قماطه :

قال : ثم شدته وقمطته بقماط فبتر القماط ، قال : فأخذت فاطمة قماطاً جيداً فشدته به فبتر القماط ، ثم جعلته في قماطين فبترهما ، فجعلته ثلاثة فبترها ، فجعلته ستة من ديباج وواحداً من الأدم فتمطى فيها فقطعها كلها . . فقال أبو طالب عند ذلك : إنه سيكون له شأن ونبأ ) .

3 . كان محبوب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخديجة ( عليها السلام ) :

ولما أخذه إلى بيته وهو صغير كانت خديجة ( عليها السلام ) أماً له ، فقد ربته مع أمه ، وأحبته كما أحبه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

4 . كان ( عليه السلام ) طفلاً فقتل حية قصدته :

في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 120 ) : أنه ( عليه السلام ) رأى حية تقصده وهو في المهد شدت يداه في حال
--------------------------- 37 ---------------------------
صغره فحول نفسه فأخرج يده وأخذ بيمينه عنقها وغمزها غمزة حتى أدخل أصابعه فيها وأمسكها حتى ماتت ، فلما رأت ذلك أمه نادت واستغاثت فاجتمع الحشم ، ثم قالت كأنك حيدرة ( لبوة ) . قال الحميري :
ويا من اسمه في الكتب * معروف به حيدر
وسمته به أم * له صادقة المخبر
وقال دعبل :
أبو تراب حيدرة * ذاك الامام القسورة
مبيد كل الكفرة * ليس له مناضل
مبارز ما يهب * وضيغم ما يغلب
وصادق لا يكذب * وفارس محاول
سيف النبي الصادق * مبيد كل فاسق
بمرهف ذي بارق * أخلصه الصياقل

5 . أمسك طفلاً أكبر منه ومنعه من السقوط في البئر :

جابر الجعفي قال : كانت ظئرة علي ( عليه السلام ) التي أرضعته امرأة من بني هلال خلفته في خبائها مع أخ له من الرضاعة وكان أكبر منه سناً بسنة ، وكان عند الخباء قليب فمرالصبي نحوالقليب ونكس رأسه فيه فتعلق ( علي ) بفرد قدميه وفرد يديه ، أما اليد ففي فمه وأما الرجل ففي يديه ، فجاءت أمه فأدركته فنادت في الحي : يا للحي من غلام ميمون أمسك عليَّ ولدي ، فأمسكوا الطفل من رأس القليب وهم يعجبون من قوته وفطنته فسمته أمه : مباركاً . وكان الغلام في بني هلال يعرف بمعلق الميمون ، وولده إلى اليوم ، قال العوني :
واسم أخيه في بني هلال * فاسأل به إن كنت ذا سؤال
معلق الميمون ذا المعالي * بذكره القوم على الليالي

موهبة خُص بها صبيا

--------------------------- 38 ---------------------------

6 . كان يصارع من هم أكبر منه ويصرعهم :

في المناقب : ( كان أبو طالب يجمع ولده وولد إخوته ثم يأمرهم بالصراع ، وذلك خُلُقٌ في العرب ، فكان يحسر عن ذراعيه وهو طفل ويصرع كبار إخوته وصغارهم وبني عمه ، فيقول أبوه : ظهر عليٌّ ، فسماه ظهيراً ، قال العوني :
هذا وقد لقبه ظهيرا * أبوه إذ عاينه صغيرا
يصرع من إخوته الكبيرا * مشمراً عن ساعد تشميرا
تراه عبلاً فتلاً قوياً
فلما ترعرع ( عليه السلام ) كان يصارع الرجل الشديد فيصرعه . ويعلق بالجُبَار بيده ( فسيل النخلة ) ويجذبه فيقلعه . وربما قبض على مراق بطنه ورفعه إلى الهواء .

7 . وكان يعترض الحصان المندفع فيرده :

قال في المناقب ( 2 / 121 ) : ( وربما يلحق الحصان الجاري فيصدمه ، فيرده على عقبيه ) . وهو يدل على قوته البدنية الخارقة ، وسرعته في الجري .

8 . كان يحمل الصخر الثقيل الذي يعجز عنه رجال :

وكان ( عليه السلام ) يأخذ من رأس الجبل حجراً ويحمله بفرد يديه ، ثم يضعه بين يدي الناس ، فلا يقدر الرجل والرجلان والثلاثة على تحريكه . وإنه ( عليه السلام ) لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنَفَسه ، فلم يستطع أن يتنفس !

9 . ثم كان يقطع الأسطوانة من الجبل ويحملها :

قال في المناقب ( 2 / 121 ) : ( ومنه ما ظهر بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قطع الأميال وحملها إلى الطريق ، سبعة عشر ميلاً تحتاج إلى أقوياء حتى تحرك ميلاً منها . قطعها وحده ونقلها ونصبها ، وكتب عليها هذا ميل علي . ويقال إنه كان يتأبط باثنين ويدير واحداً برجله ) .
وفي كتاب المراتب للبستي ( 1 / 140 ) : ( ما ظهر عليه بعد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فمنه قطع الأميال من الجبل ، وحملها إلى الطريق سبعة عشر ميلاً ، يحتاج إلى أقوياء حتى تحرك ميلاً ميلاً ، فقلعها ، ونقلها ، ونصبها ، وكتب عليها : هذا ميل علي ( عليه السلام ) ) .
أقول : الأميال : الأسطوانات الحجرية التي هي علامات الطريق بين المدينة ومكة ، وبين
--------------------------- 39 ---------------------------
مكة وعرفات ، وهذا يدل على أنه ( عليه السلام ) جددها أو أبدلها بأميال أوضح . فكان يقطع الصخر من الجبل على شكل أسطوانة بطول ثلاثة أذرع ، وينقله إلى مكانه ، فيحمل ميلين منها تحت إبطه ، أو على كتفيه ، ويدفع الثالث برجله !
قال الأزرقي في تاريخ مكة ( 2 / 190 ) : ( عدد الأميال من المسجد الحرام إلى موقف الإمام بعرفة وذكر مواضعها . . والميل حجر طوله ثلاثة أذرع ) .
وفي قاموس الكتاب المقدس / 292 ) : ( وفي العصور الرومانية كانت تقام معالم الأميال الحجرية على الطرق العامة الرئيسية ، كما على الطريق مثلاً بين صور وصيداء ، وبين بيلا وجيراسا ، حيث لا تزال هذه ترى هناك ) .
ويطلق الميل على المسافة ، قال العلامة في النهاية ( 2 / 169 ) : ( الفرسخ : ثلاثة أميال إجماعاً ، والميل الهاشمي منسوب إلى هاشم جد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربعة آلاف خطوة واثني عشر ألف قدم ، لأن كل خطوة ثلاثة أقدام ، وهو أيضا أربعة آلاف ذراع ، لأن المسافة تعتبر بمسير اليوم للإبل السيرالعام ) .

10 . وكان يضرب الصخر بيده فتؤثر فيه :

قال في المناقب ( 2 / 121 ) : ( وكان منه في ضرب يده في الأسطوانة حتى دخل إبهامه في الحجر وهو باق في الكوفة . وكذلك مشهد الكف في تكريت والموصل وقطيعة الدقيق ، وغير ذلك ) . ولا بد أن بني أمية أزالوه .

11 . ويضرب الصخر بسيفه فيشق فيه :

( ومنه أثر سيفه في صخرة جبل ثور ، عند غار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأثر رمحه في جبل من جبال البادية ، وفي صخرة عند قلعة خيبر ) .

12 . ويختم الحصى بخاتمه :

ومنه ختم الحصى قال ابن عباس : صاحب الحصاة ثلاثة : أم سُليم وارثة الكتب طبع في حصاتها النبي والوصي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم أم الندى حبابة بنت جعفر الوالبية الأسدية ، ثم أم غانم الأعرابية اليمانية ، وختم في حصاتها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وذلك مثل ما رويتم أن سليمان كان يختم على النحاس للشياطين ، وعلى الحديد
--------------------------- 40 ---------------------------
للجن ، فكان كل من رأى برقه أطاعه ) .

13 . جاءكم قُضَم ، جاءكم قُضَم :

كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد هلاك المستهزئين ربما ذهب إلى المسجد وحده بدون حراسة ، فحركوا عليه أولادهم ليؤذوه في طريق ذهابه أو عودته !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أغروا به الصبيان ، وكانوا إذا خرج يرمونه بالحجارة والتراب ، فشكى ذلك إلى علي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك ، فخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتعرض الصبيان لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم ( يفركها بقوة ) ! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون : قضمنا عليٌّ ، قضمنا علي ! فسمي لذلك : القضيم » . ( تفسير القمي ( 1 / 114 ) .
« كانت قريش إذا رأته قالت : إحذروا الحطم ، إحذروا القضم ! أي الذي يقضم الناس فيهلكهم » . ( نهاية ابن الأثير : 1 / 402 ، و : 4 / 78 ) . وفي أدب الكاتب لابن قتيبة / 171 : « الخضم بالفم كله ، والقَضْمُ بأطراف الأسنان . قال أبوذَرّ ( رحمه الله ) :
تَخْضِمُونَ وَنَقْضَمُ ، والمَوْعِدُ الله » .
وفي أحُد لما دعا طلحة حامل لواء المشركين إلى المبارزة ، فبرز اليه علي ( عليه السلام ) ، قال له : ( قد علمتُ يا قُضَيْم أنه لايَجسر عليَّ أحد غيرك ) !

14 . كان قبل البعثة يذهب مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الشعاب ويصليان :

في الهداية الكبرى / 65 : ( كان يخرج وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما في كل ليلة إلى الشعاب فيصليان فيها سراً من قريش ومن الناس ، وكانت خديجة تخاف عليهما أن تقتلهما قريش ، فجاءت إلى أبي طالب فقالت له : إني لست آمن على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلى علي من قريش أن يقتلوهما ، فاني أراهما يذهبان في بعض تلك الشعاب يصليان . فأتاهما أبو طالب وقال لهما : إني أعلم أن هذا الأمر سيكون له آخر ، وأن هذا الذي أنتما عليه لدين الله ، وإني أعلم أنكما على بينة من ربكما فاتقيا قريشاً ، فوالله ما أخاف عليكما إلا من قريش خاصة ، وما أنتما بكاذبين ولكن القوم يحسدونكما ، والذي دعوتما إليه عظيم
--------------------------- 41 ---------------------------
عندهم ، وإنما تريدان أن تقلباهم عن دينهم ودين آبائهم إلى دين لا يعرفونه ، ويستعظمون ما تدعوانهم إليه . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأملكن رقابهم ، ولأطأن بلادهم بالخيل ، ولتُسلمن قريش والعرب طوعاً أو كرهاً ، ولأقطعن أكابرهم جهراً ، ولآخذنهم بالسيف عُنْوةً ، وهكذا أخبرني جبريل ( عليه السلام ) عن الله عز وجل !
فرجع أبو طالب من تلك الشعاب من عندهما وهو من أسرِّالناس بما أخبره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وأتى خديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخبرها بذلك ففرحت فرحاً شديداً وسُرَّت ، وعلمت أنهما في حفظ الله عز وجل ، فكان هذا من دلائله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .

15 . صلى مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربع سنوات قبل البعثة وثلاثاً بعدها :

روى الحاكم ( 3 / 112 ) بسند صحيح على شرط الشيخين عن علي ( عليه السلام ) أنه قال :
« أنا عبد الله وأخو رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتر ، لقد صليت قبل الناس بسبع سنين » . والخصال / 401 ، ومناقب ابن سليمان : 1 / 260 و 275 .
وروى عن أنس قال : « نُبَّئ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين ، وأسلم علي يوم الثلاثاء » . ونص حديث أهل‌البيت ( عليهم السلام ) على أن جبرئيل ( عليه السلام ) جاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سن السابعة والثلاثين وأخبره بأنه سيكون رسولاً ، وعلمه الوضوء والصلاة ، فأخبرخديجة وعلياً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصدقاه ، وكانا يصليان معه .
وفي إعلام الورى ( 1 / 102 ) : « ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم ، وهو من أجلِّ رواة أصحابنا في كتابه : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتياً أتاه فيقول : يا رسول الله ، فينكر ذلك ، فلما طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب فنظر إلى شخص يقول له : يا رسول الله ، فقال له : من أنت ؟ قال : جبرئيل ، أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً فأخبر رسول الله خديجة بذلك ، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبر اليهودي وخبر بحيراء ، وما حدثت به آمنة أمه ، فقالت : يا محمد إني لأرجو أن تكون كذلك . وكان رسول الله يكتم ذلك ، فنزل عليه جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء فقال : يا محمد قم توضأ للصلاة ، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ومسح
--------------------------- 42 ---------------------------
الرأس والرجلين إلى الكعبين ، وعلمه السجود والركوع .
فلما تم له أربعون سنه أمره بالصلاة وعلمه حدودها ، ولم ينزل عليه أوقاتها ، فكان رسول الله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت ، وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه ، فدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يصلي فلما نظر إليه يصلي قال : يا أبا القاسم ما هذا ؟ قال : هذه الصلاة التي أمرني الله بها ، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وصلى معه وأسلمت خديجة ، فكان لا يصلي إلا رسول الله وعلي وخديجة خلفه . فلما أتى لذلك أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه جعفر ، فنظر إلى رسول الله وعلي بجنبه يصليان ، فقال لجعفر : يا جعفر صِلْ جناح ابن عمك ، فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر ، فلما وقف جعفر على يساره بدر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من بينهما وتقدم » . وقصص الأنبياء ( عليهم السلام ) / 315 ، والمناقب ( 1 / 41 ) وكشف الغمة ( 1 / 86 ) وفيه : « أنشأ أبو طالب في ذلك يقول :
إن علياً وجعفراً ثقتي * عند ملم الزمان والكربِ
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بنيَّ ذو حسبِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي »
وفي الفوائد لأبي الفتح الكراجكي / 116 : « كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف ، أو سمع من حوله رجفة راجف ، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً ، يخبر بذلك خديجة وعلياً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويستسرهما هذه الحال ، فكانت خديجة تثبته وتصبره ، وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له : والله يا ابن العم ما كذب عبد المطلب فيك ، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك ، ولم يزل كذلك إلى أن أُمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالتبليغ فكان أول من آمن به من النساء خديجة ، ومن الذكور أمير المؤمنين علي » .
وفي الاستغاثة ( 2 / 31 ) : ( أجمعوا في الرواية أن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال في غير موضع : والله لقد صليت قبل كل أحد مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، سبع سنين ) .
ولعله يقصد أربع سنين قبل البعثة وثلاثاً بعدها ، حتى أمر الله نبيه بالدعوة العامة . وطرق هذا الحديث في مصادر الطرفين تصل إلى التواتر ، ومن مصادره ابن ماجة ( 1 / 44 ) وصححه .
--------------------------- 43 ---------------------------
ومجمع الزوائد ( 9 / 102 ) بعدة روايات ، وابن أبي شيبة ( 7 / 498 ) والضحاك في الآحاد والمثاني ( 1 / 148 ) وابن أبي عاصم في السنة / 584 ، وتفسير الثعلبي ( 5 / 85 ) والطبري في الرياض النضرة ( 2 / 209 ) والنسائي في السنن ( 5 / 106 و 107 ) . والخطيب في المتفق ( 3 / 141 ) . وتاريخ دمشق ( 42 / 39 ) . ورد ابن حجر في القول المسدد / 102 ، كلام َ الذهبي !
ورواه في شرح النهج ( 13 / 200 و 228 ) عن الطبري وقال : وفي غير رواية الطبري : أنا الصديق الأكبر ، وأنا الفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبي‌بكر ، وصليت قبل صلاته بسبع سنين . كأنه ( عليه السلام ) لم يرتض أن يذكر عمر ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه ، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً » !
ولم يتركوا هذه المنقبة لعلي حتى دسوا فيها الطعن بأبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ففي مسند أحمد : 1 / 99 ، عن حبة العرني قال : « رأيت علياً رضي الله عنه ضحك على المنبر ، لم أره ضحك ضحكاً أكثر منه حتى بدت نواجذه ! ثم قال : ذكرت قول أبي طالب ! ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونحن نصلي ببطن نخلة فقال : ماذا تصنعان يا ابن أخي ؟ فدعاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الإسلام فقال : ما بالذي تصنعان بأس أو بالذي تقولان بأس ، ولكن والله لا تعلوني إستي أبداً ! وضحك تعجباً لقول أبيه » .
والطيالسي / 26 ، ومسند زيد / 405 ، وتاريخ دمشق : 42 / 32 . و : 66 / 313 .
أقول : إن مقولة ( لا تعلوني إستي ) قالها مشركوا قريش وثقيف ، وهي تدل على عامية وتكبرٍ بدوي ! ثم ألصقوها بأبي طالب بغضاً بعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
أقول : كأن الله تعالى أمر رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يذهب إلى الشعاب ليصلي فيها تحت السماء ، وقد يكون لغرض آخر مع الصلاة ، مثل تنزل الملائكة ، أو الالتقاء بالمؤمنين .

16 . افتقد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً أيام الهجرة ، فخرجت خديجة ( عليها السلام ) تبحث عنه :

في شرح الأخبار ( 2 / 205 ) ( عن معاذ بن جبل ، قال : لما فشى أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكة وأسلم من أسلم من المسلمين ، ووثب عليهم قومهم يعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم ، وأذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهم في الهجرة ، فهاجر من خاف
--------------------------- 44 ---------------------------
من قومه على نفسه وتفرقوا في البلدان ، وأقام مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حماه قومه ،
افتقد علياً ( عليه السلام ) ذات يوم فلم يعلم مكانه حتى أمسى فاشتد غمه به ، فرأت أثر الغم عليه خديجة رضوان الله عليها فقالت : يا رسول الله ما هذا الغم الذي أراه عليك ؟ قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صنع به ، وقد أعطاني الله عز وجل فيه ثلاثاً في الدنيا ، وثلاثاً في الآخرة : لا أخاف معها عليه أن يموت ولا يقتل حتى يعطيني الله موعده إياي ، إلا أني أخاف عليه واحدة . قالت : يا رسول الله ، وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الدنيا ؟ وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الآخرة ، وما الواحدة التي تخشاها عليه ؟ قال : يا خديجة ، إن الله عز وجل أعطاني في علي لدنياي أنه يَقتل أربعة وثمانين مبارزاً قبل أن يموت أو يقتل ، وأنه يواري عورتي عند موتي ، وأنه يقضي ديني وعداتي من بعدي . وأعطاني في علي لآخرتي أنه صاحب مفتاحي يوم أفتح أبواب الجنة ، وأنه صاحب لوائي يوم القيامة ، وأنه صاحب حوضي . والتي أخافها عليه : ضغائن له في قلوب قوم ! فخرجت خديجة في الليل تلتمس خبر علي فوافقته ، فأعلمته باغتمام رسول الله بغيبته وألفته مقبلاً إليه فسبقته تبشره ، فقام قائماً فحمد الله تعالى رافعاً يديه » .
وفي مناقب محمد بن سليمان ( 1 / 304 ) : أنها أعطته بعيرها ليأتي إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم يقبل وقال : بل إمضي فأخبري رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنا قادم على أثرك . قالت خديجة : فمضيت فأخبرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإذا هو قائم يقول : اللهم فرج غمي بأخي علي ، فإذا بعلي قد جاء فتعانقا . قالت خديجة : ولم أكن أجلس إذا كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قائماً ، فما افترقا متعانقين حتى ضربتا عليَّ قدماي » .
أي تعبت قدماي من الوقوف وأنا أنتظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو واقف معانقٌ علياً ( عليه السلام ) يتحدث معه .

17 . كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حراء لما بعثه الله تعالى :

قال علي ( عليه السلام ) في الخطبة التي تسمى القاصعة : « ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة . ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان أيس من
--------------------------- 45 ---------------------------
عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وإنك لعلى خير » . « نهج البلاغة : 2 / 157 » .
أقول : يشير ذلك إلى أن علياً ( عليه السلام ) كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند بعثته . وقد رووا أن أهله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانوا معه في غار حراء لما بعث . قال الجاحظ في العثمانية / 305 : « فجاور في حراء في شهر رمضان ، ومعه أهله خديجة ، وعلي بن أبي طالب ، وخادم » .
وفي السيرة الحلبية : 1 / 383 : « كان يخرج لجواره ومعه أهله ، أي عياله التي هي خديجة ، إما مع أولادها ، أو بدونهم » .
وفي دلائل البيهقي : 2 / 14 ، وإمتاع الأسماع : 3 / 24 : « وخرج معه بأهله » .
لكن رواية البخاري « 8 / 67 » غيبت علياً وخديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال : « عن عائشة . . فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبدالليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فتزوده لمثلها » .

18 . كان عقيل يظلم علياً ( عليه السلام ) في طفولته فيشترط أن يداووه قبله :

روى الصدوق الإعتقادات / 105 ، أن علياً ( عليه السلام ) قال : ( ما زلت مظلوماً منذ ولدتني أمي ، حتى أن عقيلاً كان يصيبه الرمد فيقول : لا تذرُّوني حتى تذرُّوا علياً ، فيذرُّوني وما بي رمد ) !
وفي الغارات للثقفي ( 2 / 768 ) : ( ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى يوم الناس هذا . وقوله ( عليه السلام ) : اللهم اجز قريشاً فإنها منعتني حقي وغصبتني أمري .
وقوله ( عليه السلام ) : فجزى قريشاً عني الجوازي فإنهم ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي . وقوله ( عليه السلام ) : وقد سمع صارخاً ينادي : أنا مظلوم فقال : هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلت مظلوماً . وقوله ( عليه السلام ) : وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى . وقوله ( عليه السلام ) : أرى تراثي نهباً . وقوله : أصغَيَا بإنائنا وحملا الناس على رقابنا . وقوله ( عليه السلام ) : إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى .
وقوله ( عليه السلام ) : ما زلت مستأثَراً عليَّ مذعوفاً عما أستحقه وأستوجبه .
--------------------------- 46 ---------------------------

الفصل الثالث: علي ( عليه السلام ) من البعثة إلى الهجرة

1 . علي ( عليه السلام ) أول من أسلم وآمن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . علي ( عليه السلام ) أول من أسلم وآمن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
تقدم قول علي ( عليه السلام ) متواتراً : « صليت قبل الناس بسبع سنين » « الحاكم : 3 / 111 » .
وقال ابن عبد البر « الإستيعاب : 3 / 1095 » : « عن أنس بن مالك قال : استنبئ النبي يوم الاثنين وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء . وقال زيد بن أرقم : أول من آمن بالله بعد رسول الله علي بن أبي طالب » . وحسَّنَه في الزوائد : 9 / 274 : « أسلم زيد بن حارثة بعد علي ، فكان أول من أسلم بعده » . والطبراني الكبير : 5 / 84 ، والطبري : 2 / 60 ، وتهذيب الكمال : 5 / 52 ، وسير الذهبي : 1 / 216 .
وقال ابن هشام ( 1 / 163 ) : « وكان أول ذكر أسلم وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما » . وسير الذهبي : 1 / 13 ، وتاريخ دمشق : 19 / 353 .
وفي الترمذي ( 5 / 304 ) : « بُعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين ، وصلى وعليٌّ ( عليه السلام ) يوم الثلاثاء » !
وفي الأحوذي « 10 / 160 » : « أول من أسلم من الذكور هو علي » .
لكن علماء السلطة بعد القرن الخامس أنكروا أن علياً ( عليه السلام ) أول من أسلم !
قال ابن الصلاح في مقدمته / 178 : « قال الحاكم : لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب أولهم إسلاماً . واستُنكر هذا من الحاكم » !
قال في الصحيح من السيرة « 2 / 315 » : « إن أول من أسلم واتبع وصدق وآزر وناصر ، هو أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى أبنائه الأئمة الطاهرين . وأورد العلامة الأميني ( 3 / 95 ) أقوالاً لعشرات الصحابة والتابعين وغيرهم من الأعلام ، وعشرات من المصادر غير الشيعية ، تؤكد أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو أول الأمة إسلاماً » .
--------------------------- 47 ---------------------------
وقال المناوي في فيض القدير ( 4 / 468 ) : « علي أخي في الدنيا والآخرة : كيف وقد بُعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين فأسلم وصلى يوم الثلاثاء ، فمكث يصلي مستخفياً سبع سنين ، كما رواه الطبراني عن أبي رافع . وفي أوسط الطبراني عن جابر مرفوعاً : مكتوب على باب الجنة : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي سنة ! عن أبي أمامة أن النبي آخى بين الناس ، وآخى بينه وبين علي . قال الإمام أحمد : ما جاء في أحد من الفضائل ما جاء في علي !
والعجب كل العجب من ابن حجر الذي يعرف حديث الدار وإنذار العشيرة الأقربين في أول البعثة ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعلن علياً ( عليه السلام ) أخاه ووزيره ووصيه ، ويعرف الأحاديث الصحيحة المتقدمة في خلق نورالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونور علي ( عليه السلام ) قبل الخلق ، ويعرف حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الصحيح أن الملائكة صلت عليه وعلى علي سبعاً ! وقول علي ( عليه السلام ) : « أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ! صليت قبل الناس لسبع سنين » . وأنه صحيح بشرط الشيخين !
ويعرف أنه لا يوجد حديث في أن أبا بكر أول من أسلم إلا ما نسبوه إلى عمار ! وقد صرح هو في « فتح الباري : 7 / 130 » بأن البخاري لم يجد حديثاً في أن أبا بكر أسلم أولاً إلا ما نسبه إلى عمار فقال : « اكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئاً على شرطه غيره ، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي‌بكر ، إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الرجال غيره » !
ومع كل ذلك أفتى ابن حجر بأولية إسلام أبي‌بكر بحديث مبهم ، وردَّ الأحاديث القوية ، فقال : « قد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال » . يقصد بالجمهور أتباع السلطة فقط ، مع أن اتفاقهم تم في القرن الخامس ، وكان الاتفاق قبلها على أولية علي ( عليه السلام ) !
أما روايات أهل‌البيت ( عليهم السلام ) فأجمعت على أن علياً وخديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول من أسلم ، ومنها رواية اليعقوبي « 2 / 22 » : « أتاه جبريل ( عليه السلام ) وأعلمه أنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبلغه
--------------------------- 48 ---------------------------
عن الله وعلمه : إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ثم أتى خديجة ابنة خويلد ( عليها السلام ) فأخبرها فتوضأت وصلت ، ثم رآه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ففعل كما رآه يفعل ، ثم زيد بن حارثة ، ثم أبو ذر » .
وفي روضة الواعظين / 85 : « قال أبو رافع : صلى النبي غداة الاثنين ، وصلت خديجة آخر نهار يوم الاثنين ، وصلى علي يوم الثلاثاء » .
وروى ابن طاووس في كتاب الطرف / 5 ، والبحار « 65 / 392 » عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : إنهما أسلما لما دعاهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلَّمتما له ؟ وقال : إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام ، فأسلما تسلما وأطيعا تُهديا ، فقالا : فعلنا وأطعنا يا رسول الله ، فقال : إن جبرئيل عندي يقول لكما : إن للإسلام شروطاً ومواثيق ، فابتداؤه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة ، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ، ويبعث من في القبور . قالا : شهدنا . قال : وإسباغ الوضوء على المكاره واليدين والوجه والذراعين ، ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين ، وغسل الجنابة في الحر والبرد ، وإقام الصلوات ، وأخذ الزكوات من حلها ووضعها في أهلها ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان ، والجهاد في سبيل الله ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، والعدل في الرعية ، والقسم في السوية ، والوقوف عند الشبهة إلى الإمام ، فإنه لا شبهة عنده ، وطاعة ولي الأمر بعدي ومعرفته في حياتي وبعد موتي ، والأئمة من بعده واحداً فواحداً ، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه . والحياة على ديني وسنتي ودين وصيي وسنته ، إلى يوم القيامة ، والموت على مثل ذلك ، غير شاقة لأمانته ولامتعدية ولامتأخرة عنه ، وترك شرب الخمر ، وملاحاة الناس .
يا خديجة فهمت ما شرط عليك ربك ؟ قالت : نعم وآمنت وصدقت ورضيت وسلمت . قال علي : وأنا على ذلك . فقال : يا علي تبايع على ما شرطت عليك ؟ قال : نعم » .
--------------------------- 49 ---------------------------

2 . المأمون يشهد أن علياً وأولاده ( عليهم السلام ) خلوٌ من الناس :

جمع المأمون الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والفلاسفة ، وناظرهم في أن علياً هو خليفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وليس أبا بكر . ومما احتج به أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاه إلى الإسلام قبل بلوغه ولم يدع صبياً غيره لأنه لا تصح دعوة الصبيان ، وكانت دعوته له بأمر الله تعالى ولم يتَكلَّف ذلك من نفسه ، فإن الله يقول : وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلفِّين ! وهذا يعني أن علياً وهو صغير السن كبير ، تمييزاً له عن الخلق ليُعرف مكانه وفضله ، ثم كان المأمون يقول : ( ويحكم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ ( غير ) من هذا الخلق ! أوَمَا علمتم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بايع الحسن والحسين وهما صبيان غير بالغين ولم يبايع طفلاً غيرهما ! أَوَمَا علمتم أن علياً آمن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو ابن عشر سنين ، فقبل الله ورسوله منه إيمانه ولم يقبل من طفل غيره ، ولا دعا النبي طفلاً غيره إلى الإيمان ! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ) ! ( الإختصاص / 98 ) .
وقد روى مناظرات المأمون للعلماء ابن عبد البر في العقد الفريد ( 2 / 240 ) والصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 199 ) وروى أن الإمام الرضا ( عليه السلام ) كان يقول لأصحابه الذين يثق بهم : لا تغتروا منه بقوله ، فما يقتلني والله غيره ! ومعناه أن المأمون متناقض ، فهو يناظرالعلماء في فضل علي وأولاده الأئمة ( عليهم السلام ) ، ثم يقتل الإمام الرضا لخوفه من تفاقم شعبيته !
وقد تضمنت مناظرات المأمون إبطال خلافة غيرعلي ( عليه السلام ) ، وعدم جواز تلقي الدين من غيره . قال محمد بن يحيى بن عمران الأشعري : فسكت القوم فقال لهم : لم سكتم ؟ قالوا : لا ندري ما تقول ؟ قال : تكفيني هذه الحجة عليكم . قال : فخرجنا متحيرين خجلين . ثم نظرالمأمون إلى الفضل بن سهل فقال : هذا أقصى ما عند القوم ، فلايظن ظان أن جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ) !

3 . علي ( عليه السلام ) الحارس الخاص للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمره إحدى عشرة سنة :

أوردنا في سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قصة إسلام أبي ذر ( رحمه الله ) أنه جاء إلى مكة وطلب
--------------------------- 50 ---------------------------
من أبي طالب أن يوصله إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فحقق معه وأخره يوماً ويومين حتى اطمأن بصدقه ، ثم أخذه إلى بيت فيه حمزة فحقق معه ، ثم أخذه إلى بيت فيه جعفر فحقق معه ، قال أبو ذر : ( فدفعني إلى بيت فيه علي سلمت وجلست فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : هذا النبي المبعوث فيكم ؟ قال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ، ولا يأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ قال فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول الله فسلمت وجلست فقال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما حاجتك ؟ قلت : النبي المبعوث فيكم ؟ قال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه ولايأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا ذر انطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عم لك قد مات وليس له وارث غيرك ، فخذ ماله وأقم عند أهلك حتى يظهر أمرنا » !
أما البخاري « 4 / 241 » فروى القصة عن ابن عباس ، وفيها : « حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به عليٌّ فقال : أما آن للرجل أن يعلم منزله ! فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ ! حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على عليٍّ مثل ذلك فأقام معه ، ثم قال : ألا تحدثني ما الذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت ، ففعل فأخبره ، قال : فإنه حق وهو رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك ، فقمت كأني أريق الماء ، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل ، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودخل معه ، فسمع من قوله وأسلم مكانه ، فقال له النبي : إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري ) .
ومعنى روايتنا : أن علياً كان وهو ابن إحدى عشرة سنة أو نحوها ، الحلقة الأمنية الرابعة في حراسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ومعنى رواية البخاري : أنه ( عليه السلام ) استضاف أبا ذر في بيته ، ولما اطمأن إلى صدقه ، أخذه إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأسلم . وكلاهما كرامة لعلي ( عليه السلام ) .

4 . اتخذه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وزيراً وهو صبي فوجبت طاعته على الصحابة :

فقد أمره الله أن يدعو بني هاشم ، وأنزل عليه : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . فجمعهم وكانوا
--------------------------- 51 ---------------------------
أربعين رجلاً ، ودعاهم إلى الإسلام ، واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته ، كما أمره ربه .
قال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد « 1 / 49 » : « أجمع على صحته نُقاد الآثار ، حين جمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة ، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر ، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن ، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة « الذبيحة » في مقام واحد ، ويشرب الفَرْق « السطل » من الشراب في ذلك المقام . وأراد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم ، إظهارالآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه . ثم أمر بتقديمه لهم ، فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوْا منه ، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك ، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه . ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب : يا بني عبد المطلب ، إن الله بعثني إلى الخلق كافة ، وبعثني إليكم خاصة ، فقال عز وجل : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار ، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . فلم يجب أحد منهم ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأرمصهم عيناً ، فقلت : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : أجلس ، ثم أعاد القول على القوم ثانية فأُصمتوا ، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى ، فقال : أجلس . ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر ، فقال : أجلس ، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يا أبا طالب ليهنك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميراً عليك ! وهذه منقبة جليلة
--------------------------- 52 ---------------------------
اختص بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار ، ولا أحد من أهل الإسلام ، وليس لغيره عِدْلٌ لها من الفضل ، ولامقاربٌ على حال » .
أقول : روت حديث الدار عامة المصادر ، وصححه علماء الجرح والتعديل ، وألفوا فيه كتباً وفصولاً ، لكن أتباع الحكومات أفتوا بأنه يجب إنكاره ، لأنه يكشف بطلان خلافة غير علي ( عليه السلام ) !
فقد طلب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من بني هاشم أن يؤمنوا به ، وأن يبايعه رجل منهم على نصرته والتفرغ معه للدعوة ، فيتخذه وزيراً وأخاً ووصياً وخليفةً ، فأعلن عليٌّ ( عليه السلام ) قبوله فأعلنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وزيراً وخليفة ، وأخبربذلك أنه يعيش بعده !
وقد رواه الطبري ( 2 / 62 ) بصيغته الصحيحة ، قال : ( لما نزلت هذه الآية على رسول الله : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين ، دعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لي يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين . . فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رِجل شاة واملأ لنا عِسَّاً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ، ثم قال : خذوا بسم الله ، فأكل القوم حتى مالهم
--------------------------- 53 ---------------------------
بشئ حاجة ، وما أرى إلا موضع أيديهم ، وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : إسق القوم ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ، ولم يكلمهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال الغد : يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ، ثم اجمعهم إليَّ . قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة ، ثم قال إسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثم تكلم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ) ! ورواه برواية أخرى وفيها : فأيكم يبايعني على أن يكون كذا وكذا !
وفي الإرشاد : 1 / 49 ، ومسند الشاميين : 2 / 66 : « فمن يجيبني إلى هذا الأمرويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » .
وهو يدل على أنه طلب منهم من يتفرغ معه للدعوة ، فأجابه علي ( عليه السلام ) فأوجب طاعته وهو صغيرالسن على جميع المسلمين ! لكنهم أخفوا منه خلافة علي ( عليه السلام ) ، فرواه ابن كثير في النهاية ( 3 / 53 ) : ( فقال : إن هذا أخي وكذا وكذا . . فاسمعوا له وأطيعوا ) . ورواه بعضهم كاملاً سليماً ، راجع : ابن إسحاق ، والنسائي ، والبزار ، وسعيد بن منصور ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في المستدرك ، وابن حنبل في مسنده ، وابن مردويه ، وأبي حاتم ، والطحاوي ، وأبي نعيم ، والبغوي ، والمقدسي ، وابن عساكر ، والبيهقي في الدلائل . الخ .
ومن أعمال الوهابيين لإخفاء هذا الحديث أن محمد حسنين هيكل أورده سليماً في كتابه : حياة محمد ، في الطبعة الأولى / 104 ، ثم حرفه في الطبعة الثانية / 139 ، إجابةً لطلب الوهابية ، لقاء شرائهم ألف نسخة من كتابه بخمس مائة جنيه ! « راجع : فلسفة التوحيد والولاية / 179 للشيخ محمد جواد مغنية » .
--------------------------- 54 ---------------------------

5 . اتخذه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصياً فكان نبأ عظيماً أغضب قريشاً :

كان خبر بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدوي في أندية قريش ، فجاءهم خبر اجتماع بني هاشم وأن محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طلب منهم وزيراً يبايعه على نصرته ، فاستجاب له ابن عمه علي فاتخذه وزيراً ووصياً وخليفة ! فرأوا ذلك نبأً عظيماً يؤكد أن نبوة بني هاشم مشروع لحكم العرب ، ولذا يجب قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ففي المناقب « 2 / 276 » عن تفسيرالقطان ، بسند صحيح عندهم ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عبد خير ، عن علي قال :
« أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ ؟ قال : يا صخر ، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى ! قال : فأنزل الله تعالى : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما » !
وفي الكافي « 1 / 207 » عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال له الثمالي : « جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . قال فقال : هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه » .
وقدورد عن أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أن النبأ العظيم ولاية علي ( عليه السلام ) ، ومعنى : كَلا سَيَعْلَمُونَ : يعلمون عند ظهور المهدي ( عليه السلام ) ، ثم يوم القيامة أن إمامة العترة ( عليهم السلام ) حق . راجع : معجم الإمام المهدي ( عليه السلام ) : 5 / 377 ، وتفسير القمي : 2 / 401 .
إن القرشيين لا يفهمون من النبوة إلا أنها انشقاق بني هاشم عنهم ! فهم يسألون عمن يستخلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعده هل هو من بني هاشم أو من غيرهم ؟ وكلفوا أبا سفيان أن يستطلع الأمر !
وقد فسرأتباع الخلافة النبأ العظيم بالقيامة أو القرآن ، بدون سند إلا أقوال مفسري الدولة الأموية ! فقال مجاهد هو القيامة وروي عن قتادة ، وقال قتادة هو القرآن .
« عبد الرزاق : 3 / 342 والطبري : 30 / 4 » .
لكن المشركين لا يرون ضرراً عليهم أن يقول محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنه يوجد خمسون آخرة ،
--------------------------- 55 ---------------------------
ولا أن ينزل عليه خمسون قرآناً ! كما أنهم مستعدون للتنازل عن أصنامهم وبيعها بثمن جيد ! لكن النبأ العظيم الذي يشغلهم أن تكون القيادة بعد محمد لبني هاشم دونهم ، فهي الكفر العظيم ، والنبأ العظيم !
وقد تحير صاحب تفسير الميزان « 17 / 223 » ففسر النبأ العظيم في سورة صاد بالقرآن ، قال : « وهو أوفق بسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن » .
ثم فسره في سورة النبأ « 20 / 163 » بالقيامة وقال : « في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي ( عليه السلام ) وهو من البطن » .
وتبعه تفسيرالأمثل « 14 / 555 ، و : 19 / 317 » وعقد عنواناً : « الولاية والنبأ العظيم » وأورد بعض رواياته ، وحاول أن يجمع بينها وبين تفسير النبأ العظيم بالمعاد !
لكن الذي كان يؤرق زعماء قريش ويتساءلون عنه كما أسلفنا هو نبأ اتخاذ النبي وصياً من بني هاشم دونهم ، فهذا هو الظاهر الأنسب بالسياق !
والقرآن والقيامة أقل وقعاً عليهم من النبوة وخلافتها ، فكيف تصير القيامة ظاهراً ، والإمامة باطناً . ولذا تواترت فيه أحاديث أهل‌البيت ( عليهم السلام ) !

6 . كانت خلافة علي ( عليه السلام ) محسومة من أول البعثة :

وقد اتضح ذلك من آية : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وحديث الدار . وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرض نفسه على القبائل ويطلب أن يأخذوه معهم ويحموه ليبلغ رسالة ربه ، فيطلبون منه أن تكون لهم خلافته ، فيجيبهم بأن الأمر لله وقد اختار له أهلاً ، وعليهم أن لاينازعوا الأمر أهله ! قال ابن هشام « 2 / 289 » : « أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء .
قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه » .
--------------------------- 56 ---------------------------
إلى عشرات الأحاديث النبوية ، التي دلت على أن الخلافة كانت محسومة ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صرح بعلي ( عليه السلام ) وأوصى الأمة ، ثم رفع بيد علي ( عليه السلام ) في حجة الوداع وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ! لكن قريشاً لا تريد أن تَقنع لأنها تريد الخلافة ، ثم جاء الأتباع فأحسنوا الظن بالصحابة الماضين ، وأنكروا الوصية لعلي ( عليه السلام ) .

7 . زادت مسؤولية علي ( عليه السلام ) في حصار الشعب :

ولم يسجل رواة السلطة جهاده في سنوات الحصار ، إلا لمُاماً من حراسته للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا عجب فهو منكور الفضل كأبيه أبي طالب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وقد وصلنا شئ برواية أبي جعفر الإسكافي أحد كبار علماء المعتزلة ، فنقل في شرح النهج : 13 / 254 ، رده على الجاحظ بقوله : « وهو المخصوص دون أبي‌بكر بالحصار في الشعب ، وصاحب الخلوات برسول الله في تلك الظلمات ، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما ، والمصطلي لكل مكروه ، والشريك لنبيه في كل أذى ، قد نهض بالحمل الثقيل وناء بالأمر الجليل . ومَن الذي كان يخرج ليلاً من الشعب على هيئة السارق ، يخفي نفسه ويضائل شخصه ، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش ، كمطعم بن عدي وغيره ، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح ، وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل وغيره ، ولو ظفروا به لأراقوا دمه ! أعليٌّ كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر ؟
ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويظمئ نفسه ويسقيه ! وهو كان المعلل له إذا مرض ، والمؤنس له إذا استوحش ، وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم ، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة ، ولا يعلم بشئ من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ، ثلاثَ سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم ، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم ! فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها » !
وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 57 ) : « كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاءه أبو طالب ( عليه السلام ) فأنهضه عن مضجعه وأضجع علياً ( عليه السلام ) مكانه ، ووكل عليه
--------------------------- 57 ---------------------------
وُلْدَهُ وَوُلد أخيه ، فقال علي ( عليه السلام ) : يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ، فقال أبو طالب :
إصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى * كل حيٍّ مصيرُه لشَعوب
قد بلوناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب * والباع والفناء الرحيب
إن تصبك المنون بالنبل تبرى * فمصيب منها وغير مصيب
كل حي وإن تطاول عمراً * آخذٌ من سهامها بنصيب
فأجابه علي ( عليه السلام ) :
أتأمرني بالصبر في نصر أحمدٍ * ووالله ما قلتُ الذي قلتُ جازعا
ولكنني أحببت أن ترَ نُصرتي * وتعلمَ أني لم أزلْ لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعا
أقول : معنى قوله ( عليه السلام ) : يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ، أن قريشاً مصرة على قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهي تترصده من أعلى الشعب وجوانبه لتعرف مكان نومه ، فيتسلل ذئابها ويقتلوه في جوف الليل ! فهو يخبر عن تقديره للوضع الأمني إخباراً ، وكأنه يطلب منه تغيير مكان نوم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو تحسين مراقبة الشعب ، وحاشاه أن يكون ذلك منه خوفاً ، لأنه لا يخاف من الموت ، ويأنس بفدائه لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

8 . أرسله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مهمة إلى الحبشة فنال شرف الهجرتين :

فقد روي أنه سافر مرة إلى الحبشة مع جعفر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرسله في مهمات خاصة غير معلنة . وفي المناقب : 1 / 289 ، عن ابن عباس : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنصار : نزلت في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سبق الناس كلهم بالإيمان ، وصلى إلى القبلتين ، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان ، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة ، ومن الحبشة إلى المدينة » .
أقول : كان جعفر ( عليه السلام ) يرجع إلى مكة ويأتي بأحبار وأساقفة وقساوسة ، ليروا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وذكر المفسرون وفوداً منهم في تفسير قوله تعالى : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ . ولعل هجرة علي ( عليها السلام ) كانت
--------------------------- 58 ---------------------------
في مهمة مع جعفر في إحدى رجعاته من الحبشة .

9 . حزن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) على أبي طالب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

قال اليعقوبي « 2 / 35 » : « توفي أبو طالب بعد خديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة ، وقيل تسعون سنة . ولما قيل لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن أبا طالب قد مات ، عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسرثلاث مرات ، ثم قال : يا عم ، ربيت صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً ، فجزاك الله عني خيراً . ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول : وصلتك رحم ، وجزيت خيراً . وقال : اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان ، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً . يعني مصيبة خديجة وأبي طالب » .
وروى ابن حاتم في الدر النظيم / 221 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أخبرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بموت أبي طالب فبكى ثم قال : إذهب فغسله وكفنه وواره ، غفرالله له ورحمه ، ففعلت ثم أمرني فاغتسلت ونزلت في قبره ، وجعل يستغفر له ، وبقي أياماً لا يخرج من بيته » .
أقول : اعتكف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيته بعد وفاة عمه ( عليه السلام ) لأن قريشاً لما علمت بوفاة أبي طالب استنفرت لقتله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ومع ذلك شارك في مراسم تشييعه في بيته القريب ، وحمله معهم على سريره . وروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه شيع جنازته إلى قبره في الحجون رغم الخطر على حياته . ثم اعتكف في بيته أياماً وهو يواجه عمل قريش لقتله . ولعله لم يذهب مع جنازته إلى الحجون ، وأوكل دفنه إلى علي ( عليه السلام ) بسبب ظرفه الأمني ، ثم ذهب إلى قبره بعد ذلك .
وفي الجواهر السنية / 219 ، عن عبد الرحمن بن كثير : « قلت للصادق ( عليه السلام ) : إن الناس يقولون إن أبا طالب في ضحضاح من النار ! فقال : كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل ! قلت : وبماذا نزل جبرئيل ؟ فقال أتى جبرئيل في بعض ما كان ينزل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إن أهل الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك ، فآتاه الله أجره مرتين . ثم قال ( عليه السلام ) : كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب فقال : يا محمد أخرج من مكة فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب » .
--------------------------- 59 ---------------------------
وفي الكافي ( 1 / 439 و 449 و : 8 / 341 » قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « لما توفي أبو طالب
أوحى الله إلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أخرج من القرية الظالم أهلها ، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب . . قيل له : إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافراً ؟ فقال : كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً * نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب ) .
وقال الإمام العسكري ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « إن الله أوحى إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إني قد أيدتك بشيعتين : شيعة تنصرك سراً ، فسيدهم وأفضلهم أبو طالب ، وشيعة تنصرك علانية ، فسيدهم وأفضلهم علي بن أبي طالب » .
وفي كمال الدين / 174 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « والله ما عَبَدَ أبي ولاجدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف ، صنماً قط . قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به » .
وعن الباقر ( عليه السلام ) : « مات أبو طالب بن عبد المطلب مسلماً مؤمناً » . ( البحار : 35 / 116 ) .
10 . اختباؤه ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحجون :
في مجمع الزوائد « 6 / 15 » : « عن أبي هريرة قال : لما مات أبو طالب تحينوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما أسرع ما وجدتُ فقدك يا عم » .
وقال اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 36 ) : « اجترأت قريش على رسول الله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه ، وهموا به مرة بعد أخرى » .
وفي تفسير القمي « 2 / 431 » : « لما مات أبو طالب ( عليه السلام ) فنادى أبو جهل والوليد عليهما لعائن الله : هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره ! فقال الله تعالى : فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُو الزَّبَانية . قال : كما دعا إلى قتل محمد رسول الله نحن أيضاً ندع الزبانية » .
وهو يدل على نزول هذه الآيات مرتين ، وهو كثير في القرآن .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 1 / 449 » : « لما توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد أخرج من مكة فليس لك فيها ناصر ، وثارت
--------------------------- 60 ---------------------------
قريش بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج هارباً حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون ، فصار إليه » .
ومعنى ثاروا به : أنهم هاجموا بيته يريدون قتله ! ولابد أن يكون اختباؤه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحجون بعد وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) مباشرة ، وفي شهر شوال قبل ذهابه إلى الطائف ، أو بعد رجوعه وقبل حلول ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم ، وكان يأمن فيها بنو هاشم .
وقد استفاد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الأشهر الحرم في إكمال بيعة الأنصار ، وإرسال من بقي من المسلمين إلى المدينة ، وبعد انتهاء الأشهر الحرم ، استنفرت قريش في مراقبته ومحاولة قتله ، إلى هجرته في ربيع الأول . وكان علي ( عليه السلام ) في كل ذلك مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . لكن لم يذكر لنا رواة السلطة أين كان الصحابة الذين ادعوا البطولة في تلك الفترة ، ولماذا ذابوا كما يذوب الملح !

11 . رافق علي ( عليه السلام ) النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سفره إلى الطائف :

ذكرت أكثر مصادرهم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان وحده في سفره إلى الطائف ، أو كان معه زيد بن حارثة فقط !
قال في الطبقات : 1 / 211 : « فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة ، وذلك في ليال بقين من شوال . فأقام بالطائف عشرة أيام » . لكن ابن أبي الحديد المعتزلي روى عن المدائني وهو إمام عندهم ، أن علياً ( عليه السلام ) كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سفرته تلك ، قال في شرح النهج ( 4 / 127 ) : « فكان معه علي وزيد بن حارثة في رواية أبي الحسن المدائني ، ولم يكن معهم أبو بكر . وقال ابن إسحاق كان معه زيد بن حارثة وحده ) .

12 . كان علي ( عليه السلام ) يرافق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لدعوة القبائل في موسم الحج :

وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوهم إلى الإسلام ويطلب منهم حمايته ، وكان يذهب معه زيد بن حارثة ، أو علي ( عليه السلام ) ، وروت المصادر أن أبا بكر ذهب معه ذات مرة ، كما في ثقات ابن حبان « 1 / 80 » عن علي قال : « لما أمر الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج وأنا معه وأبو بكر ، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر فسلم وقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة . قال : وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها ؟ فقالوا : لا ، بل من هامتها العظمى . قال أبو بكر : وأي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا : من ذهل الأكبر . قال أبو بكر : فمنكم عوف الذي يقال له لا حُرَّ بوادي عوف ؟ قالوا :
--------------------------- 61 ---------------------------
لا . قال : فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا . قال أبو بكر : فلستم إذا ذهلاً الأكبر ، أنتم ذهل الأصغر .
فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بَقَل وجهه ، فقال : على سائلنا أن نسأله ! يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً ، فممن الرجل ؟ فقال أبو بكر : أنا من قريش . فقال الفتى : بخٍ بخٍ أهل الشرف والرئاسة ، فمن أي القرشيين أنت ؟ قال : من ولد تيم بن مرة . قال : أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة ، فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر ، فكان يدعى في قريش مجمعاً ؟ قال : لا . قال : فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجافُ ؟ قال : لا . قال : فمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا . قال : فمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا . قال : فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء ، الذي كأن وجهه القمر يضئ في الليلة الظلماء الداجية ؟ قال : لا . قال : فمن أهل السقاية ؟ قال : لا . واجتذب أبو بكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال الغلام :
صادف درأ السيل درأً يدفعه * يُهيضه حيناً وحيناً يصدعه !
أما والله لو ثبت ! قال فتبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال عليٌّ : فقلت يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة « داهية » ! فقال لي : أجل يا أبا الحسن ، ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والبلاء موكل بالمنطق ! قال علي : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار . ووصف لقاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ببني شيبان ورئيسهم المثنى بن حارثة الشيباني . . الخ .
وفيه أنهم اعتذروا عن حمايته خوفاً من كسرى ، ووعدهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يرثوا ملكه . ويظهر أن هذا اللقاء شجعهم على معركة ذي قار ، وقد اتخذوا اسم محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شعارهم ، ثم جاؤوا بعدها وفداً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسلموا .
--------------------------- 62 ---------------------------

13 . أخذ علي ( عليه السلام ) البيعة لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الأنصار :

روى في المناقب : 1 / 305 ، وأوسط الطبراني : 2 / 207 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أشهد لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي ، قال : لما جاءت الأنصار تبايع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على العقبة قال : قم يا علي . فقال علي : على ما أبايعهم يا رسول الله ؟ قال : على أن يطاع الله فلايعصى ، وعلى أن يمنعوا رسول الله وأهل بيته وذريته ممايمنعون منه أنفسهم وذراريهم . ثم كان الذي كتب الكتاب بينهم » .
وفي الكافي ( 8 / 261 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « وأخذ عليهم عليٌّ أن يمنعوا محمداً وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم . . نجا من نجا ، وهلك من هلك » . وفي مناقب ابن سليمان : 2 / 165 : « فالتزمتها رقاب القوم ، ووفى بها من وفى » .
* *

مبيته ( عليه السلام ) على فراش رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفداؤه بنفسه

1 . أحست قريش أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد يهاجر في أي لحظة :

فأخذت تراقب بيته وحركته ، واتخذت قراراً محكماً لاغتياله قبل أن يهاجر ويفلت منها ، وانتدبت من كل بطن رجلاً ليهاجموا بيته ليلاً ويضربوه ضربة رجل واحد ، فلا يعرف من قتله ويضيع دمه بين القبائل . قال الله تعالى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُاللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . ويظهرمن حديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع الحبر اليهودي أنهم اتفقوا على ساعة معينة للدخول إلى بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقتله .
ففي الخصال / 365 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن حاخام اليهود الأكبر أتى علياً ( عليه السلام ) فقال : « يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ! قال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ؟ قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده ، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في
--------------------------- 63 ---------------------------
حياة الأنبياء ، ويمتحنهم بعد وفاتهم . فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء ، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟
فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني في حياء نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة الله له مطيعاً . قال : فيمَ وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : أما أولاهن . . . وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ، ثم يأتي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهونائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدراً !
فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً بأن أقتل دونه ، فمضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي ، بما قد علمه الله » .
أقول : معناه أنه ( عليه السلام ) كان نائماً في غرفة وليس في الدار ، كما هي الرواية المشهورة . وقد يكون في الغرفة نافذة يراقبونه منها أو يرمونه بالحصى ، كما روي .

2 . وفي أمالي الطوسي / 466 ، عن عمار وأبي رافع :

« فخرج القوم عِزِين « متفرقين » وسبقهم بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل ( عليه السلام ) فتلا هذه الآية على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . فلما أخبره جبرئيل
--------------------------- 64 ---------------------------
بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة ، دعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفاً ، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي ، وأنه أوحى إليَّ ربي عز وجل أن أهجر دار قومي ، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي ، وأمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي ، ليخفى بمبيتك عليهم أثري ، فما أنت قائل وصانع ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : أوَتسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ؟ قال : نعم ، فتبسم علي ( عليه السلام ) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً بما أنبأه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من سلامته ، وكان علي ( عليه السلام ) أول من سجد لله شكراً ، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما رفع رأسه قال له : إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ، ومرني بما شئت أكن فيه بمسرتك ، واقعاً منه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلا بالله . قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وإنه ألقي عليك شبهٌ مني ، فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي .
ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه ، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ( عليهم السلام ) ثم الأمثل فالأمثل ، وقد امتحنك يا ابن عم وامتحنني فيك ، بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم ، والذبيح إسماعيل ( عليهم السلام ) ، فصبراً صبراً ، فإن رحمة الله قريب من المحسنين . ثم ضمه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى صدره وبكى إليه وَجْداً به ، وبكى علي ( عليه السلام ) لفراق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولبث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكانه مع علي يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين ، ثم خرج في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره ، ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين ، فخرج وهو يقرأ هذه الآية : وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ . وأخذ بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم ، فما شعر القوم به حتى تجاوزهم !
فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر ، أقبل القوم على علي ( عليه السلام ) يقذفونه بالحجارة والحِلَم « الأعواد » ولايشكُّون أنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح ، هجموا على علي ( عليه السلام ) وكانت دور مكة يومئذ سوائب
--------------------------- 65 ---------------------------
لا أبواب لها ، فلما بصر بهم علي ( عليه السلام ) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها ، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، وثب له علي ( عليه السلام ) فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر « يرفس كالفصيل » ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح ، وهم في عرج الدار « منعطفها » من خلفه ، وشد عليهم علي ( عليه السلام ) بسيفه يعني سيف خالد ، فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار ، فتبصروه فإذا هو علي ( عليه السلام ) فقالوا : إنك لعلي ؟ قال : أنا علي . قالوا : فإنا لم نردك فما فعل صاحبك ؟ قال : لا علم لي به . وقد كان علم يعني علياً ( عليه السلام ) أن الله تعالى قد أنجى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار واختبائه فيه ، فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت في طلبه الصعب والذلول . وأمهل علي ( عليه السلام ) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة ، انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الغار ، فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين ، فقال أبو بكر : قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب . فقال : إني لاآخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن . قال : فهي لك بذلك ، فأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) فأقبضه الثمن . ثم أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته ، وكانت قريش تدعومحمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الجاهلية الأمين ، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك ، فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشياً : ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة ، فليأت فلتؤد إليه أمانته .
وقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تَقْدِمَ عليَّ ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً . ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما ، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم .
قال أبو عبيدة : فقلت لعبيد الله يعني ابن أبي رافع : أوَ كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجد ما ينفقه هكذا ؟ فقال : إني سألت أبي عما سألتني وكان يحدث بهذا الحديث فقال :
--------------------------- 66 ---------------------------
فأين يذهب بك عن مال خديجة ( عليها السلام ) ؟ وقال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة . وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يفك من مالها الغارم والعاني ، ويحمل الكَل ، ويعطي في النائبة ، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة ، ويحمل من أراد منهم الهجرة ، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين ، يعني رحلة الشتاء والصيف ، كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قريش مالاً ، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها ، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها .
وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي وهو يوصيه : وإذا أبرمت ما أمرتك ، فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله ، وسر إليَّ لقدوم كتابي إليك ولا تلبث بعده . وانطلق رسول الله لوجهه يؤم المدينة ، وكان مقامه في الغار ثلاثاً ، ومبيت علي على الفراش أول ليلة . قال عبيد الله بن أبي رافع : قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) شعراً يذكر فيه مبيته على الفراش ، ومقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الغار ثلاثاً :
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجْرِ
محمدُ لما خاف أن يمكروا به * فوقَّاه ربي ذو الجلال من المكر
وبتُّ أراعيهم متى ينشرونني * ووطنت نفسي على القتل والأسر
ويأت رسول الله في الغار آمناً * هناك وفي حفظ الإله وفي ستر
أقام ثلاثاً ثم زَمَّت قلائصٌ * قلائص يفرين الحصا أينما تفري »

3 . كان المهاجمون يطوقون البيت ويراقبون :

إلى ساعة معينة قرب الفجر ، وفي تلك الساعة تسلقوا سور البيت ودخلوا ، فرأوه نائماً في غرفة قد تغطي في برد حضرمي ، فرموه بالحصى ليستيقظ وكان النائم علياً ( عليه السلام ) ، فلم يكشف الكساء حتى وصلوا اليه فنهض في وجوههم وهم شاهرون سيوفهم يتقدمهم خالد بن الوليد ، فأساء الكلام فأمسكه علي ( عليه السلام ) وجذبه وعصرعضده ونزع منه سيفه ، فصاح خالد كالبَكر أي البعيرالصغير ، فتدخل البقية وقالوا له إنهم لا يريدون به شراً ولايقصدونه هو !
وفي إعلام الورى : 1 / 146 : « فنام ( عليه السلام ) على فراش رسول الله والتحف ببردته ، وجاء
--------------------------- 67 ---------------------------
جبرئيل ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : أخرج والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه ، وعلي ( عليه السلام ) نائم عليه ، فيتوهمون أنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » !
وفي تفسير القمي ( 1 / 275 ) : « فوثب عليٌّ في وجوههم فقال : ما شأنكم ، قالوا له أين محمد ؟ قال أجعلتموني عليه رقيباً ، ألستم قلتم نخرجه من بلادنا ، فقد خرج » .

4 . وفي المناقب ( 1 / 339 ) : « الثعلبي في تفسيره :

وابن عقبة في ملحمته ، وأبو السعادات في فضايل العشرة ، والغزالي في الإحياء ، وفي كيمياء السعادة أيضاً ، برواياتهم عن أبي اليقظان . وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي الينا ، نحو ابن بابويه ، وابن شاذان ، والكليني ، والطوسي ، وابن عقدة ، والبرقي ، وابن فياض ، والعبدلي ، والصفواني ، والثقفي ، بأسانيدهم عن ابن عباس ، وأبي رافع ، وهند بن أبي هالة ، أنه قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ، فأيكما يؤثر أخاه ؟ فكلاهما كره الموت ! فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمد نبيي ، فآثره بالحياة على نفسه ، ثم ظل بائتاً على فراشه يقيه بمهجته ! إهبطا إلى الأرض جميعاً فاحفظاه من عدوه . فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرئيل يقول : بخٍ بخٍ ، من مثلك يا ابن أبي طالب والله يباهي بك الملائكة ! فأنزل الله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ » . وشواهد التنزيل : 1 / 123 ، والثعلبي في تفسيره : 2 / 125 ، والمسترشد للطبري / 360 والصراط المستقيم : 1 / 173 ، وأسد الغابة : 4 / 25 ، والفضائل لابن عقدة / 179 ، وكشف اليقين / 89 ، والصراط المستقيم : 1 / 173 ، والصحيح من السيرة : 4 / 32 ، وأمالي الطوسي / 468 ، والعمدة / 239 ، والطرائف / 37 ، وسعد السعود / 216 ، وخصائص الوحي المبين / 120 ، والجواهر السنية / 307 . والمراجعات / 216 .
وروى العياشي « 1 / 101 » عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « فإنها أنزلت في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حين بذل نفسه لله ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة اضطجع على فراش رسول الله » . وأمالي الطوسي / 446 و 469 ، عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، وشواهد التنزيل : 1 / 123 ، و 129 ،
--------------------------- 68 ---------------------------
و 130 ، عن أبي سعيد الخدري . والإرشاد : 1 / 53 ، والمسترشد / 360 ، والصراط المستقيم : 1 / 173 ، ومناقب الخوارزمي / 127 ، ومنهاج الكرامة / 122 ، والخصال : 2 / 364 ، وأمالي الطوسي / 446 ، والتعجب للكراجكي / 122 ، وشرح الأخبار : 2 / 345 .
ومن مصادر غيرنا ، صحح الحاكم « 3 / 4 » حديثنزولها في علي ( عليه السلام ) فقال : « عن ابن عباس قال : شرى عليٌّ نفسه ولبس ثوب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألبسه بُردهُ ، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعلوا يرمون علياً ( عليه السلام ) ويرونه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد لبس بردته » .
ونحوه الصالحي في سبل الهدى « 3 / 233 » . وقد فصَّل ذلك المقريزي فقال في الإمتاع « 1 / 57 » : « فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه . فلما رآهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر علياً بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الحضرمي الأخضر ، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك . فقام علي مقامه وتغطى ببرد أخضر فكان أول من شرى نفسه وفيه نزلت : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله .
وخرج ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخذ حفنة من تراب وجعله على رؤوسهم وهو يتلو الآيات من : يس وَالْقٌرْآنِ الحَكِيم . إلى قوله : فهم لايُبْصِرُون ، فطمس الله تعالى أبصارهم فلم يروه وانصرف . وهم ينظرون علياً فيقولون إن محمداً لنائم » .
وبذلك يتضح أن نوم علي ( عليه السلام ) مكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان ضرورياً ، لطمأنة الذين يطوقون البيت إلى أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما زال لم يخرج من مكة .

5 . لكن السلطة لا تريد الإقرار :

بأن الآية نزلت في علي ( عليه السلام ) ، فجعلتها في صهيب الرومي ، وقالت إن المشركين منعوه من الهجرة ، فبذل لهم ماله فنزلت فيه الآية ! مع أنهم رووا أنه هاجر مع علي ( عليه السلام ) واحتمى به ! وصهيب من قبيلة نمر بن قاسط من ربيعة ، وعرف بالرومي لأن الروم أسروه وباعوه عبداً ، وكان محباً لعمر . « أسباب النزول للواحدي / 39 ، ومجمع الزوائد : 6 / 318 » .
--------------------------- 69 ---------------------------

6 . ثم قالوا : إن الآية لاتخص علياً ( عليه السلام ) ، بل تعم المهاجرين والأنصار ! « عبد الرزاق : 1 / 81 » .

7 . ثم قالوا : اختلف أهل التأويل فيمن نزلت ، فقال بعضهم في المهاجرين والأنصار ، وقال بعضهم في من باع نفسه في الجهاد واستقتل ، وقال بعضهم في رجال من المهاجرين بأعيانهم منهم علي ، ثم رجح الطبري أنها نزلت في كل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، كما قال عمر بن الخطاب ! « تفسير الطبري : 2 / 437 » .
وذكر الفخر الرازي : 5 / 233 ، في سبب نزولها أقوالاً ، في صهيب وعمار وبلال وغيرهم ، والثاني : في من أمر بمعروف ونهى عن منكر . والثالث : « نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ليلة خروجه إلى الغار ، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب ، يباهي الله بك الملائكة . ونزلت الآية » .
8 . أما معاوية فبذل مالاً لصحابي ( ! ) ليشهد زوراً أن الآية نزلت في
ابن ملجم قاتل علي ( عليه السلام ) ، ويشهد أن آيةً أخرى نزلت في ذم علي ( عليه السلام ) ! « قال أبو جعفر الإسكافي : وروي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَأَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعىَ فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ . فلم يقبل ، فبذل له مأتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاث مائة ألف فلم يقبل ، فبذل أربع مائة فقبل ! وقال : إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي فاختلقوا ما أرضاه ! منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير » « شرح النهج : 4 / 73 ، والغارات : 2 / 840 » .
وسمرة هذا الذي كان في آخر عمره يقول : ( لعن الله معاوية ، لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذّبني أبداً ) ! ( تاريخ الطبري : 4 / 217 ) .
--------------------------- 70 ---------------------------
9 . أنكر النواصب نزول الآية في علي ( عليه السلام ) :
ومنهم ابن تيمية ، بل أنكر أن يكون مبيته فضيلة ، لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره أن المشركين لايقتلونه ، وهذا من بغضه لعلي ( عليه السلام ) ، فإن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يخبره أنهم لايجرحونه جراحاً بليغة مثلاً . ثم إن إخباره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان لما أتاه في الغار ، بعد مبيته وفدائه ، فقال له : لن يصلوا إليك من الآن بمكروه » . « أمالي الطوسي / 469 » .

10 . من الشبهات على مبيت علي ( عليه السلام ) :

في فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنه لم يكن للمبيت حاجة ، ما دام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) انسحب من بين المحاصرين بمعجزة . فكان يمكنه أن يضع على فراشه أي شئ ويغطيه ليموه على المراقبين أنه ما زال موجوداً ، ثم يخرج .
لكن أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) بالمبيت ، بل أمر الله تعالى ، يدل على ضرورته ، ونزول الآية في مدح علي ( عليه السلام ) يصدق ذلك .
ويدل رمي المحاصرين النائم بالحصى وتضور علي ( عليه السلام ) أي تحركه وإظهاره التألم ، على أنهم كانوا يريدون التأكد من وجود النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلو وضع مكانه شيئاً جامداً مثلاً ، لاكتشفوا أنه قد غادر منزله وأفلت من أيديهم ! فكان من الضروري تطمين المحاصرين إلى وجود هدفهم ، لينتظروا الوقت المحدد لقتله قبيل الفجر .
ومما يدل على ما ذكرناه قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : ( وإنه ألقي عليك شبه مني ، فارقد على فراشي ، واشتمل ببردي الحضرمي ) . فكانت مراقبتهم دقيقة ليتأكدوا أنه موجود ولم يهاجر ، فإلقاء شبهه على علي ( عليه السلام ) في الجسم والشكل ، لأجل أن يدخل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويطمئن من يراقبونه ويتلصصون عليه بأنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وسيأتي ذكر رواية صحيحة عندهم بأن أبا بكر جاء إلى بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجد علياً نائماً في فراشه ، فأخبره بهجرته فلحق به . وردُّنا عليها .
وهنا يقال : هل كان بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالياً ، وأين فاطمة ( عليها السلام ) ، وأم أيمن رضي الله عنها ؟ والجواب : أن أم أيمن كانت مع زوجها زيد ، وأن فاطمة بنت النبي ( عليها السلام ) كانت في دار عمه أبي طالب عند فاطمة بنت أسد ( عليهم السلام ) .
--------------------------- 71 ---------------------------

11 . جهز علي ( عليه السلام ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هجرته :

تقدم من أمالي الطوسي / 466 : أن علياً ( عليه السلام ) انتظر إلى اليوم الثاني للهجرة حتى هَوَّد الليل ، فذهب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غار الهجرة : ( وأمهل علي ( عليه السلام ) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة ، انطلق هو وهند بن أبي هالة . . وقد تقدم ) .
قال ابن هشام « 2 / 336 » : « فلما قرَّب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ، ثم قال : إركب فداك أبي وأمي ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إني لا أركب بعيراً ليس لي ، قال : فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي . قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟ قال : كذا وكذا ، قال : قد أخذتها به . قال : هي لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا ، وأردف أبوبكرالصديق عامر بن فهيرة مولاه خلفه ، ليخدمهما في الطريق » .
وفي صحيح بخاري « 7 / 39 » : « قال : النبي : بالثمن » . وفي مقدمة فتح الباري / 300 : « في سيرة عبد الغني وغيره أن الثمن كان أربع مائة درهم ، وعند الواقدي أنه ثمان مائة » .
ونلاحظ أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر علياً ( عليه السلام ) أن يفديه بنفسه ، بينما لم يقبل من أبي‌بكر بعيراً إلا بثمنه ، فكيف قالوا : كان ينفق عليه !
وقد حاول السهيلي ( فتح الباري : 7 / 183 ) أن يوفق بين رفض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) راحلة أبي‌بكر ، وبين قولهم إنه أنفق عليه الملايين ، بأن اعتذار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خاص بالهجرة ، أما في غيرها فكان يقبل منه ! وهو كلامٌ واهٍ ، لأن الذي يرفض ناقة للركوب ، يرفض الملبوس والمأكول والمشروب ، بطريق أولى .
على أن البعير الذي اشتراه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي‌بكر مات في الطريق ! فقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) راكباً ناقته القصواء ، وأبو بكر على بعيره ويردف غلامه ابن فهيرة ، والبعير الثالث للدليل ابن أريقط ، وهو الذي اشتراه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي‌بكر ، وقالت الرواية : « وقف عليهم بعض ظهرهم ، وفي بعضها : أعيا » .
« جوامع السير / 93 ، وأسد الغابة : 1 / 147 و : 3 / 10 » .
--------------------------- 72 ---------------------------
والبعير الذي مات ليس ناقة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القصواء ، ولا بعير أبي‌بكر ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
استأجر بدله وليس أبا بكر ، فيكون البعير الذي اشتراه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي‌بكر للدليل ابن أريقط .
قال ابن هشام ( 2 / 340 ) : « فحمل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة ، وبعث معه غلاماً له يقال له مسعود بن هنيدة
« ليرد الجمل » . ( مناقب ابن سليمان : 1 / 364 ، والدرر / 37 ) .
وفي أمالي الطوسي / 467 : ( قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « لعلي ( عليه السلام ) في الغار » : إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليَّ ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً . ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما ، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم .
وكانت قريش تدعو محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الجاهلية الأمين ، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها . . . فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشياً : ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة ، فليأت فلتؤد إليه أمانته . قال : وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) وهو يوصيه : وإذا أبرمت ما أمرتك فكن على أهبة الهجرة . . وانطلق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لوجهه يؤم المدينة ، وكان مقامه في الغار ثلاثاً ، ومبيت علي صلوات الله عليه على الفراش أول ليلة ) .
12 - أدى أمانات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة جهاراً نهاراً :
قال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد : 1 / 53 : « ومن ذلك أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان أمين قريش على ودائعهم ، فلما فَجَأَهُ من الكفار ما أحوجه إلى الهرب من مكة بغتةً ، لم يجد في قومه وأهله في يأتمنه على ما كان مؤتمناً عليه ، سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فاستخلفه في رد الودائع إلى أربابها ، وقضاء ما عليه من دين لمستحقيه ، وجمع بناته ونساء أهله وأزواجه والهجرة بهم إليه ، ولم ير أن أحداً يقوم مقامه في ذلك من كافة الناس ، فوثق بأمانته وعول على نجدته وشجاعته ، واعتمد في الدفاع عن أهله وحامته على بأسه وقدرته ، واطمأن إلى ثقته على أهله وحرمه ، وعرف من ورعه وعصمته ما تسكن النفس معه إلى إئتمانه على ذلك .
--------------------------- 73 ---------------------------
فقام ( عليه السلام ) به أحسن القيام ورد كل وديعة إلى أهلها ، وأعطى كل ذي حق حقه ، وحفظ بنات نبيه ( عليه السلام ) وآله وحرمه ، وهاجر بهم ماشياً على قدمه ، يحوطهم من الأعداء ، ويكلؤهم من الخصماء ، ويرفق بهم في المسير ، حتى أوردهم عليه المدينة ، على أتم صيانة وحراسة ورفق ورأفة وحسن تدبير .
فأنزله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند وروده المدينة داره ، وأحله قراره ، وخلطه بحرمه وأولاده ، ولم يميزه من خاصة نفسه ، ولا احتشمه في باطن أمره وسره » .
وقال في السيرة الحلبية ( 2 / 232 ) : « فلما توجه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة قام عليٌّ بالأبطح ينادي : من كان له عند رسول الله وديعة فليأت تُؤَدَّى إليه أمانته . فلما نفد ذلك وردَ عليه كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالشخوص إليه ، فابتاع ركائب ، وقدم ومعه الفواطم ، ومعه أم أيمن وولدها أيمن ، وجماعة من ضعفاء المؤمنين » . ونحوه الصالحي : 3 / 267 .
13 . تحدى علي ( عليه السلام ) قريشاً وأعلن عزمه على الهجرة ! قال المناقب : 1 / 335 :
« ذكر الواقدي وغيره أن علياً لما عزم على الهجرة قال له العباس : إن محمداً ما خرج إلا خِفْياً ، وذكر حديثاً ثم قال له : ما أرى أن تمضي إلا في خفارة خزاعة ، فقال علي ( عليه السلام ) :
إن المنية شَرْبَةٌ مورودةٌ * لا تجزعنَّ وشُدَّ للترحيل
إن ابن آمنة النبي محمداً * رجل صدوقٌ قال عن جبريل
أرْخ الزمام ولاتخفْ من عائقٍ * فالله يرديهم إلى التنكيل
إني بربي واثقٌ وبأحمد * وسبيله متلاحقٌ بسبيلي »
أقول : فإعلان هجرته ( عليه السلام ) كان بأمرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! بعد هجرة أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أولاً ، ثم هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فأراد الله تعالى أن تكون هجرة علي ( عليه السلام ) رسالة نبوية قوية إلى قريش ، لأنها لا تفهم غيرالقوة !
14 . أول قتال خاضه علي ( عليه السلام ) وهو في الثالثة والعشرين :
فقد دبرت قريش اغتياله ، رواها في المناقب « 1 / 335 » عن الواقدي ، وأبي الفرج النجدي ، وأبي الحسن البكري ، وإسحاق الطبراني ، قال : « فكمن له مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل ، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه ، فصاح
--------------------------- 74 ---------------------------
عليٌّ به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه ! فلما أصبح توجه نحو المدينة ، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب بثمانية فوارس » .
أقول : هذه أول صيحة وأول ضربة سيف من علي ( عليه السلام ) صلوات الله عليه . أما قول الراوي إنه توجه في اليوم التالي إلى المدينة فلا يصح ، لما ستعرف من مؤامرتهم الثانية المالية ، التي كانت بعد محاولة اغتياله .
15 . رد علي ( عليه السلام ) مكيدة مالية لأبي سفيان وهند :
فقد دبرت قريش له مكيدة مالية ، رواها في المناقب : 2 / 175 ، عن الواقدي وإسحاق الطبري : « أن عمير بن وابل الثقفي أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدعي على علي ( عليه السلام ) ثمانين مثقالاً من الذهب وديعةً عند محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنه هرب من مكة وأنت وكيله ، فإن طلب بينةَ الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه ، وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب ، منها قلادة عشر مثاقيل لهند ، فجاء وادعى على علي ( عليه السلام ) فاعتبر الودايع كلها ورأى عليها أسامي أصحابها ، ولم يكن لما ذكره عمير خبرٌ ، فنصح له نصحاً كثيراً فقال : إن لي من يشهد بذلك وهو أبو جهل ، وعكرمة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبو سفيان ، وحنظلة ! فقال ( عليه السلام ) : مكيدة تعود إلى من دبرها ، ثم أمر الشهود أن يقعدوا في الكعبة ، ثم قال لعمير : يا أخا ثقيف أخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه إلى رسول الله ، أي الأوقات كان ؟ قال : ضحوة نهار ، فأخذها بيده ودفعها إلى عبده . ثم استدعى بأبي جهل وسأله عن ذلك قال : ما يلزمني ذلك ! ثم استدعى بأبي سفيان وسأله فقال : دفعها عند غروب الشمس ، وأخذها من يده وتركها في كمه ! ثم استدعى حنظلة وسأله عن ذلك فقال : كان عند وقت وقوف الشمس في كبد السماء ، وتركها بين يديه إلى وقت انصرافه ! ثم استدعى بعقبة وسأله عن ذلك فقال : تسلمها بيده ، وأنفذها في الحال إلى داره وكان وقت العصر ! ثم استدعى بعكرمة ، وسأله عن ذلك فقال : كان بزوغ الشمس ، أخذها فأنفذها من ساعته إلى بيت فاطمة ! ثم أقبل على عمير وقال له : أراك قد اصفر لونك وتغيرت أحوالك ! قال : أقول الحق ولا يفلح غادر ، وبيت الله ما كان لي عند محمد وديعة ، وإنهما حملاني على ذلك ، وهذه دنانيرهم وعقد هند ، عليه اسمها مكتوب ! ثم
--------------------------- 75 ---------------------------
قال علي : إيتوني بالسيف الذي في زاوية الدار ! فأخذه وقال : أتعرفون هذا السيف ؟ فقالوا : هذا لحنظلة . فقال أبو سفيان : هذا مسروق . فقال ( عليه السلام ) : إن كنت صادقاً في قولك فما فعل عبدك مهلع الأسود ؟ قال : مضى إلى الطائف في حاجة لنا ! فقال : هيهات أن يعود تراه ، ابعث إليه أحضره إن كنت صادقاً ! فسكت أبو سفيان .
ثم قام ( عليه السلام ) في عشرة عبيد لسادات قريش فنبشوا بقعة عرفها ، فإذا فيها العبد مهلع قتيل ، فأمرهم بإخراجه فأخرجوه وحملوه إلى الكعبة ، فسأله الناس عن سبب قتله فقال : إن أبا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقه وحثَّاه على قتلي ، فكمن لي في الطريق ووثب عليَّ ليقتلني ، فضربت رأسه وأخذت سيفه ! فلما بطلت حيلتهم أرادوا الحيلة الثانية بعمير ! فقال عمير : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » !
16 - انتظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في قباء وكتب اليه : في أمالي الطوسي / 469 :
« قال أبيٌّ ، وابن أبي رافع : ثم كتب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التَّلوُّم « التأخر » وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي ، فلما أتاه كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تهيأ للخروج والهجرة ، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين ، فأمرهم أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي طوى . وخرج علي ( عليه السلام ) بفاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله ، وأبو واقد مولى رسول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم ، فقال علي : إرفق بالنسوة يا أبا واقد ، إنهن من الضعائف . قال : إني أخاف أن يدركنا الطلب ! فقال علي ( عليه السلام ) : إربع عليك فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي : يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه ، ثم جعل يعني علياً ( عليه السلام ) يسوق بهن سوقاً رفيقاً ، وهو يرتجز :
ليس إلا الله فارفع ظَنَّكا * يكفيك ربُّ الناس ما أهمَّكا » .
--------------------------- 76 ---------------------------

17 - علي ( عليه السلام ) يهزم فرسان قريش ويقتل قائدهم : في أمالي الطوسي / 470 :

« وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب ، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين ، وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعى جناحاً ، فأقبل علي ( عليه السلام ) على أيمن وأبي واقد ، وقد تراءى القوم فقال لهما : أنيخا الإبل واعقلاها ، وتقدم حتى أنزل النسوة ، ودنا القوم فاستقبلهم ( عليه السلام ) منتضياً سيفه ، فأقبلوا عليه فقالوا : أظننت أنك يا غُدَر ناجٍ بالنسوة ، إرجع لا أباً لك ! قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : لترجعن راغماً ، أو لنرجعن بأكثرك شعراً ، وأهون بك من هالك ! ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها ، فحال علي ( عليه السلام ) بينهم وبينها ، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي ( عليه السلام ) عن ضربته ، وتختله علي فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه ، فكان ( عليه السلام ) يشد على قدمه شد الفارس على فرسه ، فشد عليهم بسيفه وهو يقول :
خلوا سبيل الجاهد المجاهدِ * آليت لا أعبدُ غير الواحدِ
فتصدع عنه القوم وقالوا له : أغنِ عنا نفسك يا ابن أبي طالب . قال : فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله بيثرب ، فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني ، أو فليدن مني ! ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما : أطلقا مطاياكما » .
والكاثبة : مجتمع الكتف . وهذه ثاني ضربة سيف من علي صلوات الله عليه . ونلاحظ أنه ( عليه السلام ) راغ عن ضربة جناح لأنه كان راجلاً ولم يكن عنده ترس يدفع به الضربة ، وأنهما تصاولا وتراكضا ، فكان علي ( عليه السلام ) راجلاً وجناح فارساً ، وكان كل منهما يشد على الآخر فينهزم الآخر ، أو يروغ عن ضربته ، وأن علياً ( عليه السلام ) تختله حتى ضربه على كتفه فشقه حتى وصل إلى سرج فرسه !
18 - هاجر علي ووالدته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشياً على أقدامهما :
اختارت فاطمة بنت أسد ( عليها السلام ) أن تهاجر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ماشية على قدميها ، تحتسب ذلك عند الله تعالى ، ففي الكافي « 1 / 453 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من مكة إلى المدينة على قدميها ، وكانت من أبر الناس برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
--------------------------- 77 ---------------------------
وكذلك اختار علي ( عليه السلام ) أن يهاجر ماشياً ولا يركب ، وإن دميت قدماه ، فكان هو وأمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول من أسس زيارة النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) راجلين !
وقد نص الأئمة ( عليهم السلام ) على أن فاطمة بنت أسد ، وكذا عبد المطلب وأبا طالب وأبوي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كبار الأولياء المقربين إلى الله تعالى ، سلام الله عليهم ، وأنهم لم يعبدوا الأصنام كما زعم رواة السلطة .
قال داود الرقي : ( دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ولي على رجل مالٌ قد خفتُ تَوَاهُ « ذهابه » فشكوت إليه ذلك فقال لي : إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافاً وصل ركعتين عنه ، وطف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن عبد الله طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين ، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين ، ثم ادع أن يرد عليك مالك . قال : ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا ، وإذا غريمي واقف يقول : يا داود حبستني ، تعال إقبض مالك » .
19 - نزلت آيات في مدح علي ( عليه السلام ) والفواطم في طريق الهجرة :
في أمالي الطوسي / 471 : « ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان ، فتلوَّمَ بها قدر يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فظل ليلته تلك هو والفواطم ، أمه فاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفاطمة بنت الزبير ، طوراً يصلون ، وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر ، فصلى ( عليه السلام ) بهم صلاة الفجر ، ثم سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل ، لا يفتر عن ذكر الله ، والفواطم كذلك وغيرهم ممن صحبه ، حتى قدموا المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ
--------------------------- 78 ---------------------------
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ . فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ .
الذَّكَر علي ( عليه السلام ) ، والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن وهن فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت الزبير . بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ : يقول : علي من فاطمة أو قال : الفواطم ، وهن من علي ( عليه السلام ) ، وتلا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ، وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله ، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله ، وآخرهم عهداً برسوله ، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ، ولا يبغضك إلا منافق أو كافر » . أي أولهم في الهجرة الكبرى إلى الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حيث وهب نفسه من صغره .
20 - بخلت السلطة برواية هجرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
أخفت السلطة مناقب علي ( عليه السلام ) في هجرته ، وما جرى له في مكة ، ومكائد قريش ضده ، ولحاق فرسانها به ، وقتله فارسهم جناح ، ولم يذكر رواتها نزول الآيات فيه وفي والدته ورفقائهما ( عليهم السلام ) في طريق الهجرة ، ولا أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مدحه !
فذاك يرفع من قدره ، وهم يريدون انتقاص قدره !
قال ابن هشام ( 2 / 335 ) : « قال ابن إسحاق : ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي‌بكر . أما علي فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الودائع التي كانت عنده للناس ، وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته » .
وقال ابن هشام في : 2 / 342 : « وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها ، حتى أدى عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الودائع التي كانت عنده الناس ، حتى إذا فرغ منها لحق
--------------------------- 79 ---------------------------
برسول الله ، فنزل معه على كلثوم بن هَدم » .
وقال في السيرة الحلبية ( 2 / 233 ) : « كان يسير الليل ويكمن النهار ، حتى تفطرت قدماه ، فاعتنقه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرَّهما على قدميه ، فلم يشكُهُما بعد ذلك ! ولا مانع من وقوع ذلك من علي مع وجود ما يركبه ، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشياً ، رغبة في عظيم الأجر » .
أقول : وكان يسير في الليل بسبب الحر ، وليس بسبب الخوف .
وروى ابن سعد : 3 / 22 : « قدم علي للنصف من شهر ربيع الأول ، ورسول الله بقباء لم يُرِمْ بعدُ » . أي لم يتحرك .
وكثرت مكذوباتهم في هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسرته ، وزعموا أن علياً ( عليه السلام ) لم يؤد الأمانات ولم يهاجر بالأسرة ! وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث شخصين أتيا بهن ! قال في الطبقات : 1 / 237 : « بعث رسول الله من منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع ، وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة ، فقدما عليه بفاطمة وأم‌كلثوم ابنتي رسول الله ، وسودة بنت زمعة » !
والصحيح أن زينب كانت مع زوجها الربيع ، وأن سودة لم تكن زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة ! .
21 - سرقوا مناقب علي ( عليه السلام ) وأعطوها لعمر !
فقد هاجر عمر قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشهور أو سنة ، سراً ، وواعد هشام بن العاص عند إضاة بني غفار في المدينة ، ولم يواعده في أطراف مكة ، ولا في الطريق ! « التنبيه / 200 ، والدرر / 77 ، والإمتاع : 9 / 188 ، والسيرة الحلبية : 2 / 183 ، وغيرها » . بل روى الذهبي في تاريخه : 1 / 313 ، بسند صحيح عندهم : « فلما اشتدوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأصحابه أمر رسول الله أصحابه بالهجرة فخرجوا رَسْلاَ رسلاَ . . » . وعدَّ في الذين هاجروا عمر ، وكان ذلك قبل شهور أو سنة من هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ومع ذلك سرقوا هجرة علي ( عليه السلام ) العلنية وأعطوها لعمر ، وجعلوا روايتها على لسان علي ( عليه السلام ) ! فقال كما زعموا : « ما علمت أحداً من المهاجرين
--------------------------- 80 ---------------------------
هاجر إلا مختفياً ، إلا عمر بن الخطاب » ! « أسد الغابة : 4 / 58 » .
قال في الصحيح من السيرة : 4 / 195 : « ونحن نقطع بعدم صحة هذا الكلام ، لأن عمر لم يكن يملك مثل هذه الشجاعة . لما تقدم في حديث إسلامه عن البخاري وغيره ، من أنه حين أسلم اختبأ في داره خائفاً ، حتى جاءه العاص بن وائل فأجاره ، فخرج حينئذٍ » . ثم عدَّد فراره في الحروب ، وما عرف به من الجُبن .
أقول : وقد وثق في مجمع الزوائد « 6 / 61 » قول عمر إنه تواعد مع اثنين عند مشارف المدينة ، فحبس أحدهما ونجا الآخر ! وقال البخاري « 2 / 264 » هاجر في عشرين ولم يسمِّ أحداً منهم ! ولا وصف هجرته كيف كانت !
أما ابن الجوزي فيدهشك في كتابه : المدهش / 224 ، بقوله : « هاتوا لنا مثل عمر كل الصحابة هاجروا سراً ، وعمر هاجر جهراً ، وقال للمشركين قبل خروجه : ها أنا على عزم الهجرة ، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي » !
لكن كيف نصدق كلامه ونحن لا نرى عمرفي أي خطر تعرض له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا نجد ه في نزول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قباء ، ولا في بناء المسجد النبوي . ثم نقرأ أنه نزل في المدينة قرب اليهود خارج المدينة ، وكان يحضر دروسهم ، قال عمر كما في البخاري : 1 / 31 : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك » .
وبنو أمية بن زيد جيران ملاصقون لبني قريظة وبني زريق . « تاريخ المدينة : 1 / 170 ، وابن إسحاق : 3 / 299 ، وابن هشام : 2 / 569 » .
وبنو زريق هم الذين كتبوا له التوراة ليتبناها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخٍ لي من بني زريق ، فتغير وجه رسول الله » ! « مجمع الزوائد ( 1 / 174 ) ووثقه » .
--------------------------- 81 ---------------------------

22 - فرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بوصول علي ( عليه السلام ) !

في إمتاع الأسماع للمقريزي ( 1 / 68 ) : ( وقدم علي رضي الله عنه من مكة للنصف من ربيع الأول ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقباء لم يُرِم بعدُ ، وقدم معه صهيب ، وذلك بعد ما أدى علي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الودائع التي كانت عنده ، وبعد ما كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه ، فاعتنقه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرهما على قدميه فلم يشتكهما بعد ذلك حتى قتل رضي الله عنه . ونزل على كلثوم بن الهدم وقيل على امرأة ، والراجح أنه
نزل مع النبي ) .
أقول : حسب هذه الرواية فإن صهيباً هاجر مع علي ( عليه السلام ) محتمياً به ، وهذا ينقض قولهم إنه هاجر فاعترضته قريش فبذل لهم مالاً ، فنزل فيه قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ . « أسباب النزول للواحدي / 39 ، ومجمع الزوائد : 6 / 318 » .
أما نزول علي ووالدته عند امرأة ، فيصح قبل أن يتم بناء بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيته ، لأن بيت أبي أيوب الأنصاري كان صغيراً . كما يظهر أن البيت الذي بناه له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان صغيراً أيضاً ، لأنه لما تزوج أخذ له بيتاً أكبر وسكن فيه .
23 . انتظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في قباء ، وتركه أبو بكر !
فقد روى في الكافي ( 8 / 340 ) : عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أن أبا بكر أراد من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
أن يدخل المدينة ولا ينتظر علياً ( عليه السلام ) فقال له : ( فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً فما أظنه يقدم عليك إلى شهر ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كلا ، ما أسرعه ، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل ، وأحب أهل بيتي إليَّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين . قال : فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز ، وداخله من ذلك حسدٌ لعلي ( عليه السلام ) وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ، وأول خلاف على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقُبا ينتظر علياً ( عليه السلام ) ) .
* *
--------------------------- 82 ---------------------------

الفصل الرابع: علي ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة

بيت علي ( عليه السلام ) جنب بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
1 . لما هاجر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بنى له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيتاً : ولوالدته فاطمة بنت أسد ( عليها السلام ) ، إلى جنب بيته وسكنا فيه ، ويظهر أنه كان صغيراً ، فعندما تزوج علي ( عليه السلام ) انتقل إلى بيت جديد ، وسكنت معه والدته أيضاً . وكان لبيته باب يفتح على السكة وباب يفتح على ساحة المسجد . وكان لبيوت بعض المهاجرين أبواب تفتح على ساحة المسجد .
وفي طبقات ابن سعد : 8 / 22 : « لما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها ، فلما تزوج علي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي : أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قليلاً فبنى بها فيه ، فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليها فقال : إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ ، فقالت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد تحول حارثة عنا قد استحيت منه ، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك وهذه منازلي وهي أسقب بيوت نبي النجار بك ، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله ! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع ! فقال رسول الله : صدقت ، بارك الله عليك ، فحولها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بيت حارثة » . ومعنى ذلك أن أمير المؤمنين نزل مع والدته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيت أبي أيوب مدة ، ثم انتقل إلى بيت مستقل . ثم سكن في البيت الذي بناه له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولعله كان صغيراً فلم يتزوج فيه ، فقد كان زفافه بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيت بعيد قليلاً عن بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم اشترى لهما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيت
--------------------------- 83 ---------------------------
حارثة الملاصق لبيته ، وهو بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الكبير الذي يفتح على سكة بني هاشم ، ويفتح من جهة على ساحة المسجد .
وفي كتاب سُلَيْم / 321 ، قال الحسين ( عليه السلام ) : ( أنشدكم الله ، هل تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي . ثم سد كل باب شارع إلى المسجد غير بابه ، فتكلم في ذلك من تكلم فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ، ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه ، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ) .
وفي الكافي ( 4 / 555 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إذا دخلت من باب البقيع فبيت علي صلوات الله عليه على يسارك ، قدر ممر عنز من الباب ، وهو إلى جانب بيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وباباهما جميعاً مقرونان » .
وفي صحيح بخاري ( 4 / 208 ) أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن علي ( عليه السلام ) : « فذكر محاسن عمله ، وقال : هوذاك بيته أوسط بيوت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ثم قال : لعل ذاك يسوءك ؟ قال : أجل ! قال فأرغم الله بأنفك » !
وفي فتح الباري « 7 / 59 » : « أنظر إلى منزله من نبي الله ليس في المسجد غير بيته . . فقال الرجل : فإني أبغضه . فقال له ابن عمر : أبغضك الله تعالى » .
وفي الرياض النضرة ( 3 / 158 ) : ( عن ابن عمر : لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال ، لئن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعمة : زوجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ابنته وولدت له ، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر ) .
وقال في الطبقات « 8 / 166 » يصف بيوت أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « رأيت منازل أزواج رسول الله حين هدمها عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ، في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وزادها في المسجد : كانت بيوتاً باللبن ، ولها حجر من جريد ، مطرور بالطين ، عددت تسعة أبيات بحجرها ، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
ومعناه : أن حجرة عائشة أبعد الحُجَر عن بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 84 ---------------------------
2 . ونزل أبو بكر بعد هجرته في السنح : شرقي المدينة ، وهو يبعد كيلومترات من المسجد . قال ابن سعد في الطبقات ( 3 / 186 ) : « فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر ، يغدو على رجليه إلى المدينة ، وربما ركب على فرس له ، وعليه إزار ورداء ممشق ، فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس ، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح . فكان إذا حضر صلى بالناس ، وإذا لم يحضر صلى عمر بن الخطاب . وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ، ثم يروح لقدر الجمعة ، فيجمع بالناس ) .
3 . ونزل عمر في العوالي وهي خارج المدينة : على بعد كيلو مترات من المسجد أيضاً ، فقد قال عمر ( صحيح بخاري : 1 / 31 ) : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك » . وهم جيران بني قريظة وزريق ( تاريخ المدينة ( 1 / 170 ) وابن إسحاق : 3 / 299 ، وابن هشام : 2 / 569 ) .
أقول : إحفظ مكان بيت أبي‌بكر وعمر ، لأن عائشة والبخاري سينقلانهما إلى جنب المسجد ، ويزعمان أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سد الأبواب الشارعة على المسجد إلا باب بيت أبي‌بكر !

4 . أعطى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) أرضاً كبقية المهاجرين :

قال البلاذري في الفتوح « 1 / 5 » : « وهبت الأنصار لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل فضل كان في خططها ، وقالوا : يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا ! فقال لهم خيراً » .
وفي معجم البلدان ( 5 / 86 ) : « كان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُقطع أصحابه هذه القطائع ، فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه ، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له ، فكان يقطع من ذلك ما شاء . وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان ، فوهب له ذلك وأقطعه » .
وذكر الأحمدي في مكاتيب الرسول « 1 / 350 » نحو ثلاثين مورداً أقطع فيها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصحابه موضع دار أو أرضاً زراعية .
وفي مكاتيب الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( 1 / 333 ) : ( عن عمار بن ياسر قال : أقطع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
علياً بذي العشيرة من ينبع ، ثم أقطعه عمر بعد أن استخلف قطيعة ، واشترى علي إليها
--------------------------- 85 ---------------------------
قطيعة . وكانت أموال علي ( عليه السلام ) بينبع عيوناً متفرقة تصدق بها . وقال السمهودي : فلما أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينبع أقطعها لكشد فقال : إني كبير ولكن أقطعها لابن أخي فأقطعها له ، فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد الأنصاري بثلاثين ألف درهم ، فخرج عبد الرحمن إليها وأصابه سافيها وريحها فسئمها وأقبل راجعاً ، فلحق علي بن أبي طالب دون ينبع فقال : من أين جئت ؟ فقال : من ينبع وقد سئمتها ، فهل لك أن تبتاعها ؟ قال علي : قد أخذتها بالثمن . قال : هي لك ، فكان أول شئ عمله علي فيها البغيبغة . . ضيعة بالمدينة أو عين غزيرة ، كثيرة النخل ، لآل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وفي الكافي ( 7 / 54 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قسَّم نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفئ فأصاب علياً ( عليه السلام ) أرضاً فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير ، فسماها يَنْبُع ، فجاء البشير يبشر فقال ( عليه السلام ) : بشِّر الوارث ، هي صدقة بَتَّةٌ بَتْلاً ، في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله ، لا تباع ولا توهب ولا تورث ) .
وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ( 1 / 221 ) : ( لما أشرف علي على ينبع فنظر إلى جبالها قال : لقد وُضِعْتِ على نقيٍ من الماء عظيم ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 388 ) : ( قال له رجل ورأى عنده وَسَقٌ نَوَى : ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : مائة ألف نخلة إن شاء الله ، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة ) ! وسيأتي الحديث عن ماليته ( عليه السلام ) .
5 . وكان علي ( عليه السلام ) التلميذ الخاص لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : روى في الكافي ( 1 / 64 ) أن علياً ( عليه السلام ) قال : ( كنت أدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل يوم دخلة ، وكل ليلة دخلة ، فيخليني فيها ، أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نسائه فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ( عليها السلام )
ولا أحد من بنيَّ ، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتُّ عنه وفنيت مسائلي
--------------------------- 86 ---------------------------
ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا علماً أملاه علي وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً ، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً ، فقلت : يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يفتني شئ لم أكتبه ، أفتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد ؟ فقال : لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل ) .
وزادت فيه رواية الصدوق في الإعتقادات / 122 ، عن سُلَيْم : ( وقد أخبرني الله تعالى أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون بعدك . قلت : يا رسول الله ومن شركائي ؟ قال : الذين قرن الله طاعتهم بطاعته وبطاعتي . قلت : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين قال الله تعالى فيهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الَّله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ . قلت : يا نبي الله من هم ؟ قال : هم الأوصياء بعدي ، ولا يتفرقون حتى يردوا علي الحوض ، هادين مهديين ، لا يضرهم كيد من كادهم ، ولأخذلن من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم ، بهم تنتصر أمتي وبهم يمطرون ، وبهم يدفع البلاء ، وبهم يستجاب لهم الدعاء . قلت : يا رسول الله ، سمهم لي . قال : أنت يا علي ، ثم ابني هذا ، ووضع يده على رأس الحسن ، ثم ابني هذا ، ووضع يده على رأس الحسين ، ثم ابنه سميك يا أخي سيد العابدين ، وسيولد في زمانك يا أخي فاقرأه مني السلام ، ثم ابنه يسمى محمداً ، باقرعلمي وخازن وحي الله ، ثم تكملة اثني عشر إماماً من ولدك إلى مهدي أمة محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت قبله ظلماً وجوراً . والله إني لأعرفه يا سُلَيْم حيث يبايع بين الركن والمقام ، وأعرف أسماء أنصاره وقبائلهم ) !
--------------------------- 87 ---------------------------
وفي إثبات الهداة ( 1 / 313 ) : ( روى ابن بابويه في كتاب علل الشرائع والأحكام . . عن عبد الله بن عباس عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حديث طويل أنه كان في بيت أم‌سلمة ، فجاء علي ( عليه السلام ) فدق الباب فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قومي يا أم‌سلمة فافتحي له الباب ، فقالت أم‌سلمة : من هذا الذي بلغ من خطره أن أستقبله بمحاسني ومعاصمي ؟ فقال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كهيئة المغضب : من يطع الرسول فقد أطاع الله ! قومي فافتحي له الباب فإن في الباب رجلاً ليس بالخرق ولا بالنزق ولا بالعجول في أمره ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وليس بفاتح الباب حتى يتوارى عنه الوطأ ( صوت المشي ) فقامت أم‌سلمة وهي لا تدري من بالباب ، إلا أنها قد عرفت النعت والمدح ، فمشت نحو الباب ففتحت ، فأمسك بعضادتي الباب ولم يزل قائماً حتى خفي عنه الوطأ ، ودخلت أم‌سلمة خدرها ، ففتح الباب ودخل فسلم ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أم‌سلمة أتعرفينه ؟ إلى أن قال : إنه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين » .
وفي فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لابن عقدة / 51 : ( قال علي : دخلت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في بعض حجراته ، فاستأذنت عليه فأذن لي ، فلما دخلت قال لي : يا علي ، أما علمت أن بيتي بيتك فما لك تستأذن علي ؟ قال فقلت : يا رسول الله ، أحببت أن أفعل ذلك . قال : يا علي ، أحببت ما أحب الله وأخذت بآداب الله . يا علي أما علمت أنك أخي ؟ أما إنه أبى خالقي ورازقي أن يكون لي سر دونك . يا علي أنت وصيي من بعدي ، وأنت المظلوم المضطهد بعدي . يا علي الثابت عليك كالمقيم معي ومفارقك مفارقي . يا علي كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك ، لأن الله تعالى خلقني وإياك من نور واحد ) .
وفي متشابه القرآن لابن شهرآشوب ( 2 / 38 ) : ( ذكر في تاريخ البلاذري ، ومسند أحمد ، وأبي يعلى ، وسنن ابن ماجة ، وكتاب أبي‌بكر عياش ، ومسند أبي رافع ، أنه كانت لعلي كل ليلة دخلة ، وفي رواية دخلتان ، لم تكن لأحد من الناس ، ولم يكن لأحد أن يدخل على أزواج رسول الله بعد آية الحجاب إلا له .
--------------------------- 88 ---------------------------
وهذه مرتبة القربى ، كما قال : إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ ) .
وذكرت عامة مصادر المذاهب هذه الفضيلة لعلي ( عليه السلام ) في بحث أن التنحنح لا يبطل الصلاة ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان أحياناً يتنحنح في صلاته . قال في سبل السلام ( 1 / 140 ) : ( عن علي قال : كان لي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدخلان أي وقتان أدخل عليه فيهما فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي ، رواه النسائي ، وابن ماجة ، وصححه . والحديث دليل على أن التنحنح غير مبطل للصلاة ، وقد ذهب إليه الناصر ، والشافعي ، عملاً بهذا الحديث ) .
وفي فقه السنة لسيد سابق ( 1 / 266 ) : ( كان لي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ساعة آتيه فيها ، فإذا أتيته استأذنت فإن وجدته يصلي تنحنح فدخلت ، وإن وجدته فارغاً أذن لي . ذكره النسائي وأحمد ، ولفظ أحمد : كان لي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدخل من الليل والنهار ، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح . رواه أحمد وعمل به ، فكان يتنحنح في صلاته ، ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة ) . ويظهر أن الساعة التي بعد الفجر كانت وقتاً ثابتاً لعلي ( عليه السلام ) ، فكان يذهب فيها إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو كان هو ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يأتيه إلى بيته . والساعة الثانية متغيرة ، تكون في الوقت المناسب من النهار ، أو بعد صلاة العشاء .
6 . وكان علي ( عليه السلام ) بإجماع الأمة أعلم الصحابة : قال العلامة نهج الحق / 240 : ( وفي صحيح مسلم : أن علياً قال على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله عز وجل ، فما من آية إلا وأعلم حيث نزلت ، بحضيض جبل ، أو سهل أرض ، سلوني عن الفتن ، فما فتنة إلا وقد علمت كبشها ، ومن يقتل فيها ) . ورواه غير العلامة أيضاً عن صحيح مسلم ، ولم نجده في نسخة مسلم الموجودة !
وفي كامل الزيارات / 156 : ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يخطب الناس وهو يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله ما تسألوني عن شئ مضى ولا شئ يكون ، إلا نبأتكم به . قال : فقام إليه سعد بن أبي وقاص وقال : يا أمير المؤمنين : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة ؟ فقال له : والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنك ستسألني عنها ، وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ! وإن في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني ! وعُمَرُ يومئذ يدرج بين يدي أبيه ) !
--------------------------- 89 ---------------------------

7 . وكان علي ( عليه السلام ) كاتب معاهدات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمدة رسائله :

ففي الإستيعاب ( 1 / 69 ) : ( وكان الكاتب لعهوده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا عاهد وصلحه إذا صالح ، عليَّ ابن أبي طالب رضي الله عنه ) . وقال ابن شهرآشوب ( 2 / 66 ) : ( كان ( عليه السلام ) يكتب الوحي والعهد وكاتب الملك أخص إليه ، لأنه قلبه ولسانه ويده ، فلذلك أمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجمع القرآن بعده ، وكتب له الأسرار وكتب يوم الحديبية بالاتفاق ، وقال أبو رافع : إن علياً كان كاتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى من عاهد ووادع ، وإن صحيفة أهل نجران كان كاتبها . وعهود النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا توجد قط إلا بخط علي ( عليه السلام ) ) .
أقول : إن حَصْركتابة العهود بين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغيره بعلي ( عليه السلام ) يدل على أن الالتزام النبوي بأن العهد ينبغي أن يكون بخط من هو منه ووصيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
8 . كان علي ( عليه السلام ) متفرغاً للدعوة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونادراً ما عمل لمعيشته : والسبب أنه بايع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما نزل قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيَرتَك الأَقْرَبِين ، وطلب من يؤازره على الدعوة ويتفرغ معه ، فاستجاب له علي ( عليه السلام ) فأعلنه أخاه ووزيره ووصيه وخليفته ، وكانت المهمات التي يكلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بها تستوعب وقته ، إلا أحياناً قليلة كان يعمل لتأمين مصروف بيته ، فعمل في سقي النخل بالأجرة وما شابه .

أما بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد اتسع وقته فنمى ثروته ، واستنبط العيون وأنشأ البساتين خاصة في ينبع ، وقد أوقفها على بني فاطمة ( عليها السلام ) .

9 . عمل علي ( عليه السلام ) في بناء مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيته : لكن بعض الصحابة غاب عن بناء المسجد كأبي‌بكر وعمر ، وبعضهم حضر ولم يعمل بفعالية كعثمان فقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد ( 5 / 90 ) عن أم‌سلمة ( عليها السلام ) قالت : ( لما بني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب ، وما يحتاج إليه ، ثم قام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوضع رداءه ، فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يعملون ويرتجزون :
لئن قعدنا والنبي يعملُ * ذاك إذاً لعمل مضللُ ) .
--------------------------- 90 ---------------------------
10 . وظلم عثمان عماراً فانتصرله علي ( عليه السلام ) والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : في رواية ابن هشام ( 2 / 344 ) والإمتاع ( 10 / 87 ) : ( فدخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن فقال : يا رسول الله قتلوني ، يحملون عليَّ ما لا يحملون . قالت أم‌سلمة : فرأيت رسول الله ينفض وفرته بيده ، وكان رجلاً جعداً وهو يقول : ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك ، إنما تقتلك الفئة الباغية ! قال ابن إسحاق : فقال ( عثمان ) : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، والله إن لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك . قال : وفي يده عصا . قال : فغضب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : ما لهم ولعمار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، إن عماراً جلدة ما بين عينيَّ وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق ، فاجتنبوه ) .
أقول : مقتضى قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ومن يظل عن الغبار حائداً ، أن عثمان لم يكن يعمل ، كما أن اختلافه مع عمار كان قبل هذا الشعر ، فقاله علي ( عليه السلام ) وعلمه لعمار ليجيب به عثمان ، ولما طغى عثمان ، أجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وتدل رواية القمي ( 2 / 323 ) على شدة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على عثمان : ( ثم أتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : لم ندخل معك لتسب أعراضنا ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد أقلتك إسلامك فاذهب ، فأنزل الله : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) !
وقالت أم‌سلمة ( العقد الفريد : 5 / 90 ) : ( وكان عثمان بن عفان رجلاً نظيفاً متنظفاً ، فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه ، فإذا أصابه شئ من التراب نفضه ، فنظر إليه علي فأنشد :
لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها راكعاً وساجدا
وقائماً طوراً وطوراً قاعدا * ومن يرى عن التراب حائدا
فسمعها عمار بن ياسر ، فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني ، فسمعه عثمان فقال : يا ابن سمية ما أعرفني بمن تعرض ، ومعه جريدة فقال : لتكفن أو لأعترضن بها وجهك ! فسمعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو جالس في ظل حائط ، فقال : عمار جِلْدَةُ ما بين عينيَّ وأنفي ، فمن بلغ ذلك منه فاجتببوه ، وأشار بيده فوضعها بين عينيه ، فكف الناس عن
--------------------------- 91 ---------------------------
ذلك ، وقالوا لعمار : إن رسول الله قد غضب فيك ، ونخاف أن ينزل فينا قرآن . . . فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول : يا ابن سمية ، لايقتلك أصحابي ، ولكن تقتلك الفئة الباغية . فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال معاوية : هم قتلوه ، لأنهم أخرجوه إلى القتل ! فلما بلغ ذلك علياً قال : ونحن قتلنا أيضاً حمزة ، لأنا أخرجناه ) !

11 . آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المسلمين واختار علياً ( عليه السلام ) أخاً له :

كتبنا في سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كانت المؤاخاة مرتين في مكة والمدينة « فتح الباري : 7 / 210 » . وربما آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المسلم وثلاثة ، فقد آخى بين سلمان الفارسي وأبي ذر ، وبينه وبين أبي الدرداء .
قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 208 : « قال حذيفة بن اليمان ( رحمه الله ) : آخى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المهاجرين والأنصار ، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال : هذا أخي . قال حذيفة : فرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيد المرسلين وإمام المتقين ، ورسول رب العالمين الذي ليس له في الأنام شبيه ولا نظير ، وعلي أخوه . والأخبار في ذلك كثيرة ، وهذه منزلة شريفة ومقام عظيم ،
لم يحصل لأحد مثله » .
أما وقت المؤاخاة ، فقيل بعد الهجرة بثمانية أشهر وقيل بخمسة ، والصحيح أنها في ثاني عشر شهر رمضان في السنة الأولى لهجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند نزول قوله تعالى :
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .

قال الصدوق في كتاب مسارِّ الشيعة / 7 ، وفي طبعة / 32 : « وفي الثاني عشر نزل الإنجيل على عيسى بن مريم ، وهو يوم المؤاخاة التي آخى فيه بين أصحابه ، وآخى بينه وبين علي ( عليه السلام ) » . وقد أوردنا هناك أسماء الذين آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بينهم . كما أن مؤاخاته له هنا وبعدها تأكيد لاتخاذه أخاً لما نزلت : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وجمع بني هاشم واتخذ علياً ( عليه السلام ) من بينهم أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة .

--------------------------- 92 ---------------------------
12 . معنى مؤاخاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : معنى أخوة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : أنه أقرب المسلمين اليه ، لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يختار أخاً له عن هوى ، بل بمقاييس الإيمان والعمل .
ومعناها : أنه أشبه الناس بشخصيته ، لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آخى بين الأشباه والنظائر .
ومعناها : أنه الأولى برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولذلك كان علي ( عليه السلام ) يقول : لا يدعي أحد غيري أنه أخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا كذاب .
ومعناها : أنه خليفته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى لو لم ينص عليه ، فكيف وقد نص عليه مراراً ؟
ومعناها : أنه أخوه في الآخرة وفي الجنة ، وقد نص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ذلك .
ومعناها : أنه تثبت له كل حقوق مقام أخ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا ما خرج بدليل .

أمر الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يطهر مسجده فسد الأبواب الشارعة عليه

1 . في مناقب علي لابن المغازلي / 205 ، والدر النظيم لابن حاتم / 312 :
( حدث عدي بن ثابت قال : خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المسجد وقال : إن الله عز وجل أوحى إلى نبيه موسى ( عليه السلام ) أن ابن لي مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا موسى وهارون ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإن الله قد أوحى إلي أن أبني له مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا أنا وعلي وابنا علي ) . وفي سبل الهدى ( 10 / 424 ) : ( وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن أبي حازم الأشجعي قال رسول الله : إن الله أمر موسى أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه الا هو وهارون ، وإن الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا أنا وعلي وأبناء علي ) .
فقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعملين : فأخرج الفقراء الذين كانوا ينامون في المسجد ، وبنى لهم الصفة وهي سقيفة بجنب المسجد . وثانيهما : أمر أن تسد أبواب البيوت الشارعة على ساحة المسجد ، إلا باب بيته وبيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
2 . روى النسائي في خصائص علي ( عليه السلام ) / 73 ، عدة أحاديث : منها عن سعد بن أبي وقاص ، قال : ( كنا مع رسول الله في المسجد فنودي فينا ليخرج من في المسجد إلا آل رسول الله . قال : فخرجنا فلما أصبح أتاه عمه فقال : يا رسول الله أخرجت أصحابك وأعمامك وأسكنت هذا الغلام . فقال رسول الله : ما أنا أمرت بإخراجكم ولا بإسكان
--------------------------- 93 ---------------------------
هذا الغلام إن الله هو أمر به . قال فطر عن عبد الله بن شريك عن عبد الله بن أرقم ، عن سعد أن العباس أتى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : سددت أبوابنا إلا باب علي . فقال : ما أنا فتحتها ولا أنا سددتها ) .

أقول : لم يكن العباس في المدينة ، فلا بد أن يكون المقصود حمزة رضي الله عنه .

3 . وروى في الكافي ( 5 / 339 ) بسند صحيح عن الباقر ( عليه السلام ) قصة جويبر :

قال : ( إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له : جويبر أتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه ، وكان رجلاً قصيراً دميماً ، محتاجاً عارياً ، وكان من قباح السودان ، فضمه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لحال غربته وعراه ، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأول ، وكساه شملتين ، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل ، فمكث بذلك ما شاء الله ، حتى كثر الغرباء ممن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة وضاق بهم المسجد ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن طهر مسجدك ، وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل ، ومر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب ، إلا باب علي ( عليه السلام ) ومسكن فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا يمرن فيه جنب ولا يرقد فيه غريب .
قال : فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد أبوابهم إلا باب علي ( عليه السلام ) وأقر مسكن فاطمة ( عليها السلام ) على حاله ، قال : ثم إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أن يتخذ للمسلمين سقيفة ، فعملت لهم وهي الصفة ، ثم أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم ، فنزلوها واجتمعوا فيها ، فكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتعاهدهم بالبر والتمر والشعير والزبيب ، إذا كان عنده ، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقون عليهم لرقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ويصرفون صدقاتهم إليهم . فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقة عليه فقال له : يا جويبر لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك ، فقال له جويبر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، من يرغب فيَّ ، فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال ، فأية امرأة ترغب فيَّ ؟ فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا جويبر إن الله قد وضع بالإسلام من كان
--------------------------- 94 ---------------------------
في الجاهلية شريفاً ، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً ، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها ،
فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم وإن آدم خلقه الله من طين ، وإن أحب الناس إلى الله عز وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم . وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع ، ثم قال له : انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم فقل له : إني رسول رسول الله إليك وهو يقول لك : زوج جويبرا ابنتك الذلفاء ، قال : فانطلق جويبر برسالة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده ، فاستأذن فأعلم ، فأذن له فدخل وسلم عليه ، ثم قال : يا زياد بن لبيد إني رسول رسول الله إليك في حاجة لي فأبوح بها ، أم أسرها إليك ؟ فقال له زياد : بل بح بها ، فإن ذلك شرف لي وفخر ، فقال له جويبر : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لك : زوج جويبرا ابنتك الذلفاء ، فقال له زياد : أرسول الله أرسلك إلي بهذا ؟ فقال له : نعم ، ما كنت لأكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقال له زياد : إنا لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا من الأنصار ، فانصرف يا جويبر حتى ألقى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره بعذري ، فانصرف جويبر وهو يقول : والله ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها ، فأرسلت إلى أبيها أدخل إليَّ فدخل إليها فقالت له : ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبر ؟ فقال لها : ذكر لي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسله وقال : يقول لك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : زوج جويبراً ابنتك الذلفاء ، فقالت له : والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحضرته ، فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً ، فبعث زياد رسولا فلحق جويبرا فقال له زياد : يا جويبر مرحباً بك إطمئن حتى أعود إليك ! ثم انطلق زياد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : بأبي أنت وأمي إن جويبراً أتاني برسالتك وقال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لك : زوج جويبراً ابنتك الذلفاء فلم ألن له بالقول ، ورأيت لقاءك ، ونحن لا نتزوج إلا
--------------------------- 95 ---------------------------
أكفاءنا من الأنصار ، فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا زياد جويبر مؤمن والمؤمن كفوٌ للمؤمنة والمسلم كفوٌ للمسلمة ، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه ، قال : فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالت له : إنك إن عصيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كفرت ! فزوج جويبراً ، فخرج زياد فأخذ بيد جويبر ، ثم أخرجه إلى قومه فزوجه على سنة الله وسنة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضمن صداقه قال : فجهزها زياد وهيؤوها ، ثم أرسلوا إلى جويبر فقالوا له : ألك منزل فنسوقها إليك ، فقال : والله مالي من منزل ، قال : فهيؤوها وهيؤوا لها منزلاً وهيؤوا فيه فراشاً ومتاعاً ، وكسوا جويبرا ثوبين ، وأدخلت الذلفاء في بيتها ، وأدخل جويبر عليها معتماً ، فلما رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيبة ، قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى طلع الفجر ، فلما سمع النداء خرج وخرجت زوجته إلى الصلاة ، فتوضأت وصلت الصبح ، فسئلت هل مسك ؟ فقالت : ما زال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتى سمع النداء ، فخرج . فلما كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك ، وأخفوا ذلك من زياد ، فلما كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك فأخبر بذلك أبوها ، فانطلق إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله أمرتني بتزويج جويبر ولا والله ما كان من مناكحنا ولكن طاعتك أوجبت علي تزويجه . فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فما الذي أنكرتم منه ؟ قال : إنا هيئنا له بيتاً ومتاعاً وأدخلت ابنتي البيت وأدخل معها معتماً فما كلمها ولا نظر إليها ولادنا منها ، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى سمع النداء ، فخرج ثم فعل مثل ذلك في الليلة الثانية ، ومثل ذلك في الثالثة ، ولم يدن منها ولم يكلمها ! إلى أن جئتك وما نراه يريد النساء ، فانظر في أمرنا . فانصرف زياد وبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جويبر فقال له : أما تقرب النساء ؟ فقال له : جويبر : أو ما أنا بفحل ، بلى يا رسول الله إني لشبق نهم إلى النساء ، فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد خبرت بخلاف ما وصفت به نفسك ، قد ذكر لي أنهم هيؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأدخلت عليك فتاة حسناء عطرة ، وأتيت معتماً
--------------------------- 96 ---------------------------
فلم تنظر إليها ولم تكلمها ، ولم تدن منها فما دهاك إذن ؟ فقال له جويبر : يا رسول الله دخلت بيتاً واسعاً ورأيت فراشاً ومتاعاً وفتاة حسناء عطرة ، وذكرت حالي التي كنت عليها وغربتي وحاجتي ووضيعتي وكسوتي مع الغرباء والمساكين ، فأحببت إذ أولاني الله ذلك أن أشكره على ما أعطاني ، وأتقرب إليه بحقيقة الشكر ، فنهضت إلى جانب البيت فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر الله حتى سمعت النداء ، فخرجت . فلما أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم ففعلت ذلك ثلاثة أيام ولياليها ، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني الله يسيراً ، ولكني سأرضيها وأرضيهم الليلة إن شاء الله ، فأرسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى زياد ، فأتاه فأعلمه ما قال جويبر فطابت أنفسهم قال : ووفى لها جويبر بما قال : ثم إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد رحمه الله تعالى ، فما كان في الأنصار أيَّمٌ أنفق منها بعد جويبر ) !
أقول : اتضح بذلك أن الأمر بتطهير المسجد أمرٌ بإخراج من يبيتون فيه من الفقراء ، وأمرٌ بسد أبواب البيوت الشارعة على المسجد ليكون مدخلها من السكة ، وليس من ساحة المسجد ، إلا بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
4 . حسدوا علياً لاستثنائه ، فاخترعوا حديث الخوخة !
قالت عائشة والبخاري ( 4 / 190 ) إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استثنى أبا بكر وليس علياً ! فقال : ( لا يبقين في المسجد باب الأسد الا باب أبي‌بكر ) لكن مشكلة عائشة أن بيت أبيها في السنح ، وهو يبعد كيلو مترات عن المسجد ، فكيف يكون له باب يفتح على ساحة المسجد ! وكذلك بيت عمر كان في العوالي . لكنهم أصروا على التناقض !
كذلك قالوا إن بيت العباس عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يفتح على المسجد ، لكن العباس كان في مكة ، ولم يأت إلى المدينة إلا بعد فتح مكة .
نعم قد يكون بيت حمزة ، ونقلوا أنه اعترض فأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن ذلك أمر الله تعالى وليس من أمره هو ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقبل حمزة . ومعناه أن سد الأبواب كان قبل أُحُد ، لأن حمزة رضي الله عنه استشهد فيها .
لكن عائشة قالت إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال في مرض وفاته : ( يا أيها الناس سدوا الأبواب
--------------------------- 97 ---------------------------
الشارعة في المسجد إلا باب أبي‌بكر ، فإني لا أعلم امرؤاً أفضل عندي يداً في الصحبة من أبي‌بكر ) . ( السنة لابن أبي عاصم في السنة / 565 ) .
وفي نفس الوقت قالت عائشة : ( لما قدمت المدينة نزلنا السنح ) . ( سنن البيهقي : 10 / 220 ) وقالت : ( إن رسول الله مات وأبو بكر بالسنح ) . ( البخاري : 4 / 193 ) وقالت :
( إن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح ) . ( البخاري : 5 / 142 ) .
وقال ابن سعد ( 3 / 186 ) : « فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر ، يغدو على رجليه إلى المدينة ، وربما ركب على فرس له ، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح ) .
وحاول شراح البخاري وعلماء السلطة أن يحلوا تناقض عائشة والبخاري ، فقالوا إن قولي عائشة صحيحان وإن كانا متناقضين ! لأنه لا يجوز رد منقبة لأبي‌بكر وعمر وعائشة ، حتى لو كانت متناقضة مع منقبة أخرى !
5 . وجعلوا باب أبي‌بكر خوخة ليحلوا التناقض ! كنت أفكر في قولهم إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : سدو الأبواب إلا باب أبي‌بكر ، فهو مقابل : إلا باب علي ( عليه السلام ) . لكن لماذا جعلوا باب أبي‌بكر خوخة كما في البخاري وغيره ؟ والخوخة كوة أو نافذة أو باب صغيرلايكاد يسع شخصاً ؟ ! فوجدت السبب أنهم افتضحوا لأنه لا بيت لأبي‌بكر قرب المسجد لكنه لما صار خليفة فتح خوخة في قبلة المسجد ليمر منها ، وسميت خوخة أبي‌بكر ، فقالوا إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إلا خوخة أبي‌بكر ، أي التي سيفتحها بعد وفاتي !
وسبب الخوخة أن أبا بكر كان يخاف من القتل والسم ، فلما استخلف أحضر طبيب السموم الحارث بن كلدة من الطائف ، فكان لا يأكل طعاماً إلا وهو معه ! قال البلاذري ( 10 / 87 ) والمسعودي ( 1 / 552 ) : ( سمته اليهود في شئ من الطعام وأكل معه الحارث بن كلدة فعميَ ) وصححه السيوطي في تاريخ الخلفاء / 61 ، وقال : ( كانا يأكلان خزيزة ( لحم مثروم مطبوخ ) أهديت لأبي‌بكر ، فقال الحارث لأبي‌بكر : إرفع يدك يا خليفة رسول الله ! والله إن فيها لسُم سنة ، وأنا وأنت نموت في يوم واحد ! فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة ) .
--------------------------- 98 ---------------------------
وفي رواية بعد ثلاثة أيام ، أو خمسة عشر يوماً ! ( وتاريخ دمشق : 30 / 409 ، وفتح الباري : 7 / 34 ،
وتحفة الأحوذي : 10 / 96 ، والحاكم : 3 / 64 ، والطبقات : 3 / 198 ، وأسد الغابة : 3 / 223 ، وصفة الصفوة : 1 / 263 ، والرياض النضرة : 1 / 259 و 2 / 243 ، والمنتظم : 4 / 129 ، ومسائل الإمام أحمد / 75 ، والمصباح المضي : 1 / 33 ، وتخريج الدلالات للخزاعي / 670 ، والتراتيب الإدارية : 1 / 456 ، والصواعق المحرقة : 1 / 253 ،
والعقد الفريد / 1010 . . وغيرها ) .
فخوخة أبي‌بكر باب صغير قبلي المسجد النبوي فتحه ليدخل منه إلى المحراب مباشرة ولا يمر بين الناس ، فزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استثناها قبل وجودها !
قال المناوي في فيض القدير ( 1 / 120 ) : ( وفي رواية البخاري : إلا خوخة أبي‌بكر ، فلا تسد تكريماً له ، وإظهاراً لتميزه بين الملأ . ثم هذه الكلمة إن أريد بها الحقيقة فذلك ، لأن أهل المنازل الملاصقة للمسجد قد جعلوا لبيوتهم مخترقاً يمرون فيه إلى المسجد ، أو كوة ينظرون منها إليه ، فأمر بسدها وترك خوخة أبي‌بكر إعظاماً له . ثم رمز للناس في ضمن ذلك إلى شأن الخلافة . وإن أريد بها المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب القالة دون التطرق إليها والتطلع نحوها . قال بعضهم : والمجاز أقوى ، إذ لم يصح أن أبا بكر كان منزله بلصق المسجد بل بعوالي المدينة ، فالقصد بالأمر بالسد سد طرق منازعته في الخلافة ، على طريق الاستعارة ) !
وقال المحب الطبري في الرياض النضرة ( 1 / 129 ) : ( سدوا كل خوخة في القبلة إلا خوخة أبي‌بكر . فيه دليل بمنطوقه على أن الخوخات المسدودة كانت في القبلة ، وبمفهومه على أن في المسجد خوخات غيرها لم تسد ) .
ولم تكن خوخات في القبلة في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فالحديث مكذوب ومفصل على خوخة أبي‌بكر ! ويؤيد كذبه أنك تجد في ألفاظه أنواعاً من المديح لأبي‌بكر على لسان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مثل قوله : لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر . . وقد زوجني بنته ، وواساني بنفسه . ما لأحد عندنا من يد إلا لأبي‌بكر ، وإن خير المسلمين مالاً أبو بكر ، أعتق بلالاً ، وحملني إلى دار الهجرة . . الخ .
وزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كال هذه المدائح عند أمره بأن لا يسدوا خوخة أبي‌بكر ، اي
--------------------------- 99 ---------------------------
سيكون خليفة ويفتح خوخة فلا تسدوها !
ومما يؤيد كذبهم ، أن عمر فتح خوخة أخرى في قبلي المسجد ، فسميت خوخة عمر ! فهل يشملها الأمر بالسد ؟ قال ابن سعد في الطبقات ( 5 / 188 ) : ( كان مجلس القاسم وسالم بن عبد الله في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واحداً . . فكان تجاه خوخة عمر بين القبر والمنبر ) . وفي تهذيب الكمال للمزي ( 31 / 353 ) : ( وإذا يحيى بن سعيد خارج من خوخة عمر ) !
6 . ابن حجر يحاول حل مشكلة باب أبي‌بكر وخوخته !
قال في فتح الباري ( 7 / 12 ) : ( والخوخة طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء ، ولا يشترط علوها ، وحيث تكون سفلى يمكن الإستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب ، وهو المقصود هنا ، ولهذا أطلق عليها باب . .
قال الخطابي وابن بطال وغيرهما : في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي‌بكر ، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة ، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر . وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة ، والأمر بالسد كناية عن طلبها ، كأنه قال لايطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لاحرج عليه في طلبها ، والى هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث : في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه حسم بقوله : سدوا عني كل خوخة في المسجد ، أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاء بعده . وقوى بعضهم ذلك بأن منزل أبي‌بكر كان بالسنح من عوالي المدينة ، فلا يكون له خوخة إلى المسجد ، وهذا الإسناد ضعيف لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد ، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار ، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس بالاتفاق ، وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ .
وقد تعقب المحب الطبري كلام ابن حبان فقال وقد ذكر عمر ابن شبة
--------------------------- 100 ---------------------------
في أخبار المدينة أن دار أبي‌بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ، ولم تزل بيد أبي‌بكر حتى احتاج إلى شئ يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها ، فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم ، فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد ، فامتنعت وقالت كيف بطريقي إلى المسجد . فقيل لها : نعطيك داراً أوسع منها ، ونجعل لك طريقاً مثلها فسلمت ورضيت ) .
أقول : الصحيح أن أبا بكر لم يكن عنده بيت فيه باب أو خوخة على المسجد في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل كان يسكن في السنح كما نصت عائشة وغيرها . وبعد خلافته بمدة اشترى بيتاً قرب المسجد ، وهذا هو الذي اشترته منه حفصة !
ثم قال ابن حجر : ( تنبيه : جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب ، منها حديث سعد بن أبي وقاص قال : أمرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد الأبواب الشارعة في المسجدوترك باب علي . أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي ، وفي رواية للطبراني في الأوسط رجالها ثقات من الزيادة ، فقالوا : يا رسول الله سددت أبوابنا ! فقال : ما أنا سددتها ولكن الله سدها !
وعن زيد بن أرقم قال كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سدوا هذه الأبواب إلا باب علي ، فتكلم ناس في ذلك ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إني والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكن أمرت بشئ فاتبعته . أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات .
وعن ابن عباس قال : أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره . أخرجهما أحمد والنسائي ورجالهما ثقات . وعن جابر بن سمرة قال : أمرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد الأبواب كلها غير باب علي ، فربما مر فيه وهو جنب . أخرجه الطبراني .
وعن ابن عمر قال كنا نقول في زمن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر . ولقد أعطيَ علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن
--------------------------- 101 ---------------------------
أحب إلي من حمر النعم : زوجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ابنته وولدت له ، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر . أخرجه أحمد وإسناده حسن .
وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار بمهملات قال فقلت لابن عمر : أخبرني عن علي وعثمان ، فذكر الحديث وفيه : وأما علي فلا تسأل عنه أحداً ، وانظر إلى منزلته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه . ورجاله رجال الصحيح الا العلاء ، وقد وثقه يحيى بن معين .
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً ، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلاً عن مجموعها . وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات ، وأخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص ، وزيد بن أرقم وابن عمر ، مقتصراً على بعض طرقه عنهم ، وأعله ببعض من تكلم فيه من رواته ، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق . وأعله أيضاً بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي‌بكر ، وزعم أنه من وضع الرافضة ، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي‌بكر . انتهى .
وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً ، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة ، مع أن الجمع بين القصتين ممكن ، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال : ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي ، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي‌بكر ، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري ، يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيري وغيرك . والمعنى : أن باب علي كان إلى جهة المسجد ، ولم يكن لبيته باب غيره ، فلذلك لم يؤمر بسده . ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن ، من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب ، إلا لعلي بن أبي طالب ، لأن بيته كان في المسجد .
ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين ، ففي الأولى استثنيَ علي
--------------------------- 102 ---------------------------
لما ذكره ، وفي الأخرى استثنيَ أبو بكر . ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي ، وما في قصة أبي‌بكر على الباب المجازي ، والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه ، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها ، وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدها ، فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين ) !
أقول : يدرك الباحث بأدنى تفكير أنه لا يمكن الجمع بين الأمر بسد الأبواب إلا باب علي ( عليه السلام ) في حياة حمزة أي قبل أحُد ، ثم يقول في مرض موته : إلا باب أبي‌بكر أو خوخته ! فالعجب من تخبط ابن حجر وكبار علمائهم بين الخوخة والباب ، والحقيقة والمجاز ، وإصرارهم على إثبات منقبة لأبي‌بكر مقابل منقبة علي ( عليه السلام ) ، حتى لو لم يكن لأبي‌بكر بيت قرب المسجد ، وحتى لو أحدث خوخته بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقال الحافظ الغماري في إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل / 18 : ( أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي . حديث صحيح ، أخطأ ابن الجوزي بذكره في الموضوعات . ورد عليه الحافظ في القول المسدد . وابن تيمية لانحرافه عن علي كما هو معلوم لم يكفه حكم ابن الجوزي ، بوضعه فزاد من كيسه حكاية اتفاق المحدثين على وضعه ! وأمثلة رده للأحاديث التي يردها لمخالفة رأيه كثيرة يعسر تتبعها ) .
قال الكميت بن زيد الأسدي ( رحمه الله ) :
علي أمير المؤمنين وحقه * من الله مفروض على كل مسلم
وان رسول الله أوصى بحقه * وأشركه في كل حق مقسم
وزوجه صديقة لم يكن لها * معادلة غير البتولة مريم
وردم أبواب الذين بنى لهم * بيوتا سوى أبوابه لم يردم
وأوجب يوما بالغدير ولاية * على كل بر من فصيح وأعجم
( تفسير أبي الفرج : 2 / 193 ) .
7 . اعترف بعضهم بوضع حديث الخوخة ! واعترف ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 11 / 49 ) بأن حديث سد الأبواب إلا باب أبي‌بكر أو خوخته ، مكذوب مقابل حديث :
--------------------------- 103 ---------------------------
إلا باب علي ( عليه السلام ) . وقال التستري في خلاصة عبقات الأنوار ( 1 / 89 ) : ( وجاء علماء الكلام وأصحاب الكتب في الإمامة منهم ، فعارضوا بهذه الموضوعات الأحاديث الصحاح في فضل علي ( عليه السلام ) . . وكان من جملة هذه الأحاديث المحرفة أو الموضوعة رأساً في مقابل فضيلة من الفضائل :
1 - لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن الله اتخذ صاحبكم خليلاً .
2 - سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد ، غير خوخة أبي‌بكر .
3 - ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي‌بكر .
4 - لو كان بعدي نبي لكان عمر .
5 - لو لم أبعث فيكم لبعث عمر .
6 - ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر .
7 - أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى .
8 - اقتدوا باللذين من بعدي أبي‌بكر وعمر .
9 - خلقني الله من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر من نور أبي‌بكر ، فخلق أمتي من نور عمر ، وعمر سراج أهل الجنة .
10 - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .
11 - أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعلي بابها .
12 - أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وأبو بكر وعمر وعثمان حيطانها وأركانها .
13 - أصحابي كالنجوم ، فبأيهم اقتديتم اهتديتم .
* *
--------------------------- 104 ---------------------------
علي ( عليه السلام ) في عمليات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل بدر
قال البيهقي في دلائل النبوة ( 3 / 11 ) : ( ثم غزا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ربيع الآخر يريد قريشاً حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ، ثم رجع ولم يلق كيداً فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادي الأولى .
ثم غزا يريد قريشاً فسلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على نقب بني دينار بن النجار حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها بقية جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة . .
عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع ، فلما نزلها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقام بها شهراً ، فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم فقال لي علي بن أبي طالب : هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون ، فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ، ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه ، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء ، فيومئذ قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي يا أبا تراب لما عليه من التراب فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال : ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا بلى يا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه ، ووضع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده على رأسه ، حتى يبل منها هذه ووضع يده على لحيته ) !
أقول : نلاحظ أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يخبر عن مستقبل أمته ، من أول نبوته ، وكأنه صفحة مفتوحة أمامه ، ففي غزوة العشيرة في السنة الثانية أخبر عن قتل ابن ملجم لعلي ( عليه السلام ) ، وسماه أشقى الآخرين ، وكانوا يبنون مسجده في المدينة ، وأخبر أن عماراً ستقتله الفئة الباغية . كما نلاحظ أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقَّب علياً ( عليه السلام ) ( أبا تراب ) . لأن العرب يلقبون أولادهم وأعزائهم بلقب ظاهره الذم وواقعه مدح ، ليعجب ذلك خصومهم فيستعملونه ، ولا يلقبوهم بألقاب ذم .
* *
--------------------------- 105 ---------------------------

الفصل الخامس: علي ( عليه السلام ) بطل معركة بدرالكبرى

من سيرة علي ( عليه السلام ) في معركة بدر

1 . أحس علي ( عليه السلام ) بنزول الملائكة وسلموا عليه :
ذكرنا في السيرة النبوية ، دور علي ( عليه السلام ) في معركة بدر ، ونذكر هنا نقاطاً
منها : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث علياً ( عليه السلام ) ليلة بدر ليستقي لهم ، فأحس بنزول مجموعات الملائكة . ففي تفسير العياشي » 2 / 65 « : « عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لما عطش القوم يوم بدر انطلق علي ( عليه السلام ) بالقربة يستقي وهو على القليب ، إذ جاءت ريح شديدة ثم مضت فلبث ما بدا له ، ثم جاءت ريح أخرى ثم مضت ، ثم جاءت أخرى كادت أن تشغله وهو على القليب ، ثم جلس حتى مضت ، فلما رجع إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره بذلك فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما الريح الأولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة ، والثانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة ، والثالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة ، وقد سلموا عليك وهم مدد لنا ، وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى ، حتى يقول : وَقَالَ إِنِّي بَرِيئٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي
أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ » .
وفي المناقب » 2 / 80 « : « عن محمد بن الحنفية قال : بعث رسول الله علياً ( عليه السلام ) في غزوة بدر أن يأتيه بالماء حين سكت أصحابه عن إيراده . .
وفي رواية أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال له عن الملائكة : ما أتوا إلا ليحفظوك . . عن الليث وكان يقول : كان لعلي في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاث مناقب ، ثم يروي هذا الخبر ، قال الحميري :
--------------------------- 106 ---------------------------
وسلم جبريل وميكال ليلةً * عليه وإسرافيلُ حياه معربا
أحاطوا به في ردءة جاء يستقي * وكل على ألف بها قد تحزبا
ثلاثة آلافٍ ملائكَ سلموا * عليه فأدناهم وحِيّاً ومرحبا »
وفي أمالي الطوسي / 547 ، أنه ( عليه السلام ) ناشد المسلمين بعد قتل عثمان : « فهل فيكم من سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة ، وفيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ليلة القليب لما جئتُ بالماء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غيري ؟ قالوا : لا » .
2 . علمه الخضر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاء قبل بدر : ففي التوحيد للصدوق / 89 : « قال ( عليه السلام ) : رأيت الخضر ( عليه السلام ) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له : علمني شيئاً أُنصرُ به على الأعداء ، فقال : قل : يا هوَ ، يا من لا هوَ إلا هو . فلما أصبحت قصصتها على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لي : يا علي عُلَّمْتَ الاسم الأعظم ، فكان على لساني يوم بدر . وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قرأ : قُلْ هُوَ الله أحَد ، فلما فرغ قال : يا هو ، يا من لا هو إلا هو ، اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين . وكان علي ( عليه السلام ) يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد ، فقال له عمار بن ياسر : يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات ؟ قال : اسم الله الأعظم ، وعماد التوحيد لله لا إله إلا هو ، ثم قرأ : شَهِدَ الله أنَّهُ لا إلهَ إِلَّا هُو ، وآخر الحشر ، ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال . وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه ، والله هوالمستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات » .
وهذا يدل على أن سر الاسم الأعظم في الذي يُعلمه ، وفي الذي يدعو به .

3 . بدر أول معركة خاضها علي ( عليه السلام ) :

كانت معركة بدر أول حرب يخوضها علي ( عليه السلام ) ، وكان عمره نحو أربع وعشرين سنة ، على الرواية المشهورة بأن عمره عند البعثة عشر سنين ، وكانت بدر بعد أربع عشرة سنة ونصف من البعثة . ولم يشترك ( عليه السلام ) قبلها في حرب لكن كان له تجربتان في القتال في مكة بعد هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حيث كمن له فارسٌ في الليل ليفاجأه ويقتله : « فصاح علي به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه » « المناقب : 1 / 335 » فكانت
--------------------------- 107 ---------------------------
هذه أول صيحة له وأول ضربة سيف ! ثم في طريق هجرته ( عليه السلام ) لما أرسلت قريش ثمانية فرسان ليردوه ، يقودهم فارس فاتك : « فأهوى له جَنَاح بسيفه فراغ علي ( عليه السلام ) عن ضربته ، وتختله علي ( عليه السلام ) فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه » ! « أمالي الطوسي / 470 » فكانت تلك ثاني ضربة لعلي ( عليه السلام ) ! والكاثبة : مجتمع الكتف ، أي شقت ضربته كتف الفارس وبدنه ، حتى وصلت إلى ظهر فرسه !
وفي نسخة المناقب ( 2 / 312 ) أن سعد بن أبي وقاص رأى علياً يوم بدر : « يحمحم فرسه » وقد كان راجلاً ولم يكن عنده فرس ، فهو تصحيف لراوية الخوارزمي في مناقبه / 158 ، عن سعد : « قال معاوية : أتحب علياً ؟ قلت : وكيف لا أحبه وقد سمعت رسول الله يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، ولقد رأيته بارز يوم بدر وهو يُحمحم كما يحمحم الفرس ، ويقول :
ما تنقمُ الحرب العوان مني * بازلُ عامين حديثٌ سني
سنحْنَحْلُ الليل كأني جني * لمثل هذا ولدتني أمي !
فما رجع حتى خضب سيفه » .
ومناقب ابن سُلَيْمان : 2 / 569 ، والفايق : 1 / 95 ، وينابيع المودة : 1 / 158 ، والنهاية لابن الأثير : 2 / 412 ، ولسان العرب : 11 / 52 وفيه : يقول : أنا مستجمع الشباب مستكمل القوة . ونسب ابن هشام ( 2 / 463 ) أبيات علي ( عليه السلام ) إلى أبي جهل !

4 . سطع نجم علي ( عليه السلام ) في بدر :

وبرز بطلاً فاق عمه حمزة ( رحمه الله ) ، حيث قَتل قرينه ، وساعد حمزة على قتل قرينه : « وحمل أمير المؤمنين على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه ، ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : يا علي أما ترى الكلب قد أبهر عمك ! فحمل علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فطرح نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق ، فأجهز عليه » . » المناقب : 1 / 311 « .
--------------------------- 108 ---------------------------
وفي الفصول المهمة لابن الصباغ : 1 / 315 ، أن المبارزة كانت بالترتيب : بارز عليٌّ الوليد ، ثم بارز حمزة عتبة ، ثم بارز عبيدة شيبة . « برز الوليد لعلي فقال : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقتله » . « الطبقات : 2 / 23 ، وابن كثير : 2 / 414 » . ولم يذكر رواة السلطة أنه ( عليه السلام ) قتل قرن حمزة وأجهز على قرن عبيدة ، قالوا : « أما علي فلم يمهل الوليد أن قتله » . « ابن هشام : 2 / 456 » أي برز مع صاحبيه لقرنيهما !
وفي الدر النظيم / 152 : « ثم بارز أمير المؤمنين ( عليه السلام ) العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه ، فلم يلبث إلا أن قتله . وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله ، وبرز بعده طعيمة بن عدي فقتله ، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش . ولم يزل ( عليه السلام ) يقتل واحداً منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم ، وكانوا سبعين قتيلاً . وتولى كافة من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين الشطر الآخر ، وكان قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للشطر بمعونة الله تعالى له وتوفيقه وتأييده ونصره ، وكان الفتح له بذلك » .
وفي الإرشاد ( 1 / 74 ) : « فاختلفا ضربتين أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واتقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين فأبانتها . قال ( عليه السلام ) : كأني أنظر إلى وميض خاتمه في شماله ، ثم ضربته ضربة أخرى فصرعته وسلبته فرأيت به ردعاً من خَلوق « طيب » فعلمت أنه قريب عهد بعرس » .
وفي إعلام الورى : 1 / 170 : « عن أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم ، وقد قتلت الوليد بن عتبة ، إذ أقبل إليَّ حنظلة بن أبي سفيان ، فلما دنا مني ضربته بالسيف فسالت عيناه ، ولزم الأرض قتيلاً » .
* *
وفي الإرشاد للمفيد ( 1 / 70 ) : ( وقد أثبت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتلهم ببدر من المشركين ، على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح ، فكان ممن سموه : الوليد بن عتبة كما قدمناه ، وكان شجاعاً جريئاً فاتكاً وقاحاً ، تهابه الرجال . والعاص بن سعيد ، وكان هَوْلاً عظيماً تهابه الأبطال ، وهو الذي حاد عنه
--------------------------- 109 ---------------------------
عمر بن الخطاب ، وقصته فيما ذكرناه مشهورة ، ونحن نثبتها فيما نورده بعد إن شاء الله . وطعيمة بن عدي بن نوفل ، وكان من رؤوس أهل الضلال . ونوفل بن خويلد ، وكان من أشد المشركين عداوةً لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه ، وهو الذي قرن أبا بكر بطلحة قبل الهجرة بمكة وأوثقهما بحبل وعذبهما يوماً إلى الليل ، حتى سئل في أمرهما ، ولما عرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حضوره بدراً سأل الله عز وجل يكفيه أمره فقال : اللهم اكفني قتل بن خويلد ، فقتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وزمعة بن الأسود .
والحارث بن زمعة . والنضر بن الحارث بن عبد الدار . وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم ، عم طلحة بن عبيد الله . وعثمان ومالك ابنا عبيد الله ، أخوا طلحة بن عبيد الله . ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة . وقيس بن الفاكه بن المغيرة . وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة . وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة . وحنظلة بن أبي سفيان . وعمرو بن مخزوم . وأبو المنذر بن أبي رفاعة . ومنبه بن الحجاج السهمي . والعاص بن منبه . وعلقمة بن كلدة . وأبو العاص بن قيس بن عدي . ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص . ولوذان بن ربيعة . وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة . ومسعود بن آمنة بن المغيرة . وحاجب بن السائب بن عويمر . وأوس بن المغيرة بن لوذان . وزيد بن مليص . وعاصم بن أبي عوف . وسعيد بن وهب ، حليف بني عامر . ومعاوية بن عامر بن عبد القيس . وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد . والسائب بن مالك . وأبو الحكم بن الأخنس . وهشام بن أبي أمية بن المغيرة . فذلك خمسة وثلاثون رجلاً ، سوى من اختلف فيه ، أو شرك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيه غيره ، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر ) .
* *
وفي كشف الغمة : 1 / 181 : « قال الواقدي في كتاب المغازي : جميع من يحصى قتله من المشركين ببدر تسعة وأربعون رجلاً ، منهم من قتله علي وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً ، شرك في أربعة وقتل بانفراده ثمانية عشر ، وقيل إنه قتل بانفراده
--------------------------- 110 ---------------------------
تسعة بغير خلاف وهم : الوليد بن عتبة بن ربيعة خال معاوية قتله مبارزة ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية ، وعامر بن عبد الله ، ونوفل بن خويلد بن أسد وكان من شياطين قريش ، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه ، وعبد الله ابن المنذر بن أبي رفاعة ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، وحاجب بن السايب .
وأما الذين شارك في قتلهم غيره فهم : حنظلة بن أبي سفيان أخو معاوية وعبيدة بن الحارث ، وزمعة وعقيل ابنا الأسود بن المطلب .
وأما الذين اختلف الناقلون في أنه قتلهم أو غيره فهم : طعيمة بن عدي ، وعمير بن عثمان بن عمرو ، وحرملة بن عمرو ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العباس بن قيس ، وأوس الجمحي ، وعقبة بن أبي معيط صبراً ، ومعاوية بن عامر . فهذه عدة من قيل إنه قتلهم في هذه الرواية ، غير النضر بن الحارث فإنه قتله صبراً بعد القفول من بدر . هذا من طرق الجمهور .
فأما المفيد فقد ذكر في كتابه الإرشاد . . أثبت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتلهم ببدر من المشركين ، على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح ، فكان ممن سموه . فذلك ستة وثلاثون رجلاً ، سوى من اختلف فيه ، أو شرك أمير المؤمنين فيه غيره ، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه . وعلى اختلاف المذهبين في تعيين عدة المقتولين ، فقد اتفقا على أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتل النصف ممن قتل ببدر أو قريباً منه !
وقال المفيد ( رحمه الله ) : فمن مختصرالأخبار التي قد جاءت بشرح ما أثبتناه ، ما رواه شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب ، قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس إلا المقداد بن الأسود ، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فإنه كان منتصباً في أصل شجرة يصلي ويدعو حتى الصباح » !
5 . كان يقاتل ثم يعود ليطمئن على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
وكان جبرئيل ( عليه السلام ) يوجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قتاله ، فكان يقاتل شوطاً ثم يرجع إلى مركزه ويدعو . ويظهر أنه بعد أن ألقى كف الحصى على المشركين واصل الدعاء حتى وقعت
--------------------------- 111 ---------------------------
الهزيمة ، قال علي ( عليه السلام ) : « لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال ، ثم جئت مسرعاً لأنظر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما فعل . فجئت فإذا هو ساجد يقول : يا حي يا قيوم ، يا حي يا قيوم ، لا يزيد عليها . فرجعت إلى القتال ، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً . فذهبت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك ، حتى فتح الله عليه » .
« الصحيح من السيرة : 5 / 68 » .
وروت ذلك عامة مصادرهم ، وفي بعضها أنه ( عليه السلام ) رجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرتين ، كما في النسائي : 6 / 157 ، والطبقات : 2 / 26 ، والحاكم : 1 / 147 ، وصححه . وفي مجمع الزوائد : 10 / 147 ، أنها ثلاث مرات ، وكذا الثعالبي عن الترمذي .
وشارك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في القتال ، وقال علي ( عليه السلام ) : « رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهوأقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » .
« مكارم الأخلاق / 18 » .

6 . مَدَحَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في بدر ورفع بيده :

وأكد للمسلمين أنه وزيره ووليهم من بعده ، ففي الإحتجاج ( 1 / 209 ) : « قال ( عليه السلام ) في احتجاجه على أعضاء شورى عمر : نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله بيده يوم بدر فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه وهو يقول : ألا إن هذا ابن عمي ووزيري ، فوازروه وناصحوه ، فإنه وليكم بعدي ، غيري ؟ قالوا : لا » .

7 . وكان معه جبرئيل وميكائيل وعزرائيل ( عليهم السلام ) : « وكان جبرئيل يقاتل عن يمين علي ( عليه السلام ) وميكائيل عن يساره ، وملك الموت قدامه » . « المناقب : 3 / 54 » . وسماه المشركون : الموت الأحمر . « المناقب : 3 / 43 » . وقَتَّال العرب فعندما حمل الحسين ( عليه السلام ) على جيش عمر بن سعد في كربلاء وكانوا ثلاثين ألفاً ، قال لهم عمر بن سعد : « الويل لكم أتدرون من تبارزون ! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتَّال العرب فاحملوا عليه من كل جانب » . « المناقب : 3 / 258 » .
وسموه : قاتل الأحبة ، ففي جواهر الكلام ( 21 / 331 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما زار
--------------------------- 112 ---------------------------
عائشة بعد معركة الجمل : « انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له ، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار ، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن : هذا قاتل الأحبة ، فلم يقل لهن شيئاً وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها ، وسمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير لا والله وبلى والله ، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة ، فقال لها يا صفية فأتته مسرعة ، فقال ألا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني قاتل الأحبة ! ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه وأومأ إلى ثلاث حجر ! فذهبت إليهن وقالت لهن : فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت ولا قائمة إلا قعدت ! قال الأصبغ : وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها ، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش ، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله » .
8 . كانت بدر ثالث امتحان لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وقد تحدث أمير المؤمين عن بدر في مناسبات ، واعتبرها أحد امتحاناته الربانية السبعة التي وفقه الله للنجاح فيها ، فقال له حبر يهودي إن كتبنا تقول إن وصي هذا النبي يمتحن في حياته وبعد وفاته ، فكم هذه الإمتحانات وما هي ؟ فقال ( عليه السلام ) : « وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن ابني ربيعة وابن عتبة ، كانوا فرسان قريش ، دَعوا إلى البراز يوم بدر ، فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع صاحبيَّ رضي الله عنهما وقد فعل ، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة ، سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي . واستشهد ابن عمي في ذلك ( رحمه الله ) » . « الخصال / 367 » .
وذكرعليٌّ ( عليه السلام ) بدراً ، رداً على قولهم إنهم بايعوا أبا بكر يوم السقيفة خوفاً على الإسلام فقال ( عليه السلام ) : « ما لنا ولقريش ؟ وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيَّد الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى الله فوق رؤوسهم رؤوسنا ، واختارنا الله عليهم ، فنقموا عليه أن اختارنا عليهم ! وسخطوا ما رضي الله وأحبوا ما كره الله ! فلما اختارنا عليهم شركناهم في حريمنا ، وعرفناهم الكتاب والسنة ، وعلمناهم الفرايض والسنن ، وحفظناهم الصدق واللين ، وديَّناهم الدين والإسلام ، فوثبوا علينا ، وجحدوا فضلنا ، ومنعونا
--------------------------- 113 ---------------------------
حقنا ، وأَلَتُونا أسباب أعمالنا !
اللهم فإني أستعديك على قريش ، فخُذ لي بحقي منها ، ولا تدع مظلمتي لها ، وطالبهم يا رب بحقي ، فإنك الحكم العدل .
يا معشر المهاجرين والأنصار : أين كانت سبقة تيمٍ وعديٍّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة ؟ ألا كانت يوم الأبواء ( غزوة بني المصطلق ) إذ تكاتفت الصفوف ، وتكاثرت الحتوف ، وتقارعت السيوف ؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد وُدّ ، وقد نفح بسيفه ، وشمخ بأنفه ، وطمح بطرفه ! وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر ، إذ الأرواح في الصَّعْداء ترتقي ، والجياد بالصناديد ترتدي ، والأرض من دماء الأبطال ترتوي ؟
ثم عدَّد ( عليه السلام ) وقايع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرَّعهما بأنهما في كل هذه المواقف كانا مع النظارة ! ثم قال : ما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا من قريش ؟ أنا صاحب هذه المشاهد ، وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال الحميدة . . . » . « المناقب : 2 / 46 » .
وذكر ( عليه السلام ) بدراً ، في رسالة إلى معاوية :
« فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحلسونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل . ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه ، بحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان آمن . وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا احمر البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة ! فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أحد ، وقتل جعفر يوم مؤتة . وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة ، ولكن آجالهم عُجلت ، ومنيته أُجلت .
فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ، ولم تكن له كسابقتي ، التي لا يدلي أحد بمثلها ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ،
--------------------------- 114 ---------------------------
والحمد لله على كل حال » . « نهج البلاغة : 3 / 8 » .
وقال ( عليه السلام ) في رسالة له إلى معاوية : « وقد دعوتَ إلى الحرب ، فدع الناس جانباً واخرج إليَّ ، وأعف الفريقين من القتال ، ليعلم أينا المرين على قلبه ، والمغطى على بصره ! فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوي ، ما استبدلت ديناً ، ولا استحدثت نبياً . وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ، ودخلتم فيه مكرهين » . « نهج البلاغة : 11 / 8 » .
وفي رسالة له ( عليه السلام ) إلى معاوية أيضاً : « فأنا ابن عبد المطلب صاحب ذلك السيف ، وإن قائمه لفي يدي ، وقد علمتَ من قتلتُ من صناديد بني عبد شمس ، وفراعنة بني سهم ، وجمح ، وبني مخزوم ، وأيتمت أبناءهم وأيَّمت نساءهم ، وأذكرك ما لست له ناسياً يوم قتلت أخاك حنظلة وجررت برجله إلى القليب ، وأسرت أخاك عمراً ، فجعلت عنقه بين ساقيه رباطاً ، وطلبتك ففررت ولك حصاص » « نهج السعادة ( 4 / 213 ) . والحِصَاص : ركض الشيطان إذا سمع الأذان ، وركض الكلب إذا اشتد عدوه ، وهو يمصع بذنبه - نهاية ابن الأثير : 1 / 396 » .
9 . غُلُو السلطة في الصَّحابة البدريين غَيْر علي ( عليه السلام ) :
كانت معركة بدر معجزة ربانية ، وسر إعجازها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والملائكة ، وبطولة علي ( عليه السلام ) وبني هاشم . وقد سرقت السلطة القرشية تلك البطولة وأعطتها لكل الصحابة ! وجعلتهم جميعاً كالملائكة : أبطالاً أخياراً أبراراً ، من أهل الجنة ! ويكفي جواباً على زعمهم : سورة الأنفال التي نزلت في بدر ، وكشفت وجه صحابة بدريين جاؤوا على كره ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ! ومنهم من أراد من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يرجع ولا يقاتل قريشاً ! ومنهم من كان يلحُّ على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة أن يقاتل قريشاً فيقول لهم كفوا أيديكم واصبروا ، فلما كتب عليه القتال في بدر اعترضوا على ربهم لماذا كتب عليهم القتال ، ونكصوا عن مبارزة الفرسان ، وفروا إلى خلف الصفوف ، جبناً وحباً بالحياة ! فوبخهم الله تعالى بقوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً .
--------------------------- 115 ---------------------------
ومنهم : من اختلفوا على الغنائم ، على دراهم أو فرس أو بعير ، أو ثوب قماش ، أو نصف كيس شعير ! ومنهم : من أفقده الطمع دينه فاتهم نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه سرق قطيفةً أو عباءة ! فكذبهم الله تعالى بقوله : وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ !
فأي عاقل يعمم المدح لكل الصحابة في بدر ، إلا أن يكون جاهلاً أو في
قلبه مرض !

10 . وهل كانت بدر إلا لعلي ( عليه السلام ) ؟ !

قال في شرح النهج ( 4 / 58 ) : ( فأما عمر بن عبد العزيز فإنه قال : كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود ، فمر بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ، ونحن نلعن علياً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي ، فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني ، حتى أحسست منه بذلك ، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي ، فقلت له : ما بال الشيخ ؟ فقال لي : يا بنيَّ أنت اللاعن علياً منذ اليوم ؟ قلت : نعم ، قال : فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ! فقلت : يا أبت ، وهل كان علي من أهل بدر ! فقال : ويحك ! وهل كانت بدر كلها إلا له ! فقلت : لا أعود ، فقال : اللهَ إنك لاتعود ! قلت : نعم ، فلم ألعنه بعدها .
ثم كنت أحضرتحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة ، فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه ، حتى يأتي إلى لعن علي فيجمجم ، ويعرض له من الفهاهة والحصرما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوماً : يا أبت ، أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك ، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألكن عيِياً ! فقال : يا بني ، إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لوعلموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك ، لم يتبعنا منهم أحد ! فوقرت كلمته في صدري ، مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري ، فأعطيت الله عهداً لئن كان لي في هذا
--------------------------- 116 ---------------------------
الأمر نصيب لأغيرنه ، فلما من الله عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه :
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وكتب به إلى الآفاق فصار سنة . ومدحه الشعراء لذلك ، فقال كُثَيِّر عزة :
ولِيتَ فلم تشتمْ علياً ولم تُخفْ * بَرِيَاً ولم تقبل إساءة مجرم
وكفَّرتَ بالعفو الذنوب مع الذي * أتيت فأضحى راضياً كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه * من الأود البادي ثقاف المقوم
وقال الشريف الرضي من قصيدة :
يا ابن عبد العزيز لو بكت العي‍ * نُ فتى من أمية لبكيتكْ
غير أني أقول إنك قد طِبْتَ * وإن لم يَطبْ ولم يَزْكُ بيتُك
أنت نزهتنا عن السب والشت‍ * م فلو أمكن الجزا لجزيتُك
دير سمعان لا أغبك غيث * خير ميت من آل مروان ميتُك
فلوَ اني ملكتُ دفعاُ لما * نابك من طارق الردى لفديتك
( شرح النهج : 4 / 58 ، ومختصر أخبار شعراء الشيعة / 69 ، والحماسة / 150 )
* *

رمى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكف حصى في بدر وشاركت الملائكة في القتال

جاء في حديثهم عن هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( فأقبل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى قام على رؤسهم فأخذ قبضة من التراب فقال : شاهت الوجوه ، ثم حصبهم بها ، فما أصاب رجلاً من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافراً » . « مجمع الزوائد : 8 / 228 ، وصححه »
وجاء في حديث بدر : ( كان علي ( عليه السلام ) في المعركة قرب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : ناولني كفاً من حصى ، فرمى بها في وجوههم وقال لهم : شاهت الوجوه ! فلم يبق أحد منهم إلا ولى الدبر لذلك منهزماً » . « الدر النظيم / 152 وابن هشام : 2 / 458 » . فأنزل الله تعالى : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّه قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّه رَمَى وَلِيُبْليَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
--------------------------- 117 ---------------------------
ومعناه أن إصابة التراب والحصى لمن أصابته ، كانت عملاً محسوباً من الله تعالى . ولعلها علامة للملائكة ليقوموا بعمل ما .
وقال علي ( عليه السلام ) : « لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » ! رواه في مجمع الزوائد ( 9 / 12 ) وصححه . ولم يكن معه أبو بكر ، فأين كان !
وقد اعتذروا عن أبي‌بكر وعمر لأنهما لم يقاتلا في بدر ، بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استبقاهما معه في العريش ، ليستشيرهما في إدارة المعركة ! وجواب ذلك أنه لم يكن للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عريش في بدر ، وأنه قاتل قتالاً شديداً ، فأين كانا ؟
أما عمر فاعترف بأنه رأى العاص بن سعيد فهرب منه إلى الصفوف الخلفية ، قال : « فهبته وزُغت عنه ! فقال إلى أين يا ابن الخطاب » ! ( ابن هشام : 2 / 464 ) .
* *

علي ( عليه السلام ) حامل لواء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا والآخرة

قال السرخسي في المبسوط ( 1 / 73 ) : ( ولما كسرت إحدى زندي عليٍّ رضي الله تعالى عنه يوم حنين ، حتى سقط اللواء من يده ، قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إجعلوها في يساره ، فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة ) !
وروى الحاكم ( 3 / 111 ) قول ابن عباس : ( لعلي أربع خصال ليست لأحد ، هو أول عربي وأعجمي صلى مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو الذي كان لواؤه معه في كل مشهد وكل زحف ، والذي صبرمعه يوم المهراس ، وهو الذي غسله وأدخله قبره ) .
وروى الخوارزمي في المناقب / 358 : ( عن جابر بن سمرة قال : قيل يا رسول الله من يحمل رأيتك يوم القيامة ؟ قال : من عسى أن يحملها إلا من حملها في الدنيا ، علي بن أبي طالب ) .
وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( يا أم‌سلمة ، إسمعي واشهدي :
--------------------------- 118 ---------------------------
هذا علي بن أبي طالب ، وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة . يا أم‌سلمة ، إسمعي واشهدي ، هذا علي بن أبي طالب حامل لوائي في الدنيا ، وحامل لوائي غداً في القيامة ) .
( أمالي الصدوق / 464 ) .
وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : ( سألت ربي عز وجل أن يجعلك حامل لوائي وهو لواء الله الأكبر ، عليه مكتوب : المفلحون الفائزون بالجنة ، فأعطاني ) . ( الخصال / 314 ) .
وفي علل الشرائع ( 1 / 173 ) عن علي ( عليه السلام ) : ( قال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أول من يدخل الجنة ، فقلت يا رسول الله أدخلها قبلك ؟ قال : نعم أنت صاحب لوائي في الآخرة كما أنك صاحب لوائي في الدنيا ، وحامل اللواء هو المتقدم . ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي كأني بك وقد دخلت الجنة وبيدك لوائي ، وهو لواء الحمد ، تحته آدم فمن دونه ) .
وفي الصراط المستقيم ( 2 / 119 ) : ( أسند في مراصد العرفان إلى سلمان حين سأله : من الخليفة بعدك يا رسول الله ؟ قال : أدخل عليَّ أبا ذر والمقداد وأبا أيوب ، فقال : اشهدوا وافهموا أن علياً وصيي ووارثي وقاضي ديني وحامل لوائي ، وولده بعده ، ثم من ولد الحسين أئمة تسعة هداة إلى يوم القيامة ، أشكو إلى الله جحد أمتي له وأخذهم حقه ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ( سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أفضل الكلام قول لا إله إلا الله ، وأفضل الخلق أول من قال : لا إله إلا الله ، فقيل : يا رسول الله ومن أول من قال : لا إله إلا الله ؟ قال : أنا ، وأنا نور بين يدي الله جل جلاله أُوَحِّدُهُ وأسبحه وأكبِّره وأقدسه وأمجده ، ويتلوني نور شاهد مني ، فقيل يا رسول الله ومن الشاهد منك ؟ فقال : علي بن أبي طالب ، أخي وصفيي ، ووزيري وخليفتي ووصيي ، وإمام أمتي ، وصاحب حوضي ، وحامل لوائي ، فقيل له : يا رسول الله فمن يتلوه ؟ فقال : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، ثم الأئمة من ولد الحسين إلى يوم القيامة ) . ( كمال الدين / 669 ) .

منصب حامل لواء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

معنى حامل اللواء أو الراية : القائد العام للجيش ، فهو أمير يجب على كل من كان تحت رايته أن يطيعه . وقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حريصاً على أن يؤمر علياً ( عليه السلام ) على كل جيش أو سرية يكون فيها ، وأن لا يؤمر عليه غيره ، بل ورد أن تأميرغيره عليه ، أو
--------------------------- 119 ---------------------------
قبوله بذلك عليه حرام ، لأن الله أمره على الآخرين ، فالقبول بكونه مأموراً لغير الله ورسوله حرامٌ عليه .
قال أحمد بن همام كما في الإحتجاج ( 1 / 292 ) : ( أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي‌بكر ، فقلت : يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي‌بكر قبل أن يستخلف ؟ فقال : يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثونا ، فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي‌بكر كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحق بالنبوة من أبي جهل ! قال : وأزيدكم : إنا كنا ذات يوم عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء علي ( عليه السلام ) وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله ، فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ، ثم دخل علي على أثرهما ، فكأنما سُفِيَ على وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الرماد ! ثم قال : يا علي أيتقدمانك هذان وقد أمَّرك الله عليهما ! فقال أبو بكر : نسيت يا رسول الله ، وقال عمر : سهوت يا رسول الله ، فقال رسول : ما نسيتما ولا سهوتما ، وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحازبتما عليه ، وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله ! وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا ! ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها ، وذلك لأمر قد قضي !
ثم بكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى سالت دموعه ثم قال : يا علي الصبر الصبر حتى ينزل الأمر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك ، فإذا أمكنك الأمر فالسيف السيف ، القتل القتل ، حتى يفيئوا إلى أمر الله وأمر رسوله ، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل ، وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة ) .
ومعناه أنه يحرم على علي ( عليه السلام ) أن يقبل بأن يتقدم عليه أحد ، حتى في الدخول إلى مجلس ، لأن الله تعالى أمَّره فلا يكون مأموراً ، إلا مجبراً .
--------------------------- 120 ---------------------------

عدد الذين قتلهم علي ( عليه السلام ) في بدر

في شرح الأخبار ( 2 / 205 ) أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل علياً ( عليه السلام ) أيام هجرة المسلمين إلى الحبشة في مهمة ، فتأخر فذهبت خديجة ( عليها السلام ) تبحث عنه ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صنع به ، وقد أعطاني الله عز وجل فيه ثلاثاً في الدنيا ، وثلاثاً في الآخرة : لا أخاف معها عليه أن يموت ولا يقتل حتى يعطيني الله موعده إياي ، إلا أني أخاف عليه واحدة . قالت : يا رسول الله ، وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الدنيا ؟ وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الآخرة ، وما الواحدة التي تخشاها عليه ؟ قال : يا خديجة ، إن الله عز وجل أعطاني في علي لدنياي أنه يَقتل أربعة وثمانين مبارزاً قبل أن يموت أو يقتل ، وأنه يواري عورتي عند موتي ، وأنه يقضي ديني وعداتي من بعدي . وأعطاني في علي لآخرتي أنه صاحب مفتاحي يوم أفتح أبواب الجنة ، وأنه صاحب لوائي يوم القيامة ، وأنه صاحب حوضي ) .
أما الذين قتلهم ( عليه السلام ) في حملاته في حروب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم في حروبه ، فهم أضعاف ذلك . فقد قتل في بدر مبارزة وفي حملاته فيها نحو أربعين ، وفي أحد نحو ذلك ، وقتل في حرب الأحزاب عمرو بن ود وابنه وبضعة نفر ، وفي حرب بني قريظة عشرة ، وأسر في الحديبية نحو مائة ولم يقتلهم لحفظ حرمة البيت ، وطالب بهم سهيل بن عمرو فأطلقهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقتل ( عليه السلام ) في حنين نحو أربعين من أصحاب الرايات ، ونحو ستين من غيرهم ، وفي خيبر نحو ثلاثين ، وفي سراياه نحو ثلاثين . وقتل ( عليه السلام ) في حرب الجمل بضعة نفر مبارزة وعشرات في حملاته ، وقتل في حرب صفين المئات مبارزة وفي حملاته ، وفي النهروان مئات من الخوارج .
وقد اتفق الجميع على أنه ( عليه السلام ) مبارز لا نظير له في سرعة ملاحظته وسرعة عمله ، فكان ( عليه السلام ) ينظرالى من يبارزه فيعرف نقاط ضعفه ويعين مكان ضربته له . ومن خصوصياته التي لا يشركه فيها أحد : أن ضرباته كانت وتراً ، فلا تحتاج إلى ضربة ثانية ، وكان إذا علا قَدَّ وإن اعترض قَطّ ! كما كان ( عليه السلام ) قائداً مميزاً ، يتقدم جيشه ولا يحتمي به كبعض القادة الذين يكونون في وسط الجيش أو آخره . وكان يبرز ويقاتل أمامهم ، ولا يقعد ويقاتل
--------------------------- 121 ---------------------------
بغيره كخالد بن الوليد . ولايستمد قوته ومعنوياته من جيشه ، بل يعطي لجيشه ببطولته ويقينه قوة معنوية كبيرة . . إلى آخر صفاته القيادية المميزة ( عليه السلام ) .
وقد تميز ( عليه السلام ) بصرخته الحيدرية التي يرتعب منها الفرسان ، وبعضهم يولي هارباً ! فقد جاء في فتح اليمن : ( فقام خالد بن سعيد قال له : دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه ( يقصد عمرو بن معدي كرب ) فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك فوقف ، ثم برز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فصاح به صيحة ، فانهزم عمرو بن معدي كرب ) ! ( الإرشاد : 1 / 160 ) .
* *

أول ملف ظلامة في يوم المحشر ملف علي ( عليه السلام )

1 . علي هو المظلوم الأول في محكمة القيامة :

فقد روى الجميع أن أول محكمة تقام يوم القيامة ، تكون لمحاكمة خصوم علي ( عليه السلام ) والأخذ بحقه منهم ! ففي صحيح البخاري ( 5 / 6 ) : ( أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمان يوم القيامة ) ! وفي رواية الحاكم ( 2 / 386 ) : « يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة » .
وقال رواة السلطة إن خصومته تكون مع من قتلهم في بدر ! لكن مبارزة بدر انتهت بفوز أهل الحق ، وليس فيها ظلامة تحتاج إلى محكمة ، فضلاً عن أن تكون القضية الأولى في المحكمة الكبرى . فالقضية هنا محكمة مهمة بين يدي الرحمن عز وجل ، تأتي بعد مشهد القيامة الأول وهو العرض على الله تعالى ، وبعد المشهد الثاني وهو مرحلة التناصف بين العباد ، والمحاكمات هي المرحلة الثالثة يحكم فيها عند القضاة الذين ينصبهم الله تعالى . وطبيعي أن تكون القضايا الأولى المتعلقة بظلامات المجرمين للبشرية والأجيال ، شبيهاً بملفات أمن الدولة وجرائم الحرب . فشكاية علي ( عليه السلام ) إنما هي ظلم قريش لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) هو المرافع عنه ! وكم كان يشكو قريشاً ويعدهم بالمحاكمة والخصومة بين يدي الله تعالى ، فيقول : « اللهم إني أستعديك
--------------------------- 122 ---------------------------
على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبةُ بي والدائرةُ عليَّ . ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة ، لما عَبَدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدَّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً ! ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرَتْ بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سَمِجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا أنه حق لما كان كذا ! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها . . الخ ) . ( شرح النهج : 20 / 298 ) .
ويؤيد ما ذكرنا أن المفسرين اضطروا لأن يوسعوا معنى قوله تعالى : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ . . وقد أفلتت بعض روايات أهل‌البيت ( عليهم السلام ) عندهم كالذي رواه ابن سعد ( 5 / 94 ) والذهبي في سيره ( 4 / 116 ) عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : إنهما نحن وبنو أمية ! وبنو أمية هي قريش .
وهذا نفس ما رواه الصدوق ( الخصال / 43 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( نحن وبنو أمية ، اختصمنا في الله عز وجل ، قلنا صدق الله ، وقالوا : كذب الله . فنحن وإياهم الخصمان يوم القيامة ) .
ولا يعقل تفسير أن يكون ملف خصومة علي ( عليه السلام ) أول ملف على مستوى البشرية ، إلا بذلك . فهو مرافع عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخصمه قريش بالدرجة الأولى ، ثم الذين شاركوهم وقاوموه وظلموه ، ومنعوا نور دينه أن يعم العالم .

ذو الفقار جاء به جبرئيل ( عليه السلام ) يوم بدر

1 . نزل به جبرئيل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

ففي الكافي « 1 / 234 ، و : 8 / 267 ، وأمالي الصدوق / 364 » عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « سألته عن ذي الفقار سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أين هو ؟ قال : هبط به جبرئيل من السماء ، وكانت حليته من فضة ، وهو عندي » .
وفي الإحتجاج » 1 / 200 « أن علياً ( عليه السلام ) قال في احتجاجه على أعضاء شورى عمر : « نشدتكم بالله هل فيكم أحد نوديَ باسمه من السماء يوم بدر : لا سيف إلا ذو الفقار ،
--------------------------- 123 ---------------------------
ولا فتى إلا عليٌّ ، غيري ؟ قالوا : لا » .
وفي الفقيه للصدوق « 4 / 178 » : « كان له سيفان يقال لأحدهما ذو الفقار والآخر : العون ، وكان له سيفان آخران يقال لأحدهما : المخذم ، والآخر الرسوم » .
وفي تاريخ اليعقوبي « 2 / 88 « : « وكان رسم رايته العقاب ، وكانت سوداء على عمل الطيلسان ، وكان له سيف يقال له المخدام [ المخذم ] وسيف يقال له الرسوب ، وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار ، وقد روي أن جبريل ( عليه السلام ) نزل به من السماء ، فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبراً ، وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة ، وفيه حلقتان فضة ، ورمحه المثوي ، وحربته العنزة وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول : هكذا أخلاق السنن ، وقوسه الكتوم ، وكنانته الكافور ، ونبله المتصلة ، وترسه الزلوق ، ومغفره السبوغ ، ودرعه ذات الفضول ، وفيها زردتان زائدتان ، وفرسه السكب ، وفرس آخر المرتجز ، وفرس آخر السجل ، وفرس آخر البحر » .

2 . سُمِّيَ ذو الفقار لفقراته ، ولأنه يفقر من ضرب به :

في علل الشرائع « 1 / 160 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنما سمي سيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذا الفقار ، لأنه كان في وسطه خط في طوله ، فشبه بفقار الظهر ، فسميَ ذا الفقار بذلك ، وكان سيفاً نزل به جبرئيل ( عليه السلام ) من السماء ، وكانت حلقته فضة ، وهو الذي نادى به مناد من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي » .
وروي أنه سمي ذا الفقار ، لأنه ما ضرب به أحدٌ إلا افتقر في الدنيا والآخرة ، وهو معنى منتزع من اسمه . وفي المناقب » 3 / 81 « : » زعم الأصمعي أنه كان فيه ثماني عشرة فقرة . كان طوله سبعة أشبار ، وعرضه شبر ، وفي وسطه كالفقار . قال ابن حماد :
فأنزل الله ذا الفقار له * مع جبرئيل الأمين منتجبا
وقيل إن النبي ناوله * جريدة رطبة لها اجتلبا
فانقلبت ذا الفقار في يده * كرامة من إلهه وحبا
سيف يكون الإله طابعه * فكيف ينبو وأن يقال نبا
--------------------------- 124 ---------------------------
وقال الزاهي :
من هزم الجيش يوم خيبره * وهز باب القموص واقتلعه
من هز سيف الإله بينكم * سيف من النور ذو العلى طبعه
أبو عبد الله ( عليه السلام ) : نظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي .
القاضي أبو بكر الجعاني بإسناده عن الصادق ( عليه السلام ) : نادى ملك من السماء يوم أحد يقال له رضوان : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي .
ومثله في إرشاد المفيد ، وأمالي الطوسي عن عكرمة وأبي رافع . وقد رواه السمعاني في فضائل الصحابة ، وابن بطة في الإبانة ، إلا انهما قالا : يوم بدر . قال أحمد بن علوية :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا أبو حسن فتى الفتيان
قال النبي أما علمت بأنه * مني ومنه أنا وقد أبلاني
جبريل قال له وإني منكما * فمضى بفضل خلاصة الخلان
وقال أبو مقاتل بن الداعي العلوي :
ومن مشى جبريل مع ميكاله * عن جانبيه في الحروب إذ مشى
ومن ينادي جبرئيل معلناً * والحرب قد قامت على ساق الردى
لا سيف إلا ذو الفقار فاعلموا * ولا فتى إلا علي في الورى
وقال الزاهي :
لا فتى في الحروب غير علي * لا ولا صارم سوى ذي الفقار
وقال العوني :
من صاح جبريل بالصوت العلي به * دون الخلائق عند الجحفل اللجب
فخرًا ولا سيف إلا ذو الفقار ولا * غير الوصي فتى في هفوة الكرب
وقال منصور الفقيه :
من قال جبرئيل والأرماح شارعة * والبيض لامعة والحرب تشتعل
لا سيف يذكر إلا ذو الفقار ولا * غير الوصي إمام أيها الملل
--------------------------- 125 ---------------------------
وقال آخر :
جبريل نادى في الوغى * والنقع ليس بمنجل
والمسلمون بأسرهم * حول النبي المرسل
والخيل تعثر بالجما * جم والوشيح الذيل
هذا النداء لمن له * الزهراء ربة منزل
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
وقال غيره :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا علي للطغاة طعون
ذاك الوصي فما له من مشبه * فضلاً ولا في العالمين قرين
ذاك الوصي وصي أحمد في الورى * عف الضماير للإله أمين
وقال آخر :
من كان يمدح ذا ندى لنواله * فالمدح مني للنبي وآلهِ
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا علي في أوان قتالهِ
نادى النبي له بأعلى صوته * يا رب من والى علياً والهِ » .
3 . أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى : في معاني الأخبار للصدوق / 119 :
« إن أعرابياً أتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج إليه في رداء ممشق فقال : يا محمد لقد خرجت إليَّ كأنك فتى . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم يا أعرابي أنا الفتى ، ابن الفتى ، أخو الفتى . فقال : يا محمد ، أما الفتى فنعم ، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى ؟ فقال : أما سمعت الله عز وجل يقول : قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، فأنا ابن إبراهيم ، وأما أخو الفتى فإن منادياً نادى في السماء يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، فعليٌّ أخي وأنا أخوه » .
4 . ما ضربت به أحداً إلا ودخل النار ! كتب علي ( عليه السلام ) إلى والٍ خانَ بيت المال :
« فسبحان الله ، أما تؤمن بالمعاد ؟ أو ما تخاف نقاش الحساب ؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب ! كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً
--------------------------- 126 ---------------------------
وتشرب حراماً ؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين ، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد . فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك ، لأعذرن إلى الله فيك ، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار » ! « نهج البلاغة : 3 / 62 » .
5 . كان يَعْوَجُّ فيقومه علي ( عليه السلام ) بركبته : في شرح النهج « 2 / 282 » في حربه ( عليه السلام ) للخوارج :
« التفت إلى أصحابه فقال لهم : شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم . وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات ! كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ، ثم يخرج فيسويه بركبتيه ، ثم يحمل به » .
6 . انكسر سيفه يوم أحد فأعطاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذا الفقار : في علل الشرائع « 1 / 7 »
عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال في أحُد : « وكان علي ( عليه السلام ) كلما حملت طائفة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استقبلهم وردهم ، حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه ، فجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه سيفه ذا الفقار ، فما زال يدفع به عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى أثر وانكسر ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) وقال : يا محمد إن هذه لهي المواساة من علي لك ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما . وسمعوا دوياً من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي » .
في الخرائج ( 1 / 148 ) : « قال علي ( عليه السلام ) : » انقطع سيفي يوم أحد فرجعت إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقلت : إن المرء يقاتل بسيفه ، وقد انقطع سيفي ، فنظر إلى جريدة نخل عتيقة يابسة مطروحة فأخذها بيده ، ثم هزها فصارت سيفه ذا الفقار فناولنيه ، فما ضربت به أحداً إلا وقدَّهُ بنصفين » .
أقول : يظهر من هذا أن سرَّ ذي الفقار من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنه كان له ، وقد أعطاه لعلي ( عليه السلام ) في المعركة ، ولما انكسر عوض الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن أمره أن يهز جريدة النخل اليابسة ، فكانت ذا الفقار بخصائصه . كما روي أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعطاه لعلي ( عليه السلام ) لما برز إلى عمرو بن ود ، بعد أحُد بسنتين .
--------------------------- 127 ---------------------------
وفي المناقب » 3 / 81 « : « وقد روى كافة أصحابنا أن المراد بهذه الآية : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ ، ذو الفقار أنزل به من السماء على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعطاه علياً . وسئل الرضا ( عليه السلام ) من أين هو ؟ فقال : هبط به جبرئيل من السماء ، وكان حلية من فضة وهو عندي . وقيل : أمر جبرئيل أن يتخذ من صنم حديد في اليمن ، فذهب علي وكسره واتخذ منه سيفين : مخذم ، وذا الفقار ، وطبعهما عمير الصيقل ، وقيل : صار إليه يوم بدر أخذه من العاص بن منبه السهمي وقد قتله ، وقيل : كان من هدايا بلقيس إلى سُلَيْمان ، وقيل : أخذه من منبه بن الحجاج السهمي في غزاة بني المصطلق بعد أن قتله . وقيل : كان سعف نخل نفث فيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصار سيفاً . وقيل : صار إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم بدر فأعطاه علياً ( عليه السلام ) ، ثم كان مع الحسن ، ثم مع الحسين ، إلى أن بلغ المهدي ( عليه السلام ) » .
وهذا يدل على أن ذا الفقار نزل من السماء ، ولكنه كان قابلاً للكسركأي سيف ، فانكسر بيد علي ( عليه السلام ) مرات ، وعوضه الله بسعفة نخل صارت بيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذا الفقار بخصوصياته . وفي إحداها أمر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يصنعه من حديد هو قاعدة صنم في اليمن ، ولعل أصل ذلك الحديد من سليمان ( عليه السلام ) ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بإعجاز إلى اليمن وأتى به ، وأعطاه للحداد فصنع منه ذا الفقار .
ففي بصائر الدرجات / 206 : « عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : جاء جبرئيل إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال يا محمد ، إن باليمن صنماً من حجارة ، له مقعد من حديد ، فابعث إليه حتى يجاء به ، قال فبعثني النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى اليمن فجئت بالحديد ، فدفعته إلى عمر الصيقل ، فضرب عنه سيفين ذا الفقار ومُخَذَّماً فتقلد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مخذماً وقلدني ذا الفقار ، ثم إنه صار إليَّ بعدُ مخذم » .
أقول : ظاهر قوله تعالى : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ ، أن الحديد نازل من السماء ، وقيل إن الحديد غبار من كواكب أخرى . وقد ورد أن للمهدي ( عليه السلام ) أنصاراً من كواكب أخرى لهم سيوف من حديد غير هذا الحديد ( بصائر الدرجات / 512 ) فيبدو أن حديد ذي الفقار يختلف عن الحديد العادي !
--------------------------- 128 ---------------------------
وقد روى في كشف الغمة ( 1 / 254 ) : ( إن ضرباته ( عليه السلام ) كانت على وتيرة واحدة ، إن ضرب طولاً قدَّ ، أو عرضاً قطَّ ! وكانت كأنها مكواة بالنار ) !
وبعضهم لا يقبل روايات كسر ذي الفقار ولا أنه من حديد الأرض .
7 . قَاتَلَ الحسينُ ( عليه السلام ) بذي الفقار يوم عاشوراء :
في أمالي الصدوق / 222 : « ثم وثب الحسين ( عليه السلام ) متوكئاً على سيفه ، فنادى بأعلى صوته ، فقال : أنشدكم الله ، هل تعرفوني ؟ قالوا : نعم ، أنت ابن رسول الله وسبطه . . قال : فأنشدكم الله ، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنا متقلده ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : فأنشدكم الله ، هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا لابسها ؟ قالوا : اللهم نعم . . قال : فبم تستحلون دمي ، وأبي الذائد عن الحوض غداً ، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعيرالصادي عن الماء ، ولواء الحمد في يدي جدي يوم القيامة ؟ قالوا : قد علمنا ذلك كله ، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً ! فأخذ الحسين ( عليه السلام ) بطرف لحيته ، وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة ، ثم قال : اشتد غضب الله على قوم قتلوا نبيهم ، واشتد غضب الله على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم » .

8 . ذو الفقار في مواريث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

في الكافي « 1 / 236 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : » لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تباري الريح ، قال : فأطرق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هنيئة ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح . قال : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثم قال : يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي . قال العباس : فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال : تختم بهذا في حياتي ، قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من
--------------------------- 129 ---------------------------
جميع ما ترك الخاتم . ثم صاح : يا بلال عليَّ بالمغفر ، والدرع ، والراية ، والقميص ، وذي الفقار ، والسحاب ، والبرد ، والأبرقة ، والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك - يعني الأبرقة - فجيئ بشقة كادت تخطف الأبصار ، فإذا هي من أبرق الجنة فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها ، وقال : يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة . ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميصين القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر ، وقلنسوة العيدين والجمع ، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه . ثم قال : يا بلال علي بالبغلتين : الشهباء والدلدل ، والناقتين : العضباء والقصوى ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحيزوم ، وهو الذي كان يقول أقدم حيزوم ، والحمار عفير ، فقال : أقبضها في حياتي . فذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أول شئ من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قطع خطامه ثم مر يركض ، حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها ، فكانت قبره « .

9 . ذو الفقار من علامات الإمام ( عليه السلام ) :

في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) « 1 / 192 » قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : » للإمام علامات : يكون أعلم الناس وأحكم الناس وأتقى الناس وأحلم الناس وأشجع الناس وأسخى الناس وأعبدالناس . . ويكون عنده سلاح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسيفه ذو الفقار » .
10 . طلبه المسور بن مخرمة من الإمام زين العابدين ( عليه السلام )
ففي مسند أحمد « 4 / 226 » والبخاري « 4 / 47 » : « ابن شهاب أن علي بن حسين حدثه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية ، مقتلَ حسين بن علي رحمة الله عليه ، لقيه المسور بن مخرمة فقال له : هل لك إلى من حاجة تأمرني بها ؟ فقلت له : لا ، فقال : فهل أنت معطي سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه . وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليهم أبداً حتى تبلغ نفسي » . وفي فتح
--------------------------- 130 ---------------------------
الباري « 6 / 149 » : « والذي يظهرأن المراد بالسيف المذكور ذو الفقار الذي تنفله يوم بدر ، ورأى فيه الرؤيا يوم أحد « .
وذكر ابن حجر وغيره أن غرض المسور حفظ السيف له إكراماً لجدته فاطمة ( عليها السلام ) .
11 . وقالوا إنه كان سيف منبه بن الحجاج :
قال البلاذري في أنساب الأشراف « 1 / 145 » : « وأما نبيه فقتله علي بن أبي طالب . وقتل أيضاً العاص بن منبه ، وكان صاحب ذي الفقار ، سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذلك الثبت . وبعضهم يقول : إنه كان سيف منبه » .
وقال الواقدي في المغازي « 1 / 103 » : « عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : تنفل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفه ذا الفقار يومئذٍ ، وكان لمنبه بن الحجاج » .
وقال الطبري « 2 / 172 » : « وفي غزوة بدر انتقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفه ذا الفقار وكان لمنبه بن الحجاج . وفيها غنم جمل أبي جهل ، وكان مهرياً يغزو عليه » .
وقد وضعوا هذه الروايات ليسلبوا علياً ( عليه السلام ) فضيلة نزول ذي الفقار من السماء .

12 . وادعاه العباسيون والحسنيون ( عليه السلام ) :

في عمدة القاري « 15 / » : « ولم يزل ذو الفقار عنده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى وهبه لعلي رضي الله تعالى عنه قبل موته ثم انتقل إلى آله . وكانت له عشرة أسياف منها : ذو الفقار ،
تنفله يوم بدر » .
وفي الطبري « 6 / 219 » : « الأصمعي قال : رأيت الرشيد أمير المؤمنين بطوس متقلداً سيفاً فقال لي : يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار ؟ قلت بلى جعلني الله فداك ، قال : استل سيفي هذا ، فاستللته فرأيت فيه ثمان عشرة فقارة » .
وفي وفيات الأعيان « 6 / 330 » : « كان سبب وصوله إلى هارون الرشيد فيما ذكره أبو جعفر الطبري بإسناد متصل إلى عمر بن المتوكل عن أمه ، وكانت أمه تخدم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قالت : كان ذو الفقار مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم قتل في محاربته
--------------------------- 131 ---------------------------
لجيش أبي جعفر المنصور العباسي والواقعة مشهورة ، فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه وكان له عليه أربع مائة دينار وقال له : خذ هذا السيف فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه منك
وأعطاك حقك » .
وفي الكافي « 1 / 233 » : قيل للإمام الصادق ( عليه السلام ) إن شخصين يزعمان أن عبد الله بن الحسن عنده سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقال : « والله ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه ، ولا رآه أبوه ، اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين ، فإن كانا صادقين فما علامة في مقبضة ، وما أثر في موضع مضربه ! وإن عندي لسيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإن عندي لراية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودرعه ولأمته ومغفره ، فإن كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ وإن عندي لراية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المغلبة ، وإن عندي ألواح موسى وعصاه ، وإن عندي لخاتم سُلَيْمان بن داود ، وإن عندي الطست الذي كان موسى يقرب به القربان ، وإن عندي الاسم الذي كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة . وإن عندي لمِثْل التابوت الذي جاءت به الملائكة . ومَثَلُ السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل ، في أي أهل بيت وجد التابوت على أبوابهم أوتوا النبوة ، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة ، ولقد لبس أبي درع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطت على الأرض خطيطاً ولبستها أنا فكانت وكانت ، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله » .
وصححه المجلسي الأول في روضة المتقين « 12 / 243 » وقال : « وفي البصائر في الموثق كالصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لبس أبي درع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذات الفضول فخطت ، ولبستها أنا ففضلت » . إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة .

وفي بصائر الدرجات / 205 : « أتاني إسحاق بن جعفر فعظم عليّ بالحق والحرمة السيف الذي أخذه هو سيف رسول الله . فقلت : لا ، كيف يكون هذا وقد قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل حيثما دار دار الأمر » .

--------------------------- 132 ---------------------------
13 . لماذا قدم جبرئيل ( عليه السلام ) ذا الفقار على اسم علي ( عليه السلام ) ؟
سبب ذلك أن ذا الفقار يعني قدرة الله تعالى المعطاة لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه ( عليه السلام ) ، فيكون المعنى : لا قدرة إلا قدرة الله تعالى ، ولا فتى إلا علي ( عليه السلام ) .
* *

شرَّع الله الخمس لبني هاشم فحرمتهم منه قريش !

شرع الله الخمس لبني هاشم قبل بدر ، وعين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صحابياً مسؤول الأخماس ، ثم أنزل الله آية الخمس يوم بدر وربطه بالإيمان بالوحي : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَاأَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . يقول لهم عز وجل : أيها المختلفون على الغنائم ، المتهمون لنبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه غلَّ وسرق منها ! إنكم مدينون بوجودكم وانتصاركم لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرابته ، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بما عاينتم ! ألا ترون أن الملائكة وبني هاشم هم الذين حققوا لكم النصر ، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة ؟ !
وقد سمى الله معركة بدر يوم الفرقان : لأنها فرقانٌ بين باطل قريش وحقانية الإسلام ، وفرقانٌ بين الهدى الإلهي والضلال البشري ، وفرقانٌ في تكوين شيعة العترة بين من يتولاهم ومن يعاديهم أو يعرض عنهم . فالفرقان في السورة بثلاث معان : فرقان الأمة وتمييزها عن غيرها . وفرقان البصيرة للمؤمن بين الحق والباطل : إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا . « الفرقان : 29 » . وفرقان الموالين للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أهل بيته ( عليهم السلام ) من الأمة كما نص في آية الخمس .
وفي تحف العقول / 341 : « فلما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة أنزل الله عليه : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيئٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى . . » . وفي الكافي « 8 / 63 » : « فنحن والله عنى بذي القربى الذين قرننا الله بنفسه وبرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
قال البيضاوي ( 3 / 109 ) : « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ : متعلق بمحذوف دل عليه : وَاعْلَمُوا . أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء ، فسلموه إليهم » .
--------------------------- 133 ---------------------------
وفي كتاب سُلَيْم بن قيس / 228 : « قال سُلَيْم : ثم أقبل « علي ( عليه السلام ) » على العباس وعلى من حوله ثم قال : ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن ؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا فقال : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ » .
وفي سنن النسائي ( 7 / 129 ) أن ابن عباس أجاب نجدة رئيس الخوارج : ( كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو ؟ وهو لنا أهل‌البيت ، وقد كان عمر دعانا إلى أن يُنكح منه أيِّمنا ، ويخدم منه عائلنا ، ويقضي منه عن غارمنا ، فأبينا إلا أن يُسلمه لنا ، وأبى ذلك فتركناه عليه ) . وفي رواية أن عمر قال : هذا كثير ننظر فيه !
وقال ابن قدامة في المغني ( 2 / 519 ) : « لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة ، وقد قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنما هي أوساخ الناس . أخرجه مسلم .
وعن أبي هريرة قال : أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كخ كخ ، ليطرحها وقال : أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ! متفق عليه . قال : ولا لمواليهم : يعني أن موالي بني هاشم ، وهم من أعتقهم هاشمي لايُعْطَوْنَ من الزكاة .
( فتاوى اللجنة الدائمة الوهابية . جمع الدويش : 10 / 69 ) .
وهذا التكريم من الله تعالى لعترة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعشيرته بني هاشم . لا يشمل نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلا حق لهن في الخمس لأنهن لا تحرم عليهن الصدقة !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 3 / 281 ) : ( ولا يحرم عليهن الصدقة قولاً واحداً ) .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 4 / 243 ) : « عن أم عطية قالت : بعث إليَّ رسول الله بشاة من الصدقة ، فبعثت إلى عائشة منها بشئ ، فلما جاء رسول الله قال : هل عندكم من شئ ؟ فقالت : لا ، إلا أن نسيبة بعثت إلينا من الشاة التي بعثتم بها إليها ، فقال : إنها قد بلغت محلها ! متفق عليه . . وذكر ابن المنير أنها لا تحرم الصدقة على الأزواج ، قولا واحداً » .
وقال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 540 ) : « وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة
--------------------------- 134 ---------------------------
لهم ، دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم ، عوضاً لهم من صدقات الناس ، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكرامةً من الله لهم عن أوساخ الناس ، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة . ولا بأس بصدقات بعضهم على بعض . وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس ، هم قرابة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذين ذكرهم الله فقال : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وهم بنو عبد المطلب الذكر منهم والأنثى ، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ، ولا من العرب أحد ، ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم » .
وقد حبست الحكومات الخمس عن بني هاشم ، ففي جامع أحاديث الشيعة ( 8 / 622 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما وليَ أبو بكر قال له عمر : إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ، فامنع عن علي الخمس والفئ وفدكاً ، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا علياً رغبة في الدنيا ) .
وقال السيوطي في الدر المنثور ( 3 / 186 ) : ( وأخرج ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : سألت علياً رضي الله عنه فقلت : يا أمير المؤمنين أخبرني كيف كان صنعُ أبي‌بكر وعمر رضي الله عنهما في الخمس نصيبكم ؟ فقال : أما أبو بكر رضي الله عنه فلم تكن في ولايته أخماس ، وأما عمر رضي الله عنه فلم يزل يدفعه إليَّ في كل خمس ، حتى كان خمس السوس وجند نيسابور فقال وأنا عنده : هذا نصيبكم أهل‌البيت من الخمس ، وقد أحل ببعض المسلمين واشتدت حاجتهم . فقلت : نعم . فوثب العباس بن عبد المطلب فقال : لاتعرض في الذي لنا . فقلت : ألسنا أحق من أرفق المسلمين ، وشفع أمير المؤمنين ، فقبضه . فوالله ما قبضناه ، ولا قدرت عليه في ولاية عثمان ) .

قتلى بدر « هولوكست » قريش !

1 . كانت معركة بدر ضربة قاصمة لقريش :

فقد قتل سبعون من فرسانها وقادتها ، ثم كانت إذلالاً لها بأسرسبعين منهم . وكان أول عمل قامت به بعد بدر ، جمعها المال لحرب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وقد عقدنا في السيرة النبوية فصلاً لثأرها لقتلى بدر !
--------------------------- 135 ---------------------------
قال اليعقوبي ( 2 / 47 ) : ( اجتمعت قريش واستعدت لطلب ثأرها يوم بدر واستعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان وقالوا : لاتنفقوا منه شيئاً إلا في حرب محمد ) .
وفي السيرة الحلبية ( 2 / 446 ) : ( ناحت قريش على قتلاهم شهراً ، وجزَّ النساء شعورهن ، وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتُستر بالستور ، ويَنُحْنَ حولها ويخرجن إلى الأزقة ، ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه ، فيشمتوا بكم ، ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم ، وتواصوا على ذلك ) !
وقال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ( 1 / 110 ) : « فلما غزوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم أحد ، أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح ) .
2 . وقد أقاموا عليهم أكبر مناحة !
فلا تجد معركة أعمق تأثيراً في التاريخ من بدر ! وما زالت نتائجها ممتدةً في حياتنا إلى اليوم ! وما زال اليهود يبتزون العالم باسم الهولوكست ، لكن قريشاً فاقتهم ، وكان أول ابتزازها أن سيطرت على دولة النبي وعزلت عترته ، لأنهم مسؤولون عن بدر !
قال عثمان لعلي ( عليه السلام ) : « ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم ، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين ، كأن وجوههم شنوف الذهب ، تشرب أنوفهم قبل شفاههم » !
أي وجوههم كأقراط الذهب وأنوفهم طويلة جميلة . « نثر الدرر / 259 ،
وابن حمدون / 1567 » .
فدماء هؤلاء العتاة المشركين في أعناق بني هاشم ، وعلى قريش أن تأخذ الخلافة ثأراً لهم ، ولو أخذها بنو هاشم فعلى قريش تأليب العرب عليهم ، حتى لو وصل ذلك إلى إعلان الردة عن الإسلام !
قال العلامة الحلي ( قدس سره ) في كشف اليقين / 470 : « وروى أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد بسنده عن ابن عباس ، قال : دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني للأكل فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرٍّ كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، ثم قال :
--------------------------- 136 ---------------------------
من أين جئت يا عبد الله ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر فقلت : خلفته يلعب مع أترابه . قال لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل‌البيت . قلت : خلفته يمتح بالغرب ( يسقي بالدلو ) على نخلات له وهو يقرأ القرآن فقال : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، أبقيَ في نفسه شئ من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أيزعم أن رسول الله جعلها له ؟ قلت : نعم وأزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ [ غلو ] من قول لا يُثبت حجة ولا يقطع عذراً ، وقد كان يربع في أمره وقتاً ما . ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لاورب هذه البينة لا تجتمع عليه قريش أبداً ! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ! فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم !
أشار بذلك إلى اليوم الذي قال فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إئتوني بدواة وكتف ، فقال عمر : إن الرجل ليهجر » !
ومعنى انتقضت عليه العرب : أي قريش ! ومعنى انتقضت عليه : نقضناها عليه !
3 . وقد بلغت وقاحة قريش : أن هند بنت عتبة واجهت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه قتل أبناءها ! فقد جاءت مع نساء مكة ليبايعنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد فتح مكة فبايعهن على الآية وقرأ عليها : وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( فقالت هند : أما الولد فقد ربيناهم صغاراً ، وقتلتهم كباراً ) . ( الكافي : 5 / 527 ) ! وفي رواية ابن سعد : ( 8 / 189 ) : ( قالت : وهل تركت لنا ولداً إلا
قتلته يوم بدر ) !
4 . وبلغ تأثير قريش حتى على أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فلما رأت زوجته سودة بنت زمعة سهيل بن عمر أسيراً في المدينة ، قالت ( ابن هشام : 2 / 472 ) : ( فرجعتُ إلى بيتي ورسول الله فيه ، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ، مجموعةٌ يداه إلى عنقه بحبل . قالت : فلا والله
--------------------------- 137 ---------------------------
ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت : أي أبا يزيد ، أعطيتم بأيدكم ألا مِتُّم كراماً ! فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله : من البيت : يا سودة ، أعلى الله ورسوله تحرضين ؟ قالت قلت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ، أن قلت ما قلت ) !
أي قالت له : أنتم عظماء قريش ، فكيف سمحتم لمحمد أن يأسركم ؟ !
5 . وحدَّثَ عمر عن نفسه بأنه زاغ يوم بدر عن العاص بن أبي أحيحة وهابه لم يقاتله ! قال لابنه سعيد بن العاص : « مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه ، فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه ، فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له علي فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله !
فقال له علي : اللهم غفراً ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم ، فما لك تهيِّج الناس عليَّ ؟ فكفَّ عمر . وقال سعيد : أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب » . ( ابن هشام : 2 / 464 ) .
6 . ولذلك قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : « فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنها ضغائن في صدور قوم ، أحقاد بدر وتِراتُ أحد ! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه : إن ضلوا ثم وجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، فإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ، ولا يفرق بينهم . فافعل أنت كذلك ، إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك » . « كتاب سُلَيْم / 305 » .
وقال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 21 ) : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
ما تركت بدرٌ لنا مَذيقا [ صديقا ] * ولا لنا من خلفنا طريقا -
وسئل زين العابدين ( عليه السلام ) : لم أبغضت قريش علياً ( عليه السلام ) ؟ قال : لأنه أورد أولهم النار ، وقلد آخرهم العار ) .
7 . وقال علي ( عليه السلام ) ( المناقب : 1 / 382 ) : ( اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم ظلموني في الحجر والمدر . وقال على : ما زلت مظلوماً منذ قبض الله نبيه إلى يومي هذا . وبينما هو يخطب وأعرابي يقول وا مظلمتاه ، فقال ( عليه السلام ) : أدن ، فدنا فقال : لقد ظلمتُ عدد المدر والمطر والوبر ، وما لا يحصى ) .
--------------------------- 138 ---------------------------

وقال ( عليه السلام ) ( شرح النهج : 4 / 108 ) : ( ما رأيت منذ بعث الله محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رخاء ، لقد أخافتني قريش صغيراً ، وأنصبتني كبيراً ، حتى قبض الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكانت الطامة الكبرى ، والله المستعان على ما تصفون ) .

8 . وقد اعترف ابن أبي الحديد : وهو سني معتزلي ، متعصب لأبي‌بكر وعمر ، أن خلافة قريش قامت على الثأر من بني هاشم لقتلى بدر وأحُد ، وقال إن بغض القرشيين للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) وبني هاشم طبيعي حتى بعد أن أسلموا !
قال في شرح النهج « 13 / 299 » : « ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له « علي » وانحرافها عنه ، فإنه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ! ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم ! وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهده اليوم عياناً ، والناس كالناس الأُوَل ، والطبائع واحدة ! فاحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم ، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ، ثم أسلمت ، أكان إسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ؟ كلا ، إن ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة ، لا كإسلام كثير من العرب ! فبعضهم أسلم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه !
واعلم أن كل دم أراقه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسيف علي ( عليه السلام ) وبسيف غيره ، فإن العرب بعد وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب وحده ، لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده ! وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته ، طالبت بها أمثل الناس من أهله ! لمَّا قَتَلَ قومٌ من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرِّض عَمْرواً عليهم :
من مُبْلغٌ عَمْراً بأن المَرْ * ءلم يُخلق صَبارهْ
فاقتل زرارة لا أرى * في القوم أمثلَ من زرارهْ !
--------------------------- 139 ---------------------------
فأمره أن يقتل زرارة رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخ الملك ، ولاحاضراً قتله » !
أقول : خاطب الشاعر الملك هند بن عمرو ملك الحيرة ، بأن الإنسان لم يخلق صَبَارة ، أي حجراً ، بل له إحساسات ومنها غريزة الثأر ، فيجب عليك أن تأخذ ثأرك من
بني تميم الذين قتل أحدهم أخاك حتى لو كان قتل خطأ ، وكان رئيس هم زرارة بن عدس غائباً عن القتل ، لكنه أنسب شخصية لتقتله بثأرك . فأطاع الملك الشاعر وهاجم بني تميم وقتل رئيسهم زرارة ، وقتل معه أكثر من مئتين وبقر بطون نسائهم وأحرقهم ! فالقاعدة عند القبائل أن الثأر لا ينسى بحال من الأحوال والأزمان !
وقريش لها ثأر عند محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعظمه ثأرها في بدر وأحُد ، ولا يجوز أن تنساه حتى لو أسلمت وأخذت دولته ! وهذا اعتراف جرئ من ابن أبي الحديد ، بأن بطون قريش عصبت دماء قتلاها بعلي ( عليه السلام ) ، وأن خلافتها قامت على الثأر من بني هاشم ! أما وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعترته وجعلهم كالقرآن ، فلا يصح أن تسمعه قريش ! بل يجب أن تسمع لصوت الثأر ، وأن تأخذ منهم دولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعزلهم .
وعلى المنصف أن يفهم النتيجة السلبية الضخمة لذلك ، على الإسلام كله .
9 . وقد نظم شعراء قريش قصائد كثيرة : في رثاء قتلى بدر ونشروها ، خاصة شعر ابن الزِّبَعْرَى ، وضرار بن الخطاب ، والحاخام كعب بن الأشرف ، وكلها هجاء للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأنصار ومدح لمشركي قريش ، فكان شعر قتلى بدر يُقرأ في المجالس ، وصار ثقافة لمجالس الخمر ، حتى تأثر به الصحابة !
واشتهرت قصيدة عبد الله بن الزبعرَى السهمي في أحُد « ابن هشام : 2 / 541 » :
يا غراب البين أسمعت فقلْ * إنما تنطق شيئاً قد فعلْ
أبلغن حسان عني آية * فقريض الشعر يشفى ذا الغلل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
فسل المهراس عن ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
--------------------------- 140 ---------------------------
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
بسيوف الهند تعلو هامهم * عَلَلاً تعلوهم يعد نهل
وقال أياس بن زنيم يحرض مشركي قريش على قتل علي ( عليه السلام ) :
في كل مجمع غاية أخزاكم * جذعٌ أبرُّ على المذاكي القرَّح
لله دركمُ ألمَّا تنكروا * قد ينكر الحرُّ الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم * ذبحاً وقتلاً قعصةً لم يذبح
أين الكهول وأين كل دعامة * في المعضلات وأين زين الأبطح
أفناهم قعصاً وضرباً يفتري * بالسيف يعمل حده لم يصفح
أعطوه خرجاً واتقوا بمصيبة * فعل الذليل وبيعة لم تربحِ »
« الإصابة : 1 / 231 ، وأنساب الأشراف / 188 ، وتاريخ دمشق : 42 / 8 » .
10 . وشرب الشيخان القرشيان وناحا على قتلى بدر ! لأن مجالس الخمر حتى في المدينة كان يقرأ فيها شعر النياحة على قتلى بدر ! ومنها مجلسٌ ضم أحد عشرصحابياً فيهم الشيخان أبو بكر وعمر ، شربوا وغنوا بالنوح على قتلى بدر ! فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيده سعفة أو مكنسة يريد أن يضربهم ، فقالوا تُبنا تُبنا !
وتتفاجأ بأن هذا الحديث صحيح عندهم ، فقد رواه تمام الرازي المتوفى 414 ، في كتابه الفوائد : 2 / 228 ، برقم : 1593 ، وفي طبعة : 3 / 481 ، بسند صحيح عن عوف ، عن أبي القموص قال : « شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم فأخذت فيه ، فأنشأ يقول :
تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ * وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني أصطبح يا بكر أني * رأيت الموت نقَّبَ عن هشام
فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ * بألف من رجال أو سوام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من القينات والخيل الكرام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من الشيزى تُكلل بالسنام
فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه ، فلما نظر إليه قال : أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله ، والله لا يلج لي رأساً أبداً ! فذهب عن
--------------------------- 141 ---------------------------
رسول الله ما كان فيه ، وخرج ونزل عليه : فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون ؟ فقال عمر : انتهينا والله » . ورواه الثعلبي في تفسيره « 2 / 142 » دون أن يسميهما قال : « وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم ، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة ، ويشربونها في غير حين الصلاة ، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول . . . فبلغ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه ، ورفع شيئاً كان بيده « سعفة » ليضربه ، فلما عاينه الرجل قال : أعوذ بالله من غضب الله
وغضب رسول الله ، والله لا أطعمها أبداً » .
ولم يذهب غضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لكنه اضطر إلى السكوت ، حتى لا ترتد قريش !
وقد رواها ابن هشام « 2 / 549 » وفيها أبيات في إنكارالآخرة قال :
« يخبرنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ » !
ورواها ابن حجر في الإصابة « 7 / 39 » عن الفاكهي في كتاب مكة وفيه : « شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول : فذكر الأبيات . فبلغ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبي‌بكر ، فلما نظر إلى وجهه محمراً ، قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله ! والله لا يلج لنا رأسا أبداً ! فكان أول من حرمها على نفسه ! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، ورثى قتلى بدر من المشركين » !
وفي فتح الباري : 10 / 31 ، أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت أبي طلحة ، وكانوا أحد عشر صحابياً ، وكان ساقيهم أنس بن مالك ! ثم قال : « ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس : كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة . ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس ، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً ، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم ، وأبهمهم في رواية سُلَيْمان التيمي عن أنس . ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس ، أن أبا بكر وعمر كانا فيهم ! وهو منكر ، مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطاً » !
--------------------------- 142 ---------------------------
يقصد أن سنده صحيح ، لكن مكانة الشيخين كبيرة فهو مستنكر ! لكن الحديث إذا صح فلا قيمة لاستغراب معناه !
والأشد من ذلك أن القصةكانت قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشهر أو شهرين ! لأن آية : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، من سورة المائدة ، وهي آخر سورة نزلت من القرآن !
وروى البخاري في صحيحه « 4 / 263 » : « عن عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر ، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، الذي قال هذه القصيدة ، ورثى كفار قريش :
وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام
تحييْ بالسلامة أم بكر * وهل لي بعد قومي من سلام
يحدثنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام »
لكن عائشة لم تحل المشكلة ، لأنهما نفت نظم أبيها للقصيدة ولم تنف إنشاده لها ! وكأن المهم عندها نفي نظمه لها ، لأنها تثبت كفر ناظمها ، أما إنشادها فأقل مصيبةً !
وروى ابن حجر في الإصابة « 7 / 39 » أنها « كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول : والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولكن تزوج امرأة من بني كنانة ثم بني عوف فلما هاجرطلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، أبو بكر بن شعوب ، فقال هذه القصيدة يرثي كفار قريش الذين قتلوا ببدر ! راجع في الموضوع : أمالي الطوسي / 737 ، ورواها بسبعة أبيات ، وابن هشام : 2 / 549 ، رواها بتسعة أبيات ، والغدير : 6 / 251 ، و 7 / 96 و : 7 / 95 ، وفتح الباري : 10 / 30 ، وقد أطال في الموضوع ودافع بما يستطيع ، لكن كلامه فيه تعجب وحيرة ، وسيرة ابن كثير : 2 / 535 ، ومستدرك الوسائل : 17 / 83 ، والسقيفة أم الفتن / 74 ، وفيض القدير : 1 / 117 ، والإصابة : 7 / 38 ، والصحيح من السيرة : 5 / 301 و 304 ، ومجمع الزوائد : 5 / 51 ، والهداية الكبرى / 106 ، وأمالي المرتضى : 2 / 18 ، والنص والاجتهاد / 311 ، وأحاديث الشعر للمقدسي / 57 ، والنهاية : 3 / 412 ، وتفسير الثعلبي : 2 / 142 ، والإصابة : 7 / 38 .
--------------------------- 143 ---------------------------

11 . فاعجب ثم أعجب من تناقض القرشيين :

فهم يريدون خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثأراً لبدر ! ثم يطالبون بثأر بدر ! ولولا معركة بدر لما كان إسلامٌ ولا خلافةٌ يجلسون على كرسيها ! والذي يجلس على كرسي خلافة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يفترض أنه مسلم ، وأنه إلى جانب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في معركة بدر وضد من قاتله من المشركين ! لكن تعقيد الشخصية القرشية جعلتهم يتبنون نتيجة بدر التي منها الخلافة ، ويتبنون « مناحة قومهم » على قتلى بدر ، لأنها تنفعهم
ضد بني هاشم !
قال عمر لابن عباس في محاورته الشهيرة : « كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجخفوا جخفاً « تكبراً » فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت . . أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول » ! « تاريخ الطبري : 3 / 288 ، وشرح النهج : 6 / 50 ، وجمهرة الأمثال : 1 / 339 ، والعقد الفريد / 1378 » .
وقال لابن عباس مرة : « يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوماً ، فقلت : أردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة ، ثم وقف فلحقته فقال : يا ابن عباس ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه ، فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك ! فأعرض عني » ! ( التحفة العسجدية / 144 ) . فاعجب لخليفة يدين منطق الإسلام ، الذي يلبس ثوبه ، ويحكم بإسمه !
12 . وعندما تقوم « الخلافة » على الثأر من بني هاشم :
فطبيعي أن تقوم بقتل الأئمة من عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتقمع شيعتهم ، وتبيد مصادر مذهبهم ! وهذه هي سياسة الخلافة منذ تأسيسها إلى اليوم ! ولذلك قال علي ( عليه السلام ) لقريش : « لعمر أبي وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة ، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد » . « الإحتجاج : 1 / 127 » .
ولما سألت أم‌سلمة فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « المناقب : 2 / 49 » : « كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ فقالت : أصبحت بين كمد وكرب ! فُقِدَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وظُلِمَ الوصي ،
--------------------------- 144 ---------------------------
وهُتك والله حجابه ، وأصبحت إمامته مقتصة على غير ما شرع الله في التنزيل ، وسنها النبي في التأويل ! ولكنها أحقاد بدرية وتِرات أحدية ، كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة ، فلما استهدف الأمر ، أرسلت علينا شآبيب الآثارمن مخيلة الشقاق » !
وفي تاريخ الطبري : 8 / 187 : « طلب يزيد بثارات المشركين عند المسلمين ، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ، ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها ! ( أشنع منها كربلاء قبلها ) وشفى بذلك حقد نفسه وغليله ، وظن أن قد انتقم من أولياء الله وبلغ النوى لأعداء الله ، فقال مجاهراً بكفره ، ومظهراً لشركه :
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتكم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل !
هذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه » !
* *
--------------------------- 145 ---------------------------

الفصل السادس: تزويج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . كثرة المكذوبات ضد علي ( عليه السلام ) في أحاديث زواجه بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )
تبلغ روايات زواج علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مصادر الطرفين نحو مئة صفحة ، وفيها روايات ضعيفة السند ، وبعضها لغتها عامية ، وبعضها فيها حشو وأمور غير معقولة ، وبعضها مسمومة وضعها خصوم علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مثل قولهم إن علياً ( عليه السلام ) أراد البناء بها فمنعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له إنك لم تعطها شيئاً ، فقال له : ما عندي شئ فأعطيها ! فقال له : أعطها درعك الحطمية التي أعطيتك إياها في بدر ، فأعطاها إياها ، أو باعها بأربعة دراهم !
وقولهم إنها اشتكت إلى أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنك زوجتني بغير الكفؤ ، فسكَّن غضبها ! وقولهم إنه خطب بنت أبي جهل عليها فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصعد المنبر وهدده بطلاق ابنته فاطمة !
وقولهم إن علياً كان يؤذي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد رد عليهم الشريف المرتضى بقوله : « إن الله تعالى هو الذي اختار علياً لفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكيف يختار لها من يؤذيها ويغمها » ! « الشافي : 2 / 277 » . ويدل كذبهم على علي حتى في زواجه بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على شدة حساسيتهم منه وحسدهم له !
وقد كتبنا في المجلد الثاني من السيرة النبوية فصلاً بعنوان زواج علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونركز هنا على ما يتصل بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ونترك التفصيل لسيرة الصديقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .

2 . خَطَبَها كبار الصحابة فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

روى الجميع أن أبا بكر وعمر وغيرهما خطبوا الزهراء ( عليها السلام ) ، فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال ابن سعد في الطبقات : 8 / 19 : « إن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا أبا بكر
--------------------------- 146 ---------------------------
أنتظر بها القضاء ، فذكر ذلك أبو بكر لعمر فقال له عمر : ردك يا أبا بكر .
ثم إن أبا بكر قال لعمر : أخطب فاطمة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطبها فقال له مثلما قال لأبي‌بكر : أنتظر بها القضاء ، فجاء عمر إلى أبي‌بكر فأخبره فقال : له ردك يا عمر » !
وفي تذكرة الخواص / 276 ، عن أحمد في الفضائل : « فقال رسول الله : إنها صغيرة ، وإني أنتظر بها القضاء ، فلقيه عمر فأخبره ، فقال : ردك ، ثم خطبها عمر فرده » .
وفي سنن النسائي « 6 / 62 » : « فقال رسول الله : إنها صغيرة فخطبها علي فزوجها منه » .
وفي مجمع الزوائد « 9 / 204 » عن الطبراني الكبير « 22 / 408 » ووثقه : « خطب أبو بكر وعمر فاطمة فقال النبي : هي لك يا علي » .
وفي المناقب : 3 / 122 : « اشتهر في الصحاح بالأسانيد عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر الأنصاري ، وأنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وأم‌سلمة ، بألفاظ مختلفة ومعان متفقة ، أن أبا بكر وعمر خطبا إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرة بعد أخرى فردهما . وروى ابن بطة في الإبانة أنه خطبها عبد الرحمن فلم يجبه . وفي رواية غيره أنه قال : بكذا من المهر ، فغضب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومد يده إلى حصى فرفعها فسبحت في يده ، وجعلها في ذيله فصارت دراً ومرجاناً ، يعرض به جواب المهر » .
أقول : معنى قول عبد الرحمن بن عوف : بكذا من المهر أنه عرض على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مبلغاً كبيراً مهراً لفاطمة ( عليها السلام ) ، فأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لسنا من نوعكم نهتم بالمهر والمال ونزوج بناتنا بهذا المقياس ، بل قضيتنا فوق ذلك .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 203 : « عن علي ( عليه السلام ) قال : قال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لقد عاتبتني رجال قريش في أمر فاطمة ، وقالوا : خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت علياً ؟ ! فقلت لهم : والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله تعالى منعكم وزوجه ! فهبط عليَّ جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله جل جلاله يقول : لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض ، آدم فمن دونه » ! وفي كشف الغمة « 2 / 100 » : « إن الله عز وجل زوجك فاطمة ( عليها السلام ) ، وجعل صداقها الأرض ، فمن مشى عليها مبغضاً لها مشى حراماً » .
--------------------------- 147 ---------------------------

3 . أيها الرسول : زوج النور من النور

نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يأمره أن يزوج النور من النور ، أي علياً من فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يخطب فطلب منه يد فاطمة ( عليها السلام ) ، وأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالقبول ، وأخبر المسلمين باحتفال الملأ الأعلى بعرسهما .
ثم باع علي ( عليه السلام ) درعه وجاء بثمنه مهراً وأعطاه للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأعطى منه قبضة إلى أم‌سلمة وأم أيمن لشراء لوازم عرس الزهراء ( عليها السلام ) ، وقبضة لسلمان وأبي‌بكر ، لشراء لوازم المنزل . ثم أمر الصحابة والصحابيات بتهيئة المنزل .
وبقيت الزهراء بعد عقد زواجها مدة في بيت أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم أقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مراسم زفافها ، فأولم وليمة كبيرة لم يحدث التاريخ بأوسع منها في سيرة الأنبياء ( عليهم السلام ) . والأحاديث في مراسم زواج الزهراء ( عليها السلام ) عديدة ، اخترنا نماذج منها :
في المناقب « 3 / 123 » وتاريخ بغداد « 4 / 432 » : « طلع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجهه مشرق كالبدر ، فسأله ابن عوف عن ذلك فقال : بشارة أتتني من ربي لأخي وابن عمي وابنتي ، واللهُ زوج علياً بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي ، وأنشأ من تحتها ملائكة من نور ، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار ، بأخي وابن عمي وابنتي ، فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي . فدعاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما كان من همتي تزويجك ، أتاني جبرئيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها ، فتناولتهما وأخذتهما فشممتهما ، فقلت : ما سبب هذا السنبل والقرنقل ؟ قال : إن الله أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها ، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها ، وأمر ريحها فهبت بأنواع العطر والطيب ، وأمر حور عينها بالقراءة فيها طه ويس وطواسين وحم وعسق ، ثم نادى مناد من تحت العرش : ألا إن اليوم يوم وليمة علي ، ألا إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من علي ، رضاً مني ببعضهما لبعض . ثم بعث الله سبحانه سحابة بيضاء فقطرت من لؤلؤها وزبرجدها ويواقيتها ، وقامت الملائكة فنثرن من سنبلها وقرنفلها ،
--------------------------- 148 ---------------------------
وهذا مما نثرت الملائكة » .
وفي حديث خباب بن الأرت : أن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل : زوج النور من النور وكان الولي الله ، والخطيب جبرئيل ، والمنادي ميكائيل ، والداعي إسرافيل ، والناثر عزرائيل ، والشهود ملائكة السماوات والأرضين . ثم أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما عليك ، فنثرت الدر الأبيض ، والياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر ، واللؤلؤ الرطب ، فبادرن الحورالعين يلتقطن ، ويهدين بعضهن » .
وقال أنس بن مالك : « كنت قاعداً عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغشيه الوحي فلما سُرِّيَ عنه قال : أتدري يا أنس ما جاء به جبريل من عند صاحب العرش ؟ قلت : بأبي وأمي ! وما جاء به جبريل من عند صاحب العرش ؟ قال : إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي » . « تاريخ دمشق : 37 / 13 ، ونحوه كبير الطبراني : 10 / 156 ، والزوائد : 9 / 204 ، والمناقب لابن مردويه / 196 ، والجامع الصغير : 1 / 258 ، وكنز العمال : 11 / 606 ، و 13 / 671 ، والكشف الحثيث / 174 ، وجواهر المطالب : 1 / 155 ، وسبل الهدى : 11 / 38 ، والحلبية : 2 / 471 ، وغيرها ، وصححوه » .
وفي تعبير : زوج النور من النور سرٌّ لطيف ، لأن نور النبوة صار جزءين وافترق في عبد الله وأبي طالب : جزء للنبوة ، وجزء للإمامة ، ثم اجتمع في الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 1 / 442 » : « إن الله كان إذ لا كان ، فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار ، الذي نورت منه الأنوار ، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار ، وهو النور الذي خلق منه محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلياً ( عليه السلام ) ، فلم يزالا نورين أولين ، إذ لا شئ كون قبلهما ، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة ، حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب ( عليهم السلام ) » . وقال القاضي سعيد في شرح توحيد الصدوق « 2 / 79 » : « وعندها يتحد النوران اللذان اقتسما في عبد الله وأبي طالب ، رضي الله عنهما » .

4 . لماذا تولى الله أمر فاطمة ( عليها السلام ) دون أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) )

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ . والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والد الزهراء ( عليها السلام ) وولي أمرها ، فكيف لا تكون له ولاية عليها ويقول لمن يخطبها أمرها لله تعالى وليس له !
لا جواب لذلك إلا أنه كان مأموراً بذلك !
--------------------------- 149 ---------------------------
روى في الكافي : 5 / 568 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم ، إلا فاطمة ، فإن تزويجها نزل من السماء » .
وفي كشف الغمة : 1 / 363 ، من كلام أبي‌بكر قال : « قد خطبها الأشراف من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : إن أمرها إلى ربها ، إن شاء أن يزوجها زوجها » . وهذا يدل على أنها كانت منذورة لله تعالى كمريم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أو أنه أمر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يترك أمرها له ! وهذا مقام عظيم لم يبلغه قبلها رجل ولا امرأة !
وقد حاول بعضهم أن ينتقص من مقامها ( عليها السلام ) ويعمم هذه الفضيلة ، فروى الحاكم : « 4 / 49 » أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « ما أنا أزوج بناتي ولكن الله تعالى يزوجهن » . لكنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زوج زينب وأم‌كلثوم ورقية ، ولم يقل إن أمرهن لله تعالى وليس له !
ويشبه ذلك ما رواه الحاكم : 2 / 201 ، عن عروة عن خالته عائشة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال عن ابنته أو ربيبته زينب : « هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ . فبلغ ذلك علي بن الحسين ( عليه السلام ) فانطلق إلى عروة فقال : ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة ( عليها السلام ) ؟ فقال : والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها ! وأما بعد ، فلك أن لا أحدث به أبداً . قال عروة : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ . . » .
أي اعتذرعروة عن خالته عائشة بأنها قالت إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال عن زينب بنتي ، قبل نزول النهي عن نسبة الربيبة . ومعناه أن زينب ربيبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وليست بنته .
ومهما يكن ، فلم يقل عن غير فاطمة ( عليها السلام ) إن أمرها ليس بيدي !

5 . من الروايات القوية في زواج علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

تقول بعض الروايات أن علياً ( عليه السلام ) خطب فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبعضها ضعيف السند ، وبعضها لغته عامية ، ولو صح أنه بادر إلى خطبتها فذلك بأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه قال كما في الترمذي ( 4 / 361 ) : ( يا بريدة إن علياً وليكم بعدي ، فأحِبَّ علياً ، فإنما يفعل ما يؤمر ) .
ومن أصح النصوص وأجمعها ما كتبه ابن شهرآشوب ( رحمه الله ) في مناقب آل أبي طالب
--------------------------- 150 ---------------------------
( 3 / 122 ) نختار منها قوله : « أتى سلمان إليه ( إلى علي ) وقال أجب رسول الله ، فلما دخل عليه قال : أبشر يا علي فإن الله قد زوجك بها في السماء قبل أن أزوجكها في الأرض ، ولقد أتاني ملك وقال : أبشر يا محمد باجتماع الشمل وطهارة النسل ، قلت : وما اسمك ؟ قال : نسطائيل من موكلي قوائم العرش ، سألت الله هذه البشارة وجبرئيل ، على أثري .
أبو بريدة عن أبيه : إن علياً خطب فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مرحباً وأهلاً . فقيل لعلي : يكفيك من رسول الله إحداهما ، أعطاك الأهل وأعطاك الرحب .
قال الأصفهاني :
أمْ مَن بسيدة النساء قضى له * ربي فأصبح أسعد الأختان
من بعد خطاب أتوه فردهم * رداً يبين مضمر الأشجان
فأبان منعهما وقال صغيرة * تزويجها في سنها لم يان
حتى إذا خطب الوصي أجابه * من غير تورية ولا استيذان
فالله زوجه وأشهد في العلا * أملاكه وجماعة السكان
والله قدر نسله من صلبه * فلذا لأحمد لم يكن بنتان
تاريخ بغداد بالإسناد عن بلال بن حمامة : اطلع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجهه مشرق كالبدر ، فسأل ابن عوف عن ذلك ، فقال : بشارة أتتني من ربى لأخي وابن عمي وابنتي ، والله زوج علياً بفاطمة ، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى ، فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي : وأنشأ من تحتها ملائكة من نور ، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار بأخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي .
وفي رواية : في الصكوك براءة من العلي الجبار ، لشيعة علي وفاطمة من النار .
عبد الرزاق باسناده إلى أم أيمن في خبر طويل عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وعقد جبرئيل وميكائيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في السماء نكاح علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكان جبرئيل المتكلم عن علي وميكائيل الراد عني . قال الحميري :
نصب الجليل لجبرئيل منبراً * في ظل طوبى من متون زبر جد
شهد الملائكة الكرام وربهم * وكفى بهم وبربهم من شهد
--------------------------- 151 ---------------------------
وتناثرت طوبى عليهم لؤلؤاً * وزمرداً متتابعاً لم يعقد
وملاك فاطمة الذي ما مثله * في متهم شرف ولا في منجد
وله أيضاً :
والله زوجه الزكية فاطماً * في ظل طوبى مشهداً محضورا
كان الملائك ثم في عدد الحصى * جبريل يخطبهم بها مسرورا
يدعو له ولها وكان دعاؤه * لهما بخير دائماً مذكورا
حتى إذا فرغ الخطيب تتابعت * طوبى تساقط لؤلؤاً منثورا
وتهيل ياقوتاً عليهم مرة * وتهيل دراً تارة وشذورا
فترى نساء الحور ينتهبونه * حوراً بذلك يهتدين الحورا
فإلى القيامة بينهن هدية * ذاك النثار عشية وبكورا
وقال خطيب منبج :
ملاك كانت الأملاك فيه * لتزويج الزكية شاهدينا
وكان وليها جبريل منهم * وميكائيل خير الخاطبينا
وزخرفت الجنان فظل فيها * لها ولدانها متنزينينا
وكان نثارها حللاً وحلياً * وياقوتاً ومرجاناً ثمينا
وعقياناً وحور العين فيها * وولدان كرام لاقطونا
وكان من النثار كما روينا * صكاك ينتشرن وينطوينا
بها للشيعة الأبرار عتق * جرى من عند رب العالمينا
وكان بين تزويج أمير المؤمنين وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في السماء إلى تزويجها في الأرض أربعين يوماً ، زوجها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من علي أول يوم من ذي الحجة ، وروي أنه كان يوم السادس منه .
كتاب ابن مردويه ، قال ابن سيرين ، قال عبيدة : إن عمر بن الخطاب ذكر علياً فقال : ذاك صهر رسول الله ، نزل جبرئيل على رسول الله فقال : إن الله يأمرك أن تزوج فاطمة من علي .
--------------------------- 152 ---------------------------
الضحاك : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لفاطمة ( عليها السلام ) : إن علي بن أبي طالب ممن قد عرفت قرابته وفضله من الإسلام ، وإني سألت ربي أن يزوجك خيرخلقه وأحبهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين ؟ فسكتت ، فخرج رسول الله وهو يقول : الله أكبر ،
سكوتها إقرارها .
وخطب النبي على المنبر في تزويج فاطمة خطبة رواها يحيى بن معين في أماليه ، وابن بطة في الإبانة ، بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعاً ، ورويناها عن الرضا فقال : الحمد الله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع في سلطانه ، المرغوب إليه فيما عنده ، المرهوب من عذابه ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، خلق الخلق بقدرته ، وميزهم بأحكامه ، وأعزهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمد ، إن الله تعالى جعل المصاهرة نسباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً ، وشَّج بها الأرحام ، وألزمها الأنام ، قال الله تعالى : وَهُوَالَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا . ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي ، وقد زوجتها » .
وفي روضة الواعظين / 144 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أتاني رسول رسول لله فقال لي : أجب النبي وأسرع ، فما رأينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد فرحاً منه اليوم ! قال : فأتيته مسرعاً فقال : أبشر يا علي فإن الله تعالى قد كفاني ما كان من همي من أمر تزويجك . قلت : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : أتاني جبرئيل ومعه سنبل الجنة وقرنفلها فناولنيهما ، فأخذتهما فشممتهما فقلت : ما سبب هذا السنبل والقرنفل ؟ فقال : إن الله تعالى أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها ، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها ، ثم نادى مناد : ألا يا ملائكتي وسكان جنتي ، باركوا علي بن أبي طالب حبيب محمد وفاطمة بنت محمد ، فقد باركت عليهما .
قال علي فقلت : يا رسول الله بلغ من قدري حتى أني ذكرت في الجنة وزوجني الله في ملائكته . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله تعالى إذا أكرم وليه وأحبه ، أكرمه بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ، فاختار الله لك يا علي . فقلت : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ . . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : آمين » .
--------------------------- 153 ---------------------------

6 . خطبة علي ( عليه السلام ) الرسمية وجواب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال في مناقب آل أبي طالب « 3 / 126 » : « وخطب النبي على المنبر في تزويج فاطمة ( عليها السلام ) خطبة ، رواها يحيى بن معين في أماليه ، وابن بطة في الإبانة بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعاً ، ورويناها عن الرضا ( عليه السلام ) . وروى ابن مردويه قال لعلي : تكلم خطيباً لنفسك ، فقال : الحمد لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ، ووعد الجنة من يتقيه ، وأنذر بالناس من يعصيه ، نحمده على قديم إحسانه وأياديه ، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومميته ومحييه ، ومسائله عن مساويه ، ونستعينه ونستهديه ، ونؤمن به ونستكفيه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبلغه وترضيه ، وأن محمداً عبده ورسوله ، صلاة تزلفه وتخطيه ، وترفعه وتصطفيه . والنكاح ما أمر الله به ورضيه ، واجتماعنا مما قدره الله وأذن فيه ، وهذا رسول الله زوجي ابنته فاطمة على خمس مائة درهم وقد رضيت ، فاسألوه واشهدوا . وفي خبر : زوجتك ابنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن ، وقد رضيت بما رضي الله لها ، فدونك أهلك فإنك أحق بها مني . وفي خبر : فنعم الأخ أنت ، ونعم الختن أنت ، ونعم الصاحب أنت ، وكفاك برضى الله
رضاً . فخر عليٌّ ساجداً شكراً لله تعالى وهو يقول : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ .
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : آمين » .

7 . الاحتفال بعرس فاطمة ( عليها السلام ) في السماء

في تفسير العياشي : 2 / 211 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « أمر الله طوبى فنثرت عليهم من حللها وسندسها ، وإستبرقها ، ودرها ، وزمردها ، وياقوتها ، وعطرها ، فأخذوا منه حتى ما دروا مايصنعون به . ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة ( عليها السلام ) ، فهي في دار علي بن أبي طالب » .
وفي المناقب « 3 / 128 » : « قيل لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد علمنا مهر فاطمة في الأرض
--------------------------- 154 ---------------------------
فما مهرها في السماء فقال : سل ما يعنيك ودع ما لا يعنيك . قيل : هذا مما يعنينا يا رسول الله ، قال : كان مهرها في السماء خمس الأرض ، فمن مشى عليها مبغضاً لها أو لولدها ، مشى عليها حراماً إلى أن تقوم الساعة » .
وفي تاريخ دمشق « 42 / 126 » : « عن جابر بن عبد الله قال : دخلت أم أيمن على النبي وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك لا أبكى الله عينيك ؟ قالت : بكيت يا رسول الله لأني دخلت منزل رجل من الأنصار قد زوج ابنته رجلاً من الأنصار ، فنثر على رأسها اللوز والسكر ، فذكرت تزويجك فاطمة من علي بن أبي طالب ولم ينثر عليها شيئاً ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا تبكي يا أم أيمن فوالذي بعثني بالكرامة واستخصني بالرسالة ما أنا زوجته ولكن الله زوجه ، ما رضيت حتى رضي علي ، وما رضيت فاطمة حتى رضي الله رب العالمين . يا أم أيمن ، إن الله لما أن زوج فاطمة من علي أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش فيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وأمر الجنان أن تزخرف فتزخرفت ، وأمر الحور العين أن يتزينَّ فتزينَّ ، وكان الخاطب الله وكان الملائكة الشهود ! ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر فنثرت عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الياقوت الأحمر مع الزبرجد الأخضر ، فابتدر حور عين من الجنان يرفلن في الحلي والحلل يلتقطنه ، ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد ، فهن يتهادينه
بينهن إلى يوم القيامة » .
أقول : كلام أم أيمن عن المرحلة الأولى من عرس فاطمة ( عليها السلام ) ، فقد ورد أنهم نثروا في عرسها : « فخرج مولى لأم‌سلمة زوجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنثر سكراً ولوزاً ، ونثر الناس من كل جانب » . » الهداية الكبرى / 115 « .

8 . تهيئة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منزل فاطمة وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

روى الطبراني في الأوسط : 6 / 290 ، وابن ماجة : 1 / 615 : « عن عائشة وأم‌سلمة قالتا : أمرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي ، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء ، ثم حشونا مرفقتين ليفاً ، فنفشناه بأيدينا ، ثم أطعمنا
--------------------------- 155 ---------------------------
تمراً وزبيباً وسقينا ماء عذباً ، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ، ويعلق عليه السقاء . فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة » .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يسكن في بيت مع أمه فاطمة بنت أسد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعندما تزوج انتقل إلى بيته الجديد وسكنت معه والدته ( عليها السلام ) . ففي ذخائر العقبى / 51 1 : « قال علي لأمه فاطمة بنت أسد : إكف بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الخدمة خارجاً : سقاية الماء والحاجة ، وتكفيك العمل في البيت : العجن والطحن » .

9 . أثاث بيت علي وفاطمة ( عليها السلام )

في المناقب : 3 / 127 : « قال الصادق ( عليه السلام ) : وسكب الدراهم في حجره ، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين ، إلى أم أيمن لمتاع البيت ، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب ، وقبضة إلى أم‌سلمة للطعام ، وأنفذ عماراً وأبا بكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها . وكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم ، وخمار بأربعة دراهم ، وقطيفة سوداء خيبرية وسرير مزمل بشريط ، وفراشان من خيش مصر ، حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم ، وأربع مرافق من أدم الطايف ، حشوها إذخر ، وستر من صوف ، وحصير هجري ، ورحاء اليد ، وسقاء من أدم ، ومِخْضَب من نحاس ، وقَعْب للبن ، وشِنٌّ للماء ، ومطهرة مزفَّتة ، وجرة خضراء ، وكيزان خزف . . ونطع من أدم ، وعباء قطراني ، وقربة ماء » . إلى آخره .

10 . كانت وليمة الزفاف بعد شهر من العقد

أقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأمر ربه عرساً لفاطمة وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا نظير له في تاريخ الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فقد زوج بناته أو ربيباته قبل فاطمة ( عليها السلام ) وبعدها ، وتزوج هو ، وكانت احتفالاته مختصرة ، يدعو من حضر إلى طعام من تمر وسمن وما شابه . لكن عرس علي وفاطمة كان وليمة عامة مدَّ السفر للناس في المسجد !
ففي مناقب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لأبي‌بكر بن مردويه / 198 ، ومناقب ابن شهرآشوب « 3 / 129 » : « في حديث : فمكث علي تسعة وعشرين ليلة ، فقال له جعفر
--------------------------- 156 ---------------------------
وعقيل : سله أن يدخل عليك أهلك ، فعرفت أم أيمن ذلك وقالت : هذا من أمر النساء فخلت به أم‌سلمة فطالبته بذلك ، فدعاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : حباً وكرامة ، فأتى الصحابة بالهدايا ، فأمر بطحن البُر وخبزه ، وأمر علياً ( عليه السلام ) بذبح البقر والغنم ، فكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُفَصِّل « الذبيحة » ولم يُرَ على يده أثر دم ! فلما فرغوا من الطبخ أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن ينادى على رأس داره : أجيبوا رسول الله وذلك كقوله تعالى : وأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجّ « فسمع الناس دعوته » فأجابوا من النخلات والزروع ، فبسط النطوع في المسجد وصَدَر الناس ، وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وسائر نساء المدينة ، ورفعوا منها ما أرادوا ، ولم ينقص من الطعام شئ ! ثم عادوا في اليوم الثاني وأكلوا ! وفي اليوم الثالث أكلوا مبعوثة أبي أيوب ، ثم دعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالصحاف فملئت ووجه إلى منازل أزواجه ، ثم أخذ صحفة وقال : هذا لفاطمة وبعلها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ثم دعا فاطمة ، وأخذ يدها فوضعها في يد علي وقال : بارك الله لك في ابنة رسول الله يا علي نعم الزوج فاطمة ويا فاطمة نعم البعل علي ) .
وفي مناقب آل أبي طالب « 1 / 114 » : « وأتى أبو أيوب بشاة إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عرس فاطمة فنهاه جبرئيل ( عليه السلام ) عن ذبحها ، فشق ذلك عليه فأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زيد بن جبير الأنصاري فذبحها بعد يومين ، فلما طبخ أمر ألا يأكلوا إلا باسم الله وأن لا يكسروا عظامها ، ثم قال : إن أبا أيوب رجل فقير ، إلهي أنت خلقتها وأنت أفنيتها وإنك قادر على إعادتها ، فأحيها يا حي لا إله إلا أنت . فأحياها الله وجعل فيها بركة لأبي أيوب وشفاء المرضى في لبنها ، فسماها أهل المدينة المبعوثة . وفيها قال عبد الرحمن بن عوف أبياتاً منها :
ألم ينظروا شاة ابن زيد وحالها * وفي أمرها للطالبين مزيد
وقد ذبحت ثم استُجِرَّ إها بها * وفصَّلها فيما هناك يزيد
وأنضج منها اللحم والعظم والكلى * فهلهله بالنار وهو هريد
فأحيى له ذو العرش والله قادر * فعادت بحال . ما يشاء يعود
--------------------------- 157 ---------------------------

11 . زفاف علي ( عليه السلام ) بعد رجوعه من بدر

كان عقد زواجهما ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في السنة الأولى من الهجرة كما روى ابن سعد واليعقوبي ، وزفافهما في السنة الثانية في ذي الحجة ، كما نصت رواية ابن المسيب قال : « فقلت لعلي بن الحسين ( عليه السلام ) : فمتى زوج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقال : بالمدينة بعد الهجرة بسنة ، وكان لها يومئذ تسع سنين » . « الكافي : 8 / 338 » . ومعنى تسع سنين أنها دخلت في العاشرة ، لأن ولادتها في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة ، أي بعد أربع سنوات ونصف من البعثة التي كانت في رجب نصف السنة فحسبت سنة ، ويكون عمرها ( عليها السلام ) عند هجرتها في ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة من بعثته نحو ثمان سنين ، وعمرها عند زواجها في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة نحو تسع سنين ونصفاً ، وولدت الحسن ( عليه السلام ) وعمرها نحو عشر سنوات ونصفاً .
وروى ابن سعد ( 8 / 22 ) : « تزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في رجب بعد مقدم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة بخمسة أشهر ، وبنى بها مرجعه من بدر » .
ويؤيد ذلك رواية اليعقوبي « 2 / 41 » قال : « زوجها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من علي بعد قدومه بشهرين ، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما زوجها علياً قالوا في ذلك ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أنا زوجته ولكن الله زوجه » .
* *
وفي الكبير للطبراني « 22 / 408 » : « عن عبد الله بن مسعود قال : سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سمعته في غزوة تبوك يقول ونحن نسير معه : إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففعلت ، قال جبريل : إن الله بني جنة من لؤلؤة « ووصفها بتفصيل » قلت : يا جبريل لمن بنى الله هذه الجنة ؟ قال : بناها لفاطمة ابنتك وعلي بن أبي طالب ، سوى جنانها ، تحفة أتحفها وأقر عينيك يا رسول الله » .
وفي الإصابة : 8 / 265 : « وأخرج الدولابي في الذرية الطاهرة بسند جيد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة بني علي بفاطمة : لا
--------------------------- 158 ---------------------------
تحدث شيئاً حتى تلقاني فدعا بماء فتوضأ منه ثم أفرغه عليهما وقال : اللهم بارك فيهما وبارك عليهما ، وبارك لهما في نسلهما » .
وفي شرح الأخبار : 2 / 358 : « ثم قال : يا أسماء ، إملئي لي مخضب ماء وآتيني به فملأت وأتته به ، فأخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منه ومجَّه في فيه ، ثم غسل فيه وجهه وقدميه ، ودعا فاطمة ( عليها السلام ) فأخذ كفاً من ذلك الماء فنضحه على صدرها ، وأخذ كفاً ثانياً فنضحه على ظهرها ، ثم أمرها أن تشرب بقية الماء . ثم دعا بعلي ( عليه السلام ) فصنع به مثل ذلك ، ثم قال : اللهم إنهما مني وأنا منهما ، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني ، فأذهبه عنهما وطهرهما . ثم قال : قُوما إلى بيتكما جمع الله بينكما ، وبارك لكما في نسلكما ، وأصلح بالكما . قالت أسماء : إنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يزل يدعو لهما لم يشرك في دعائه أحداً حتى توارى في حجرته » . وكشف الغمة : 1 / 382 ، وكشف اليقين / 198 ، وينابيع المودة : 2 / 64 ، والمناقب : 3 / 131 .
وفي رواية أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعا لهما : « اللهم إنهما مني وأنا منهما ، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرهما . . . اللهم اجمع شملهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم . اللهم بارك فيهما وبارك عليهما ، وأنت وليهما في الدنيا والآخرة » . « مناقب أمير المؤمنين : 2 / 203 ) .
وفي الكبير للطبراني « 22 / 409 » : « فجاءت مع أم أيمن فقعدت في جانب البيت وأنا في جانب فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : هاهنا أخي ؟ فقالت : أم أيمن أخوك قد زوجته بنتك ! فدخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لفاطمة ائتيني بماء ، فقامت إلى قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به ، فمج فيه ثم قال لها : قومي فنضح بين ثدييها وعلى رأسها . ثم قال : اللهم أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، ثم قال لها أدبري فأدبرت فنضح بين كتفيها ، ثم قال : اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ثم قال ائتيني بماء فعملت الذي يريده ، فملأت القعب ماء فأتيته به فأخذ منه بفيه ثم مجه فيه ، ثم صب على رأسي وبين يدي ، ثم قال : اللهم إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم ، ثم قال : أدخل على أهلك بسم الله والبركة » .
* *
--------------------------- 159 ---------------------------

الفصل السابع: علي ( عليه السلام ) بطل معركة أحُد

1 . انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولى

في صبيحة يوم السبت تصف شوال سنة ثلاث للهجرة ، صفَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المسلمين في أحُد ، ووضع الرماة شرقي جبل عينين . « ابن إسحاق : 3 / 301 » .
وفي تفسير القمي « 1 / 112 » : « كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري فبرز ونادى : يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليَّ ! فبرز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول :
ياطلحُ إن كنت كما تقولُ * لنا خيولٌ ولكم نُصول
فاثبت لننظر أينا المقتول * وأيُّنا أولى بما تقول
فقد أتاك الأسد الصؤول * بصارم ليس به فلول
ينصره القاهر والرسولُ
فقال طلحة : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : قد علمتُ يا قُضَيْم أنه لايَجسر عليَّ أحد غيرك ! فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالجحفة ، ثم ضربه على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره وسقطت الراية ! فذهب علي ( عليه السلام ) ليجهز عليه فحلَّفه بالرحم فانصرف عنه ، فقال المسلمون : ألا أجهزت عليه ؟ قال : قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً ! وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحه فقتله علي ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية على الأرض ، فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها الحارث بن
--------------------------- 160 ---------------------------
أبي طلحة فقتله علي ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض ، وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله علي ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها عبد الله بن أبي جميلة بن زهير فقتله علي ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية إلى الأرض !
فقَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التاسع من بني عبد الدار ! وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزةً ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على يمينه فقطعها ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين على شماله فقطعها ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ، ثم قال : يا بني عبد الدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم ؟ فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فقتله ، وسقطت الراية إلى الأرض ! فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها !
وحدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي : يا قُضَيْم ؟ قال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان بمكة لم يجسرعليه أحد لموضع أبي طالب ، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرمونه بالحجارة والتراب ، فشكى ذلك إلى علي ( عليه السلام ) فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك ، فخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتعرض الصبيان لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين ، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم ، فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون قضمنا عليٌّ قضمنا عليٌّ ! فسمي لذلك : القَضِيم » !
وقال ابن هشام ( 3 / 593 ) : « وأرسل رسول الله إلى علي بن أبي طالب : أن قدم الراية فتقدم عليٌّ فقال : أنا أبو القُضَم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين : أن هل لك يا أبا القضم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم ، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه عليٌّ فصرعه ، ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟ فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتني عنه الرحم ، وعرفت أن الله عز وجل قد قتله » .
وفي الكافي « 8 / 111 » أن خالد بن عبد الله القشيري أمير مكة سأل قتادة : » من الذي
--------------------------- 161 ---------------------------
يقول : أوفي بميعادي وأحمي عن حسب ؟ فقال : أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي من يبارز ؟ فلم يخرج إليه أحد فقال : إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فليبرزن إلي رجل يجهزني بسيفه إلى النار وأجهزه بسيفي إلى الجنة ، فخرج إليه علي بن أبي طالب وهو يقول :
أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب * وهاشم المطعم في العام السغب
فقال خالد : كذب لعمري ، والله أبو تراب ما كان كذلك ! فقال الشيخ : أيها الأمير إئذن لي في الانصراف ، قال : فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول : زنديق ورب الكعبة ، زنديق ورب الكعبة » !
أقول : هذا يدل على حرص السلطة على إخفاء جهاد علي ( عليه السلام ) . وقد ارتاعت قريش بقتل طلحة وأصحاب الألوية ، وتزعزعت صفوفها ، فلم يتقدم لحمل رايتهم إلا امرأة جمعتها عن الأرض ولم ترفعها ! فأصدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره بالحملة ، فتقدم علي وحمزة وأبو دجانة وحملوا ، فكانت هزيمة المشركين :
« فانكشف الكفار حينئذ عن المسلمين هاربين على غير انتظام ، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن . فلما نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلهم الذي أمروا أن لا يفارقوه ، فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير فلم ينتهوا وقالوا : ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ! فقال عبد الله : والله لا أجاوز أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وثبت مكانه مع أقل من عشرة ، فنظر خالد بن الوليد المخزومي إلى قلة من في الجبل من الرماة ، فكرَّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم ، ومثلوا بعبد الله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه ! وهجموا على المسلمين وهم غافلون ، وتنادوا بشعارهم يا للعزى يا لهُبل ، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون فكان البلاء ، وقتل حمزة سيد الشهداء وسبعون من صناديد المهاجرين والأنصار ، وأصيب النبي بأبي هو وأمي بجروح يقرح القلوب ذكرها ويهيج
--------------------------- 162 ---------------------------
الأحزان بيانها ، فجزاه الله عنا خيراً ما جزى نبياً عن أمته . وإنما كان هذا البلاء كله لمخالفة أوامره ونواهيه » . « الفصول المهمة / 114 » .

2 . هزيمة المسلمين بعد انتصارهم !

قال القمي في تفسيره « 1 / 111 » : « فانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة ، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه ، فلما رأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إني أنا رسول الله ، إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله » !
وفي تفسير فرات / 94 : « عن حذيفة قال : » جعل ينادي : أيها الناس أنا لم أمت ولم أقتل ، وجعل الناس يركب بعضهم بعضاً لايلوون على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا يلتفتون إليه : فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة ، فلم يكتفوا بالهزيمة حتى قال أفضلهم رجلاً في أنفسهم : قتل رسول الله ، فلما آيس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من القوم رجع إلى موضعه الذي كان فيه فلم يزل علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا دجانة ذهب الناس فالحق بقومك !
فقال أبو دجانة : يا رسول الله ما على هذا بايعناك وبايعنا الله ، ولا على هذا خرجنا يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه يَدُ اللَّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا دجانة أنت في حل من بيعتك فارجع ، فقال أبو دجانة : يا رسول الله لاتحدث نساء الأنصار في الخدور أني أسلمتك ورغبت نفسي عن نفسك . يا رسول الله لا خير في العيش بعدك . قال : فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحةً فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به .
قال : وعلي ( عليه السلام ) لا يبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله على يديه حتى انقطع سيفه ، فلما انقطع سيفه جاء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله انقطع سيفي ولا سيف لي ، فخلع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفه ذا الفقار فقلد ه علياً ، ومشى إلى جمع المشركين ، فكان لايبرز إليه أحد إلا قتله ، فلم يزل على ذلك حتى وهت دراعته ، فنظر رسول الله إلى السماء وقال : اللهم إن محمداً عبدك ورسولك جعلت لكل نبي وزيراً من أهله
--------------------------- 163 ---------------------------
لتشد به عضده وتشركه في أمره ، وجعلت لي وزيراً من أهلي ، علي بن أبي طالب أخي ، فنعم الأخ ونعم الوزير ، اللهم وعدتني أن تمدني بأربعة آلاف من الملائكة مردفين ، اللهم وعدك وعدك ، إنك لا تخلف الميعاد ، وعدتني أن تظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون .
قال : فبينما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعو ربه ويتضرع إليه ، إذ سمع دوياً من السماء فرفع رأسه فإذا جبرئيل ( عليه السلام ) على كرسي من ذهب ومعه أربعة آلاف من الملائكة مردفين وهو يقول : لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار ، فهبط جبرئيل على الصخرة وحفت الملائكة برسول الله فسلموا عليه ، فقال جبرئيل : يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى لقد عجبت الملائكة المقربون لمواساة هذا الرجل لك بنفسه . فقال : يا جبرئيل ما يمنعه يواسيني بنفسه وهو مني وأنا منه . فقال جبرئيل : وأنا منكما ، حتى قالها ثلاثاً . ثم حمل علي ، وحمل جبرئيل والملائكة ، ثم إن الله تعالى هزم جمع المشركين ، وتشتت أمرهم » .
وفي إمتاع الأسماع ( 1 / 144 ) : « وتفرق المسلمون في كل وجه ! وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا . ونادى إبليس عند جبل عينين ، وقد تصور في صورة جعال بن سراقة : إن محمداً قد قتل : ثلاث صرخات » !
وفي تفسير الطبري : 4 / 194 ، عن السدي قال : « فدخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها » ! وقال ابن إسحاق : 3 / 306 :
« قال الزبير : وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل ! فانكفأنا وانكفؤوا علينا » .

3 . ثبت مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول الأمر بضعة أشخاص

روى المفيد في الإرشاد : 1 / 80 ، عن ابن مسعود قال : « وثبت علي ( عليه السلام ) وأبو دجانة الأنصاري ، وسهل بن حنيف يدفعون عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكثر عليهم المشركون ، ففتح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عينيه فنظر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد كان أغمي عليه مما ناله فقال : يا علي ما فعل الناس ؟ قال : نقضوا العهد وولوا الدبر ، فقال
--------------------------- 164 ---------------------------
له : فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي ، فحمل عليهم علي ( عليه السلام ) فكشفهم ، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية أخرى فكر عليهم فكشفهم ، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد كل واحد منهما سيفه ليذب عنه . قال زيد بن وهب : قلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف ؟ ! قال : انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده ، وثاب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نفر ، وكان أولهم عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، ولحقهم طلحة بن عبيد الله . فقلت له : فأين كان أبو بكر وعمر ؟ قال : كانا ممن تنحى . قال قلت . فأين كان عثمان ؟ قال : جاء بعد ثلاثة من الوقعة ، قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لقد ذهبت فيها عريضة ! قال فقلت له : فأين كنت أنت ؟ قال : كنت فيمن تنحى ! قال فقلت له : فمن حدثك بهذا ؟ قال : عاصم وسهل بن حنيف . قال قلت له : إن ثبوت علي في ذلك المقام لعجب ! فقال : إن تعجبت من ذلك لقد تعجبت منه الملائكة ، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ! فقلت له : فمن أين علم ذلك من جبرئيل ؟ فقال : سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه فقال : ذاك جبرئيل .
وفي حديث عمران بن حصين قال : لما تفرق الناس عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في يوم أحد ، جاء علي ( عليه السلام ) متقلداً سيفه حتى قام بين يديه ، فرفع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأسه إليه فقال له : ما لك لم تفر مع الناس ؟ فقال : يا رسول الله أأرجع كافراً بعد إسلامي ! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار له إلى قوم آخرين فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم ! فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله ، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وما يمنعه من هذا وهو مني وأنا منه ! فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : وأنا منكما » . وقالت رواية لابن سعد « 2 / 42 » : « وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبوبكرالصديق وسبعة من الأنصار » لكنهم كذَّبوها فقالوا كان أبو بكر في أوائل الراجعين !
--------------------------- 165 ---------------------------
وقال ابن سعد « 3 / 155 » : « عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد » .

4 . بقي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) وحدهما

فقد جُرح أبو دجانة ونسيبة ولم يبق مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا علي ( عليه السلام ) !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 110 ) : « انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغضب غضباً شديداً قال : وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق ، قال : فنظر فإذا علي ( عليه السلام ) إلى جنبه فقال له : إلحق ببني أبيك مع من انهزم عن رسول الله ! فقال : يا رسول الله لي بك أسوة ! قال : فاكفني هؤلاء ، فحمل فضرب أول من لقي منهم . فنظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جبرئيل على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار
ولا فتى إلا علي » .
وفي تفسير القمي : 1 / 115 : « فكلما حملت طائفة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استقبلهم فيدفعهم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويقتلهم ، حتى انقطع سيفه . . وحَمَلَ ابن قميئة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني محمداً لانجوتُ إن نجا ! فضربه على حبل عاتقه ، ونادى قتلت محمداً واللات والعزى . . ولم يكن يحمل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحد إلا يستقبله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإذا رأوه رجعوا ! فانحاز رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ناحية أحُد فوقف . فلم يزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة ، فتحاموه ! وسمعوا منادياً ينادي من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي .
وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل ، فقال أبو سفيان وهو على الجبل : أعلُ هُبل ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأمير المؤمنين قل له : الله أعلى وأجل . فقال : يا علي إنه قد أنعم علينا ! فقال علي ( عليه السلام ) : بل الله أنعم علينا . ثم قال أبو سفيان : يا علي أسألك باللات والعزى هل قتل محمد ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
--------------------------- 166 ---------------------------
لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك ! والله ما قتل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يسمع كلامك ! فقال : أنت أصدق ، لعن الله ابن قميئه زعم أنه قتل محمداً » .
أقول : وقد كذب رواة قريش فقالوا إن فلاناً أجاب أبا سفيان ، وهو من الفارين !

5 . ركز المشركون على قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أحُد

قال السيد شرف الدين في « الفصول المهمة / 118 : « لما اشتد البلاء وعظم الخطب بفرار المسلمين ، أرهف المشركون لقتل رسول الله غِرار عزمهم ، وأرصدوا لذلك جميع أهبهم ، فتعاقد خمسة من شياطينهم على ذلك ، كانوا كالفدائية في هذا السبيل وهم : عبد الله بن شهاب الزهري » والد الزهري المعروف وهو يهودي حداد حليف بني زهرة « وعتبة بن أبي وقاص ، وابن قميئة الليثي أبيُّ بن خلف ، وعبد الله بن حميد الأسدي القرشي ، لعنهم الله وأخزاهم ، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته الميمونة ، وأما عتبة تبَّت يداه فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشق شفته ، وأما ابن قميئة قاتله الله فكمَّ وجنته ودخل من خلف المغفر فيها وعلاه بالسيف ، شُلَّت يداه ، فلم يطق أن يقطع فسقط ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الأرض . وأما أبيُّ بن خلف فشد عليه بحربته فأخذها رسول الله منه وقتله بها ، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري شكر الله سعيه وأعلى في الجنان مقامه ، فإنه ممن أبلى يومئذ بلاء حسناً . ثم حمل ابن قميئة على مصعب بن عمير وهو يظنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقتله ، ورجع إلى قريش يبشرهم بقتل محمد ، فجعل الناس يقولون : قتل محمد قتل محمد ! فانخلعت قلوب المسلمين جزعاً وكادت نفوسهم أن تزهق هلعاً ، وأوغلوا في الهرب مدلهين مدهوشين ، لا يرتابون في قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد أسقط في أيديهم » .
وفي المناقب : 1 / 166 : « فرماه ابن قمئة بقذافة فأصاب كفه ، ورماه عبد الله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه ، وضربه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد على وجهه فشج رأسه فنزل عن فرسه ، ونهبه ابن قمئة ، وقد ضربه على جنبه » !
وروى ابن هشام : 3 / 597 ، نحوه ، وذكر أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى ، وأن عبد الله بن شهاب الزهري
--------------------------- 167 ---------------------------
شجه في جبهته ، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، ووقع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيده !
وفي الخرائج : / 62 ، وتفسير فرات / 93 : « إنتهى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لي صخرة فاستتر بها ، ليتقي بها من السهام سهام المشركين . . فلما انتهى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس ، فجاء به إلى رسول الله ليشرب منه فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه » .

6 . أشد الأيام على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

« رويَ عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : أنه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العباس بن علي فاستعبر ثم قال : ما من يوم أشد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من يوم أحُد ، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب . ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) : ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه ! وهو يذكرهم بالله فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً » ! « مقتل الحسين ( عليه السلام ) مخنف / 176 » .

7 . أصعب اللحظات في حياة علي ( عليه السلام )

وصف علي أصعب اللحظات عليه في حياته ، وأنها كانت في أحُد ، كما في الإرشاد : 1 / 86 ، والمناقب : 2 / 315 ، قال : « لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره ، فقلت : ما كان رسول الله ليفر ، وما رأيته في القتلى ، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء ، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي : لأقاتلن به عنه حتى أقتل ، وحملت على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد وقع على الأرض مغشياً عليه ، فقمت على رأسه فنظر إليَّ
--------------------------- 168 ---------------------------
وقال : ما صنع الناس يا علي ؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك ! فنظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي : رد عني يا علي هذه الكتيبة ، فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار . فقال لي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما تسمع يا علي مديحك في السماء ، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي . فبكيت سروراً ، وحمدت الله سبحانه على نعمته » .
ولما جرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووقع في الحفرة ، وتكاثر عليه المشركون ، جاء علي وجبرئيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخذاه إلى الصخرة .
وفي مناقب ابن سُلَيْمان ( 1 / 466 ) عن ابن أبي ليلى قال : « لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه ! جرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقتل حمزة ، وانكشف الناس عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتركوه وهو يقول : أنا النبي لا كذب . . الخ . » .

8 . نزل جبرئيل ( عليه السلام ) وبقي مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى انسحب المشركون

يفهم من حديث دعائم الإسلام : 1 / 374 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) وشرح الأخبار ( 1 / 285 ) عن أبي رافع ، أن جبرئيل ( عليه السلام ) بقي مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى انسحب المشركون ، قال :
« لما كان يوم أحد وافترق الناس عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وثبت معه علي ( عليه السلام ) وكان من أمر الناس ما كان ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : إذهب يا علي ، فقال : كيف أذهب يا رسول الله وأدعك ! بل نفسي دون نفسك ودمي دون دمك ، فأثنى عليه خيراَ . ثم نظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى كتيبة قد أقبلت فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل هشام بن أمية المخزومي ، ثم جاءت كتيبة أخرى فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل عمر بن عبد الله الجمحي ، ثم أقبلت كتيبة أخرى قال : إحمل عليها يا علي . فحمل عليها ففرقها وقتل شيبة بن مالك أخا بني عامر بن لؤي ، وجبرئيل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال جبرئيل : للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا محمد الرب يقرؤك السلام ويقول لك : إن هذه للمواساة ! فقال : يا جبرئيل ، إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما يا محمد » .
--------------------------- 169 ---------------------------
وفي الإرشاد : 1 / 89 : « فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبشر يا علي ، فإن الله منجز وعده ، ولن ينالوا منا مثلها أبداً » .

9 . أعطى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً قميصه الذي أصيب به في أحد

في الكافي : 1 / 236 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من حديث ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما حضرته الوفاة عرض على عمه العباس أن يأخذ تراثه ويقضي دينه ومواعيده ، فاعتذر بأنه لا يطيق ، فعرض ذلك على علي ( عليه السلام ) فقبله فأعطاه تراثه ، وفيه : القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي جرح فيه يوم أحد » .
وروى ابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) / 88 ، أن المهدي ( عليه السلام ) عندما يظهر : « يكون عليه قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي كان عليه يوم أحد » .

10 . لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة ؟ !

كان القرشيون يقولون : نقتل محمداً ونردف الكواعب من المدينة ، أي نأتي بالسبايا من الأنصار ! « ندموا على انصرافهم عن المسلمين ، وتلاوموا فقالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم » ! « مجمع البيان : 2 / 446 » .
وفي مناقب آل أبي طالب : 1 / 109 : « لما ارتحل أبو سفيان والمشركين يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا : ما صنعنا ! قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركناهم إذ هم !
وقالوا : إرجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا » . فقد كان قائدهم أبو سفيان مذعوراً من علي ( عليه السلام ) يرى معه جبرئيل ( عليه السلام ) راكباً فرساً أشقر ، فأمرقريشاً بالرحيل ! وأرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) خلفهم وهم ثلاثة آلاف ، فذهب غير هيَّاب وتفاجؤوا به أمامهم فقالوا : هذا الذي فعل فينا الأفاعيل ! وصاح أبو سفيان : نحن منسحبون فما تريد !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 318 » : « لما رأى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اختلاج ساقيه من كثرة القتال ، رفع رأسه إلى السماء وهو يبكي وقال : يا رب وعدتني أن تظهر
--------------------------- 170 ---------------------------
دينك وإن شئت لم يُعْيك . فأقبل علي ( عليه السلام ) إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله أسمع دوياً شديداً وأسمع أقدم حيزوم ، وما أهمُّ أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه ! فقال هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة . . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إمض بسيفك حتى تعارضهم ، فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص « الإبل » وجنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة ، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنبون القلاص فإنهم يريدون المدينة ، فأتاهم علي ( عليه السلام ) فكانوا على القلاص فقال أبو سفيان لعلي : يا علي ما تريد ! هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة ، فانصرف إلى صاحبك !
فأتبعهم جبرئيل فكلما سمعوا وقع حافر فرسه جدوا في السير ! وكان يتلوهم ، فإذا ارتحلوا قالوا : هو ذا عسكر محمد قد أقبل ! فدخل أبو سفيان مكة فأخبرهم الخبر ، وجاء الرعاة والحطابون فدخلوا مكة فقالوا : رأينا عسكر محمد كلما رحل أبو سفيان نزلوا ، يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم » !
أقول : وصف هذا النص رعب قريش من علي ( عليه السلام ) وهم ثلاثة آلاف ! وأنهم صاحوا لما رأوه : هذا الذي فعل فينا الأفاعيل ! وكانوا يرون معه فارساً على فرس أشقر . كما ذكر النص أن ساقي علي ( عليه السلام ) اختلجت يومها ، تعباً ، أو غضباً !

11 . علي ( عليه السلام ) بطل أحُد ومحقق انتصاراتها

قال ابن هشام : 3 / 655 : « أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي ، يمدح علي بن أبي طالب ، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، صاحب لواء المشركين يوم أحد :
لله أي مذبَّبٍ عن حرمة * أعني ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخْولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة * تركتْ طليحة للجبين مجدَّلا
وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم * بالسفح إذ يَهْوُون أخولَ أخولا
وعللت سيفك بالدماء ولم يكن * لتردَّه ظمآنَ حتى ينهلا »
والإرشاد : 1 / 90 ، ورسائل المرتضى : 4 / 125 ، والنهاية : 7 / 372 .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 90 : « ذكر أهل السير قتلى أحُد من المشركين ، فكان جمهورهم
--------------------------- 171 ---------------------------
قتلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فروى عبد الملك بن هشام قال . . كان صاحب لواء قريش يوم أحُد طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، قتله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وقتل ابنه أبا سعيد بن طلحة ، وقتل أخاه كلدة بن أبي طلحة ، وقتل عبد الله بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبد العزى ، وقتل أبا الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي ، وقتل الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أخاه أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أرطاة بن شرحبيل ، وقتل هشام بن أمية ، وعمرو بن عبد الله الجمحي ، وبشر بن مالك ، وقتل صوابا مولى بني عبد الدار ، فكان الفتح له ورجوع الناس من هزيمتهم والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمقامه يذب عنه دونهم ! وتوجه العتاب من الله تعالى إلى كافتهم لهزيمتهم يومئذ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار ، وكانوا ثمانية نفر وقيل : أربعة أو خمسة » .
وقال العلامة في كشف اليقين / 131 : « وكان جمهور قتلى أحُد مقتولين بسيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان الفتح ورجوع الناس إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثبات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .

12 . أصابته ثمانون جراحة ، وكسر زنده فشفاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الثاقب في المناقب / 63 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قَتَل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوم أحد أربعة عشر رجلاً ، وقتل سائر الناس سبعة ، وأصابه يومئذ ثمانون جراحة ، فمسحها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلم ينفح منها شئ » .
وفي المناقب : 3 / 85 ، عن زيد بن علي قال : « كسرت زند علي يوم أحد وفي يده لواء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فسقط اللواء من يده ، فتحاماه المسلمون أن يأخذوه ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة . وفي رواية غيره : فرفعه المقداد وأعطاه علياً » . ورواه السرخسي في المبسوط : 1 / 73 .
وفي تحفة الفقهاء للسمرقندي : 1 / 90 ، أنه كسر زنداه يومئذ ! ولم يذكر متى ، ولعله في الجولة الأولى بعد قتله أصحاب الألوية ، وقد واصل جهاده وكأنه لم يصبه شئ فقد مسح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جراحه !
--------------------------- 172 ---------------------------
وفي تفسير القمي ( 1 / 115 ) : ( فلم يزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة ، فتحاموه ) .
وفي المناقب : 1 / 385 و : 2 / 78 : « عن أبان بن عثمان ، أنه أصاب علياً يوم أحد ستون جراحة ، وأصاب علياً يوم أحد ستة عشر ضربة ، وهو بين يدي رسول الله يذب عنه في كل ضربة يسقط إلى الأرض ، فإذا سقط رفعه جبرئيل . أصابني يوم أحد ست عشرة ضربة ، سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح ، فأخذ بضبعي فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله ، وهما عنك راضيان . قال علي ( عليه السلام ) : فأتيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبرته فقال : يا علي أقر الله عينك ، ذاك جبرئيل » .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 385 ) : ( قال أنس بن مالك : إنه أُتيَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي وعليه نيف وستون جراحة . قال أبان : أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أم سليم وأم عطية أن تداوياه فقالتا قد خفنا عليه ، فدخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحده ، فجعل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يمسحه بيده ويقول : إن رجلاً لقي هذا في الله لقد أبلى وأعذر ، فكان يلتئم ، فقال علي : الحمد لله الذي لم أفر ولم أول الدبر ، فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن ، وهو قوله تعالى : وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ . وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ . . يعني بالشاكرين صاحبك علي بن أبي طالب ، والمرتدين على أعقابهم الذين ارتدوا عنه ) .
ورواه القرطبي مختصراً في تفسيره ( 4 / 219 ) والعيني في عمدة القاري ( 17 / 140 ) وهو يدل على جواز أن تضمد الرجل امرأة ، ما دامت تراعي الأحكام الشرعية .
وفي المناقب : 1 / 341 : « المعروفون بالجهاد : علي ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، وسعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب وسعد بن معاذ ، ومحمد بن مسلمة . وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلي ( عليه السلام ) في شوكته وكثرة جهاده . فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة .
وقد أجمعت الأمة على أن علياً ( عليه السلام ) كان المجاهد في سبيل الله والكاشف الكروب
--------------------------- 173 ---------------------------
عن وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، المقدم في ساير الغزوات إذا لم يحضر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً ، وما كان قط تحت لواء أحد ، ولا فر من زحف ! وإنهما فرَّا في غير موضع ، وكانا تحت لواء جماعة » .
أقول : مع كل هذا ، لم يترك رواة السلطة ذمهم لعلي ( عليه السلام ) ، فقالوا إنه أعطى سيفه لفاطمة ( عليها السلام ) لتغسله وافتخر فقال : « خذيه فلقد أحسنت به القتال » ! فوبخه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له : « إن كنت قد أحسنت القتال اليوم ، فلقد أحسن سهل بن حنيف ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصمة ، وأبو دجانة » . « الحاكم : 3 / 409 ، والحلبية : 2 / 547 » . وهذا من الحقد القرشي على علي ( عليه السلام ) !

13 . حب علي ( عليه السلام ) فريضة لا رخصة فيها

في الجواهر السنية / 301 ، عن سلمان الفارسي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « هبط جبرئيل ( عليه السلام ) يوم أحد وقد انهزم المسلمون ولم يبق غير علي ( عليه السلام ) ، وقد قتل الله على يده يومئذ من المشركين من قتل ، فقال جبرئيل : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبر علياً أني عنه راض ، وأني آليت على نفسي أن لا يحبه عبد إلا أحببته ، ومن أحببته لم أعذبه بناري ، ولا يبغضه عبد إلا أبغضته ، ومن أبغضته ما له في الجنة من نصيب ! قال : وهبط عليَّ جبرئيل ( عليه السلام ) يوم الأحزاب لما قتل علي بن أبي طالب عمرواً فارسهم فقال : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني افترضت الصلاة على عبادي فوضعتها عن العليل الذي لايستطيعها ، وافترضت الزكاة فوضعتها عن المقل ، وافترضت الصيام فوضعته عن المسافر ، وافترضت الحج فوضعته عن المعدم ومن لا يجد السبيل إليه ، وافترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات وأهل الأرض ، فلم أعذر فيه أحداً ! فمر أمتك بحبه فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه ، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه » !
--------------------------- 174 ---------------------------

14 . انْقَضَّتْ فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كالصقر إلى قلب المعركة !

في إعلام الورى : 1 / 177 : « ذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة ، فصاحت فاطمة ( عليها السلام ) ، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا وضعت يدها على رأسها ، وخرجت فاطمة ( عليها السلام ) تصرخ ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : فلما دنت فاطمة من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورأته قد شج في وجهه وأدميَ فوهُ إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ !
قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب ! قال أبان بن عثمان : حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت : كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء ؟ قال ( عليه السلام ) : لا والله ما قبضه الله إلا سَليماً ولكنه شُجَّ في وجهه . قلت : فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صار إليه ؟ قال : والله ما برح مكانه ، وقيل له ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ألا تدعو عليهم ؟ قال : اللهم اهد قومي » .
وفي المناقب : 1 / 166 : « وصاح إبليس من جبل أحد : ألا أن محمداً قد قتل ! فصاحت فاطمة ( عليها السلام ) ووضعت يدها على رأسها ، وخرجت تصرخ » !
وفي تفسير القمي : 1 / 124 : « خرجت فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقعدت بين يديه ، فكان إذا بكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكت لبكائه ، وإذا انتحب انتحبت » !
وكان بكاؤه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً وشكراً لفاطمة ( عليها السلام ) ، وبكاؤها تأثراً لوحدته وجراحه !
ومعنى ذلك أنها حضرت عندما جاء علي وجبرئيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالنبي إلى ظل الصخرة ، بعد أن جرح ووقع في حفرة ، فجاءت لتكون إلى جنبه ! وجاءت ركضاً تمشي في سفوح وادي قُبا الشرقية ، لأن الوادي كانت بيد جيش قريش ، ولو رأوها لأخذوها أسيرة ، وكان ذلك لهم نصراً عظيماً !
كما أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أرسل علياً ( عليه السلام ) خلف جيش قريش ، بقيت فاطمة ( عليها السلام ) معه ، وكانا في معرض الخطر ، لكن بكلاءة الله تعالى !
--------------------------- 175 ---------------------------
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( إعلام الورى : 1 / 179 ) : ( فلما دنت فاطمة ( عليها السلام ) من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورأته قد شُج في وجهه وأدميَ فوه إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء ، فلا يتراجع منه شئ ! قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب ) .
وقد كتم رواة السلطة دورفاطمة ( عليها السلام ) في أحُد ، ولم يشيدوا بمجيئها والناس فارُّون ! وغاية ما رووه أن علياً وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غسلا جرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال بخاري : 3 / 227 : « لما كسرت بيضة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على رأسه وأدميَ وجهه وكسرت رباعيته ، كان عليٌّ يختلف بالماء في المجن وكانت فاطمة ( عليها السلام ) تغسله ، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه ، يعني رمادها ،
فرقأ الدم » .

15 . نادى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الهاربين بأسمائهم وأرسل علياً ( عليه السلام ) يناديهم

في شرح النهج : 15 / 24 ، عن محمد بن مسلمة قال : « سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لايلوون عليه ، سمعته يقول : إليَّ يا فلان ، إليَّ يا فلان ، أنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فما عرج عليه واحد منهما ومضيا » !
وروى الطبري في تفسيره : 4 / 193 : « خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران قال : لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد » ! والأروى : العنزة الجبلية التي تجيد تسلق الصخور !
وفي سيرة ابن إسحاق : 3 / 309 ، أن أنس بن النضر انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم « انهاروا » فقال : ما يجلسكم ؟ ! قالوا : قتل رسول الله ! قال : فما تظنون بالحياة بعده ؟ ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ! ثم استقبل القوم
--------------------------- 176 ---------------------------
فقاتل حتى قتل ( رحمه الله ) » . ويدل قولهم فارجعوا إلى قومكم أو إلى دين قومكم ، على أنهم قرشيون ! وروى في الدر المنثور ( 2 / 80 ) : « عن ابن عباس . . قالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ، ولكنه قد قتل ) !
ولحقهم علي ( عليه السلام ) ووبخهم ! ففي تفسير القمي : 1 / 114 : « عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال : كنت أماشي فلاناً « عمر » إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه ، ماذا يا فلان ؟ قال ويحك أما ترى الهزير القضم ابن القضم . فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب ، فقلت له : يا هذا هو علي بن أبي طالب ! فقال : أدن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته ، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال ، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه ، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا ، فرأيت علياً كالليث يتقي الدر ، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهناثم قال : شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلى أين تفرون ، إلى النار ! فلم نرجع ، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال : بايعتم ثم نكثتم ؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل ! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً ، أو كالقدحين المملوين دماً ، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا ، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت : يا أبا الحسن الله الله ، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفي الفرة ، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني ، فما زلت أسكن روعة فؤادي ! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة » !

16 . قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده مشركين هاجماه

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس / 247 : « وقد علموا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف . وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاءً ، وأحقهم بذلك » .
أقول : الشخصان اللذان قتلهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده هما : أبي بن خلف ، وهو ابن قميئة حمل عليه في أحُد ليقتله ، فطعنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحربة في عنقه فمات منها في مكة . أما مسجع بن عوف ، فلم أجد ترجمته فيما لديَّ من مصادر .
--------------------------- 177 ---------------------------

17 . الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه

في الإختصاص / 147 ، وكشف الغمة : 1 / 189 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سئل على منبر الكوفة عن قوله تعالى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ . . فقال : اللهم غفراً ، هذه الآية نزلت فيَّ وفي عمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب . فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل فأنزل الله فينا : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ . . . وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه ، وأومأ بيده إلى لحيته ورأسه ، عهدٌ عهده إلى حبيبي أبو القاسم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » !
وفي الطرائف / 503 : « قيل لعبد الله بن يحيى : هل تصلي مع معاوية ؟ قال : لا والله لا أجد فرقاً بين الصلاة خلفه وبين الصلاة خلف امرأة يهودية حائض ، ولذا لو صليت خلفه تقية أعدتها ! وسئل شريك عن فضائل معاوية فقال : إن أباه قاتلَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهوقاتلَ وصي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأمه أكلت كبد حمزة عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وابنه قتل سبط النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وهو ابن زنا ! فهل تريد له منقبة بعد ذلك » !

18 . أنزل الله ستين آية في أحُد وتَوَّجَهَا بمدح علي ( عليه السلام )

نزلت في معركة أحُد أكثر من ستين آية ، فيها ذم للذين تباطؤوا ، أو فروا داخل المعركة إلى الصف الخلفي ، أو إلى خارج المعركة ، أو ارتدوا على أعقابهم لما سمعوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قُتل ، أو طلبوا أن يكون لهم من الأمر شئ فيشاركوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في القيادة . . . وفيها مدح لمن ثبت واستشهد في الجولة الثانية ، وأولهم حمزة . ومدحٌ لمن ثبت مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعدها وسماهم الله الرِّبِّيين فقال تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
--------------------------- 178 ---------------------------
وهذه الآيات نصٌّ في مدح علي ( عليه السلام ) خاصة ، وأبي دجانة ونسيبة رضي الله عنهما . وقد استعرضنا بقية الآيات في السيرة النبوية .

غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أحُد

1 . في تفسير القمي ( 1 / 124 ) : « فلما دخل رسول الله المدينة نزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلا من به جراحة !
فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منادياً ينادي يا معشر المهاجرين والأنصار : من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم ، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها ! فأنزل الله على نبيه : وَلاتَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لايَرْجُونَ . . فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح ، فلما بلغ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحاء ، قال عكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، وعمرو بن عاص ، وخالد بن الوليد : نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة ، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال : تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب فقال أبو سفيان : هذا النكد والبغي ، قد ظفرنا بالقوم وبغينا ! والله ما أفلح قوم قط بغوا » !

أقول : في هذا الأمر الإلهي حكمة بالغة ، حيث منع الهاربين من هذا الشرف !

2 . وفي الإختصاص المفيد / 158 : ( قال ابن دأب . . انصرف ( عليه السلام ) من أحد وبه ثمانون جراحة ، تدخل الفتائل من موضع وتخرج من موضع ، فدخل عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عائداً وهو مثل المضغة على نطع ، فلما رآه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكى فقال له : إن رجلاً يصيبه هذا في الله لحق على الله أن يفعل به ويفعل ، فقال مجيباً له وبكى : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يرني وليت عنك ولا فررت ، بأبي وأمي كيف حرمت الشهادة ؟ قال : إنها من ورائك إن شاء الله ، قال : فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن أبا سفيان قد أرسل موعدة بيننا وبينكم حمراء الأسد ، فقال : بأبي أنت وأمي ، والله لو حملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك . قال : فنزل القرآن : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا
--------------------------- 179 ---------------------------
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . ونزلت الآية فيه قبلها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ) .
2 . وفي الإختصاص المفيد / 158 : ( قال ابن دأب . . انصرف ( عليه السلام ) من أحد وبه ثمانون جراحة ، تدخل الفتائل من موضع وتخرج من موضع ، فدخل عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عائداً وهو مثل المضغة على نطع ، فلما رآه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكى فقال له : إن رجلاً يصيبه هذا في الله لحق على الله أن يفعل به ويفعل ، فقال مجيباً له وبكى : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يرني وليت عنك ولا فررت ، بأبي وأمي كيف حرمت الشهادة ؟ قال : إنها من ورائك إن شاء الله ، قال : فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن أبا سفيان قد أرسل موعدة بيننا وبينكم حمراء الأسد ، فقال : بأبي أنت وأمي ، والله لو حملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك . قال : فنزل القرآن : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . ونزلت الآية فيه قبلها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ) .
3 . وقال ابن عبد البر في الدرر / 158 : ( فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والقرح وخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو حتى بلغ موضعاً يدعى حمراء الأسد ، على رأس ثمانية أميال من المدينة ، فأقام به يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . قال ابن إسحاق : وإنما خرج بهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو وليظنوا أن بهم قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم . وكان معبد بن أبي معبدالخزاعي قد رأى خروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين إلى حمراء الأسد ، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء ، فأخبرهم بخروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في طلبهم ، ففتَّ ذلك في أعضاد قريش ، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة ، فكسرهم خروجه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتعادوا إلى مكة . وظفر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خروجه بمعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية فأمر بضرب عنقه صبراً ، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان ) .
3 . وقال ابن عبد البر في الدرر / 158 : ( فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والقرح وخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو حتى بلغ موضعاً يدعى حمراء الأسد ، على رأس ثمانية أميال من المدينة ، فأقام به يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . قال ابن إسحاق : وإنما خرج بهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو وليظنوا أن بهم قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم . وكان معبد بن أبي معبدالخزاعي قد رأى خروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين إلى حمراء الأسد ، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء ، فأخبرهم بخروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في طلبهم ، ففتَّ ذلك في أعضاد قريش ، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة ، فكسرهم خروجه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتعادوا إلى مكة . وظفر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خروجه بمعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية فأمر بضرب عنقه صبراً ، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان ) .
4 . وقال في شرح النهج ( 15 / 45 ) ملخصاً : ( قال الواقدي : أما أبو عزة واسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخذه أسيراً يوم أحد ، ولم يؤخذ يوم أحد أسير غيره فقال : يا محمد ، مُنَّ عليَّ ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن المؤمن لايلدغ من جحر مرتين ، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك ، فتقول سخرت بمحمد مرتين . ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
فأما معاوية بن المغيرة فروى البلاذري أنه هو الذي جدع أنف حمزة ومَثَّلَ به ، وأنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه ، فبات قريباً من المدينة ، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص وهو ابن عمه لِحّاً فضرب بابه ، فقالت أم‌كلثوم زوجته وهي ابنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ليس هو هاهنا ، فقال :
--------------------------- 180 ---------------------------
إبعثي إليه ، فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول ، وقد جئته به فإن لم يجئ ذهبت فأرسلت إليه ، وهو عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما جاء قال لمعاوية : أهلكتني وأهلكت نفسك ! ما جاء بك ؟ قال : يا ابن عم ، لم يكن أحد أقرب إلى ولا أمس رحماً بي منك فجئتك لتجيرني ، فأدخله عثمان داره وصيره في ناحية منها ، ثم خرج إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليأخذ له منه أماناً ، فسمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إن معاوية في المدينة ، وقد أصبح بها فاطلبوه . فقال بعضهم : ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه به ، فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم‌كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه ، فاستخرجوه من تحت حمارة لهم ، فانطلقوا به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال عثمان حين رآه : والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان ، فهبه لي فوهبه له ، وأجله ثلاثاً ، وأقسم : لئن وجده بعدها يمشى في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه .
وخرج عثمان فجهزه واشترى له بعيراً ثم قال : ارتحل . وسار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى حمراء الأسد وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويأتي بها قريشاً ، فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن معاوية أصبح قريباً لم ينفذ فاطلبوه ، فأصابوه وقد أخطأ الطريق فأدركوه ، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، فوجداه بالجماء فضربه زيد بالسيف ، وقال عمار : إن لي فيه حقاً ، فرمياه بسهم فقتلاه ثم انصرفا إلى المدينة بخبره . . ولا عقب له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان . قال : ويقال إن علياً ( عليه السلام ) هو الذي قتل معاوية بن المغيرة ) .
* *

علي ( عليه السلام ) بطل معركة بني النضير بعد أحُد

1 . كتبنا في السيرة النبوية ماخلاصته :

كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معاهدة تعايش مع فئات اليهود الثلاث الذين كانوا حول المدينة : أما بنو قينقاع الصاغة ، فنقضوا المعاهدة بعد بدر فسار إليهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحاصرهم وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، فخرجوا إلى أذرعات الشام ، وكانوا ست مئة مقاتل .
وأما بنو النضير ، فتآمروا على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليقتلوه ونزلت فيهم سورة الحشر ، فبعث
--------------------------- 181 ---------------------------
إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها فأبوا ، فأمر علياً ( عليه السلام ) بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة فرسانهم ، فقالوا : نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فخرجوا إلى وادي القرى والشام . وكان أسوأ حاخاماتهم كعب بن الأشرف ، وخليفته حي بن أخطب ، فقد أفرطا في عداء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتحريك قريش ضده !
وأما بنو قريظة ، فذهب زعماؤهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب . فلما حاصرالأحزاب المدينة مزقوا عهدهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغزاهم بعد حرب الأحزاب .

وأما يهود خيبر ، فزادت مؤامراتهم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقصدهم في السنة السابعة للهجرة وانتصر عليهم . وكان علي ( عليه السلام ) حامل راية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حربه مع فئات اليهود ، ومحقق النصر عليهم .

. قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 92 ) ونحوه المناقب ( 2 / 332 ) :

2 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 92 ) ونحوه المناقب ( 2 / 332 ) : « لما توجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بني النضير عمل على حصارهم ، فضرب قبته في أقصى بني خطمة من البطحاء فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم فأصاب القبة ، فأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن تحول قبته إلى السفح ، وأحاط به المهاجرون والأنصار . فلما اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال الناس : يا رسول الله لا نرى علياً ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أراه في بعض ما يصلح شأنكم ! فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان يقال له عزورا ، فطرحه بين يدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كيف صنعت ؟ فقال : إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً ، فكمنت له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غِرة ، فأقبل مصلتاً سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود ، فشددت عليه فقتلته ، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريباً ، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم ! فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة ،
وسهل بن حنيف ، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم
--------------------------- 182 ---------------------------
إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأمر أن تطرح في بعض آبار بني حطمة ، وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير . قال حسان :
لله أي كريهة أبليتَها * ببني [ النضير ] والنفوس تطلَّعُ
أردى رئيسهم وآبَ بتسعة * طوراً يشلهم وطوراً يدفع »

وفي تلك الليلة أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من قتل كعب بن الأشرف رئيس بني النضير ، وهو غير كعب بن الأشرف المعروف .

3 . وقد اتفق المسلمون على أن أراضي بني النضير خاصة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

ففي سنن أبي داود ( 2 / 33 ) وتاريخ المدينة ( 1 / 173 ) وفتح الباري ( 6 / 140 ) : « فكان نخل بني النضير لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها . وبقي منها صدقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي في أيدي بني فاطمة » .
وقال البخاري في صحيحه ( 3 / 227 ) : ( عن عمر : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله خاصة ، وكان ينفق على أهله نفقة سنته ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدةً
في سبيل الله ) .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 92 : « قسمها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المهاجرين الأولين ، وأمر علياً ( عليه السلام ) فحاز ما لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منها فجعله صدقة ، فكان في يده أيام حياته ) . لكن أبا بكر وعمر صادرا نخل بني النضير وفدكاً وغيرها من علي والزهراء ( عليها السلام ) بحجة أنهما وليا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنه لا يورث ! وقالا إنهما سيعطيان عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المأكل والمشرب !
وقد جعل بخاري ( 5 / 23 ) ومسلم ( 5 / 151 ) المقصر فيها علياً ( عليه السلام ) والعباس لأنهما طالبا بها أبا بكر واتَّهَمَاهُ بأنه كاذبٌ آثمٌ غادرٌ خائن ! فلم يعطهما ، ثم طالبا عمرفأعطاهما إياها ، على أن يعملا فيها كما كان يعمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيأخذا منها نفقاتهما ويصرفا الباقي في مصالح المسلمين ، فاختلف العباس وعلي وتشاتما ! وجاءا إلى عمر يختصمان ! فقال لهما حسب رواية مسلم طالبتما أبا بكر : ( فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر وأنا وليُّ رسول الله ووليُّ أبي‌بكر ،
--------------------------- 183 ---------------------------
فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق . وقال لهما إما أن تعملا فيها كما كان يعمل النبي أو تردَّاها اليَّ لأعمل ذلك !
ثم قال بخاري : ( فكانت هذه الصدقة بيد علي ، منعها علي عباساً فغلبه عليها ! ثم كانت بيد حسن بن علي ، ثم بيد حسين بن علي ، ثم بيد علي بن حسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ) .
أقول : كتب بخاري ومسلم ذلك في عصر العباسيين ، وغرضهما أن متوليها العباس فظلمه عليٌّ وغلبه عليها وشتمه ! فيحق لأولاد العباس أخذها ! قال ابن حجر في فتح الباري ( 6 / 145 ) : ( الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يكتب في عهده فيولي عليها من قبله من يقبضها ، ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة ) .
* * ا
--------------------------- 184 ---------------------------

الفصل الثامن: أولاد علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . مولد الإمام الحسن ( عليه السلام )
اتفق جمهور المؤرخين على أن مولد الإمام الحسن ( عليه السلام ) في منتصف شهر رمضان والمرجح أنه في السنة الثالثة للهجرة : « أصح ما قيل في ولادته أنه ولد بالمدينة في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة » . ( كشف الغمة : 2 / 136 ) .
قال سعيد بن المسيب « الكافي : 8 / 338 » : « فقلت لعلي بن الحسين ( عليه السلام ) : فمتى زوج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقال : بالمدينة بعد الهجرة بسنة ، وكان لها يومئذ تسع سنين » . أي أكملت تسعاً ودخلت في العاشرة ، فكان عمرها عند زواجها في ذي الحجة السنة الثانية للهجرة نحو تسع سنين ونصفاً ، وولدت الحسن ( عليه السلام ) وعمرها نحو عشر
سنوات ونصفاً .
وفي أمالي الصدوق / 197 : « عن زيد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لما ولدت فاطمة ( عليها السلام ) الحسن ( عليه السلام ) قالت لعلي : سمه . فقال : ما كنت لأسبق باسمه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فجاء رسولُ الله فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال : ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء ! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها ، ثم قال لعلي ( عليه السلام ) : هل سميته ؟ فقال : ما كنت لأسبقك باسمه ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وما كنت لأسبق باسمه ربي عز وجل ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابنٌ فاهبط واقرئه السلام وهنئه وقل له : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمه باسم ابن هارون ، فهبط جبرئيل فهنأه من الله عز وجل ، ثم قال : إن الله عز وجل يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون . قال : وما كان اسمه ؟ قال : شُبَّر . قال : لساني عربي . قال : سمه
--------------------------- 185 ---------------------------
الحسن فسماه الحسن . فلما ولد الحسين أوحى الله عز وجل إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه وهنئه ، وقل له : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمه باسم ابن هارون ، قال : فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) فهنأه من الله تبارك وتعالى ثم قال : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم ابن هارون . قال : وما اسمه ؟ قال : شبير . قال : لساني عربي . قال : سمه الحسين ، فسماه الحسين » .
وفي المجدي في الأنساب للعمري / 12 : ( ولد الحسن ( عليه السلام ) لثلاث من الهجرة وكان بين ولادة الحسن والحمل بالحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خمسون ليلة ، كان وجهه يشبه النبي ( عليه السلام ) وتوفي سنة اثنين وخمسين وعمره ثمان وأربعون سنة ، ويكنى أبا محمد ) .
وفي الكافي ( 1 / 461 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قبض الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو ابن سبع وأربعين سنة في عام خمسين ، عاش بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربعين سنة ) .
وفي الكافي : 6 / 33 : « عن الحسين بن خالد قال : سألت أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) عن التهنية بالولد متى ؟ فقال إنه قال : لما ولد الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هبط جبرئيل بالتهنية على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في اليوم السابع ، وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه ، وكذلك حين ولد الحسين ( عليه السلام ) أتاه في اليوم السابع فأمره بمثل ذلك . قال : وكان لهما ذؤابتان في القرن الأيسر ، وكان الثقب في الأذن اليمنى في شحمة الأذن ، وفي اليسرى في أعلى الأذن ، فالقرط في اليمنى والشنف في اليسرى ، وقد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك لهما ذؤابتين في وسط الرأس . وهو أصح من القرن » .
وفي الهداية للصدوق / 70 : « وقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفاطمة ( عليها السلام ) : أنقبي على أذني ابنيَّ الحسن والحسين ، خلافاً على اليهود » .
وفي قاموس الكتاب المقدس / 316 : « وكانت عادة قومية عند الإسماعيليين أن يلبس الرجال أقراطاً . قضاة 8 : 25 و 26 » .
--------------------------- 186 ---------------------------

2 . مولد الإمام الحسين ( عليه السلام )

في الكافي ( 1 / 463 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ولد الحسين بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنة ثلاث ، وقبض في شهر المحرم من سنة إحدى وستين من الهجرة ، وله سبع وخمسون سنة وأشهر ، قتله عبيد الله بن زياد في خلافة يزيد بن معاوية ، وهو على الكوفة ، وكان على الخيل التي حاربته وقتلته عمر بن سعد ، بكربلا يوم الاثنين لعشر خلون من المحرم ، وأمه فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . إن جبرئيل ( عليه السلام ) نزل على محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : يا محمد إن الله يبشرك بمولود يولدمن فاطمة تقتله أمتك من بعدك ! فقال : يا جبرئيل وعلى ربي السلام ، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة تقتله أمتي من بعدي ، فعرج ثم هبط فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فقال : قد رضيت . ثم أرسل إلى فاطمة ( عليها السلام ) أن الله يبشرني بمولود يولد لك تقتله أمتي من بعدي ، فأرسلت إليه لا حاجة لي في مولود تقتله أمتك من بعدك ! فأرسل إليها أن الله قد جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فأرسلت إليه إن قد رضيت .
لما كان من أمر الحسين ( عليه السلام ) ما كان ، ضجت الملائكة إلى الله بالبكاء وقالت : يفعل هذا بالحسين صفيك وابن نبيك ؟ قال : فأقام الله لهم ظل القائم ( عليه السلام ) وقال :
بهذا أنتقم لهذا ) .
ومعنى قولهم في بعضي الروايات بين الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طهر أي قدر طهر ، لأنها ( عليها السلام ) لاتطمث .

3 - مولد زينب بنت علي ( عليها السلام )

قال السيوطي في رسالته الزينبية : ( ولدت زينب في حياة جدها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانت لبيبة ، جزلة ، عاقلة ، لها قوة جنان ، فإن الحسن ولد قبل وفاة جده بثمان سنين ، والحسين بسبع سنين ، وزينب الكبرى بخمس سنين ) .
وفي معاني الأخبار للصدوق / 106 : ( عن محمد بن مروان قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام )
--------------------------- 187 ---------------------------
هل قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار ؟ قال : نعم ، عنى بذلك : الحسن والحسين وزينب وأم‌كلثوم ( عليهم السلام ) ) .
وفي موسوعة كربلاء للدكتور بيضون ( 2 / 652 ) : ( ولدتها السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بعد الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهي زينب الكبرى العقيلة ، وإنما يقال لها الكبرى للتفريق بينها وبين من سميت باسمها من أخواتها . ولدت زينب الكبرى ( عليها السلام ) في 5 جمادى الأولى سنة 6 ه - . وفي منتخب التواريخ أنها ولدت في أول يوم من شعبان ، بعد ولادة أخيها الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسنتين ، وتوفيت في النصف من رجب سنة 62 ه - ، وقيل 65 ه - ، والتاريخ الأخير يوافق عام المجاعة في عهد عبد الملك ، فيكون عمرها الشريف أقل من ستين عاماً . .
ومن ألقابها : عقيلة الوحي ، وعقيلة بني هاشم ، وعقيلة الطالبيين ، والموثقة ، والعارفة ، والعالمة ، والفاضلة ، والكاملة ، وعابدة آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكانت ذات جلال وشرف وعلم ودين وصون وحجاب ، حتى قيل إن الحسين ( عليه السلام ) كان إذا زارته زينب يقوم إجلالاً لها . وروت الحديث عن جدها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعن أبيها أمير المؤمنين ، وعن أمها فاطمة الزهراء ( عليهم السلام ) .
قال ابن الأثير : زوجها أبوها من ابن عمها عبد الله بن جعفر ، فولدت له أربعة أولاد ، منهم عون ومحمد ، اللذان استشهدا بين يدي الحسين ( عليه السلام ) ، ومنهم علي وأم‌كلثوم . وكانت زينب مع أخيها الحسين ( عليه السلام ) لما قتل ، فحملت إلى دمشق وحضرت عند يزيد . وكلامها ليزيد يدل على عقل وقوة جنان . وبعد رجوع زينب ( عليها السلام ) مع السبايا إلى المدينة ، حصلت مجاعة فيها فهاجرت مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى دمشق ، وأقامت في قرية راوية التي كانت لزوجها فيها أراض وبساتين ، حيث توفيت هناك بعد موقعة الطف بعدة سنين . واختلف في مرقدها بين مصر والشام . .
وقد ألفت كتب كثيرة في سيرتها ( عليها السلام ) وآخر ما ظهر منها كتاب : بطلة كربلاء ، للفاضلة الحرة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) إذ قالت في خاتمة كتابها :
--------------------------- 188 ---------------------------
« بطلةٌ استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد العظيم ، وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني أمية ، وأن تغير مجرى التاريخ » .

4 - مولد أم‌كلثوم بنت علي ( عليها السلام )

1 . المشهورأن أولاد علي من فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خمسة : الحسنان والمحسن ، وزينب وأم‌كلثوم . وقال الباحث السيد عبد الرزاق المقرم إن أم‌كلثوم هي زينب ( عليها السلام ) ، فهما واحدة . وقال الأكثر إنهما اثنتان ، وأم‌كلثوم أصغر من زينب ، فتكون ولادتها قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسنة ، ونحوها . كما اختلف في وقت وفاتها ، فقيل إنها توفيت في المدينة في عهد معاوية ، وقيل بقيت إلى ثورة المختارالثقفي سنة 65 هجرية ، وأن المختار روى عنها .
2 . وأوسع خلاف بشأنها : هل تزوجت بعمر بن الخطاب ؟ فقد أنكر ذلك بعض علمائنا ، وأثبته بعضهم ، وقالوا إنه تم بإجبار عمر وتهديده ، وقالوا جرى عقد زواجها وتوفي عمر قبل أن يدخل بها لأنها كانت صغيرة ، قال الزرقاني وهو من فقهاء السنة ، في شرح المواهب اللدنية ( 7 / 9 ) : ( مات عنها عمر قبل بلوغها ) . وقيل تزوجها وأولد منها زيداً ورقية . وأجيب بأن زيد بن عمر أمه أم‌كلثوم بنت جرول وليس أم‌كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) ، وهو وأخوه عبيد الله شقيقان ولدا في مكة . ( شرح النهج : 15 / 92 ) .
3 . مما استدل به على نفي زواج عمر بها : ما رواه ابن عبد البر في الإستيعاب ( 4 / 1807 ) ( خطب عمر بن الخطاب أم‌كلثوم بنت أبي‌بكر إلى عائشة فأطمعته وقالت : أين المذهب بها عنك ، فلما ذهبت قالت الجارية : تزوجيني عمر وقد عرفت غيرته وخشونة عيشه ! والله لئن فعلت لأخرجن إلى قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولأصيحن به ، إنما أريد فتى من قريش يصب علي الدنيا صباً .
قال : فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته الخبر ، فقال عمرو : أنا أكفيك ، فقال : يا أمير المؤمنين لو جمعت إليك امرأة ، فقال عسى أن يكون ذلك في أيامك هذه ، قال : ومن ذكر أمير المؤمنين ؟ قال : أم‌كلثوم بنت أبي‌بكر . قال : مالك ولجارية تنعى إليك أباها بكرة وعشياً . قال عمر أعائشة أمرتك بذلك ؟ قال نعم ، فتركها ) .
--------------------------- 189 ---------------------------
ورواه الطبري ( 3 / 270 ) وأضاف فيه قول عمرو : ( وأدلك على خير منها : أم‌كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، تعلق منها بنسب من رسول الله . ولم يذكر زواج عمر بها ) .
وقال ابن قتيبة في المعارف ( 1 / 175 ) : ( وأما أم‌كلثوم بنت أبي‌بكر فخطبها عمر إلى عائشة فأنعمت له ، وكرهته أم‌كلثوم ، فاحتالت حتى أمسك عنها ) .

أقول : ما دامت بنت أبي‌بكر تعرف كيف تهدد بالتظلم والصياح عند قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتتخلص بذلك من الزواج من شخص لا تحبه ، فكيف غاب ذلك عن أم‌كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) ! . بل التي هددت بنت علي ( عليه السلام ) فتعلمت منها بنت أبي‌بكر ، أو نسب إليها !

4 . كثرت مكذوبات رواة السلطة في هذا الموضوع : وغرضهم أن يثبتوا رضا أهل‌البيت ( عليها السلام ) عن عمر وإلا لما زوجوه . قال السمعاني في الأنساب ( 1 / 345 ) : ( لو كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كافرين ، لكان علي بتزويجه ابنته أم‌كلثوم الكبرى من عمر رضي الله عنه كافراً أو فاسقاً ، معرِّضاً بنته للزنا ، لأن وطأ الكافر للمسلمة زنا محض ) .
وقد فات السمعاني أن التزاوج والتوارث مبني على ظاهر الأمور ، وليس على واقعها .
5 . ومن مكذوباتهم في هذا الموضوع : قولهم إن أم‌كلثوم وابنها زيداً ماتا في ساعة واحدة ، واستندوا إلى نص مبهم فسروه بذلك .
قال النووي في خلاصة الأحكام ( 2 / 969 ) : ( وعن عمار بن أبي عمار ، قال : شهدت جنازة أم‌كلثوم وابنها ، فجعل الغلام مما يلي الإمام ، فأنكرت ذلك وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد وأبو قتادة وأبو هريرة . فقالوا : هذه السنة . رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح ) . وفي رواية : ( حضرت جنازة صبي وامرأة ، فقدم الصبي مما يلي الإمام ) .
فجعلوا الراوي بن أبي عمار : عمار بن ياسر ، وجعلوا جنازة أم‌كلثوم وابنها :
--------------------------- 190 ---------------------------
أم‌كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر ! ورده ابن قدامة فقال في المغني ( 2 / 421 ) إن زيد بن عمر : ( كان رجلاً له أولاد ، كذلك قال الزبير بن بكار ) . والصحيح قول ابن حجر في الإصابة ( 2 / 519 ) : ( زيد بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي شقيق عبد الله بن عمر المصغر ، أمهما أم‌كلثوم بنت جرول ، كانت تحت عمر ففرق بينهما الإسلام لما نزلت : ولا تُمْسَكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِر ) . فزيد بن عمر بن أم‌كلثوم بنت جرول ولد في مكة ، واشتهر
بنو عدي على قلتهم بصراعهم الدموي مع بعضهم ، وكانت بينهم معارك في المدينة بالعصي والأحجار ، فقتل فيها زيد بن عمر !
وروى البلاذري في أنساب الأشراف ( 10 / 486 ) أن زوجة أحدهم ادعت أن جاريتها سحرتها ، ودواؤها أن تقتلها وتصبغ ساقها بدمها ، ووافقها زوجها على ذلك ، وتحازب أولاد الجارية ضد إخوتهم من أم أخرى ، أولئك يريدون ذبح الجارية لمعالجة أمهم من سحرها وأولاء يحمون أمهم الجارية ! وكان زيد بن عمر مع أحد الحزبين فضرب بحجر فقتل !
6 . روينا أن عمر غضب غضباً شديداً لما خطب من علي ( عليه السلام ) فرده :
ففي الكافي ( 5 / 346 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( لما خطب إليه قال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنها صبية . قال : فلقي العباس فقال له : مالي أبي بأس ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : خطبت إلى ابن أخيك فردني ! أما والله لأعورن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ، ولأقيمن عليه شاهدين بأنه سرق ولأقطعن يمينه ! فأتاه العباس فأخبره ، وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه ) .
كما ذكرت رواية أنه عقد زواجه عليها ولم يدخل بها وتوفي ، فأخذوها من بيت عمر . راجع : ( محاضرات في الإعتقادات للميلاني : 2 / 675 ) .

5 - المحسن بن علي ( عليه السلام )

قال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 133 ) : ( وأولادها : الحسن والحسين ، وزينب ، وأم‌كلثوم ، والمحسن سقط ، وفي معارف القتيبي أن محسناً فسد من زخم قنفذ العدوي ) .
--------------------------- 191 ---------------------------
وقال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب / 16 : ( وتزوج فاطمةَ علي بن أبي طالب ، فولدت له الحسن والحسين والمحسِّن . مات المحسن صغيراً ، وزينب ، وأم‌كلثوم رضي الله عنهم ) .
وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 356 ) : ( فأولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى : الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكناة أم‌كلثوم ، أمهم فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بنت سيد المرسلين محمد
خاتم النبيين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ومحمد المكنى أبا القاسم ، أمه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية . وعمر ورقية كانا توأمين ، وأمهما أم حبيب بنت ربيعة . والعباس وجعفر وعثمان وعبد الله الشهداء مع أخيهم الحسين بن علي صلوات الله عليه وعليهم بطف كربلاء ، أمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم . ومحمد الأصغر المكنى أبا بكر ، وعبيد الله ، الشهيدان مع أخيهما الحسين ( عليه السلام ) بالطف ، أمهما ليلى بنت مسعود الدارمية . ويحيى أمه أسماء بنت عميس الخثعمية رضي الله عنها . وأم الحسن ورملة ، أمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي . ونفيسة ، وزينب الصغرى ، ورقية الصغرى ، وأم هاني ، وأم الكرام ، وجمانة المكناة أم جعفر ، وأمامة ، وأم‌سلمة ، وميمونة ، وخديجة ، وفاطمة ، رحمة الله عليهن ، لأمهات شتى .
وفي الشيعة من يذكر أن فاطمة صلوات الله عليها أسقطت بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولداً ذكراً ، كان سماه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهوحمل محسناً . فعلى قول هذه الطائفة : أولاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثمانية وعشرون ، والله أعلم ) .
وكلامه ( رحمه الله ) مستغرب ، ولعل قصده أن في الشيعة من يذكره مع أولاد علي ( عليه السلام ) ، وإن كان سقطاً . ولعله لم يطلع على المصادر التي ذكرته في أولاد علي ( عليه السلام ) .
وأفضل الكتب المؤلفة فيه كتاب العلامة الباحث المعاصرالسيد مهدي الخرسان حفظه الله ، باسم : المحسن السبط مولودٌ أم سقط ، عقد فيه فصلاً بعنوان : فيمن ذكر المحسن من أولاد أمير المؤمنين وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 93 ، ومما أورده فيه :
--------------------------- 192 ---------------------------
( فالأول من المصادر : هو سيرة ابن إسحاق ( ت 151 ه - ) قال : أنا يونس ، عن يونس بن عمرو ، وعن أبيه عن هانئ بن هانئ ، عن علي قال : لما ولد حسن سميته حرباً قال : فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني بُني ماذا سمّيتموه ؟ فقلت : سميته حرباً ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ولكن اسمه حسن ، فلما ولدت حسيناً سميته حرباً ، فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني ابني ما سميّتموه ؟ فقلنا : سمّيناه حرباً ، فقال : لا ولكن اسمه حسين ، فلما ولدت الثالث سميته حرباً ، فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني ابني ماذا سميتموه ؟ فقلنا : سميناه حرباً ، فقال : لا ولكن اسمه محسن ، ثم قال : إني سميتهم ببني هارون : شُبَّر ، وشبير [ ومشبر ] يقول : حسن وحسين ومحسن .
وعقد الفصل الثاني / 105 : ( في من ذكر المحسن السبط وأنه مات صغيراً :
1 - ابن إسحاق ، قال ابن الجوزي في صفة الصفوة : وزاد ابن إسحاق في أولاد فاطمة من علي محسناً ، قال : ومات صغيراً ، ونقله عنه أيضاً غيره كالدولابي في الذرية الطاهرة .
2 - ابن قتيبة في كتابه المعارف ، قال : وأما محسن بن علي فهلك وهو صغير .
3 - البلاذري في أنساب الأشراف ، قال : ومحسِّناً درج صغيراً .
4 - الطبري قال : ويذكرأنه كان لها منه ابن آخر يسمى محسناً ، توفي صغيراً .
5 - المطهر بن طاهر المقدسي في كتاب البدء والتاريخ ، قال : فإنه هلك صغيراً .
6 - ابن الأثير في تاريخه ذكر المحسن وقال : إنه توفي صغيراً ، وقد ذكر أنه كان له لعلي من فاطمة ابن آخر يقال له محسن . . رواه أبو الخليل عن سلمان ثم قال : وتوفي المحسن صغيراً ، أخرجه أبو موسى .
وأورد المؤلف أقوال ثلاثين مؤرخاً ومحدثاً في ذلك ، وبعضهم ذكر أن محسناً مات صغيراً ودرج ، أي مشى ، كالبلاذري والتلمساني وغيرهما . ثم عقد فصلاً / 117 ، بعنوان : فيمن ذكر المحسن السبط وأنه سقط ، قال : ومنهم : أبو إسحاق إبراهيم النظام ( ت 231 ه - ) وهذا هو شيخ الجاحظ ، وهو من شيوخ المعتزلة ، قال : إن عمر ضرب بطن فاطمة ( عليها السلام ) يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها ، وكان يصيح : أحرقوها بمن فيها ، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) . هذا
--------------------------- 193 ---------------------------
ما نقله عنه الشهرستاني في كتابه الملل والنحل . وحكى ذلك عن النظام أيضاً الصفدي في الوافي بالوفيات .
2 - ابن قتيبة ( ت 276 ه - ) حكى عنه الحافظ السروي المعروف بابن شهرآشوب ( ت 588 ه - ) في كتابه مناقب آل أبي طالب قال : وأولادها : الحسن والحسين والمحسن سقط ، وفي معارف القتيبي : إن محسناً فسد من زحم
قنفذ العدوي » .
3 - النسابة الشيخ أبو الحسن العمري وكان حياً سنة 425 ه - . قال في كتابه المجدي بعد ذكر اختلاف النسابين في المحسن : ولم يحتسبوا بمحسن لأنه ولد ميتاً وقد روت الشيعة خبر المحسن والرفسة ، ووجدت بعض كتب أهل النسب يحتوي على ذكر المحسن ، ولم يذكر الرفسة من جهة أعوِّل عليها . . .
فهؤلاء هم الذين ذكروا موت المحسن ( سقطاً ) والأقل من القليل الذي ذكر موته ( إسقاطاً ) ومع ذلك ففي هؤلاء من خشي مغبة العاقبة . . وعد منهم جماعة .

ثم ختم المؤلف بقوله : وإذا أمعنا النظر في أعداد الأصناف الثلاثة نجدها جميعاً ناهزت المائة ، لأن رجال الفصل الأول كانوا أربعين ، ورجال الفصل الثاني نيفوا على الثلاثين ، ورجال الفصل الثالث كانوا خمساً وعشرين ، وكلهم من رجال السنة ، ولا يتطرق الريب إلى اتهامهم بالرفض جميعاً وممالأة الشيعة ) .

6 - تسمية أولاد أمير المؤمنين ( عليه السلام )

يشكل علينا المخالفون بأن علياً ( عليه السلام ) سمى أولاده عثمان وعمر ، وهذا يدل على أن رأيه فيهم إيجابي ، بل يدل على أنه كان يحبهم !
لكن هذا لا ينهض أمام النصوص القطعية الكثيرة المتواترة ، التي بينت رأيه ورأي الأئمة ( عليهم السلام ) في خلفاء السقيفة ، وأنهم غصبوا الخلافة وخالفوا وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتسلطوا على الأمة بدون حق ! ولو لم يكن إلا الخطبة الشقشقية ، لكفى . فلا بد من القول بوجود سبب آخر لهذه التسميات ، غيرالقبول والمحبة .
--------------------------- 194 ---------------------------
ومن هذه الأسباب أن عمر بن الخطاب طلب من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يجعل له تسمية ولده ، فجعل له ذلك : ( فقال هبه لي ، فقلت هو لك . قال قد سميته عمر ، ونحلته غلامي مورق ) . ( تاريخ دمشق : 45 / 304 وتاريخ المدينة لابن شبة : 2 / 755 ، والأغاني : 9 / 181 ، وتاريخ الذهبي : 6 / 164 ، وإكمال التهذيب لمغلطاي / 106 ) .
ونحن نرى المخالف لحاكم قد يسمي أولاده باسمه لغرض دفع شره أو جلب نفعه . وقد قامت سياسة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع عمرعلى اللين معه وتألفه ، ولذلك أخذ عمر بكثير من آرائه ، وبسط يده في إدارة الفتوحات وغيرها ، وكان عمر يقول : لولا علي لهلك عمر ، ويقول : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن .
ونلاحظ أن التسمية للتقية كانت في العهد الأموي والعباسي ، ففي الثاقب لابن حمزة / 214 : ( عن أحمد بن عمر قال : خرجت إلى الرضا صلوات الله عليه وامرأتي بها حبل فقلت له : إني خلفت أهلي وهي حامل ، فادع الله أن يجعله ذكراً ، فقال لي : وهو ذكر فسمه عمر . فقلت : نويت أن أسميه علياً وأمرت الأهل به ، قال : سمه عمر . فوردت الكوفة وقد ولد لي ابن وسُمِّيَ علياً فسميته عمر ، فقال لي جيراني : لا نصدق بعدها بشئ مما كان يحكى عنك ! فعلمت أنه كان أنظر لي من نفسي ) !
أما تسمية علي ( عليه السلام ) لابنه بعثمان ، فقد روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 55 ، أنه قال : ( إنما سميته باسم أخي عثمان بن مظعون ) .
وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد / 194 ، أن أحد أولاد الإمام الحسن ( عليه السلام ) كان اسمه عمرو ، فلعل أمه سمته عمرواً باسم أحد أقاربها ، وسكت عن ذلك الإمام ( عليه السلام ) . وكذلك نجد في أصحاب الأئمة ثقات مثل : أبي‌بكر الحضرمي ، وعمر بن أذينة ، وعمر بن أبي شعبة الحلبي ، وعمر بن أبي زياد ، وعمر بن أبان الكلبي ، وعمر بن يزيد بياع السابري ، وعثمان بن سعيد العمري ومعاوية بن عمار ، ومعاوية بن وهب ، ويزيد بن سليط ! وغالباً ما يكون ذلك اسمه قبل استبصاره .
--------------------------- 195 ---------------------------

والنتيجة :

أنه لا يصح القول إن الأئمة ( عليهم السلام ) كان موقفهم من خلفاء السقيفة إيجابي بسبب تسمية ولد باسم أحد منهم ، بل يجب النظرالى مجموع مواقفهم وكلامهم ، والثابت أن موقفهم سلبي .
ففي الكافي ( 8 / 212 و 343 ) : عن حنان بن سديرأنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) عنهما ، فقال : يا أبا الفضل ما تسألني عنهما ؟ فوالله ما مات منا ميت قط إلا ساخطاً عليهما ، وما منا اليوم إلا ساخطٌ عليهما ، يوصي بذلك الكبير منا الصغير ، إنهما ظلمانا حقنا ومنعانا فيئنا ، وكانا أول من ركب أعناقنا ، وبثقا علينا بثقاً في الإسلام لا يسكر أبداً حتى يقوم قائمنا ويتكلم متكلمنا . ثم قال : أما والله لو قد قام قائمنا وتكلم متكلمنا لأبدى من أمورهما ما كان يكتم ، ولكتم من أمورهما ما كان يظهر ! والله ما أسست من بلية ولا قضية تجري علينا أهل‌البيت إلا هما أسسا أولها . . وإن الشيخين فارقا الدنيا ولم يتوبا ، ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ) !
* *
--------------------------- 196 ---------------------------

الفصل التاسع: علي ( عليه السلام ) بطل معركة الأحزاب

اليهود جمعوا الأحزابَ لحرب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
فقد ذهب وفد من حاخامات اليهود وزعمائهم إلى مكة برئاسة الحاخام كعب بن أسد ! « فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي . . فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمداً . قال أبو سفيان : هذا الذي أقدمكم ونازعكم ؟ قالوا : نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله . قال أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد !
وفي رواية : ولكن لانأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ! قال النفر : فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثم نحلف بالله جميعاً : لايخذل بعضنا بعضاً ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل ! ففعلوا ، فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا ، فاتعدوا لوقت وقَّتوه . فقال أبو سفيان : يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم ، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد ؟ فنحن عُمار البيت وننحر الكوم « الناقة السمينة » ونسقي الحجيج ، ونعبدالأصنام ؟ قالوا : اللهم أنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه . فأنزل الله في ذلك : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) .
--------------------------- 197 ---------------------------
وفي سيرة ابن هشام ( 2 / 402 ) : « قال ابن إسحاق : وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة : حيى بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق أبو عمار ، ووحوح بن عامر ،
وهوذة بن قيس » .
وذهب وفدهم إلى قيس عيلان ، وبني سُلَيْم ، ثم إلى غطفان ، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة ، ووعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش ، فأنعمت بذلك غطفان .
وعندما وصل أبو سفيان بجيش الأحزاب إلى المدينة وحاصرها ، تحرك اليهود في حصونهم ، فقام كعب بن أسد بتمزيق عهده مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجمع رؤساء قومه وهم : الزبير بن باطا ، وشاس بن قيس ، وعزال بن ميمون ، وعقبة بن زيد ، وأعلمهم بأنه مزق العهد ، ودعاهم إلى الخروج للحرب فجبنوا ، فتصور أبو سفيان أنهم غدروا به !
وكان عدد جيش الأحزاب عشرة آلاف ، وروي بضعاً وعشرين ألفاً ، مؤلفاً من : جيش قريش ، وجيش هوازن ، وبني سُلَيْم ، وبني مرة ، وبني أشجع ، وبني أسد ، ثم يهود قريظة في شرقي المدينة . وكان هدفهم المعلن : قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستئصال بني عبد المطلب . واستمر حصارهم للمدينة نحو شهر . وكان عدد المسلمين المدافعين عن المدينة تسع مئة إلى ألف مقاتل . وكانت حرب الأحزاب في شهر شوال من السنة الرابعة ، أي بعد أحُد بسنة ، ويظهرأنها كانت في أواخر شوال ، لأن محاصرة بني قريظة كانت بعدها مباشرة لمدة أسبوعين ، وكانت في أواخر ذي القعدة وأوائل ذي الحجة .

وكان المسلمون يحفرون الخندق في شهر رمضان ، فكان خَوَات بن جبير صائماً وأغمي عليه وهو يعمل في الحفر ، فنزلت آية : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ . . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ . « الكافي : 4 / 98 » .

--------------------------- 198 ---------------------------

علي ( عليه السلام ) حامل اللواء والقائد العام لجيش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كان علي ( عليه السلام ) يصل ليله بنهاره في العمل في حفرالخندق وتهيئة أدواته ، حتى استعار أدوات من بني قريظة ولا بد أنها بأجرة ، ثم كان يعمل في حراسة الخندق ومواجهة الأحزاب من غربي المدينة ، ومن بني قريظة من شرقيها .
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا .
« سورة الأحزاب : 9 - 11 » .
وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يشارك في دفع المشركين عندما يقصدون الخندق ، ويوجه المسلمين إلى رميهم بالسهام أو الحجارة . وكان رماة المسلمين على أبواب الخندق ، وفي نقاط مناسبة ، وعمدة سلاحهم الحجارة .
وقد وقع حادثان في أيام الحصار أثَّرا على معنويات المسلمين : إصابة سعد بن معاذ بسهم من المشركين إصابة شديدة ! ونقض بني قريظة عهدهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكانوا شرقي المدينة ، فكان المسلمون في طوق شبه كامل ، وكان خطر بني قريظة يعادل خطر بقية الأحزاب !
قالت أم‌سلمة رضي الله عنها : « شهدت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، وكنا بالحديبية ، وفي الفتح ، وحنين ، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا أخوف عندنا من الخندق ! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحَرْجة « الطوق » وأن قريظة لا نأمنها على الذراري ، فالمدينة تحرس حتى الصباح ، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا » . « إمتاع الأسماع : 1 / 235 » .
وكان علي ( عليه السلام ) يقسم وقته ليلاً ونهاراً في حراسة الخندق ، ومواجهة بني قريظة . ففي تفسير القمي ( 2 / 186 ) : « وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على العسكر كله ، بالليل يحرسهم ، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم » .
وقد وبَّخَ الله المسلمين في آيات الأحزاب لأنهم تسللوا من حراسة الخندق ،
--------------------------- 199 ---------------------------
بحجة أن بيوتهم مكشوفة لبني قريظة ! قال تعالى : وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا .
وقال عبد الله بن عمر : « بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف ، فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال : من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا ، وكان ذلك في برد شديد ، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا . قال : فلا والله ما عطف عليَّ منهم اثنان أو واحد » . « رواه في الأوسط « 5 / 275 . وصححه في الزوائد : 6 / 135 » .
وقال حذيفة : « إن الناس تفرقوا عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة الأحزاب ، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً » . « الحاكم : 3 / 31 » وصححه ، ومجمع الزوائد « 6 / 136 »
وفي تفسير القمي : 2 / 186 ، قال : « فلما جاءت قريش ، وغدرت اليهود ، قال المنافقون : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ! وقال قوم : هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب ، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله » .
ونافق أكثر المسلمين أو انهاروا ، وأشاع مرضى القلوب أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيصالح قريشاً بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً ! وبلغ نفاق بعضهم أن قال : « والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك » ! « كتاب سُلَيْم / 249 » لكن ذلك لم يكن ممكناً لهم !
وأخيراً اتفق المشركون مع المنافقين أن يسهلوا عبورهم من نقطة ضعيفة من الخندق ! وقد أمر عمرو بن ود جماعته أن يتهيؤوا للقتال يوم غد ، لأنه كان واثقاً من نجاح خطة عبورهم ! « مروا بمنازل بني كنانة فقالوا : تهيؤوا يا بني كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم » . « الإرشاد : 19 / 7 ، وابن هشام : 3 / 705 » .
ولما عبرت فرسانهم أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) أن يبادر إلى الثغرة ، فإن اعترض منافق فليقتله ! قال له : « يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه ! فمضى علي في نفرمعه يريدون الثغرة ، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها » ! ( شرح الأخبار : 1 / 294 ) .
وكان عرض الخندق تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع ، والذراع أكثر من نصف
--------------------------- 200 ---------------------------
متر « الأوزان والمقادير / 56 » فيكون عرضه نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً . ومن الصعب أن يقفزه أحد ، ويبدو أن منافقين ردموا الخندق في نقطة عبور المشركين !

من جهاد علي ( عليه السلام ) في غزوة الأحزاب

قالت الزهراء ( عليها السلام ) في خطبتها بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تخاطب الصحابة : « حتى استنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُنِيَ ببُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نَجَم قرن الشيطان ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، وأنتم في رفاهية ، فكهون آمنون وادعون ، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ، أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين » ! « الطرائف / 264 » .
فقد كان علي ( عليه السلام ) عضد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الشدائد ، ومعه نفر قليل من الصحابة ، أما البقية فكانوا هانئين يحافظون على سلامتهم ، ومنهم منافقون يخفون نفاقهم ! وعند وصول جيوش الأحزاب باشرعلي ( عليه السلام ) مهمته في حراسة الأبواب الثمانية للخندق ، وفي تفقد نقاط الضعف التي يمكن أن يطمع العدو بالعبور منها ، وإعداد رماة السهام والأحجار لمواجهة من يقترب من الخندق . وكان في نفس الوقت يدير جبهة بني قريظة من الجهة الثانية للمدينة ! وكان يعيش مس الجوع في تلك الأيام ويكتمه ، كما عاشه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكتمه ثلاثة أيام ، حتى شد على بطنه حجر المجاعة !
ولابد أن علياً ( عليه السلام ) دمعت عيناه عندما عرف أن فاطمة ( عليها السلام ) جاءت للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنصف قرص شعير . قال ( عليه السلام ) : ( كنا مع النبي في حفر الخندق ، إذ جاءت فاطمة ( عليها السلام ) ومعها كسيرة من خبز ، فدفعتها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما هذه الكسيرة ؟ قالت : خبزته قرصاً للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة ، فقال النبي : يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث ) ! « عيون أخبار الرضا : 1 / 43 ، وبحار الأنوار : 16 / 225 » .
ولا نعلم هل أكل علي ( عليه السلام ) منها أم بقي طاوياً ! لكن المؤكد أن الله تعالى كان يعينه
على جوعه وجهده !
--------------------------- 201 ---------------------------

عبور عمرو بن ود ورفقائه من ثغرة في الخندق

تفاجأ المسلمون بفرسان من المشركين عبروا الخندق ، وهم : عمرو بن عبد ود العامري ، وابنه حسيل ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة وثلاثتهم من بني مخزوم ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس ،
وهما فهريان .
وكان ابن عبد ود فارس العرب ويعد بألف فارس ، ويسمى فارس يَلْيَل لأنه أقبل في ركب فعرضت لهم بنو بكر في وادي يليل ، وهو قريب من بدر ، فقال لأصحابه : إمضوا ، فقام وحده في وجههم ومنعهم من أن يصلوا إليه !
وبعد أن قَفَزَ ابن عبد ودّ ورفقاؤه بخيولهم الخندق ، أخذوا يجولون ويستعرضون قوتهم في السبخة التي تحت جبل سلع ، مقابل مركز قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهي الآن مسجد الفتح ، فلم يهتم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للعابرين بقدر ما اهتم بسد الثغرة التي عبروا منها ، فنادى علياً ( عليه السلام ) فأسرع لسدها ، وقد يكون مرَّ قريباً من ابن وُد وهو يطلب المبارزة ، فقال له إصبر حتى أستأذن النبي في مبارزتك ، أو يختار لك من يبارزك ، وعاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجده يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة ، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير ! فقال علي ( عليه السلام ) : أنا له يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، وواصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه أحد ! فقام علي ( عليه السلام ) ثانيةً وقال : أنا له يا رسول الله ، وفي رواية ابن إسحاق : يا علي إنه عمرو ، فأجابه : وأنا علي يا رسول الله ! فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أدن مني ، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه ودعا له ، وأطلق كلماته الرسولية بحقه . وتقدم علي ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابر بن عبد الله الأنصاري ، وحذيفة ، وعمر ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليتفرجوا على هذه المبارزة التاريخية . وكان ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ، ومرة يركز رمحه في الأرض ويدور حوله ، ويقول : أبرز اليًّ يا محمد ، ثم يقول : إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ؟ ألا يحب أحدكم أن يُقْدِم على الجنة ، أو يبعث عدواً له إلى النار !
--------------------------- 202 ---------------------------
ولقد بححت من الندا * ء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجا * ع موقف الخصم المناجز
إني كذلك لم أزل * متسرعاً نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى * والجود من كرم الغرائز
وكان عمرو بن عبد ود راكباً ، ومشى علي ( عليه السلام ) نحوه راجلاً ، وهو يقول :
لاتعجلنَّ فقد أتاك * مجيب صوتك غيرُ عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ * والصدق مُنجي كلِّ فائز
إني لأرجو أن تقو * م عليك نائحةُ الجنائز
من طعنة نجلاء يبقى * ذكرها بين الهزاهز
وجرى بينهما حوار ، حتى غضب عمرو ونزل عن فرسه ، وأهوى بسيفه إلى علي بضربة قوية ، فتلقاها علي ( عليه السلام ) بترسه فشقت الترس والخوذة والعمامة ووصلت إلى رأسه ( عليه السلام ) فجرحته في قرنه ، فانفجر الدم على رأسه وكتفه ، ولم يتأخر علي فضربه ضربة حيدرية على ترقوته ، كما قال البيهقي وابن إسحاق ، وعلى ساقيه كما في رواية أخرى ، فهوى عمرو صريعاً وكبَّر علي ( عليه السلام ) بصوته الجهوري ، فكبرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون ! ورويَ أنه تقدم ليحز رأسه فتفل عمرو في وجهه وشتم أمه ، فرجع عنه ، قال : خشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ! وعاد علي ( عليه السلام ) إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمسح الدم والغبار عن عينيه ، ومسح مكان الضربة في رأسه . وقال علي ( عليه السلام ) ( الإرشاد : 1 / 99 ) :
( نصرالحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب
فضربته وتركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو انني * كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب ) .
وفي كنز الفوائد / 137 : « فتقدم إليه ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : برز الإيمان كله إلى الشرك كله . فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده ، قال له عمرو : يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي ! فقال له أمير المؤمنين : هي أهون عليَّ
--------------------------- 203 ---------------------------
من ذلك ! وذبحه [ وأتى برأسه ] وهو يتبختر في مشيته فقال عمر : ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنها مشية لايمقتها الله في هذا المقام ، ثم نهض فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه » .
أقول : الظاهر أنه ذبحه ولم يفصل رأسه ولم يأت به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل لم يثبت أن علياً ( عليه السلام ) أتى برأس أحد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعد أن دعا له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومسح الدم عن وجهه رجع علي ( عليه السلام ) إلى الثغرة ليقطع الطريق على جماعة عمرو ، فطلب منه حسل بن عمرو المبارزة فبرز اليه وقتله ولم يمهله ! وهرب عكرمة بن أبي جهل ، وضرار الخطاب ، ونوفل بن عبد الله المخزومي فلحقهم علي ( عليه السلام ) ، فأفلت عكرمة بعد أن ألقى درعه ، وأفلت ضرار ، وعلق نوفل في الخندق فلم تستطع فرسه الصعود من الطرف الآخر ، فأخذ المسلمون يرمونه بالحجارة ، فصاح بهم : قتلةٌ أجمل من هذه ، ينزل إليَّ بعضكم أقاتله ! فنزل إليه علي ( عليه السلام ) فقتله !
وفي الطرائف / 60 ، عن أبي هلال ، قال : « أول من قال : جُعلت فداك ، عليٌّ ، لما دعا عمرو بن عبد ود إلى البراز يوم الخندق ولم يجبه أحد ، قال علي : جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي ؟ قال : إنه عمرو بن عبد ود . قال : وأنا علي بن أبي طالب » .
وانتشر خبر قتل عمرو ، ففرح المسلمون ، ووقع على الأحزاب كالصاعقة ، وكان ذلك قبل ظهر يوم الأربعاء ، وواصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاءه بعد صلاة الظهر ، فتغير الجو وجاءت الريح وعصفت بجيش الأحزاب فاضطربوا ، وأخذوا يفكرون بالإنسحاب ، وباتوا في ليلة ليلاء من الريح ، فأرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم حذيفة ليلاً ، فوصل إلى خيمة أبي سفيان واستطلع خبرهم ، فرآهم قرروا الرحيل : وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلي ( عليه السلام ) كما كان يقرؤها ابن مسعود . « الإرشاد : 1 / 106 ، والقمي : 2 / 182 ، والحاكم : 3 / 32 ، وابن هشام : 3 / 708 » . وأكمل الله عمل علي ( عليه السلام ) بهبوب الريح ، فانسحب المشركون ، ورجع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صبيحتها إلى المدينة ، وما أن صلى الظهر ووضع لباس حربه ،
--------------------------- 204 ---------------------------
حتى جاءه جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة الذين نقضوا عهدهم ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) أمامه ثم التحق بهم !

علي ( عليه السلام ) يصف مبارزته لعمرو بن ود

قال علي ( عليه السلام ) في جوابه لسؤال رئيس أحبار اليهود ( الخصال / 369 ) : « وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب . ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار .
فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ! ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً !
وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحه مرة ، وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضني إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعممني بيده ، وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواكٍ إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ! فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لا تَعُدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة ، وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان مني فيهم من النكاية » .
وقال ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس / 247 : « وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولا يبارز الأبطال ، ولايفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شديدة قط ، ولا كربهُ أمرٌ ، ولا ضيق ومستصعب من الأمر ، إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمي عن وجهي ، فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه ، ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول ، حيث خصني بذلك ووفقني له .
--------------------------- 205 ---------------------------
وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتَغَير ( من الغيرة ) وأمر ونهى . ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما رآى به من الرعب ! وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي . والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا ، وحمل الناس على رقابنا » .
وقال ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس / 247 : « وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ، وأفقههم وأقرؤهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله ، وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا غَنَاء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء ) !
* *
وذكرت رواية أن علياً ( عليه السلام ) ذهب أولاً واستطلع وضع عمرو قبل أن يذهب لمبارزته ، ولم تذكر الرواية هل تكلم معه ، أواكتفى بأن ينظر اليه ويتأمله : قال ابن منظور في لسان العرب ( 12 / 326 ) : ( وفي حديث علي كرم الله وجهه ، حين أَراد أَن يَبْرُزَ لعمرو بن وُدٍّ قال : أَخْرُج إِليه فأُشامُّه قبل اللِّقاء أَي أَخْتَبِرُه وأَنْظُرُ ما عنده . يقال : شامَمْتُ فلاناً إِذا قارَبْتَه وتَعَرَّفْتَ ما عنده بالاخْتبار والكشف ، وهي مُفاعَلة من الشَّمّ كأَنك تَشُمُّ ما عنده ) .
وكان من عادته ( عليه السلام ) أن يدقق في من يبرز اليه ، ليعرف نقاط ضعفه ويعين أين يضربه . وقد يكون ذهابه اليه في رجوعه من سد الثغرة أو بعد ذلك ، لأن مكان عمر ورفاقه كان في السبخة التي بين الخندق وبين جبل سلع ، حيث خيمة قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والتي هي الآن مسجد القبلتين أو قريبة منه . وقد يكون ذهابه بلباسه العادي ، لأنه برز إلى عمرو مقنعاً بالحديد .
--------------------------- 206 ---------------------------

حذيفة ؟ رح ؟ يصف مبارزة علي ( عليه السلام ) لعمرو

في مناقب محمد بن سليمان ( 1 / 222 ) : « قال ربيعة : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله إنا نتحدث في علي وفي مناقبه فيقول لنا أهل البصرة : إنكم لتفرطون في علي وفي مناقبه ، فهل أنت تحدثني في علي بحديث ؟ فقال حذيفة : يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد في كفة الميزان ، من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل علي يوماً واحداً في الكفة الأخرى ، لرجح عمله على جميع أعمالهم !
فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة : وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان « يا أحمق » ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادي للمبارزة ، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً ، فقتله الله على يديه ؟ والذي نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد إلى يوم القيامة » .
وفي تفسير مجمع البيان ( 8 / 131 ) : « عن حذيفة قال : فألبسه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) درعه ذات الفضول ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وعممه عمامته السحاب ، على رأسه تسعة أكوار ، ثم قال له : تقدم ، فقال لما ولى : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه . قال ابن إسحاق : فمشى إليه وهو يقول :
لاتعجلن فقد أتاك . . . مجيب صوتك غير عاجز . . الأبيات .
قال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي . فقال : غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك ، فإني أكره أن أهرق دمك ! فقال علي ( عليه السلام ) : لكني والله ما أكره أن أهرق دمك ! فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو علي مغضباً فاستقبله علي بدرقته ، فضربه عمرو بالدرقة فقدها ، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه ! وضربه علي على حبل العاتق فسقط » .
وفي شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : 2 / 10 ، عن حذيفة قال : « فجاء حتى وقف على عمرو فقال : من أنت ؟ فقال عمرو : ما ظننت أني أقف موقفا أُجهل فيه ، أنا عمرو بن
--------------------------- 207 ---------------------------
عبد ود ؟ فمن أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال : الغلام الذي كنت أراك في حجر أبي طالب ؟ قال : نعم . قال : إن أباك كان لي صديقاً وأنا أكره أن أقتلك ! فقال له علي : لكني لا أكره أن أقتلك ، [ يا عمرو ] بلغني أنك تعلقت بأستار الكعبة وعاهدت الله عز وجل أن لا يخيرك رجل بين ثلاث خلال إلا اخترت منها خلة ؟ قال : صدقوا . قال : إما أن ترجع من حيث جئت . قال : لا تحدث بها قريش . قال : أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا . قال : ولا هذه . فقال له علي : فأنت فارس وأنا راجل ! فنزل عن فرسه ، وقال : ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام ! ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت ، ثم أقبل إلى علي وكان رجلاً طويلاً يداوي دَبَر البعير وهو قائم ، وكان علي ( عليه السلام ) في تراب دقَّ لا يثبت قدماه عليه ، فجعل علي ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه ، ويعلوه عمرو بالسيف ، وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها علي بالترس فلحق ذباب السيف في رأس علي ( عليه السلام ) حتى قطعت تسعة أكوار ، حتى خط السيف في رأس علي . وتسيَّف عليٌّ رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه ، فثارت بينهما عجاجة فسمع علي ( عليه السلام ) يكبر ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قتله والذي نفسي بيده ! فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب ، فإذا علي يمسح سيفه بدرع عمرو ، فكبر عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قتله ! فحز عليٌّ رأسه ثم أقبل يخطر في مشيته ، فقال له رسول الله : يا علي إن هذه مشية يكرهها الله عز وجل إلا في هذا الموضع .
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : ما منعك من سلبه فقد كان ذا سلب ؟ فقال : يا رسول الله : إنه تلقاني بعورته . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم ، وذلك إنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو » .
وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 33 ) : ( فسمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التكبير فعرف أن علياً
--------------------------- 208 ---------------------------
قتله ، فثم يقول علي رضي الله تعالى عنه :
أَعَلَيَّ يَقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي
فصدرت حين تركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو انني * كنت المقطر بزني أثوابي
عبدالحجارة من سفاهة عقله
[ لا تحسبن الله خاذل دينه * وعبدت رب محمد بصواب
ونبيه يا معشر الأحزاب ]
ثم أقبل علي نحو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجهه يتهلل ، فقال عمر بن الخطاب : هلا سلبته درعه فليس للعرب درعاً خيراً منها ؟ فقال : ضربته فاتقاني بسوءته ، واستحييت ابن عمي أن استلبه . وخرجت خيله منهزمة حتى أقحمت من الخندق ) .
وفي عيون المعجزات / 19 : ( أيكم قاتل العمرين وآسر العمرين . والعمران اللذان قتلهما : عمرو بن عبد ود ، وعمرو بن الأشعث المخزومي ، والعمران اللذان أسرهما : فأبو ثور عمرو بن معدي كرب ، وعمرو بن سعيد الغساني ، أسره يوم بدر ) .

رواية تفسير القمي لمبارزة علي ( عليه السلام ) لعمرو

قال علي بن إبراهيم القمي ( رحمه الله ) في تفسيره ( 2 / 182 ) : « فمرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) يهرول في مشيه وهو يقول : لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز . . . الأبيات . .
فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وختنه . فقال : والله إن أباك كان لي صديقاً قديماً ، وإني أكره أن أقتلك ! ما أمن ابن عمك حين بعثك إليَّ أن أختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض ، لاحيٌّ ولا ميت ؟ ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة ! فقال عمرو : وكلتاهما لك يا علي ؟ تلك إذا قسمةٌ ضيزى ! قال علي ( عليه السلام ) : دع هذا يا عمرو ، وإني سمعت عنك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول : لايعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال ، فأجبني إلى واحدة ! قال :
--------------------------- 209 ---------------------------
هات يا علي ! قال : أحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . قال : نحِّ عني هذه ، فاسأل الثانية فقال : أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله ، فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً ، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره . فقال : إذاً تتحدث نساء قريش بذلك ، وتنشد الشعراء في أشعارها ، أني جبنت ورجعت على عقبي من الحرب ، وخذلت قوماً رأَّسُوني عليهم ! فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فالثالثة أن تنزل إليَّ ، فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك . فوثب عن فرسه وعرقبه وقال : هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومني عليها ، ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف على رأسه ، فاتقاه أمير المؤمنين بدرقته فقطعها ، وثبت السيف على رأسه . فقال له علي ( عليه السلام ) : يا عمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب ، حتى استعنت عليَّ بظهير ؟ ! فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً ، وارتفعت بينهما عجاجة ، فقال المنافقون : قُتل علي بن أبي طالب ، ثم انكشف العجاجة ، فنظروا فإذا أمير المؤمنين على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ، فذبحه ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم ، وهو يقول والرأس بيده :
أنا عليُّ وابن عبدالمطلبْ الموت خيرٌ للفتى من الهربْ
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عليُّ ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة . وبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته . وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار : ويحك يا ابن صهَّاك أترميني في مبارزة ! والله لئن رميتني لاتركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته ! فانهزم عنه عمر ومرَّ نحوه ضرار ، وضربه على رأسه بالقناة ثم قال : إحفظها يا عمر ! فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما وليَ ، فولاه » !
وقالوا إن جمجمة عمرو بن ود بلغت كيلجة ! « مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 69 » .
--------------------------- 210 ---------------------------
والكيلجة صاع إلا يسيراً . « المحلى : 5245 » .
وأراد المشركون شراء جثة عمرو بعشرة آلاف ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! « المناقب : 1 / 171 » .

أخوا عمرو بن ود واجها علياً ( عليه السلام ) في مكة

أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكرليبلغ سورة براءة إلى المشركين ، فنزل جبرئيل بأمر الله تعالى : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ! « أحمد : 1 / 151 ، والخصال / 369 » . فأرسل بها علياً ( عليه السلام ) فدخل مكة ووقف في الموسم يقرأ عليهم سورة براءة .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : لما قرأ قوله تعالى : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك ، فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك ! فقال علي ( عليه السلام ) : أجل أجل ، إن شئت ، هلموا ! ثم واصل ( عليه السلام ) تلاوته : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ » . « المناقب : 1 / 392 » .
أقول : هذا الموقف فيه ثقة وقوة أعصاب مدهشة ، خاصة أنه ( عليه السلام ) واصل تلاوة الآيات مع دعوته لهما إلى المنازلة !

ضربة علي ( عليه السلام ) غيَّرت ميزان القوى !

فرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقتل علي عمرو بن ود ، وأخبرهم بأن ميزان القوى قد تغير ! قال جابر بن عبد الله الأنصاري : « فما شبهت قتل علي عمراً إلا بما قال الله تعالى من قصة داود وجالوت ، حيث يقول : فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ . وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد قتله : الآن نغزوهم ولا يغزوننا » . « إعلام الورى : 1 / 382 ، والإرشاد : 1 / 102 ،
وكنز الفوائد / 138 ، والحاكم : 3 / 34 ، وسبل الهدى : 4 / 379 ، والخوارزمي / 171 » .
وأدرك النفعيون أن موجة الإسلام قادمة فأخذوا يدخلون في الإسلام ليكسبوا موقعاً في دولته المتوثبة ، فقال عمرو بن العاص لخالد : « والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً » ! « تاريخ الطبري : 2 / 313 » ووافقه خالد ، وجاءا مسلميْن !
--------------------------- 211 ---------------------------

إشادات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي ( عليه السلام ) يوم الأحزاب

روى المسلمون أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الإشادة بعلي ( عليه السلام ) وشهادته بحقه ، فمنها : أنه ألبسه درعه وأعطاه ذا الفقار وعممه بعمامته . ولما برز ومشى دعا له : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه .
ومنها : أنه رفع عمامته ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين . ( كنز الفوائد / 136 ) .
ومنها : أنه علمه دعاء : اللهم بك أصول ، وبك أجول ، وبك أدرأ في نحره .
ومنها : قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما برز علي ( عليه السلام ) إلى عمرو : برز الإيمان كله إلى الشرك كله .
ومنها : قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل أمتي إلى يوم القيامة . ضربة علي تعدل عند الله عمل الثقلين . ضربة علي أفضل من عمل الثقلين . ( تاريخ بغداد : 13 / 19 ) !
وتفسير قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : برز الإسلام كله إلى الشرك كله ، أنه لو انتصر ابن ود وقتل علياً ( عليه السلام ) لاقتحم المشركون الخندق وقتلوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وزال الإسلام . وتفسير مساواة ضربة علي ( عليه السلام ) لعمل الثقلين الإنس والجن ، أو تفضيلها عليه : أن ثواب علي ( عليه السلام ) من ضربته أكثر من عملهم ، فيكون عليٌّ أفضل من الثقلين الإنس والجن ، ما عدا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وما قاله الفخر الرازي ( 32 / 31 ) في تفسير قوله تعالى : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ : ( هذه الآية فيها بشارة عظيمة ، وفيها تهديد عظيم ، أما البشارة فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير ولم يبين قدر الخيرية ، وهذا كقوله ( عليه السلام ) : لمبارزة علي مع عمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة ، فلم يقل مثل عمله بل قال : أفضل كأنه يقول : حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف ) .
أقول : شهادات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الخندق في حق علي ( عليه السلام ) أبلغ مما ذكرناه ، وأغنى .
--------------------------- 212 ---------------------------

اخترع الصوفية حديث : جذبةٌ توازي عمل الثقلين !

حاول المتصوفة أن يجدوا شيئاً لهم مقابل ضربة علي ( عليه السلام ) فوضعوا حديثاً قدسياً يقول : ( جذبةٌ من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) . ( كشف الخفاء : 1 / 332 ، وتفسير الآملي : 2 / 542 ، وطبقات الشافعية : 5 / 96 ، وإمتاع الأسماع : 9 / 224 ) !
وقد أطال صدرالمتألهين في الأسفار ( 5 / 119 ) وفي مفاتيح الغيب ( 1 / 470 ) في توجيه ذلك ! قال في الأسفار : ( ولهذا لما سئل سقراط عن سبب إعراضه عن العلوم التعليمية قال إني كنت مشتغلاً بأشرف العلوم يعنى به العلم الإلهي . وبالجملة رأس الأمر وسنامه لمن أعطاه الله فطرة صافية وطبعاً لطيفاً وذكاءً شديداً وفهماً ثاقباً واستعداداً بالغاً ، أن لا يشتغل بأمور الدنيا ، وطلب الجاه والرفعة ، بل يكون معرضاً عن الخلق طالباً للخلوة آنساً بالله آيساً عن غيره ، مع حضور القلب واجتماع الهمة ، وصرف الفكر في الأمورالإلهية بعد أن حصل له قبل ذلك شطر من العلوم الأدبية والمنطقية والطبيعية والخلقية ، مما لا بد فيه للسالكين إلى الله تعالى على طريق الإكتساب العلمي ، دون المجذوبين إليه تعالى في أول الأمر بجذبه ربانية توازي عمل الثقلين ) !
وقال في مفاتيح الغيب : ( كما قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : رأيت ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : أنا ما أعلم يا رب ، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعرفت ما بين السماء والأرض ، وذلك إنما يكون بجذبة روحانية توازي عمل الثقلين ، فطوى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بساط الكونين وبلغ قاب قوسين ) !
وذكر نحو ذلك في تفسيره ، واستشهد بحديث الجذبة المكذوب مرات !
وقال الآملي في المقدمات / 269 : ( والمجذوب هو من اصطنعه الحق تعالى لنفسه ، واصطفاه لحضرة أنسه ، وطهره بماء قدسه ، فحاز من المنح والمواهب ما فاز به بجميع المقامات والمراتب ، بلا كلفة المكاسب والمتاعب . ويدل عليه قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : جذبة من جذبات الحق توازى عمل الثقلين . وأصحاب الجذبات على ثلاثة أقسام : مجذوب غير سالك ، وسالك غير مجذوب ، ومجذوب سالك . أما الأول : فهو الذي أشرنا اليه ، لأنه مجذوب غير محتاج إلى السلوك . وأما الثاني : فهو الذي يسلك الطريق ثم تحصل
--------------------------- 213 ---------------------------
له في أثنائه جذبة ويكون بحكمها ، وذلك مستحسن . وأما الثالث : فهو الذي تحصل له الجذبة ، ثم يسلك الطريق ويصل إلى المقصود بهما . وهذا أحسن من الكل وأعظم ) !
وفي حلية البشر للبيطار ( 1 / 1212 ) : ( حضرة سيدنا ومولانا الشيخ خالد قدس الله سره العزيز ، فتشرف بأخذ الطريقة العلية النقشبندية عنه ، كما ذكر ذلك في البهجة السنية ، ودخل الرياضة حالاً في جامع العداس ، فأدركته جذبة من جذبات الحق التي توازي عمل الثقلين ، فحصل له بعد ثلاثة أيام النسبة المعبر عنها بالوصول والفناء ، وهو دوام مقام الإحسان ، ولم يزل في ذكر وفكر ، يترقى إلى أعلا المقامات ، حتى أتم الأربعينية ) !
أقول : العجب من كبار المتصوفة مثل صدر المتألهين والآلوسي والآملي أنهم أرسلوا الحديث المكذوب إرسال المسلمات ، وهذا من قلة بضاعتهم في الحديث ، وحسن ظنهم بمن افتراه وكذبه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وغرضه أن يدعي لنفسه وأمثاله مقاماً يعادل عمل الثقلين الذي رآه في حديث علي ( عليه السلام ) ، وأن هذا المقام العظيم لا يحتاج إلى عمل علي ( عليه السلام ) وجهاده وتضحيته ، بل يحصل بلقلقة اللسان وادعاء القرب من الله تعالى والفناء فيه ، وحصول صرعة لبعض الناس يسمونها جذبة إلى الله تعالى !
والأعجب من جذبتهم أنهم ينسبونها إلى الله تعالى ، ويجعلونها اختياراً منه للمجذوب ، ودليلاً على مقام أعلى من النبوة ! وهي في أحسن حالاتها استغراق وتركيز يوجب الاغماء ، وفي أسوأ حالاتها صرع يحتاج إلي معاجلة عندالطبيب .

معنى قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : وإنك لذو قرنيها

روي أن ذا القرنين : « بعثه الله إلى قومه فضُرب على قرنه الأيمن ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب » . وقال رسول الله علي ( عليه السلام ) : وإن فيكم مثله » . « الإيقاظ / 145 ،
--------------------------- 214 ---------------------------
والدر المنثور : 4 / 241 ، وفتح القدير : 3 / 309 » . وفسره في القاموس : 4 / 258 ، بأنه ( عليه السلام ) : « ذو شجتين في قرني رأسه ، إحداهما من عمرو بن ود ، والثانية من ابن ملجم » . وهذا يؤكد أن ضربة عمرو كانت على قرن رأسه ( عليه السلام ) . وفي رواية أن ضربة ابن ملجم وقعت على ضربة عمرو . « المناقب : 2 / 327 » .
وقد فسر بعضهم بذلك قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : « يا علي ، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك تعرف بحزب الله عز وجل » . « أمالي الصدوق / 656 » .
قال الراغب في المفردات / 401 : « وذو القرنين معروف ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه : إن لك بيتاً في الجنة وإنك لذو قرنيها : يعني ذو قرني الأمة ، أي أنت فيهم كذي القرنين » .
لكن ذكر الصدوق ( رحمه الله ) في معاني الأخبار / 206 ، أن معناه أنه والد الحسنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنهما قرنا الجنة ، بمعني قرطيها وزينتها . وفسره بوجه آخر : إنك صاحب الحجة على شرق الدنيا وغربها ، وآخذ بقرنيها . لكنه مشكل .
وتردد الشريف الرضي في المجازات النبوية / 87 ، بين معان ، فذكر قرني الجنة بطرفيها ، لأنه يبلغ غايات المثابين فيها ، أو بمعنى قرني الأمة بمعنى طرفيها فأنت في أولها والمهدي في آخرها ، أو بمعنى صاحب العلم الظاهر والباطن ، أورأس الأمة لأن الرأس فيه القرنان ، أو المضروب مثله على قرنيه .
وكلها لا تخلو من إشكال ، وإن كان الأخيرأقلها إشكالاً . وفسره السيد ابن طاووس في سعد السعود / 65 ، والحر العاملي في الإيقاظ / 145 ، بأنه يقصد رجعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد موته كما رجع ذو القرنين بعد موته ولا يصح ذلك ، لأنه ( عليه السلام ) لايُضرب بعد الرجعة على قرنه الآخر . فالمتعين أن يكون المقصود ضربه علي قرنه في جهاده علي التنزيل ثم ضربه علي قرنه في جهاده علي التأويل .
--------------------------- 215 ---------------------------

ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبد ود

المسألة الأولى :
نص العلامة في تذكرة الفقهاء ( 9 / 83 ) : على أن خدعة علي ( عليه السلام ) لعمرو في الحرب رواية عامية ، قال : ( روى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز علياً ( عليه السلام ) . . ثم قال : فقال علي ( عليه السلام ) : ما برزت لأقاتل اثنين ! فالتفت عمرو فوثب علي ( عليه السلام ) فضربه ، فقال عمرو : خدعتني ! فقال علي ( عليه السلام ) : الحرب خدعة ) .
لكن يظهر أن علي بن إبراهيم قبلها ، حيث قال في تفسيره ( 2 / 182 ) : ( فقال له علي : يا عمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت علي بظهير ؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً . . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عليُّ ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة ) .
كما أفتى بها آقا ضياء العراقي في شرح التبصرة ( 4 / 408 ) ، فقال : ( نعم تجوز الخدعة في الحرب لفعل علي ( عليه السلام ) بعمرو بن عبد ود ، وقال ( عليه السلام ) : الحرب خدعة » .
لكن صاحب الجواهر ( 21 / 79 ) وهو أفقه من آقا ضياء ، اكتفى بإيرادها ، واستدل هو والسيد الخوئي ( منهاج الصالحين : 1 / 373 ) على جواز الخدعة ، برواية إسحاق بن عمار المعتبرة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال يوم الخندق . .
والنتيجة : أن الخدعة في الحرب جائزة ، لكن بعض فقهائنا توقف في أن علياً ( عليه السلام ) استعملها مع عمر ، وبعضهم ثبت عنده ذلك ، لوجود قرائن على صحة رواية العامة . والتوقف أكثر انسجاماً مع صفات علي ( عليه السلام ) وأخلاقه .
المسألة الثانية :
ذكروا أنه لما برز علي ( عليه السلام ) لعمر ، ذهب معه متفرجون من المسلمين وهم خمسة كما في رواية ابن إسحاق ، قال : وتقدم علي ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابرالأنصاري ، وحذيفة ، وعمر ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليتفرجوا .
--------------------------- 216 ---------------------------
وقال القاضي المغربي في شرح الأخبار ( 1 / 294 ) : ( ووقف المشركون من وراء الخندق ينظرون ما يكون منهما . ورفع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده إلى السماء يدعو الله عز وجل لعلي بالظفر ) . ومعناه أن المتفرجين كانوا من الطرفين ، فالمشركون من وراء الخندق ، والمسلمون أمام خيمة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في منحدر جبل سلع ، عند أول السبخة التي كانت ميدان المبارزة .
المسألة الثالثة :
لم يأذن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي من أول الأمر ، رغم سكوت المسلمين وإلحاح عمرو بالنداء ، ويبدو أن ذلك لإتمام الحجة عليهم ، لكن ذكرت رواية أنه كان يريد أن يبرز له غير علي ( عليه السلام ) لأن فاطمة ( عليها السلام ) كانت تخاف عليه !
ففي المناقب : 2 / 325 : ( في كل ذلك يقوم علي ليبارزه فيأمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالجلوس لمكان بكاء فاطمة ( عليها السلام ) عليه من جراحاته في يوم أحد ، وقولها : ما أسرع أن يوتم الحسن والحسين باقتحامه الهلكات ! فنزل جبرئيل
عن الله تعالى أن يأمر علياً ( عليه السلام ) بمبارزته فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أدن مني وعممه بعمامته وأعطاه سيفه ، وقال إمض لشأنك . ثم قال : اللهم أعنه . فلما توجه إليه قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره ) .
المسألة الرابعة :
نهى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن المثلة بالمقتول حتى لو كان كلباً عقوراً ، وكانت المثلة بالأعداء من ثقافة الجاهلية وما زالت ، من قطع رؤوسهم وحملها إلى قادتهم والدوران بها في المدن والقرى ! وأشهر من حملت رؤوسهم من بلد إلى بلد الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه رضوان الله عليهم .
ورووا من غير طريق أهل‌البيت ( عليها السلام ) أنهم جاؤوا للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) برؤوس أعدائه ولم يصح عندنا ، ولا تصح روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) جاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) برأس عمرو بن ود ، وأنه في خيبر جاء له برأس مرحب . ( الكامل لابن عدي : 6 / 50 ) .
والمرجح عندنا أن معنى قولهم إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذبحه أو قطع رأسه ، أنه أجهز
--------------------------- 217 ---------------------------
عليه ، وليس فيه دلالة على أنه فصل رأسه أو حمله . ويؤيده أنهم ضعفوا رواية مجيئه برأس عمرو إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( مجمع الزوائد : 6 / 152 ) .
كما رووا أن ابن مسعود جاء برأس أبي جهل إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحمد الله ( الإستيعاب : 3 / 1410 ) وأن أبا بردة بن نيارقال : ( جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) ( نهاية ابن كثير : 3 / 343 ) وأن جابرالأنصاري قال إن محمد بن مسلمة جاء برأس كعب بن الأشرف إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( ثقات ابن حبان : 1 / 215 ) . ولوصح فهو تصرف منهم ولا بد أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرهم بدفنها . فموقفه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الترفع عن التمثيل بالجثامين ، والتنزه عن اتخاذها وسيلة للتجارة أو الضغط على العدو . ويؤيد ذلك رفضه مقابل جثة عمرو بن ود عشرة آلاف درهم ، وقوله : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! « المناقب : 1 / 171 » . ويؤيده ما رووه عن الزهري : ( لم يحمل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأس إلا يوم بدر ) . ( سير السرخسي : 1 / 111 ) .
المسألة الخامسة :
يناسب أن نذكر بعض من قتلهم الحكام وطافوا برؤوسهم ونصبوها في البلاد ليخوفوا من خالفهم ، فهي ثقافة جاهلية استمرت في الأمة ، وما نراه في عصرنا من وحشية وتمثيل في الجثث ، إرث من الجاهلية ولا صلة له بالإسلام .
قال المؤرخ ابن حبيب في كتابه المحبر / 490 : ( ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ، وكان شيعياً ، ودير به في السوق . ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبد الله ومحمد وأبا بكر بني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبد الله ابنا الحسن وعلي وعبد الله بن الحسين وعبد الله وجعفروعبدالرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ، ومسلم بن عقيل ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم ، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية ، فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين رضي الله عنه ، فنصب بالمدينة !
ونصب المختار بن عبيد رأس عبيد الله بن مرجانة ، ورأس الحصين بن نمير
--------------------------- 218 ---------------------------
السكسكي ، ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وكان إبراهيم بن الأشتر قتلهم يوم الحازر ، وبعث إليه برؤوسهم فبعث برؤوسهم إلى ابن الحنفية ، فنصبت رؤوسهم على باب المسجد الحرام ، فخرج ابن الحنفية من الطواف فرآها منصوبة ، فحمد الله
وأثنى عليه .
فلما قتل مصعب بن الزبير المختار بعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير ، فنصبه على باب المسجد الحرام وسمر في يد المختار مسماراً من حديد إلى جنب المسجد مسجد الكوفة ، فلم تزل مسمورة حتى قدم الحجاج فرآها فسأل عنها فأخبر بها فأمر بنزعها .
ونصب مصعب رأس إبراهيم بن الحر الجعفي بالكوفة . ونصب عبد الملك رأس إبراهيم بن الأشتر النخعي ، ورأس يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
ونصب عبد الملك رأس مصعب بمصر ، ثم رده فنصبه بدمشق ، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فغسلته وحنطته ودفنته .
ونصب عبد الملك بن مروان رأس عمير بن الحباب السلمي بدمشق .
ونصب الوليد بن يزيد رأس يحيى بن زيد بن علي رضي الله عنه ، وكان نصر بن سيار أنفذه إليه من خراسان .
ونصب يزيد بن عبد الملك رأس عبد الله بن موسى بن نصير ، وكان بعث بها إليه بشر بن صفوان الكلبي من إفريقية اتهمه بقتل يزيد بن أبي مسلم .
ونصب يزيد الناقص رأس الوليد بن يزيد في مسجد دمشق ، ما يلي باب الفراديس ، ونصب أيضاً رأس يوسف بن عمر الثقفي بدمشق .
ونصب أبو العباس أمير المؤمنين رأس مروان بن محمد بن مروان بالكوفة .
ونصب الهادي رأس دحية بن المعصب بن الأسبغ بن عبد العزيز بن مروان ، وكان قتل بمصر فنصب رأسه ببغداد .
وقتل موسى بن عيسى بن موسى الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بفخ في الموسم ، فنصب الهادي رأسه ببغداد على الجسر ، ثم بعث به إلى خراسان ، وأمه زينب بنت عبد الله بن حسن .
--------------------------- 219 ---------------------------
ونصب طاهر بن الحسين رأس محمد بن هارون الأمين ببغداد ، على باب بستان مؤنسة ، ثم وجه به إلى المأمون بخراسان فنصبه هناك . وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل وهو بفم الصلح من خراسان ، برأس علي بن أبي سعيد ، ورأس عبد العزيز بن عمران الطائي ، ورأس خلف المصري ورأس مؤنس التاجر ، واتهمهم بدم الفضل بن سهل فنصبها الحسن بن سهل هناك .
ونصب المأمون رأس أحمد بن نصر الخزاعي ببغداد . ونصب المتوكل رأس إسحاق بن إسماعيل التفليسي ببغداد ، وكان بغا الكبير أنفذه من أرمينية ) .
المسألة السادسة :
روى في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 381 ) : ( لما أدرك علي ( عليه السلام ) عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في علي ( عليه السلام ) فرد عنه حذيفة ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته ، ثم إنه ضربه ، فلما جاء سأله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن ذلك فقال : قد كان شتم أمي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ، ثم قتلته في الله ) .
وقد يشكل على ذلك بأن علياً ( عليه السلام ) ليس عنده ثنائية في الغضب والرضا ، فغضبه ورضاه دائماً لله تعالى حتى لو كان لشتم أمه ( عليها السلام ) .
لكن يجاب عنه بأن حالات المعصوم ( عليه السلام ) في القرب إلى الله تعالى قد تكون متفاوتة ، فأراد أن يقتله وهو في أعلاها مستوى ، كما أن عمرواً قد يكون تكلم بكلام كثير ، فتركه الإمام ( عليه السلام ) يتم كلامه ويسجل ذلك في صحيفة عمله .
المسألة السابعة :
من نبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه ترفع عن سلب عمرو ، بل لم أجد أنه سلب أحداً ممن قتلهم ! قال في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 384 ) : ( لما أردى ( عليه السلام ) عمرواً قال عمرو : يا ابن عم إن لي إليك حاجة ، لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه ، فقال : ذاك أهون علي ، وفيه يقول ( عليه السلام ) :
--------------------------- 220 ---------------------------
وعففتُ عن أثوابه ولوَ انني * كنتُ المقطر بَزَّني أثوابي
محمد بن إسحاق : قال له عمر : هلا سلبت درعه فإنها تساوي ثلاثة آلاف ، وليس للعرب مثلها ؟ قال : إني استحييت أن أكشف ابن عمي . وقال ( عليه السلام ) : يا قنبر لاتُعْرِ فرايسي ، أراد لا تسلب قتلاي من البغاة .
إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وفي تاريخ الخميس للديار بكري ( 1 / 488 ) : ( ورويَ أن علياً لما قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أخت عمرو حتى قامت عليه ، فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت : ما قتله إلا كفؤ كريم ، ثم سألت عن قاتله قالوا : علي بن أبي طالب ، فأنشأت هذين البيتين . . الآتيين )
فنلاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفى لعمرو بوعده فلم يسلبه حتى درعه ، بينما لامه عمر على ذلك ولعله أراد سلبه فمنعه علي ( عليه السلام ) . ويظهر أن أخت عمرو جاءت لتأخذ جثته فوجدته بكامل ثيابه ودرعه ، فشهدت بنبل علي ( عليه السلام ) . فسبب عدم سلبه أنه وعده كما وعد فارس قريش طلحة بن أبي طلحة في أحُد ؟ والأسباب الأخرى التي ذكرتها روايات إن صحت ، فهي أعذار مكملة .
المسألة الثامنة :
عمرو بن عبد ود قرشي من بني عامر بن لؤي ، وهم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( ابن هشام : 2 / 489 ) . وعدوه ثالث شجعان قريش ، أي بعد بني عبد الدار وعتبة بن ربيعة ، وقد شهد مع المشركين معركة بدر وقتل اثنين من المسلمين : سعد بن خيثمة الأنصاري وهو من النقباء ( الحاكم : 3 / 189 ) وعمير بن أبي وقاص . ( الإستيعاب : 3 / 1221 ) . قال الحاكم ( 3 / 32 ) : ( قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، ولم يشهد أحُداً ، فلما كان يوم الخندق خرج معلَّماً ليرى مشهده ) .
* *
--------------------------- 221 ---------------------------

من شعر معركة الأحزاب ومبارزة علي ( عليه السلام ) لعمرو

قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 105 ) : ( وفي الأحزاب أنزل الله عز وجل : إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا . إلى قوله : وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا .
توجه العتب إليهم والتوبيخ والتقريع والعتاب ، ولم ينج من ذلك أحد باتفاق إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إذ كان الفتح له وعلى يديه ، وكان قتله عمراً ونوفل بن عبد الله ، سبب هزيمة المشركين . وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد قتله هؤلاء النفر : الآن نغزوهم ولا يغزونا .
وقد روى يوسف بن كليب وغيره ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه كان يقرأ : وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلي ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا . وفي قتل عمرو يقول حسان :
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي * بجنوب يثرب غارة لم تنظر
فلقد وجدت سيوفنا مشهورة * ولقد وجدت جيادنا لم تقصر
ولقد رأيت غداة بدر عصبة * ضربوك ضرباً غير ضرب المحسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة * يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
ويقال : أنه لما بلغ شعر حسان بني عامر أجابه فتى منهم ، يرد عليه افتخاره بالأنصار :
كذبتم وبيت الله لم تقتلوننا * ولكن بسيف الهاشميين فافخروا
بسيف أبي عبد الله أحمد في الوغى * بكف علي نلتم ذاك فاقصروا
فلم تقتلوا عمرو بن عبد ببأسكم * ولكنه الكفء الهزبر الغضنفر
علي الذي في الفخر طال بناؤه * فلا تكثروا الدعوى علينا فتفخروا
ببدر خرجتم للبراز فردكم * شيوخ قريش جهرة وتأخروا
فلما أتاهم حمزة وعبيدة * وجاء علي بالمهند يخطر
--------------------------- 222 ---------------------------
فقالوا : نعم أكفاء صدق فأقبلوا * إليهم سراعاً إذ بغوا وتجبروا
فجال علي جولة هاشمية * فدمرهم لما عتوا وتكبروا
فليس لكم فخر علينا بغيرنا * وليس لكم فخر يعدُّ ويذكر
عن أبي الحسن المدائني قال : لما قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عمرو بن عبد ود نُعي إلى أخته فقالت : من ذا الذي اجترأ عليه ؟ فقالوا : ابن أبي طالب . فقالت : لم يعدُ يومه على يد كفء كريم ، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الأبطال وبارز الأقران ، وكانت منيته على يد كفء كريم قومه ، ما سمعت أفخر من هذا يا بني عامر ، ثم أنشأت تقول :
لو كان قاتلُ عمرو غير قاتِلِه * لكنت أبكي عليه آخرَ الأبد
لكنَّ قاتلَهُ من لا يُعاب به * وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وقالت أيضاً :
أسدان في ضيق المكر تصاولا * وكلاهما كفء كريم باسل
فتخالسا مهج النفوس كلاهما * وسط المذاد مخاتل ومقاتل
وكلاهما حضر القراع حفيظة * لم يثنه عن ذاك شغل شاغل
فاذهب علي فما ظفرت بمثله * قول سديد ليس فيه تحامل
فالثأر عندي يا علي فليتني * أدركته والعقل مني كامل
ذلت قريش بعد مقتل فارس * فالذل مهلكها وخزي شامل
ثم قالت : والله لا ثَئِرت قريش بأخي ما حنَّت النيب ) .
قال ابن منظور في لسان العرب ( 7 / 126 ) : ( العرب تقول للرجل الكريم : هو بَيْضة البلد يمدحونه . وأَنشد أَبو العباس لامرأَة من بني عامر بن لُؤَيّ ترثي عمرو بن عبد وُدٍّ
وتذكر قتل عليّ إِيَّاه :
لو كان قاتِلُ عَمرو غيرَ قاتله * بَكَيْتُه ما أَقام الرُّوحُ في جَسَدي
لكنَّ قاتلَه مَنْ لا يُعابُ به * وكان يُدعَى قديماً بَيْضَةَ البَلَدِ
يا أُمَّ كُلْثُومَ شُقِّي الجَيْبَ مُعْوِلَةً * على أَبيكِ فقد أَوْدَى إِلى الأَبَدِ
يا أُمَّ كُلْثُومَ ، بَكِّيه ولا تَسِمِي * بُكَاءَ مُعْوِلَةٍ حَرَّى على ولد
--------------------------- 223 ---------------------------
أقول : أصل البيت من شعرأخت عمرو :
لكن قاتله من لا يعاب به * وكان يدعى أبوه بيضة البلد
لكنهم غيروه بغضاً بأبي طالب ( عليه السلام ) وهو المقصود ببيضة البلد . وقد روته كذلك أمهات المصادر ، كشذرات الذهب للعماد ( 4 / 39 ) وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد ( 2 / 198 ) وابن الجوزي في المنتظم ( 2 / 234 ) وشرح النهج ( 1 / 31 ) وغيرهم .
* *
وكبر المسلمون لقتل عمرو ، وجاء علي إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يقول : ( شرح الأخبار : 1 / 294 ) .
نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب
فصددت حين تركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو انني * كنت المصرع بزَّني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيَّهُ يا معشر الأحزاب
* *
وروي أن جبرئيل ( عليه السلام ) نادى : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، وروى الشريف المرتضى في رسائله ( 4 / 119 ) قول الشاعر :
جبريل نادى في الوغى * والنقع ليس بمنجلي
والمسلمون بأسرهم * حول النبي المرسل
والخيل تعثر بالجماجم * والوشيج الذُّبَّل
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
وقال القاضي النعمان في شرح الأخبار ( 1 / 294 ) : ( ألقى عكرمة رمحه وهو منهزم في الخندق إذ أثقله ، وكان مع عمرو بن عبد ود . قال حسان :
ففر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرمُ لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليم * ما أن تجوز عن المعدل
ولم تلو ظهرك مستأنساً * كأن قفاك قفا فَرْعَل ( جرو الضبع )
--------------------------- 224 ---------------------------
وفي الإرشاد ( 1 / 109 ) : ( لما انهزم الأحزاب وولوا عن المسلمين الدبر ، عمل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على قصد بني قريظة ، وأنفذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إليهم في ثلاثين من الخزرج ، فقال له : أنظر بني قريظة هل تركوا حصونهم . . قال علي ( عليه السلام ) : فأشرفوا عليَّ فحين رأوني صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو ، وقال آخر : قد أقبل إليكم قاتل عمرو ، وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك ، وألقى الله في قلوبهم الرعب ، وسمعت راجزاً يرجز :
قتل عليٌّ عمرا * صاد عليٌّ صقرا
قصم علي ظهرا * أبرم عليٌّ أمرا
هتك عليٌّ سترا
فقلت : الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك ) .
* *
روى ابن إسحاق وابن هشام « 3 / 733 » قول ضرار بن الخطاب الفهري :
ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا
كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا
ترى الأبدان فيها مسبغات على * الأبطال واليلب الحصينا
وجرداً كالقداح مسوماتٍ * نؤم بها الغواة الخاطئينا
كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب الخندقين مصافحونا
أناس لا نرى فيهم رشيداً وقد * قالوا : ألسنا راشدينا
فأحجرناهم شهراً كريتاً * وكنا فوقهم كالقاهرينا
نراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا
بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق والشئونا
كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا
وميضُ عقيقة لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا
فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا
--------------------------- 225 ---------------------------
ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا
فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعداً رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحى * على سعد يرجعن الحنينا
وسوف نزوركم عما قريب * كما زرنا كم متوازرينا
بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب قد حمت العرينا
فأجابه كعب بن مالك الأنصاري :
وسائلة تسائل ما لقينا * ولو شهدت رأتنا صابرينا
صبرنا لا نرى لله عدلاً * على ما نابنا متوكلينا
وكان لنا النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا
نقاتل معشراً ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا
ترانا في فضافض سابغات * كغدران الملا متسربلينا
وفى أيماننا بيض خفاف * بها نشفي مراح الشاغبينا
بباب الخندقين كأن أسداً * شوابكهن يحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوساً معلمينا
لننصر أحمداً والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فإما تقتلوا سعداً سفاهاً * فإن الله خير القادرينا
سيدخله جناناً طيبات * تكون مقامة للصالحينا
كما قد ردكم فلا شريداً * بغيظكم خزايا خائبينا
وقال مسافع الجمحي يبكي عمرو بن عبد ود :
عمرو بن عبد كان أول فارسٍ * جزع المذاد وكان فارس يليلِ
سمحُ الخلائق ماجدٌ ذو مرة * يبغي القتال بشكة لم ينكل
ولقد علمتم حين ولوا عنكم * أن ابن عبد فيهم لم يعجل
--------------------------- 226 ---------------------------
حتى تكنفه الكماة وكلهم * يبغي مقاتله وليس بمؤتلي
ولقد تكنفت الأسنة فارساً * بجنوب سلع غير نكس أميل
سأل النزال عليُّ فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب عليُّ فما ظفرت بمثله * فخراً ولا لاقيت مثل المعضل
نفسي الفداء لفارس من غالب * لاقى حمام الموت لم يتحلحل
وقال الشيخ كاظم الأزري ( رحمه الله ) من قصيدته الأزرية / 124 :
ظهرت منه في الوغى سطواتٌ * ما أتى القوم كلهم ما أتاها
يوم غصت بجيش عمرو بن ود * لهوات الفلا وضاق فضاها
وتخطى إلى المدينة فرداً * بسرايا عزائمٍ ساراها
فدعاهم وهو ألوفٌ ولكن * ينظرون الذي يشبُّ لظاها
أين أنتم عن قَسْورٍ عامريٍّ * تتقي الأسد بأسه في شراها
فابتدى المصطفى يحدث عما * تؤجر الصابرون في أخراها
قائلاً ان للجليل جناناً * ليس غير المجاهدين يراها
أين من نفسه تتوق إلى * الجنات أو يورد الجحيم عداها
من لعمرٍو وقد ضمنت على * الله له من جنانه أعلاها
فالتووا عن جوابه كسوامٍ * لا تراها مجيبةً من دعاها
وإذا همْ بفارسٍ قرشيٍّ * ترجف الأرض خيفةً إذ يَطَاها
قائلاً مالها سواي كفيلٌ * هذه ذمةٌ عليَّ وفاها
ومشى يطلب الصفوف كما * تمشي خماص الحشا إلى مرعاها
فانتضى مشرفيه فتلقى * ساق عمرو بضربة فبراها
والى الحشر رنة السيف منه * يملأ الخافقين رجع صداها
يا لها ضربة حوت مكرمات * لم يزن ثقل أجرها ثقلاها
هذه من علاه إحدى المعالي * وعلى هذه فقس ما سواها » .
* * ا
--------------------------- 227 ---------------------------

الفصل العاشر: علي ( عليه السلام ) بطل معركة بني قريظة

علي ( عليه السلام ) بطل معركة بني قريظة
1 - جبرئيل ( عليه السلام ) يأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغزو بني قريظة
قال في إعلام الورى « 1 / 194 » : « وأصبح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « بعد الخندق » بالمسلمين حتى دخل المدينة ، فضربت له ابنته فاطمة ( عليها السلام ) غسولاًحتى تغسل رأسه ، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً بعمامة بيضاء ، عليه قطيفة من إستبرق ، معلق عليها الدر والياقوت ، عليه الغبار ، فقام رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمسح الغبار عن وجهه ، فقال له جبرئيل : رحمك ربك ، وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ! ما زلت أتبعهم حتى بلغتُ الروحاء !
ثم قال جبرئيل : إنهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب ، فوالله لأدقنهم دق البيضة على الصخرة ! فدعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) فقال : قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة ، وقال : عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة . فأقبل علي ( عليه السلام ) ومعه المهاجرون وبنو عبدالأشهل وبنو النجار كلها ، لم يتخلف عنه منهم أحد ، وجعل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُسَرِّب إليه الرجال ، فما صلى بعضهم العصر إلا بعد العشاء ، فأشرفوا عليه وسبُّوه وقالوا : فعل الله بك وبابن عمك ، وهو واقف لا يجيبهم ، فلما أقبل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون حوله تلقاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك فإن الله سيجزيهم ، فعرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنهم قد شتموه . . فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ » .
وفي الإرشاد : 1 / 109 : « قال علي ( عليه السلام ) : فاجتمع الناس إليَّ وسرت حتى دنوت من سورهم ،
--------------------------- 228 ---------------------------
فأشرفوا عليَّ فحين رأوني صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو . . وسمعت راجزاً يرجز :
قتل عليٌّ عمراً . . صاد علي صقرًا . . قصم علي ظهراً . . أبرم علي أمراً . . هتك علي ستراً !
فقلت : الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك . وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي حين توجهت إلى بني قريظة : سرعلى بركة الله ، فإن الله قد وعدك أرضهم وديارهم . فسرت مستيقناً لنصر الله عز وجل حتى ركزت الراية في أصل الحصن . وأقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( يوم السبت ) محاصراً لبني قريظة خمساً وعشرين ليلة حتى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم سعد بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وقسمة الأموال . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » . أي بقتل الرجال المحرضين على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكانت راية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سوداء تدعى العقاب . ( قرب الإسناد / 157 ) .
وقال ابن أبي يعفور : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : « إنا نقول إن علياً ( عليه السلام ) كان ينكت في قلبه أو صدره أو في أذنه . فقال : إن علياً ( عليه السلام ) كان محدَّثاً . قلت : فيكم مثله ؟ قال : إن علياً كان محدثاً ، فلما أن كررت عليه قال : إن علياً يوم بني قريظة والنضيركان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره يحدثانه » ! ( بصائر الدرجات / 342 ) .

2 - بطولة علي ( عليه السلام ) في بني قريظة ، ونص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على خلافته

قال الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمعاوية ومن حضر في مجلس المناظرة : ( أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة ، فنزلوا من حصنهم ، فهُزموا ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وفعل في خيبر مثلها ) ! ( شرح النهج : 6 / 289 ) .
وفي الإحتجاج « 1 / 97 » : احتج خالد بن سعيد بن العاص على أبي‌بكر أيام السقيفة : « قال : إتق الله يا أبا بكر ، فقد علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ونحن محتوشوه يوم بني قريظة حين فتح الله له باب النصر ، وقد قتل علي بن أبي طالب يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم : يا معاشرالمهاجرين والأنصار إني موصيكم
--------------------------- 229 ---------------------------
بوصية فاحفظوها ، ومودعكم أمراً فاحفظوه : ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي ، وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربي . ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ، ووليكم شراركم ! ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري ، والعالمون لأمر أمتي من بعدي . اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي ، فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي ، يدركون به نور الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي ، فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض » !
أقول : لاحظ أن فرسان قريظة خرجوا من حصنهم بعد اليوم الثالث ، فبرز إليهم علي ( عليه السلام ) وقتلهم ! لكن رواة السلطة لم يذكروا ذلك ، وأخفوا ما رواه أتباع أهل‌البيت ( عليهم السلام ) ! كما أخفوا نص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يومها علي خلافة علي ( عليه السلام ) .

3 - قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ

قال ابن هشام « 3 / 720 » : « إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصروا بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ! وتقدم هو والزبير بن العوام وقال : والله لأذوقن ما ذاق حمزة ، أو لأفتحن حصنهم ، فقالوا : يا محمد ننزل على حكم سعد » .
« فقال كعب بن أسد : يا معشر بني قريظة : والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي الله ، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب ، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل فهو حيث جعله الله ! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد ، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعني حي بن أخطب علينا وعلى قومه ، وقومه كانوا أسوأ منا ! لايستبقي محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه ، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال : تركت الخمر والخمير والتأمير ، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير ! قالوا : وما ذلك ؟ قال : يخرج من هذه القرية نبي ، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته ، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه ، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر .
قال كعب : فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به ، فنأمن على دمائنا ونسائنا
--------------------------- 230 ---------------------------
وأموالنا ، فنكون بمنزلة من معه . قالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا ، نحن أهل الكتاب والنبوة ، ونكون تبعاً لغيرنا » ! « الواقدي : 2 / 501 » .
وفي المناقب : 1 / 172 : « فحاصرهم النبي خمساً وعشرين ليلة فقال كعب بن أسد : يا معشر اليهود نبايع هذا الرجل وقد تبين أنه نبي مرسل ، قالوا : لا ، قال : فنقتل أبناءنا ونساءنا وتخرج إليه مُصْلِتين ، قالوا : لا . قال : فنثب عليه وهو يأمن علينا لأنها ليلة السبت ، قالوا : لا . فاتفقوا على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ . فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً ، وقسم الأموال واسترق الذراري » .
أقول : روى ابن هشام « 3 / 725 » والبيهقي « 9 / 139 » : « أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث بسبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بهن خيلاً وسلاحاً » !
وكأن الله أراد أن يجعل النجديين أبناء يهوديات ، بلاءً لأجيال المسلمين !
وقال اليعقوبي ( 2 / 52 ) : « فانصرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء بني هاشم ، وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة . وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهماً وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس ، وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً » .
4 - حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية
حاول اليهود ومن تبعهم من الغربيين أن يجعلوا من بني قريظة ظلامةً لليهود ، وتناسوا أنهم كانوا معاهدين للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنقضوا عهدهم ومزقوه وانضموا إلى الأحزاب ، وذلك بعد نشاطهم وتجوال حاخاماتهم على قبائل العرب يجمعونهم لقتال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويعطونهم المال ويعدونهم الوعود ! وكان أبرز الناشطين الحاخام حي بن أخطب . ففي تفسير القمي « 2 / 191 » والواقدي « 1 / 514 » : « ثم قدم حي بن أخطب فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك ؟ فقال : والله يا محمد ! ما ألوم نفسي في عداوتك ، ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل الجهد ، ولكن من يخذل الله يُخذل ! ثم قال حين قدم للقتل :
لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يُخذلُ »
--------------------------- 231 ---------------------------
وفي الإمتاع « 4 / 206 » : « فإنهم نقضوا العهد وحزبوا الأحزاب ، وجمعوا وحشدوا ، وأظهروا له العداوة ، بعد ما هموا بإلقاء الرحي عليه ، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه » . وإنما قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من نقض العهد منهم وساعد الأحزاب .
* *
--------------------------- 232 ---------------------------

الفصل الحادي عشر: علي ( عليه السلام ) بطل غزوة بني المصطلق - المريسيع

1 . خلاصة الغزوة

كانت خزاعة حليفة لعبدالمطلب وبني هاشم ، وكان بنو المصطلق وبنو الهون من خزاعة حلفاء بني أمية . « معجم البلدان : 6 / 278 » . وقد شاركوا في حرب الأحزاب بقيادة يزيد بن الحليس . « تفسير مقاتل : 3 / 41 » . ولا يبعد أن يكون أبو سفيان حرَّكهم بعد ذلك لغزو المدينة فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فغزاهم قبل أن يكملوا استعدادهم لحربه ! وهي غزوة بني المصطلق ، أوغزوة المريسيع وهو ماء ، وكانت في شعبان سنة خمس . ( إعلام الورى : 1 / 196 ) .

2 . علي ( عليه السلام ) صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح

قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 118 ) : « ثم كان من بلائه ( عليه السلام ) ببني المصطلق ما اشتهر عند العلماء ، وكان الفتح له ( عليه السلام ) في هذه الغزاة ، بعد أن أصيب يومئذ ناس من بني عبدالمصطلق ، فقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رجلين من القوم وهما مالك وابنه وأصاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين . وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار . . وكان الذي سبا جويرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فجاء بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاصطفاها ، فجاء أبوها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد إسلام بقية القوم فقال : يا رسول الله إن ابنتي لاتسبى ، إنها امرأة كريمة . قال : إذهب فخيرها ، قال : أحسنت وأجملت ، وجاء إليها أبوها فقال : يا بنية لاتفضحي قومك ! فقالت له : قد اخترت الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال لها أبوها : فعل الله بك وفعل ، فأعتقها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعلها في جملة أزواجه » . « فلما سمع
--------------------------- 233 ---------------------------
القوم ذلك ، أرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق ، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها » . « المناقب : 1 / 173 ، وابن هشام : 3 / 761 » .
وفي دعائم الإسلام ( 1 / 370 ) عن علي ( عليه السلام ) أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « لايغزى قوم حتى يُدْعَوْا ، وإن أكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن ، وإن قوتلوا قبل أن يُدْعَوْا إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فلا حرج . وقد أغار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على بني المصطلق وهم غارُّون ، يعني غافلون ، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ولم يدعهم في الوقت . قال علي صلوات الله عليه : قد علم الناس اليوم ما يُدْعَوْنَ إليه » .
أقول : لم تفصل رواياتهم معركة غزوة المراسيع ومن برزفيها وعدد من قتل : واكتفت بذكر اثنين قتلهما علي ( عليه السلام ) ثم ذكرت الحملة والنصر .
وبعض الروايات قالت : طالت معركتها ثلاثة أيام ! والمظنون أنهم كتموا بطولة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) علي عادتهم .

3 . أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) لقتال الجن

في منهاج الكرامة / 171 : « ما رواه الجمهور من أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما خرج إلى بني المصطلق جَنَبَ عن الطريق وأدركه الليل ، فنزل بقرب واد وعر ، فهبط جبرئيل آخر الليل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه ، فدعا بعلي ( عليه السلام ) وعوذه ، وأمره بنزول الوادي فقتلهم ( عليه السلام ) » .
وفي الإرشاد ( 1 / 339 ) : « فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقال له : إذهب إلى هذا الوادي ، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك ، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عز وجل ، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها . وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم : كونوا معه وامتثلوا أمره . فتوجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الوادي فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ، ولا يحدثوا شيئاً حتى يأذن لهم . ثم تقدم فوقف على شفير الوادي ، وتعوذ بالله من أعدائه ، وسمى الله عز وجل وأومأ إلى القوم الذين
--------------------------- 234 ---------------------------
تبعوه أن يقربوا منه فقربوا ، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة ، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها ، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول ما لحقهم ! فصاح أمير المؤمنين : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب وصيُّ رسول الله وابن عمه ، أثبتوا إن شئتم ! فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط ، تخيل في أيديهم شعل النار قد اطمأنوا بجنبات الوادي ، فتوغل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً ، فما لبثت الأشخاص حتى صارت كالدخان الأسود ، وكبَّر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم صعد من حيث انهبط ، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه . فقال له أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما لقيت يا أبا الحسن ؟ فلقد كدنا أن نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك أكثر مما لحقنا . فقال لهم : إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عز وجل فتضاءلوا ، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم ، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم وقد كفى الله كيدهم ، وكفى المسلمين شرهم ، وسبقني بقيتهم إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤمنون به .
وانصرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بمن تبعه إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره الخبر ، فسري عنه ودعا له بخير ، وقال له : قد سبقك يا علي إلي من أخافه الله بك ، فأسلم وقبلت إسلامه . ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين !
ثم قال المفيد : « وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة ولم يتناكروا شيئاً منه . . ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر العجب من الخبر بملاقاة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الجن وكفه شرهم عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأصحابه ويتضاحك لذلك ، وينسب الرواية له إلى الخرافات الباطلة ، ويصنع مثل ذلك في الأخبار الواردة بسوى ذلك من معجزاته ( عليه السلام ) ويقول : إنها من موضوعات الشيعة ، وتخرص من افتراه منهم للتكسب بذلك أو التعصب . وهذا بعينه مقال الزنادقة وكافة أعداء الإسلام فيما نطق به القرآن من خبر الجن وإسلامهم . . فلينظر القوم ما جنوه على الإسلام بعداوتهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واعتمادهم في دفع فضائله ومناقبه وآياته ، على ما ضاهوا به أصناف
--------------------------- 235 ---------------------------
الزنادقة والكفار ، مما يخرج عن طريق الحجاج إلى أبواب الشغب والمسافهات » . ورواه في المناقب ( 1 / 358 ) ثم قال : ( وهذا كما رويتم عن ابن مسعود قصة ليلة الجن ، وتصح محاربة الجن بأسماء الله تعالى . قال أبو الفتح محمد السابوري :
وفي الجن فضل وفي حرفهم * أعاجيب علم لمستعلم
وقال أبو الحسن البياضي :
من قاتل الجن غير حيدرة * وصاح فيهم بصوته الجَهْوَرْ
فصوته قد علا غريفهم * إذ قال هات الحسام يا قنبر
فانهزموا ثم مزقت شيعاً * منه العفاريت خيفة تذعر
ثم روى خبر بئر ذات العلم عن محمد بن إسحاق ، فقال : محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عبد الله بن الحارث ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وأبو عمر وعثمان بن أحمد عن محمد بن هارون ، باسناده عن ابن عباس ، في خبر طويل انه أصاب الناس عطش شديد في الحديبية فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : هل من رجل يمضي مع السقاة إلى بئر ذات العلم فيأتينا بالماء ، وأضمن له على الله الجنة فذهب جماعة فيهم سلمة بن الأكوع ، فلما دنوا من الشجرة والبئر سمعوا حساً وحركة شديدة ، وقرع طبول ، ورأوا نيراناً تتقد بغيرحطب ، فرجعوا خائفين ، في خبر طويل إلى أن قال : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث سعد بن مالك بالروايا يوم الحديبية فرجع رعباً من القوم ، ثم بعث علياً ( عليه السلام ) فاستسقى ثم أقبل بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكبر ودعا له بخير ) .

3 - تنظيم الخمس لبني هاشم ، والصدقات والفئ للمسلمين

في الإستيعاب ( 4 / 1462 ) : « أخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الخمس من جميع المغنم ، وجعل عليه محمية بن جزء الزبيدي وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها ، وأمره أن يصدق عن قوم بني هاشم في مهور نسائهم ، منهم الفضل بن العباس . وقسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الغنائم وأخذ صفيةً قبل القسم ، ثم جزأ الغنائم خمسة أجزاء ثم أقرع عليها ، ولم يتخير فأخرج الخمس ، وأخذ سهمه
مع المسلمين » .
--------------------------- 236 ---------------------------

4 . شبَّه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً بعيسى بن مريم ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في شرح الأخبار : 2 / 466 : « عن سلمان الفارسي : لما انصرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من غزوة بني المصطلق تقدم في مقدمة الناس ، وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يكون في ساقتهم يحفظهم ، فلما وصل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة أتى إلى باب المسجد جلس ينتظر علياً ( عليه السلام )
لم يدخل منزله ، فرأيته يمسح العرق من وجهه ، ثم قال : يأتيكم الساعة من هذه الشعبة ، وأشار بيده إلى بعض الشعاب رجل أشبه الناس بالمسيح ( عليه السلام ) ، وهو أفضل الناس بعدي يوم القيامة ، وأول من يدخل الجنة ! فجعلنا ننظر إلى الشعب فكان أول من طلع منه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ! فلما انتهى إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام إليه فاعتنقه وقبل بين عينيه ودخلا ، فقال قوم من المنافقين : يشبِّه ابن عمه بالمسيح ويمثله به ، أفآلهتنا التي كنا نعبدها خيرأم علي ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ . وَقَالُوا ءَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » .
أقول : روت هذا الحديث مصادرنا مستفيضاً ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاله في أكثر من مناسبة « الكافي : 8 / 57 » وروته بعض مصادرهم . ولا بد أن يكون نزول هذه الآيات ثانية بعد نزولها في مكة ، وبعض الآيات نزلت مرات . وفي رواية أن جبرئيل قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا محمد إقرأ قول الله تعالى كذا . . لآيةٍ نزلت سابقاً ، هي :
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع ٍ .

5 - الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن !

دخل بنو المصطلق في الإسلام ، وعند موسم زكاتهم أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبضها ، فخرجوا لاستقباله ، فخاف منهم ورجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له : رفضوا أداء زكاتهم !
وفي سيرة ابن هشام : 3 / 763 : « فأخبره أن القوم قد هموا بقتله . . . فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالوا يا رسول الله ، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً ! فبلغنا أنه زعم
--------------------------- 237 ---------------------------
لرسول الله أنا خرجنا إليه لنقتله ، ووالله ما جئنا لذلك . فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » . تفسير الطبري : 26 / 160 ، وشرح الأخبار : 2 / 120 ، والبيهقي : 9 / 55 ، والاستيعاب : 4 / 1553 ، والسقيفة للجوهري / 128 ، وأسباب النزول / 261 ، واليعقوبي : 2 / 53 .

6 - أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالداً فأفسد ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) فأصلح

في أمالي الصدوق / 237 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بني جذيمة ، وكان بينهم وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية ، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخذوا منه كتاباً ، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادي بالصلاة فصلى وصلوا ، فلما كانت صلاة الفجرأمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه ، فأتوا به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تِبْرٌ ومتاع فقال لعلي ( عليه السلام ) : يا علي ، إئت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قدمه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك . فأتاهم علي ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ، فلما رجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : يا علي ، أخبرني بما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله ، عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، أعطيتهم ليرضوا عني رضي الله عنك يا علي ، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي » .
وفي أمالي الطوسي : 498 : « أرضيتني رضي الله عنك ، يا علي أنت هادي أمتي ،
--------------------------- 238 ---------------------------
ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .
أقول : كان ذلك بعد مدة من غزوة بني المصطلق ، ولا بد أنهم ماطلوا في أداء زكاتهم ، لأن إسلام خالد بن الوليد كان بعد غزوة بني المصطلق والحديبية . وروي أن بعث خالد إلى بني جذيمة كان بعد فتح مكة ، وهو المرجح .

7 - سرية علي ( عليه السلام ) لملاحقة اللصوص العرنيين

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 7 / 245 » : « قدم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قوم من بني ضبة مرضى ، فقال لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية ، فقالوا : أخرجنا من المدينة ، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها ، فلما برئوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل ، فبلغ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فبعث إليهم علياً ( عليه السلام ) فهم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه ، قريباً من أرض اليمن ، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنزلت هذه الآية عليه : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض . فاختار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف » .
أقول : غيبت رواية الحكومة اسم علي ( عليه السلام ) من هذه السرية وسمتها : سرية كرز بن جابر إلى العرنيين ! وحرفت روايتها للطعن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإثبات قسوته ، فزعمت أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قتل العرنيين وسمل عيونهم وتركهم عطاشى حتى ماتوا ، ثم أحرقهم ! وذلك ليبرروا للحكام ما يرتكبونه ، ويجعلوهم أرحم من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « لا والله ، ما سمل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عيناً ، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم » . « مسند الشافعي / 351 » . وقد استوفينا بحثها في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 2 / 435 ، المسألة : 164 .
* *
--------------------------- 239 ---------------------------

الفصل الثاني عشر: علي ( عليه السلام ) بطل غزوة الحديبية

1 . خلاصة غزوة الحديبية

خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الحديبية يريد مكة لأجاء العمرة ، فاستنفرت قريش وبعثت طليعةً لصده . ( تفسير القمي : 1 / 150 ) فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأداء ( ابن هشام : 3 / 775 ) : « يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ! ثم قال : مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غيرطريقهم التي هم بها » .
وعسكرت قريش في بلدح ، وهو واد قرب مكة عند التنعيم وفخ « البكري : 1 / 273 » وكانوا يرسلون دورياتهم إلى مداخل مكة والمناطق القريبة من الحديبية ، وكان قادة الخيل أبان بن سعيد ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وخالد بن الوليد .
وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وعمير بن وهب الجمحي ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . فعلمت بهم قريش فأخذتهم . « سبل الهدى : 5 / 48 » . وهم مكيون كانوا مقطوعين عن أسرهم . وبعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص ، واستمرت مفاوضات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معهم يومين ، وكانت في بعض مراحلها متوترة وفيها تهديد !
--------------------------- 240 ---------------------------
قال الطبري ( 2 / 280 ) : « فلما انتهى سهيل إلى رسول الله تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا » .
وفي اليوم الثاني بقي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصراً على شرط حرية المسلمين في مكة ، فرجع سهيل إلى مكة للتشاور مع زعماء قريش بشأنه ، ثم عاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وأخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحضور سهيل بيعة الرضوان من أصحابه على القتال وعدم الفرار ، وعلى أن لاينازعوا الأمر أهله .
قال مسلم في صحيحه ( 13 / 2 ) : « في حديث ابن عمر وعبادة : بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله » . ومعناه : لا ننازع الوصي على الخلافة .

2 . إشتباكات علي ( عليه السلام ) مع قريش في الحديبية

نقرأ في سورة الفتح وصف مواجهة بين المسلمين وقريش في الحديبية ، في قوله تعالى : وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . « الفتح : 24 - 25 » .
فترى ظفراً عسكرياً للمسلمين ، حتى عدَّ الفقهاء مكة مفتوحة عنوة : قال في الخلاف ( 5 / 528 ) عن الآية : « وهذا صريح في الفتح » .
لكن السلطة القرشية أخفت الظفرالعسكري لأن بطله علي ( عليه السلام ) ، أو نسبته إلى محمد بن مسلمة أو ابن الأكوع ، وحتى إلى خالد ، الذي كان يومها قائداً في جيش المشركين !
وغرضهم أيضاً أن يخفوا مقاومة قريش للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصدها له عن العمرة ، وأن يخفوا بطولة علي ( عليه السلام ) في مواجهتها ، ويمدحوا أشخاصاً آخرين يحبونهم !
قال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد ( 1 / 119 ) : « ثم تلا بني المصطلق الحديبية ، وكان اللواء يومئذ إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما كان إليه في المشاهد قبلها ، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صف القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبره واستفاض ذكره » .
ورحم الله المفيد وليته بينه ، فقد ظهر ذلك واستفاض إلى عصره في القرن الرابع ، ثم
--------------------------- 241 ---------------------------
طُمس وأخفي ، ولم يصلنا إلا محرفاً مبتوراً !
وقال رواة السلطة كالطبري « 2 / 278 » : « إن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لهم من أصحابه ، فأخذوا أخذاً فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالحجارة والنبل » .
وفي رواية ابن عبد البر : كانوا ثمانين . فمن الذي قاد هذه العملية النظيفة ، وهاجم هؤلاء الفرسان ، وأسرهم جميعاً بدون سفك دم ؟
لقد نسبوه إلى محمد بن مسلمة ، وكأن علياً ( عليه السلام ) كان نائماً وهو قائد الجيش ، وهو الذي يُعَيَّن الحراسات ويسيرالدوريات ويسهر على سيرالأمور ! لكنهم يحبون ابن مسلمة لأنه شارك في تأسيس النظام القرشي ، وكان من المهاجمين لبيت فاطمة وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
2 - ثم رووا أن سهيل بن عمرو قال في مفاوضته للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « يا محمد ! إن هذا الذي كان من حبس أصحابك ، وما كان من قتال من قاتلك ، لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا ، ولم نعلم به وكان من سفهائنا ، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة ، والذين أسرت آخر مرة !
قال : إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي . قال : أنصفتنا . فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشتيم بن عبد مناف التيمي ، فبعثوا بمن كان عندهم ، وهم : عثمان وعشرة من المهاجرين وأرسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصحابهم الذين أسروا » . « الإمتاع : 1 / 289 » .
فقد أسَرَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذن مجموعة من المشركين وأطلقهم ، ثم أسر مجموعتين واحتفظ بهم ! فمن قام بذلك غير علي ( عليه السلام ) قائد الجيش ؟ !
ثم رووا أن خيل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانوا مئتي فارس ، قاتلوا فرسان قريش وهم خيل عكرمة ، وهزموهم حتى أدخلوهم حيطان مكة !
قال الزمخشري : 3 / 547 ، في تفسير قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ : « لما روي
--------------------------- 242 ---------------------------
أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مائة ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من هزمه وأدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله : وهُوَ الَّذي كفَّ أيديهم » . فمن الذي بعثه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقاد هذه العملية النظيفة ، وهزم قوة المشركين بدون سفك دم ، إلا علي ( عليه السلام ) ؟ !
3 - ويأخذك العجب من وقاحة رواة قريش ونسبتهم البطولة في ذلك إلى خالد بن الوليد ، مع أنه كان قائد خيل المشركين ، وأراد أن يهاجم المسلمين وهم في صلاتهم ، لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحاشى القتال ! لاحظ ما رواه الطبري في تفسيره ( 26 / 123 ) والسيوطي في الدر المنثور ( 6 / 78 ) عن عدة مصادر في تفسير قوله تعالى : وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ، قال : « لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر : يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ! قال فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله ، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى فنزل بمنى ، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مائة فقال لخالد بن الوليد : يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل ، فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمي سيف الله ، يا رسول الله إرم بي حيث شئت ، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب ، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة ! فأنزل الله : وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . إلى قوله : عذاباً أليماً » .
فاعجب لهذه الرواية المكذوبة لأجل مدح عمر بأنه أفقه من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقد نبهه إلى لزوم السلاح في سفره ، ومدح خالد وجعله سيف الله !
لكن ابن كثير اضطر للاعتراف بكذبها ! قال في تفسيره « 4 / 207 » : « لأن خالداً لم يكن أسلم ، بل كان حينئذ طليعة للمشركين ، كما ورد في الصحيح » !
4 - واجه القرشيون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشراسة وبغضاء ، مع أنه جاء معتمراً غير مقاتل ! وأرسلوا
--------------------------- 243 ---------------------------
خيلهم بقيادة خالد لإرجاعه أو قتاله فتجنبها ونزل في الحديبية ، فأرسلوا خيلهم بقيادة أبان بن سعيد إلى قربه ، واستفردوا رجلاً مسلماً فقتلوه ! وأرسل إليهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رسولاً فعقروا بعيره وأهانوه ! ثم قاموا بأسر مسلمين عُزَّل ذهبوا
إلى مكة . ثم أرسل إليهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عثمان بأمان ابن عمه أبان بن سعيد ، وهو قائد عندهم ، فحبسوه !
مقابل ذلك قام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأسرمجموعة من اثني عشر فارساً ، رداً على قتلهم المسلم : « يقال له رهم : اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله خيلاً فأتوه باثني عشر فارساً من الكفار ، فقال لهم نبي الله : هل لكم علي عهد هل لكم علي ذمة ، قالوا : لا . فأرسلهم » . « تفسير الطبري : 26 / 122 » .
ثم أسر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مجموعة جاؤوا ليلاً للغارة على معسكره ، ولم يطلقهم .
ثم أسر أربعين أو خمسين فارساً ، وروي سبعين أو ثمانين . « الدرر لابن عبد البر / 194 » .
ثم رد هجوم خيلهم بقيادة عكرمة مرات ، حتى أوصلهم إلى حيطان مكة . وكان الذي يقوم بالعمليات علي ( عليه السلام ) ، وجاءت نظيفة بدون سفك دم في الحرم ! لكنهم نسبوها إلى أحبائهم ، وفيهم من قادة المشركين !
وقد أنتجت هذه العمليات والبيعة التي أخذها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنهم رأوا أن ميزان القوة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقبلوا بالمعاهدة ، خاصة بند حرية المسلمين في مكة !
قال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 166 : « صده المشركون عن مكة صداً شكساً شرساً لئيماً ، فما استخفه بذلك غضب ولا روع حلمه رائع ، كان يأخذ الأمور مع أولئك الجفاة بالملاينة والإغماض ، وله في شأنهم كلمات متواضعة ، على أن فيها من الرفعة والعلاء ما يريهم إياه فوق الثرى ويريهم أنفسهم تحت الثرى ! وفيها من النصح لهم والإشفاق عليهم ما لم يكن فيه ريب لأحد منهم ، ومن الحكمة الإلهية ما يأخذ بمجامع قلوبهم على قسوتها وغلظتها ، ومن الوعيد والتهديد باستئصال جذرتهم وبذرتهم ، ما يقطع نياط قلوبهم » .
--------------------------- 244 ---------------------------

3 . أخفى رواة السلطة مناقب علي ( عليه السلام ) في الحديبية

لكن أفلتت منهم أحاديث :
الأول : رواه الحافظ في ثلاثة مواضع من تاريخه « 2 / 377 ، و : 3 / 181 ، و : 4 / 441 » عن جابرقال : « سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو آخذ بضبع عليٍّ يوم الحديبية وهو يقول : هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله . مد بها صوته » . فما هي المناسبة لهذه الإشادة من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليأخذ بعضد علي ( عليه السلام ) ، ويمد صوته في مدحه ؟ وهل كان إلا بعد تحقيقه انتصاراً بأسرمجموعة من المشركين ، أو رد هجوم فرسانهم وفرارهم أمامه مسافة طويلة ، حتى أدخلهم حيطان مكة ؟ أو بعد تفاقم حسد الحاسدين وكلامهم على علي ( عليه السلام ) ؟
وقد تضمنت بعض روايات الحافظ قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد البيت فليأت الباب » ! وتاريخ دمشق : 42 / 226 ، و 282 ، وفتح الملك العلي / 57 ، والحاكم : 3 / 129 ، لكن الأخير لم يذكر أن مناسبته في الحديبية .
وقال الخطيب التبريزي في الإكمال / 111 : « هذا حديث حسن صحيح فقد حسنه ابن حجر ، والعلائي ، وجماعة ، وصححه ابن معين ، وابن جرير ، والحاكم ، والسيوطي ، والعلامة الهندي ، وجماعة من السلف . وله شاهد من حديث ابن عباس عنه الطبري ، والطبراني ، والحاكم ، والخطيب ، ومن حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، عنه الترمذي ، وابن جرير ، وقد تكلم فيه جماعة من المتعنتين والمتعصبين في الجرح ، فلا يلتفت إليهم » ! ومن مصادرنا : الطوسي في الأمالي / 483 والطبري الشيعي في المسترشد / 622 ، عن محمد بن المنكدر ، وفيه أنه يوم الحديبية .
والحديث الثاني : في المناقب ( 2 / 244 ) عن الترمذي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال يوم الحديبية لسهيل بن عمرو وقد سأله رد جماعة : « يا معشر قريش لتنتهوا ، أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم على الدين ، امتحن الله قلبه بالإيمان ! قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها » .
وقد أوردنا مصادره في آيات الغدير / 144 ، وأثبتنا أنه صدر أيضاً عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في
--------------------------- 245 ---------------------------
المدينة بعد فتح مكة ، وأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبرهم بأنهم لن ينتهوا عن معاداة الإسلام حتى يقاتلهم علي ( عليه السلام ) ! وقد طمع سهيل بن عمرولما قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شرطهم في الحديبية بإرجاع من يأتيه منهم !
والحديث الثالث رواه الجميع : لما رفض سهيل أن يكتبوا كلمة « رسول الله » . ففي إعلام الورى : 1 / 371 : « فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو : هذا كتاب بيننا وبينك يا محمد ، فافتتحه بما نعرفه واكتب باسمك اللهم .
فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أكتب باسمك اللهم ، وامح ما كتبت . فقال ( عليه السلام ) : لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو . فقال سهيل : لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوة ، فامح هذا الاسم واكتب : محمد بن عبد الله .
فقال له علي ( عليه السلام ) : إنه والله لرسول الله على رغم أنفك . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمحها يا علي . فقال له : يا رسول الله إن يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوة ! قال : فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده ، وقال لعلي : ستدعى إلى مثلها فتجيب ، وأنت على مضض » .
وفي تفسير القمي ( 2 / 313 ) : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة ، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد !
فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : صدق الله وصدق رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك » !
وهذا الحديث دليل من عشرات الأدلة ، على خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالنص .
والحديث الرابع : روته مصادرنا ، قال العلامة في كشف اليقين / 136 : « وله في هذه
--------------------------- 246 ---------------------------
الغزاة فضيلتان ، إحداهما : إنه لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزاة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك بالروايا فغاب قريباً وعاد وقال : لم أقدر على المضي خوفاً من القوم ! فبعث آخر ففعل كذلك . فبعث علياً ( عليه السلام ) بالروايا فورد واستسقى ، وجاء بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعا له بخير .
والثانية ، وذكر حديث تهديد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقريش بعلي ( عليه السلام ) وفيه : « وأومأ إلى علي فإنه يقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونبذت وحرف كتاب الله ، وتكلم في الدين من ليس له ذلك ، فيقاتلهم على إحياء دين الله » . ونحوه الإرشاد : 1 / 121 .

4 . حاول النواصب أن يبرروا معصية عمر

حاول النواصب أن يجعلوا قول علي ( عليه السلام ) في الحديبية : يا رسول الله إن يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوة ! قال : فضع يدي عليها ، فمحاها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده وقال : إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة ، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها ، وأنت مضيض مضطهد ) . ( تفسير القمي ( 2 / 313 )
فقالوا إن علياً عصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهي كمعصية عمر ومنعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب الكتاب في مرض وفاته ، عندما قال : ( هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ، قال عمر إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب الله . واختلف أهل‌البيت واختصموا ، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال : قوموا عني . قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ) . ( البخاري : 8 / 161 ) .
قالوا إن معصية عمر كمعصية علي ( عليه السلام ) : واحدةٌ بواحدة ! وهي مغالطة واضحة لأنها هنا أدب ، وهناك مواجهة كاملة ! وقد فصلناها في أحداث مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومنعهم كتابة عهده وانقلابهم عليه !
--------------------------- 247 ---------------------------

5 . مكانة الصحابة في سورة الفتح وبيعة الرضوان

رفعت السلطة القرشية آية : لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . وجعلتها شعاراً لمدح الصحابة مقابل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) ،
ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لأهل الحديبية : أنتم خير أهل الأرض . قال في فتح الباري : 7 / 341 : « هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة . وعند مسلم من حديث جابر مرفوعاً : لا يدخل النار من شهد بدراً والحديبية . وروى مسلم أيضاً من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة » .
أقول : وهذا قولٌ لا يصح ، لأنهم بايعوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن لايفروا ، ثم نكثوا بيعتهم بعد شهر وفروا في خيبر ، ثم نكثوها بعد سنة في حنين وفروا .
ولا يصح ثانياً ، لأن من أهل بيعة الرضوان أبا الغادية قاتل عمار بن ياسر ( رحمه الله ) الذي شهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه من أهل النار . ومنهم عبد الرحمن بن عديس البلوي الذي قاد حصار عثمان وقتله ، وقالوا هم إنه من أهل النار !
ولا يصح لأن رئيس المنافقين المدنيين ابن سلول كان في الحديبية ، وبايع تحت الشجرة !
ولا يصح رابعاً ، لأن رضا الله عن المبايعين في الآية محدود بظرف ، ومشروط بالإيمان ، فمعنى : لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ : رضي عن المؤمنين منهم في ظرف البيعة ، ولو كان الرضا أوسع من ظرف البيعة لما استعمل « إذ » ولو شملهم جميعاً لقال : عنهم ، ولم يقل عن المؤمنين منهم !
ولا يصح خامساً ، لأنه بايعهم على أن لا ينازعوا الأمر أهله ، وقد نازعوهم واضطهدوهم وقتلوهم !
فقد انتقضت بيعتهم والرضا عنهم ، من وجوه عديدة !
فالمؤكد أن الرضا في الآية عن علي ( عليه السلام ) وعن الصحابة الذين لم يفروا في خيبر وحنين . وإن أبيت فهم رضا آني نقضه الصحابة الناكثون بشرط البيعة .
--------------------------- 248 ---------------------------

الفصل الثالث عشر: علي ( عليه السلام ) فاتح حصون خيبر

1 - خلاصة غزوة خيبر

خيبر الآن محافظة مركزها مدينة خيبر ، وتقع شمال شرق المدينة المنورة ، وتبعد عنها 179 كيلومتراً ، وتشمل 189 قرية ، ومساحتها 260 كيلو متراً .
وفي معجم البلدان ( 2 / 409 ) ملخصاً : « تشتمل هذه الولاية سبعة حصون ومزارع ونخل كثير ، وأسماء حصونها : حصن ناعم ، والقموص حصن أبي الحقيق ، وحصن الشق ، وحصن النطاة ، وحصن السلالم ، وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة . وأما لفظ خيبر فهو بلسان اليهود : الحصن ، وسميت خيابر » .
أقول : كلمة كيبوتس ، بمعنى مستوطنة أو قرية . وعندهم عيد الغفران باسم خيبر ، لأن الله انتقم منهم في خيبر بسبب معاصيهم ، ثم تاب عليهم بزعمهم .
وقد نزل اليهود لما هاجروا بعد المسيح ( عليه السلام ) إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود في مواضع منها تيماء ووادي القرى ، وخيبر ، وحول المدينة ، وكانت في أودية خيبرعيون ، فزرعوها ونجحت فيها زراعة النخيل ، واشتهرتمرها بعد هجر .
وكان يهود خيبر عند بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو عشرة آلاف نسمة ، ومقاتلوهم نحو ثلاثة آلاف ، وانضم إليهم عدد أجلاهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المدينة من بني قينقاع والنضير وقريظة ، وفيهم حاخامات وزعماء كبار رأَّسَهم أهل خيبرعليهم ، مثل حي بن أخطب الذي كان يتجول ويستنفر قريشاً والقبائل لحرب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ووعد قبائل نجد بموسم تمر خيبر !
--------------------------- 249 ---------------------------

2 - توجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى خيبر بعد عودته من الحديبية بعشرين يوماً

استعد اليهود للحرب فرمموا حصونهم ، واشتروا السلاح ، ووسعوا تحالفهم مع القبائل ، خاصة مع قبيلة غطفان وزعيمها عيينة بن حصن ، ويقال إنهم جندوا عشرة آلاف مقاتل ، وكانوا يستعرضونهم يومياً .
وقد توجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجيشه البالغ نحو ألف وخمس مئة ، في صفر من السنة السابعة للهجرة ، بعد الحديبية . وفي سيرة ابن هشام ( 3 / 791 ) : « خرج في بقية المحرم إلى خيبر . ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب ، وكانت بيضاء » .
ودخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خيبرعن طريق مرحب ، وأمر المسلمين أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم ، ودعا ربه عز وجل : « اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنَّا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها . أقدموا باسم الله » . « المناقب : 1 / 176 » .
وسمع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعض المزارعين يقولون : محمد والخميس ، وأدبروا هرباً ! فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورفع يديه : الله أكبر ، خربت خيبر ! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين . كما قالها عند محاصرة بني قريظة . « الإرشاد : 1 / 110 ، وتفسير القمي : 2 / 189 » .
وعسكر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قرب حصن ناعم ، وكان فيه قوات غطفان النجدية ، بزعامة رئيس فزارة عيينة بن حصن ، جاؤوا لنصرة اليهود قبل قدوم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثلاثة أيام ، وروي أنهم كانوا أربعة آلاف ، فأرسل سعد بن عبادة لينصح عيينة بالإنسحاب بقبيلته : « فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم : إني أريد أكلِّم عيينة بن حصن ، فأراد عيينة أن يُدخله الحصن فقال مرحب : لاتُدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها ، ولكن تخرج إليه .
فقال عيينة : لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً ، فأبى مرحب أن يدخله ، فخرج عيينة إلى باب الحصن ، فقال له سعد : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسلني إليك يقول : إن الله قد وعدني خيبر ، فارجعوا وكفوا ،
--------------------------- 250 ---------------------------
فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة . فقال عيينة : إنَّا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشئ وإنَّا لنعلم ما لك وما معك مما هاهنا طاقة ، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة ، ورجال عددهم كثير وسلاح ! إن أقمت هلكت ومن معك ، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح . ولا والله ما هؤلاء كقريش ، هؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم .
فقال سعد بن عبادة : أشهد ليحصرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك فلا نعطيك إلا السيف ! وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب ، كيف مُزقوا كل ممزق !
فنادى منادي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان ، فسمع جنود عيينة صائحاً يصيح لا يدرون من السماء أو الأرض : يا معشر غطفان أهلكم أهلكم ! الغوث الغوث ! فخرجت غطفان في الليل على الصعب والذلول ، وكان أمراً صنعه الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فلما أصبحوا أُخبر كِنانة بن أبي الحُقيق بانصرافهم ، فسقط في يديه » . « الصحيح من السيرة : 17 / 110 » .

3 - ضحك جبرئيل لعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال إني أحبه

3 - ضحك جبرئيل لعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال إني أحبه
رووا : « عن الضحاك الأنصاري قال : لما سار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى خيبر جعل علياً ( عليه السلام ) على مقدمته فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من دخل النخل فهو آمن ، فلما تكلم النبي نادى بها علي فنظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جبرائيل يضحك فقال : مايضحكك ؟ ! قال : إني أحبه ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : إن جبرائيل يقول إنه يحبك ! قال ( عليه السلام ) : بَلَغْتُ أن يحبني جبرائيل ؟ قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم ، ومن هو خير من جبرائيل الله عزَّ وجل » . « الطبراني الكبير : 8 / 301 ، ومجمع الزوائد : 9 / 126 ، وأسد الغابة : 3 / 34 » .

4 - فتح علي ( عليه السلام ) كل حصون خيبر

4 - فتح علي ( عليه السلام ) كل حصون خيبر
كانت خيبر ثلاث مناطق : النَّطَاهْ بفتح النون المشددة وسكون الهاء ، وفيها ثلاثة حصون : حصن ناعم ، وحصن الصعب ، وحصن قلة . وتتصل بها منطقة الشق وفيها
--------------------------- 251 ---------------------------
حصن أبيّ ، وحصن البرئ . وعلى بعد كيلو مترات منها تقع منطقة الكتيبة ، وفيها واد فيه أربعون ألف نخلة وعلى جبلها ثلاثة حصون : حصن القموص ، والسلالم ، والوطيح . وقد استغرق فتح خيبر كلها وترتيب أمرها نحو شهرين . وبدأ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحصن ناعم في النطاة ، ففتحه بعد بضعة أيام . ثم حاصر حصن الصعب أياماً ، ثم فتح بقية حصون النطاة في مدة قليلة .
ثم ترك علياً ( عليه السلام ) في منطقة النطاة والشق يرتب أمرها ، واتجه إلى الكتيبة فحاصر حصنها الأكبر « القموص » وطالت محاصرته له بضعة وعشرين يوماً ! وكان يرسل جيشه كل يوم بقيادة صحابي ، فيصلون إلى خندق الحصن فيرميهم اليهود من أبراجه بالسهام والأحجار ، فيرجعون هاربين !
وكان مرحب وفرسانه يخرجون من الحصن ويطلبون من المسلمين أن يعبروا إليهم فلا يجرؤون وينهزمون ، ولما رأي المسلمون عجزهم طلبوا من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحُضر علياً ( عليه السلام ) !

5 - دحا علي ( عليه السلام ) باب حصن ناعم

اتفقت المصادر على أن علياً ( عليه السلام ) فتح حصون خيبركلها . ( السيرة الحلبية : 2 / 737 ) . وقال في عون المعبود بشرح سنن أبي داود ( 8 / 172 ) : « وقصة فتح هذه الحصون : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألبس علياً رضي الله عنه درعه الحديد وأعطاه الراية ، ووجهه إلى الحصن ، فلما انتهى علي إلى باب الحصن ، اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض ! ففتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم ، وهو أول حصن فتح من حصون النطاة على يده ) .
ولم تذكر الرواية حجم الباب ، ولا بد أنه كان أصغر من باب حصن القموص ، وقد قتل في هذا الحصن ياسر أخ مرحب .
وقال اليعقوبي ( 2 / 56 ) : « فقتل مرحباً اليهودي واقتلع باب الحصن ، وكان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع ، فرمى به علي بن أبي طالب
--------------------------- 252 ---------------------------
خلفه ، ودخل الحصن ودخله المسلمون » . ولعل أصل عبارة اليعقوبي أخا مرحب .
وقد تفرد اليعقوبي في أن باب خيبر كان من حجر ، فالمعروف أن باب حصن القموص من حديد ، ولعل باب حصن ناعم كان من حجر ، فقد دحاه علي ( عليه السلام ) أيضاً كما نص عليه في عون المعبود !
ولجأ اليهود بعد فتح حصن ناعم إلى حصن الصعب من حصون النطاة ، ففتح الله هذا الحصن على يد علي ( عليه السلام ) أيضاً قبل أن تغيب الشمس من ذلك اليوم ، فلجأ أهله إلى حصن قلة ، وهو حصن بقُلة جبل ، ويعبر عن هذا بقلعة الزبير ، وهو الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك ، وهو آخر حصون النطاة .
فحصون النطاة ثلاثة ، حصن ناعم ، وحصن الصعب ، وحصن قُلة ، وقد فتحها المسلمون ثم صاروا إلى حصار حصون الشق ، فكان أول حصن بدؤوا به حصن أبيّ ، فقاتلوا أهله قتالاً شديداً وهرب من كان فيه ، ولحقوا بحصن يقال له حصن البرئ ، وهو الحصن الثاني من حصني الشق .
ثم انهزم اليهود إلى حصون الكتيبة ، وهي ثلاثة حصون : القموص والوطيح وسلالم ،
وكان أعظمها القموص ، فحاصره المسلمون ، فلم يخرج منه أحد .
وكان اليهود يخططون لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال الواقدي : 2 / 670 : « إن كنانة ابن أبي الحقيق كان رامياً يرمي بثلاثة أسهم في ثلاث مائة ذراع ، فيُدخلها في هدف شبراً في شبر ! فما هو إلا أن قيل له : هذا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أقبل من الشق في أصحابه ، وقد تهيأ أهل القموص وقاموا على باب الحصن بالنبل . فنهض كنانة إلى قوسه فلم يستطع أن يوترها لشدة الرعدة التي انتابته » !
وكان بعض فرسان اليهود يخرجون من حصونهم ويقاتلون المسلمين أمام مداخلها ، فكان على المسلمين أن يغلبوهم ، ثم يدخلوا الحصن قبل أن يسدوا بابه .
وكان مرحب بطل حصن ناعم ، ثم جاء إلى القموص وهو أهم حصونهم .
وروى ابن إسحاق عن معتب الأسلمي قال : أصابتنا معشر أسلم مجاعة حين قدمنا
--------------------------- 253 ---------------------------
خيبر ، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام ، فأجمعت أسلم أن أرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا : إئت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقل له : إن أسلم يقرؤونك السلام ويقولون : إنَّا قد جَهِدنا من الجوع والضعف ، ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه ، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه ، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم وجعلنا ندعهم يهربون . وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً ، ووجدوا فيه من البز والآنية ، ووجدوا خوابي السّكَر فأمروا فكسروها ، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن ، وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً ، وأخرجنا منه آلة كثيرة للحرب ، ومنجنيقاً ودبابات وعُدَّة ، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً ، فعجل الله خزيهم .
وفي سبل الهدى ( 5 / 125 ) : « قتل علي رضي الله عنه الحارث وأخاه مرحباً وعامراً وياسراً ، فرسان يهود وسبعانها . روى محمد بن عمر عن جابر قال : أول من خرج من حصون خيبر مبارزاً الحارث أخو مرحب في عاديته فقتله علي ، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن ، وبرز عامر وكان رجلاً جسيماً طويلاً ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين برز وطلع عامر : أترونه خمسة أذرع ، وهو يدعو إلى البراز ؟ فخرج إليه علي بن أبي طالب فضرب ساقيه فبرك ، ثم ذفف عليه
وأخذ سلاحه » .
أقول : كان قتلهم في حصن ناعم ، وليس في القموص كما قيل ، وكان مرحب معهم ، لكنه لم يبرز إلا في حصن القموص . « معجم البكري : 2 / 523 » .

6 - طالت محاصرة حصن القموص وظهر عجز المسلمين !

يبعد حصن القموص عن حصون النطاة بضعة كيلو مترات ، ويقع في الجهة المقابلة للمسجد الفعلي الذي كان مركز قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد رأيته في سنة 1973 ميلادية ، والى يسارك في أعلى الجبل حصن السلالم وحصن الوطيح ، ويفصل هذه الحصون عن مركز قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تلالٌ ووادٍ صغير عند الحصن
--------------------------- 254 ---------------------------
فيه عين ماء جارية ، وفيها محراب ، فسألت البدو عنه فقالوا هذه عين سيدنا علي ، وهذا مسجد سيدنا علي . وبعد الوادي تصل إلى الجبل الذي عليه الحصون ، وقد نظرنا من أعلي الحصن إلى الغرب ، فرأينا وادياً عميقاً هو وادي الكتيبة المشهور بالنخيل .
ولما فتح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حصون النطاة والشق انهزم اليهود إلى حصون الكتيبة :
« وكان أعظم حصون خيبر : القموص » . « عون المعبود : 8 / 172 » .
« فتحصنوا معهم في القموص أشد التحصين مغلقين عليهم لايبرزون ، حتى همَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يرميهم بالمنجنيق » . « الواقدي : 2 / 670 » .
وحاصرهم بضعاً وعشرين يوماً « تاريخ خليفة / 49 » وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يصلي بالمسلمين كل يوم صلاة الفجر ، ثم يصطفُّون ثم يذهبون لمهاجمة الحصن ، فيقطعون التلال حتى يصلوا إلى قرب الخندق في مواجهة الحصن ، فكان اليهود يرمونهم من أبراج الحصن وسطوحه بالسهام والأحجار ، فلا يستطيعون أن يتقدموا ، فيرجعون خائبين !
ومع الأيام ضعفت معنويات المسلمين وقويت معنويات اليهود ، فصار فرسانهم يخرجون من الحصن ويتحدَّوْن المسلمين أن يعبروا إليهم فلا يعبرون !
وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبقى علياً ( عليه السلام ) في المنطقة التي فتحها : النطاة والشق ، وكان يعطي الراية لوجهاء أصحابه ، فيوماً لسعد بن عبادة ، ويوماً للزبير ، ويوماً لطلحة ، ويوماً لسعد بن أبي وقاص ، ويوماً لأبي‌بكر ، ويوماً لعمر بن الخطاب . وقد أخذ بعضهم الراية أكثر من يوم كما روي في عمر ، وكان الجميع يرجعون منهزمين ! لم يجرؤوا على العبور إلى مرحب لمبارزته !
وقد ورد أن سعد بن عبادة رجع مجروحاً « الواقدي : 2 / 653 » وفي رواية رجع محمولاً « الإحتجاج : 1 / 406 » وروي أن عمر رجع مجروحاً في رجله وهو يجبن المسلمين وهم يجبنونه ! » رسائل المرتضى : 4 / 103 » .
وفي رواية مجمع الزوائد ( 6 / 151 ) أن هزيمة عمر كانت سريعة لما أصابه حجر في رجله قال : « بعث عمر ومعه الناس ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه » !
--------------------------- 255 ---------------------------

7 - دَخَّنَ اليهود على علي ( عليه السلام ) فمَرِضَ بالرَّمَد

طلب المسلمون من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحضرعلياً ( عليه السلام ) ، لأنهم عجزوا عن فتح حصن القموص ، فأرسل سلمان وأبا ذر كما قال المرتضى ، والأكوع بن سلمة كما روت السلطة ، فجاؤوا به راكباً على بعير له ، وكان معصوب العينين بشق برد قِطْري ، ولما سأله عن حاله قال له : « رمدتُ بعدك » أي بعد فراقي لك !
كما ذكرت الرواية أن سبب وجع عينيه دخان أصابه في حصن هناك ، ففي مجمع الزوائد ( 9 / 123 ) : « قلت لعبد الله بن عمر حدثني عن علي ؟ قال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فكأني أنظر إليها مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يحتضنها وكان علي بن أبي طالب أرمد من دخان الحصن فدفعها إليه ، فلا والله ما تتامت الخيل حتى فتحها الله عليه » ! وقد أراد اليهود أن يعموه أو يقتلوه بذلك الدخان فشفاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بريقه ! فقال ( عليه السلام ) كما في دلائل النبوة ( 4 / 213 ) : ( لا رمدت ولا صدعت مذ دفع إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الراية يوم خيبر ) .

8 - ومرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بصداع الشقيقة !

ولعل الحكمة في عدم ذهاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحملات على القموص أن يعرف الصحابة أنهم بدونه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبدون علي ( عليه السلام ) لايحققون نصراً ، فعليهم أن يعرفوا حدودهم ! ولعله أبقى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في المنطقة المفتوحة البعيدة نسبياً عن حصن القموص ، ليفهمهم ذلك ، وهي حكمة تشير إلى مستقبل الأمة ، وأن اليهود لا يكسر غطرستهم إلا علي وشيعة علي ( عليه السلام ) .
وقال الطبري عن صداع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « 2 / 300 » : « كان رسول الله ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج ، فلما نزل رسول الله خيبر أخذته الشقيقة ، فلم يخرج إلى الناس ، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع ، فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول
--------------------------- 256 ---------------------------
ثم رجع ، فأخبر بذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة . قال وليس ثَمَّ علي ، فتطاولت لها قريش ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك ، فأصبح فجاء علي على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أرمد ، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مالك ؟ قال : رمدت بعدك ! فقال رسول الله : أدن مني » .
ويدل ذلك على أن عمر قاد الحملة يومين ، ومقصودهم من قتاله في المرة الثانية أشد من الأولى أنه لم ينهزم بسرعة من سهام اليهود ، بل تأخر قليلاً حتى انهزم !

9 - غَضِبَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من فرار الصحابة وبشرهم بالفتح غداً !

غضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما رأى هزيمتهم اليومية ، أمام غطرسة مرحب وفرسانه ، وأن أحداً من المسلمين لم يجرؤ على اقتحام الخندق فضلاً عن الحصن فأحضر علياً ( عليه السلام ) وقال له : « يا علي إكفني مرحباً » . « أمالي الطوسي / 4 ، والخرائج : 1 / 217 » .
وفي رسائل المرتضى ( 4 / 103 ) : « روى أبو سعيد الخدري ( رحمه الله ) أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل عمر إلى خيبر فانهزم هو ومن معه ، حتى جاء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجبن أصحابه ويجبنونه ، فبلغ ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل مبلغ ، فبات ليلته مهموماً فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال : لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار ! فتعرض لها المهاجرون والأنصار ، ثم قال : أين علي ؟ فقالوا : يا رسول الله هو أرمد ، فبعث إليه سلمان وأبا ذر ، فجاءا به وهو يقاد لا يقدر على فتح عينيه فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اللهم أذهب عنه الرمد والحر والبرد وانصره على عدوه ، فإنه عبدك يحبك ويحب رسولك ، ثم دفع إليه الراية فقال حسان : يا رسول الله أتأذن لي أن أقول فيه شعراً ؟ فأذن له فقال :
وكان علي أرمدَ العين يبتغي * دواءً فلما لم يحسَّ مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلةٍ * فبورك مرقياً وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم ماضياً * كَمِيّاً محباً للرسول مواليا
--------------------------- 257 ---------------------------
يحب إلهي والرسول يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البرية كلها * علياً وسماه الوزير المؤاخيا
وفي سيرة ابن هشام ( 3 / 797 ) : « بعث أبا بكر الصديق برايته وكانت بيضاء فيما قال ابن هشام إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل فرجع ولم يك فتح ، وقد جَهِد !
ثم بعث في الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل ثم رجع ولم يك فتح ، وقد جَهِد !
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرار ! قال : يقول سلمة : فدعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً رضوان الله عليه وهو أرمد فتفل في عينه ، ثم قال : خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك . قال : يقول سلمة : فخرج والله بها يأنح ، يهرول هرولة ، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : يقول اليهودي : علوتم وما أنزل على موسى ! أو كما قال . قال : فما رجع حتى فتح الله على يديه » .

10 - قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأصحابه الفارين : أميطوا عني !

لما وعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالفتح تطاولت أعناق الصحابة لأخذ الراية ، لاعتقادهم بأن الذي يعطيه الراية سيفتح حصن القموص المستعصي ! فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فقد روى أحمد « الزوائد : 6 / 151 ، و : 9 / 124 ، ووثقه » : « عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله أخذ الراية فهزها ثم قال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال : أمِطْ « إذهب عني ! » ثم جاء رجل آخر فقال : أمط ! ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلاً لا يفر ، هاك يا علي ! فانطلق حتى فتح الله عليه » وشرح الأخبار : 1 / 321 والعمدة / 139 ، وأبو يعلى : 2 / 499 ، وأحمد : 3 / 16 ، وتاريخ دمشق : 1 / 194 ،
ونهاية ابن الأثير : 4 / 381 .
وفي تاريخ دمشق « 42 / 104 » وغيره : « قال من يأخذها بحقها ؟ فجاء الزبير فقال : أنا . فقال : أمط ! ثم قام آخر . . . » . وهو يدل على فراره أيضاً .
وفي الروضة لشاذان بن جبرئيل / 139 : « انهزم جيش أبي‌بكر وعمر ، فغضب
--------------------------- 258 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : ما بال أقوام يلقون المشركين ثم يفرون ! لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ويحب رسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، يفتح الله على يديه بالنصر ، فلما كان من الغد قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أين ابن عمي علي ؟ فجاءه وهو أرمد » .

11 - أعطى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الراية لعلي ( عليه السلام ) ودعا له

في إعلام الورى : 1 / 207 : « فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أما علي فقد كفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه . . قال سعد : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ، ثم قمت على رجلي قائماً ، رجاء أن يدعوني ، فقال : أدعو لي علياً ، فصاح الناس من كل جانب : إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه ! فقال : أرسلوا إليه وادعوه ، فأتيَ به يقاد فوضع رأسه على فخذه ، ثم تفل في عينيه ، فقام وكأن عينيه جزعتان « عقيقتان » ثم أعطاه الراية ودعا له ، فخرج يهرول هرولة ، فوالله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن .
قال جابر : فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا ، وصاح سعد : يا أبا الحسن إربع يلحق بك الناس ، فأقبل حتى ركزها قريباً من الحصن فخرج إليه مرحب في عادية اليهود » .
وفي الكافي : 5 / 47 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « شعارنا : يا محمد يا محمد وشعارنا يوم بدر : يانصر الله اقترب اقترب . . ويوم خيبر يوم القموص : يا عليُّ آتهم من عل » .
وفي الخصال / 554 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احتجَّ على أهل الشورى بوصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وبجهاده بين يديه ، ومما قال لهم : « استخلف الناس أبا بكر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه ، واستخلف أبو بكر عمر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه إلا أن عمر جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم ، لا يعرف لهم عليَّ فضل !
نشدتكم بالله أيها النفر هل فيكم أحد وحَّدَ الله قبلي ؟ قالوا : اللهم لا . . . قال : نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين رجع عمر يجبن أصحابه ويجبنونه قد رد راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهزماً ، فقال له رسول الله : لأعطين الراية غداً رجلاً ليس بفرار ، يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله عليه ، فلما أصبح قال : ادعوا لي علياً فقالوا : يا رسول الله هو رمدٌ ما يطرف ! فقال : جيئوني به ، فلما قمت بين يديه تفل في عيني وقال : اللهم أذهب عنه الحر والبرد ، فأذهب الله
--------------------------- 259 ---------------------------
عني الحر والبرد إلى ساعتي هذه ، وأخذت الراية فهزم الله المشركين وأظفرني بهم ، غيري ؟ قالوا : اللهم لا » .
وفي شرح الأخبار ( 1 / 302 ) : « فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم . ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله . فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) .
وعن حذيفة : لما تهيأ علي ( عليه السلام ) للحملة قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبريل ( عليه السلام ) عن يمينك ، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي : إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم » !
وفي رواية : أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألبسه درعه الحديد وشد ذا الفقار في وسطه ، وأعطاه الراية ووجهه إلى الحصن ، فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ الخ . . فخرج علي بها وهو يهرول .
وفي رواية : أركبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم خيبر وعممه بيده وألبسه ثيابه ، وأركبه بغلته ثم قال له : إمض يا علي وجبرئيل عن يمينك ، وميكائيل عن يسارك ، وعزرائيل أمامك ، وإسرافيل وراءك ، ونصر الله فوقك ، ودعائي خلفك » !
وفي صحيح مسلم ( 7 / 121 : « قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ! قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها ! قال : فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها ، فقال : إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ! قال : فسار عليٌّ شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ ، قال : يا رسول الله على ماذا أقاتل ؟ قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » .
--------------------------- 260 ---------------------------

12 - وصل علي ( عليه السلام ) إلى الحصن قبل الجيش !

في مناقب آل أبي طالب : 2 / 320 : « الواقدي : فوالله ما بلغ عسكر النبي أُخَيْرَاه حتى دخل عليٌّ حصون اليهود كلهاوهي قموص وناعم وسلالم ووطيح وحصن المصعب بن معاد ، وغنم . وكانت الغنيمة نصفها لعلي ونصفها لسائر الصحابة .
شعبة وقتادة والحسن وابن عباس : أنه نزل جبرئيل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك : إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره ، وعزتي وجلالي ما رمى علي حجراً إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً ، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر ، سهماً له ، وسهم جبرئيل معه » .
أقول : هذا يدل على أن نصرة الملائكة تكون جزاءً للمؤمنين على بذل جهدهم بإخلاص ، فهي كفائض القيمة يستحق امتيازها صاحب الجهد الذي سبب نزولهم . ولذا كان سهم جبرئيل ( عليه السلام ) لمن سبب نزوله وهو علي ( عليه السلام ) .
كما أن إعطاء علي ( عليه السلام ) نصف الغنيمة يدل على أن جهده القتالي يوازي جهد البقية كلهم ! ثم قال في المناقب قال ابن حماد :
وفي خيبر في يوم لاقاه مرحبٌ * وقد فر منه معشر فتصدعوا
فقال رسول الله أحبو برايتي * فتى غير فرار ولا يتزعزع
تقياً يحب الله والله ربه * أشد له حباً وبالشكر يوزع
وكان علي أرمداً فدعا له * فأذهب عنه الحر والبرد أجمع
فناداه بالسيف الحسام ولم يزل * يقاتل أهل الشرك قدماً ويقلع
وآب بنصر الله والفتح غانماً * وقد حاز ما قد كان في الحصن يجمع

13 - كان اليهود يعرفون أن نهايتهم على يد حيدرة

روى في الإحتجاج : 1 / 307 ، أن راهباً جاء إلى المدينة إلى أبي‌بكر ، فدخل علي ( عليه السلام ) فقال له أبو بكر : « أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك ، فأقبل الراهب بوجهه إلى علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا فتى ما اسمك ؟ قال : اسمي عند اليهود إليا ، وعند النصارى إيليا ،
--------------------------- 261 ---------------------------
وعند والديَّ علي ، وعند أمي حيدرة ، قال : ما محلك من نبيكم ؟ قال : أخي وصهري وابن عمي لِحّاً . قال : الراهب : أنت صاحبي ورب عيسى » .
وفي مدينة المعاجز : 1 / 173 : « إن اليهود من خيبر يجدون في كتابهم أن الذي يدمرهم إليا »
وروى في الإرشاد : 1 / 126 ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعطى الراية لعلي ( عليه السلام ) وقال له : « خذ الراية وامض بها ، فجبرئيل معك ، والنصر أمامك ، والرعب مبثوث في صدور القوم ، واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم أن الذي يدمر عليهم اسمه إيليا . فإذا لقيتهم فقل أنا علي ، فإنهم يخذلون إن شاء الله » .

14 - عَبَر علي ( عليه السلام ) الخندق وقصد مرحباً وفرسانه !

في الخرائج ( 1 / 217 ) : « روى مكحول أن مرحباً اليهودي قدمته اليهود لشجاعته ويساره ، وكان طويل القامة عظيم الهامة ، وما وافقه قرن لعظم خلقه ! وكانت له ظئر « مرضعة » قرأت الكتب وكانت تقول له : قاتل كل من قاتلك إلا من يسمى بحيدرة ، فإنك إن وقفت له هلكت ! فلما كثرت مناوشته « غطرسته » وبَعُلَ الناس بمكانه » تحيروا فيه « شكوا إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسألوه أن يخرج إليه علياً ( عليه السلام ) وكان أرمد ، فتفل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عينه فصحَّت ، ثم قال له : يا علي إكفني مرحباً ! فخرج إليه فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به فتحير ، ثم قال : أنا الذي سمتني أمي مرحبا . فقال علي : أنا الذي سمتني أمي حيدرة . فلما سمعها هرب ولم يقف مما حذرته ظئره ، فتمثل له إبليس وقال : إلى أين ؟ قال : حذرت ممن اسمه حيدرة . قال : أولم يكن حيدرة إلا هذا ؟ حيدرة في الدنيا كثير ، فارجع فلعلك تقتله ، فإن قتلته سدت قومك وأنا في ظهرك . فما كان إلا كفواق ناقة حتى قتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » ! وفي مسند أحمد : 4 / 52 : « فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال :
قد علمت خيبر أني مرحبُ * شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهَّب
--------------------------- 262 ---------------------------
فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره
أوفيهمُ بالصاع كَيْلَ السنَّدرة
ففلق رأس مرحب بالسيف ، وكان الفتح على يديه » .
« فضربه علي على هامته حتى عض السيف منها بأضراسه ! وسمع أهل العسكر صوت ضربته ! فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم » « الطبري : 2 / 300 » .
وعن أم‌سلمة : « سمعتُ وقْع السيف في أسنان مرحب » ! « الزوائد : 6 / 152 ، ووثقه » . وفي رواية : شق رأسه وجسده نصفين حتى بلغ السرج ! « معارج النبوة / 323 » .
والمسافة من الحصن إلي مكان أم سلمة نحو ألفي متر ، ويظهر أن الإمام ( عليه السلام ) ، اختار أن يضربه علي الثقب الذي في أعلي خوذته لأنها كانت من المرمر ! وكان مرحب أطول منه ، فلابد أن جبرئيل رفعه حتى ضربه علي قمة رأسه !

15 - قتل مرحباً خارج الحصن ثم دحا بابه ودخله !

كانت حملات المسلمين على حصن القموص تتوقف عند الخندق قبل الحصن ولا تتجاوزه ! ولذلك كان مرحب يخرج من الحصن هو وعاديته أي نخبة فرسانه ، ويتبختر أمام المسلمين ويتحداهم أن يعبروا فلا يجرؤ منهم أحد على العبور !
إلى أن كان يومٌ رأى مرحب وفرسانه شخصاً وصل بمفرده قبل جيش المسلمين وعبر الخندق ، ووقف في مواجهتهم ، فكان ذلك علياً ( عليه السلام ) !
وأجاب علي ( عليه السلام ) على شعر مرحب ثم كلمه ودعاه إلى الإسلام ، فاستشاط غضباً وحمل عليه وضربه ، فتلقى علي ( عليه السلام ) الضربة ، ووجه اليه ضربته التاريخية فقدَّت خوذته الصخرية ، ومغفره ، ورأسه ، حتى وصلت إلى فرسه !
وقال في تاريخ الخميس ( 2 / 51 ) : « قتل علي يومئذٍ ثمانية من رؤسائهم ، وفر الباقون إلى الحصن » . ولم أجد أسماء من قتلهم قبل دخول الحصن مع مرحب ، وقد اندهشوا بمصرع مرحب ففروا إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه فلحقهم علي ( عليه السلام ) ولا بد أن سهام
--------------------------- 263 ---------------------------
اليهود وأحجارهم انهالت عليه من أبراج الحصن وسطوحه ، وكان يردها بترسه حتى تكسر ، فوجد باب حديد صغير ملقى فاتخذه ترساً !
في ذلك الوقت تمكن بعض المسلمين من عبور الخندق ، ووصل إلى علي ( عليه السلام ) لكن الأكثر كانوا وراء الخندق يحاولون العبور ، فأخذ علي ( عليه السلام ) باب الحصن وجعله لهم جسراً حتى عبروا ، ودخل أمامهم !
وقد عدَّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جهاده في خيبرأحد الإمتحانات السبع التي امتحنها الله بها في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال في جواب رئيس أحبار اليهود ، كما في الخصال / 369 : « وأما السادسة يا أخا اليهود ، فإنا وردنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه ! حتى إذا احمرت الحدق ، ودعيت إلى النزال ، وأهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن إنهض ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا ثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي ، حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهرفيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها ، حتى افتتحتها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين » !
أقول : هذا يدل على أن رجالاً من فرسان قريش كانوا في خيبر لنصرة اليهود ، فلا بد أن تكون قريش بعثت بهم سراً ، أو يكونوا أفراداً لهم علاقات مع اليهود .
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 127 : « ولما قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مرحباً رجع من كان معه وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه ، فصار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إليه فعالجه حتى فتحه ، وأكثر الناس من جانب الخندق لم يعبروا معه ، فأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب
--------------------------- 264 ---------------------------
الحصن فجعله على الخندق جسراً لهم حتى عبروا ، وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم ، فلما انصرفوا من الحصن أخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيمناه ، فدحا به أذرعاً من الأرض ، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً منهم » ! وأضاف العلامة في كشف اليقين / 141 : « قال ( عليه السلام ) : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ، ولكن بقوة ربانية » .
وفي إعلام الورى : 1 / 207 : « قال الباقر ( عليه السلام ) : انتهى إلى باب الحصن وقد أغلق في وجهه ، فاجتذبه اجتذاباً وتترس به ثم حمله على ظهره . واقتحم الحصن اقتحاماً . واقتحم المسلمون والباب على ظهره ، قال : فوالله ما لقي علي ( عليه السلام ) من الناس تحت الباب أشد مما لقي من الباب ، ثم رمى بالباب رمياً » .
أقول : أظن أن في هذا الحديث سقطاً ، فقد ذكرت النصوص أنه ( عليه السلام ) دحا الباب ودخل ، وكان فقد ترسه فوجد باب حديد ملقى فأخذه ترساً ، وقتل من برز له ، ثم حمل الباب ونزل به إلى الخندق فجعله جسراً ، وعبر عليه المسلمون .
وفي المناقب ( 2 / 125 ) : « روى أحمد بن حنبل عن مشيخته عن جابرالأنصاري أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفع الراية إلى علي ( عليه السلام ) في يوم خيبر بعد أن دعا له فجعل يسرع السير وأصحابه يقولون له إرفق ، حتى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الأرض ثم اجتمع منا سبعون رجلاً ، وكان جهدهم أن أعادوا الباب . قال الحميري :
وألقى باب حصنهم بعيداً * ولم يكُ يستقلُّ بأربعينا
وفي مجمع الزوائد : 6 / 151 ، قال ( عليه السلام ) : « فانطلقت حتى أتيتهم ، فإذا فيهم مرحب يرتجز حتى التقينا ، فهزمه الله وانهزم أصحابه وتحصنوا ، وأغلقوا الباب فأتيت الباب ، فلم أزل أعالجه حتى فتحه الله » .
وقد روت عامة المصادر حديث عبد الله بن عمر ، كما في أمالي الصدوق / 604 ، وروضة الواعظين / 126 ، قال : « إن رسول الله دفع الراية يوم خيبر إلى رجل من أصحابه فرجع منهزماً ، فدفعها إلى آخر فرجع يجبن أصحابه ويجبنوه . . فلما أصبح قال : ادعوا لي علياً . . . قال : لما دنا من القموص ، أقبل أعداء الله من اليهود يرمونه بالنبل والحجارة ، فحمل عليهم علي ( عليه السلام ) حتى دنا من الباب فثنى رجله ، ثم نزل مغضباً إلى أصل عتبة
--------------------------- 265 ---------------------------
الباب فاقتلعه ، ثم رمى به خلف ظهره أربعين ذراعاً .
قال ابن عمر : وما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي علي ، ولكنا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً ، ولقد تكلف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه ، فأخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك فقال : والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً !
وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال في رسالته إلى سهل بن حنيف : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية ، ولا بحركة غذائية ، لكني أيدت بقوة ملكوتية ، ونفس بنور ربها مضية ، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء ! والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت ، ولو أمكنتني الفرصة من رقابها لما بغيت » .
وقال ابن حجر المتعصب ( الإصابة : 4 / 466 ) : « ومن خصائص علي قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم خيبر : لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، فلما أصبح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غدوا كلهم يرجو أن يعطاها . .
وروى في آخره قصة مرحب وقال : « فضربه على هامته ضربة حتى عض السيف منه بيضة رأسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته ، فما قام آخر الناس حتى فتح الله لهم . وفي المسند لعبد الله بن أحمد بن حنبل من حديث جابر : فاجتذب بابه فألقاه على الأرض ، ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً حتى أعادوه » .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 125 ) : ( قال ديك الجن :
سطا يوم بدر بأبطاله * وفي أحد لم يزل يحمل
ومن بأسه فتحت خيبر * ولم ينجها بابها المقفل
دحا أربعين ذراعاً به * هزبر به دانت الأشبل
تاريخ الطبري قال أبو رافع : سقط من شماله ترسه ، فقلع بعض أبوابه وتترس بها ، فلما فرغ عجز خلق كثير عن تحريكها !
روض الجنان قال بعض الصحابة : ما عجبنا يا رسول الله من قوته في حمله ورميه واتراسه وإنما عجبنا من إجساره وإحدى طرفيه على يده فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلاماً معناه يا هذا نظرت إلى يده فانظر إلى رجليه ، قال : فنظرت إلى رجليه فوجدتهما
--------------------------- 266 ---------------------------
معلقتين ! فقلت هذا أعجب رجلاه على الهواء ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ليستا على الهواء وإنهما على جناحي جبرئيل ، فأنشأ بعض الأنصار يقول :
إن امرءً حمل الرتاج بخيبر * يوم اليهود بقدرةٍ لمؤيدُ
حمل الرتاج رتاج باب قموصها * والمسلمون وأهل خيبر شهد
فرمى به ولقد تكلف رده * سبعون كلهم له متسدد
ردوه بعد تكلف ومشقة * ومقال بعضهم لبعض ازرد
وقال الحميري :
واذكر تحمله الديار ولا تكن * ليهود خيبر لا تكون نسيا
حمل الرتاج رتاج باب قموصها * فحسبته يمشي بها بختيا
ما رده سبعون حتى ألهثوا * سبعون موتنف الشباب قويا
وقال ابن رُزَيْك :
والباب لما دحاه وهو في سغب * من الصيام وما يخفى تعبده
وقلقل الحصن فارتاع اليهود له * وكان أكثرهم عمداً يفنده
نادى بأعلى العلى جبريل ممتدحاً * هذا الوصي وهذا الطهر أحمده
وهذا كله خرق العادة ، ولا يتيسر إلا لنبي أو وصي نبي ، وإذا لم يجز أن يكون نبياً ، لا بد أن يكون وصياً ) .
وفي كمال الدين / 542 : ( قال علي ( عليه السلام ) : جرحت في وقعة خيبر خمساً وعشرين جراحة ، فجئت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما رأى ما بي بكى ، وأخذ من دموع عينيه ، فجعلها
على الجراحات ، فاسترحت من ساعتي ) .

16 - الباب الذي تترس به ( عليه السلام ) غير الباب الذي قلعه

قال المقريزي في الإمتاع : 1 / 310 : « وزعم بعضهم أن حمل علي باب خيبر لا أصل له وإنما يروى عن رعاع الناس ، وليس كذلك ، فقد أخرجه ابن إسحاق في سيرته عن أبي رافع ، وأن سبعة لم يقلبوه ، وأخرجه الحاكم من طرق منها عن أبي علي الحافظ ، حدثنا الهيثم بن خلف الدوري عن جابرأن علياً حمل الباب يوم خيبر ، وأنه جُرَّب بعد ذلك
--------------------------- 267 ---------------------------
فلم يحمله أربعون رجلاً » .
وفي سيرة ابن هشام : 3 / 798 : « عن أبي رافع ، مولى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله برايته ، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطاح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه » ! « وتاريخ الطبري : 2 / 301 » . وفي أعيان الشيعة ( 1 / 405 ) : « وهذا الباب غير باب الحصن ، بل هو باب أصغر منه كان ملقى عند الحصن ، أخذه علي فتترس به » .

17 - وتلقاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبشره بنزول الوحي فيه !

في إعلام الورى ( 1 / 207 ) : « خرج البشير إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن علياً دخل الحصن ، فأقبل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج علي ( عليه السلام ) يتلقاه فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد بلغني نبأك المشكور وصنيعك المذكور ، قد رضي الله عنك ورضيت أنا عنك . فبكى علي ( عليه السلام ) فقال له : ما يبكيك يا علي ؟ فقال : فرحاً بأن الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عني راضيان » .
أقول : معناه أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء إلى حصن خيبر لأول مرة فخرج علي ( عليه السلام ) يتلقاه ! ولما أخبره برضا الله ورضاه عليه ، بكى ! فاعجب لهذه الرقة الإنسانية والعبودية المرهفة لله تعالى ، من شخص دوَّى صوت ضربته قبل ساعتين ، وقدَّ خوذة بطل اليهود وهامته نصفين ، ثم انقضَّ على الحصن كأنه كاسحة ألغام ، فقلع بابه ودحاه ، وطحن أبطال اليهود وأخضعهم ! وإذا به أمام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبكي بكاء الطفل ، فرحاً برضا الله تعالى ، ورضا رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليه !
وقد تكرر هذا المشهد منه ( عليه السلام ) لما نزل جبرئيل برضا الله تبارك وتعالى عليه ومديحه . ففي أحُد قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « المناقب : 1 / 385 » : أصابني ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح ، فأخذ بضبعي فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة
--------------------------- 268 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهما عنك راضيان ، فقال : يا علي أقر الله عينك ذاك جبرئيل » .
وعندما أرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى وادي الرمل « الإرشاد : 1 / 116 » وكانت بعض فاتكي العرب جاؤوا ليقتلوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدفعهم علي ( عليه السلام ) فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأصحابه : « هذا جبرئيل يخبرني أن علياً قادم ، ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا علياً وقام المسلمون له صفين مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما بصر بالنبي ترجل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبلهما ، فقال له : إركب فإن الله تعالى ورسوله عنك راضيان . فبكى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرحاً » .

18 - أوسمة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) في خيبر

أ . روى الجميع قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . وهو حديث متواتر ، وفي رواية : « ليس بفرار » . وفي رواية الحاكم : « لأبعثن رجلاً لا يخزيه الله أبداً » .
وفي رواية : « ويحبه الله ورسوله ، في ثناء كثير » .
وفي رواية سليم : « ليس بجبان ولا فرار » .
وفي رواية شرح الأخبار : « يفتح خيبر عنوة » .
وفي رواية الإرشاد : « أرونيه تروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يأخذها بحقها ، ليس بفرار » .
وفي رواية مجمع الزوائد : « يقاتلهم حتى يفتح الله له » .
وفي سنن النسائي : 5 / 112 : « يقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله » .
ب . تقدم عن حذيفة ( رحمه الله ) قوله : « لما تهيأ علي ( عليه السلام ) للحملة قال رسول الله : يا علي والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبريل عن يمينك ، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي ، إنك سيد العرب ، وأنا سيد ولد آدم » ! « السيرة الحلبية : 2 / 736 » .
أقول : تعمد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يعلن هذا الوسام لعلي ( عليه السلام ) في خيبرثم يؤكده ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفاطمة ( عليها السلام ) : « ثم إن الله تعالى اختارني من أهل بيتي ، واختار علياً والحسن
--------------------------- 269 ---------------------------
والحسين واختارك . فأنا سيد ولد آدم ، وعلي سيد العرب ، وأنت سيدة النساء ، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة . ومن ذريتكما المهدي يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت من قبله جوراً » . ( أمالي الطوسي / 608 ) .
ورواه الحاكم ( 3 / 124 ) عن عائشة قالت : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ادعوا لي سيد العرب ، فقلت : يا رسول الله ألست سيد العرب ؟ فقال : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب » . وابن أبي شيبة : 7 / 474 ، وبغية الباحث / 283 ، وأوسط الطبراني : 2 / 127 ، والرازي في تفسيره : 6 / 212 ، وتاريخ بغداد : 11 / 90 . وغيرها .
ج . في المناقب للخوارزمي / 129 ، قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند فتح خيبر : « لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالاً ، لا تمرُّ على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك ، وفضل طهورك ، يستشفون به ! ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ، ترثني وأرثك ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . أنت تؤدي ديني وتقاتل على سنتي ، وأنت في الآخرة أقرب الناس مني ، وأنت غداً على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين ، وأنت أول من يرد عليَّ الحوض ، وأنت أول داخل الجنة من أمتي ، وإن شيعتك على منابر من نور رواء مرويين ، مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني . وإن عدوك غداً ظِمَاء مُظمَئين ، مسودة وجوههم مقمحين . حربك حربي وسلمك سلمي ، وسرك سري وعلانيتك علانيتي ، وسريرة صدرك كسريرة صدري ، وأنت باب علمي ، وان ولدك ولدي ، ولحمك لحمي ودمك دمي ، وإن الحق معك والحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك ، والإيمان مخالط لحمك ودمك ، كما خالط لحمي ودمي ، وإن الله عز وجل أمرني أن أبشرك أنك وعترتك في الجنة ، وأن عدوك في النار . يا علي ، لا يرد علي الحوض مبغض لك ، ولا يغيب عنه محب لك .
قال قال علي : فخررت له سبحانه وتعالى ساجداً ، وحمدته على ما أنعم به علي من الإسلام والقرآن ، وحببني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
--------------------------- 270 ---------------------------
ومناقب ابن سليمان : 1 / 249 ، وشرح الأخبار : 2 / 381 ، وكنز الفوائد / 281 ، وفي آخره :
« فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي » . وروته مصادر السنة كالطبراني في الكبير : 1 / 320 ، والزوائد : 9 / 131 .

19 - أفٍّ وتُفّ لمن ينكر فضائل علي ( عليه السلام ) !

روى الجميع هذا الموقف لابن عباس ، كالنسائي في خصائص علي ( عليه السلام ) / 62 ، عن عمرو بن ميمونة قال : « إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا : يا ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو بنا بين هؤلاء . فقال ابن عباس : بل أنا أقوم معكم . قال : وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى ، قال : فابتدؤوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا ، قال : فجاء وهو ينفض ثوبه وهو يقول : أفٍّ وتُفّ ، وقعوا في رجل له بضع عشر ! وقعوا في رجل قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأبعثن رجلاً يحب الله ورسوله لا يخزيه الله أبداً ، قال : فاستشرف لها من استشرف فقال : أين ابن أبي طالب ؟ قيل : هو في الرحى يطحن ، قال : وما كان أحدكم ليطحن ، قال : فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر ، فتفل في عينيه ثم هز الراية ثلاثاً فدفعها إليه . . الخ .
ثم ذكر ابن عباس عدة مناقب لعلي ( عليه السلام ) منها أن الله أمر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يأخذ سورة براءة من أبي‌بكر ويدفعها اليه ، لأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ، وأن علياً أول من أسلم ، ونزول آية التطهير فيه وفي زوجته وولديه ( عليهم السلام ) ، ومبيته على فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة الهجرة ، وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . . الخ . ورواه النسائي في سننه : 5 / 113 ، وأحمد : 1 / 330 ، والحاكم : 3 / 132 ، والسنة لابن أبي عاصم / 588 ، وتاريخ دمشق : 42 / 101 ، ونهاية ابن كثير : 7 / 374 ، والخوارزمي / 125 ، وفرات / 341 ، وكشف اليقين / 27 ، وينابيع المودة : 1 / 110 ، وشرح الأخبار : 2 / 299 ، والمراجعات / 195 ،
وقال : صححه الذهبي .
--------------------------- 271 ---------------------------

20 - حصنا السلالم والوطيح وفدك خالصة لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

في معجم البلدان ( 5 / 379 ) : « سمي بالوطيح بن مازن رجل من ثمود ، وكان الوطيح أعظمها ، وآخر حصون خيبر فتحاً ، هو السلالم » .
قال ابن هشام ( 3 / 801 و 814 ) : ( وحاصر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم ، حتى إذا أيقنوا بالهلكة ، سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ، ففعل . وكان رسول الله قد حاز الأموال كلها : الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم ، إلا ما كان من ذينك الحصنين . فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا ، بعثوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يسألونه أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ويخلوا له الأموال ، ففعل .
وكان فيمن مشى بين رسول الله وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود ، أخو
بني حارثة . فما نزل أهل خيبر على ذلك ، سألوا رسول الله أن يعاملهم في الأموال على النصف ، وقالوا : نحن أعلم بها منكم وأعمر لها ، فصالحهم رسول الله على النصف ، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب .
قال ابن إسحاق : فلما فرغ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من خيبر ، قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع الله بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يصالحونه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطائف ، أو بعد ما قدم المدينة ، فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول الله خالصة ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ) .
وهذا النص يدل على أن أهل حصن الوطيح وحصن السلالم استسلموا للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدون قتال ، فكتب معهم صلحاً على الجلاء وأبقاهم في الأرض يعملون فيها بسهم لهم ، وله إخراجهم متى شاء . وسمع بهم أهل فدك ، فطلبوا أن يصالحهم مثلهم ، فأرسل من استلمها وكتب
--------------------------- 272 ---------------------------
معهم عهداً كأهل الوطيح والسلالم ، فهذه الثلاثة حكمها واحد ينطبق قوله تعالى : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ . فهذه الثلاثة ملك خاص لرسول الله ( عليه السلام ) يتصرف فيها ما يشاء ، حتى لو قسم الوطيح والسلالم بين المسلمين كما رووا .
ولذلك وهب فدكاً لفاطمة ( عليها السلام ) بأمر الله تعالى ، فقد روى السيوطي في الدر المنثور ( 4 / 178 ) قال : ( وأخرج البزار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، دعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاطمة فأعطاها فدكاً ) .
وليس في سند الحديث من يتكلم فيه سوى عطية العوفي ، وقد قال عنه يحيى بن معين : صالح . فوهبها لها ، وبعثت وكيلها إليها من السنة السابعة ، وبقيت بيدها حتى صادرها أبو بكر . وذكر في السيرة الحلبية ( 2 / 745 ) فتح هذين الحصنين وأنهما لم يحتاجا إلى قتال علي ( عليه السلام ) أو غيره . وأنهم وجدوا فيهما مائة درع وأربع مائة سيف ، وألف رمح ، وخمس مائة قوس عربية بجعابها ، وصحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها ، فأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدفعها إليهم ، ثم قال الحلبي : وهو يخالف ما قاله أئمتنا أن كتبهم التي يحرم الانتفاع بها لكونها مبدلة تمحى إن أمكن ، أو تمزق ) .

21 - ما أدري بأيها أنا أسَرّ : بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟

أبقى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعفر بن أبي طالب رضي الله في الحبشة نحو خمس عشرة سنة ، من الخامسة للبعثة إلى السابعة للهجرة ، حتى أمره بالعودة بمن بقي من المهاجرين وكان عددهم ستة عشر « ابن هشام : 3 / 818 » فوصلوا والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خيبرفقام النبي لجعفر ومشى اليه والتزمه وقبله بين عينيه ، وقال كلمته المشهورة : « ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر » ! « الطبقات : 2 / 108 ، وابن هشام : 3 / 818 ، والخصال / 77 ، ومقاتل الطالبيين / 6 ، والحدائق : 10 / 498 » .
وهي كلمة بليغة تعني أن ما أنجزه جعفر رضي الله عنه من إزالة عقبة المسيحية الرومية من طريق الإسلام نعمة عظيمة ، يوازي إزالة عقبة اليهود من طريق الإسلام
--------------------------- 273 ---------------------------
بفتح خيبر على يد أخيه علي ( عليه السلام ) ! ففي الخصال / 484 : « قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة وعانقه وقبَّل ما بين عينيه وبكى ، وقال : لا أدري بأيهما أنا أشد سروراً : بقدومك يا جعفر ، أم بفتح الله على أخيك خيبر ؟ ! وبكى فرحاً برؤيتة » .
وفي تهذيب الأحكام : 3 / 186 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال له : يا جعفر ألا أعطيك ؟ ألا أمنحك ؟ ألا أحبوك ؟ قال فتشوف الناس ورأوا أنه يعطيه ذهباً أو فضة ! قال : بلى يا رسول الله . قال : صل أربع ركعات متى ما صليتهن غفر لك ما بينهن ، إن استطعت كل يوم وإلا فكل يومين أو كل جمعة أو كل شهر ، أو كل سنة ، فإنه يغفر لك ما بينهما ! قال : كيف أصليها ؟ قال : تفتتح الصلاة ، ثم تقرأ ثم تقول خمس عشرة مرة وأنت قائم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر . فإذا ركعت قلت ذلك عشراً ، وإذا رفعت رأسك فعشراً ، وإذا سجدت فعشراً ، فإذا رفعت رأسك فعشراً ، وإذا سجدت الثانية عشراً ، وإذا رفعت رأسك عشراً . فذلك خمس وسبعون ، تكون ثلاث مائة في أربع ركعات فهن ألف ومئتان . وتقرأ في كل ركعة بقل هو الله أحد ، وقل يا أيها الكافرون » .
أقول : عُرفت هذه الصلاة بصلاة جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، كما عُرف التسبيح مائة مرة بتسبيح فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) . وهو أمر مقصود قصداً لله تعالى ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يربط عبادة مميزة باسم الزهراء ( عليها السلام ) لتكون حاضرة في عبادة المسلمين لربهم ، وكذلك جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وليتخذهم المسلمون قدوات في الذكر الكثير والعبادة .
* *
--------------------------- 274 ---------------------------

الفصل الرابع عشر: علي ( عليه السلام ) في فتح مكة

1 . عليٌّ ( عليه السلام ) يستخرج رسالة حاطب ابن بلتعة

قرر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غزو مكة وفتحها ، وأراد أن يكون ذلك مفاجأةً لقريش ، فدعا الله تعالى : « اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش ، حتى نَبْغَتَهَا في بلادها » . ( مناقب آل أبي طالب : 1 / 177 ، وابن هشام : 4 / 857 ) .
واتخذ الإحتياطات اللازمة لإخفاء حركته إلى مكة ، وأصدر أمره بالتجهز للغزو ولم يفصح إلى أين : « وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أي بنية أأمركم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تجهزوه ؟ قالت : نعم فتجهز ، قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : لا والله ما أدري » . ( ابن هشام : 4 / 857 ) .
وأرسل إلى القبائل أن يوافوه إلى المدينة في أول شهر رمضان للذهاب معه في غزوة ، ولم يخبرهم إلى أين . ( إعلام الورى : 1 / 219 ) . وأمر بضبط المدينة : « وضع حرساً على المدينة ، وكان على الحرس حارثة بن النعمان » . ( إعلام الورى : 1 / 216 ) .
ومع كل الإحتياطات احتاج الأمر إلى تدخل الوَحْي ، فكشف خيانة بعض الصحابة ، وأن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة إلى قريش يخبرهم ! ففي تفسير القمي ( 2 / 361 ) : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ الآية عام ومعناها خاص ، وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة ، وكان عياله بمكة ، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصاروا إلى عيال خاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهل
--------------------------- 275 ---------------------------
يريد أن يغزو مكة ؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك ، فكتب إليهم حاطب إن رسول الله يريد ذلك ، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية ، فوضعته في قرنها ومرَّت ، فنزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره بذلك ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها ، فقال لها أمير المؤمنين : أين الكتاب ؟ فقالت : ما معي ! ففتشوها فلم يجدوا معها شيئاً ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئاً ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله ما كذَبَنَا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا كذَبَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على جبرئيل ، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه ! والله لتظهرن لي الكتاب أو لأوردن رأسك إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقالت : تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها ، فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وجاء به إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وفي الإرشاد ( 1 / 56 ) : « فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وصار به إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمر أن ينادي بالصلاة جامعة فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم ، ثم صعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المنبر وأخذ الكتاب بيده وقال : أيها الناس ، إني كنت سألت الله عز وجل أن يخفي أخبارنا عن قريش ، وإن رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا ، فليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فلم يقم أحد فأعاد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مقالته ثانية وقال : ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فقام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف ، فقال : يا رسول الله أنا صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكاً بعد يقيني . فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب ؟ فقال : يا رسول الله إن لي أهلاً بمكة وليس لي بها عشيرة ، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشك في الدين . قال : فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليرق عليه ، فأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) برده وقال له : قد عفوت عنك وعن جرمك ، فاستغفر ربك ولا تعد لمثل ما جنيت » !
--------------------------- 276 ---------------------------
وفي تفسير القمي ( 2 / 361 ) : فأنزل الله جل ثناؤه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . إلى آخر السورة .
وفي المسترشد للطبري الشيعي / 540 ، أن عمر قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « إئذن لي أضرب عنقه فإنه قد نافق ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتريد يا عمر أن تقول العرب إن محمداً يقتل أصحابه » ! ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعمر : « وما يدرك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم » ! ( ابن هشام : 4 / 858 ) .
لكنهم رووا في أصح كتبهم أن الصحابة يدخلون النار ، ولا ينجو منهم إلا مثل هَمَل النَّعَم ! ( البخاري : 7 / 209 ) كما روت مصادرنا عن علي ( عليه السلام ) ذماً لابن بلتعة . ( تأويل الآيات : 2 / 465 ، والجمل / 208 ) .

2 . فاجأ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قريشاً بجيش لا قبل لها به

ذكر بعض الرواة أن عدد جيش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فتح مكة عشرة آلاف ، ويظهر من القرائن المختلفة أن عدده كان بين خمسة وستة آلاف . وقد عسكرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مَرّ الظهران قرب عرفات ، وكان ذلك مفاجأة لقريش فأسقط في يد زعمائها لأنهم لا يريدون الخضوع له ، ولا طاقة لهم بحربه ! فسارع أبو سفيان بالذهاب إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليتفاوض معه .
قال في إعلام الورى ( 1 / 218 ) : « فخرج في تلك الليالي أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً ، وقد كان العباس بن عبد المطلب خرج يتلقى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه أبو سفيان بن الحارث ابن عم النبي وعبد الله بن أبي أمية ، أخ أم‌سلمة ، وقد تلقاه بنيق العقاب ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قبته وعلى حرسه يومئذ زياد بن أسيد ، فاستقبلهم زياد فقال : أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبة ، وأما أنتما فارجعا ، فمضى العباس حتى دخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فسلم عليه وقال : بأبي أنت وأمي هذا ابن عمك قد جاء تائباً وابن عمتك . قال : لا حاجة لي فيهما إن ابن عمي انتهك عرضي ، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة : وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا .
--------------------------- 277 ---------------------------
فلما خرج العباس كلمته أم‌سلمة وقالت : بأبي أنت وأمي ابن عمك قد جاء تائباً ، لا يكون أشقى الناس بك ، وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكونن شقياً بك ! ونادى أبو سفيان بن الحارث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كن لنا كما قال العبدالصالح : لا تَثْرِيب عَلَيْكم ، فدعاه وقبل منه ، ودعا عبد الله بن أبي أمية ، فقبل منه .
وقال العباس : هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله عنوة قال : فركبت بغلة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) البيضاء وخرجت أطلب الحطَّابة أو صاحب لبَن لعلي آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يستأمنون إليه ، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام ، وأبو سفيان يقول لبديل : ما هذه النيران ؟ قال : هذه خزاعة . قال : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم ! ولكن لعل هذه تميم أو ربيعة ! قال العباس : فعرف صوت أبي سفيان ، فقلت : أبا حنظلة ؟ قال : لبيك فمن أنت ؟ قلت : أنا العباس ، قال : فما هذه النيران فداك أبي وأمي ؟ قلت : هذا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عشرة آلاف من المسلمين قال : فما الحيلة ؟ قال : تركب في عجز هذه البغلة ، فأستأمن لك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال : فأردفته خلفي ثم جئت به ، فكلما انتهيت إلى نار قاموا إليَّ فإذا رأوني قالوا : هذا عم رسول الله خلوا سبيله ، حتى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال : عدو الله ، الحمد الله الذي أمكن منك ، فركضت البغلة حتى اجتمعنا على باب القبة ، ودخل عمر على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : هذا أبو سفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه ! قال : العباس : فجلست عند رأس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقلت : بأبي أنت وأمي أبو سفيان قد أجرته . قال : أدخله فدخل فقام بين يديه فقال : ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأوصلك وأحلمك ، أما الله لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد ، وأما أنك رسول الله فوالله إن في نفسي منها لشيئاً ! قال العباس : يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ! قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، تلجلج بها فوه !
--------------------------- 278 ---------------------------
فقال أبو سفيان للعباس : فما نصنع باللات والعزى ؟ فقال له عمر : إسلح عليهما . فقال أبو سفيان : أفٍّ لك ما أفحشك ، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : عند من تكون الليلة ؟ قال : عند أبي الفضل .
قال : فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة ، واغد به عليَّ . فلما أصبح سمع بلالاً يؤذن قال : ما هذا المنادي يا أبا الفضل ؟ قال : هذا مؤذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قم فتوضأ وصل ، قال : كيف أتوضأ ؟ فعلمه . قال : ونظر أبو سفيان إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يتوضأ وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه فقال : بالله إن رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر !
فلما صلى غدا به إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي بالذهاب إلى قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله ، فأذن له ، فقال العباس : كيف أقول لهم بين لي من ذلك أمراً يطمئنون إليه ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : تقول لهم : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله وكف يده ، فهو آمن ، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن . فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فلو خصصته بمعروف ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قال أبو سفيان : داري ! قال : دارك ! ثم قال : من أغلق بابه فهو آمن .
ولما مضى أبو سفيان قال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل من شأنه الغدر وقد رأى من المسلمين تفرقاً . قال : فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتى يمر به جنود الله . قال : فلحقه العباس فقال : أبا حنظلة ! قال : أغدراً يا بني هاشم ؟ قال : ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ، ولكن اصبر حتى تنظر إلى جنود الله » .

3 . علي ( عليه السلام ) يدخل مكة بالرحمة الرسولية

في الإرشاد ( 1 / 134 ) : ( لما أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية ، غلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم ، ودخل وهو يقول :
اليوم يوم الملحمه * اليوم تسبى الحرمة
فسمعها العباس رضي الله عنه فقال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن
--------------------------- 279 ---------------------------
عبادة ! إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أدرك يا علي سعداً فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي يدخل بها مكة فأدركه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخذها منه ، ولم يمتنع عليه سعد من دفعها . فكان تلافي الفارط من سعد في هذا الأمر بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم ير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحداً من المهاجرين والأنصار يصلح لأخذ الراية من سيد الأنصار سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعلم أنه لو رام ذلك غيره لامتنع سعد عليه ، فكان في امتناعه فساد التدبير واختلاف الكلمة بين الأنصار والمهاجرين ، ولما لم يكن سعد يخفض جناحه لأحد من المسلمين وكافة الناس سوى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يكن وجه الرأي تولي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخذ الراية منه بنفسه ، ولى ذلك من يقوم مقامه ولا يتميز عنه ، ولا يعظم أحد من المقرين بالملة عن الطاعة له ، ولا يراه دونه في الرتبة . وفي هذا من الفضل الذي تخصص به أمير المؤمنين ( عليه السلام )
ما لم يشركه فيه أحد ) .
وفي الإمتاع ( 8 / 386 ) فقال له : « يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة ، اليوم يعز الله قريشاً ، وأرسل إلى سعد ، فأخذ الراية منه » .
وفي رواية ( موسوعة أمير المؤمنين : 2 / 54 ) : أخذ الراية علي ( عليه السلام ) ودخل مكة
وهو يقول : اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة

4 . علي ( عليه السلام ) ينفذ أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المهدور دمهم

قال البلاذري في أنساب الأشراف ( 1 / 357 ) : ( أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقتل ستة نفر ، وأربع نسوة . فأما النفر فعكرمة بن أبي جهل ، وهبار بن الأسود ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ومقيس بن صبابة ، والحويرث بن نقيذ ، وابن خطل .
وأما الأربع النسوة فهند بنت عتبة ، وسارة مولاة عمرو بن هاشم بن المطلب ، وقينتا هلال بن عبد الله بن خطل الأدرمى . . فرتنا وأرنب ) .
وأوصل صاحب الصحيح ( 23 / 9 ) المهدور دمهم في فتح مكة إلى اثنين وعشرين شخصاً ، وخلاصة كلامه : « أن الأمر بقتل هؤلاء الناس هو من مفردات تعظيم الكعبة وحفظ حرمة الحرم ، لأنهم بشركهم وبصدهم عن سبيل الله وسعيهم
--------------------------- 280 ---------------------------
في الأرض فساداً يمثلون الرجس والإثم والقاذورات التي لا بد من تطهير بيت الله وحرمه منها ، فقتلهم حتى لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة ، تكريم للكعبة وتكريس لمعنى الطهر والقداسة فيها :
1 - عكرمة بن أبي جهل : كان هو وأبوه أشد الناس أذية للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
2 - صفوان بن أمية : هرب مع عبده يسار إلى جدة ليذهب إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومي ، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمنه صلى الله عليك . قال : هو آمن .
3 - عبد العزى بن خطل : أهدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دمه وكان اسمه عبد العزى ، وكان أسلم فسماه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عبد الله وهاجر إلى المدينة ، وبعثه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ساعياً وبعث معه رجلاً ، وكان يصنع له طعامه ويخدمه ، فأمره أن يصنع له طعاماً ونام نصف النهار واستيقظ والخزاعي نائم ولم يصنع له شيئاً ، فعدى عليه فضربه فقتله وارتد عن الإسلام ، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة ، وقال : لم أجد ديناً خيراً من دينكم ! وكان يقول الشعر يهجو به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكانت له قينتان فاسقتان ، يأمرهما أن تغنيا بهجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وأتى البيت فدخل تحت أستاره ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أقتلوه ، إن الكعبة لا تعيذ عاصياً ، ولا تمنع من إقامة حد واجب ، فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة .
4 - عبد الله بن سعد بن أبي سرح : وإنما أمر بقتله لأنه كان أسلم قبل الفتح ، وكان يكتب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوحي وكان إذا أملى عليه : سميعاً بصيراً ، كتب : عليماً حكيماً ! وإذا أملى عليه : عليماً حكيماً كتب : غفوراً رحيماً ! وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال : إن محمداً لا يعلم ما يقول . فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة ، فارتدّ وهرب إلى مكة وقال : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ ! وقال لقريش : إني كنت أصرف محمداً كيف شئت ، كان يملي عليّ : عزيز حكيم فأقول : أو عليم حكيم ، فيقول : نعم كل صواب ! وعندما دخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مكة لجأ ابن سرح إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فقال له : يا أخي استأمن لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل
--------------------------- 281 ---------------------------
أن يضرب عنقي ! فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا ، فاستأمن له وأتى به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعرض عنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصار عثمان يقول : يا رسول الله أمنته والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرض عنه !
ثم قال : نعم ، فبسط يده فبايعه ، فلما خرج عثمان وعبد الله قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لمن حوله : أعرضت عنه مراراً ، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه !
فقال عباد بن بشر : يا رسول الله خفتك ، أفلا أومضتَ إليّ ، أي أومأت ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنه ليس لنبي أن يومض ، إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين .
5 - عبد الله بن الزبعرى : كان شاعراً يهجو النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين ويحرض عليهم كفار قريش ، وهو الذي تمثَّل يزيد بأبياته عندما جئ له برأس الحسين ( عليه السلام ) ، فأخذ ينكت ثنايا الإمام ( عليه السلام ) بقضيب في يده . وهو الذي ألقى الفرث والدم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يصلي ثم جاء أبو طالب وسل سيفه ، فأمرَّ ذلك الفرث على لحاهم وشواربهم !
6 - الحويرث بن نقيدر : كان يؤذي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونخس بزينب بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما هاجرت إلى المدينة فرمى بها عن بعيرها ، فأهدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دمه فخرج في مكة يوم الفتح يريد أن يهرب فتلقاه علي ( عليه السلام ) فضرب عنقه .
7 - هبار بن الأسود : كان شديد الأذى للمسلمين ، وتعرض لزينب بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما هاجرت ، فنخس بها أو ضربها بالرمح ، فسقطت عن راحلتها فأسقطت ، ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت !
فلما كان يوم الفتح وبلغه أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أهدر دمه أعلن بالإسلام فقبله منه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعفا عنه . وزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن لقيتم هباراً هذا فأحرقوه ، ولا يصح قولهم لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يتردد في أحكامه .
ونقول : إذا كان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أهدر دم هبار بن الأسود والحويرث بن نقيدر ، لأنهما روَّعا زينب وأوقعاها عن الراحلة إلى الأرض ، فماذا سيكون موقفه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن ضرب فاطمة ( عليها السلام ) وأسقط جنينها وكسر ضلعها ، وتسبب لها بعلَّتها التي ماتت
--------------------------- 282 ---------------------------
منها ، فكانت صدِّيقة شهيدة كما قال الإمام صادق ( عليه السلام ) !
8 - الحارث بن هشام : أخو أبي جهل لأبويه . وقد أسلم بعد ذلك .
9 - زهير بن أمية : وكان قد استجار بأم هاني وأراد علي ( عليه السلام ) قتله فأمضى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جوارها ، وأسلم بعد ذلك .
10 - عبد الله بن ربيعة : ذكره الأزرقي بدل زهير بن أمية .
11 - زهير بن أبي سلمى الشاعر .
2 - مقيس بن صبابة : كان أسلم ثم أتى على رجل من الأنصار فقتله ، وارتد ، فقتله نميلة بن عبد الله بحكم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الفتح .
13 - الحويرث بن الطلاطل الخزاعي : كان يؤذي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قتله علي ( عليه السلام ) .
14 - كعب بن زهير : وهو الشاعر الذي كان يهجو رسول الله وجاء بعد ذلك فأسلم ، ومدحه بقصيدة : بانت سعاد .
15 - وحشي بن حرب : قاتل حمزة ، وقد هرب في فتح مكة إلى الطائف ، فلما أسلم أهلها جاء مع وفدهم فأسلم ، فقال له ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : غيب عني وجهك !
16 - هبيرة بن أبي وهب : زوج أم هاني يقال : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أهدر أيضاً دمه .
17 - سارة : مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وكانت مغنية نواحة بمكة تغني بهجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقالوا : عفا عنها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب .
18 - أرنب ، مولاة ابن خطل .
19 - فرتنى : أو قرينا .
20 - قريبة ويقال : هي أرنب السابقة . وهما قينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخرى .
21 - أم سعد : قتلت فيما ذكره ابن إسحاق . ويحتمل أن تكون هي أرنب .
22 - هند بنت عتبة : وهي التي شقت عن كبد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاكت قلبه . أتت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو بالأبطح فأسلمت وقالت :
--------------------------- 283 ---------------------------
الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، لتمسني رحمتك يا محمد ، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به . ثم كشفت عن نقابها فقالت : أنا هند بنت عتبة . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مرحباً بك . وقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح فهل عليَّ حرج أن أطعم من ماله عيالنا ؟ فقال : لاحرج عليك أن تطعميهم بالمعروف .

5 . رحم الله عمي أبا طالب لو ولد الناس كلهم لكانوا شجعاناً

في الكافي ( 5 / 33 ) عن أبي حمزة الثمالي قال : « قلت لعلي بن الحسين : إن علياً سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أهل الشرك . قال : فغضب ثم جلس ثم قال : سار والله فيهم بسيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الفتح ، إن علياً كتب إلى مالك وهو على مقدمته يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل ، ولا يقتل مدبراً ، ولا يجيز على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن » .
وقال في إعلام الورى ( 1 / 223 ) : « كان قد عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم : مقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن خطل ، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة . فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله . وقتل مقيس بن صبابة في السوق . وقتل علي ( عليه السلام ) إحدى القينتين وأفلتت الأخرى ، وقتل ( عليه السلام ) أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب . وبلغه أن أم هانئ بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بني مخزوم ، منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب ، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد ، فنادى : أخرجوا من آويتم ! فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه ! فخرجت إليه أم هاني وهي لا تعرفه فقالت : يا عبد الله ، أنا أم هاني بنت عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخت علي بن أبي طالب ، انصرف عن داري . فقال علي ( عليه السلام ) : أخرجوهم ! فقالت : والله لأشكونك إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت : فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال لها :
--------------------------- 284 ---------------------------
فاذهبي فبري قسمك فإنه بأعلى الوادي . قالت أم هاني : فجئت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في قبة يغتسل وفاطمة ( عليها السلام ) تستره ، فلما سمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلامي قال : مرحباً بك يا أم هاني . قلت : بأبي وأمي ما لقيت من علي اليوم ! فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد أجرتُ من أجرت ! فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : إنما جئت يا أم هانئ تشكين علياً في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله ! فقلت : إحتمليني فديتك ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد شكر الله لعلي سعيه ، وأجرت من أجارت أم هانئ ، لمكانها من علي بن أبي طالب » .
وروت مصادرهم مجئ أم هاني إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعفوه عن المخزوميين الذين أجارتهم ، واتفقوا على أن علياً ( عليه السلام ) لم يدخل البيت ، مع أنه يحمل أمراً قضائياً من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن أم هاني لم تخرجهم ، بل أغلقت الغرفة عليهم ، وذهبت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تشتكي علياً ( عليه السلام ) ! وروي أن أم هاني أمسكت بساعد علي ( عليه السلام ) لتمنعه من دخول دارها ، فكشف قناعه فعرفته ، وأن ذلك أعجب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : لله در أبي طالب ! لو ولد الناس كلهم كانوا شجعاناً » . ( كشف الغمة : 2 / 235 ) .
وقد يشكل على أم هاني رضي الله عنها لعملها هذا ، لكن تلبية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لطلبها يرفع الإشكال لو كان .

6 . علي يصلح ما أفسده خالد بن الوليد

في إعلام الورى ( 1 / 228 ) : « بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر ، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة وقتلوا عم خالد ، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا : يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ، ونحن مسلمون ، فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها ، فقال : ضعوا السلاح ، قالوا : إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله . فانصرف عنهم بمن معه فنزلوا قريباً ، ثم شن عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً ثم قال : ليقتل كل رجل منكم أسيره ، فقتلوا الأسرى !
وجاء رسولهم إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره بما فعل خالد بهم فرفع ( عليه السلام ) يده إلى السماء وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد وبكى ! ثم دعا علياً ( عليه السلام ) فقال : أخرج إليهم
--------------------------- 285 ---------------------------
وانظر في أمرهم وأعطاه سفطاً من ذهب ، ففعل ما أمره وأرضاهم » .
وفي أمالي الصدوق / 237 : « عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادي بالصلاة فصلى وصلوا ، فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم ( مع النبي )
فوجدوه فأتوا به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تبر ومتاع ، فقال لعلي ( عليه السلام ) : يا علي إئت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إحدى قدميه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك ! فأتاهم علي ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ،
فلما رجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : يا علي أخبرني بما صنعت ، فقال : يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أعطيتهم ليرضوا عني ، رضي الله عنك يا علي ، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي » .
وفي أمالي الطوسي / 498 : « فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أرضيتني رضي الله عنك يا علي ، أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .
ورواه في شرح الأخبار ( 1 / 309 ) وفيه : وإنما فعل ذلك بهم خالد ، لأنهم كانوا قتلوا عمه الفاكهة بن المغيرة في الجاهلية !
وقال عباس العقاد في كتابه عبقرية عمر : « بعث رسول الله خالداً إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه للقتال وأمره ألا يقاتل أحداً إن رأى مسجداً أو سمع أذاناً . ثم وضع بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم السلاح واستسلموا
--------------------------- 286 ---------------------------
فأمر بهم خالد فكتفوا ! ثم عرضهم السيف فقتل منهم وأفلت من القوم غلام يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله ، وأخبره وشكاه إليه » . ( النص والاجتهاد / 460 ) .
أقول : روته مصادرهم لكنهم حذفوا منه مدح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) ! وتجاهلوا براءة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من فعل خالد ، وأضافوا في روايتهم ما يبرر فعل خالد بأنه لم يفهم كلام بني جذيمة ، فأسرهم وقتلهم ! ويدل قول علي ( عليه السلام ) : ( وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ) . على أن روعة النساء وفزع الصبيان تقدر أيضاً بجزاء مالي ، وهي قاعدة فقهية في الحقوق والقانون الجزائي . كما تدل على أن الحاكم مسؤول عن تصرفات عماله ، مسؤولية جزائية .

7 . وبَّخ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المسلمين لأنهم لم يمنعوا خالداً من قتل عاشق !

روى ابن حجر في فتح الباري ( 8 / 46 ) قصة مؤثرة من مجزرة خالد عن : « ابن أبي حدرد الأسلمي قال : كنت في خيل خالد ، فقال لي فتى من بني جذيمة : قد جمعت يداه في عنقه برمَّة ( حبل ) : يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة ، فقائدي إلى هؤلاء النسوة ؟ فقلت : نعم ، فقدته بها فقال : إسلمي حبيش قبل نفاد العيش .
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم * بحلية أو أدركتكم بالخوانق
الأبيات . . قال فقالت له امرأة منهن : وأنت نجيت عشراً . وتسعاً ووتراً . وثمانياً تترى . قال : ثم ضربت عنق الفتى ، فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت .
ورواه النسائي بإسناد صحيح ، من حديث ابن عباس وفيه : فقال إني لست منهم ، إني عشقت امرأة منهم فدعوني أنظر إليها نظرة ، وقال فيه : فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت !
فذكروا ذلك للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أما كان فيكم رجل رحيم ! وروى الطبري ( 2 / 342 ) قصة العاشقيْن وحوارهما شعراً .
ونقل ابن هشام ( 4 / 883 ) قول عبد الرحمن بن عوف لخالد : كذبت ! ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة !
كما غدرخالد بمالك بن نويرة وبني يربوع بعد أن أمَّنهم واحتال عليهم حتى ألقوا
--------------------------- 287 ---------------------------
سلاحهم فكتفهم وقتلهم !
واستنكر عليه عبد الله بن عمر وأبو قتادة وغيرهما ، وفارقوه ، لكنه لم يسمع منهم ونام مع زوجة مالك تلك الليلة ! فحكم عليه عمر بأنه قاتل زان ! ودافع عنه أبو بكر !
كما غدر بسبعة آلاف من بني حنيفة قتلهم جميعاً ، بعد أن وقع معهم الصلح ، ولم يكن فيهم من قتل أحداً من المسلمين !
أما في بُزَّاخَة فبقي شهراً يرسل خيله فتأتيه بأشخاص فيتفنن في قتلهم !
« فمنهم من أحرقه ، ومنهم من قَمَّطَه ورضخه بالحجارة ، ومنهم من رمى به من رؤس الجبال » . ( الطبري : 2 / 491 ) .
وفي التمهيد لابن عبد البر ( 5 / 315 ) : « وأسروا منهم أسارى فأمر خالد بالحظيرة أن تبنى ، ثم أوقد تحتها ناراً عظيمة فألقى الأسارى فيها » .
* *
--------------------------- 288 ---------------------------

الفصل الخامس عشر: علي ( عليه السلام ) وحده حقق النصر في معرة حنين

1 - خلاصة عن حرب حنين

بعد فتح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حصون خيبرخافت هوازن فحشدت لقتاله ، وعندما تحرك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى فتح مكة أرسلت هوازن عيوناً ليتعرفوا على هدف مسيره ، فأمسك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الجواسيس وحبسهم معه ، لأن أفضل طريقة في التعامل مع الجاسوس أن تحبسه عندك وتأخذه معك . في المقابل أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ابن أبي حدرد عيناً عليهم إلى مالك بن عوف فسمعه يقول : ( يا معشرهوازن إنكم أحدُّ العرب وأعدُّها ، وإن هذا الرجل لم يلق قوماً يصدقونه القتال ، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد . فأتى ابن أبي حدرد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره » . ( إعلام الورى : 1 / 228 ) .
وتوجهت هوازن بجيشها البالغ عشرين ألف مقاتل إلى مكة ، وعسكروا في حنين بين مكة والطائف ، ومنعوا الحجاج من الحج ، فدعا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قريشاً لقتالهم ، فاستجابت
على مضض .
قال ابن هشام ( 4 / 892 ) ملخصاً : ( أن الحارث بن مالك ، قال : خرجنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية ، قال : فسرنا معه إلى حنين ، قال : وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء ، يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوماً ، قال : فرأينا ونحن نسيرمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سدرة خضراء عظيمة ، قال : فتنادينا من جنبات الطريق : يا رسول الله ،
--------------------------- 289 ---------------------------
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الله أكبر ، قلتم ، والذي نفس محمد بيده ، كما قال قوم موسى لموسى : قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إنها السنن ، لتركبن سنن من كان قبلكم !
قال ابن إسحاق : عن جابر بن عبد الله قال : لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حَطُوط ، إنما ننحدر فيه انحداراً ، قال : وفي عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا في شعابه وأحنائه ومضايقه ، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا ، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ! وانحاز رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذات اليمين ثم قال : أين الناس ! هلموا إليَّ أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله . قال : فلا شئ ! حملت الإبل بعضها على بعض فانطلق الناس .
قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل أمام هوازن وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه .
قال ابن إسحاق : فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان : لاتنتهى هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لمعه في كنانته . وصرخ جبلة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم ! فقال له صفوان : أسكت فضَّ الله فاك ، فوالله لأن يَرُبَّني رجل من قريش ، أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن ) .

2 - فرَّ الجميع وثبت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبنو هاشم فقط !

وصف القرآن فرار المسلمين في حنين فقال تعالى : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ . فالفرار عام والسكينة بعده خاصة .
وفي صحيح بخاري ( 4 / 57 ) : قال أبو قتادة : « فلحقت عمر بن الخطاب فقلت :
--------------------------- 290 ---------------------------
ما بال الناس ؟ قال : أمر الله » ! فنسب عمر الفرار إلى الله تعالى وهذه قدرية عمر التي الشتهربها !
وفي صحيح بخاري ( 5 / 98 و : 4 / 28 ) : « يا أبا عمارة أتوليت يوم حنين ! فقال : أما أنا فأشهد على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لم يولِّ .
فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول : أنا النبي لاكذب . أنا ابن عبد المطلب . فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه » !
وقال ابن هشام ( 4 / 893 ) : « وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال : أين الناس هلموا إليَّ أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله ! قال : فلا شئ » . أي لم يستجيبوا لنداء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقال المفيد في الإرشاد « 1 / 141 » : « لم يبق منهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلاعشرة أنفس : تسعة من بني هاشم خاصة ، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن ( رحمه الله ) وثبتت التسعة الهاشميون . . العباس عن يمينه والفضل عن يساره ، وأبو سفيان ممسك بسرجه عند ثفر بغلته ، وسائرهم حوله ، وعلي ( عليه السلام ) يضرب بالسيف بين يديه » .
وقال المأمون لفقهاء عصره : « إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا سبعة من بني هاشم : علي يضرب بسيفه ، والعباس آخذ بلجام بغلة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والخمسة محدقون بالنبي خوفاً من أن يناله سلاح الكفار ، حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله ( عليه السلام ) الظفر . عنى في هذا الموضع علياً ومن حضر من بني هاشم . فمن كان أفضل ؟ أمَن كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونزلت السكينة على النبي وعليه ؟ أم من كان في الغار مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يكن أهلاً لنزولها عليه » ! ( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 207 ) .

3 - نزلت الملائكة والسكينة على الثابتين خاصة !

قال تعالى : وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فالمخاطب بالآية المسلمون الذين نصرهم الله سابقاً ، وقد وبخهم وأخبرهم أنه عوض عن فرارهم بإنزال سكينته على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
--------------------------- 291 ---------------------------
وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه ، وهم بنو هاشم ومولاهم أيمن ، ومعهم نسيبة ، وقيل معهم ابن أم مسعود . وعذب الذين كفروا بيد علي والملائكة ( عليهم السلام ) وليس
بيد المنهزمين !

4 - قَاَتلَ علي ( عليه السلام ) وَحْدَهُ وساعدته الملائكة !

معركة حنين من المعارك الفريدة في التاريخ ، لأن شخصاً واحداً هزم جيشاً من عشرين ألفاً ! فقد رتب علي ( عليه السلام ) حراسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم غاص في أوساط هوازن ، يقصد حامل راية الكتيبة وقائدها فيقتله ، ثم يقصد الآخر !
وبذلك أبعد المعركة عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونشر الذعر في صفوف العدو ، وكان يرجع كل فترة ليطمئن على سلامة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد يأتي معه بأسير أو أكثر !
وفي المناقب ( 1 / 355 ) : « وقف ( عليه السلام ) يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف إلى أن ظهر المدد من السماء . وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أبا جرول ، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس » .
وفي أمالي الطوسي / 575 : « قال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب : فرَّ الناس جميعاً وأعْرَوْا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم يبق معه إلا سبعة نفر من بني عبد المطلب : العباس ، وابنه الفضل ، وعلي ، وأخوه عقيل ، وأبو سفيان ، وربيعة ، ونوفل بنو الحارث بن عبد المطلب ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصلت سيفه في المجتلد ، وهو على بغلته الدلدل ، وهو يقول :
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
قال الحارث بن نوفل : فحدثني الفضل بن العباس قال : التفتَ العباس يومئذ وقد أقشع الناس عن بكرة أبيهم فلم ير علياً في من ثبت ، فقال : شوهةٌ بَوْهَةٌ ، أفي مثل هذا الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو صاحب ما هو صاحبه ، يعني المواطن المشهورة له ! فقلت : نَقِّصْ قولك لابن أخيك يا أبَهْ ! قال : ما ذاك يا فضل ؟ قلت : أما تراه في الرعيل الأول أما تراه في الرهج ! قال : أَشْعِرْهُ لي يا بني . قلت : ذو كذا ، ذو كذا ، ذو البرقة . قال : فما تلك البرقة ؟ قلت سيفه يزيل به بين الأقران . فقال : بَرٌّ بن بَر ، فداهُ عمٌّ وخال . قال : فضرب
--------------------------- 292 ---------------------------
علي ( عليه السلام ) يومئذ أربعين مبارزاً ، كلهم يقدُّه حتى أنفه ، قال : وكانت ضرباته مبتكرة » . أي واحدةً ، لا تحتاج إلى ثانية ! وقد أخفت السلطة بطولات علي ( عليه السلام ) عند فرارالمسلمين ! لكن بعضهم اعترف بأنه قتل ( عليه السلام ) أربعين قائداً ! وقتل القائد العام لجيش هوازن وفارسهم أبا جرول « ذا الخمار » ، فوقع فيهم الرعب والهزيمة !
ولعل حملات علي ( عليه السلام ) استمرت أربع ساعات ، فلم يحن الظهرحتى تم النصر للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانهزم أعداؤه شذر مذر !
« وكان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين قارب بن الأسود ، فلما رأى الهزيمة ، أسند رايته إلى شجرة وهرب » ! ( ابن حبان : 2 / 73 ، وابن خلدون : 2 ق 2 / 47 ) .
أما قائدهم مالك بن عوف الذي كان يهدر ويصيح : أروني محمداً حتى أقتله ! وقصد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليقتله ، فتصدى له أيمن ( رحمه الله ) فقتله مالك ، ولعل علياً ( عليه السلام ) قصده فهرب ،
أو سمع تكبيرات علي ( عليه السلام ) وهويجندل حملة راياتهم ومنهم ذو الخمار وأخا عثمان ، وأبا جرول وغيرهم ، فهرب مالك إلى الطائف !
في إعلام الورى ( 1 / 232 ) والدرر / 227 : « فرَّ مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومهم ، وأسلم عند ذلك كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله وإعزاز دينه » .
واعترف خصوم علي ( عليه السلام ) من حيث لا يريدون بتفرد علي ( عليه السلام ) بالقتال !
ففي سيرة ابن هشام : 4 / 896 : « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » ! والدرر لابن عبد البر / 227 ،
فمن الذي أسرهم وكتَّفهم قبل رجوع الفارِّين ، ولم يبق إلا علي وحده ، فقد كان بقية بني هاشم يحرسون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وادعوا أن ثمانين أو مئة رجعوا قبل غيرهم ، ونسبوا بطولات علي ( عليه السلام ) إليهم !
لكنهم لم يسموا منهم أحداً إلا عبد الله بن مسعود ، وهو ضعيف البنية صغير الجثة ، معروف بأنه أضعف أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ثم نسبوا النصر إلى دعاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإلقائه حفنة الحصى والتراب على جيش هوازن وهو صحيح ، لكنه لا يلغي دور علي ( عليه السلام ) ! ونسبوه إلى الملائكة والملائكة لا تنزل إلا بعد أن يبذل أحد جهده ويستنزلها !
--------------------------- 293 ---------------------------
وقد نسب علي ( عليه السلام ) النصرالى النبي لجهاده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واحتماء علي ( عليه السلام ) به ، فقال فيه :
ألم تر أن الله أبلى رسوله * بلاء عزيزاً ذا اقتدار وذا فضل
بما أنزل الكفار دار مذلة * فذاقوا هواناً من إسار ومن قتل
« مناقب آل أبي طالب : 2 / 331 » .
قال في الإرشاد ( 1 / 142 ) : « وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم ، إذا أدرك نفراً من المسلمين أكب عليهم وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتبعوه وهو يرتجز ويقول :
أنا أبو جرولٍ لا براح * حتى نبيحَ القومَ أو نباح
فصمد له أمير المؤمنين فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره ثم قال :
قد علم القوم لدى الصباح * أني في الهيجاء ذو نصاح
فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله » .
ومما يدل على أنه لم يقاتل أحدٌ في حنين إلا علي ( عليه السلام ) عدم وجود شهداء إلا أيمن بن أم أيمن ( رحمه الله ) الذي استشهد دفاعاً عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عندما قصده مالك بن عوف !
وقالوا استشهد غيره ثلاثة ، وذكروا أن أحدهم أباعامرالأشعري وهو جد الأشعريين القميين ، لكنه قتل بعد المعركة في أوطاس في تعقب الفارين ، ويزيد بن زمعة بن الأسود ، جمح به فرسه فمات » ! « الصحيح من السيرة : 24 / 338 » .
وفي مجمع البيان : 5 / 32 : « قال سعيد بن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يقفوا لنا حلب شاة ، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم ، حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، يعني رسول الله ، فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا : شاهت الوجوه إرجعوا ! فرجعنا ، وركبوا أكتافنا ، فكانوا إياها يعني الملائكة » !
وينبغي الالتفات إلى أن رواة قريش أرادوا أن يسلبوا علياً بطولاته ، ويغطوا فرار رجال السلطة ، فنسبوا النصر إلى قتال الملائكة ، وإنما دور الملائكة المساعدة لعلي ( عليه السلام ) بعد قتاله ، وبعد نزول السكينة على المؤمنين الثابتين .
--------------------------- 294 ---------------------------

5 - الغنيمة لمن قاتل وجبرئيل ( عليه السلام ) له سهم

إذا أخذنا بقاعدة : الغنيمة لمن قاتل عليها ، فكل غنائم حنين لعلي ( عليه السلام ) . وإذا أخذنا بقاعدة أن سهم جبرئيل ( عليه السلام ) من الغنيمة لعلي ( عليه السلام ) لأنه مبعوث لمساعدته ، فإن غنائم حنين كلها لعلي ( عليه السلام ) !
روى في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 220 ) : ( عن الواقدي : أنه نزل جبرئيل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك : إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره ، وعزتي وجلالي ما رمى علي حجر إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً ، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر ، سهماً له وسهم جبرئيل معه ) .
ومن عجيب ما قاله رواة السلطة أن غنيمة خيبر خاصة بالذين بايعوا تحت الشجرة ، مع أنهم بايعوا على أن لا يفروا ، وقد فروا في خيبر فاستحقوا الغنيمة !
وكذلك فروا في حنين فاستحقوا الغنيمة ! فصار سهم الفارين كسهم الثابتين الذين مدحهم الله وأنزل عليهم السكينة !
فاعجب لما قاله الطبري في تفسيره ( 26 / 106 ) : ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِنْ قَبْلُ : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قل لهؤلاء المخلفين عن المسيرمعك يا محمد : لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم لقتالهم ، كذلكم قال الله من قبل يقول : هكذا قال الله لنا من قبل مرجعنا إليكم ، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر ، لأن غنيمتها لغيركم . . أثابهم من مسيرهم الذي ساروه مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مكة ، ولما علم من صحة نيتهم في قتال أهلها ، إذ بايعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن لا يفروا عنه ) .
فكيف يكون الذي عاهد الله وبايع رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن لا يفر ثم نكث بيعته وفر ، صاحب حق في الغنيمة كالثابت الذي مدحه الله تعالى !
بل الغنيمة كلها لعلي ( عليه السلام ) ومن ثبت ، وقد أعطاها للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فتصرف فيها بما يراه مصلحة .
--------------------------- 295 ---------------------------

حاصرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الطائف وأرسل عليا ( عليه السلام ) لإزالة الأصنام

لما وقعت الهزيمة بالمشركين انهزمت ثقيف إلى الطائف ، وهي تبعد تسعين كيلومتراً عن مكة ، وترتفع عن سطح البحر نحو 1300 متراً . وانهزمت هوازن إلى أوطاس القريبة . فذهب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الطائف وحاصرها ، وأرسل أمامه أبا سفيان إلى الطائف ، وأرسل أبا عامر الأشعري إلى أوطاس ، وأرسل علياً ( عليه السلام ) إلى بني خثعم وأصنام العرب التي حول الطائف ليهدمها ويزيلها .
قال ابن حاتم في الدر النظيم / 184 : ( ولما فض الله تعالى جمع المشركين بحنين وتفرقوا فرقتين ، فأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس ، وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف . فبعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا سفيان إلى الطائف فلقيته ثقيف فضربوه على وجهه فانهزم ، ورجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : بعثتني مع قوم لا يرفع بهم البلاء من هذيل والأعراب ، فما أغنوا عني شيئاً . فسكت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه .
ثم صار بنفسه إلى الطائف ، فحاصرهم أياماً . وأنفذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خيل وأمره أن يطأ ما وجده ، ويكسر كل صنم وجده ، فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير ، فبرز لهم رجل من القوم يقال له شهاب في غبش الصبح فقال : هل من مبارز ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من له ؟ فلم يقم أحد فقام إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فوثب أبو العاص بن الربيع زوج ابنة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : تكفاه أيها الأمير . فقال : لا ، ولكن إن قتلت فأنت على الناس . فبرز إليه وهو يقول :
إن على كل رئيس حقا * أن يروي الصعدة أو تندقا
( يروي الرمح المستقيم من دم العدو ) ثم ضربه فقتله ، ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو محاصر أهل الطائف ، فلما رآه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كبر للفتح ، وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) فخلا به وناجاه طويلاً . . .
ثم خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف ، فلقيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ببطن وج فقتله وانهزم المشركون ولحق القوم الرعب ، فنزل منهم جماعة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأسلموا ، وكان حصار النبي للطائف بضعة عشر يوماً ) .
--------------------------- 296 ---------------------------
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 148 : « فبعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا عامرالأشعري إلى أوطاس في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري . وبعث أبا سفيان صخر بن حرب إلى الطائف . فأما أبو عامر فإنه تقدم بالراية وقاتل حتى قتل فقال المسلمون لأبي موسى : أنت ابن عم الأمير وقد قتل ، فخذ الراية حتى نقاتل دونها ، فأخذها أبو موسى فقاتل المسلمون حتى فتح الله عليهم » !

مناجاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) أثارت حسد الصحابة واعتراضهم !

لما رجع علي ( عليه السلام ) من مهمته إلى قبيلة خثعم وإزالة الأصنام ، استقبله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأخذ بيده وناجاه ، أي حدثه سراً ، وطالت مناجاته له ساعة أو أكثر ، فأثارت حسد بعض الصحابة ، فاعترضوا بعنف وسوء خلق !
قال ابن حاتم في الدر النظيم / 185 : ( وعاد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهومحاصرأهل الطائف ، فلما رآه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كبرللفتح وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) فخلا به وناجاه طويلاً . فروى عبد الرحمن بن سيابة . . عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما خلا بعلي يوم الطائف أتاه عمر بن الخطاب فقال : أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا ! فقال : يا عمر أنا ما انتجيته بل الله انتجاه . قال : فأعرض عمر [ وخرج ] وهو يقول : هذا كما قلت لنا يوم الحديبية : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ ، فلم ندخله وصددنا عنه ! فناداه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لم أقل لكم إنكم تدخلونه في ذلك العام ) !
يقصد أنك في الحديبية قلت لنا إن الأمر بالصلح من الله وليس مني ، وأنكم ستدخلون المسجد الحرام ، فلم ندخل ! والآن تقول إن الله انتجاه وما أنا انتيجيته ، وهذا كقولك يوم الحديبية !
فأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أني يومها وعدتكم بدخول المسجد آمنين ، ولم أقل لكم في ذلك العام ، وقد دخلتموه في العام التالي ! وهذا يدل علي أن عمر ما زال غاضباً لصلح الحديبية ومخطئاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . والآن يخطؤه في مناجاته المطولة لعلي ( عليه السلام ) ولا يقبل أنها بأمر الله تعالى !
وفي رواية الإختصاص للمفيد / 200 : ( فقال الناس وأبو بكر وعمر : انتجاه دوننا ،
--------------------------- 297 ---------------------------
فقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس أنتم تقولون إني انتجيت علياً ، وإني والله ما انتجيته ، ولكن الله انتجاه ) !
فقد جعلوا مناجاته إدانة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فاحتاج لأن يخطب فيهم ويقول لهم إنه فعل ما أمره به ربه . ولم يحاب ابن عمه عليهم كما زعموا !
وفي مناقب ابن سليمان ( 1 / 205 ) : ( ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه . يا علي : إن الله أمرني أن أدنيك فلا أقصيك ، وأعلمك فلا أجفوك ، وحق علي أن أطيع ربي ، وحق
عليك أن تعي ) . ومعناه أني أنفذ أمر ربي وأصر على موقفي ، وقد أمرني أن أقرب علياً وأعلمه ، وإنه وليكم بعدي ، فمن شاء فليرض أو فليغضب !
وفي مناقب ابن المغازلي / 124 : ( فقال ناس من أصحابه : قد طالت مناجاتُه منذ اليوم ! فسمع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما أنا انتجيتُه . . ) . وفي رواية : رأي الكراهة في وجوه رجال !
فقد ظهرت كراهتهم وارتفعت أصواتهم ! كل ذلك لأنه جلس مع ابن عمه وقائد جيشه وبطل انتصاراته وحدهما وأطال جلسته ! فغضب الصحابة القرشيون واضطهدوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما لا مثيل له في تاريخ الرسل ! فهم يرون أن لهم الولاية عليه ، وأن عليه الامتناع عن الجلسات الخاصة مع من لا يعجبهم ! ومعناه أن حقهم هذا لا ينقص إن هربوا كما فعلوا بالأمس في حنين وتركوا الرسول لسيوف المشركين ، وثبت معه بنو هاشم وكان بطلهم علياً ( عليه السلام ) ودحر جيشاً من عشرين ألف مقاتل ، فلما رجع الصحابة من فرارهم وجدوا الأسرى مكتفين عند أقدام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما روى ابن هشام ، ووجدوا جيش العدو مخلخلاً من قتل أربعين من قادته !
فلا فرار هؤلاء ( الصحابة الكرام ) جعلهم يستحون ويصمتون ، ولا بطولة علي تعطيه عندهم الحق في أن يجلس معه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جلسة خاصة .
وفي رواية الترمذي ( 2 / 300 ) : ( فقال الناس : لقد طالت نجواه مع ابن عمه ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما انتجيته ولكن الله انتجاه . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الأجلح ، وقد رواه غير ابن فضيل أيضاً عن الأجلح ، ومعنى قوله : ولكن الله انتجاه ، يقول : الله أمرني أن أنتجي معه ) .
--------------------------- 298 ---------------------------
وفي رواية الخطيب البغدادي ( 7 / 402 ) : ( فقالوا : لقد طالت مناجاتك مع علىّ هذا اليوم ، فقال : ما أنا انتجيته . . )
وفي أسد الغابة ( 4 / 27 ) والنهاية ( 5 / 25 ) : أي : إن الله أمرني أن أناجيه ) .
وفي رواية كنز العمال ( 6 / 399 ) ( فقال له أبو بكر : يا رسول الله لقد طالت مناجاتك علياً منذ اليوم ، فقال : ما أنا انتجيته . . ) .
وفي المعجم الكبير ( 2 / 186 ) : ( لما كان يوم غزوة الطائف قام النبي مع علي ملياً من النهار ، فقال له أبو بكر : يا رسول الله لقد طالت مناجاتك علياً منذ اليوم ! فقال رسول الله : ما أنا انتجيته ، ولكن الله انتجاه ) .
وفي الرياض النضرة ( 3 / 170 ) ( فقال الناس : لقد طال نجواه مع ابن عمه ) .
وفي تاريخ ابن عساكر ( 42 / 315 و 316 ) : ( فناجاه طويلاً فقال بعض أصحابه : ما أكثر ما يناجيه ) ! وفي رواية له : لما أن كان يوم الطائف خلا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي فناجاه طويلاً وأبو بكر وعمر ينظران والناس . قال : ثم انصرف إلينا فقال الناس : قد طالت مناجاتك اليوم يا رسول الله ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما أنا انتجيته ، ولكن الله انتجاه . ثم روى عن أنس : أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : صاحب سري علي بن أبي طالب ) .
وفي رواية له : وأطال مناجاته فرأى الكراهية في وجوه رجال ، فقالوا قد أطال مناجاته منذ اليوم فقال ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه )
وفي رواية له : لما كان يوم الطائف ناجى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً طويلا ، فلحق أبا بكر وعمر ، فقالا : طالت مناجاتك علياً يا رسول الله ! قال : ما أنا أناجيه ، ولكن الله انتجاه »
وفي ذكر أخبار إصبهان ( 1 / 141 ) : ( فقال أحد الرجلين للآخر : لقد طالت نجواه لابن عمه ، فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه ) .
وفي شرح النهج ( 9 / 173 ) : ( رواه أحمد في المسند ) . وقد حذفوه فيما حذفوا من مسند أحمد !
* *
وتدل الأحاديث على أن أبا بكر وعمر لم يقتنعا بكلام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن مناجاة علي ( عليه السلام ) ، فعندما توجه إلى تبوك وترك علياً والي المدينة ، ودعه وناجاه طويلاً فجاء أبو بكر وعمر
--------------------------- 299 ---------------------------
واعترضا عليه وجاءا معهما بعائشة أيضاً !
قال الشريف الرضي في خصائص الأئمة / 66 : « وروي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأطال ، فقال أبو بكر لعمر : لقد أطال مناجاته لابن عمه ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أنا ناجيته ولكن الله ناجاه ، وفي ذلك يقول حسان :
ويوم الثنية عند الوداع * وأجمع نحو تبوك المضيا
تنحى يودعه خالياً * وقد وقف المسلمون المطيا
فقالوا يناجيه دون الأنام * بل الله أدناه منه نجيا
عليٌّ فمُ أحمدٍ يوحي إليه * كلاماً بليغاً ووحياً خفيا » .
وفي مناقب ابن سليمان : 1 / 333 ، عن أبي رافع قال : « لما خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزوة تبوك خلف علياً ( عليه السلام ) وكثرت فيه الأقاويل من الناس فقالوا : لم يخلفه إلا بغضاً له وكراهية أن يتبعه ! فبلغ ذلك علياً فلحقه على مرحلة أو مرحلتين فسارمحادثه وهما على بعيرين لهما والناس ينظرون إليهما وأنا قريب منهما ، فجاءت عائشة لما رأت حالهما ومناجاة كل واحد منهما لصاحبه فأدخلت بعيرها بينهما ، فالتفت إليها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أما والله ما يومه منك بواحد !
ثم قال : أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة ، وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة في الدنيا والآخرة ، وأنك أخي ووزيري ووارثي . انصرف فلا يُصلح ما هناك إلا أنا أوأنت » .
وسيأتي أن المنافقين أشاعوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خلفه في المدينة ولم يأخذه معه استثقالاً له ! فلحق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد أن تحرك فشكى له ، فقال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وقال فيه كلمات أخرى عظيمة ، ووقف على بعيره يناجيه فلم يملك هؤلاء أنفسهم ، وقد ذكرت أم‌سلمة عائشة بفعلة لها مثل فعلتها يومها ، حيث أدخلت جملها بينه وبين علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكلام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القاصم معها يومها أيضاً !
--------------------------- 300 ---------------------------

وأهم ملاحظة على مناجاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) في الطائف :

أنها عدوان على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واضطهاد له ! فقد تحول الصحابي الذي يجب أن يكون تابعاً مطيعاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى معترض عليه وصاحب حق بأن يطيعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقد أعطاه شيطانه حق المحاسبة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن يكون الآمر الزاجر فيقول له : لماذا ناجيته دوننا ، ولماذا أطلت في مناجاته ، ونحن لا نصدق أن فعلك بأمر الله ، بل هو محاباة منك لابن عمك !

وبحديث مناجاة علي في الطائف ، تفهم ما حدث في مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حديث رزية يوم الخميس ، حيث قال له أصحاب هذا المنطق أنفسهم : حسبنا كتاب الله ، ولا نسمح لك أن نكتب لنا كتاباً لن نضل إذا عملنا به حسب قولك ! وإن أصريت أن تكتبه نقول إنك خرفان تهجر ، وتريد لبني هاشم ملكاً كملك كسرى ، وحينئذ ترتد قريش وليكن ما يكون !

وكان جبرئيل عنده فقال له ما أنت فيه من قبولهم نبوتك ولو ظاهرياً ، خير من مما يدعونك اليه ، فاطردهم ، ولا تصر أن تكتب لهم عهدك ووصيتك !

فطردهم وقال : قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعونني اليه ! كما في البخاري .

ماذا حدث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في مناجاته ؟

يأخذك العجب عندما يخبرك رواة قريش بما حدث به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في جلسته السرية الطويلة في الطائف ، بل في جلساته الكثيرة المشابهة لها ، فيقولون لك : لا تقل كما يقول شيعة علي : إن النبي خص علياً بشئ من العلم لم يخص به غيره ! فقد حدثه بأحاديث عادية عن أمور الدنيا ! قال المباركفوري في تحفة الأحوذي في شرح الترمذي ( 10 / 159 ) : ( ولكن الله انتجاه : أي أني بلغته عن الله ما أمرني أن أبلغه إياه على سبيل النجوى ، فحينئذ انتجاه الله لا انتجيته ، فهو نظير قوله تعالى : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّه رَمَى .
قال الطيبي : كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية ، جعله من خزانها . قال القاري : الظاهر أن الأمر المتناجي به من الأسرار الدنيوية المتعلقة بالأخبار الدينية من أمر الغزو ونحوه ، إذ ثبت في صحيح البخاري أنه سئل علي كرم الله وجهه : هل عندكم
--------------------------- 301 ---------------------------
شئ ليس في القرآن فقال : والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن ، إلا فهماً يعطاه رجل في كتابه ، وما في الصحيفة . وقيل : ما في الصحيفة ؟ فقال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ) .
أقول : كان الطيبي طبيعاً ، فقال : ( كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية جعله من خزانها ) ، ففسر جلسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذه وجلساته الطويلة مع علي ( عليه السلام ) وقوله له : إن الله أمرني أن أقربك وأن أعلمك ، وقال للمسلمين هو وليكم بعدي بأنها حديث أسرار إلهية . ولم يكترث لتأكيد رواة السلطة بأن علياً ( عليه السلام ) ليس عنده شئ من العلم إلا ما عند غيره ، ولا أخذ برواية النواصب مثل أبي جحيفة الذي روى عنه البخاري ( 8 / 45 و 47 ) أنه سأل علياً : ( هل عندكم شئ ما ليس في القرآن ، وقال مرة : ما ليس عند الناس ؟ فقال : والذي فلق الحب وبرأ النسمة ، ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطى رجل في كتابه ، وما في الصحيفة . قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ) .
يقول أبو الجحيفة وصاحبه مطرف إن علياً أقسم بقسمه المعروف : والذي برأ النسمة ، أن عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما عندهم إلا ما عند المسلمين ، فكيف يقول الناس لقد خصهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالعلم ؟ !
قال في تحفة الأحوذي ( 5 / 289 ) : ( وفي الحديث رد بليغ على الشيعة حيث زعموا أن النبي اختص أهل‌البيت بعلوم مخصوصة ) !
وقال العيني في عمدة القاري ( 2 / 161 ) : ( قال ابن بطال : فيه ما يقطع بدعة الشيعة والمدعين على علي رضي الله عنه ، أنه الوصي وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله ، عليه الصلاة والسلام ، لم يعرفه غيره حيث قال : ما عنده إلاَّ ما عند الناس من كتاب الله ، ثم أحال على الفهم الذي الناس فيه على درجاتهم ،
ولم يخص نفسه بشئ غير ما هو في غيره ) . وقال ابن حجر في فتح الباري ( 1 / 182 ) : ( وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل‌البيت ، لا سيما علياً ، أشياء من الوحي خصهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بها لم يطلع غيرهم
--------------------------- 302 ---------------------------
عليها . وقد سأل علياً عن هذه المسألة أيضاً قيس بن عبادة والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي ) !
فالصحيح عند علماء السلطة أن علياً والعترة ( عليهم السلام ) في العلم كبقية الناس ، فليسوا أحق من غيرهم بالخلافة ولا بتلقي الدين منهم . وقد رتبوا الرواية عن لسان علي ( عليه السلام ) وخواص أصحابه ، بأن علياً ( عليه السلام ) حلف أنه ليس عنده علم ، إلا مثل عثمان وعمر وأبي‌بكر !
وتسألهم : لماذا أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالثقلين كتاب الله وعترته ، وقرنهم بالقرآن ، وأمر الأمة أن تتمسك بهم حتى لا تضل ، فيقولون إنه أوصى بالقرآن ، وقرن به أهل بيته ، لكي تكرمهم الأمة وتتصدق عليهم ! هذا هو منطق السلطة !
أما منطق علي ( عليه السلام ) فيقول : ( ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضُلالها وقادتها وساقتها إلى النار ، لأنهم سمعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول عوداً وبدءً : ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ، ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه . وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله وأقضاهم بحكم الله . وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا غناء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولاضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء ) . ( كتاب سُليم بن قيس الهلالي / 249 ) .
( أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أنْ رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ! بنا يُستعطى الهدى ، ويستجلى العمى . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولاتصلح الولاة من غيرهم . آثروا عاجلاً ، وأخروا آجلاً ، وتركوا صافياً ، وشربوا آجناً » .
« والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
« نهج البلاغة : 1 / 82 ، و : 2 / 27 »
--------------------------- 303 ---------------------------

احتجوا بإزالة الأصنام لإزالة معالم الإسلام !

روى الجميع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل علياً ( عليه السلام ) إلى قبيلة خثعم وإزالة الأصنام العديدة التي حول الطائف . وقد استغرقت المهمة بضع عشرة يوماً ، لأنه لما رجع اتفق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع أهل الطائف وأنهى حصارهم ، وكان الحصار بضعة عشر يوماً .
وقد عقد الكليني في الكافي ( 6 / 526 ) باباً بعنوان : باب تزويق البيوت ، روى فيه أربعة عشرحديثاً ، منها : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن جبرئيل ( عليه السلام ) أتاني فقال : إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب ، ولا تمثال جسد ، ولا إناء يبال فيه . ومنها : من مثل تمثالاً كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح .
ومنها : أن أبا بصير سأل الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن الوسادة والبساط يكون فيه التماثيل ؟ فقال : لا بأس به ، يكون في البيت ، قلت : التماثيل ؟ فقال : كل شئ يوطأ فلا بأس به .
ومنها : في قول الله عز وجل : يَعْمَلُونَ لَه ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وتَماثِيلَ ، فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها الشجر وشبهه .
ومنها : عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في هدم القبور وكسر الصور . . بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة فقال : لا تدع صورة إلا محوتها ، ولا قبراً إلا سويته ، ولا كلباً إلا قتلته ) .
وروى البرقي في كتاب المحاسن ( 2 / 614 ) : أرسلني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هدم القبور وكسر الصور . وفي رواية : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتاني جبرئيل فقال :
يا محمد إن ربك ينهى عن التماثيل ) .
وقال المجلسي في روضةالمتقين ( 7 / 667 ) : ( وفي الصحيح ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
إن جبرئيل أتاني فقال : إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا تمثال جسد ، ولا إناء يبال فيه . . وفي القوي كالصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إن جبرئيل قال : إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ، يعني صورة إنسان ولا بيتاً فيه تماثيل . . وفي الحسن كالصحيح ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : من مثل تمثالاً كلف
--------------------------- 304 ---------------------------
يوم القيمة أن ينفخ فيه الروح . وفي الموثق كالصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال سألته عن الوسادة والبساط يكون فيه التماثيل ؟ قال : لا بأس به . قلت التماثيل ؟ فقال : كل شئ يوطأ فلا بأس به . وفي الموثق كالصحيح في قول الله عز وجل : يَعْمَلُونَ لَه ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وتَماثِيلَ : فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها الشجر وشبهه ) .
وفي المستجاد من الإرشاد / 92 : ( وأنفذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خيل ، وأمره أن يطأ ما يجد ويكسر كل صنم وجده ، فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير ، فبرز له رجل يقال له شهاب في غبش الصبح فبرز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يقول :
ان على كل رئيس حقا * أن يروى الصعدة أو تندقا
ثم ضربه فقتله ومضى في تلك الخيل ، حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو محاصر أهل الطائف ) .
* *
وروى المخالفون شبيهاً بما روينا . قال الألباني في أحكام الجنائز / 207 : ( عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن لا تدع تمثالاً [ رواية : صورة ] [ في بيت ] إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ) . أخرجه مسلم ( 3 / 61 ) وأبو داود ( 2 / 70 ) والنسائي ( 51 / 28 ) والترمذي ( 2 / 153 - 154 ) حسنه ، والحاكم ( 1 / 369 ) والبيهقي ( 4 / 3 ) والطيالسي في ( رقم 155 ) وأحمد ( رقم 741 ، 1064 ) من طريق أبي وائل عنه ، والطبراني في ( المعجم الصغير ) ( ص 29 ) من طريق أبي إسحاق عنه . وله في مسند الطيالسي ( رقم 96 ) وأحمد ( رقم 657 ، 658 ، 683 ، 689 ) طريقان آخر ان عن علي رضي الله عنه ) .
* *
أقول : ومع تشابه المروي بيننا وبينهم ، لكن فقهاءنا اقتصروا في التحريم على المتيقن من الأمر النبوي ، وهو إزالة الأصنام التي كان يعبدها العرب ، وكان عدد منها حول الطائف ، قال الكلبي في كتاب الأصنام ( 1 / 16 ) : ( واللات بالطائف وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة ، وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك ، وكانوا قد بنوا عليها بناء . وكانت قريش وجميع العرب تعظمها )
--------------------------- 305 ---------------------------
وفي التحرير والتنوير لابن عاشور ( 27 / 11 ) : ( فاللات في أعلى تهامة بالطائف ، والعزى في وسطها بنخلة بين مكة والطائف ، ومناة بالمشلل بين مكة والمدينة ) .
وفي كتاب : العرب في العصور القديمة ( 1 / 382 ) : ( اللات : وهي القوة الإلهية بالدرجة الأولى ، ويمثلها في الطائف حجر مربع . والعزى : الزهرة التي تقابل فينوس عند الرومان . وهي الآلهة التي يشير اسمها إلى القوة ، وكانت تمثل عند قريش أقدس القوى الإلهية كانت تمثلها شجرة في منطقة نخلة الواقعة إلى شرقي مكة ، وكان محرابها يتكون من ثلاث شجرات ، بينما كان القرشيون يقدمون إليها القرابين من الضحايا البشرية ، في كهف مقدس بالمنطقة يدعى كهف غبغب . ومناة : الآلهة التي كانت تمثل القدر كان محرابها أو رمزها الأساسي حجراً أسود في موقع القديد على الطريق بين مكة ويثرب ) .
* *
وأما فقهاء الوهابية ، فقد أفرطوا وحملوا النهي النبوي ما لا يحتمل ، فقالوا يجب طمس كل ما يخشى منه أن يقدسه العوام ! وقد وجه أحدهم سؤالاً إلى هيئة الفتوى السعودية ، هذا نصه :
ما حكم الشرع في هدم الآثار الإسلامية الذي حصل في السعودية ، وهل من مبرر شرعي لذلك ؟ أفيدونا أفادكم الله . الأمر محير جداً !
فأجابوا : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فإن الآثار التي يخشى منها على عقائد العامة وغلوهم فيها يجب على ولي أمر المسلمين أن يزيلها سداً للذريعة ، كما فعل عمر عندما بلغه أن بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بايع تحتها الصحابة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيعة الرضوان فأمر بقطعها ، كما في عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني وغيره . وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج أن علياً رضي الله عنه أمره أن يهدم القبور المرتفعة وقال له : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته . والمسوغ الشرعي لذلك واضح ، وهو الحفاظ على
--------------------------- 306 ---------------------------
عقائد الناس من الغلو والبدع والخرافات وهذا واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وأما الآثار التي لا يخشى منها ضرر على عقائد المسلمين فلا تنبغي إزالتها ،
بل الأولى تركها للاعتبار وتذكر أخبار السلف الصالح ، وهذا ما لم يدع سبب إلى إزالتها ، كتوسعة الطريق أو المسجد مثلاً . ولا نعلم أن هناك أثراً أزيل لغير واحد من الأسباب المذكورة ، وانظر الفتاوى رقم : 14693 ، 63839 ، 37982 . والله أعلم ) . ( لجنة الفتوى بالشبكة الإسلامية : 1 / 3322 ) .
فقد توسع هؤلاء في مفهوم الشرك والعبادة ، كما توسعوا في هدم الآثار ، بحجة سد الذرائع حتى لا تعبد كالأصنام ! وخسر المسلمون بسبب إفراطهم معالم عظيمة للإسلام في مكة والمدينة وغيرهما ، مضافاً إلى القبور المشرفة للعترة والصحابة .
* *
ولا يصح استدلالهم بقطع عمر شجرة الحديبية التي بايع المسلمون تحتها ، لأن أحداً من المسلمين لم يعبدها ، ولا يخاف عليهم أن يعبدوها ، غاية الأمر أنهم يتبركون بها وبمكانها ويصلون عنده . وقد قطعها عمر لأن عنده عقدة من الحديبية ومن صلحها وشجرتها وبيعتها ، فقد خالف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورفض الصلح واعتزل ، وحاول أن يجد معه أنصاراً ليقوموا ضد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كما صرح هو بلسانه !
* *
--------------------------- 307 ---------------------------

الفصل السادس عشر: استكمل علي ( عليه السلام ) فتح اليمن

1 - بعثه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفتح اليمن

صعدنا درج صنعاء فدخلنا ساحة قالوا اسمها « الحلقة » ومعناها : هنا تحلق اليمانيون حول علي ( عليه السلام ) لما وقف يقرأ عليهم كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وزرنا بعد الساحة مسجد علي ( عليه السلام ) فقالوا هو البيت الذي كان لامرأة فاستأجره علي ( عليه السلام ) وسكن فيه مدة عمله في اليمن ، فحولته صاحبته إلى مسجد .
في الكافي ( 5 / 28 ) : « بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى اليمن وقال لي : يا علي لاتقاتلن أحداً حتى تدعوه ، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه » .
وفي العدد القوية للحلي / 251 : « عن البراء بن عازب قال : بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام ، فكنت فيمن سار معه ، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شئ ! فبعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي بن أبي طالب وأمره أن يُقفل « يُرْجِع » خالداً ومن اتبعه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه ، فكنت ممن عقب مع علي ، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن وبلغ القوم الخبر فجمعوا له ، فصلى بنا علي صلاة الفجر فلما فرغ صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثم ، قرأ عليهم كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأسلمت همدان كلها في يوم واحد ، وكتب بذلك علي إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما قرأ كتابه خر ساجداً ثم جلس فقال : السلام على همدان ، وتتابع أهل اليمن الإسلام » .
--------------------------- 308 ---------------------------
وروته مصادر السلطة ، وسماها ابن هشام « 4 / 1028 و 1056 » : غزوة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى اليمن ، غزاها مرتين ، وتوغل في مناطقها .
ورواه الصالحي في سبل الهدى : 6 / 235 : عن البيهقي في السنن والدلائل والمعرفة . وروى عن بريدة قال : ( فافتتح عليُّ حصناً فغنمت أواقي ذوات عدد وأخذ علي منه جارية ، قال : فكتب معي خالد إلى رسول الله يخبره ! قال الترمذي : يعني النميمة ! قال : فلما قدمت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرأ الكتاب رأيته يتغير لونه فقال : ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله تعالى ورسوله ؟ فقلت : أعوذ بالله من غضب الله تعالى وغضب رسوله ، إنما أنا رسول . فسكت .
وفي رواية : فكتب خالد إلى رسول الله فقلت : ابعثني فبعثني ، فجعل يقرأ الكتاب وأقول صدق ، فإذا النبي قد احمر وجهه فقال : من كنت وليه فعلي وليه ! ثم قال : يا بريدة أتبغض علياً ؟ فقلت : نعم . قال : لاتبغضه فإن له من الخمس أكثر من ذلك .
وفي رواية : والذي نفسي بيده لنصيب علي في الخمس أفضل من وصيفة ، وإن كنت تحبه فازدد له حباً .
وفي رواية : لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي . قال بريدة : فما كان في الناس أحد أحب إلي من علي ! قال الحافظ : كان بعث علي بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة . وهو وليكم بعدي : أي يلي أمركم .
الباب الثاني والسبعون في سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن المرة الثانية : قال محمد بن عمر « الواقدي » وابن سعد ، واللفظ للأول : قالوا بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
علياً إلى اليمن في رمضان وأمره أن يعسكر بقناة ، فعسكر بها حتى تتامَّ أصحابه فعقد له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لواء وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة ، فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه ، وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار ، وجعل له ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه وقال له : إمض ولا تلتفت . فقال علي : يا رسول الله ما أصنع ؟ قال : إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك ، وادعهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة ، فإن أجابوا فمرهم بالزكاة ، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك .
--------------------------- 309 ---------------------------
والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت . فخرج علي في ثلاث مائة فارس فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد . فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج ، فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبايا نساء وأطفالاً ونعماً وشاءً وغير ذلك ، فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي ، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً .
ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة ، فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال ، صف أصحابه ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي فتقدم به ، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز ، فبرز إليه الأسود بن خزاعي فقتله الأسود وأخذ سلبه . ثم حمل عليهم علي وأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً ، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً ، وكف علي عن طلبهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا ، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام وقالوا : نحن على من وراءنا من قومنا ، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله
تعالى . وجمع عليٌّ ما أصاب من تلك الغنائم ، فجزأها خمسة أجزاء ، فكتب في سهم منها لله ثم أقرع عليها ، فخرج أول السُّهمان سهم الخمس . وقسم عليٌّ على أصحابه بقية المغنم ، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً ، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس ، ثم يخبرون رسول الله بذلك فلا يرده عليهم ، فطلبوا ذلك من علي فأبى وقال : الخمس أحمله إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
يرى فيه رأيه . وأقام فيهم يقرؤهم القرآن ، ويعلمهم الشرائع .
وكتب إلى رسول الله كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر ، فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يوافيه الموسم ، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى علي بذلك فانصرف علي راجعاً ، فلما كان بالفتق « مكان » تعجل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخبره الخبر ، وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع ، فوافى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكة قد قدمها للحج ، وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة ونَعَمٌ وشاءٌ مما غنموا ونعمٌ من صدقة أموالهم ، فسأل أصحاب
--------------------------- 310 ---------------------------
علي أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها ، فكساهم منها ثوبين ثوبين فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي ليتلقاهم ليقدم بهم ، فرأى على أصحابه الثياب فقال لأبي رافع : ما هذا ؟ فقال : كلموني ففرقت من شكايتهم وظننت أن هذا ليسهل عليك ، وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم .
فقال : قد رأيت امتناعي من ذلك ثم أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم ! فنزع علي الحلل منهم ! فلما قدموا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شكوه ، فدعا علياً فقال : ما لأصحابك يشكونك ؟ قال : ما أشكيتهم ، قسمت عليهم ماغنموا ، وحبست الخمس حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك . فسكت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
أقول : يظهرأن خالداً لم يطع أمرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد أمره أن يرجع ، وخيَّر جنوده بين البقاء مع علي ( عليه السلام ) أو الرجوع ! لكنه بقي يتتبع عمل علي ( عليه السلام ) ويرسل إلى النبي يشكوه وأطاعه بعض جيشه وهم عصاة مثله !
كما يتضح من روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) أعطى جنوده أربعة أخماس الغنيمة فطمعوا في خمس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واستغلوا مسارعة علي ( عليه السلام ) قبلهم إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأصروا على أبي رافع وأخذوا من الخمس الذي للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغير حق ، فلما رجع علي ( عليه السلام ) نزعه منهم ! فظلم رواة الحكومة علياً ( عليه السلام ) فصوروا أنه أخطأ مع جنوده !
ثم تابع الصالحي : « الباب الرابع والتسعون في وفود همدان إليه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قالوا قدم وفد همدان على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعليهم مقطعات الحبرات مكففة بالديباج ، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نِعْمَ الحيُّ همدان ما أسرعها إلى النصروأصبرها على الجهد ، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام . فأسلموا وكتب لهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاباً بمخلاف خارف ، ويام ، وشاكر ، وأهل الهضب ، وحقاف الرمل من همدان ، لمن أسلم منهم . . .
وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن البراء : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام . قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد ، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام ، فلم يجيبوه . .
إلى آخر ما تقدم .
--------------------------- 311 ---------------------------
وقال ابن إسحاق : فقام مالك بن نمط بين يديه فقال : يا رسول الله نُصَيَّةٌ من همدان من كل حاضر وباد ، أتوك على قُلَّصٍ نواح ، متصلة بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام وشاكر ، أهل السواد والقود أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الإلاهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض عن سِنَة ماحل ، ولا سوداء عنقفير ، ما أقام لعلع ، وما جرى اليعفور بصيلع .
فكتب لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاباً فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه ، أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون ظلافها ، ويرعون عفاءها ، ولنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة ، ولهم من الصدقة الثلب والتاب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري ، وعليهم فيها الصالغ والقارح . لكم بذلك عهد الله ، وذمام رسوله ، وشاهدكم المهاجرون والأنصار . فقال في ذلك مالك بن نمط :
ذكرت رسول الله في فحمة الدجى * ونحن بأعلى رحرحان وصلدد
وهن بنا خوص طلائحُ تغتلي * بركبانها في لاحبٍ متمدد
على كل فتلاء الذراعين جسرة * تمر بنا مر الهجف الخفيدد
حلفت برب الراقصات إلى منى * صوادر بالركبان من هضب قردد
بأن رسول الله فينا مصدق * رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حملت من ناقة فوق رحلها * أشد على أعدائه من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه * وأمضى بحد المشرفي المهند »
وفي رواية عن أبي رافع : « بعث رسول الله علياً أميراً على اليمن ، وبعث خالد بن الوليد على الجبل فقال : إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس ، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله وأخذ علي جارية من الخمس ، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال : إغتنمها فأخبر النبي ما صنع ! فقدمت المدينة ودخلت المسجد
--------------------------- 312 ---------------------------
ورسول الله في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا : ما الخبر يا بريدة ؟ فقلت : خيراً فتح الله على المسلمين ، فقالوا : ما أقدمك ؟ قلت : جارية أخذها علي من الخمس فجئت لأخبر النبي ! فقالوا : فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي ! ورسول الله يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال : ما بال أقوام ينتقصون علياً ! من تَنَقَّصَ علياً فقد تنقصني ومن فارق علياً فقد فارقني ! إن علياً مني وأنا منه خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .
يا بريدة : أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ ، وأنه وليكم بعدي ؟ فقلت : يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً ! قال : فما فارقته حتى بايعته على الإسلام « ! » أوسط الطبراني : 6 / 163 « .
أقول : بحثنا شكاية خالد وجواب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العقائد الإسلامية « 4 / 91 » .

2 - ثم أرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاضياً إلى اليمن

في بصائر الدرجات / 472 ، عن عبد العزيز القراطيسي : « قلت لأبي عبد الله : جعلت فداك إن الناس يزعمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجه علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن ليقضى بينهم فقال علي : فما وردت عليَّ قضية إلا حكمت فيها بحكم الله وحكم رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال صدقوا . قلت : وكيف ذاك ولم يكن أنزل القرآن كله ، وقد كان رسول الله غائباً عنه ؟ فقال : يتلقاه به روح القدس » .
وفي بصائر الدرجات / 521 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « دعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجهني إلى اليمن لأصلح بينهم ، فقلت له : يا رسول الله ( عليه السلام ) إنهم قوم كثير وأنا شاب حدث . فقال لي : يا علي ( عليه السلام ) إذا صرت بأعلى عقبة فيق ، فناد بأعلى صوتك : يا شجر يا مدر يا ثرى ، محمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقرؤكم السلام ! قال : فذهبت فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن ، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوي مشرعون أسنتهم ، متنكبون قسيهم ، شاهرون سلاحهم ، فناديت بأعلى صوتي : يا شجر يا مدر يا ثرى محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقرؤكم السلام ، قال : فلم يبق شجرة ولا مدرة ولا ثرى إلا ارتجت بصوت واحد : وعلى محمد رسول الله وعليك السلام ! فاضطربت قوائم القوم ،
--------------------------- 313 ---------------------------
وارتعدت ركبهم ، ووقع السلاح من أيديهم ، وأقبلوا مسرعين ، فأصلحت بينهم وانصرفت » .

3 - ثم أرسله إلى اليمن عندما ارتد ابن معديكرب

في البحار : 21 / 356 ، والإرشاد ( 1 / 145 ) : « لما عاد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر ، قال : يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع ! فقال يا عمرو : إنه ليس كما تظن وتحسب ! إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة ، فلا يبقى ميت إلا نشر ولا حي إلا مات ، إلا ما شاء الله ، ثم يصاح بهم صيحة أخرى ، فينشر من مات ، ويُصَفُّونَ جميعاً وتنشق السماء ، وتهد الأرض ، وتخر الجبال هداً ، وترمي النار بمثل الجبال شرراً ، فلا يبقي ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه ، إلا من شاء الله ! فأين أنت يا عمرو من هذا ؟
قال : ألا إني أسمع أمراً عظيماً ، فآمن بالله ورسوله ، وآمن معه من قومه ناس ، ورجعوا إلى قومهم .
ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبيّ بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته ثم جاء به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أُعْدُني على هذا الفاجر الذي قتل والدي ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية ، فانصرف عمرو مرتداً ، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ، ومضى إلى قومه !
فاستدعى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي بن أبي طالب وأمره على المهاجرين ، وأنفذه إلى بني زبيد ، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمره أن يعمد لجعفى ، فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين . فسار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص ، واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري ، فأما جعفى فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين : فذهبت فرقة إلى اليمن وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكتب إلى خالد بن الوليد : أن قف حيث أدركك رسولي فلم يقف !
--------------------------- 314 ---------------------------
فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص : تعرض له حتى تحبسه ، فاعترض له خالد حتى حبسه ، وأدركه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فعنفه على خلافه !
ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له كثير ، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا با ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة ؟ قال : سيعلم إن لقيني ! قال : وخرج عمرو فقال : من يبارز ؟ فنهض إليه أمير المؤمنين وقام إليه خالد بن سعيد وقال له : دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك ، فوقف ثم برز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فصاح به صيحة فانهزم عمرو ! وقتل أخاه وابن أخيه ، وأُخِذَت امرأته ركانة بنت سلامة ، وسبي منهم نسوان ، وانصرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم ، ويؤمِّن من عاد إليه من هرابهم مسلماً ، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له ، فعاد إلى الإسلام ، فكلمه في امرأته وولده فوهبهم له !
وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزوراً قد نحرت فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعاً ، وكان يسمى سيفه الصمصامة ، فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده ، وهب له عمرو الصمصامة .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد اصطفى من السبي جارية ، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له : تقدم الجيش إليه فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه ، وقَعْ فيه !
فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه ، فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه ، فقال له عمر : إمض لما جئت له ، فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي ! فدخل بريدة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة ، فجعل يقرأه ووجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتغير فقال بريدة : يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً ؟ إن علي بن أبي طالب يحل له من الفئ ما يحل لي ، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك
--------------------------- 315 ---------------------------
ولقومك ، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي !
يا بريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله ! قال بريدة : فتمنيت أن الأرض انشقت لي فسخت فيها وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله . يا رسول الله استغفر لي ، فلن أبغضن علياً أبداً ، ولا أقول فيه إلا خيراً ،
فاستغفر له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
أقول : نلاحظ أن خالد بن الوليد كان مأموراً من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بطاعة علي ( عليه السلام ) ، ولكنه كان يتصرف كأنه مستقل ، وقد تركه علي ( عليه السلام ) حتى إذا خشي الضرر على مهمته من تصرفه ، أمر خالداً بن سعيد أن يمنعه من مواصلة مسيره ، فمنعه ! وهذا يثبت شجاعة خالد بن سعيد وخوف خالد بن الوليد منه ومن علي ( عليه السلام ) ، لأنهما أشجع منه ، ومكانتهما في قريش ومكة أعلى من مكانته ! وقد يكون علي ( عليه السلام ) منعه من التقدم إلى زبيد لخوفه عليه من الهزيمة أمام ابن معديكرب فيسبب هزيمة المسلمين ثم ظهر أن علياً ( عليه السلام ) كان أعد خطة لهزيمة ابن معديكرب بدون أن يقتله ! ولا بد أن ابن الوليد بهت لفزع عمرو من صرخة علي ( عليه السلام ) ! ويبدو أن تلك الصرخة الحيدرية بأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفيها سرٌّ من أسراره ! لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أنذر عمرواً من فزع الآخرة قال له عمرو : « يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع » ! وعندما ارتد عمرو أراه الله الفزع في الدنيا ، وأبقاه حياً .
وقد ورد في بعض الروايات أن علياً ( عليه السلام ) أسر عمرواً فقد يكون في تلك السفرة ، أو بعدها ، ففي عيون المعجزات / 19 : ( أيكم قاتل العَمرين وآسر العمرين . والعمران اللذان قتلهما : عمرو بن عبد ود ، وعمرو بن الأشعث المخزومي ، والعمران اللذان أسرهما : فأبو ثور عمرو بن معدي كرب ، وعمرو بن سعيد الغساني ، أسره في بدر ) .
ومن ذلك اليوم صار عمرو بن معدي كرب صديقاً محباً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فعندما استغاث خالد بن الوليد بأبي‌بكر ثم أبو عبيدة بعمر ، ليرسل له مدداً لليرموك ، لجأ إلى علي ( عليه السلام ) ، فكتب إلى مالك الأشتر وعمرو بن معديكرب وجاءا بفرسانهم ، وكانوا أبطال اليرموك ، وقطفوا النصر للمسلمين .
--------------------------- 316 ---------------------------

4 - وأرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى همدان فأسلمت على يده

اتفق المؤرخون على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل علياً ( عليه السلام ) إلى قبائل همدان فأسلمت على يده كلها ، وسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شكراً لله على إسلامها وقال : السلام على همدان ، وكان ذلك في السنة الثامنة بعد حنين ، وقيل في العاشرة ، ثم أسلم قبائل مذحج . وهمدان ومذحج هما الشطر الأعظم من اليمن .
وقد بعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن ثلاث مرات ، في السنة الثامنة إلى قبائل همدان ، وفي العاشرة إلى قبائل مذحج ، وأرسله بينهما قاضياً على اليمن .
قال في أعيان الشيعة : 1 / 410 : « قال دحلان في سيرته . . . بَعْثُ عليٍّ إلى همدان لم يكن سنة عشر إنما كان سنة عشر بعثه إلى بني مذحج ، وأما بعثه إلى همدان فكان سنة ثمان بعد فتح مكة ، فيكون بعث علي إلى اليمن حصل مرتين » .
وفي المستجاد من الإرشاد / 111 : « لما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقليده قضاء اليمن وإنفاذه إليهم ليعلمهم الأحكام ، ويبين لهم الحلال من الحرام ، ويحكم فيهم بأحكام القرآن قال له : تندبني يا رسول الله للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء . فقال له : أدنُ مني فدنا منه ، فضرب على صدره وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه . قال أمير المؤمنين : فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام » .

5 - زعم كعب أنه لقي علياً ( عليه السلام ) في اليمن

ادعى كعب الأحبار أنه لقي علياً ( عليه السلام ) باليمن وأسلم ! ففي مغازي الواقدي : 1 / 668 : « لما قدم علي بن أبي طالب اليمن خطب به ، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته ، فأقبل على راحلته في حلة ، معه حبر من أحبار اليهود حتى استمعا له . . قال كعب الأحبار : لما قدم علي اليمن لقيته فقلت : أخبرني عن صفة محمد ، فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم ، فقال : مم تتبسم ؟ فقلت : مما يوافق ما عندنا من صفته . . قال : فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله وتوفي أبو بكر فقدمت في خلافه عمر ، ويا ليت أني كنت تقدمت في الهجرة » !
أقول : كذب كعب في ادعائه ، لأنه إنما أسلم في أواسط خلافة عمر !
--------------------------- 317 ---------------------------

6 - أهدى علي ( عليه السلام ) إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أفراساً من اليمن

في الكافي : 6 / 535 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : « أهدى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربعة أفراس من اليمن ، فقال : سمها لي ، فقال : هي ألوان مختلفة قال : ففيها وضح ؟ فقال : نعم فيها أشقر به وضح ، قال : فأمسكه عليَّ ، قال : وفيها كميتان أوضحان ، فقال : أعطهما ابنيك ، قال : والرابع أدهم بهيم . قال : بعه واستخلف به نفقة لعيالك ، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح » .
* *
--------------------------- 318 ---------------------------

الفصل السابع عشر: استخلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المدينة في غزوة تبوك

استخلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المدينة في غزوة تبوك
1 - قبيل تبوك أرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى طيئ
بعد انتصار الروم على الفرس ومقتل كسرى ، دخل النظام الفارسي في صراع داخلي على منصب » الشاهنشاه « فارتفع خطرهم الفعلي عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين . لكن زاد خطر الروم ، وأخذ قيصر يحضِّرلغزو المدينة والجزيرة ، وكان اعتماده على ملك الشام ، وعلى الأكيدر ملك دومة الجندل ، كما عمل على تحويل قبيلة طئ إلى قاعدة مساندة ، وقد استجاب له عدي بن حاتم واعتنق المسيحية وكان يقضي وقتاً من سنته في الشام .
« قدم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الشام ودعاه إلى الإسلام فقال : إني نصراني ركوسي . فقال إنك لا دين لك ، إنك تصنع ما لا يصلح لك في ركوسيتك ، فأبصر وأسلم » . « تاريخ دمشق : 40 / 78 » .
وفي فايق الزمخشري ( 2 / 6 ) : « إنك تأكل المرباع وهو لا يحل لك . . المرباع الربع ومثله المعشار ، وكان يأخذه الرئيس مع المغنم في الجاهلية . الركوسية قوم بين النصارى والصابئين » . « والرِّكس بالكسر : الجسر » . « لسان العرب : 6 / 101 » .
فقد اختارعدي بن حاتم المسيحية الشرقية التي فيها أفكار من الصابئة ، ولا بد أن مذهبه أخذ ينتشر في قبيلته ، الذين كانوا وثنيين يعبدون صنمهم الفُلس ، وله معبد مشهور ، وقد أهدى الحارث بن شمر ملك الغساسنة هدية لصنم طئ فيها سيوف ، مع أنه مسيحي على دين قيصر ! لذلك رأى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقلم أظافر هرقل من الجزيرة قبل غزوة تبوك ! فأرسل علياً ( عليه السلام )
في سرية إلى قبيلة طيئ .
قال في الصحيح من السيرة : 26 / 335 ، ملخصاً : « في شهر ربيع الآخر من سنة تسع بعث
--------------------------- 319 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في خمسين ومائة رجل أو مائتين من الأنصار كما ذكره ابن سعد ، على مائة بعير وخمسين فرساً ، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفُلْس وهو صنم لطئ ليهدمه ، فوجدوا عيناً لطئ على بعد ليلة فأخذوه معهم ، وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر ، فهدموا الفلس وخربوه ووجد في خزانته ثلاثة أسياف : رسوب والمخذم وكان الحارث بن أبي شمر ملك الشام قلده إياهما ، وسيف يقال له اليماني ، وثلاثة أدرع . وأخذوا من نعمهم وسبوا منهم ، وكان في السبي سفانة أخت عدي بن حاتم ، وهرب عدي إلى الشام ، فلما نزلوا رَكَك اقتسموا الغنائم ، وعزلوا للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) السيوف والخُمس ، ولم يقسم آل حاتم حتى قدم بهم المدينة .
وكانت أخت عدي إذا مرَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقول : يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن علينا من الله عليك ، فسألها : من وافدك ؟ فتقول : عدي بن حاتم . فيقول : الفار من الله ورسوله ؟ فلما كان يوم الرابع مرَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم تتكلم فأشار إليها رجل قومي فكلميه فكلمته أن يمن عليها فمنَّ عليها فأسلمت . وسألت عن الرجل الذي أشار إليها فقيل : علي وهو الذي سباكم أمَاتعرفينه ؟ فقالت : لا والله ما زلت مُدْنِيَةً طرف ثوبي على وجهي ، وطرف ردائي على بُرقعي من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار ، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه .
وفي نص آخر قالت : يا محمد أرأيت أن تخلي عنا ولاتشمت بنا أحياء العرب ؟ فإني ابنة سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ، ويفك العاني ، ويشبع الجائع ، ويكسو العاري ، ويقري الضيف ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ولم يرد طالب حاجة قط ! أنا ابنة حاتم طئ . فقال لها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا جارية ، هذه صفة المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق . قالت : وكساني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحملني وأعطاني نفقة ، فخرجت حتى قدمت على أخي .
قال عدي : « فوالله إني لقاعد في أهلي ، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إليَّ تَؤُمُّنا .
--------------------------- 320 ---------------------------
قال فقلت : ابنة حاتم ، فإذا هي هي ! فلما وقفت عليَّ قالت : أنت القاطع الظالم ، ارتحلت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك : أختك وعورتك ! قال قلت : يا خية لاتقولي إلا خيراً ، فوالله ما لي من عذر ، ولقد صنعتُ ما ذكرتِ ! قال : ثم نزلت فأقامت عندي . قال : فقلت لها وكانت امرأة حازمة : ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟ قالت : أرى والله أن نلحق به سريعاً ، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكاً فلن نذل في عز اليمن ، وأنت أنت .
قال قلت : والله إن هذا الرأي ، فخرجت حتى قدمت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده وعنده امرأة وصبيان ، فعرفت أنه ليس بمُلك كسرى ولا قيصر ، فسلمت عليه فقال : مَن الرجل ؟ قال قلتُ : عدي بن حاتم . فرحب به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقربه وأخذه إلى بيته فلقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها . قال عدي : قلت في نفسي والله ما هذا بمَلِك . قال : ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقدمها إلي ، فقال : أجلس على هذه . قلت : بل أنت فاجلس . فقال : بل أنت فاجلس عليها . فجلست عليها وجلس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على الأرض . فقلت في نفسي : ما هذا بأمر ملك ! فدخل الإسلام في قلبي وأحببت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً لم أحبه شيئاً قط !
قال : ثم أقبل عليَّ فقال : هيه يا عدي بن حاتم ، أفررت أن توحد الله وهل من أحدٌ غيرالله ؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تكبر الله ومن أكبر من الله ؟ هيه يا عدي بن حاتم ، أفررت أن تعظم الله ومن أعظم من الله ؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن لا إله إلا الله وهل من إلهٌ غير الله ؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن محمداً رسول الله ؟ ! قال : فجعل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول نحو هذا وأنا أبكي . قال :
ثم أسلمت .
قال : فلعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم ، والله لتفتحن عليهم كنوز كسرى بن هرمز . قلت : كنوز كسرى بن هرمز ؟ ! قال : كنوز كسرى بن هرمز . قال عدي : فأسلمت فرأيت وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد استبشر ! قال
--------------------------- 321 ---------------------------
عدي : وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

2 - واستخلف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المدينة فلغط المنافقون !

في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 443 : « وكان سبب تخلف علي ( عليه السلام ) عنه أن تبوك بعيدة عن المدينة فلم يأمن الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العرب أن يصيروا إليها ، إذ كان قد وترهم وسفك دماءهم . وأخرى أنه علم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لا يكون هناك قتال .
وخرج في جيش يُروى أنهم كانوا أكثر من أربعين ألف رجل ، وخلَّف بالمدينة جيشاً وهو علي ( عليه السلام ) وحده . فحصن الله عز وجل به المدينة وعفف به حرمهم ، فتكلم فيه المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالاً له ! فلحق علي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالاً لي ؟ فتضاحك رسول الله ثم أمر فنودي في الناس كلهم فاعصوصبوا وتجمعوا ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أيها الناس ما فيكم من أحد إلا وله خاصة من أهله ، ألا إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي !
فصار علي من النبي ( عليه السلام ) بذلك المكان الذي أردوا أن يضعوا منه ، بمنزلة هارون من موسى في أسبابه كلها ، إلا ما استثناه من النبوة . ولا أحسبهم يأتون بمثلها في أحد من العالمين » .
وفي المناقب لمحمد بن سليمان : 1 / 523 : « عن الحارث بن ثعلبة قال : قلت لسعد بن أبي وقاص : هل شهدت لعلي منقبة ؟ قال : شهدت لعلي أربع مناقب ، لأن يكون لي إحداهن أحب إلي من الدنيا وما فيها . . والخامسة خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غزوة تبوك فخلف علياً في أهله فقالت قريش استثقله ! فجاء علي فأخذ بغرز الناقة وقال : يا رسول الله إني لخارج معك وتابعك ، زعمت قريش أنك استثقلتني ! فقال : هل منكم إلا وله خاصة من أهله ؟ أنت مني بمنزلة هارون من موسى » .
--------------------------- 322 ---------------------------
وقال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد : 1 / 154 : « فاستخلفه ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلك فيما تظافرت به الرواية أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) على المدينة حسدوه لذلك ، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه ، وعلموا أنها تُحرس به ولا يكون للعدو فيها مطمع ، فساءهم ذلك ! وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها ! وغبطوه ( عليه السلام ) على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله ، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر . فأرجفوا به وقالوا : لم يستخلفه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إكراماً له وإجلالاً ومودة ، وإنما خلفه استثقالاً له . فلما بلغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إرجاف المنافقين به ، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم فلحق بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إرجع يا أخي إلى مكانك فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . .
ألا ترى أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعل له كافة منازل هارون من موسى ، إلا المستثنى منها لفظاً أو عقلاً . . وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته ، وأنه كان أحب قومه إليه وأفضلهم لديه . قال الله عز وجل حاكياً عن موسى ( عليه السلام ) : قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي .
فأجاب الله تعالى مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وأمنيته حيث يقول : قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى . . ولو علم الله تعالى أن نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والأنصار لما أذن له في تخليف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .

3 - ناجاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يومها فاعترض أبو بكر وعمر وعائشة !

في خصائص الأئمة / 66 : « وروي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأطال فقال أبو بكر لعمر : لقد أطال مناجاته لابن عمه !
--------------------------- 323 ---------------------------
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما أنا ناجيته ولكن الله ناجاه ، وفي ذلك يقول حسان :
ويوم الثنية عند الوداع * وأجمع نحو تبوك المضيا
تنحى يودعه خالياً * وقد وقف المسلمون المطيا
فقالوا يناجيه دون الأنام * بل الله أدناه منه نجيا
عليٌّ فمُ أحمدٍ يوحي إليه * كلاماً بليغاً ووحياً خفيا » .
وفي مناقب ابن سليمان : 1 / 333 ، عن أبي رافع أن عائشة جاءت لمساعدة أبيها وعمر ، قال : « لما خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزوة تبوك خلف علياً ( عليه السلام ) وكثرت فيه الأقاويل من الناس فقالوا : لم يخلفه إلا بغضاً له وكراهية أن يتبعه ! فبلغ ذلك علياً فلحقه على مرحلة أو مرحلتين فسارمحادثه وهما على بعيرين لهما والناس ينظرون إليهما وأنا قريب منهما ، فجاءت عائشة لما رأت حالهما ومناجاة كل واحد منهما لصاحبه فأدخلت بعيرها بينهما ، فالتفت إليها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ثم قال : أما والله ما يومه منك بواحد ! ثم قال : أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة ، وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة في الدنيا والآخرة ، وأنك أخي ووزيري ووارثي . انصرف فلا يُصلح ما هناك إلا أنا أوأنت » .
هذا ، وتقدم الكلام في مناجاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) في حرب حنين .

4 - رد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على حُسَّاد علي ( عليه السلام ) في طريق عودته من تبوك

ظهر حسدهم لعلي ( عليه السلام ) بعد معركة بدر خاصة ، لأن اسمه سطع في المعارك بطلاً وعضداً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووزيراً مقرباً منه . وصار حسدهم له بغضاً لما قتل صناديد المشركين ، ثم صار اتجاهاً ، ثم صار حزباً ، ثم صار ديناً !
قال بريدة : « لم أجد من الناس أبغض عليَّ من علي بن أبي طالب ، حتى أحببت رجلاً من قريش ولا أحبه إلا على بغض علي » ! « خصائص علي ( عليه السلام ) للنسائي / 102 » .
--------------------------- 324 ---------------------------
ثم زاد بغضهم لعلي ( عليه السلام ) حتى تركوا من أجله السنة ! قال ابن عباس : « اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي » . « سنن البيهقي : 5 / 113 » .
ثم زاد بغضهم لعلي ( عليه السلام ) حتى بنوا مساجد خاصة بسبه ! « بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب ، والوقيعة فيه : مسجد بني عدي ، ومسجد بني مجاشع ، ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة ، ومسجد في الأزد » ! « شرح النهج : 4 / 94 » .
وكان الله تعالى يعلم نشاط المبغضين لعلي ( عليه السلام ) ، فاعتبره خروجاً عن الإسلام ! وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « لا يبغض علياً مؤمن ولا يحبه منافق » . « ابن شيبة : 7 / 503 » .
وفي طريق عودة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تبوك وبعد فشل مؤامرتهم لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفشل مؤامرتهم لقتل علي ( عليه السلام ) في المدينة ، بلغه أن جماعة يتكلمون على علي والعترة ( عليهم السلام )
فأمر أن يُعمل له منبرٌ ، وخطب وبلغ رسالة ربه في عترته ( عليهم السلام ) ، وأتم لهم الحجة !
قال أنس بن مالك : « رجعنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قافلين من تبوك ، فقال لي في بعض الطريق : ألقوا لي الأحلاس والأقتاب ، ففعلوا فصعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : معاشر الناس ، مالي إذا ذكر آل إبراهيم تهللت وجوهكم ، وإذا ذكر آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كأنما يفقأ في وجوهكم حب الرمان ! فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ، ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب ، لأكبه الله في النار » ! « أمالي الطوسي / 308 » .
وفي نوادر المعجزات لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 98 : « روى عبد الله بن مسعود عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : كنا في غزاة تبوك ونحن نسير معه فقال : يا ابن مسعود إن الله عز وجل أمرني أن أزوج فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففعلت . وقال لي جبرئيل : إن الله عز وجل قد بنى جنة من قصب اللؤلؤ ، بين كل قصبة إلى قصبة لؤلؤة من ياقوتة مشذرة بالذهب ، وجعل سقوفها زبرجداً أخضر ، فيها طاقات من اللؤلؤ مكللة بالياقوت ، وجعل عليها غرفاً ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من در ، ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد ، وقباباً من در قد شعبت بسلاسل الذهب ، وحفت بأنواع الشجر ، وبنى في كل قصر قبة ، وجعل في كل قبة أريكة من درة بيضاء ، فرشها السندس والإستبرق ، وفرش أرضها بالزعفران والمسك والعنبر ، وجعل في كل قبة مائة باب ، وفي كل باب
--------------------------- 325 ---------------------------
جاريتان وشجرتان ، وفي كل قبة فرش وكتاب مكتوب حول القبة آية الكرسي .
فقلت : يا جبرئيل لمن بنى الله عز وجل هذه الجنة ؟ فقال : هذه جنة بناها الله تعالى لعلي بن أبي طالب وفاطمة ابنتك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحفة أتحفها الله بها وأقربها عينيك يا محمد » . ودلائل الإمامة / 142 .
وعندما رجع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة رأى أن المنافقين ما زالوا ناشطين في معاداة علي ( عليه السلام ) ، فغضب وأوضح لهم مقامه عند الله تعالى ، وأتم الحجة عليهم : ففي الروضة في فضائل أمير المؤمنين / 169 ، والمسترشد / 615 ، قال : « مرعليٌّ بنفر من قريش في المسجد فتغامزوا ، فدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشكا له ، فخرج وهو مغضب فقال : أيها الناس مالكم إذا ذكرت إبراهيم وآل إبراهيم أشرقت وجوهكم ، وإذا ذكر محمد وآل محمد قست قلوبكم وعبست وجوهكم !
والذي نفسي بيده لو عمل أحدكم عمل سبعين نبياً ، لم يدخل عليَّ حتى يحب هذا أخي علياً وولده ! والذي نفس بيده لو أن أحدهم وافى بعمل سبعين نبياً ، ما قبل الله منه حتى يوافي بولايتي وولاية أهل بيتي » .

5 - في تلك الفترة حاول المنافقون قتل علي ( عليه السلام ) في المدينة !

في الإحتجاج : 1 / 59 : « قال أبو محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على العقبة ، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فما قدروا على مغالبة ربهم !
حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ( عليه السلام ) لما فخَّمَ من أمره وعظَّمَ من شأنه .
من ذلك أنه لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له : إن جبرئيل أتاني وقال لي : يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي ، أو تقيم أنت ويخرج علي ، لا بد من ذلك ، فإن علياً قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما ، وعظيم ثوابه غيري .
--------------------------- 326 ---------------------------
فلما خلفه أكثرَ المنافقون الطعن فيه فقالوا : ملَّه وسئمه وكره صحبته ! فتبعه علي ( عليه السلام ) حتى لحقه وقد وجد غماً شديداً مما قالوا فيه ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أشخصك يا علي عن مركزك ؟ فقال : بلغني عن الناس كذا وكذا . فقال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟
فانصرف علي ( عليه السلام ) إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه ، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعاً ، ثم غطوها بخص رقاق ، ونثروا فوقها يسيراً من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص ، وكان ذلك على طريق علي ( عليه السلام ) الذي لا بد له من سلوكه ، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها ، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ، ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه ! فلما بلغ علي ( عليه السلام ) قُرب المكان لوى فرسه عنقه . فقال علي ( عليه السلام ) : سر بإذن الله سالماً سوياً ، عجيباً شأنك ، بديعاً أمرك ، فتبادرت الدابة فإذ الله عز وجل قد متن الأرض وصلَّبها ولأَّم حفرها ، كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض ، فلما جاوزها علي ( عليه السلام ) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال : ما أكرمك على رب العالمين ، أجازك على هذا المكان الخاوي . فلما قرب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من العقبة التي بإزائها فضائح المنافقين والكافرين ، نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم : هذا جبرئيل الروح الأمين ( عليه السلام ) يخبرني أن علياً ( عليه السلام ) دُبِّرَ عليه كذا وكذا ، فدفع الله عز وجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا » .
وفي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 560 : « فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ! تقيم يا علي فإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولك مثل أجور كل من خرج مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) موقناً طائعاً ، وإن لك عليَّ يا علي أن أسأل الله بمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله ، إن الله يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأرض التي نسير عليها والأرض التي تكون أنت عليها ويقوي بصرك حتى تشاهد محمداً وأصحابه ، في سائر أحوالك وأحوالهم ، فلا يفوتك الأنس
--------------------------- 327 ---------------------------
من رؤيته ورؤية أصحابه ، ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة .
فقام رجل من مجلس زين العابدين ( عليه السلام ) لما ذكر هذا وقال له : يا ابن رسول الله كيف يكون هذا لعلي ، إنما يكون هذا للأنبياء لا لغيرهم !
فقال زين العابدين : هذا هو معجزة لمحمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا لغيره ، لأن الله تعالى لما رفعه بدعاء محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زاد في نوره أيضاً بدعاء محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حتى شاهد ما شاهد ، وأدرك ما أدرك .
ثم قال الباقر ( عليه السلام ) : ما أكثر ظلم هذه الأمة لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأقل إنصافهم له ! يمنعون علياً ما يعطونه سائر الصحابة وعلي ( عليه السلام ) أفضلهم ! فكيف يمنعون منزلة يعطونها غيره ! قيل : وكيف ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : لأنكم تتولون محبي أبي‌بكر بن أبي قحافة وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان ، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان ، وتتولون عثمان بن عفان وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان . حتى إذا صار إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قالوا : نتولى محبيه ، ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم ! وكيف يجوز هذا لهم ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول في علي : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ! فتراهم لا يعادون من عاداه وخذله ، ليس هذا بإنصاف !
ثم أخرى : أنهم إذا ذكر لهم ما اختص الله به علياً ( عليه السلام ) بدعاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكرامته على ربه تعالى جحدوه ، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة ! فما الذي منع علياً ( عليه السلام ) ما جعله لسائر أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟
هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم : انه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته : يا سارية الجبل ، وعجبت الصحابة وقالوا : ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة ! فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا : ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل ؟ فقال : إعلموا أني وأنا أخطب رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزو الكافرين بنهاوند وعليهم سعد بن أبي وقاص ، ففتح الله
--------------------------- 328 ---------------------------
لي الأستار والحجب ، وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك ، وقد جاء بعض الكفار ليدوروا خلف سارية وسائر من معه من المسلمين فيحيطوا بهم فيقتلوهم ، فقلت يا سارية الجبل ليلتجئ إليه فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به ثم يقاتلوا . .
قال الباقر ( عليه السلام ) : فإذا كان هذا لعمر ! فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؟ ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون !
ثم عاد الباقر إلى حديثه عن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : فكان الله تعالى يرفع البقاع التي عليها محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويسير فيها لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حتى يشاهدهم على أحوالهم » .

6 - بعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر بسورة براءة ثم سحبها منه

في تفسير القمي : 1 / 281 : « بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . عن الصادق ( عليه السلام ) قال : نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة ، قال : وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكان سنة في العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، وكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده ، ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً ! فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده ، فقالوا لها إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها ! فقالت وكيف أتصدق بها وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة ! وأشرف عليها الناس . . فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت إن لي زوجاً !
وكانت سيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله ، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده ، وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عز وجل : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً . فكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يقاتل أحداً قد تنحى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة ، وأمره الله بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله ، إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم فتح مكة إلى مدة ، منهم صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، فقال
--------------------------- 329 ---------------------------
الله عز وجل : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، ثم يقتلون حيثما وجدوا .
فهذه أشهر السياحة : عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرة من شهر ربيع الآخر ، فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أبي‌بكر وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في طلبه فلحقه بالروحاء فأخذ منه الآيات ، فرجع أبو بكر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله أأنزل الله فيَّ شئ ؟ قال لا ، إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا
أو رجل مني .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن أبلغ عن الله أن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام ، وأقرأ عليهم : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فأحل الله للمشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر ، حتى يرجعوا إلى مأمنهم ، ثم يقتلون حيث وجدوا » !
وفي الإرشاد ( 1 / 65 ) : « فركب أمير المؤمنين ناقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العضباء وسار حتى لحق أبا بكر ، فلما رآه فزع من لحوقه به واستقبله وقال : فيم جئت يا أبا الحسن أسائر معي أنت أم لغير ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن ألحقك فاقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه . فقال : بل أرجع إليه . وعاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما دخل عليه قال يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليَّ ، فلما توجهت له رددتني عنه ، ما لي أنزل في قرآن ؟ فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ، ولكن الأمين هبط إليَّ عن الله جل جلاله بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعلي مني » .
--------------------------- 330 ---------------------------
وفي الخصال / 369 : قال علي ( عليه السلام ) « فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ، ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ، ويبدي لي البغضاء ويظهرالشحناء ، من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم » .
وفي تفسير العياشي : 2 / 74 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فوافى الموسم فبلغ عن‌الله وعن رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار ، وفي أيام التشريق كلها ، ينادي : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . . خطب علي بالناس واخترط سيفه وقال : لايطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن بالبيت مشرك ولا مشركة . . » .
وفي الإقبال : 2 / 39 : « وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب ، فأذن ثلاث مرات : ألا تسمعون يا أيها الناس : إني رسول رسول الله إليكم ، ثم قال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . تسع آيات من أولها ، ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكررها ، فقال الناس : من هذا الذي ينادى في الناس ؟ فقالوا : علي بن أبي طالب ، وقال من عرفه من الناس : هذا ابن عم محمد ، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد . فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ، ويقرأ على الناس غدوةً وعشية ، فناداه الناس من المشركين : أبلغ ابن عمك ، أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف ، وطعناً بالرماح » !
وفي المناقب : 1 / 392 ، والإقبال : 2 / 41 : عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنه عندما تلا عليهم : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . « قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك ، فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح وإن شئت بدأنا بك ! فقال علي ( عليه السلام ) : أجل أجل إن شئت هلموا ! ثم قال : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ » .
أقول : غضب جماعة أبي‌بكر من أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سحب منه سورة براءة ، فقالوا إنه بعثه أميراً على الحج وذهب علي بالسورة معه !
--------------------------- 331 ---------------------------
فقد روى ابن كثير في سيرته : 4 / 72 ، عن أحمد بن حنبل : « لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال : لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . وهذا ضعيف الإسناد ومتنه فيه نكارة والله أعلم » .
وعدَّ صاحب الغدير ( رحمه الله ) « 6 / 338 » أكثر من ستين من علمائهم ، أوردوا الحديث ولم يطعنوا فيه كما فعل ابن كثير ! وينبغي التذكير بأن قريشاً حجوا في السنة الثامنة وحدهم ، وحج بالمسلمين أمير مكة من قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عتاب بن أسيد ، وفي السنة التاسعة لم يُرو أي توثيق لحج أبي‌بكر بالمسلمين ، ولكنهم جعلوه أميراً على الحج وعلى علي ( عليه السلام ) ! وطبيعي أن يكون علي ( عليه السلام ) أميراً للحج ، لأنه مبعوث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يؤمِّر عليه أحداً أبداً ، بينما أمَّر على أبي‌بكر وعمر ، عمرو بن العاص وغيره .
ويظهر أن كذبتهم ظهرت في زمن الإمام الباقر ( عليه السلام ) فقال : « إنكم لتجعلون لآل أبي‌بكر شيئاً ما كان ! تقولون : إن أبا بكر أمَّ الناس عام براءة ، وما أمَّهم إلا علي » . « مناقب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمحمد بن سليمان : 1 / 474 » .
هذا ، وقد روينا بسند صحيح « أمالي الطوسي / 343 » ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « لما أسري بي إلى السماء ، ثم من سماء إلى سماء ثم إلى سدرة المنتهى ، أوقفت بين يدي ربي عز وجل فقال لي : يا محمد . فقلت : لبيك ربي وسعديك . قال : قد بلوتَ خلقي فأيهم وجدت أطوع لك ؟ قال قلت : ربِّ ، علياً . قال : صدقت يا محمد ، فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدي عنك ويعلم عبادي من كتابي ما لا يعلمون ؟ قال قلت : إختر لي ، فإن خيرتك خير لي . قال : قد اخترت لك علياً ، فاتخذه لنفسك خليفةً ووصياً فإني قد نحلته علمي وحلمي ، وهو أمير المؤمنين حقاً ، لم يقلها أحد قبله ولا أحد بعده . يا محمد ، علي راية الهدى وإمام من أطاعني ، ونور أوليائي ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين . من أحبه فقد أحبني ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، فبشره بذلك يا محمد » . وكشف اليقين / 278 .
--------------------------- 332 ---------------------------

7 - لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك

قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 172 : « كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث أبا بكر ببراءة إلى مكة : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدة فأجله مدته ، والله برئ من المشركين ورسولُه . فسار بها ثلاثة أيام فنزل جبريل ( عليه السلام ) وقال : إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فاستدعى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر ، فخذ براءة من يده ، وامض بها إلى مكة ، فانبذ عهد المشركين إليهم ، وَخَيِّرْ أبا بكر بين أن يسير مع ركابك أو يرجع . فركب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ناقة رسول الله العضباء وسار حتى لحق أبا بكر ، فلما رآه جزع من لحوقه واستقبله وقال : فيمَ جئت يا أبا الحسن ؟ أسائرأنت معي أو لغير ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن ألحقك وأقبض منك الآيات من براءة ، وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه ، فقال : بل أرجع إليه . وعاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما دخل عليه قال : يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إلي ، فلما توجهت إليه رددتني عنه ، أنَزَلَ فيَّ القرآن ؟ فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ، ولكن الأمين هبط إلي عن الله عز وجل بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعلي مني ولا يؤدي عني إلا علي ) .
وروى الجميع بأسانيد صحيحة قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « علي مني وأنا منه ، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي » . ( مسند أحمد : 4 / 165 ، وابن ماجة : 1 / 44 ، والترمذي : 5 / 300 ، وفضائل الصحابة / 15 ، ومجمع الزوائد : 7 / 29 . ونحوه سنة ابن أبي عاصم / 552 ، والجامع الصغير : 2 / 177 ) .
راجع : علل الشرائع : 1 / 189 ، والإرشاد : 1 / 65 ، والعياشي : 2 / 74 ، وإعلام الورى : 1 / 248 ، وفتح الباري : 8 / 40 و 66 ، وعمدة القاري : 4 / 78 ، و : 18 / 17 و 260 ) ، وتحفة الأحوذي : 8 / 386 و : 10 / 152 ، وخصائص النسائي / 90 ، وتخريج الأحاديث : 2 / 49 ، وكشف الخفاء : 1 / 204 ) .
وفي سنن النسائي ( 5 / 129 ) عن سعد بن وقاص قال : « بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر
--------------------------- 333 ---------------------------
ببراءة حتى إذا كان ببعض الطريق ، أرسل علياً فأخذها منه ثم سار بها ، فوجد أبو بكر في نفسه فقال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني » .
وفي مسند أحمد ( 1 / 151 ) قال ( عليه السلام ) : « فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال : لا ، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك » .
أقول : هذا نص في أن أبا بكر رجع وذهب علي ( عليه السلام ) وأبلغ الرسالة وقرأ الآيات مرات في الموسم . قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لما قرأ قوله تعالى : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك ! فقال علي ( عليه السلام ) : أجل أجل ، إن شئتَ ، هلموا ! ثم واصل ( عليه السلام ) تلاوته : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ » . ( المناقب : 1 / 392 ) .
وقد استعظم المتعصبون أن يعزل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر فزعموا أنه بقي أميرالحاج ، وأن مهمة علي ( عليه السلام ) كانت تبليغ براءة فقط !
قال ابن هشام ( 4 / 972 ) : « ثم دعا علي بن أبي طالب فقال له : أخرج بهذه القَصَّة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد فهو له إلى مدته . فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العضباء ، حتى أدرك أبا بكر بالطريق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أأمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذا ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله » !
--------------------------- 334 ---------------------------
ثم زعموا أن أبا بكر أرسل مؤذنين في الحج بلغوا سورة براءة ، أي خالف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال أبو هريرة : « بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر ، نؤذن بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان » ! ( بخاري : 1 / 97 ) .
قال الشيخ محمود أبو رية في كتابه : شيخ المضيرة أبو هريرة / 109 : « ومن ذلك أنه زعم أنه كان مع أبي‌بكر في حجته ، وأورد في ذلك أحاديث ملفقة متعارضة ، وللأسف أوردها البخاري في كتابه ، وكلها قد جاءت من قبل أبي هريرة وابنه المحرر ، فمرة يقول : إن أبا بكر قد بعثه في مؤذنين في تلك الحجة ليؤذن في الناس ، ثم أردف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي فأمره أن يؤذن ببراءة ! أي أنه كان مع أبي‌بكر وأن علياً قدم عليهم .
وتارة أخرى يقول : كنت في البعث الذين بعثهم رسول الله مع علي ببراءة وكنا نقول : لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر » !

8 - كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يهدد من يخاف عصيانهم بعلي ( عليه السلام )

في أمالي الطوسي / 579 : « عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد قدم عليه وفد أهل الطائف : يا أهل الطائف ، والله لتقيمن الصلاة ، ولتؤتن الزكاة ، أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يقصعكم بالسيف !
فتطاول لها أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأخذ بيد عليٍّ فأشالها ، ثم قال : هو هذا . فقال أبو بكر وعمر : ما رأينا كاليوم في الفضل قط » .
« عن عبد الله بن شداد قال : قدم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفد آل تنوخ من اليمن ، قال فقال لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة ولتسمعن ولتطيعن ، أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي يقاتل مقاتليكم ويسبي ذراريكم ، اللهم أنا أو كنفسي ، ثم أخذ بيد علي ( عليه السلام ) » . « مناقب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمحمد بن سليمان : 1 / 468 » .
« وفي حديث جابر أنه قال لوفد هوازن : أما والذي نفسي بيده ليقيمن الصلاة وليؤتن الزكاة أو لأبعثن إليهم رجلاً وهو مني كنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم
--------------------------- 335 ---------------------------
وليسبين ذراريهم ، هو هذا وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) .
فلما أقروا بما شرط عليهم قال : ما استعصى عليَّ أهل مملكة ولا أمةٌ إلا رميتهم بسهم الله علي بن أبي طالب ! ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وملكاً أمامه ، وسحابة تظله حتى يعطي الله حبيبي النصر والظفر ! وروى الخطيب في الأربعين نحواً من ذلك ، عن مصعب بن عبد الرحمن أنه قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لوفد ثقيف . . الخبر ، وفي رواية أنه قال مثل ذلك لبني وليعة » . « المناقب : 2 / 67 » .
وحديث تهديد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قريشاً بعلي ( عليه السلام ) ، متواتر مشهور .
* *
--------------------------- 336 ---------------------------

الفصل الثامن عشر: باهل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نصارى نجران بعلي ( عليه السلام ) والعترة

1 . نجران العاصمة الدينية للمسيحية في الجزيرة

كانت نجران ولاية تابعة للدولة الرومانية ، يحكمها أسقف من قِبل هرقل مع رؤساء قبائلها ، والمشهور فيهم بنو عبد المدان . وكان ارتباطهم بهرقل وثيقاً وكان ينفق عليهم ، وقد بعث لهم بصليب كبير من ذهب . وفي نجران كانت قصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله تعالى في سورة البروج ، فقال : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ . وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ . وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ . قُتِلَ أَصْحَابُ الآخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ .

2 . أمهل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفدهم ثلاثة أيام

في الإختصاص للمفيد ( رحمه الله ) / 112 : » لما قدم السيد والعاقب أسقفا نجران في سبعين راكباً وافداً على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كنت معهم ، فبينا كرزٌ يسير ، وكرز صاحب نفقاتهم ، إذ عثرت بغلته فقال : تعس من نأتيه الأبعد ، يعني النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال له صاحبه وهو العاقب : بل تعست وانتكست ! فقال : ولم ذلك ؟ قال : لأنك أتعست النبي الأمي أحمد ، قال : وما علمك بذلك ؟ قال : أما تقرأ من المفتاح الرابع من الوحي إلى المسيح : أن قل لبني إسرائيل : ما أجهلكم تتطيبون بالطيب لتطيبوا به في الدنيا عند أهلها وأهلكم ، وأجوافكم عندي كالجيفة المنتنة !
يا بني إسرائيل ، آمنوا برسولي النبي الأمي الذي يكون في آخر الزمان ، صاحب الوجه الأقمر ، والجمل الأحمر ، المشرب بالنور ، ذي الجناب الحسن ، والثياب الخشن ، سيد الماضين عندي ، وأكرم الباقين عليَّ ، المستن بسنتي ، والصائر في ذات جنبي ، والمجاهد بيده المشركين من أجلي ،
--------------------------- 337 ---------------------------
فبشر به بني إسرائيل ، ومر بني إسرائيل أن يعزروه وأن ينصروه .
قال عيسى صلى الله عليه : قدوس قدوس ، من هذا العبدالصالح الذي قد أحبه قلبي ولم تره عيني ؟ قال : هو منك وأنت منه ، وهو صهرك على أمك ، قليل الأولاد كثيرالأزواج . يسكن مكة من موضع أساس وطي إبراهيم .
نسله من مباركة ، وهي ضرة أمك في الجنة ، له شأن من الشأن ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يأكل الهدية ، ولا يقبل الصدقة ، له حوض من شفير زمزم إلى مغيب الشمس حيث يغرب ، فيه شرابان من الرحيق والتسنيم ، فيه أكاويب عدد نجوم السماء ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ، وذلك بتفضيلي إياه على سائر المرسلين ، يوافق قوله فعله وسريرته علانيته ، فطوبى له وطوبى لأمته ، الذين على ملته يحيون وعلى سنته يموتون ، ومع أهل بيته يميلون ، آمنين مؤمنين ، مطمئنين مباركين ، ويظهر في زمن قحط وجدب فيدعوني ، فترخى السماء عزاليها ، حتى يرى أثر بركاتها في أكنافها ، وأبارك فيما يضع فيه يده .
قال : إلهي سمه ، قال : نعم هو أحمد ، وهو محمد رسولي إلى الخلق كافة ، وأقربهم مني منزلة ، وأحضرهم عندي شفاعة ، لا يأمر إلا بما أحب وينهى لما أكره .
قال له صاحبه : فأنى تقدم بنا على من هذه صفته ؟ قال : نشهد أحواله وننظر آياته ، فإن يكن هو هو ساعدناه بالمسالمة ، ونكفه بأموالنا عن أهل ديننا من حيث لا يشعر بنا ، وإن يكن كاذباً كفيناه بكذبه على الله عز وجل !
قال : ولم إذا رأيت العلامة لا تتبعه ؟ قال : أما رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم : أكرمونا ، ومولونا ، ونصبوا لنا الكنائس ، وأعلوا فيه ذكرنا ، فكيف تطيب النفس بالدخول في دين يستوي فيه الشريف والوضيع !
فلما قدموا المدينة قال من رآهم من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما رأينا وفداً من وفود العرب كانوا أجمل منهم ، لهم شعور وعليهم ثياب الحبر ، وكان رسول الله متناء عن المسجد ، فحضرت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تلقاء المشرق ، فهمَّ بهم رجال من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمنعهم ، فأقبل رسول الله
--------------------------- 338 ---------------------------
فقال : دعوهم . فلما قضوا صلاتهم جلسوا إليه وناظروه فقالوا : يا أبا القاسم حاجنا في عيسى ، قال : هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، فقال أحدهما : بل هو ولده وثاني اثنين . وقال آخر : بل هو ثالث ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، وقد سمعناه في قرآن نزل عليك يقول : فعلنا وجعلنا وخلقنا ، ولو كان واحداً لقال : خلقت وجعلت وفعلت !
فتغشى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوحي فنزل عليه صدر سورة آل عمران إلى قوله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . فقص عليهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القصة وتلا عليهم القرآن ، فقال بعضهم لبعض : قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم . فقال لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله عز وجل قد أمرني بمباهلتكم ، فقالوا : إذا كان غداً باهلناك .
فقال القوم بعضهم لبعض : حتى ننظر بما يباهلنا غداً ، بكثرة أتباعه من أوباش الناس ، أم بأهله ، من أهل الصفوة والطهارة ، فإنهم وشيج الأنبياء وموضع نهلهم .
فلما كان من غدٍ غدا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيمينه علي وبيساره الحسن والحسين ( عليهم السلام ) ومن ورائهم فاطمة صلى الله عليها ، عليهم النمار النجرانية ، وعلى كتف رسول الله كساء قطواني رقيق ، خشن ليس بكثيف ولا لين ، فأمر بشجرتين فكسح ما بينهما ونشر الكساء عليهما ، وأدخلهم تحت الكساء ، وأدخل منكبه الأيسر معهم تحت الكساء ، معتمداً على قوسه النبع ، ورفع يده اليمنى إلى السماء للمباهلة ، واشرأب الناس ينظرون ، واصفرَّ لون السيد والعاقب ، وكرَّا حتى كادت أن تطيش عقولهما ، فقال أحدهما لصاحبه : أنباهله ؟ قال : أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبياً فنشأ صغيرهم وبقي كبيرهم ؟ ! ولكن أره أنك غيرمكترث ، وأعطه من المال والسلاح ما أراد ، فإن الرجل محارب ، وقل له : أبهؤلاء تباهلنا لئلا يرى أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بيته ( عليهم السلام ) .
فلما رفع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده إلى السماء للمباهلة قال أحدهما لصاحبه : وأي رهبانية ! دارِكِ الرجل فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلى أهلٍ ولا مال ! فقالا : يا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا ؟ قال : نعم ، هؤلاء أوجه من على وجه الأرض بعدي إلى الله عز وجل ، وأقربهم إليه وسيلة ،
--------------------------- 339 ---------------------------
قال : فبصبصا يعني ارتعدا ، وكرَّا وقالا له : يا أبا القاسم نعطيك ألف سيف وألف درع وألف حجفة وألف دينار كل عام ، على أن الدرع والسيف والحجفة عندك إعارة حتى يأتي من وراءنا من قومنا ، فنعلمهم بالذي رأينا وشاهدنا ، فيكون الأمر على ملأ منهم ، فإما الإسلام وإما الجزية وإما المقاطعة في كل عام .
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد قبلت ذلك منكما . أما والذي بعثني بالكرامة ، لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عز وجل عليكم الوادي ناراً تأجج ، حتى يساقها إلى من وراءكم في أسرع من طرفة العين ، فأحرقتم تأججاً !
فهبط عليه جبرئيل الروح الأمين ( عليه السلام ) فقال : يا محمد الله يقرؤك السلام ويقول لك : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لو باهلت بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض ، لساقطت السماء كسفاً متهافتة ، ولتقطعت الأرضون زبراً سائحة ، فلم تستقر عليها بعد ذلك ! فرفع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يديه حتى رئي بياض إبطيه ، ثم قال : وعلى من ظلمكم حقكم ، وبخسني الأجر الذي افترضه الله فيكم ، عليهم بهلة الله ، تتابع إلى يوم القيامة « .
أقول : توجد روايات أخرى لكيفية المباهلة ، لكن هذه الرواية من أقواها .
وفي الإرشاد ( 1 / 168 ) : « فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ، ولكنا نصالحك فصالحنا على ما ننهض به . فصالحهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قيمة كل حلة أربعون درهماً جياداً ، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاباً بما صالحهم عليه وكان الكتاب :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد النبي رسول الله ، لنجران وحاشيتها في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق ، لا يؤخذ منهم شئ غيرألفي حلة من حلل الأواقي ، ثمن كل حلة أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك ، يؤدون ألفاً منها في صفر ، وألفاً منها في رجب ، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك ، وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن عارية مضمونة ، ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة ، لهم بذلك جوار
--------------------------- 340 ---------------------------
الله وذمة محمد بن عبد الله ، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا ، فذمتي منه بريئة » .
« مكاتيب الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : 2 / 489 ، و 494 » .
وفي رواية الإقبال / 343 : « أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً ، فلم يدعهم ولم يسألوه ، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته . فلما كان بعد ثالثة دعاهم إلى الإسلام فقالوا : يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عز وجل بشئ من صفة النبي المبعوث بعد الروح عيسى ( عليه السلام ) ، إلا وقد تعرفناه فيك ، إلا خلة هي أعظم الخلال آية ومنزلة ، وأجلاها أمارة ودلالة . قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وما هي ؟ قالوا : إنا نجد في الإنجيل من صفة النبي الغابر من بعد المسيح ، أنه يصدق به ويؤمن به وأنت تسبه وتكذب به وتزعم أنه عبد ! قال : فلم تكن خصومتهم ولامنازعتهم للنبي إلا في عيسى ( عليه السلام ) . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ، بل أصدقه وأصدق به وأؤمن به ، وأشهد أنه النبي المرسل من ربه عز وجل وأقول : إنه عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً . قالوا : وهل يستطيع العبد أن يفعل ما كان يفعل ؟ وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة ؟ ألم يكن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، وينبئهم بما يكنون في صدورهم وما يدخرون في بيوتهم ؟ فهل يستطيع هذا إلا الله عزو جل أو ابن الله ؟ وقالوا في الغلو فيه وأكثروا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً !
فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد كان عيسى أخي كما قلتم ، يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخبر قومه بما في نفوسهم ، وبما يدخرون في بيوتهم ، وكل ذلك بإذن الله عز وجل ، وهو لله عز وجل عبد ، وذلك عليه غير عار ، وهو منه غير مستنكف ، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً ، يأكل الطعام ويظمأ وينصب ، بارؤه وربه الأحد الحق ، الذي ليس كمثله شئ وليس له ند .
قالوا : فأرنا مثله من جاء من غير فحل ولا أب ؟ قال : هذا آدم ( عليه السلام ) أعجب منه خلقاً ، جاء من غير أب ولا أم ! وتلا عليهم : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . « آل عمران : 59 » .
وقال الفخر الرازي ( 8 / 85 ) : ( وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج وعليه مرط من شعر
--------------------------- 341 ---------------------------
أسود ، وكان قد احتضن الحسين ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي رضي الله عنه خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمِّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ، فقال : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا ، فقال : فإني أناجزكم القتال ، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة . . فصالحهم على ذلك ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 83 ) : ( فرضوا بالمباهلة ، فلما أصبحوا قال أبو حارثة : أنظروا من جاء معه . وغدا رسول الله آخذاً بيد الحسن والحسين ، تتبعه فاطمة ، وعلي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) بين يديه ، وغدا العاقب والسيد بابنين لهما عليهما الدر والحلي ، وقد حفوا بأبي حارثة . فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه ؟ قالوا : هذا ابن عمه ، وهذه ابنته وهذان ابناها .
فجثى رسول الله على ركبتيه ثم ركع . فقال أبو حارثة : جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة . فقال له السيد : أدن يا أبا حارثة للمباهلة . فقال : إني أرى رجلاً حرياً على المباهلة ، وإني أخاف أن يكون صادقاً ، فإن كان صادقاً لم يحل الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام . قال أبو حارثة : يا أبا القاسم لانباهلك ، ولكنا نعطيك الجزية . فصالحهم رسول الله على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قيمة كل حلة أربعون درهماً ) .
--------------------------- 342 ---------------------------

3 . مسائل في المباهلة

المسألة الأولى :

المباهلة ابتكار إسلامي ، معناها أن الله تعالى تكفل بنصرة صاحب الحق وخذلان صاحب الباطل ، فهي ميزان مهم إذا أحسن الناس استعماله . وآيتها نزلت في محاجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلماء النصارى : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . ( آل عمران : 59 - 61 ) . لكنها لا تختص بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولابألوهية المسيح ( عليه السلام ) ، بل تصح من كل الناس في مسائل العقيدة .
وقد أفتى الفقهاء بجواز مباهلة المعاند ، وعقد في الكافي ( 2 / 513 ) باباً بعنوان : باب المباهلة ، روى فيه خمسة أحاديث ، منها بسند صحيح عن أبي مسروق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قلت : إنا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول الله عز وجل : أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم ، فيقولون : نزلت في أمراء السرايا ، فنحتج عليهم بقوله عز وجل : إنما وليكم الله ورسوله إلى آخر ، الآية فيقولون : نزلت في المؤمنين ، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ، فيقولون نزلت في قربى المسلمين ! قال : فلم أدع شيئاً مما حضرني ذكره من هذه وشبهه إلا ذكرته .
فقال لي : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : وكيف أصنع ؟ قال : أصلح نفسك ثلاثاً ، وأظنه قال وصم واغتسل ، وابرز أنت وهو إلى الجبان ، فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ، ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل : اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، إن كان أبو مسروق جحد حقاً وادعى باطلاً ، فأنزل عليه حسباناً من السماء ، أو عذاباً أليماً . ثم رد الدعوة عليه فقل : وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلاً ، فأنزل عليه حسباناً من السماء ،
أو عذاباً أليماً . ثم قال لي : فإنك لاتلبث أن ترى ذلك فيه ! فوالله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه ) !
--------------------------- 343 ---------------------------
وقال المفيد في تصحيح اعتقادات الإمامية / 71 : ( وقال ( عليه السلام ) لطائفة من أصحابه : بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه ، وبينوا لهم ضلالهم الذي هم عليه ، وباهلوهم في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه ) .
وقال الحر العاملي في هداية الأمة ( 3 / 121 ) : ( تستحب مباهلة العدو والخصم . . يستحب غسل المباهلة . . يستحب الصوم قبلها والخروج إلى الجبان . . دعاء كل منهما على نفسه سبعين مرة ثم على خصمه سبعين مرة . . أن يشبك كل منهما أصابعه في أصابع الآخر ويدعو بالمأثور . . يستحب كونها بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ) .
وقال السيد السبزواري في تفسيره : مواهب الرحمن ( 6 / 31 ) : ( المباهلة نوع من الدعاء والابتهال والتضرع والتبتل إلى الله تعالى لإثبات حق عَلم به . وهي عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ، ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي ، فتكون نظير صلاة الاستسقاء ، أو الاستخارة ونحوهما . والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنة المقدسة ، أنها تتقوم بأمرين :
الأول : ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجة والبيان ، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما ، يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمر الغيبي الذي يعترف به الخصمان ، وهذا يدل عليه قوله تعالى : فَمَنْ حَاجَّكَ فيه ،
أي في الحق المعلوم .
الثاني : وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة ، إما في شخص الرسول ،
أو من يقوم مقامه علماً وعملاً ، أو حالة الإنكسار والخضوع والتضرع التي تكون رابطة حالية ، فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب ، فلا تختص المباهلة بمورد خاص . . .
وللمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء ، ولا ريب في تقومها بمن يقوم به الإحتجاج وإظهار الحق وهو في المقام نفس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 344 ---------------------------
وحيث أنها تدل على الملاعنة والهلاك ، يكون إحضار من يريده صاحب الحق أولى في الإحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم ، ولأن الاجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب اليه كثيراً في السنة المقدسة ) .

المسألة الثانية :

قوله تعالى : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ . أي جاءك العلم من الله بأمرعيسى ( عليه السلام ) ، فصار عندك حجة من الله بينتها للناس فتمت عليهم الحجة ، فمن جادلك ليبطل حجتك بزعمه فهو مكابر ، فلا تجادله بل ادعه إلى المباهلة . فطالب الحق يُبين له وتُقام عليه الحجة ، لكن المُحَاجّ مجادل ، يُعرض عنه ، أو يدعى إلى المباهلة .

المسألة الثالثة :

المباهلة دعاء ، وهي بنفس الوقت منازلة وتوسل . والمنازلة تقتضي أن تضرب الخصم بأقوى أسلحتك . والتوسل إلى الله تعالى في المنازلة ، يقتضي أن تتقرب إلى الله بأقوى الناس وسيلة عنده ، ليستجيب دعاءك على خصمك .
ولما قال الله لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . واختار ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للمباهلة بأمر ربه خاصة عترته ، فمعناه أنهم أقوى سلاح رباني ، لا يخطئ ولا ينهزم ، وأنهم أقرب الناس وسيلة إلى الله تعالى ، فلا يخيب من توسل بهم ، ولا يرد دعاءه .

المسألة الرابعة :

تدل المباهلة على أن الذين باهل الله بهم أفضل أهل الأرض ، وكل كلام في تفضيل غيرهم عليهم ، أو مساواته بهم ، ردٌّ عمليٌّ على الله تعالى وعلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وصاحبه ذو غرض وذو مرض ، وانقطع الخطاب .

المسألة الخامسة :

يمثل المباهَل بهم الأمة كلها : المباهِل ونفسُه والأبناء والنساء . فهم القيادة النبوية وورثتها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهم البنت والأم والزوجة والأبناء ، وهم مكونات المجتمع الإنساني ،
--------------------------- 345 ---------------------------
يباهل بهم قيادة المسيحيين وأبناءهم ونساءهم ، ويباهل من ادعى للأم مريم وابنها عيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألوهيةً ومقاماً غير صحيح .

المسألة السادسة :

قوله : تعَالوا نَدْعُ . معناه : أُحضروا أنتم إلى مكان المنازلة والمباهلة ، وأَحضروا مكونات دينكم ومجتمعكم . وروي أن كبيرهم ومعاونه أحضرا ولديهما : ( وغدا العاقب والسيد بابنين لهما ، عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة ) ( اليعقوبي : 2 / 82 ) . ولم يقل تعالوا نحضرهم ، بل قال أدعوهم للحضور ، لأنهم حسب المفروض شخصيات مستقلة يُدعون .

المسألة السابعة :

تعالوا ندعوهم الحضور في المكان المحدد للمباهلة ، وقبلها كانت المناظرة في المسجد ، لكن المباهلة ينبغي أن تكون تحت السماء ، في مكان اختاره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
يقع اليوم في شارع الستين ، ومشى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمام المسلمين مسافة ، حتى وصلوا إلى قرب المكان ، فقال لهم : قفوا أنتم هنا ، وتقدم المباهلون معه فقط !

المسألة الثامنة :

قال بعضهم إن المباهلة الملاعنة ، فجعل الدعاء على الخصم بمعنى ملاعنته ، تشبيهاً بملاعنة الزوج إذا تبرأ من ولده ولاعنَ زوجته . ويصح ذلك مجازاً لأنها دعاء يترتب عليه جعل اللعنة على المبطل . لكن الآية قالت : فنبتهل ولم تقل فنتباهل ، أي تعالوا لندعو ، وينتج عنه أن تكون اللعنة على الكاذب .
قال ابن فارس ( 1 / 311 ) : ( بَهَلَ : أصول ثلاثة : أحدها التخلية ، والثاني جنس من الدعاء ، والثالث قلة في الماء . . وأما الآخر فالإبتهال والتضرع في الدعاء . والمباهلة ترجع إلى هذا ، فإن المتباهلين يدعو كل واحد منهما على صاحبه ) .
فمعنى تعالوا نبتهل : تعالوا ندعو أن يظهرالله الحق وينتقم من المبطل . وجزم فنبتهل لأنه جواب تعالوا مثل ندعو ، وجزم فنجعل لأنه جواب نبتهل ،
--------------------------- 346 ---------------------------
وهو يدل على أن الله تعالى جعل اللعنة مترتبة على المباهلة ومحققة بها .

المسألة التاسعة :

ندع أبناءنا بصيغة الجمع ، والمقصود بهم الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقط ، وهما مثنى ، وذكرت نساءنا بالجمع والمقصود فاطمة ( عليها السلام ) فقط ، وهي مفرد . ومثله كثير في القرآن ولغة العرب ، حيث يذكرالجمع ويقصد به المفرد أوالمثنى .
وذكرت الآية أنفسنا بالجمع ، والمقصود بها شخص واحد هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولا يصح أن تكون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه الداعي ولا يدعو نفسه .
قال الشيخ المفيد ( قدس سره ) في الفصول المختارة / 38 : ( قال المأمون يوماً للرضا ( عليه السلام ) : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يدل عليها القرآن . قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : فضيلته في المباهلة ، قال الله جل جلاله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . فدعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكانا ابنيه ودعا فاطمة ( عليها السلام ) فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكان نفسه بحكم الله عز وجل ، وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأفضل ، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحكم الله عز وجل .
قال فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنيه خاصة ، وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنته وحدها ، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره ، فلا يكون لأمير المؤمنين ما ذكرت من الفضل ؟
قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين وذلك أن الداعي إنا يكون داعياً لغيره ، كما يكون الآمر آمراً لغيره ، ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدع رسول الله رجلاً في المباهلة إلا أمير المؤمنين فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه ، وجعل حكمه ذلك في تنزيله . قال فقال المأمون : إذا ورد الجواب ، سقط السؤال ) .
--------------------------- 347 ---------------------------
فمعنى أنفسنا في الآية ، أن علياً ( عليه السلام ) نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا ما اختص به من نبوة ، وهو يشرح المقصود من أقوال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : علي مني وأنا منه . ومَن أطاعه أطاعني ومن عصاه عصاني ، ومَن سبه سبني . ومَن كنت مولاه فعلي مولاه ، وأنا وعلي من شجرة واحدة والناس من شجر شتى . وأنا وعلي كالضوء من الضوء . وكنت وعلياً نوراً قبل أن يخلق الله الخلق . وأنت مني بمنزلة هارون من موسى . . إلى آخر كلماته المضيئة التي تبين مكانة علي ( عليه السلام ) ، وأنه بحكم نفسه إلا ما استثني . فلا يبقى مجال لتفضيل غيره عليه ، لا في الفضائل ، ولا في قيادة الأمة وإمامتها ، ولا في الموالاة والمودة ، ولا في تلقي علم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منه ؟ !

المسألة العاشرة :

الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبناء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحكم الآية ، ولقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه ، وجعل ذريتي من صلبك ، ولولاك ما كانت لي ذرية » . ( الفقيه : 4 / 365 ) . وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 318 ) في قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ . . وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ . فسلهم يا أبا الجارود : هل كان يحل لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نكاح حليلتيهما ؟ فإن قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا ، فهما إبناه لصلبه ) .
وروى مخالفونا قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » . ( كبير الطبراني : 3 / 44 ، والزوائد : 4 / 224 ، و : 6 / 301 ) .
وقال علماؤهم : « وأولاد بناته ينسبون إليه لحديث : إن ابني هذا سيد مشيراً إلى الحسن . وفي حديث : إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري ، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي . دون أولاد بنات غيره فينسبون إلى آبائهم . قال تعالى : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ » . ( كشاف القناع : 5 / 31 ) .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 6 / 139 ) : « قال السخاوي : وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه ، وبينت أنه صالح للحجة » .
--------------------------- 348 ---------------------------

المسألة الحادية عشرة :

آية الابتهال نص في التوسل ، حتى بالأقل درجة من المتوسِّل : ( ثم جثى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بركبتيه وجعل علياً أمامه بين يديه وفاطمة بين كتفيه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره ، وهو يقول لهم : إذا دعوت فأمِّنوا ، فقال الأسقف : جثى والله محمد كما يجثو الأنبياء للمباهلة ) . ( مناقب آل أبي طالب : 3 / 144 ) .
ومعنى : إذا دعوت فأمنوا : أن تأمينهم جزء من الابتهال ، وهو توسل بهم .
هذا ، وفي الآية مسائل أخرى مهمة .
* *
--------------------------- 349 ---------------------------

الفصل التاسع عشر: 1 - تعليم الناس الحج ، وإعلان خلافة علي والعترة ( عليهم السلام )

كان هدف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حجة الوداع : أن يُعَلِّمَ الأمة أداء فريضة الحج ، وأن يُعلن لها إمامة عترته ( عليهم السلام ) من بعده ويركز فيها مكانتهم .
روى الطبرسي في الإحتجاج ( 1 / 68 ) عن علقمة بن محمد الحضرمي عن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) قال : ( حج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المدينة وقد بلَّغ جميع الشرايع قومه غير الحج والولاية ، فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال له : يا محمد إن الله جل اسمه يقرؤك السلام ويقول لك : إني لم أقبض نبياً من أنبيائي ولارسولاً من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي ، وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج أن تبلغهما قومك : فريضة الحج ، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك ، فإني لم أخل أرضي من حجة ولن أخليها أبداً ، فإن الله جل ثناؤه يأمرك أن تبلغ قومك الحج ، وتحج ويحج معك من استطاع إليه سبيلاً من أهل الحضر والأطراف والأعراب . وتعلمهم من معالم حجهم ، مثلما علمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ، وتوقفهم من ذلك علي مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرائع .
فنادي منادي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الناس : ألا إن رسول الله يريد الحج ، وأن يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرائع دينكم ، ويوقفكم من ذاك على ما أوقفكم عليه من غيره ، فخرج ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخرج معه الناس ، وأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله ، فحج بهم وبلغ من حج مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف
--------------------------- 350 ---------------------------
إنسان أو يزيدون ، على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألفاً الذين أخذ عليهم بيعة هارون ، فنكثوا واتبعوا العجل والسامري ، وكذلك أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) البيعة لعلي ( عليه السلام ) بالخلافة على عدد أصحاب موسى ، فنكثوا البيعة واتبعوا العجل والسامري ، سنةً بسنة ، ومَثَلاً بمثل !
واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة ، فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل ( عليه السلام ) عن الله عز وجل فقال : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك : إنه قد دنا أجلك ومدتك ، وأنا مستقدمك على ما لابد منه ولا عنه محيص ، فاعهد عهدك وقدم وصيتك ، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك ، والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء ، فسلمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك ، حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب ، فأقمه للناس علماً وجدد عهده وميثاقه وبيعته . . الخ . ) .
أقول : خطب فيهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع خمس خطب : لما وصل إلى مكة ، وفي عرفة ، ويومي العيد في جمرة العقبة ، وفي اليوم الثالث في مسجد الخيف .
وأكد فيها كلها على وصيته بالقرآن والعترة ، وبشرهم فيها بالأئمة الاثني عشر من عترته بعده ( عليه السلام ) ، وأكد على وجوب اتباعهم ، وإلا وقعوا في الضلال !
أما في خطبته السادسة في غدير خم ، فأخذ بيد علي ( عليه السلام ) وأصعده المنبر وأعلنه خليفته ، وأمر أن تنصب له خيمة ، وأن يهنئوه ويبايعوه ففعلوا !
وكان عمر أول المهنئين فقال كما في حديثهم الصحيح : بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم !

2 - بشارة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) في حجة الوداع

سنة الله تعالى في أنبيائه أن يورَّث عترتهم الكتاب : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَالْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا . .
--------------------------- 351 ---------------------------
والذين اصطفاهم الله هم علي وأبناؤه من فاطمة ( عليهم السلام ) . والسابقون بالخيرات الأئمة المعصومون ( عليهم السلام ) منهم . والمقتصد المؤمن بهم منهم . والظالم لنفسه من حسدهم وأنكرهم ! ولا يستقيم معنى الآية إلا بهذا التفسير .
وقد بَلَّغَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاية عترته بالتدريج والحكمة ، بالتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لهم ، وبشر بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) منهم في حجة الوداع ، لكن رواة قريش أبهموا كلامه وحذفوا منه !
ففي صحيح بخاري : 8 / 127 : « يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش » !
وفي مسلم : 6 / 3 : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش » !
ثم روى ثانية وفيها : « ثم تكلم بشئ لم أفهمه » .
وروى ثالثة فيها : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيَها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش » .
مسكين هذا الراوي القرشي أصمه الناس ! أي جعلوه أصم لا يسمع ، بصراخهم وضجيجهم ، وهم الصحابة المحرمون لربهم المنصتون لخطبة نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ولم يقل بخاري إن هذا الحديث من خطب حجة الوداع ! لكن عدداً من المصادر قالته ، كمسند أحمد : 5 / 93 و 96 و 99 : « عن جابر بن سمرة قال : خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعرفات » .
وفي / 87 : « يقول في حجة الوداع » . وفي / 99 : « سمعت رسول الله يخطب بمنى » .
وهذا يعني أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كرره في عرفات ومنى ، ثم أعلنه صريحاً في غدير خم !
وأصل الحديث الذي لم يسمعه الراوي القرشي الأصم : اثنا عشر إماماً كلهم من أهل بيتي ، لكن الراوي قال : « قال كلمة لم أفهمها ، قلت لأبي : ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش » . ( مسند أحمد : 5 / 100 و 107 ) .
وروى أحمد : 5 / 90 و 98 ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخفاها وخفض بها صوته ، وهمس بها
--------------------------- 352 ---------------------------
همساً ! وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 617 ) : « قال كلمة خفيت عليَّ ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً مني فقلت : ما قال ؟ فقال كلهم من قريش » .
وفي الحاكم : 3 / 618 : « فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش » .
وفي الطبراني الكبير : 2 / 213 و 214 : « قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً لا يضرهم من خذلهم ، ثم همس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبي : ما الكلمة التي همس بها النبي ؟ قال أبي : كلهم من قريش » .
ويريدونك أن تصدق أن الذي ضيع الكلمة التي تحدد هوية الاثني عشر هم الناس ، وليس ري قريش ! فالناس المُحرمون المصغون لكل كلمة ، صاروا مشاغبين : يلغطون ، ويضجون ، ويكبرون ، ويتكلمون ، ويقومون ويقعدون ! وضيعوا الكلمة الحساسة التي تعين هوية هؤلاء الأئمة الربانيين !
ففي سنن أبي داود ( 2 / 309 ) : « قال : فكبر الناس وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي : يا أبة ما قال ؟ قال : كلهم من قريش » . ومثله أحمد : 5 / 98 . وفيه : « أصَمَّنِيها الناس » . وفي رواية مسلم : « صَمَّنيها الناس » .
وفي رواية أحمد : 5 / 93 : « وضجَّ الناس . . ثم لغط القوم وتكلموا ، فلم أفهم قوله بعد كلهم . . . لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة . قال : فجعل الناس يقومون ويقعدون » !
فهل سمعت بأمة يودعها نبيها ويبشرها بأئمة ربانيين بعده ، وعندما يصل إلى تعيينهم ، تلغط في خطبته وتقوم وتقعد وتضج ، حتى تضيع هوية هؤلاء الربانيين ، في عشرين قبيلة !
وهل سمعت بأمة يبشرها نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن الله عز وجل حلَّ مشكلة القيادة فيها ، وعين لها اثني عشر إماماً ربانياً ، ثم تقول إنه لم يحدد هويتهم لا بأسمائهم ولا بأسرتهم ، بل ضيعهم في قبائل قريش ، ثم لم يسأله أحد من أمته من هم ؟ !
ألا ترى في هذا الأمر كيد قريش ، وطمعها في خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ !
--------------------------- 353 ---------------------------
لقد اتهموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه ضيع هويتهم ، بل نسبوا لربهم سبحانه وتعالى أنه جعل في الأمة بعد نبيها أئمةً مجهولين ! وأشعل النار بين هذه القبائل على خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهو يراهم يتحاربون سنين على بعير وشاة !
حاشا لله ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يشعل صراعاً بين أمته على السلطة ! فالصحيح أنه حدد الأئمة ( عليهم السلام ) وسماهم : علياً والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين ( عليهم السلام ) ، لكن القرشيين تعمدوا كتمان هويتهم !
وقد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ! بنا يُستعطى الهدى ، ويستجلى العمى .
إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم » . « نهج البلاغة : 1 / 82 ، و : 2 / 27 » .
وقال ( عليه السلام ) أيضاً : « والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
هذا ، وقد تحيَّر علماء السلطة في الأئمة الاثني عشر ، وحاولوا تطبيقهم على خلفائهم فلم يستطيعوا ! وقد اعترف ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 في عارضة الأحوذي بشرح الترمذي ( 6 / 391 ) بأن تطبيق الحديث على خلفائهم غير ممكن !
لذلك لا تنتظر من مصدر قرشي أن يروي تحديد هوية هؤلاء الأئمة الربانيين ! ولا ترجو من عالم من أتباع السلطة أن يستطيع تفسيرحديث البشارة النبوية ! لأنه يأبى أن يقول كما قال علي ( عليه السلام ) : من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم !
وقد أدركت ابن مسعود الشجاعة فقال : « سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين ، والتاسع مهديهم » . « كفاية الأثر / 33 » .
وقد كتبنا رسالة خاصة في : « بشارة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) » .
--------------------------- 354 ---------------------------

3 - تأكيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على مكانة علي والعترة ( عليهم السلام ) في حجة الوداع

روى الصدوق في أماليه / 248 ، عن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) قالت : ( خرج علينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عشية عرفة فقال : إن الله تبارك وتعالى باهى بكم وغفر لكم عامة ، ولعلي خاصة ، وإني رسول الله إليكم غير محابٍ لقرابتي ، هذا جبرئيل يخبرني أن السعيد كل السعيد حق السعيد ، من أحب علياً في حياته وبعد موته ، وأن الشقي كل الشقي حق الشقي من أبغض علياً في حياته وبعد وفاته ) .
ورواه محمد بن سليمان في مناقبه ( 1 / 207 ) : ( عن أبي أيوب الأنصاري قال : خرج علينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم عرفة فقال : يا أيها الناس إن الله باهى بكم الملائكة في هذا اليوم فغفر لكم عامة وغفر لعلي خاصة ، فأما العامة منكم فمن لم يحدث بعدي أحداثاً وهو قول الله : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه . وأما الخاصة فطاعته طاعتي يعني علياً ومن عصاه فقد عصاني ثم قال له : قم يا علي فقام حتى وضع كفه في كف رسول الله فقال رسول الله : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم عامة وطاعتي عليكم مفروضة . ألا وإني غير محابٍ لقومي ولا محابٍ لقرابتي وإنما أنا رسول الله ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، ألا وإن هذا جبرئيل يخبرني عن ربي أن السعيد كل السعيد من أحب علياً في حياتي وبعد مماتي . ألا وإن الشقي حق الشقي من أبغض علياً في حياتي وبعد وفاتي ) .
أقول : وضعوا مقابله حديث : إن الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة . وحديث : إن الله يتجلى لأبي‌بكر !
لكن بعض عقلائهم قال إنه موضوع كالعجلوني في كشف الخفاء ( 2 / 419 ) قال : « وباب فضائل أبي‌بكر الصديق رضي الله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات كحديث : إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي‌بكر خاصة ! وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبو بكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي‌بكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي‌بكر » .
وسيأتي جواب المأمون عن هذه الأحاديث .
--------------------------- 355 ---------------------------

4 - تحذيرات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للصحابة في حجة الوداع

فقد أنذرهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحذرهم ، وأخبرهم بأنهم سيتقاتلون من أجل السلطة ويستحلون دماء بعضهم ، ويخرجون بعضهم من ديارهم !
وهذا ما وقع يوم وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مباشرةً فجاؤوا إلى بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهددوهم بالقتل وإحراق دارهم عليهم إن لم يبايعوا ! كما هددوا سعد بن عبادة بالقتل ، ونفوه من المدينة إلى حوران ، ثم قتلوه هناك !
والعجيب أن كل أحاديث : لا ترجعوا بعدي كفاراً ، قالها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع ! قال البخاري ( 1 / 38 ) : ( عن جرير أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال له في حجة الوداع : إستنصت الناس ، فقال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
وروى البخاري أيضاً ( 7 / 112 ) : ( قال : ويلكم ، أو ويحكم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
وقال أيضاً ( 2 / 191 ) : ( خطب الناس يوم النحر فقال : يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام . قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام . قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . فأعادها مراراً ، ثم رفع رأسه فقال : اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ) !
وقال ابن حجر في شرحه ( 1 / 104 ) : ( ونظيره قوله تعالى : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، بعد قوله : ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَمُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْىٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ) .
وسبب التحذير النبوي لقريش خاصة أن لها موقع القيادة في العرب ، والخطر على
أهل بيته ( عليهم السلام ) ، وخطر تحريف الإسلام ، إنما يكون من قريش وحدها ! وبالتحديد من الصحابة القرشيين ، لا من اليهود ، ولا الروم ، ولا القبائل العربية ، فهي لاتطمح إلى
--------------------------- 356 ---------------------------
قيادة دولته إلا بواسطة شركاء من صحابته ! كما لا يطمع زعماء قريش المشركون بذلك إلا بشركاء من صحابة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ومكائد اليهود وعملهم للانتقام لاتنجح إلا بواسطة الصحابة الذين تعاهدوا معهم سراً ، وقالوا لهم : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . « محمّد : 26 » .
لهذا كان تحذير النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) محصوراً بهؤلاء الصحابة القرشيين ! فقال لهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي أصحابي ! فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) ! ( بخاري : 4 / 101 ) .
وقال لهم : « يا معشر قريش لاتجيؤوا بالدنيا تحملونها على رقابكم ، وتجئ الناس بالآخرة فإني لاأغني عنكم من الله شيئاً » ( الزوائد : 3 / 272 ، وصححه ) .
وقال لهم : « لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك وَلَتَفْعَلُنَّ » . « تفسير القمي : 1 / 1717 » .
فأخبرهم أنهم سيفعلون ! واستعمل بلاغته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليتم عليهم الحجة كما أمره ربه . لكنك تقرأ في مصادر السلطة عشرات الأحاديث في مدح قريش ، وأن القيادة حقٌّ لهم دون غيرهم ! وتقرأ أن التحذير النبوي لم يكن للصحابة القرشيين ، بل لبني هاشم بأن لا يطمعوا في الدنيا ! « البخاري : 6 / 17 » . أوكان لبني عبد المطلب أو لفاطمة ( عليها السلام ) بأنها لو سرقت لقطع يدها ! « البخاري : 4 / 151 و : 5 / 97 و : 8 / 16 » .
وقد أفلتت من كتمانهم حجة دامغة لهم : وهي تحذير رسمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بلوحة نبوية أظهرت المصير الجهنمي الذي يمشي إليه هؤلاء الصحابة ! وصورت مجيئهم إلى حوض الكوثر ليلاقوه ، فيمنعهم الله تعالى ويأمر بهم إلى جهنم !
إنها صورة رهيبة بلغها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الأمة في حجة الوداع ! وهي تعني وقوع كارثة محققة على صحابته جزاءً لهم على الكارثة التي سينزلونها في أمته بعده ! ولا ينجو منهم إلا مثل « هَمَل النَّعم » كما في رواية بخاري ، أي الغنم المنفردة عن القطيع ! فجمهور الصحابة في النار ، لا يفلت منه إلا قلة يخالفونهم !
( قلت أين ؟ قال : إلى النار والله . قلت ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم
--------------------------- 357 ---------------------------
القهقرى ! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم ) . ( البخاري : 7 / 309 ) .
وهي حقيقةٌ مذهلةٌ ، صعبة القبول على المسلم السني المسكين ، الذي ربوه على حب كل الصحابة ، وخير القرون ، والجيل الفريد ، والصحابة العدول ، وأصحابي كالنجوم . وحببوه بصورهم المثالية التي رسموها لهم في ذهنه من طفولته ، فإذا به يفاجأ بصورة مرعبة لهم ، بلسان نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفي البخاري ! فلو كان المتكلم غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما تردد السني في الحكم عليه بأنه عدو للإسلام ، يريد أن يكيد للإسلام بالطعن في صحابة رسول الإسلام ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ولو كان الراوي غير البخاري ، لما ترددوا في تضعيف حديثه واتهامه !
لكن المتكلم هو الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخبر بوحيٍ ربه عن كارثة تحدث لا محالة !
وراوي الكارثة البخاري الذي أعطوا كتابه العصمة من الجلد إلى الجلد !
لقد علموا هذا الطفل السني المسكين ، أن الحقيقة دائماً حلوة ، وأن الحق دائماً مفصلٌ على قامة بضعة أنفار من الصحابة ، خاصة أبي‌بكر وعمر !
ثم ، لم يكتف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بهذا المديح لعلي ( عليه السلام ) في حجة الوداع ، ولا بتحذيراته المشددة للصحابة ، حتى أوقفهم في الطريق وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) وأعلنه إماماً بعده ، ونصب له خيمة وأمرهم أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ويباركوا له ولايته عليهم ، فهنؤوه وباركوا له وبخبخوا له ، وأمر نساءه أن يهنئنه فجئن إلى باب خيمته وهنأنه وباركن له !
ثم ، أراد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبيل وفاته ، أن يبعد هؤلاء الصحابة عن المدينة ، فأرسلهم جميعاً في جيش أسامة إلى مؤتة قرب القدس ، وكان الجيش ثلاثة آلاف ، فيهم سبع مئة من قريش الطلقاء والمهاجرين . لكنهم اعترضوا على قيادة أسامة ابن السبع عشرة سنة ، وسوَّفوا وتعللوا ، لمدة أسبوعين حتى توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ثم ، أراد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبيل وفاته ، أن يؤكد عليهم الحجة بوثيقة مكتوبة ، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً . فرفضوا ذلك
--------------------------- 358 ---------------------------
بشدة وسوء أدب ، ورفعوا في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القرآن فقالوا له : حسبنا كتاب الله !
ومعناه : أيها الرسول لا نريد أن تكتب لنا أطيعوا علياً بعدي ، وبعده أولاد ابنتي فاطمة حسناً ثم حسيناً ، ثم تسعة من ذرية ولدي الحسين ( عليهم السلام ) !
لقد غضبوا وصاحوا : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له دواة ولا قرطاساً !
فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطردهم ! فقال لهم كما في البخاري : قوموا عني فما أنا فيه خيرمما تدعونني اليه : ما أنا فيه من اعترافكم بنبوتي خيرمن أن أصرَّعليكم فتعلنوا الردة !
فاعجب لأمة تواجه نبيها وتنزع منه القيادة ، وتعطيها لشخص مقابله ! عامي من الذين طردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يطرد صحابياً قبلها !

5 - في حجة الوداع كتبوا الصحيفة الملعونة لعزل العترة ( عليهم السلام ) !

بعد فتح مكة نشط رؤساء الحزب القرشي ضد بني هاشم ، وزاد نشاطهم في حجة الوداع ، وكتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا ( الصحيفة الملعونة الثانية ) تعاهدوا فيها على أن يبعدوا بني هاشم عن الخلافة ، وأشاعوا حديثاً مكذوباً أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : أبى الله أن تجتمع لنا النبوة والخلافة ، أي لبني هاشم !
وقد ذكرت الصحاح أن الصحابة الجالسين تحت منبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عرفات وغيرها ، لغطوا وصرخوا وكبروا وضجوا وقاموا وقعدوا في وسط خطبه ، عندما كان يصل إلى هوية الأئمة الربانيين الاثني عشر ( عليهم السلام ) ! ولا تفسير لذلك إلا أنه من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم !
ومن عجيب حلم الله تعالى أنه أخبر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالصحيفة ، وأمره أن يكتفي بإتمام الحجة عليهم ، وأن يقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ، ويترك لهم حرية العمل ! قال في إرشاد القلوب ( 2 / 336 ) : ( وهي الصحيفة التي تمنى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما توفي عمر ، فقال : ما أحب إليَّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى . ثم ذكرأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التفت إلى أبي عبيدة بن الجراح بعد صلاة الصبح وقال له : بخٍ بخٍ ، مَن مثلك ! لقد أصبحت أمين هذه الأمة ) ! لأن أبا عبيدة كان مؤتمناً على نسختها !
--------------------------- 359 ---------------------------
وقد كشف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمر الصحيفة في مناظرته مع أبي‌بكر وعمر يوم أجبروه على بيعتهم ، فاحتج عليهم بنصوص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليه ، وقال كما روى سليم بن قيس / 153 : ( يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار ، أنشدكم الله ، أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم غدير خم كذا وكذا ، وفي غزوة تبوك كذا وكذا ؟ فلم يدع شيئاً قاله فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علانية للعامة ، إلا ذكرهم إياه . قالوا :
اللهم نعم .
فلما تخوف أبو بكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه ، بادرهم فقال له : كل ما قلت حق قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا ، ولكن قد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد هذا : إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل‌البيت النبوة والخلافة !
فقال علي ( عليه السلام ) : هل أحد من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شهد هذا معك ؟ فقال عمر : صدق خليفة رسول الله ، قد سمعته منه كما قال . وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل : صدق قد سمعنا ذلك من رسول الله !
فقال لهم علي ( عليه السلام ) : لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة : إن قتل الله محمداً أو مات لَتَزْوُنَّ هذا الأمر عنا أهل‌البيت !
فقال أبو بكر : فما علمك بذلك ! فقال ( عليه السلام ) : أنت يا زبير وأنت يا سلمان وأنت يا أبا ذر وأنت يا مقداد ، أسألكم بالله أما سمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك وأنتم تسمعون : إن فلاناً وفلاناً حتى عد هؤلاء الخمسة ، قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا فيه وتعاقدوا أيماناً على ما صنعوا إن قتلتُ أو متُّ أن يتظاهروا عليك ، وأن يزووا عنك هذا يا علي !
فقالوا : اللهم نعم ، قد سمعنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك لك ، فقلتَ : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل ؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم ، وإن أنت لم تجد أعواناً فبايع واحقن دمك !
فقال علي ( عليه السلام ) : أما والله ، لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي
--------------------------- 360 ---------------------------
لجاهدتكم في الله ، ولكن أما والله لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة ! وفيما يكذب قولكم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قوله تعالى : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ، فالكتاب النبوة ، والحكمة السنة ، والملك الخلافة ، ونحن آل إبراهيم ) .
ويحدثنا التاريخ أن أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أرادوا أن يبقى خبر هذه الصحيفة في ذاكرة الأمة ، فأخبر الإمام زين العابدين ولده الإمام الباقر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكان جلسة أصحاب السقيفة .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( دخلت مع أبي الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين فقال : في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو قتل ، ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً ) ! ( الكافي : 4 / 545 ) .
وفي معاني الأخبار / 413 : ( عن مفضل بن عمر قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن معنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه لما نظر إلى الثاني وهو مسجى بثوبه : ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفة من هذا المسجى ، فقال : عنى بها الصحيفة التي كتبت
في الكعبة ) .
وقال المفيد في الفصول المختارة / 90 : ( سئل هشام بن الحكم عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما قبض عمر ، وقد دخل عليه وهو مسجى : لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى ، وفي حديث آخر لهم : إني لأرجو أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى ؟ فقال هشام : هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد وإنما حصل من جهة القصاص وأصحاب الطرقات ، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفاً ، وذلك أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولم يولوهم مقامه من بعده ، فكانت الصحيفة لعمر ، إذ كان عماد القوم ، والصحيفة التي ود أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورجا أن يلقى الله بها هي هذه الصحيفة ، فيخاصمه بها ، ويحتج عليه بمتضمنها .
والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبيّ بن كعب أنه كان يقول في مسجد
--------------------------- 361 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد أن أفضى الأمر إلى أبي‌بكر بصوت يسمعه أهل المسجد : ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس ، فقيل له : يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة ، وما عقدتهم ؟ فقال : قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولا يولوهم مقامه ، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاماً أبين به للناس أمرهم ، قال : فما أتت عليه الجمعة ) .
يقصد أنهم قتلوه بالسم يوم الأربعاء رضي الله عنه .
ورواه عبد الرزاق : 11 / 322 و : 8 / 620 ، الحاكم : 2 / 226 ، و : 4 / 527 ، وأحمد : 5 / 140 .
ورواه مفصلاً ابن سعد في الطبقات : 3 / 501 و 503 ، وجاء فيه قوله في آخر عمره : والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولن فيهم قولاً لا أبالي أستحييتموني عليه ، أو قتلتموني ، فمات يوم الأربعاء !
وروى في الإحتجاج ( 1 / 113 ) أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سمى لعلي ( عليه السلام ) الخمسة أصحاب الصحيفة . وذكر في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 14 ) عقوبتهم في الآخرة .
وتفرد القاضي نور الله التستري في الصوارم المهرقة / 76 ، برواية عن حذيفة ، عن أسماء بنت عميس ، أن القوم اجتمعوا في دار أبي‌بكر ، فأمروا سعيد بن العاص أن يكتب بينهم كتاباً وأرسله أبو عبيدة إلى مكة ، وجاء فيه : ( فإن ادعى أحد أن رسول الله استخلف رجلاً بعينه كان كاذباً في دعواه . . وإن ادعى مدع أن خلافة رسول الله وراثة لأهل بيته فقد أبطل وأحال وخالف قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نحن معاشر الأنبياء لا نورث فما تركناه صدقة ، ومن كره ذلك وخالف أمرهم فقد عاند جماعة المسلمين ، فليقاتلوه فإن في ذلك صلاح الأمة ، فإن رسول الله قد قال : اجتماع أمتي رحمة ولا تجتمع أمتي على ضلال أبداً ، وإنه لا يخرج من جماعة المسلمين إلا مفارق معاند لهم مظاهرعليهم ، فقد أباح الله ورسوله دمه وأحل قتله !
وكتب سعيد بن العاص ، باتفاق من أثبت اسمه وشهادته آخر هذه الصحيفة في المحرم سنة عشر من الهجرة .
--------------------------- 362 ---------------------------
ثم دفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح فوجه بها إلى مكة . .
قال حذيفة : فلما فرغوا من ذلك أتوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في المسجد فجلسوا معه ، فالتفت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أبي عبيدة وقال : بخٍ بخٍ لك يا با عبيدة ، مَن مثلك وقد أصبحت أمين قوم من هذه الأمة . . ولقد أصبح نفر من أصحابي ما هم في فعلهم دون مشركي قريش ، لما كتبوا صحيفتهم وعلقوها في الكعبة . ولولا أن الله أمرني بالإعراض عنهم لأمر هو بالغه ، لقدمتهم وضربت أعناقهم ! قال حذيفة : فوالله لقد رأيت هؤلاء النفر قد استقبلتهم الرعدة ، فلم يملك أحد منهم نفسه ) !
أقول : إن صحت هذه الرواية فهي صحيفة أخرى كتبوها في المدينة وأرسلوها إلى مكة ، وقد تكون بطلب من شركائهم زعماء مكة ، فأرسلوها لهم ، ثم أودعوها مع الصحيفة السابقة ، تحت الرخامة في الكعبة .

6 - المأمون يكشف بعض مكذوبات السلطة في فضائل أبي‌بكر وعمر

روى الصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 199 ) : ( عن يحيى بن أكثم القاضي قال : أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث ، وجماعة من أهل الكلام والنظر ، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلاً ثم مضيت بهم ، فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لأُعلمه بمكانهم ، ففعلوا فأعلمته ، فأمرني بإدخالهم فدخلوا فسلموا فحدثهم ساعة وآنسهم ، ثم قال : إني أُريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي هذا حجة ، فمن كان حاقناً أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته ، وانبسِطوا وسُلوا أخفافكم وضعوا أرديتكم ، ففعلوا ما أُمروا به ، فقال :
يا أيها القوم ! إنما استحضرتكم لاحتج بكم عند الله تعالى ، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم ، ولاتمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ، ورد الباطل على من أتى به ، وأشفِقوا على أنفسكم من النار ، وتقربوا إلى الله تعالى برضوانه وإيثار طاعته ، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه الله عليه ، فناظروني بجميع عقولكم .
--------------------------- 363 ---------------------------
إني رجل أزعم أن علياً خير البشر بعد رسول الله فإن كنت مصيباً فصوبوا قولي وإن كنت مخطئاً فردوا عليَّ ، وهلموا ، فإن شئتم سألتكم ، وإن شئتم سألتموني .
فقال له الذين يقولون بالحديث : بل نسألك . فقال : هاتوا ، وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم ، فإذا تكلم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزِد ، وإن أتى
بخلل فسددوه .
فقال قائل منهم : إنما نحن نزعم أن خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ، من قِبَل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبي‌بكر وعمر ، فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما ، علمنا أنه لم يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس .
فقال المأمون : الروايات كثيرة ، ولابد من أن تكون كلها حقاً أو كلها باطلاً ، أو بعضها حقاً وبعضها باطلاً ، فلو كانت كلها حقّاً كانت كلّها باطلاً ، من قِبَل أن بعضها ينقض بعضاً ، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين ، ودروس الشريعة ، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار ؛ وهو أن بعضها حق وبعضها باطل ؛ فإذا كان كذلك فلابد من دليل على ما يحق منها ليُعتقد ويُنفى خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقّاً كان أولى ما أعتقده وآخذ به .
وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها ، وذلك أن رسول الله أحكم الحكماء ، وأولى الخلق بالصدق ، وأبعد الناس من الأمر بالمحال ، وحمل الناس على التدين بالخلاف ، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلُوَان من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مختلفين ؛ فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم ، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنىً واحد من كل جهة ، وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما ؟ وهذا تكليف ما لا يطاق لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر . والدليل على اختلافهما أن أبا بكر سبا أهل الردة وردهم عمر أحراراً ، وأشار عمر إلى أبي‌بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة ، فأبى أبو بكر عليه ، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر ، ووضع
--------------------------- 364 ---------------------------
عمر ديوان العطية ولم يفعله أبو بكر ، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر ، ولهذا نظائر كثيرة . .
فقال آخر : فإن النبي قال : لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكرخليلاً .
فقال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن رواياتكم أنه آخى بين أصحابه وأخر علياً فقال : ما أخرتك إلاّ لنفسي . فأي الروايتين ثبتت بطلت الأُخرى .
قال الآخر : إن علياً قال على المنبر : خير هذه الأُمة بعد نبيها أبو بكر وعمر .
قال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن النبي لو علم أنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ، ومرّة أُسامة بن زيد . ومما يكذب هذه الرواية قول علي : قبض النبي وأنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفاراً . وقوله : أنى يكونان خيراً مني وقد عبدت الله تعالى قبلهما وعبدته بعدهما !
قال آخر : فإن أبا بكر أغلق بابه ، وقال : هل من مستقيل فأُقيله ، فقال علي : قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك ؟
فقال المأمون : هذا باطل من قِبَل أن علياً قعد عن بيعة أبي‌بكر ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة ( عليها السلام ) وأنها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها .
ووجه آخر : وهو أنه إن كان النبي استخلفه ، فكيف كان له أن يستقيل ويقول للأنصار : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر ؟
قال آخر : إن عمرو بن العاص قال : يا نبي الله من أحب الناس إليك من النساء ؟ قال : عائشة . فقال : من الرجال ؟ فقال : أبوها . فقال المأمون : هذا باطل من قِبَل أنكم رويتم أن النبي وُضع بين يديه طائر مشوي فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، فكان عليّاً . فأيّ روايتكم تُقبل ؟
فقال آخر : فإن علياً قال : من فضلني على أبي‌بكر وعمر جلدته حد المفتري . قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي أجلد الحد على من لا يجب حد عليه فيكون متعدياً لحدود الله عز وجل ، عاملاً بخلاف أمره ، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية ، وقد رويتم عن إمامكم أنه قال : وليتكم ولست بخيركم . فأي الرجلين أصدق عندكم ،
--------------------------- 365 ---------------------------
أبو بكر على نفسه ، أو علي على أبي‌بكر ؟
مع تناقض الحديث في نفسه ، ولابد له في قوله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فإن كان صادقاً فأنى عرف ذلك ؟ بوَحي ؟ فالوحي منقطع ، أو بالتظنّي ؟ فالمتظني متحيّر ، أو بالنظر ؟ فالنظر مبحث ، وإن كان غير صادق ، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ، ويقوم بأحكامهم ، ويقيم حدودهم كذابٌ .
قال آخر : فقد جاء أن النبي قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة .
قال المأمون : هذا الحديث محال ، لأنه لا يكون في الجنة كهل ، ويروى أن أشجعيَّةً كانت عند النبي فقال : لا يدخل الجنة عجوز ، فبكت ، فقال لها النبي : إن الله تعالى يقول : إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا . فإن زعمتم أن أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة ، فقد رويتم أن النبي قال للحسن والحسين إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين ، وأبوهما خير منهما .
قال آخر : فقد جاء أن النبي قال : لو لم أكن أُبعث فيكم لبعث عمر . قال المأمون : هذا محالٌ ، لأن الله تعالى يقول : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ . وقال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوح وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثاً ، ومن أخذ ميثاقاً على النبوة مؤخراً ؟ !
قال آخر : إن النبي نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم فقال : إن الله تبارك تعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة . فقال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه ، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة !
وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أن النبي قال : دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي‌بكر سبقني إلى الجنة ! وإنما قالت الشيعة : علي خير من أبي‌بكر ، فقلتم : عبدُ أبي‌بكر خير من الرسول ، لأن السابق أفضل من المسبوق . وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر وألقى على لسان نبي الله : وأنهن الغرانيق العُلى ! ففر من عمر وألقى على لسان النبي بزعمكم الكفر !
--------------------------- 366 ---------------------------
قال آخر : قد قال النبي : لو نزل العذاب ما نجا إلا عمر بن الخطاب .
قال المأمون : هذا خلاف الكتاب أيضاً ، لأن الله تعالى يقول لنبيه : وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ، فجعلتم عمر مثل الرسول !
قال آخر : فقد شهد النبي لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة .
فقال المأمون : لو كان هذا كما زعمتم ، لكان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك بالله أمِنَ المنافقين أنا ؟ فإن كان قد قال له النبي : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة فصدق حذيفةَ ولم يصدق النبيَّ ، فهذا على غير الإسلام ، وإن كان قد صدق النبي فلِمَ سأل حذيفة ؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما .
قال الآخر : قال النبي : وُضعتُ في كفة الميزان ووُضعتْ أُمتي في كفة أُخرى فرجحت بهم ، ثم وُضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ثم عمر فرجح ثم رُفع الميزان .
فقال المأمون : هذا محال ، من قبل أنه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما ، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنه محال لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأُمة ، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد ، فكيف ترجح بما ليس ؟
فأخبروني بمَ يتفاضل الناس ؟ فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة . قال : فأخبروني فمن فضل صاحبه على عهد النبي ، ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي أيلحق به ؟ فإن قلتم : نعم ، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً وحجّاً وصوماً وصلاة وصدقة من أحدهم . قالوا : صدقت ، لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي .
قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل علي ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم ، وإن كانوا قد روَوا في فضائل علي أكثر ، فخذوا عن أئمتكم ما روَوا ولا تعدُوه .
قال : فأطرق القوم جميعاً ! فقال المأمون : ما لكم سكتُّم ؟ قالوا : قد استُقصينا .
قال المأمون : فإني أسألكم : خبّروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيه ؟
--------------------------- 367 ---------------------------
قالوا : السبق إلى الإسلام لأن الله تعالى يقول : السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . قال : فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام ؟ قالوا : إنه سبق حدثاً لم يجرِ عليه حكم ، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم وبين هاتين الحالتين فرق .
قال المأمون : فخبروني عن إسلام علي أبإلهامٍ من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي ؟ فإن قلتم : بإلهام فقد فضلتموه على النبي لأن النبي لم يُلهَم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً ومعرّفاً . فإن قلتم : بدعاء النبي فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى ؟ فإن قلتم : من قِبَل نفسه ، فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيه في قوله تعالى : وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ، وفي قوله تعالى : وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى . وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم ، فدعاه ثقة به وعلماً بتأييد الله تعالى .
وخلّةٌ أُخرى : خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلف خلقه ما لا يطيقون ؟ فإن قلتم : نعم فقد كفرتم ، وإن قلتم : لا ، فكيف يجوز أن يأمر نبيه بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره ، وحداثة سنه ، وضعفه عن القبول ؟
وخلّةٌ أُخرى : هل رأيتم النبي دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أُسوة علي ؟ فإن زعمتم أنه لم يدعُ غيره ، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس .
ثمّ قال : أي الأعمال أفضل بعد السبق إلى الإيمان ؟ قالوا : الجهاد في سبيل الله . قال : فهل تجدون لأحد من العَشَرة في الجهاد ما لعلي في جميع مواقف النبي من الأثر ؟ هذه بدرقُتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً ، قتل علي منهم نيفاً وعشرين ، وأربعون لسائر الناس .
فقال قائل : كان أبو بكر مع النبي في عَرِيشة يدبرها . فقال المأمون : لقد جئت بها عجيبة ! أكان يدبر دون النبي أو معه فيشركه ، أو لحاجة النبي إلى رأي أبي‌بكر ؟ أي الثلاث أحب إليك أن تقول ؟ فقال : أعوذ بالله من أن أزعم أنه يدبردون النبيّ أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه ! قال : فما الفضيلة في العريش ؟ فإن كانت فضيلة أبي‌بكر بتخلفه عن الحرب ، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلاً
--------------------------- 368 ---------------------------
أفضل من المجاهدين ، والله عز وجل يقول : لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا .
قال إسحاق بن حماد بن زيد : ثمّ قال لي : إقرأ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ فقرأت حتى بلغت : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ، إلى قوله : وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ، فقال : فيمن نزلت هذه الآيات ؟ فقلت : في علي . قال : فهل بلغك أن عليّاً قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا ، على ما وصف الله عز وجل في كتابه ؟ فقلت : لا . قال : فإن الله تعالى عرف سريرة عليّ ونيته ، فأظهر ذلك في كتابه تعريفاً لخلقه أمرَه . .
ثمّ قال : يا إسحاق ، ألستَ ممن يشهد أن العشرة في الجنة ؟ فقلت : بلى . قال : أرأيت لو أن رجلاً قال : ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا ، أكان عندك كافراً ؟
قلت : لا . قال : أفرأيت لو قال : ما أدري هذه السورة قرآن أم لا ، أكان عندك كافراً ؟ قلت : بلى . قال : أرى فضل الرجل يتأكد ، خبرني يا إسحاق عن حديث الطائر المشوي ، أصحيح عندك ؟ قلت : بلى . قال : بانَ والله عنادك ، لا يخلو هذا من أن يكون كما دعاه النبي أو يكون مردوداً ، أو عرف الله الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه ، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من المفضول ، فأي الثلاث أحب إليك أن تقول به ؟
قال إسحاق : فأطرقت ساعة ثمّ قلت : يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى يقول في أبي‌بكر : ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ، فنسبه الله عز وجل إلى صحبة نبيه .
فقال المأمون : سبحان الله ! ما أقل علمك باللغة والكتاب أما يكون الكافر صاحباً للمؤمن ، فأي فضيلة في هذه ! أما سمعت قول الله تعالى : قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ، فقد جعله له صاحباً . . وأمّا قوله : إِنَّ اللهَ مَعَنَا ، فإن الله تبارك وتعالى مع البَر والفاجر ، أما سمعت قوله تعالى : مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ .
--------------------------- 369 ---------------------------
وأمّا قوله : لاَ تَحْزَنْ ، فأخبرني عن حزن أبي‌بكر أكان طاعة أو معصية ؟ فإن زعمت أنّه طاعة فقد جعلت النبي ينهى عن الطاعة ، وهذا خلاف صفة الحكيم ، وإن زعمت أنّه معصية ، فأي فضيلة للعاصي ؟
وخبرني عن قوله تعالى : فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، على من ؟ قال إسحاق : فقلت على أبي‌بكر ، لأن النبي كان مستغنياً عن السكينة .
قال : فخبّرني عن قوله عز وجل : وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . أتدري مَن المؤمنون الذين أراد الله تعالى في هذا الموضع . . .
ثمّ أقبل على أصحاب النظر والكلام فقال : أسألكم أو تسألوني ؟ فقالوا : بل نسألك . فقال : قولوا . فقال قائل منهم : أليست إمامة علي من قبل الله عز وجل نُقلَ ذلك عن رسول الله من نقل الفرض مثل الظهر أربع ركعات ، وفي مائتي درهم خمسة دراهم ، والحج إلى مكة ؟ فقال : بلى . قال : فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفرض واختلفوا في خلافة علي وحدها ؟
قال المأمون : لأن جميع الفرض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ، ما يقع في الخلافة .
فقال آخر : ما أنكرت أن يكون النبي أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه ، رأفة بهم ورقة عليهم ، من غير أن يستخلف هو بنفسه فيُعصى خليفته ؟ فقال : أنكرت ذلك من قِبَل أن الله تعالى أرأف بخلقه من النبي ، وقد بعث نبيه إليهم وهو يعلم أن فيهم العاصي والمطيع ، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله . وعلّة أُخرى : لو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم فلو أمر الكل من المختار ؟ ولو أمر بعضنا دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة ، فإن قلت الفقهاء فلابد من تحديد الفقيه وسِمته .
قال آخر : فقد روي أن النبي قال : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله تعالى حسن ، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح .
فقال : هذا القول لابد من أن يكون يريد كل المؤمنين أو البعض ، فإن أراد
--------------------------- 370 ---------------------------
الكل فهذا مفقود ؛ لأن الكل لا يمكن اجتماعهم ، وإن كان البعض فقد روى كل في صاحبه حسناً مثل رواية الشيعة في علي ، ورواية الحشوية في غيره ، فمتى يثبت ما تريدون من الإمامة ؟ قال آخر : فيجوز أن تزعم أن أصحاب محمد أخطأوا ؟
قال : كيف نزعم أنهم أخطأوا واجتمعوا على ضلالة ، وهم لم يعلموا فرضاً ولا سنة ، لأنك تزعم أن الإمامة لا فرضٌ من الله تعالى ولا سنة من الرسول ، فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ .
قال آخر : إن كنت تدعي لعلي من الإمامة دون غيره ، فهات بينتك على ما تدعي . فقال : ما أنا بمدع ولكني مقر ، ولا بينة على مقر ، والمدعي من يزعم أن إليه التولية والعزل ، وأن إليه الاختيار ، والبينة لا تعرى من أن تكون من شركائه فهم خصماء ، أو تكون من غيرهم والغير معدوم ، فكيف يؤتى بالبينة على هذا ؟
قال آخر : فما كان الواجب على عليّ بعد مضيّ رسول الله ؟ قال : ما فَعَلَه . قال : أفما وجب أن يُعلم الناس أنه إمام ؟ فقال : إن الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ، ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، إنما تكون بفعل من الله تعالى فيه ، كما قال لإبراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وكما قال عز وجل لداود : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ، وكما قال عز وجل للملائكة في آدم : إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، فالإمام إنما يكون إماماً من قبل الله تعالى ، وباختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل ، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقّاً للإمامة ، وإذا عمل خلافها اعتزل ، فيكون خليفة قبل أفعاله . . .
قال آخر : فلِمَ لم يقاتل علي أبا بكر وعمر كما قاتل معاوية ؟
فقال : المسألة محال ، لأن لِمَ اقتضاء ولم يفعل نفي ، والنفي لا يكون له علة ، إنما العلة للإثبات ، وإنما يجب أن يُنظر في أمر عليّ أمن قبل الله أم من قبل غيره ؟ فإن صح أنه من قبل الله تعالى فالشك في تدبيره كفر ، لقوله تعالى : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ، فأفعال الفاعل تبع لأصله فإن كان قيامه عن الله تعالى فأفعاله عنه وعلى الناس الرضا والتسليم .
--------------------------- 371 ---------------------------
وقد ترك رسول الله القتال يوم الحديبية يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقوي حارب ، كما قال تعالى في الأوّل : فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ، ثم قال عز وجل : فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ . .
فقال المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي أفأسألكم ؟ قالوا : نعم .
قال : أليس قد روت الأُمّة بإجماع منها أن النبي قال : من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ؟ قالوا : بلى . قال : فخبروني عن رجل تختاره الأُمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له : خليفة رسول الله ، ومن قِبَل الله عز وجل ولم يستخلفه الرسول ؟ فإن قلتم نعم فقد كابرتم ، وإن قلتم : لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله ، ولا كان من قبل الله عز وجل ، وأنكم تكذبون على
نبي الله ، فإنّكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي بدخول النار .
وخبّروني في أي قوليكم صدقتم ؟ أفي قولكم : مضى ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي‌بكر : يا خليفة رسول الله ؟ فإن كنتم صدقتم في القولين ، فهذا ما لا يمكن كونه إذ كان متناقضاً ، وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الآخر .
فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم ودعوا التقليد وتجنبوا الشبهات ، فوَالله ما يقبل الله تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ، ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حقّ ، والريب شكٌّ ، وإدمان الشك كفر بالله تعالى ، وصاحبه في النار .
ثم قال : خبروني عن النبي هل استخلف حين مضى أم لا ؟ فقالوا : لم يستخلف . قال : فترْكه ذلك هُدَىً أم ضلال ؟ قالوا : هدى . قال : فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال .
قالوا : قد فعلوا ذلك . قال : فلِمَ استخلف الناسُ بعده وقد تركه هو ؟ فترْك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى ، فلِمَ استَخلف أبو بكر ولم يفعله النبي ؟ ولِمَ جعل عمرالأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً على صاحبه ؟ لأنكم زعمتم أن النبي لم يستخلف ، وأن أبا بكر استخلف ، وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي بزعمكم ، ولم
--------------------------- 372 ---------------------------
يستخلف كما فعل أبو بكر ، وجاء بمعنى ثالث ، فخبروني أي ذلك ترونه صواباً ؟ فإن رأيتم فعل النبي صواباً فقد خطّأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل ! وخبروني أيهما أفضل ، ما فعله النبي بزعمكم من ترك الاستخلاف ، أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف ؟ وخبَّروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول هدى ، وفعله من غيره هدى ، فيكون هدى ضد هدى ، فأين الضلال حينئذ ؟
وخبّروني هل ولي أحد بعد النبي باختيار الصحابة منذ قبض النبي إلى اليوم ؟ فإن قلتم : لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي ، وإن قلتم نعم ، كذبتم الأُمة ، وأبطل قولَكم الوجودُ الذي لا يُدفع .
وخبروني عن قول الله عز وجل : قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للهِ ، أصدق هذا أم كذب ؟ قالوا : صدق . قال : أفلَيس ما سوى الله لله ، إذ كان محدثه ومالكه ؟ قالوا : نعم . قال : ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة تفترضون طاعته ، وتسمونه خليفة رسول الله ، وأنتم استخلفتموه ، وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه ، وعمل بخلاف محبتكم ، ومقتولٌ إذا أبى الاعتزال .
ويلكم ! لا تفتروا على الله كذباً ، فتلقوا وبال ذلك غداً إذا قمتم بين يَدي الله تعالى ، وإذا وردتم على رسول الله وقد كذبتم عليه متعمدين . ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم إني قد أرشدتهم ، اللهم إني قد أخرجت ما وجب عليَّ إخراجه من عنقي ، اللهمّ إني لم أدَعهم في ريب ولا في شك ، اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم عليٍّ على الخلق بعد نبيك محمد . كما أمرنا به رسولك !
قال : ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون .
قال محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري : وفي حديث آخر : قال فسكت القوم ، فقال لهم : لِمَ سكتم ؟ قالوا : لا ندري ما تقول . قال : تكفيني هذه الحجة عليكم . قال : فخرجنا متحيرين خجلين . ثم نظرالمأمون إلى الفضل بن سهل فقال : هذا أقصى ما عند القوم ، فلايظن ظانٌّ أن جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ) !
* *
--------------------------- 373 ---------------------------

الفصل العشرون: أعلن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) خليفته يوم الغدير

1 - مراسم إعلان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خلافة علي ( عليه السلام ) يوم الغدير

« عن عطية السعدي قال : سألت حذيفة بن اليمان عن إقامة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) يوم الغديرغديرخم ، كيف كان ؟ فقال : إن الله تعالى أنزل على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ . فقالوا : يا رسول الله ما هذه الولاية التي أنتم بها أحق منا بأنفسنا ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : السمع والطاعة فيما أحببتم وكرهتم . فقلنا : سمعنا وأطعنا . فأنزل الله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . فخرجنا إلى مكة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع ، فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : أنصب علياً عَلَماً للناس ! فبكى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى اخضلت لحيته وقال : يا جبرئيل إن قومي حديثوا عهد بالجاهلية ، ضربتهم على الدين طوعاً وكرهاً حتى انقادوا لي ، فكيف إذا حملت على رقابهم غيري ! قال : فصعد جبرئيل » . ( إقبال الأعمال : 2 / 241 ، وإثبات الهداة : 3 / 245 ) .
وفي تفسير العياشي ( 1 / 331 ) عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله الأنصاري قالا : « أمر الله تعالى نبيه محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن ينصب علياً ( عليه السلام ) علماً للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ! فأوحى الله إليه : يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . . فقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بولايته يوم غدير خم » .
أقول : تنفيذاً لأمر ربه ، ركز النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع في خطبه وكلامه على مقام أهل بيته
--------------------------- 374 ---------------------------
الطاهرين ( عليهم السلام ) ، وأنهم مع القرآن وصيته في أمته ، حتى حفظ المسلمون حديث : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي . وبشرالأمة بالأئمة الاثني عشر منهم ، وبلغها أن الله تعالى فرض طاعتهم ، وكرمهم ، فحرم عليهم الصدقات ، وجعل لهم مالية خاصة هي الخمس . . إلخ .
أنظر ما رووه فقالوا : ( خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته ، فقال : ولا ما يساوي هذه ، أو ما يزن هذه ) . رواه أحمد بن حنبل ( 4 / 186 ) وسعيد بن منصور ( 1 / 150 ) وعبد الرزاق ( 9 / 48 ) وفيه : ( شهدت مع رسول الله حجته فكنت تحت جران ناقته . . فسمعته يقول وهو يخطب بمنى ) .
وكانت خطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحج ، وأقواله في حق علي وفاطمة والحسنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم ، فلا ننس أن عدداً من زعماء الذين وقعوا صحيفة مقاطعة بني هاشم ومحاصرتهم في الشعب ، ثم عملوا لقتل محمد سنين طويلة ، ثم حاربوه عدة حروب ، كانوا في حجة الوداع تحت منبره ، ومنهم سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبا الأعور السلمي . وغيرهم ، وغيرهم !
وكانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لبني هاشم ، وقد نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين ، لمعالجة هذا الاتجاه الخطير ! و ( حرمان ) بقية قبائل قريش من القيادة ، حسب زعمهم ! فهم الذين كانوا يقولون في غيابه ، إنه يحابي ابن عمه ، ولم ينزل عليه شئ في علي ، بل يريد أن يؤسس ملكاً لبني هاشم كملك كسرى وقيصر ، ويحرم قبائل قريش ، يريد أن يجعلنا عبيداً طلقاء محكومين لبني هاشم !
وزاد نشاطهم في حجة الوداع ، وكتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا ( الصحيفة الملعونة ) لأنهم تعاهدوا فيها أن يعزلوا بني هاشم ولا يسمحوا لهم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة ! وأودعوها داخل الكعبة كصحيفة قريش الأولى ، لكنها هذه المرة باسم الإسلام ! وقد أطلع الله تعالى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليها فأخبرأصحابها بفعلتهم ، فارتعدت فرائصهم ! ونظر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغضب إلى أبي عبيدة وقال له : ( أصبحت أمين هذه الأمة ؟ ! )
--------------------------- 375 ---------------------------
لأنه كان مؤتمناً على نسخة الصحيفة ! لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اكتفى بإتمام الحجة عليهم ، وترك لهم حرية العمل !

2 - نزل جبرئيل بآية التبليغ وأوقف قافلة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كان جبرئيل ( عليه السلام ) ينزل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طوال حجة الوداع ، وقد يملي عليه عبارات من خطبه . وكان قال له في المدينة : إن الله عز وجل يأمرك أن تدل أمتك على وليهم ، فاعهد عهدك ، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث الأنبياء ، فورثه علياً وأقمه عَلَماً للناس ، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني ، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي . . الخ .
روى الكليني في الكافي ( 1 / 289 ) والقاضي المغربي في دعائم الإسلام ( 1 / 14 ، و : 2 / 276 ) أن رجلاً قال للإمام الباقر ( عليه السلام ) : « يا ابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري ، وخشيت أن يكذبني الناس ، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ؟
قال له أبو جعفر : فهل حدثكم بالرسالة ؟ قال : لا ، قال : أما والله إنه ليعلم ما هي ، ولكنه كتمها متعمداً ! قال الرجل : يا ابن رسول الله جعلني الله فداك ، وما هي ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه ، فلم يدروا ما الصلاة ، ولا كيف يصلون ، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يبين لهم كيف يصلون ، فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسَّراً . وفرض الصلاة في القرآن جملة ، ففسرها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنته ، وأعلمهم بالذي أمرهم به من الصلاة التي فرض الله عليهم .
وأمر بالزكاة فلم يدروا ما هي ففسرها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع ، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته وبينه لهم .
وفرض عليهم الصوم فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون ، ففسره لهم
--------------------------- 376 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبين لهم ما يتقون في الصوم وكيف يصومون .
وأمر بالحج فأمرالله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يفسر لهم كيف يحجون ، حتى أوضح لهم ذلك في سنته .
وأمر الله عز وجل بالولاية فقال : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . ففرض الله ولاية ولاة الأمر فلم يدروا ما هي ، فأمر الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يفسرلهم ما الولاية مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذرعاً ، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه : يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، يوم غدير خم ونادى لذلك : الصلاة جامعة ، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب .
وكانت الفرائض ينزل منها شئ بعد شئ ، تنزل الفريضة ، ثم تنزل الفريضة الأخرى . وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا .
قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة ، قد أكملت لكم هذه الفرائض » .
« فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية ، وأخاف عليهم أن يرتدوا ، فأنزل الله عز وجل : يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، في علي ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . فلم يجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بداً من أن جمع الناس بغدير خم فقال : أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ، أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي ، وأني مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، فأخذ بيد علي ( عليه السلام ) فأقامه ورفع يده بيده وقال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، ومن كنت وليه فهذا علي وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار . ثم قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فوجبت ولاية علي ( عليه السلام ) على كل مسلم ومسلمة » .
--------------------------- 377 ---------------------------
وفي تفسير العياشي : ( 1 / 333 ) أن الذي سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) « رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعشى ، كان يروي عن الحسن البصري . . إلى آخر ما تقدم » .
وفي شرح الأخبار ( 1 / 104 ) : « قال جعفر بن محمد ( عليه السلام ) عن أبيه عن آبائه صلوات الله عليهم أجمعين : إن آخرما أنزل الله عز وجل من الفرائض ولاية علي ( عليه السلام ) ، فخاف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن بلغها الناس أن يكذبوه ويرتد أكثرهم حسداً له ، لما علمه في صدور كثير منهم له ! فلما حج حجة الوداع وخطب بالناس بعرفة ، وقد اجتمعوا من كل أفق لشهود الحج معه ، علمهم في خطبته معالم دينهم ، وأوصاهم وقال في خطبته : إني خشيت ألا أراكم ولا تروني بعد يومي هذا ، في مقامي هذا ، وقد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، حبل ممدود من السماء إليكم طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، وأجمل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذكر الولاية في أهل بيته ، إذ علم أن ليس فيهم أحد ينازع فيها علياً ( عليه السلام ) وأن الناس إن سلموها لهم سلموها لعلي ( عليه السلام ) ، واتقى عليه وعليهم أن يقيمه هو بنفسه .
فلما قضى حجه وانصرف وصار إلى غدير خم ، أنزل الله عز وجل عليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فقام بولاية علي ونص عليه كما أمرالله تعالى ، فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً » .

3 - خطبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الغدير

جاءه جبرئيل ( عليه السلام ) بآية التبليغ وهو في كراع الغميم ، لخمس ساعات مضت من النهار ، فخشع لربه وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره إلى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم وصل إلى مشارف الجحفة ، وهي بلدةٌ عامرة على بعد ميلين أو أقل ، لكنه أراد تنفيذ الأمر الإلهي فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي ، ونادى مناديه : أيها الناس أجيبوا داعي الله ، وأمرهم أن يوقفوا من تأخر من المسلمين ، ويردوا
--------------------------- 378 ---------------------------
من تقدم منهم .
وتقدم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو دوحة غدير خم ، وأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبته وللصلاة في ذلك الهجير ، فنصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر ، ووضعوا عليها حدائج الإبل فصارت أكثر ارتفاعاً ، ووردوا ماء الغديرفشربوا منه وتوضؤوا .
ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير ، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة ، فجلس بعضهم في الشمس واستظل بثوبه ، أو استظل بظل ناقته .
عرفوا أن أمراً حدث وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيخطب ، فقد نزل عليه وحيٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير ، قبل محطة الجحفة القريبة !
وصعد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منبر الأحجار والأحداج ، وبدأ باسم الله تعالى ، وأخذ يحمده ويثني عليه ، ويُشهد الله تعالى والناس على عبوديته المطلقة لربه العظيم عز وجل . ثم قدم لهم عذره لأنه اضطرأن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر ، ولم يمهلهم إلى الجحفة المناسبة لنزول قافلة كبيرة ، وكلفهم الاستماع إليه في حرالظهيرة !
أخبرهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( الكافي : 1 / 290 ) أن جبرئيل ( عليه السلام ) أمره أن يفسرللمسلمين فريضة الولاية ، ويقيم علياً ( عليه السلام ) إماماً بعده للناس ، فقال لهم : ( إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وخفت الناس أن يكذبوني ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي ، يقول قائل ويقول قائل ! فأتتني عزيمة من الله بَتْلة « قاطعة » في هذا المكان ، وتوعدني إن لم أبلِّغها ليعذبني ! وقد ضمن لي العصمة من الناس ، وهو الكافي الكريم ، فأوحى إلي : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .
ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا إله إلا هو ، لا يؤمن مكره ، ولا يخاف جوره ، أقرُّ له على نفسي بالعبودية ، وأشهد له بالربوبية ، وأؤدي ما أوحى إليَّ ، حذراً من أن لا أفعل ، فتحل بي منه قارعةٌ ، لايدفعها عني أحدٌ ، وإن عظمت حيلته .
أيها الناس : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت . فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن
--------------------------- 379 ---------------------------
الجنة حقٌ ، وأن النار حقٌ ، وأن البعث حق ؟
قالوا : بلى يا رسول الله . فأومأ رسول الله إلى صدره وقال : وأنا معكم .
قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا لكم فرط وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وسعته ما بين صنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب قِدْحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين . فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان ؟
قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الأكبر كتاب الله ، طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا . والأصغر : عترتي أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي « ثلاثاً » وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، سألت ربي ذلك لهما ، فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : قم يا علي ، فقام علي عن يمين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار .
فاعلموا معاشرالناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً ، مفترضةً طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادي والحاضر ، وعلى الأعجمي والعربي ، والحر والمملوك ، والصغير والكبير .
فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه » !
ثم أفاض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيان مكانة علي والعترة والأئمة الاثني عشر من بعده : علي والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين ( عليهم السلام ) واحدٌ بعد واحد مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا عليَّ حوضي .
ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه فشهدوا له ، وأمرهم أن يبلغ
--------------------------- 380 ---------------------------
الشاهد الغائب فوعدوه . وقام إليه آخرون فسألوه ، فأجابهم .
وما أن أتم خطبته حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا ، فكبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي وولاية علي بعدي .
وجاء حسان بن ثابت وقال : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً :
يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُمْ * بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليُّكُمْ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليُّ فإنني * رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى علياًً معاديا
وأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن تنصب لعلي ( عليه السلام ) خيمة ويهنئه المسلمون بولايته عليهم ، ويبايعوه على الولاية ، وأمر نساءه فجئن إلى باب الخيمة ، وهنأنه وبايعنه ، فأمر علي ( عليه السلام ) أن يوضع لهن تِبُّ ماء ، أي سطل فيه ماء ، فغمسن أيديهن فيه علامة البيعة ، ثم غمس يده بعدهن علامة قبولها !
وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ! « راجع : كمال الدين / 276 ، وأمالي الصدوق / 50 ، والاحتجاج : 1 / 70 ، وروضة الواعظين / 89 ، والمسترشد / 117 والكافي : 4 / 148 ، والفقيه : 2 / 90 ، وتهذيب الأحكام : 4 / 305 ، وثواب الأعمال / 74 . وغيرها » .
وفي الغيبة للنعماني / 74 ، في جواب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمعاوية : « فنصبني رسول الله بغديرخم وقال : إن الله عز وجل أرسلني برسالة ضاق بها صدري ، وظننت أن الناس يكذبوني ، فأوعدني لأبلغنها أو ليعذبني ! قم يا علي ، ثم نادى بأعلى صوته بعد أن أمر أن ينادي بالصلاة جامعة ، فصلى بهم الظهر ، ثم قال :
أيها الناس ، إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم منهم بأنفسهم ، من
--------------------------- 381 ---------------------------
كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
فقام إليه سلمان الفارسي فقال : يا رسول الله ، ولاءُ ماذا ؟ فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ، فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا .
فقال له سلمان : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآيات في علي ؟ قال : بل فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة . فقال : يا رسول الله بيِّنهم لي .
قال : عليٌّ أخي ووصيي وصهري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي ، وأحد عشر إماماً من ولدي ، أولهم ابني حسن ، ثم ابني حسين ، ثم تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد ، هم مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض . . .
يا أيها الناس ، إني قد أعلمتكم مفزعكم بعدي ، وإمامكم ووليكم وهاديكم بعدي ، وهو علي بن أبي طالب أخي ، وهو فيكم بمنزلتي ، فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم ، فإن عنده جميع ما علمني الله عز وجل ، أمرني الله عز وجل أن أعلمه إياه ، وأن أعلمكم أنه عنده ، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه ، ولا تعلموهم ولا تتقدموا عليهم ، ولا تتخلفوا عنهم ، فإنهم مع الحق والحق معهم ، لا يزايلهم ولا يزايلونه » .
أقول : روت مصادرنا خطبة الغدير بروايات يصل بعضها إلى صفحات ، وروتها مصادر السلطة بصفحة أو بسطور ، والمطلب الأساس فيها ولاية علي ( عليه السلام ) ، وبخبخة عمر بن الخطاب ، وحديث الثقلين ! راجع : كمال الدين / 276 ، والاحتجاج : 1 / 70 ، والمسترشد / 117 ، وغيرها .

4 - أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنصب خيمة لعلي ( عليه السلام ) وتهنئته ومبايعته

عصم الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الناس يوم الغدير ! فكمَّمَ أفواه قريش عن المعارضة وفتحها للموافقة ، فقالوا جميعاً : نشهد أنك بلغت عن ربك ، وأنك نعم الرسول ، سمعنا لك
--------------------------- 382 ---------------------------
وأطعنا ! وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي !
ثم أصغوا إلى قصيدة حسان في وصف إبلاغ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاية علي ( عليه السلام ) بأمر ربه .
ثم تقاطروا مع المهنئين إلى خيمة علي ( عليه السلام ) ، واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر ، ثم من بعد صلاة المغرب والعشاء ليلة التاسع عشر من ذي الحجة ، فقد بات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غدير خم ، وقيل بقي فيه يومان !
قال المفيد في مسارِّ الشيعة / 38 : « وفي اليوم الثامن عشر منه ، سنة عشر من الهجرة عقد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لمولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب العهد بالإمامة في رقاب الأمة كافة ، وذلك بغديرخم عند مرجعه من حجة الوداع ، حين جمع الناس فخطبهم ووعظهم ونعى إليهم نفسه ، ثم قررهم على فرض طاعته حسب ما نزل به القرآن وقال لهم . . . ثم نزل فأمر الكافة بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين ، تهنئة له بالمقام ، وكان أول من هنأه بذلك عمر بن الخطاب » !
وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 176 ) : « ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض ، فصلى بهم الظهر ، وجلس ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خيمته وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنؤوه بالمقام ، ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك كلهم ، ثم أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن .
وكان ممن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب ، فأظهر له المسرة به ، وقال فيما قال : بخٍ بخٍ يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » !
وفي كتاب سُلَيم بن قيس / 356 : « وأمر بنصب خيمة وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يدخل فيها ، وأول من أمرهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هما أبو بكر وعمر ، فلم يقوما إلا بعد ما سألا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : هل من أمر الله هذه البيعة ؟ فأجابهما : نعم من أمرالله جل وعلا واعلما أن من نقض هذه البيعة كافر ، ومن لم يطع علياً كافر ، فإن قول علي قولي ، وأمره أمري ، فمن خالف قول علي وأمره فقد خالفني » !
--------------------------- 383 ---------------------------
وفي مناقب آل أبي طالب « 2 / 237 » عن أبي سعيد الخدري قال : « ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا قوم هنئوني هنئوني ، إن الله خصني بالنبوة ، وخص أهل بيتي بالإمامة » .

5 - حديث بيعة علي ( عليه السلام ) في الغدير صحيح متواتر عندهم

سمعت أحد علماء السلطة في عصرنا يقول متعجباً : لم يكن للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أي شغل ولا أي هدف آخر في نزوله وخطبته في غدير خم ، إلا إعلان ولاية علي ! فقد أوقف المسلمين في الهجير ، قبل منزل الجحفة الواسع ، لغرض واحد فقط !
كان يقول ذلك متعجباً متحيراً ! ومن هنا كان حديث الغدير يُحيرالمنكرين لأنه عندهم صحيحٌ متواترٌ ، ومن أصح رواياته عندهم على شرط الشيخين حديث أبي هريرة في فضل صوم يوم الغدير شكراً لله تعالى ونصه : « من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم ، لما أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه . فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ! فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا » . « تاريخ دمشق : 42 / 233 ، وتاريخ بغداد : 8 / 248 ، والمنتظم : 5 / 233 »
وقد شهد نقادهم بأن كل رواته ثقات ، واستقصى السيد الميلاني مصادره ، وكلماتهم فيه ، في نفحات الأزهار : 8 / 262 » .
وقال الأميني في الغدير « 1 / 236 » : « رواية أبي هريرة صحيحة الإسناد عند أساتذة الفن ، منصوص على رجالها بالتوثيق . . لكن مع صحتها على شرط البخاري ومسلم ، حاول الذهبي الطعن فيها بدون دليل ، إلا التعصب !
وأما ابن كثير فزوَّر الحديث وكَذَبَ جهاراً نهاراً ! فزعم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيَّن في خطبته يوم الغدير أشياء ، ثم عالج مشكلة كانت بين علي وكثير من الناس ! وكلاهما كذب ، فلم يبين فيها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أي شئ إلا ما يتصل بولاية علي ( عليه السلام ) ،
--------------------------- 384 ---------------------------
ولم يكن فيها أي معالجة لمشكلة مزعومة بين علي ( عليه السلام ) وأحد من الصحابة !
قال ابن كثير الناصبي في النهاية « 5 / 4089 : « لما تفرغ النبي من بيان المناسك ورجع إلى المدينة ، خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغديرخم ، تحت شجرة هناك ، فبين فيها أشياء ، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه ، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه . وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري ، فجمع فيه مجلدين ، وأورد فيها طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر ، أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة » .
يزعم ابن كثير أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين على علي ( عليه السلام ) متحاملين عليه ، فأوقفهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غدير خم ليرضِّيهم عنه و ( يزيح ما في نفوس كثير من الناس منه ) ! و « أشياء » من هذا القبيل !
وقلَّد العجلوني ابن كثير في التزوير « كشف الخفاء : 2 / 258 » لكنه نقل تكذيب الذهبي للحديث بدليل واهٍ ، ولم يؤيده ! وارتكب التحريف قبلهم الحسن البصري ، وهو من رواة السلطة القدماء ، لكن ابن كثير فاق الجميع ! ولهذا يحبه الوهابية !
ومن روايات الغدير الصحيحة عندهم ، رواية مسلم في صحيحه « 7 / 122 » : « عن يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة ، وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلفونيه . ثم قال : قام رسول الله يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في
--------------------------- 385 ---------------------------
أهل بيتي ثلاثاً !
فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ؟ ! ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم » . ورواه أحمد ( 2 / 366 ) والحاكم ( 2 / 148 ) وفيهما : لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض . وهذا إخبارٌ من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الصادق المصدوق بوجود إمام من أهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى يوم القيامة .

6 - لماذا غدير خم قبل منزل الجحفة ؟

لماذا أنزل الله تعالى على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية التبليغ في الطريق والصحراء والظهيرة ؟ كأنه يقول بذلك لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : المدينة أيها الرسول مثل مكة ، فإن بلَّغت ولاية عترتك فيها ، فقد تعلن قريش رِدًّتها ! فموقفها من عترتك جازم مستميت .
وبما أن واجبك مجرد التبليغ ، فهو ممكنٌ هنا ، فبلغ ولا تؤخر ، وسوف أعصمك من قريش ، وأقبض على قلوبها ، وألجم شياطينها الحاضرين ، وأعالج آثار إعلانك ولاية علي ، وأحفظ نبوتك فيها .
ثم أُمْلِي لها بعدك فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك ، حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد ! ثم أبعث المهدي من ولدك ، فيملأ الأرض عدلاً ، كما ملأها أئمة الضلال جوراً ! ولا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون .
يريد سبحانه للرسالة أن تصل وللحجة أن تقام ، وأن تبقى نبوة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) محفوظة ، فأسكت قريشاً في غدير خم ، وكمَّمَ أفواهها .
ويظهرأن قريشاً تفاجأت يوم الغدير ، ثم أقنعت نفسها بأن المسألة إعلانٌ كإعلانات حجة الوداع ، والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما زال حياًّ ، فإن مات حان وقت العمل . وقد أكد لها صحة سكوتها أن النضر بن الحارث اعترض فأرسل الله عليه حجراً من سجيل فأهلكه ، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته !
--------------------------- 386 ---------------------------
أما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكان تفكيره رسولياً ، وليس قرشياً ، فقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره ، واتقى غضبه وعذابه ، واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع ، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي ، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة ، فأخبره بأن مهمته وصلت إلى ختامها .
كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عيد ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه ، فرضي عنه ، وقد تكون أصعب رسالة عليه في عمره النبوي على الإطلاق !
وهي الرسالة التي قال الحسن البصري إن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها ، فخاف ربه وصدع بها .
ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راغَ عنها ولم يخبرهم ما هي ! فصار إخوة الحسن البصري يروغون عنها ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
كان فكر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ربانياً على مستوى الخطة الإلهية ، فهذا هو منطق التبليغ وحسب ! ولذلك لم يشاورهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيعة علي ، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج إلى مشورتهم ، ولا بيعتهم ، ولا رضاهم . فالمشورة فيما جعله الله لهم ولم يقض فيه أمراً ، أما إذا قضى الأمر فلا خيرة : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا .
وإذا قضى الله الأمر فلابيعة ، إلا بيعة الإقرار بما قضاه ، والتهنئة كذلك إقراراً بالاختيار الإلهي ، وإعلان الرضاً به ، ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم ، فإنما على الرسول أن يبلغهم ، وحسابهم على من يملك الدنيا والآخرة ويفعل ما يريد !
فتبليغ ولاية علي ( عليه السلام ) اصطفاء ، وتهنئته اعتراف . والبيعة تعهد بالالتزام .

7 - حجر من سجيل للمعترضين من قريش !

معنى قوله تعالى : « وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » أنه تعالى تكفل بحفظ نبوة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن لا تقوم ضده حركة ردة إذا بلغ رسالة ربه في علي والعترة ( عليهم السلام ) .
فهو ضمان لأن تسكت قريش على تبليغ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاية علي ( عليه السلام ) فعلاً ، وليس
--------------------------- 387 ---------------------------
ضمان طاعتها وعدم اعتراضها ، ولا عدم محاولتها قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مجدداً !
لذلك وقعت محاولة قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في طريق عودته من حجة الوداع وبعد وصوله إلى المدينة ، لكن لم تحدث حركة ردة علنية عن نبوته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقد روت مصادرنا وبعض مصادرهم ما قاله المعترضون القرشيون ! وكيف نزل العذاب على المعترض ! وقد بحثنا ذلك في كتابنا آيات الغدير .
ونكتفي هنا بما رواه في الكافي « 1 / 422 ، و : 8 / 57 » وتفسير فرات / 504 : « طُرحت الأقتاب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم غدير خم ، قال : فعلا عليها فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فاستلها فرفعها ، ثم قال : اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله . فقام إليه أعرابي من أوسط الناس فقال : يا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا ، وأنك رسول الله فصدقنا ، وأمرتنا بالصلاة فصلينا ، وبالصيام فصمنا ، وبالجهاد فجاهدنا ، وبالزكاة فأدينا ، قال : ولم يقنعك إلا أن أخذت بيد هذا الغلام على رؤوس الأشهاد فقلت : اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ! فهذا من الله أم منك ؟ !
قال : هذا من الله لامني ! قال : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا من الله لاعنك ! قال : آلله الذي لا إله إلاهو لهذا من الله لامني . ثم قال ثالثة : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا من ربك لا منك ؟ قال : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا من ربي لا مني .
قال : فقام الأعرابي مسرعاً إلى بعيره وهو يقول : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . قال : فما استتم الأعرابي الكلمات حتى نزلت عليه نار من السماء فأحرقته ، وأنزل الله في عقب ذلك : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع ٍ . لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ » .
وأقدم من روى ذلك من أئمة السنيين أبو عبيد الهروي ( ت 223 ) في : غريب القرآن ، قال : « لما بَلَّغَ رسول بغدير خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد أتى جابر بن
--------------------------- 388 ---------------------------
النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ، فقال : يا محمد ! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك . ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شئ منك أم من الله ؟ ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : والذي لا إله إلا هو إن هذا
إلا من الله .
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره ، وقتله ، وأنزل الله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . . الآية » .

8 - نزلت ثلاث آيات في بيعة الغدير

أولها قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . « » المائدة : 67 » .
والثانية : قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا . « المائدة : 3 » نزلت بعد أن خطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونصب علياً ( عليه السلام ) خليفته .
والثالثة : قوله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . « المعارج : 1 - 2 » عندما اعترض على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معترض من قريش . وفي كل منها حديث صحيح عندهم ، وقد فصلناها في رسالة : تفسير آيات الغدير .

9 - المنطق النبوي حقق هدفه وفضح قريشاً

بعد بيعة السقيفة ، قرر علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة ، التي شرط فيها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحموه وأهله وذريته مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ! وكانت فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها ، فأركبها علي ( عليه السلام ) على دابة ، وأخذ بيد الحسن والحسين ، وجال على بيوت رؤساء الأنصار في ليلتين ،
وكانت أكثرما تكلمهم فاطمة ( عليها السلام ) فقال لها بعضهم : يا بنت رسول الله ، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي‌بكر ، ما عدلنا بعلي أحداً ! فقالت ( عليها السلام ) : وهل ترك أبي يوم غدير
--------------------------- 389 ---------------------------
خمٍّ لأحد عذراً ! ( الخصال 1 / 173 ) .
إن منطق الزهراء ( عليها السلام ) منطق أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولذلك قالت لهم : إن الله يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم ، وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة ، ومنها حق زوجها علي وولديها في الولاية على الأمة بعد نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قالت لهم ، لاعذر لكم ، فلا تخدعوا أنفسكم ! فقد بلَّغ أبي عن ربه ، وأخبركم أن المالك لكم سبحانه قضى الأمر ، وجعل لأمته ولياً ، فمتى كان لكم الخيرة أن تختاروا زيداً أو عمرواً ، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً !
فالحجة عليكم تامةٌ من أبي ومني ، ونعم الموعدُ القيامة ، والزعيم محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعند الساعة يخسرالمبطلون !
إن إعلان غدير خم عملٌ ربانيٌّ بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية . والأعمال المقابلة له قوية بمنطق العمل السياسي وفرض الأمر الواقع . والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي ، لكنها غلبةٌ آنية بلا حجة ولا عقل ، ولو استمرت سنين أو قروناً ، أو إلى ظهور المهدي الموعود ( عليه السلام ) . ( راجع ما كتبناه في بيعة الغدير في السيرة النبوية ) .
* *
--------------------------- 390 ---------------------------

الفصل الحادي والعشرون: محاولة اغتيال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد تبوك والغدير

1 - محاولة الصحابة ( العدول ) اغتيال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قام القرشيون بمحاولتين لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واستعملوا نفس الخطة والأدوات .
ففي رجوعه من تبوك صعدت مجموعة في الليل إلى أعلى الجبل ، ولما وصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مضيق العقبة دحرجوا عليه الصخور ليقتلوه ، فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) وضرب بجناحه فأضاء الجبل وكشفهم ، فهربوا ونزلوا من الجبل واختفوا في الجيش !
وكانت خطتهم أن يقتلوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم يبكون عليه مع المسلمين ، ويقدموا أحدهم ويصفقوا على يده ليكون خليفة ! قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ . ( التوبة : 73 - 75 )
وهؤلاء الكفار في الآية صحابة ، لأن الذين أغناهم الله ورسوله من فضله هم الصحابة فقط . وقد جعلت الكافرين والمنافقين جبهة واحدة وأمرت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بخطاب واحد معهم ، لأنهم مجموعة واحدة تتصف بالنفاق وبالكفر معاً . فقد قالوا كلمة الكفر ، وأرادوا قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وهو أشد من كلمة الكفر !
وقد وقعت محاولتهم في رجوعه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تبوك لما وصل إلى طريقين أحدهما عقبة في جبل عالٍ ، والآخر طريق سهل يدورحول الجبل ، فكان لا بد للجيش بعدده البالغ ثلاثين ألفاً وأثقاله أن يدور حول الجبل . أما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقررأن يسلك العقبة ، ونادى مناديه أن لا يأخذ العقبة أحد ، وكان هذا الاحتياط الأمني ضرورياً لحفظ حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 391 ---------------------------
وهنا تسلل القتلة خمسة عشر صحابياً أو تسعة عشر ، وصعدوا الجبل وكمنوا في نقطة مناسبة حتى تصل ناقة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المضيق فيرمون عليه الصخور ويقتلونه ، ثم يبكون عليه مع المسلمين ، ويصفقون على يد أحدهم ويبايعونه بالخلافة !
فأرسل الله جبرئيل ( عليه السلام ) وكشفهم وناداهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأسمائهم ولعنهم بأسمائهم واحداً واحداً ! فانسلوا في الظلام وعادوا إلى الجيش ! وأمر الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتم أسماءهم ولا يعاقبهم لئلا تعلن قريش ردتها فترتد العرب !
والعجب هنا أن القرآن تحدث عن المحاولة باختصار ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يعاقبهم وأخفى أسماءهم بأمر ربه ! وأن قريشاً أخفت المحاولة وأبطالها ، وإذا فسرت الآية تقول : حاول المنافقون قتله وكفي ! وما ذلك إلا لأن المتآمرين من شخصياتها ! لكن الأئمة ( عليهم السلام ) ، وحذيفة وعماراً ، اللذين كانا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حدثا بذلك وكانا يقولان الأسماء سراً ! وكان بعضهم يسألهم هل اسمي فيهم !
وأوضح ما وصل الينا ما رواه ابن عساكر من عتب أبي موسى على عمار وجوابه له ، فقد روى في تاريخ دمشق ( 32 / 93 ) عن حكيم قال : « كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال : مالي ولك ، ألست أخاك ؟ قال : ما أدري ، إلا أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يلعنك ليلة الجبل ! قال : إنه قد استغفر لي ! قال عمار : قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار ) ! وليلة الجبل ليلة مؤامرة العقبة !
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة عليَّ . اللهم احفظ حسناً وحسيناً ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حياً ، فإذا توفيتني فأنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شئ شهيد .
قال له قائل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت لو كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم ، وآنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ؟
قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلتُ ! إن العرب كرهت أمر محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفَّرت
--------------------------- 392 ---------------------------
به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته .
ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً .
ثم فتح الله عليها الفتوح ، فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا إنه حق لما كان كذا ، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف .
وما عسى أن يكون الولد لو كان ! إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يقربني بما تعلمونه من القرب للنسب واللحمة ، بل للجهاد والنصيحة ، أفتراه لو كان له ولد هل كان يفعل ما فعلت ! وكذاك لم يكن يُقرب ما قُربت ، ثم لم يكن عند قريش والعرب سبباً للحظوة والمنزلة ، بل للحرمان والجفوة .
اللهم إنك تعلم إني لم أرد الإمرة ، ولاعلو الملك والرياسة ، وإنما أردت القيام بحدودك ، والأداء لشرعك ، ووضع الأمور في مواضعها ، وتوفير الحقوق على أهلها ، والمضي على منهاج نبيك ، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك ) . ( شرح النهج : 20 / 298 ) .
* *
أقول : فسرعلماؤنا قوله تعالى : وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا . بأنهم قالوا لا نطيعه في عترته ، بل نعزلهم ونأخذ خلافته ، وأن القائلين كلمة الكفر هم الذين أرادوا قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وهذا هو الأنسب بالآية وبمنطق الأمور . لكنك إذا راجعت مصادر علماء السلطة ترى التخبط والتحير ، في كلمة الكفر ومن قالها ! فبعضهم تجرأ وقال إنهم من قريش . قال الثعلبي ( 5 / 70 ) ( وقيل إنهم من قريش ، هموا في قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمنعه الله عز وجل ) .
--------------------------- 393 ---------------------------
وغضب نافع بن جبير القرشي فنفى أن يكونوا من قريش : ( قال : لم يُخبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأسماء المنافقين الذين تحسسوه ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة . وهم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي ، وكلهم من الأنصار ومن حلفائهم ) . ( الدر المنثور : 2 / 259 ) !
وتفاوتت كلماتهم في تفسير كلمة الكفر فقال بعضهم إنها كلمة الإكراه على الكفر ، ولو كانت إكراهاً لما قال بعدها وكفروا . وبعضهم كمجاهد ومقاتل قال إنها كلمة قالها أنصاري مغمور هو الجلاس بن سويد الصامت ، قال : إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن أشر من الحمير ! وقال النسفي : فتاب الجلاس وحسنت توبته !
وروى الطبري أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : والذي نفسي بيده لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله . فقال أحدهم : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .
وقال الباقلاني : كلمة الكفر شتم رب العالمين . وقال إن الله تعبدنا بلعن من ظهر منه كلمة الكفر . وقال عبد الرزاق وابن عطية وابن كثير : هي قول ابن أبي سلول : سمن كلبك يأكلك .
وقال الواحدي والسمعاني والبغوي : هي سب الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطعنهم في الدين . وقال الزمخشري : هي قول بعضهم لاتنفروا مع رسول الله في الحر . وقال ابن العربي : وجملة ذلك اعتقادهم وقولهم إنه ليس بنبي .
وقال العز بن عبد السلام : هي قولهم محمد ليس بنبي . وقال الفخر الرازي : والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة ، وذلك هو قول كلمة الكفر ، وهذا القول اختيار الزجاج .
وتلاحظ فيها محاولة تضييع معنى الآية ، وإبعادها عن قريش ، وعن الصحابة العدول ، الذين لم ينجحوا بالتقرب إلى الله بقتل نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

2 - أكثر قريش لم يؤمنوا بل نافقوا !

فقد نص على ذلك قوله تعالى في سورة ياسين : لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ . لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . أي سيبقى أكثر العرب الذين أرسلت إليهم كفاراً ، ولن يؤمنوا لأنهم حق عليهم قول ربهم إنهم أهل النار !
--------------------------- 394 ---------------------------
وإن أعلنوا إسلامهم فهو نفاق : إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ . وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ انْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . وستؤمن منهم أقلية فقط : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ .
وهذه حقيقة مهمة : لكن عُبَّاد زعماء قريش إلى يومنا هذا ، كذَّبوا القرآن وقالوا لم يحقَّ القول على أكثرهم ، بل أسلموا وحسن إسلامهم ، وصار منهم خلفاء وأئمة أبرار يقتدون بهم ويمجدونهم ليل نهار ، ويكفرون من ينتقدهم !
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروا ما كانوا أبطنوا ) . ( نهج البلاغة : 3 / 16 ) .
لقد حاربت قريش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سنين طويلة فانتصر عليها ، فدخلت في الإسلام مرغمة ، ثم ثأرت منه فأخذت خلافته ، وعزلت عترته واضطهدتهم إلى يومنا هذا !
ثم صنعت تاريخ الإسلام الرسمي وأسست مذاهبه ودوَّنت فقهه ، وجعلت ولاية زعمائها جزءً من الدين بل كل الدين ، وربَّتْ عليه أجيال المسلمين إلى يومنا هذا !
ورغم الرقابة القرشية أفلتت روايات تؤيد ما قلناه في تفسير الآيات وأنهم لا يؤمنون ! قال الطبري في تفسيره ( 22 / 180 ) : ( يقول تعالى ذكره : لقد وجب العقاب على أكثرهم ، لأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون رسوله ) .
وقال ابن الجوزي في تفسيره ( 6 / 263 ) : ( قوله تعالى : على أكثرهم : يعني أهل مكة ، وهذه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة لكفرهم ) .
وقال الشوكاني ( 4 / 360 ) : ( ومعنى حَقَّ : ثبت ووجب القول ، أي العذاب على أكثرهم أي أكثر أهل مكة ، أو أكثر الكفار على الإطلاق ، أو أكثر كفار العرب ) .
وهؤلاء هم الأكثرية الذين قال الله عنهم : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً .
وقال عنهم تعالى : وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . أي في المستقبل .
--------------------------- 395 ---------------------------
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) إن سبب عدم إيمانهم رفضهم لعترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( الكافي ( 1 / 431 ) ( لقد حق القول على أكثرهم : ممن لا يقرون بولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والأئمة من بعده . فلما لم يقروا كانت عقوبتهم ما ذكر الله : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ) .
( راجع السيرة النبوية : مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .

3 - مؤامرة الصحابة ( العدول ) لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد الغدير

في بحار الأنوار : 2 / 97 : « فأقبل بعضهم على بعض وقالوا : إن محمداً يريد أن يجعل هذا الأمر في أهل بيته ، كسنة كسرى وقيصر ، إلى آخر الدهر ! لا والله مالكم في الحياة من حظ إن أفضى هذا الأمر إلى علي بن أبي طالب ! وإن محمداً عاملكم على ظاهركم وإن علياً يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم ! فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدموا رأيكم فيه . ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي ، فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ناقته على عقبة هرشى ، وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك ، فصرف الله الشر عن نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
وفي كتاب سُلَيم / 271 ، عن أبي ذر ( رحمه الله ) أن بعض الصحابة تعاقدوا في الكعبة في حجة الوداع وقالوا : « ما بال هذا الرجل ما زال يرفع خسيسة ابن عمه ! وقال أحدهما : إنه ليحسن أمر ابن عمه ! وقال الجميع : ما لنا عنده خير ما بقي عليٌّ » .
وفي الإقبال : 2 / 249 : « فلما كان في تلك الليلة قعد له ( عليه السلام ) أربعة عشر رجلاً في العقبة ليقتلوه ، وهي عقبة بين الجحفة والأبواء ، فقعد سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها لينفروا ناقته ، فلما أمسى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلى وارتحل ، وتقدم أصحابه وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ناقة ناجية ، فلما صعد العقبة ناداه جبرئيل : يا محمد إن فلاناً وفلاناً ، وسماهم كلهم » !
وفي تفسير القمي ( 1 / 174 ) : « فقال أصحابه الذين ارتدوا بعده : قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال ، وقال هاهنا ما قال ، وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له ! فاجتمعوا أربعة عشر نفراً وتآمروا على قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقعدوا في العقبة وهي عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء ، فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن
--------------------------- 396 ---------------------------
يسارها ، لينفروا ناقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فلما جن الليل تقدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في تلك الليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته ، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل : يا محمد إن فلاناً وفلاناً وفلاناً قد قعدوا لك ، فنظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : من هذا خلفي ؟ فقال حذيفة اليماني : أنا يا رسول الله حذيفة بن اليمان ، قال : سمعت ما سمعت ؟ قال : بلى . قال : فاكتم ، ثم دنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم فناداهم بأسمائهم ، فلما سمعوا نداء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فروا ودخلوا في غمار الناس ، وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها ! ولحق الناس برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطلبوهم وانتهى رسول الله إلى رواحلهم فعرفهم ، فلما نزل قال : ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألايردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ! فجاؤوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحلفوا أنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً ولم يريدوه ولم يكتموا شيئاً عن رسول الله ، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا : أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا : من قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ . . .
فرجع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة وبقي بها محرم والنصف من صفرلايشتكي شيئاً ، ثم ابتدأ به الوجع الذي توفى فيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
أقول : لا بد أن تكون الآية نزلت مرة ثانية في محاولة الإغتيال الثانية في عودته من حجة الوداع ، وهو متعارف في آيات القرآن .
* *
--------------------------- 397 ---------------------------

الفصل الثاني والعشرون: حملة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لمصلحة علي ( عليه السلام ) بعد حجة الوداع

1 - تحذيره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الأئمة المضلين الذين يسفكون دماء عترته ( عليهم السلام ) !

كل من يقرأ خطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأحاديثه في حجة الوداع ، يجد أن أغلبها لغرض تركيز عترته وأهل بيته من بعده ( عليهم السلام ) . وقد رافق مديحه لهم وبيانه لمكانتهم : تحذيره الأمة من مخالفتهم والابتعاد عنهم . ورافق ذلك : الحكم بضلال من خالفهم ، وانحرافه ، ولعنه والبراءة منه ! وقد كتبنا في السيرة النبوية عدة مفردات من خطب حجة الوداع وأحاديثها .
ولما عاد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة في أواخر ذي الحجة ، أمضى بقية أيامه الشريفة فيها وهي نحو شهرين حسب روايتنا لوفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، تابعَ تأكيداته على خلافة علي والعترة ( عليهم السلام ) وقام بعدة أعمال مباشرة وغير مباشرة لمساندتهم ، في أقواله وخطبه ووصاياه ، ومنها طلبه من الصحابة أن يتعهدوا بتنفيذ ما يكتبه لهم حتى لا يضلوا أبداً ، ومنها إبعاده كل المخالفين لعلي ( عليه السلام ) في جيش أسامة إلى مؤتة .
ولما نزلت سورة النصر وهي من أواخر ما نزل من القرآن ، بعد سورة المائدة ، أو في أثنائها ، حذر النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الأئمة المضلين الذين يسفكون دماء عترته ( عليهم السلام ) فقال : ( يا عليُّ لقد جاء نصرالله والفتح ، فإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً . يا علي ، إن الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي ، كما كتب عليهم جهاد المشركين معي . فقلت : يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد ؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني ! فقلت : فعلى مَ نقاتلهم يا رسول الله ، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟
--------------------------- 398 ---------------------------
فقال : على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري واستحلالهم دماء عترتي .
قال : فقلت : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فسلِ الله تعجيلها لي . فقال : أجل قد كنت وعدتك الشهادة ، فكيف صبرك إذا خُضبت هذه من هذا وأومى إلى رأسي ولحيتي ؟ فقلت : يا رسول الله أمَّا إذا بَيَّنْتَ لي ما بينت فليس هذا بموطن صبر ، لكنه موطن بشرى وشكر !
فقال : أجل فأعدَّ للخصومة فإنك تخاصم أمتي . قلت : يا رسول الله أرشدني إلى الفَلَج . قال : إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان .
ياعليُّ إن الهدى هو اتَّباع أمر الله دون الهوى والرأي . وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن وأخذوا بالشبهات ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ، والبخس بالزكاة ، والسحت بالهدية !
قلت : يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك ، أهم أهل ردة أم أهل فتنة ؟ قال : هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل ! فقلت : يا رسول الله ، العدل منا أم من غيرنا ؟ فقال : بل منا ، بنا يفتح الله وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله » . ( أمالي الطوسي / 65 ) .
لكن أتباع الحكام حذفوا كلامه حول ظلم أهل بيته ( عليهم السلام ) ! فقد روت مصادرهم جزءً من هذا الحديث ، وحذفوا منه ذكر الأئمة المضلين ، على عادتهم في تغييب ذم النبي ( صلى الله عليه وآله ) للحكام بعده !
وفي أمالي الطوسي : 2 / 126 ، و 512 ، عن الحضرمي قال : « سمعت علياً ( عليه السلام ) يقول : كنا جلوساً عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو نائم ورأسه في حجري ، فتذاكرنا الدجال ، فاستيقظ النبي مُحْمَرّاً وجهه فقال : غيرالدجال أخوف عليكم من الدجال : الأئمة المضلون وسفك دماء عترتي من بعدي ، أنا حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم » .
وروى الحاكم ( 3 / 149 ) عن أبي هريرة قال : « نظرالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال : أنا حربٌ لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » . وصححه ، واستشهد له
--------------------------- 399 ---------------------------
بحديث مشابه عن زيد بن أرقم ، وفيه : « أنا حربٌ لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم » .
ورووه عن زيد بن أرقم ، والخدري ، وأم‌سلمة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بدأ بإطلاقه لما نزلت آية التطهير ، فكان أربعين صباحاً يذهب إلى باب دار علي ويقرأ الآية ويقول . . كما رووا أنه ( صلى الله عليه وآله ) قاله في مناسبات في المدينة ، وأكده في مرض وفاته . ثم قاله لعلي ( عليه السلام ) لما نزلت سورة النصر . راجع : مسند أحمد : 2 / 442 ، وابن ماجة : 1 / 52 ، والترمذي : 5 / 360 ، والزوائد : 9 / 169 ، وابن أبي شيبة : 7 / 512 ، وأمالي المحاملي / 447 ، وابن حبان : 15 / 434 ، وأوسط الطبراني : 3 / 179 ، و : 5 / 182 ، و : 7 / 197 ، والأصغر : 2 / 3 ، والأكبر : 3 / 40 ، و : 5 / 184 ، وفضائل فاطمة لابن شاهين / 29 ، وتفسير الثعلبي : 8 / 311 ، وشواهد التنزيل : 2 / 44 ، وتاريخ بغداد : 7 / 144 ، وتاريخ دمشق : 13 / 218 ، و : 14 / 144 ، وسير الذهبي : 2 / 122 .

2 - أطلق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعنته في حجة الوداع وتابع تأكيدها

من الأساليب النبوية المبتكرة ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد حديثه عن أهل بيته ( عليهم السلام ) ، أعلن مبدأ : « لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه أو منع أجيراً أجره » !
وقد رووا هذه اللعنة المشددة بعد حديث تشريع الخُمس لأهل‌البيت ( عليهم السلام ) .
ففي مسند أحمد ( 4 / 186 ) : « خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته ، فقال : ولاما يساوي هذه أو ما يزن هذه . لعن الله من ادعى إلى غيرأبيه ، أو تولى غير مواليه » !
وروى هذه اللعنة أيضاً ، الترمذي : 2 / 293 ، وأحمد : 4 / 239 ، والدارمي : 2 / 244 و 344 ، والبخاري : 2 / 221 ، و : 4 / 67 ، وابن ماجة ( 2 / 905 ) في خطبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع وهو على راحلته فقال : « ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل » .
وقد استعمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذا الأسلوب لكي تنقله الأجيال فتفهم الحقيقة ، ولا تطمسه قريش ! لأنه كلام مبطن . وروت مصادرهم أنه كتبه في صحيفة معلقة في ذؤابة سيفه الذي ورَّثه لعلي ( عليه السلام ) . رواه البخاري : 4 / 67 ، ومسلم : 4 / 115 ، بروايات ، وروى الترمذي : ( 3 / 297 ) أن في تلك الصحيفة : لعن من تولى غير مواليه ! أي
--------------------------- 400 ---------------------------
تولى غيره وغيرعلي ( عليه السلام ) لأنهما أبوا هذه الأمة بعد أبوة إبراهيم ( عليه السلام ) : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ . وهي أبوةٌ أعلى رتبةً من الأبوة الحقيقية .
ويدل على مقصوده ذلك : أن الولد الذي يهرب وينتسب إلى غير أبيه ثم يتوب ، تقبل توبته ، بينما لا يقبل توبة هذا الملعون هنا !
صرفٌ : أي توبة ، ولا عدلٌ : أي فدية ، فهي عقوبة الردة والخروج من الملة ، لا عقوبة ولد ينسب نفسه إلى غير أبيه !
وقد روت مصادرنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاله لما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وأظهروا عداوتهم لأهل بيته ( عليهم السلام ) وقالوا : إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا ، أي مزبلة ! فبلغ ذلك النبي فغضب وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يصعد المنبر ويجيبهم وقال له : « يا علي انطلق حتى تأتي مسجدي ثم تصعد منبري ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاة كثيرة ، ثم تقول : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : إن لعنة الله ، ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ، ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره !
فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي ، فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلاة كثيرة ، ثم قلت : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره .
قال : فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ، ولكنك جئت بكلام غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فرجعت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبرته الخبر فقال : إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري فاحمد الله وأثن عليه وصل عليَّ ، ثم قل : أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ، ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم » !
( أمالي المفيد / 353 ، والطوسي / 123 ) .
--------------------------- 401 ---------------------------
وفي الكافي ( 1 / 293 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فلما قدم المدينة « من حجة الوداع » أتته الأنصارفقالوا : يا رسول الله إن الله جل ذكره قد أحسن إلينا ، وشرفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا ، فقد فرح الله صديقنا وكبت عدونا . وقد يأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم ، فيشمت بك العدو ، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا ، حتى إذا قدم عليك وفد وجدت ما تعطيهم . فلم يردَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليهم شيئاً ، وكان ينتظر مايأتيه من ربه ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) وقال : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ، ولم يقبل أموالهم ، فقال المنافقون : ما أنزل الله هذا على محمد ، وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه ويحمل علينا أهل بيته ! يقول أمس : من كنت مولاه فعلي مولاه واليوم : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . ثم [ لما ] نزل عليه آية الخمس فقالوا يريد أن يعطيهم أموالنا وفيأنا !
ثم أتاه جبرئيل فقال : يا محمد إنك قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك ، فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة عند علي ، فإني لم أترك الأرض إلا ولي فيها عَلَمٌ تُعرف به طاعتي ، وتعرف به ولايتي ، ويكون حجة لمن يولد بين قبض النبي إلى خروج النبي الآخر . قال : فأوصى إليه بالاسم الأكبر ، وميراث العلم ، وآثار علم النبوة . وأوصى إليه بألف كلمة ، وألف باب ، يفتح كل كلمة وكل باب ، ألف كلمة وألف باب » .
وفي الإرشاد : 1 / 179 ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « أيها الناس ، إني فرطكم وأنتم واردون عليَّ الحوض ، ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني ، وسألت ربي ذلك فأعطانيه . ألا وإني قد تركتهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس ، لا ألفينكم بعدي ترجعون كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار ! ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي ، يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . فكان يقوم مجلساً
--------------------------- 402 ---------------------------
بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه . ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة » .
أقول : أكد القرآن على أن الأنبياء ( عليهم السلام ) كانوا يقولون لأممهم إنهم لا يطلبون منهم أجراً على تبليغ الرسالة ، وكذلك نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال تعالى : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَإِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ . وقال تعالى : وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَإِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ .
لكنه خص هذه الأمة بأن جعل أجر نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مودتها وطاعتها لعترته ( عليهم السلام ) فقال : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ . « الشورى : 23 » . ثم بين لهم أن هذا الأجر هو السبيل فقط إلى رضاه تعالى وثوابه فقال : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً .
ثم قال لهم إن هذا الأجر الذي فرضه عليهم ليس غرماً بل غنمٌ لهم ، فقال : قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ . أي أنتم المنتفعون به لأنكم بمودتهم وطاعتهم لا تضلون .
وفي تفسير فرات / 392 ، عن عطاء بن أبي رباح قال : « قلت لفاطمة بنت الحسين : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث ، واحتج به على الناس . قالت : نعم ، أخبرني أبي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان نازلاً بالمدينة وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فريضة يستعين بها على من أتاه ، فأتوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقالوا : قد رأينا ما ينوبك من النوائب ، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك . قال : فأطرق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طويلاً ثم رفع رأسه فقال : إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً ، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ ، وإن أمرت به أعلمتكم . قال : فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك ، وقد أنزل الله عليهم فريضة : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . . قال فخرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد المطلب .
قال : فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى علي بن أبي طالب أن إصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ! ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ! ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار !
قال : فقام رجل وقال : يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم .
--------------------------- 403 ---------------------------
فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره ، فقال رسول الله : ويل لقريش من تأويلهن ، ثلاث مرات ! ثم قال : يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبوا المؤمنين » !
أقول : يظهر أنهم قرشيون جاؤوا إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد مجئ الأنصار ، وطلبوا أن يفرضوا له فريضة في أموالهم ، فأجابهم بآية المودة في القربى ، فنكصوا !
وروى ابن طاووس في الطرف ( 1 / 187 ) عن الإمام الكاظم عن آبائه ( عليهم السلام ) والبياضي في الصراط المستقيم ( 2 / 94 ) : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أمرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أخرج فأنادي في الناس : ألا من ظلم أجيراً أجرته فعليه لعنة الله ، ألا من تولى غير مواليه فعليه لعنة الله . ألا من سب أبويه فعليه لعنة الله ! فنادى بذلك ، فدخل عمر وجماعة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقالوا : هل من تفسير لما نادى به ؟ قال : نعم ، إن الله يقول : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . فمن ظلمنا فعليه لعنة الله .
فلما خرجوا قال عمر : يا أصحاب محمد ، ما أكد النبي عليكم الولاية لعلي بغدير خم ولا غيره ، بأشد من تأكيده في يومنا هذا ! قال خباب بن الأرت : كان ذلك قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعة عشر يوماً ) .
وفي الكافي ( 1 / 293 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أوصى موسى ( عليه السلام ) إلى يوشع بن نون ، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون ، ولم يوص إلى ولده ولا إلى ولد موسى ، إن الله تعالى له الخيرة ، يختار من يشاء ممن يشاء .
وبشرموسى ويوشع بالمسيح ، فلما أن بعث الله عز وجل المسيح قال المسيح لهم : إنه سوف يأتي من بعدي نبي اسمه أحمد ، من ولد إسماعيل ، يجئ بتصديقي وتصديقكم ، وعذري وعذركم . وجرت من بعده في الحواريين في المستحفظين ، وإنما سماهم الله تعالى المستحفظين ، لأنهم استحفظوا الاسم الأكبر وهو الكتاب الذي يعلم به علم كل شئ ، الذي كان مع الأنبياء صلوات الله عليهم . يقول الله تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ . الكتاب الاسم الأكبر . فلم تزل الوصية في عالم بعد عالم حتى دفعوها إلى محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكان رسول الله
--------------------------- 404 ---------------------------
يتألفهم ويستعين ببعضهم على بعض ، ولا يزال يخرج لهم شيئاً في فضل وصيه . وقال : إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله عز وجل أهل بيتي عترتي . فلا تسبقوهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم . فوقعت الحجة بقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبالكتاب الذي يقرأه الناس . فلم يزل يلقي فضل أهل بيته بالكلام ويبين لهم القرآن . فلما رجع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل فقال : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ . . فنادى الناس ، فوقعت حسيكة النفاق في قلوب القوم ، وقالوا : ما أنزل الله جل ذكره هذا على محمد قط ، وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه » !

3 - جيش أسامة لإفراغ المدينة من خصوم علي ( عليه السلام )

في الإرشاد : 1 / 179 : « ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه ( عليه السلام ) على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره ، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من يختلف في الرئاسة ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة ، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ، ولا ينازعه في حقه منازع .
فعقد له الأمرة على من ذكرناه وجدَّ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في إخراجهم ، فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف ، وحث الناس على الخروج إليه والمسير معه ، وحذرهم من التلوُّم والإبطاء عنه . فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها ، فلما أحس بالمرض الذي عراه ، أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع ، فقال لمن تبعه : إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع ، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم فقال ( عليه السلام ) : السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ! ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً ، وأقبل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : إن جبرئيل ( عليه السلام ) كان يعرض عليَّ القرآن كل سنة مرة ، وقد عرضه عليَّ العام مرتين ، ولا أراه إلا لحضور أجلي » .
وفي إعلام الورى : 1 / 263 : « ولما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة من حج الوداع بعث بعده
--------------------------- 405 ---------------------------
أسامة بن زيد ، وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه ، وقال له : أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم . وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان المهاجرين ووجوه الأنصار ، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
وعسكر أسامة بالجرف فاشتكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شكواه التي توفي فيها ، وكان يقول في مرضه : نفذوا جيش أسامة ويكرر ذلك ، وإنما فعل ذلك لئلا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة ويطمع في الإمارة ، ويستوسق الأمر لأهله » .
وفي كتاب سليم بن قيس ( رحمه الله ) / 424 : « وفي ذلك الجيش أبو بكر وعمر ، فقال كل واحد منهما : لا ينتهي يستعمل علينا هذا الصبي العبد » !
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 8 / 115 ) وهو من كبار أئمة السلطة : « وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهرأن يكون أبو بكر وعمر في بعث أسامة ، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي ، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد ، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ، ولفظه : بدأ برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال : أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك ، فقد وليتك هذا الجيش . فذكر القصة وفيها : لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر . وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش ثلاثة آلاف ، فيهم سبع مائة من قريش » .
أقول : أوردنا كلام ابن حجر لإثبات أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تعمد أن يُفرغ المدينة من القرشيين ، ومن كل من يمكن أن يعارض استخلاف علي ( عليه السلام ) . وتعمد أن يؤمِّر عليهم أسامة الشاب الأسود ابن السبع عشرة سنة ، حتى لايعترض أحد على سن علي ( عليه السلام ) الذي كان في الثالثة وثلاثين من عمره . كما نلاحظ أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبرعن النتائج السيئة لما يجري حوله ، وأطلق تحذيره لأجيال الأمة من الفتن التي سيسببها طمع قريش في خلافته !
وروى ابن هشام « 4 / 1057 » قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعائشة لما رجع من البقيع وتحدث عن
--------------------------- 406 ---------------------------
الفتن : « ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك ؟ قالت قلت : والله لكأني بك لو قد فعلتُ ذلك ، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك » !
وهذا يدل على أفقه العالي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنه يفكر بنجاة عائشة في الآخرة ، بينما هي تعيش قبل كل شئ وبعد كل شئ الغيرة من ضرتها !

4 - وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عملهم لإفشال جيش أسامة

في الخصال / 371 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في جوابه للحبر اليهودي ، قال ( عليه السلام ) : « وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته . . ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد ، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده . ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد !
فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به ، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم ، فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ! فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول ، وبتجهيزه عن
--------------------------- 407 ---------------------------
سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها » .
وفي المراجعات / 365 : « سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو الروم ، وهي آخر السرايا على عهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد اهتم فيها بأبي وأمي اهتماماً عظيماً ، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها وحضهم على ذلك ، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهافاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم ، فلم يُبق أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار ، كأبي‌بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم ، إلا وقد عبأه بالجيش . . فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف ، ثم تثاقلوا هناك فلم يبرحوا ، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم . . .
وطعن قوم منهم في تأمير أسامة كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه ، وقالوا في ذلك فأكثروا مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة . . حتى غضب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من طعنهم غضباً شديداً ، فخرج بأبي وأمي معصب الرأس مدثراً بقطيفته محموماً ألماً . . فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال فيما أجمع أهل الأخبار على نقله واتفق أولوا العلم على صدوره : أيها الناس ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ! وأيم الله إنه كان لخليقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق بها ! وحضهم على المبادرة إلى السير فجعلوا يودعونه ويخرجون إلى العسكر بالجرف ، وهو يحضهم على التعجيل .
ثم ثقل في مرضه فجعل يقول : جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة ، أرسلوا بعث أسامة . . لعن الله من تخلف عنه . . وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السير أولاً ، وتخلفوا عن الجيش أخيراً ، ليحكموا قواعد سياستهم ويقيموا عمدها ، ترجيحاً منهم لذلك على التعبد بالنص .
وإنما أمَّر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة ، ليّاً لأعنِة البعض ، ورداً لجِمَاح أهل الجماح منهم ، واحتياطاً على الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس . . لكنهم فطنوا إلى ما دبر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فطعنوا في تأمير أسامة وتثاقلوا عن السير معه ، فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بربه . . .
--------------------------- 408 ---------------------------
فهذه خمسة أمور في هذه السرية لم يتعبدوا فيها بالنصوص الجلية ، إيثاراً لرأيهم في الأمور السياسية ، وترجيحاً لاجتهادهم فيها على التعبد بنصوصه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
وفي منهاج الكرامة / 100 : « وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرض موته مرة بعد أخرى مكرراً لذلك : أنفذوا جيش أسامة ! لعن الله المتخلف عن جيش أسامة ! وكان الثلاثة معه » .
وفي تقريب المعارف / 314 : « ولافرق بين خلافه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أمر به من المسير مع أسامة ، وبين خلافه فيما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة ، وذلك فسق لا شبهة فيه ، ودعوى خروج أبي‌بكر من البعث لا يفي شيئاً ، لثبوت الرواية به » .
وفي الإرشاد : 1 / 182 : « واستمر به المرض أياماً وثقل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمور بالمرض فنادى : الصلاة يرحمكم الله ، فأوذن رسول الله بندائه فقال : يصلي بالناس بعضهم فإنني مشغول بنفسي . فقالت عائشة : مروا أبا بكر ! وقالت حفصة : مروا عمر ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين سمع كلامهما ، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حيٌّ : أكففن فإنكن صويحبات يوسف ! ثم قام ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مبادراً خوفاً من تقدم أحد الرجلين وقد كان أمرهما بالخروج إلى أسامة ، ولم يكن عنده أنهما قد تخلفا ، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره ، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة ، فقام وإنه لا يستقل على الأرض من الضعف ، فأخذ بيده علي بن أبي طالب والفضل بن عباس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف !
فلما خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده أن تأخر عنه ، فتأخر أبو بكر وقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مقامه ، فكبر فابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأ بها أبو بكر ، ولم يبن على ما مضى من فعاله . ف
لما سلَّم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الصلاة انصرف إلى منزله ، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد من المسلمين ، ثم قال : ألم آمر أن تنفذوا جيش أسامة ! قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فلم تأخرتم عن أمري ؟ فقال أبو بكر : إنني كنت خرجت ثم عدت لأجدد بك عهداً . وقال عمر : يا رسول الله ، لم أخرج لأنني لم أحب أن أسأل عنك
--------------------------- 409 ---------------------------
الركب ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فأنفذوا جيش أسامة ، فأنفذوا جيش أسامة يكررها ثلاث مرات ، ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف ، فمكث هنيهة مغمى عليه ، وبكى المسلمون ، وارتفع النحيب من أزواجه وولده ، والنساء المسلمات ومن حضر من المسلمين » .

5 - وقد وصف حذيفة تسلل أبي‌بكر وعمر ليلاً إلى المدينة

روى في إرشاد القلوب : 2 / 237 ، والدرجات الرفيعة / 290 ، أن حذيفة صاحب سر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان حاكم المدائن فلما جاءه خبر بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرح بذلك ، وصعد المنبر ودعا الناس إلى بيعته وخطب خطبة طويلة ، بيَّن فيها فضائل علي ( عليه السلام ) وكشف مؤامرة قريش على عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومما قاله ( رحمه الله ) : « وأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة ، فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منتظراً القوم أن يرافقوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم ، وإنما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما صنع من ذلك أن تخلو المدينة منهم ولا يبقى بها أحد من المنافقين . قال : فهم على ذلك من شأنهم ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دائب يحثهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه ، إذ مرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرضه الذي توفي فيه ، فلما رأوا ذلك تباطؤوا عما أمرهم رسول الله من الخروج ، فأمر قيس بن سعد بن عبادة وكان سياف رسول الله والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم ، فأخرجهم قيس بن سعد والحباب بن المنذر حتى ألحقاهم بمعسكرهم ، وقالا لأسامة : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يرخص لك في التخلف فسر من وقتك هذا ليعلم رسول الله ذلك . فارتحل بهم أسامة وانصرف قيس بن سعد والحباب بن المنذر إلى رسول الله فأعلماه برحلة القوم ، فقال لهم : إن القوم غير سائرين من مكانهم !
قال : فخلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بأسامة وجماعة من أصحابه فقالوا : إلى أين ننطلق ونخلي المدينة ، ونحن أحوج ما كنا إليها وإلى المقام بها ! قالوا : إن رسول الله قد نزل به الموت ، ووالله لئن خلينا المدينة ليحدثن بها أمور لا يمكن
--------------------------- 410 ---------------------------
إصلاحها ! ننظر ما يكون من أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم المسير بين أيدينا !
قال : فرجع القوم إلى المعسكر الأول فأقاموا به ، فبعثوا رسولاً يتعرف لهم بالخبر من أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأتى الرسول عائشة فسألها عن ذلك سراً فقالت : إمض إلى أبي‌بكروعمر ومن معهما فقل لهما : إن رسول الله قد ثقل ولايبرحن أحد منكم ! وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت !
واشتدت علة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعت عائشة صهيباً فقالت : إمض إلى أبي‌بكر وأعلمه أن محمداً في حال لاترجى ، فهلموا إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم ، وليكن دخولكم المدينة بالليل سراً !
قال : فأتاهم بالخبر فأخذوا بيد صهيب فأدخلوه إلى أسامة بن زيد فأخبروه الخبر ، وقالوا له كيف ينبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله ، واستأذنوه للدخول فأذن لهم بالدخول ، وأمرهم أن لا يعلم أحد بدخولهم ، وقال : إن عوفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رجعتم إلى عسكركم ، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك لنكون في جماعة الناس ، فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد ثقل .
قال : فأفاق بعض الإفاقة فقال : لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم ! فقيل له وما هو يا رسول الله ؟ قال فقال : إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون أمري ، ألا إني إلى الله منهم برئ ! ويحكم نفذوا جيش أسامة ! فلم يزل يقول ذلك حتى قالها مرات كثيرة .
قال : وكان بلال مؤذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة ، فإن قدر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على الخروج تحامل وخرج وصلى بالناس ، وإن هو لم يقدر على الخروج أمر علي بن أبي طالب فصلى بالناس ، وكان علي ( عليه السلام ) والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك . فلما أصبح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يدي أسامة ، أذن بلال ثم أتاه يخبره كعادته فوجده قد ثقل فمنع من الدخول إليه ، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه أن رسول الله قد ثقل ، وليس يطيق النهوض إلى المسجد وعلي بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس ،
--------------------------- 411 ---------------------------
فأخرج أنت إلى المسجد وصل بالناس فإنها حالة تهيئك وحجة لك بعد اليوم .
قال : ولم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو علياً ( عليه السلام ) يصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه ، إذ دخل أبو بكر المسجد وقال : إن رسول الله قد ثقل وقد أمرني أن أصلي بالناس ! فقال له رجل من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وأنى لك ذلك وأنت في جيش أسامة ! لا والله ما أعلم أحداً بعث إليك ، ولا أمرك بالصلاة !
ثم نادى الناس بلالاً فقال : على رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ذلك ، ثم أسرع حتى أتى الباب فدقه دقاً شديداً ، فسمعه رسول الله فقال : ما هذا الدق العنيف فانظروا ما هو ؟ قال فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا بلال فقال : ما وراءك يا بلال ؟ فقال : إن أبا بكر دخل المسجد وتقدم حتى وقف في مقام رسول الله ، وزعم أن رسول الله أمره بذلك ! فقال أوليس أبو بكر مع أسامة في الجيش ! هذا والله هو الشر العظيم الذي طرق البارحة المدينة ! لقد أخبرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك ! ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما وراءك يا بلال ؟ فأخبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الخبر فقال : أقيموني أخرجوني إلى المسجد ، والذي نفسي بيده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن !
ثم خرج ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معصوب الرأس يتهادى بين علي والفضل بن عباس ، ورجلاه تجران في الأرض ، حتى دخل المسجد وأبو بكر قائم في مقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد طاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب ، والنفر الذين دخلوا ، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال ، فلما رأى الناس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك ، وتقدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجذب أبا بكر من ردائه فنحاه عن المحراب ، وأقبل أبو بكر والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وأقبل الناس فصلوا خلف رسول الله وهو جالس وبلال يُسمع الناس التكبير حتى قضى صلاته ،
ثم التفت فلم ير أبا بكر ! فقال : أيها الناس لا تعجبون من ابن أبي قحافة وأصحابه
--------------------------- 412 ---------------------------
الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت يدي أسامة ، وأمرتهم بالمسير إلى الوجه الذي وجهوا إليه ، فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة ، ألا وإن الله قد أركسهم فيها ! أعرجوا بي إلى المنبر فقام وهو مربوط حتى قعد على أدنى مرقاة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس : إنني قد جاءني من أمر ربي ما الناس صائرون إليه ، وإني قد تركتكم على المحجة الواضحة ليلها كنهارها ، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائيل !
أيها الناس : لا أحِلُّ لكم إلا ما أحله القرآن ولا أحَرِّم عليكم إلا ما حرَّمه القرآن ، وإني مخلِّف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي هما الخليفتان ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فأسألكم ماذا خلفتموني فيهما . وليذادن يومئذ رجال عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل ، فيقول أنا فلان وأنا فلان ، فأقول أما الأسماء فقد عرفت ولكنكم ارتددتم من بعدي فسحقاً لكم سحقاً ! ثم نزل عن المنبر وعاد إلى حجرته . ولم يظهر أبو بكر وأصحابه حتى قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وكان من الأنصار سعد وغيرهم من السقيفة ما كان ، فمنعوا أهل بيت نبيهم حقوقهم التي جعلها الله عز وجل لهم » . انتهى كلام حذيفة رضي الله عنه .

6 - أبو بكر وعمر يظهران الندم على تركهما جيش أسامة !

في الخصال / 171 : « عن جابر بن عبد الله قال : شهدت عمر عند موته يقول : أتوب إلى الله من ثلاث : من ردي رقيق اليمن ، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد أن أمَّره رسول الله علينا ، ومن تعاقدنا على أهل هذا البيت إن قبض الله رسوله لا نولي منهم أحداً » . وروى نحوه عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) .
وفي الإيضاح / 159 ، عن إياس بن قبيصة الأسدي ، من حديث قال : « سمعت أبا بكر يقول . . وأما الثلاث اللاتي لم أفعلهن وليتني كنت فعلتهن ، فوددت أني كنت أقدت من خالد بن الوليد بمالك بن نويرة ، ووددت أني لم أتخلف عن بعث أسامة ، ووددت أني كنت قتلت عيينة بن حصين وطلحة بن خويلد » .
--------------------------- 413 ---------------------------

7 - الرواية الرسمية لجيش أسامة

في سيرة ابن هشام : « 4 / 1025 ، و 1064 » : « ثم قفل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفراً ، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون . . .
استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة : أمَّر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار ! فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ! وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقاً لها !
قال : ثم نزل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانكمش الناس في جهازهم ، واستعز برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه ، فخرج أسامة وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ « نحو 6 كيلومتر » فضرب به عسكره ، وتتامَّ إليه الناس وثقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض في رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
وفي صحيح بخاري : 1 / 175 ، عن عائشة : « لما ثقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال : مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ، فقلت : يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى ما يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر . فقال : مروا أبا بكر يصلي ، فقلت لحفصة ، قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر . قال : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ! فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في نفسه خفة فقام يهادي بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض ، حتى دخل المسجد ، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر فأومأ إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبى بكر ، فكان أبو بكر يصلي قائماً ، وكان رسول الله يصلي قاعداً يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والناس مقتدون بصلاة أبي‌بكر » !
--------------------------- 414 ---------------------------
ومن الواضح أن عائشة تريد أن تثبت أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أباها بالصلاة وليس هي ، وقد ناقضت نفسها بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجد في نفسه خفة أي راحة ، وأنه جاء معتمداً على كتفي شخصين ورجلاه تخطان الأرض ، وهذا يدل على أنه مضطر للمجيئ ليمنع أبا بكر من الصلاة ، ثم اخترعت عائشة صلاة بإمامين ، لا وجود لها في فقه أي مذهب !

8 - رد قولهم إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نصب أبا بكر للصلاة

وقد رد أئمتنا ( عليهم السلام ) وعلماؤنا روايتهم بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أن يصلي أبو بكر بالناس ، وقال السيد الميلاني في إبطال ما استدل به لإمامة أبي‌بكر / 33 : « أما أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يؤكد على بعث أسامة ، وإلى آخر لحظة من حياته ، فلم يخالف فيه أحد ولا خلاف فيه أبداً ، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم . . وأما أن كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث ، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ، فكيف يأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بخروج أبي‌بكر في بعث أسامة ويؤكد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته ، ومع ذلك يأمر أبا بكر أن يصلي في مكانه ؟ وهنا يضطر مثل ابن تيمية لأن ينكر وجود أبي‌بكر في بعث أسامة ، ويقول هذا كذب ، لأنه يعلم بأن وجود أبي‌بكر في بعث أسامة يعني كذب خبر إرسال أبي‌بكر إلى الصلاة !
ولذا لما ولي أبو بكر اعترض أسامة ولم يبايع أبا بكر قال : أنا أمير على أبي‌بكر وكيف أبايعه ؟ ولذا لما سيَّر أبو بكر أسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة . فالقرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل أبا بكر إلى الصلاة » .
وقال السيد الميلاني في رسالته في صلاة أبي‌بكر / 76 : « خرج معتمداً على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورجل آخر وهو في آخر رمق من حياته ليصرفه عن المحراب . . ويعلن بأن صلاته لم تكن بأمر منه بل من غيره » !
وقال الهادي يحيى بن الحسين في تثبيت الإمامة / 18 : « وكيف تنعقد بيعة لمن هو في بيعة غيره ؟ ألم يكن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجه أبا بكر وعمر وغيرهما في جيش أسامة بن زيد قبل وفاته صلوات الله عليه ، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا ويصلوا بصلاته ويأتمروا بأمره ؟
--------------------------- 415 ---------------------------
وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنفذوا جيش أسامة ولا يتخلف إلا من كان عاصياً لله ولرسوله .
فلما صار أسامة بعسكره على أميال من المدينة بلغهم مرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فرجع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فلما دخلوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تغير لونه وقال : اللهم إني لا آذن لأحد أن يتخلف عن جيش أسامة ! وهمَّ أبو بكر بالرجوع إلى أسامة واللحوق به فمنعه عمر !
ثم قال : وقال عمر لأبي‌بكر : أكتب إلى أسامة بن زيد يقدم عليك ، فإن في قدومه عليك قطع الشنعة عنا ! فكتب إليه أبو بكر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله أبي‌بكر خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أسامة بن زيد : أما بعد ، فانظر إذا أتاك كتابي هذا فأقبل إلي أنت ومن معك ، فإن المسلمين قد اجتمعوا علي وولوني أمرهم ، فلا تتخلفن فتعصيني ويأتيك ما تكره ، والسلام .
فأجابه أسامة بن زيد ، وكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أسامة بن زيد عامل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على غزوة الشام إلى أبي‌بكر بن أبي قحافة ، أما بعد فقد أتاني كتابك ينقض أوله آخره ! ذكرت في أوله : أنك خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكرت في آخره أن الناس قد اجتمعوا عليك ، وولوك أمرهم ورضوا بك ! واعلم أني ومن معي من المهاجرين والأنصار وجميع المسلمين ما رضيناك ولا وليناك أمرنا ، فاتق الله ربك ، وإذا قرأت كتابي هذا فأقدم إلى ديوانك الذي بعثك فيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا تعصه ، وأن تدفع الحق إلى أهله فإنهم أحق به منك ، وقد علمت ما قال رسول الله في علي يوم الغديروما طال العهد فتنسى ؟ ! فانظر أن تلحق بمركزك ولا تتخلف فتعصي الله سبحانه وتعالى ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعصي من استخلفه رسول الله عليك وعلى صاحبك ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استخلفني عليكم ولم يعزلني ، وقد علمت كراهة رسول الله لرجوعكم مني إلى المدينة ، وقال : لا يتخلفن أحد عن جيش أسامة إلا كان عاصياً لله ولرسوله ! فيالك الويل يا ابن أبي قحافة ! تعدل نفسك بعلي بن أبي طالب وهو وارث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه وابن عمه وأبو ولديه ؟ ! فاتق الله أنت وصاحبك فإنه
--------------------------- 416 ---------------------------
لكما بالمرصاد ، وأنتما منه في غرور ! والذي بعث محمداً بالحق نبياً ما تركت أمة وصي رسولها ولا نقضوا عهده إلا استوجبوا من الله اللعنة والسخط !
فلما وصل الكتاب إلى أبي‌بكر هم أن يخلعها من عنقه فقال عمر : لا تفعل ، قميص قمصك الله تعالى لا تخلعه فتندم ! فقال له : يا عمر أكفرٌ بعد إسلام ؟ فألح عليه عمر وقال : أكتب إليه وإلى فلان وأمر فلاناً وفلاناً وفلاناً جماعة من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، يكتبوا إليه أن أقدم ، ولا تفرق جماعة المسلمين !
فلما وصلت كتبهم قدم المدينة ودخل إلى علي ( عليه السلام ) فعزاه عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى بكاءً شديداً وضم الحسن والحسين إلى صدره وقال : يا علي ما هذا ؟ ! قال : هو ما أنت ترى ! قال : فما تأمرني ؟ فأخبره بما عهد إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تركهم حتى يجد أعواناً ! ثم أتى أبو بكر إلى أسامة وسأله البيعة ؟ فقال له أسامة : إن رسول الله أمَّرني عليك فمن أمَّرك علي ؟ والله لا أبايعك أبداً ولاحللت لك عهدي فلا صلاة لك إلا بصلاتي ! أفلا يرى من عَقِلَ أن أسامة أميرعلى أبي‌بكر وهو أحق بهذا الأمر وأولى منه ، لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات وهو عليه أمير ، ولم يعزله عن إمرته . فأين الإجماع والرضا مع هذه الأخبار ؟ ! » .
وقال في تثبيت الإمامة / 22 : « فسألناهم البينة من غير أهل مقالتهم على أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أبا بكر بالصلاة بالناس ؟ فلم يأتوا بالبينة على ذلك ! وأجمعت الثلاث الفرق التي خالفتهم أن عائشة هي التي أمرت بلالاً عندما آذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالت : مر أبا بكر أن يصلي بالناس ! فبطلت حجة من زعم أن رسول الله أمر أبا بكر بالصلاة ، ولم نجد أحداً يشهد لها على هذا الادعاء ! ثم أجمع جميع أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أنه لما أفاق من غشيته سأل : من المتولي للصلاة ؟ فقالوا : أبو بكر . فنهض ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متوكئاً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تخط الأرض قدماه ، حتى جر أبا بكر من المحراب فأخره ، وتقدم فصلى بالناس » .
* *
--------------------------- 417 ---------------------------

الفصل الثالث والعشرون: علي ( عليه السلام ) في مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشهادته

1 - أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي ( عليه السلام ) وزار البقيع وَحَذَّرَ صحابته !

تقدم أنه لمَّا أحس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالمرض أخذ بيد علي ( عليه السلام ) واتبعه جماعة من الناس ، وذهب إلى البقيع فاستغفر لأهله ، وقال : « السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم . . » ! « الإرشاد : 1 / 179 » .
وروت ذلك مصادر السلطة ، ففي مسند أحمد « 3 / 489 » عن أبي مويهبة مولى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من جوف الليل « يقصد أيقظني » فقال : يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي ، فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليُهْنِ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس ! لو تعلمون ما نجاكم الله منه ! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ، الآخرة شر من الأولى ! قال : ثم أقبل عليَّ فقال : يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة ، قال قلت : بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة . قال : لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي والجنة . ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف ، فبدأ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في وجعه الذي قبضه الله عز وجل فيه » .
وتفاوتت روايتهم له عن أبي مويهبة ، ففي بعضها أن ذلك كان في محرم ، وفي بعضها أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ركب دابته ، وفي بعضها أن مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدأ بعد رجوعه من البقيع . لاحظ :
ابن هشام : 4 / 1056 ، والدارمي : 1 / 36 ، والحاكم : 3 / 55 ، والطبراني الكبير : 22 / 347 ، وابن سعد : 2 / 204 .
وقد أبعدوا علياً ( عليه السلام ) عن رواية هذه الحادثة ، لكن المقصود أنهم رووا تأكيده ( ( صلى الله عليه وآله ) )
--------------------------- 418 ---------------------------
بأن الفتنة تنتظر وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن الأمة ستنحرف من بعده !
لكن السلطة القرشية تصرُّ على دفن رأسها في الرمال وتقول : إن الأمور سارت بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأفضل ما يكون ، وإن خير القرون قرن صحابته !

2 - واجهت الأمة رسولها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالانقلاب عليه !

وقد روت كل المصادر حديث الانقلاب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قريش ، فقد وقف في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه وردَّ عليه ، ومنعه أن يكتب لأمته عهداً يُؤمِّنُها من الضلال ، ويجعلها سيدة العالم !
فبمجرد أن طلب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب صاح عمر : حسبنا كتاب الله . وصاح خلفه القرشيون الطلقاء : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له شيئاً !
قال البخاري ( 1 / 36 ) : « عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا : وكثر اللغط ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع . فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين كتابه »
« فلما أكثروا اللغو والاختلاف ، قال رسول الله : قوموا » . « بخاري : 5 / 137 » .
وفي مسلم : 5 / 75 : « عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ! قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فقالوا : إن رسول الله يهجر ! وفي رواية أخرى : فقال عمر : إن رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله » .
وفي مسند أحمد : 3 / 346 : « دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده . قال ، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها » !
وفي مجمع الزوائد ( 9 / 33 ) : « عن عمر بن الخطاب قال : لما مرض النبي
--------------------------- 419 ---------------------------
قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لا تضلون بعدي أبداً ، فكرهنا ذلك أشد الكراهة ! ثم قال : ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً ! فقال النسوة من وراء الستر : ألاتسمعون ما يقول رسول الله ؟ فقلت : إنكن صويحبات يوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن ، وإذا صح ركبتن رقبته . فقال رسول الله : دعوهن فإنهن خير منكم » !

وقد وصف المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب / 182 ، هذه المواجهة في كتابه القيِّم : عدالة الصحابة ، فكتب بعنوان : المواجهة الصاخبة :

« النبي على فراش الموت ، وجبريل الأمين لا ينقطع عن زيارته ، وأكثر ما كان يأتيه جبريل في مرضه . النبي على علم بمستقبل هذه الأمة ، وقد أدى دوره كاملاً وبلغ رسالات ربه ، وبين لهم كل شئ على الإطلاق ، وهو على علم تام بما يجري حوله ، ومدركٌ أنه السكون الذي يسبق الانفجار ، فينسف الشرعية السياسية والمرجعية ! وبنسف الشرعية السياسية والمرجعية يتجرد الإسلام من سلاحه الجبار ، ويتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة .
ولكن مِثل النبي لاينحني أمام العاصفة ، ولا يقعده شئ عن متابعة إحساسه العميق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة ! وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة الإلهية ، والبيان الإلهي الشامل لكل شئ تحتاجه الأمة ، بما فيه كيف يتبول وكيف يتغوط أفرادها ، إلا أنه أراد أن يلخص الموقف لأمته حتى تهتدي وحتى لاتضل ، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها ، وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها ، فتعكر صفو الإسلام ، وتعيق حركته ، وتغير مساره !
النبي على فراش المرض ، وبيته المبارك يغص بأكابر الصحابة ، وقد أصرالنبي على تلخيص الموقف والتذكير بالخط المستقبلي لمسيرة الإسلام ، فقال : قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً .
ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي ؟ من يرفض التأمين ضد الضلالة ؟ ولماذا ؟ ولمصلحة من ؟
ثم ، إن من حق أي مسلم أن يوصي ، ومن حق أي مسلم أن يقول ما يشاء
--------------------------- 420 ---------------------------
قبل موته ، والذين يسمعون قوله أحرار فيما بعد بإعمال هذا القول أو إبطاله ! هذا إذا افترضنا أن محمداً مجرد مسلم عادي ، وليس نبياً وقائداً للأمة .
فتصدى الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال : إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ! فاختلف أهل‌البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، ومنهم من يقول : القول ما قاله عمر ! فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله : قوموا عني !
وفي رواية ثانية أن الرسول عندما قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، تنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا هجر رسول الله ! قال النبي : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ! .
وفي رواية ثالثة ، قال النبي : إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقالوا : إن رسول الله يهجر .
وفي رواية رابعة للبخاري : إن النبي قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، قال عمر بن الخطاب : إن النبي غلبة الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وأكثروا اللغط ! قال النبي : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع .
رواية بلفظ خامس للبخاري : قال النبي : إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما شأنه أهجر ؟ استفهموه . فذهبوا يرددون عليه فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .
رواية بلفظ سادس للبخاري : قال النبي : إئتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما له أهجر ، استفهموه ، فقال النبي : ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .
رواية بلفظ سابع للبخاري : قال النبي : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ! واختلف أهل‌البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال : قوموا
--------------------------- 421 ---------------------------
عني . وفي رواية أن عمر بن الخطاب قال : إن النبي يهجر . وقد اعترف الفاروق أنه صد النبي عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الأمر لعلي !
تحليل المواجهة :
أطراف المواجهة : الطرف الأول ، محمد رسول الله ، وخاتم النبيين ، وإمام الدولة الإسلامية « رئيسها » .
الطرف الثاني ، عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة ، ووزير من أبرز وزراء دولة النبي ، والخليفة الثاني من خلفاء النبي فيما بعد .
مكان المواجهة : بيت النبي .
شهود المواجهة : كبار الصحابة رضوان الله عليهم .
النتائج الأولية للمواجهة :
1 - الانقسام :
إن الحاضرين قد انقسموا إلى قسمين : القسم الأول : يؤيد الفاروق فيما ذهب إليه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد . وحجة هذا الفريق أن الفاروق من كبار الصحابة ، وأحد وزراء النبي ، ومشفق على الإسلام ، وأن النبي مريض ، وبالتالي فلا داعي لإزعاجه بكتابة هذا الكتاب . ثم إن القرآن وحده يكفي ، فهو التأمين ضد الضلالة ، ولا داعي لأي كتاب آخر يكتبه النبي !
القسم الثاني : يرفض المواجهة أصلاً بين التابع والمتبوع ، وبين نبي ومصدق به ، وبين رسول يتلقى تعليماته من الله ، وبين مجتهد يعمل بما يوحيه له اجتهاده ، وبين رئيس دولة ونبي بنفس الوقت ، وبين واحد من وزرائه .
ويرى هذا القسم أن تتاح الفرصة للنبي ليقول ما يريد ، ولكتابة ما يريد لأنه نبي وما زال نبياً حتى يتوفاه الله ، ولأنه رئيس الدولة وما زال رئيساً للدولة حتى يتوفاه الله ، ويحل رئيس آخر محله .
ثم على الأقل ، لأنه مسلم يتمتع بالحرية كما يتمتع بها غيره ، ومن حقه أن يقول
--------------------------- 422 ---------------------------
ما يشاء وأن يكتب ما يشاء . ثم إن الأحداث والمواجهة تجري في بيته فهو صاحب البيت ومن حق أي إنسان أن يقول ما يشاء في بيته .
2 - بروز قوة هائلة جديدة :
برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت أن تحول بين النبي وبين كتابة ما يريد ، واستطاعت أن تستقطب لرأيها عدداً كبيراً من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه ، وبحضور النبي نفسه » ! انتهى كلام المحامي الأردني .
أقول : جاء انقلاب يوم الخميس نتيجة صراع قريش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي أخذ منحى جديداً بعد فتح مكة ، فقد قرر زعماء قريش أن يخوضوا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المواجهة حول خلافته وأن تكون بزعامة عمر ! وكثفوا وجود الطلقاء في المدينة لشد ظهر عمر فبلغوا ألوفاً ! لأن الذين كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسماءهم في جيش أسامة من الطلقاء كانوا سبع مئة ! « فتح الباري : 8 / 116 » .
وقد أخبر الله تعالى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أمته ستختلف بعده كالأمم السابقة : « وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » .
فكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤكد على مكانة أهل بيته ( عليهم السلام ) ويحذر أمته أن يرتدوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض لأجل الحكم والخلافة ! وخطب فيهم في حجة الوداع خمس خطب بيَّنَ فيها كل ما ينبغي بيانه وبشرهم بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) من عترته بعده ، وأكد على وجوب اتباعهم وإلا وقعوا في الضلال والانهيار !
وفي خطبته السادسة بغديرخم أخذ بيد علي ( عليه السلام ) وأصعده المنبر وأعلنه خليفته ، وأمرهم أن يهنئوه ويبايعوه ، ففعلوا وكان عمر أول المهنئين ! فقال كما في حديثهم الصحيح : بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » .
وفي مرض وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره ربه عز وجل أن يدعو أصحابه وأهل الحل والعقد من أمته ويتم عليهم الحجة ، فعرض عليهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته ! أن يضمن لهم أن يكونوا سادة العالم إلى يوم القيامة ، بشرط أن يقبلوا حكم الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ،
--------------------------- 423 ---------------------------
ويلتزموا بتنفيذ عهد يكتبه لهم !
فانبرى له عمر بالنيابة عن قريش فرد عليه ، وأعلن رفضهم لعرضه ! فشد ظهر عمر أكثر الحاضرين وصاحوا في وجه نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : القول ما قاله عمر ،
لا تقربوا له شيئاً ! أي لا نريد أن تكتب لنا كتاباً ، ولا نريد أمانك من الضلال ! فقد غلب عليك الوجع وفقدت الصلاحية العقلية فأنت تهذي !
فأهانوه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحكموا عليه بأنه فقد عقله فهو يهذي !
واختاروا الضلال عن عمد وإصرار ، وأن يصادروا من نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قيادة الأمة ويعطوها إلى عمر ، زعيم قريش الجديد ! واضطر النبي المظلوم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى السكوت ، لأنهم خيروه بين الكف عن كتابة عهده وبين أن يعلنوا الردة ، وأنه ليس نبياً بل أراد تأسيس ملك لأسرته كملك كسرى وقيصر ! فاليوم ابن عمه علي ابن الثلاث وثلاثين سنة ، ثم من بعده أولاد ابنته الذين هم دون العاشرة ، وإن دخلت الخلافة فيهم فلن تخرج منهم ، ولن يصل إلى بطون قبائل قريش شئ ، وهذا ظلم للبطون ما بعده ظلم !
لهذا ، تقدم عمر بتخويل زعماء قريش وواجهه بالقول إن بني هاشم تكفيهم النبوة ، والخلافة يجب أن تكون لبقية البطون !
قال عمر ( شرح النهج : 12 / 21 ) لعبد الله بن عباس : ( يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ! هل بقي في نفسه ( علي ) شئ من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم ، قال : أيزعم أن رسول الله نص عليه ؟ قلت : نعم ، وأزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ ( طرف ) من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام !
لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه ، فأمسك ) !
ثم قال ابن أبي الحديد : ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ
--------------------------- 424 ---------------------------
بغداد في كتابه مسنداً .
لكنهم حذفوه من تاريخ بغداد ! لأن عمر صرح فيه بأنه منع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب الكتاب لعلي ( عليه السلام ) بالخلافة ، وزعم أن دافعه لمواجهة النبي الإشفاق على الإسلام ، لأن قريشاً والعرب لا يطيعون علياً ( عليه السلام ) !
وهكذا اعتبرت قريش أنها انتصرت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرض وفاته ، فمنعته من كتابة عهده لعترته ! وما أن أغمض عينيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى سارعت بالصفق على يد خليفتها ، وأسست نظام الخلافة القرشي على قانون الغلبة والتسلط ! وفتحت بذلك صراعاً على السلطة ، لم تعرف أمة بعد رسولها أكثر منه سفكاً لدماء مئات الألوف المؤلفة !
وكان نتيجة هذا النظام بعض فتوحات على غير منهج ، ثم غلبة غلمان بني أمية على الخلافة ، ثم غلمان بني العباس ، ثم غلمان الشراكسة والعثمانيين ، حتى انهارت خلافة قريش ، ودفنها الغربيون في استانبول بلا مراسم ولا توديع !
كانت المدة بين يوم الغدير يوم الخميس 18 ذي الحجة ، وبين يوم الخميس يوم الرزية 24 صفر ستاً وستين يوماً فقط ! نشط فيها القرشيون ضد خلافة عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووقعت أحداث ونزلت آيات ، وصدرت من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خطب وأحاديث ! ومن أبرزها دعوته إلى كتابة عهده ، فأفشلوها كما رأيت ! وقبلها إرساله في جيش أسامة ليخلو الجو منهم في المدينة ، فيرتب الخلافة قبل وفاته ! فأفشلوا جيش أسامة أيضاً ، وكان لحفصة وعائشة دور خطير كما قال الله تعالى : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ .
وتدل رواية سُليم بن قيس / 324 ، على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حاول في آخر يوم من حياته الشريفة ، أن يكتب عهده ، فوقف عمر نفس الموقف ! قال سُليم : « كنت عند عبد الله بن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة ، قال فذكروا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وموته فبكى ابن عباس وقال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين وهو اليوم الذي قبض فيه وحوله أهل بيته وثلاثون رجلاً من أصحابه : إيتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلوا بعدي ولن تختلفوا بعدي ! فمنعهم رجل فقال : إن رسول الله يهجر ! فغضب
--------------------------- 425 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : إني أراكم تخالفوني وأنا حيٌّ فكيف بعد موتي !
قال سُليم : ثم أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم ، لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضل أحد ولا يختلف ! فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل ؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل . فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم فقال : هو عمر . فقلت : صدقت قد سمعت علياً وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون إنه عمر . فقال : يا سُليم أكتم إلا ممن تثق بهم من إخوانك فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذين الرجلين ، كما أشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل » !
كما يدل قول الطبري الشيعي في المسترشد / 680 ، على غضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحزنه عندما أمرهم بالقبول بعهده فعصوه ! قال : « أليس قال الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد تغرغر « شرق بكلماته حزناً » إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم ما لا تضلون معه بعدي . فقال الثاني : هجر رسول الله ، ثم قال : حسبنا كتاب الله » !
أقول : عملت السلطة بكل حيلة لإخفاء هذه القضية وتغييبها ، وتفسير ما أفلت منها لمصلحتها ، ثم دافعوا عن قادة الانقلاب وجعلوا فعلهم صواباً ، وجعلوا أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالكتابة خطأ ! راجع كتابنا : ألف سؤال وإشكال : 2 / 369 .

3 - من تأكيدات النبي ؟ ص ؟ الأخيرة على علي والعترة ؟ عهم ؟

مع أن زعماء قريش منعوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كتابة عهده لأمته ، فقد صدرت منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عدة وصايا : منها للمسلمين ، ومنها لعلي وفاطمة والحسنين ( عليهم السلام ) . ومنها وصيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي نزل بها جبرئيل ، وشهد عليها هو والملائكة ( عليهم السلام ) . ومنها عهد الله الذي جاء به جبرئيل ( عليه السلام ) في صحف مختومة لكل إمام باسمه .
هذا مضافاً إلى تأكيداته المتواصلة على الثقلين والخليفتين بعده : كتاب الله وعترته أهل بيته ( عليهم السلام ) ، وعلى علي ( عليه السلام ) بصفته أول العترة . وقد أخفى رواة السلطة هذه الوصايا النبوية ، لكن بقي منها ما فيه بلاغ : لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .
فمن وصاياه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما رواه المفيد في أماليه / 134 ، عن أبي سعيد الخدري قال : « آخر
--------------------------- 426 ---------------------------
خطبة خطبنا بها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لخطبة خطبنا في مرضه الذي توفي فيه ، خرج متوكياً على علي بن أبي طالب [ وميمونة مولاته ) فجلس على المنبرثم قال : يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ، وسكت . فقام رجل فقال : يا رسول الله ما هذان الثقلان ؟ فغضب حتى احمر وجهه ثم سكن وقال : ما ذكرتهما إلا وأنا أريد أن أخبركم بهما ولكن رَبَوْتُ فلم أستطع : سببٌ طرفه بيد الله وطرفٌ بأيديكم تعملون فيه كذا ، ألا وهو القرآن ، والثقل الأصغر أهل بيتي . ثم قال : وأيم الله إني لأقول لكم هذا ، ورجال في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم !
ثم قال : والله لا يحبهم عبد إلا أعطاه الله نوراً يوم القيامة حتى يرد عليَّ الحوض ، ولا يبغضهم عبد إلا احتجب الله عنه يوم القيامة » !
أي : أعرف أنكم سوف لا تطيعوني في وصيتي بالقرآن وعترتي ، لكني أرجو أن تصل وصيتي هذه لأجيال تأتي ، من أصلاب المشركين يعرفون قدرها ، هم أرجى عندي من كثير منكم . فأنا أتكلم من أجل هؤلاء الذين هم أرجى عندي وأفضل !
وما ذكرت الرواية من اعتماده على علي ( عليه السلام ) وزوجته ميمونة ، غريب ، ولعل فيه خطأ .
وقال في مناقب آل أبي طالب : 2 / 217 : « حلية الأولياء ، وفضايل السمعاني ، وكتاب الطبراني ، والنطنزي ، بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الحسن بن علي ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ادعوا لي سيد العرب يعني علياً ، فقالت عايشة : ألست سيد العرب ؟ قال : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب . فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال : معاشر الأنصار عليَّ ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده . قالوا : بلى يا رسول الله . قال : هذا عليٌّ فأحبوه لحبي وأكرموه لكرامتي ، فإن جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل . . وفي رواية : فقالت عايشة : وما السيد ؟ قال : من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي » .
وفي كفاية الأثر / 41 : عن سلمان الفارسي قال : « خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب ، أوصيكم في عترتي خيراً ، وإياكم والبدع ، فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار .
--------------------------- 427 ---------------------------
معاشر الناس : من افتقد الشمس فليتمسك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسك بالفرقدين ، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة بعدي ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . قال : فلما نزل عن المنبر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تبعته حتى دخل بيت عائشة فدخلت إليه وقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله سمعتك تقول : إذا افتقدتم الشمس فتمسكوا بالقمر ، وإذا افتقدتم القمر فتمسكوا بالفرقدين ، وإذا افتقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة . قيل : فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة ؟ فقال : أنا الشمس وعلي القمر والحسن والحسين الفرقدان ، فإذا افتقدتمونى فتمسكوا بعلي بعدي ، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسين . وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين تاسعهم مهديهم .
ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي ، أئمة أبرار ، عدد أسباط يعقوب ، وحواري عيسى . قلت : فسمهم لي يا رسول الله . قال : أولهم علي بن أبي طالب ، وبعده سبطاي ، وبعدهما علي زين العابدين ، وبعده محمد بن علي الباقر علم النبيين ، والصادق جعفر بن محمد ، وابنه كاظم سمي موسى بن عمران والذي يقتل بأرض الغربة ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه محمد ، والصادقان علي والحسن ، والحجة القائم المنتظر في غيبته ، فإنهم عترتي من دمي ولحمي ، علمهم علمي وحكمهم حكمي ، من آذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي » . ومناقب آل أبي طالب : 1 / 242 .
وفي كتاب سليم / 300 و 414 ، أن أمير المؤمنين ناشد الصحابة ، فكان مما قاله : « أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام خطيباً ولم يخطب بعدها . .
ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضه الله إليه ، وقال : يا أيها الناس ، إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد عهد إلي اللطيف الخيبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ؟ فقالوا : اللهم نعم قد شهدنا ذلك . . فقال ( عليه السلام ) : حسبي الله » .
وفي تفسير العياشي ( 1 / 5 ) : « عن مسعدة بن صدقة قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
--------------------------- 428 ---------------------------
إن الله جعل ولايتنا أهل‌البيت قطب القرآن ، وقطب جميع الكتب ، عليها يستديرمحكم القرآن ، وبها نوهت الكتب ، ويستبين الإيمان . وقد أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقتدى بالقرآن وآل محمد ، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها : إني تارك فيكم الثقلين : الثقل الأكبر والثقل الأصغر ، فأما الأكبر فكتاب ربي ، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي ، فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما » .
وفي الكافي ( 2 / 414 ) : « عن سُليم بن قيس قال : سمعت علياً صلوات الله عليه يقول وأتاه رجل فقال له : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ، وأدنى ما يكون به العبد كافراً ، وأدنى ما يكون به العبد ضالاً ؟
فقال له : قد سألت فافهم الجواب : أما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيقر له بالطاعة ، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة . قلت له : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت ؟ قال : نعم إذا أُمِرَ أطاع ، وإذا نُهِيَ انتهى .
وأدنى ما يكون به العبد كافراً : من زعم أن شيئاً نهى الله عنه أن الله أمر به ، ونصبه ديناً يتولى عليه ويزعم أنه يعبدالذي أمره به ، وإنما يعبدالشيطان .
وأدنى ما يكون به العبد ضالاً أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده ، الذي أمر الله عز وجل بطاعته وفرض ولايته . قلت : يا أمير المؤمنين صفهم لي . فقال : الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه ونبيه ، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ . قلت : يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أوضح لي ، فقال : الذين قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه : إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإن اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين ، وجمع بين مسبحتيه ، ولا أقول كهاتين ، وجمع بين المسبحة والوسطى ، فتسبق إحداهما الأخرى ، فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا » .
وفي المراجعات / 279 : « وحسبك في وجوب اتباع الأئمة من العترة الطاهرة ، اقترانهم
--------------------------- 429 ---------------------------
بكتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكما لا يجوز الرجوع إلى كتاب يخالف في حكمه كتاب الله سبحانه وتعالى ، لا يجوز الرجوع إلى إمام يخالف في حكمه أئمة العترة » .
أقول : ورد في أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصف القرآن بالثقل الأكبر ، والأئمة العترة بالثقل الأصغر . ثم نص ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أنهما ليسا متفاوتين كالإصبع الوسطى والسبابة بل متساويان كالسبابتين . وهذا يعني أن الصغر والكبر لا يرجع إلى ذاتهما فهما متساويان ، بل إلى شئ يتعلق بهما وبنوع علاقة الأمة بهما ، أو التكليف والمسؤولية عنهما وما شابه . وعندنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكذا عترته ( عليهم السلام ) أعظم شأناً وأفضل من القرآن ، على عظمته وعلو شأنه . فلو كان المقصود بالثقل الأكبر المكانة ، لكان العترة الثقل الأكبر .
ولا تفسير لهذا الحديث النبوي إلا بأن الله علم مدى بغض الأمة لعترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ومدى حبها لمخالفيهم ، فقال لهم لا بأس : تمسكوا القرآن أولاً ، وسيوصلكم مع الزمن إلى العترة المطهرين ( عليهم السلام ) ! .

4 - نزلت الوصية من الله تعالى لعلي والأئمة ( عليهم السلام )

نصت أحاديثنا على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أملى وصيته على علي ( عليه السلام ) فكتبها وأخذ تعهده بها ، ثم طلب من جبرئيل ( عليه السلام ) أن يشهد عليها ، فعرج بها ، ثم جاء بصحيفة مختومة ومعه الملائكة ، ليشهدوا على تبليغ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إياها لعلي ( عليه السلام ) ، وتعهده بتنفيذها ! ففي الكافي ( 1 / 281 ) عن الإمام الكاظم أنه سأل أباه الصادق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) أليس كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كاتب الوصية ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقربون ( عليه السلام ) شهود ؟ قال : فأطرق طويلاً ، ثم قال : يا أبا الحسن قد كان ما قلت ، ولكن حين نزل برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الأمر نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجلاً ، نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة فقال جبرئيل : يا محمد ، مُرْ بإخراج من عندك إلا وصيك ليقبضها منا ، وتشهدنا
--------------------------- 430 ---------------------------
بدفعك إياها إليه ، ضامناً لها ، يعني علياً ( عليه السلام ) .
فأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بإخراج من كان في البيت ما خلا علياً ، وفاطمة فيما بين الستر والباب ، فقال جبرئيل : يا محمد ربك يقرؤك السلام ويقول : هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك ، وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي يا محمد شهيداً . قال : فارتعدت مفاصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا جبرئيل ، ربي هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه يعود السلام ، صدق عز وجل وبر ، هات الكتاب ، فدفعه إليه ، وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : إقرأه ، فقرأه حرفاً حرفاً ، فقال : يا علي هذا عهد ربي تبارك وتعالى إليَّ وشرطه عليَّ وأمانته ، وقد بلغت ونصحت وأديت . فقال علي : وأنا أشهد لك بأبي وأمي أنت بالبلاغ والنصيحة ، والتصديق على ما قلت ، ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي . فقال جبرئيل : وأنا لكما على ذلك من الشاهدين . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أخذت وصيتي وعرفتها ، وضمنت لله ولي الوفاء بما فيها ؟ فقال علي : نعم بأبي أنت وأمي عليَّ ضمانها ، وعلى الله عوني وتوفيقي على أدائها . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إني أريد أن أشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة !
فقال علي ( عليه السلام ) : نعم إشهد . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن ، وهما حاضران معهما الملائكة المقربون ، لأشهدهم عليك . فقال : نعم ليشهدوا وأنا بأبي أنت وأمي أشهدهم . فأشهدهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكان فيما اشترط عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأمر جبرئيل ( عليه السلام ) فيما أمر الله عز وجل أن قال له : يا علي تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله ، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله والبراءة منهم ، على الصبر منك ، وعلى كظم الغيظ ، وعلى ذهاب حقك ، وغصب خمسك ، وانتهاك حرمتك ؟ فقال : نعم يا رسول الله .
فقال أمير المؤمنين : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل ( عليه السلام ) يقول للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا محمد عَرِّفْه أنه تُنتهك الحرمة ، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله ، وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط ! قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل ، حتى سقطت على وجهي ، وقلت : نعم قبلت ورضيت ،
--------------------------- 431 ---------------------------
وإن انتهكت الحرمة ، وعطلت السنن ، ومزق الكتاب ، وهدمت الكعبة ، وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط ، صابراً محتسباً أبداً ، حتى أقدم عليك !
ثم دعا رسول الله فاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقالوا مثل قوله ! فختمت الوصية بخواتيم من ذهب ، لم تمسه النار ، ودفعت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
قال الراوي : فقلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : بأبي أنت وأمي ، ألا تذكر ما كان في الوصية ؟ فقال : سنن الله وسنن رسوله . فقلت : أكان في الوصية توثبهم وخلافهم على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟ فقال : نعم والله شيئاً شيئاً ، وحرفاً حرفاً ، أما سمعت قول الله عز وجل : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَئٍْ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ . والله لقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأمير المؤمنين وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أليس قد فهمتما ما تقدمت به إليكما وقبلتماه ؟ فقالا : بلى وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا » ! !
أقول : نقل صاحب البحار ( رحمه الله ) أحاديث هذه الوصية « 22 / 476 » من كتاب الطُّرف لابن طاووس ( رحمه الله ) عن كتاب عيسى بن المستفاد ، وهو الراوي الأخير في سند حديث الكليني ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : دعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنده موته وأخرج من كان عنده في البيت غيري ، والبيت فيه جبرئيل والملائكة أسمع الحس ولا أرى شيئاً ، فأخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاب الوصية من يد جبرئيل مختومة فدفعها إليَّ وأمرني أن أفضها ففعلت ، وأمرني أن أقرأها فقرأتها فقال : إن جبرئيل عندي ، أتاني بها الساعة من عند ربي فقرأتها ، فإذا فيها كل ما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوصي به شيئاً شيئاً ما تغادر حرفاً !
وبالإسناد المتقدم عنه عن أبيه عن جده الباقر ( عليهم السلام ) قال : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : كنت مسند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى صدري ليلة من الليالي في مرضه ، وقد فرغ من وصيته وعنده فاطمة ابنته ، وقد أمر أزواجه والنساء أن يخرجن من عنده ففعلن ، فقال : يا أبا الحسن تحول من موضعك وكن أمامي ، قال ففعلت ، وأسنده جبرئيل ( عليه السلام )
--------------------------- 432 ---------------------------
إلى صدره ، وجلس ميكائيل ( عليه السلام ) على يمينه فقال : يا علي ضم كفيك بعضها إلى بعض ففعلت ، فقال لي : قد عهدت إليك أحدث العهد لك بمحضر أمينيْ رب العالمين : جبرئيل وميكائيل ، يا علي بحقهما عليك إلا أنفذت وصيتي على ما فيها ، وعلى قبولك إياها بالصبر والورع على منهاجي وطريقي ، لا طريق فلان وفلان ، وخذ ما آتاك الله بقوة . وأدخل يده فيما بين كفيَّ وكفاي مضمومتان ، فكأنه أفرغ بينهما شيئاً فقال : يا علي قد أفرغت بين يديك الحكمة وقضاء ما يرد عليك ، وما هو وارد لا يعزب عنك من أمرك شئ ، وإذا حضرتك الوفاة ، فأوص وصيتك إلى من بعدك على ما أوصيك ، واصنع هكذا بلا كتاب ولا صحيفة .
وفيه عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : كان في وصية
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أولها : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد محمد بن عبد الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وأوصى به ، وأسنده بأمر الله إلى وصيه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين . وكان في آخر الوصية : شهد جبرئيل وميكائيل وإسرافيل على ما أوصى به محمد إلى علي بن أبي طالب ، وقبضه وصيه ، وضمانه على ما فيها على ما ضمن يوشع بن نون لموسى بن عمران ، وعلى ما ضمن وأدى وصي عيسى بن مريم ، وعلى ما ضمن الأوصياء قبلهم ، على أن محمد أفضل النبيين وعلياً أفضل الوصيين ( عليهم السلام ) .
وأوصى محمد وسلم إلى علي وأقر علي ، وقبض الوصية على ما أوصى به الأنبياء ، وسلم محمد الأمر إلى علي بن أبي طالب ، وولاه الأمر على أن لا نبوة لعلي ولا لغيره بعد محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكفى بالله شهيداً » .
وفيه أيضاً : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) حين دفع إليه الوصية : إتخذْ لها جواباً غداً بين يدي الله تبارك وتعالى رب العرش ، فإني محاجك يوم القيامة بكتاب الله ، حلاله وحرامه ومحكمه ومتشابهه على ما أنزل الله ، وعلى ما أمرتك ، وعلى فرائض الله كما أنزلت ، وعلى الأحكام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتنابه ، مع إقامة حدود الله وشروطه ، والأمور كلها ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة لأهلها ، وحج البيت ، والجهاد في سبيل الله ، فما أنت قائل يا علي ؟
--------------------------- 433 ---------------------------
فقال علي : بأبي أنت وأمي ، أرجو بكرامة الله لك ومنزلتك عنده ونعمته عليك ، أن يعينني ربي ويثبتني ، فلا ألقاك بين يدي الله مقصراً ولا متوانياً ولا مفرطاً ، ولا أمغر وجهك ، وِقَاهُ وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي ، بل تجدني بأبي أنت وأمي مشمراً متبعاً لوصيتك ومنهاجك وطريقك ، ما دمت حياً حتى أقدم بها عليك ، ثم الأول فالأول من ولدي ، لا مقصرين ولا مفرطين .
قال علي ( عليه السلام ) : ثم انكببت على وجهه وعلى صدره وأنا أقول : واوحشتاه بعدك بأبي أنت وأمي ، ووحشة ابنتك وبنيك ، بل واطول غمي بعدك يا أخي ، انقطعت من منزلي أخبار السماء ، وفقدت بعدك جبرئيل وميكائيل ، فلا أحس أثراً ولا أسمع حساً ، فأغمي عليه طويلاً ، ثم أفاق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال أبو الحسن : فقلت لأبي : فما كان بعد إفاقته ؟ قال : دخل عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات ، وضج الناس بالباب من المهاجرين والأنصار ، فبيناهم كذلك إذ نودي : أين علي ؟ فأقبل حتى دخل عليه ، قال علي ( عليه السلام ) : فانكببت عليه فقال : يا أخي إفهم فَهَّمَك الله وسددك وأرشدك ووفقك وأعانك ، وغفر ذنبك ورفع ذكرك ، إعلم يا أخي أن القوم سيشغلهم عني ما يشغلهم ، فإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله للناس علماً ، وإنما تؤتى من كل فج عميق ونأيٍ سحيق ، ولا تأتي . وإنما أنت علم الهدى ونور الدين ، وهو نور الله .
يا أخي ، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد بعد أن أخبرتهم ، رجلاً رجلاً ، ما افترض الله عليهم من حقك ، وألزمهم من طاعتك ، وكل أجاب وسلم إليك الأمر ، وإني لأعلم خلاف قولهم ! فإذا قبضت وفرغت من جميع ما أوصيك به ، وغيبتني في قبري فالزم بيتك ، واجمع القرآن على تأليفه ، والفرائض والأحكام على تنزيله ، ثم امض على غير لائمة على ما أمرتك به ، وعليك بالصبر على ما ينزل بك وبها حتى تقدموا عليَّ » .
وفيه عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قلت لأبي : فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال فقال : ثم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين وقال لمن في
--------------------------- 434 ---------------------------
بيته : أخرجوا عني ، وقال لأم‌سلمة : كوني على الباب فلا يقربه أحد ففعلت ، ثم قال : يا علي أدن مني فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً ، وأخذ بيد علي بيده الأخرى ، فلما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الكلام غلبته عبرته فلم يقدر على الكلام ، فبكت فاطمة ( عليها السلام ) بكاء شديداً وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) لبكاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقالت فاطمة : يا رسول الله قد قطعت قلبي وأحرقت كبدي لبكائك ، يا سيد النبيين من الأولين والآخرين ، ويا أمين ربه ورسوله ، ويا حبيبه ونبيه ، من لولدي بعدك ؟ ولذل ينزل بي بعدك ! من لعلي أخيك وناصر الدين ، من لوحي الله وأمره ؟ ثم بكت وأكبت على وجهه فقبلته ، وأكب عليه علي والحسن والحسين ، فرفع رأسه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم ويدها في يده فوضعها في يد علي وقال له : يا أبا الحسن هذه وديعة الله ووديعة رسوله محمد عندك ، فاحفظ الله واحفظني فيها وإنك لفاعله . يا علي هذه والله سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين ، هذه والله مريم الكبرى . أما والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم ، فأعطاني ما سألته .
يا علي ، أنفذ لما أمرتك به فاطمة ، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل ( عليه السلام ) ، واعلم يا علي أني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة ، وكذلك ربي وملائكته . يا علي ، ويل لمن ظلمها وويل لمن ابتزها حقها ، وويل لمن هتك حرمتها ، وويل لمن أحرق بابها ، وويل لمن آذى خليلها ، وويل لمن شاقها وبارزها . اللهم إني منهم برئ ، وهم مني برآء ، ثم سماهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضم فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وقال : اللهم إني لهم ولمن شايعهم سلم ، وزعيم بأنهم يدخلون الجنة ، وعدو وحرب لمن عاداهم وظلمهم ، وتقدمهم أو تأخر عنهم وعن شيعتهم ، زعيم بأنهم يدخلون النار . ثم والله يا فاطمة لا أرضى حتى ترضيْ ، ثم لا والله لا أرض حتى ترضيْ ، ثم لا والله لا أرضى حتى ترضيْ .
قال عيسى : فسألت موسى ( عليه السلام ) وقلت : إن الناس قد أكثروا في أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ثم عمر ، فأطرق عني طويلاً ثم قال : ليس كما ذكروا ، ولكنك يا عيسى كثيرالبحث عن الأمور ، ولا ترضى عنها إلا بكشفها . فقلت : بأبي أنت وأمي إنما أسال عما أنتفع به في ديني وأتفقه مخافة أن أضل وأنا لا أدري ولكن متى أجد
--------------------------- 435 ---------------------------
مثلك يكشفها لي . فقال : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما ثقل في مرضه دعا علياً فوضع رأسه في حجره ، وأغمي عليه وحضرت الصلاة فأوذن بها فخرجت عائشة فقالت : يا عمرأخرج فصل بالناس فقال : أبوك أولى بها ، فقالت : صدقت ولكنه رجل لين وأكره أن يواثبه القوم فصلِّ أنت ، فقال لها عمر : بل يصلي هو وأنا أكفيه إن وثب واثب أو تحرك متحرك ، مع أن محمداً مغمى عليه لا أراه يفيق منها ، والرجل مشغول به لا يقدر أن يفارقه ، يريد علياً ( عليه السلام ) ، فبادره بالصلاة قبل أن يفيق ، فإنه إن أفاق خفت أن يأمرعلياً بالصلاة ، فقد سمعت مناجاته منذ الليلة ، وفي آخر كلامه : الصلاة الصلاة !
قال : فخرج أبو بكر ليصلي بالناس فأنكر القوم ذلك ، ثم ظنوا أنه بأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فلم يُكبِّر حتى أفاق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : ادعوا لي العباس فدعي فحمله هو وعلي فأخرجاه حتى صلى بالناس وإنه لقاعد ، ثم حمل فوضع على منبره فلم يجلس بعد ذلك على المنبر ، واجتمع له جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار حتى برزت العواتق من خدورهن ، فبين باك وصائح وصارخ ومسترجع ، والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخطب ساعة ويسكت ساعة ، وكان مما ذكر في خطبته أن قال : يا معشرالمهاجرين والأنصار ومن حضرني في يومي هذا وفي ساعتي هذه من الجن والإنس : فليبلغ شاهدكم الغائب ، ألا قد خلفت فيكم كتاب الله ، فيه النور والهدى والبيان ، ما فرط الله فيه من شئ ، حجة الله لي عليكم ، وخلفت فيكم العلم الأكبرعلم الدين ونور الهدى ، وصيي علي بن أبي طالب ، ألا هو حبل الله فاعتصموا به جميعاً ولا تفرقوا عنه . أيها الناس : ومن كانت له قبلي تبعة فها أنا ، ومن كانت له عدة فليأت فيها علي بن أبي طالب ، فإنه ضامن لذلك كله ، حتى لا يبقى لأحد عليَّ تباعة » .
أقول : تدل أحاديث وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن الإمامة مهمة هداية البشرية بعد النبوة ، ولها مسؤوليتها الثقيلة وعهدها ميثاقها ، وعلومها وأسرارها الربانية .
لكن زعماء قريش جعلوها رئاسة دولة محمد والتمتع بسلطانه ، وقالوا ليس من
--------------------------- 436 ---------------------------
العدل أن يجمع بنو هاشم النبوة والخلافة ! فالنبوة لبني هاشم والخلافة لبقية البطون !
فقد أعطوا لنفسهم الحق أن يقسموا عطاء الله لعباده ، ونسوا قول الله تعالى : أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ .

5 - أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نساءه بطاعة علي ( عليه السلام )

في إرشاد القلوب / 337 ، والبحار : 28 / 107 ، عن حذيفة بن اليمان قال : « أمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خادمةً لأم‌سلمة فقال : إجمعي لي هؤلاء يعني نساءه ، فجمعتهن له في منزل أم‌سلمة ، فقال لهن : إسمعن ما أقول لكن ، وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب فقال لهن : هذا أخي ووصيي ووارثي والقائم فيكن وفي الأمة من بعدي ، فأطعنه فيما يأمركن به ، ولا تعصينه فتهلكن لمعصيته .
ثم قال : يا علي أوصيك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك ، وأنفق عليهن من مالك وأمرهن بأمرك وانههن عما يريبك ، وخل سبيلهن إن عصينك . فقال علي ( عليه السلام ) :
يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إرفق بهن ما كان الرفق أمثل ، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها .
قال : كل نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد صمتن فما يقلن شيئاً ، فتكلمت عائشة فقالت : يا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه إلى ما سواه ! فقال لها : بلى قد خالفت أمري أشد خلاف ! وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصينه بعدي ، ولتخرجين من البيت الذي خلفتك فيه متبرجة ، قد حف بك فئات من الناس فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك ، ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب ، ألا أن ذلك كائن !
ثم قال : قمن فانصرفن إلى منازلكن . فقمن فانصرفن » .

6 - أخرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمه العباس من وصيته وحصرها بعلي ( عليه السلام )

في الإرشاد ( 1 / 184 ) : قال العباس للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « يا رسول الله إن يكن هذا الأمر فينا مستقراً بعدك فبشرنا ، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي ، وأصمت ! فنهض القوم وهم يبكون قد أيسوا من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
--------------------------- 437 ---------------------------
فلما خرجوا من عنده قال : أرددوا عليَّ أخي علي بن أبي طالب وعمي ، فأنفذوا من دعاهما فحضرا ، فلما استقر بهما المجلس قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عباس يا عم رسول الله ، تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي عني ديني ؟ فقال العباس : يا رسول الله ، عمك شيخ كبير ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سخاء وكرماً ، وعليك وعد لا ينهض به عمك . . الخ . » .
وفي الكافي ( 1 / 236 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تباري الريح !
قال : فأطرق هنيئة ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد ، وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثم قال : يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم ، بأبي أنت وأمي ذاك عليَّ ولي . قال : فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من إصبعه فقال : تختَّم بهذا في حياتي ! قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعه في إصبعه ، فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم . ثم صاح : يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك يعني الأبرقة ، فجئ بشقة كادت تخطف الأبصار فإذا هي من أبرق الجنة ، فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال : يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة ، ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر ، وقلنسوة العيدين والجمع ، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه . ثم قال : يا بلال علي بالبغلتين الشهباء والدلدل ، والناقتين العضباء والقصوى ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب
--------------------------- 438 ---------------------------
المسجد لحوائج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحيزوم وهو الذي كان يقول : أقدم حيزوم ، والحمار عفير فقال : إقبضها في حياتي . فذكرأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أول شئ من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء ، فرمى بنفسه فيها فكانت قبره » . وعلل الشرائع : 1 / 166 ، والمناقب : 2 / 248 .
وفي مناقب محمد بن سليمان ( 1 / 432 ) : « فمكث علي تسع سنين ينشد الناس في كل موسم : هل يطلب أحد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدين أو بموعد ، حتى أنجز عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عداته وقضاء دينه ؟ قال : ثم قام بذلك الحسن من بعد علي ( عليه السلام ) » .

7 - عَلَّمَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) ألف باب من العلم

في الكافي ( 1 / 297 ) : « عن يونس بن رباط قال : دخلت أنا وكامل التمار على أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال له كامل : جعلت فداك حديث رواه فلان ؟ فقال : أذكره ، فقال : حدثني أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حدث علياً ( عليه السلام ) بألف باب يوم توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كل باب يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب ؟ فقال : لقد كان ذلك . قلت : جعلت فداك فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم ؟ فقال : يا كامل باب أو بابان . فقلت : جعلت فداك ، فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان ؟ قال : وما عسيتم أن ترووا من فضلنا ، ما تروون من فضلنا إلا ألفاً غير معطوفة » ! أي ألفاً بدون العطفة التي تكون في رأسه !
وفي أمالي الطوسي / 600 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) عن أبيه عن جده علي ( عليه السلام ) قال : « لما ثقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه الذي قبض فيه كان رأسه في حجري فقال : يا علي أجلسني فأجلسته وأسندته إلى صدري . قال علي ( عليه السلام ) : فلقد رأيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن رأسه ليثقل ضعفاً ، وهو يقول يسمع أقصى أهل‌البيت وأدناهم : إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضي ديني وينجز موعدي .
يا بني هاشم يا بني عبد المطلب : لاتبغضوا علياً ولاتخالفوا أمره فتضلوا ، ولا تحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا ، أضجعني يا علي ، فأضجعته . فقال : يا بلال إئتني بولديَّ
--------------------------- 439 ---------------------------
الحسن والحسين ، فانطلق فجاء بهما فأسندهما إلى صدره فجعل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يشمهما ، قال علي : فظننت أنهما قد غمَّاه فذهبت لآخذهما عنه فقال : دعهما يا علي يشماني وأشمهما ويتزودا مني وأتزود منهما ، فسيلقيان من بعدي أمراً عضالاً ، فلعن الله من يخيفهما . اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين »
وفي الإرشاد : 1 / 184 : « وكان أمير المؤمنين لا يفارقه إلا لضرورة ، فقام في بعض شؤونه ، فأفاق ( عليه السلام ) إفاقة فافتقد علياً ( عليه السلام ) فقال وأزواجه حوله : ادعوا لي أخي وصاحبي ، وعاوده الضعف فأصمت ، فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر ، فدعي فدخل عليه فقعد عند رأسه ، فلما فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر وقال : لو كان له إلي حاجة لأفضى بها إلي . فلما خرج أعاد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القول ثانية وقال : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت حفصة : ادعوا له عمر ، فدعي فلما حضر رآه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعرض عنه فانصرف . ثم قال ( عليه السلام ) : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت أم‌سلمة : ادعوا له علياً فإنه لا يريد غيره ، فدعي أمير المؤمنين فلما دنا منه أومأ إليه ، فأكب عليه فناجاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طويلاً ، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له الناس : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال : علمني ألف باب يفتح لي كل باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله . ثم ثقل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحضره الموت وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) حاضر عنده . فلما قرب خروج نفسه قال له : ضع رأسي يا علي في حجرك ، فقد جاء أمر الله عز وجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري ، وصل عليَّ أول الناس ، ولاتفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى . فأخذ علي ( عليه السلام ) رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأكبت فاطمة ( عليها السلام ) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :
وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عينيه وقال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمك أبي طالب ( رحمه الله ) لا تقوليه ، ولكن قولي : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
--------------------------- 440 ---------------------------
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . . فبكت طويلاً ، فأومأ إليها بالدنو منه ، فدنت فأسرَّ إليها شيئاً تهلل له وجهها .
ثم قضى ( عليه السلام ) ويد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه ( عليه السلام ) فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره » .

8 - قال علي ( عليه السلام ) إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات شهيداً بالسُّمّ !

قال الله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًاوَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ . فأخبر عز وجل بأن وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ستكون بالموت الطبيعي أو بالقتل ، وهذا الترديد من الله العليم بكل شئ ، يعني أنه قتل بالسُّم . وقد زعموا أنه أكل من لحم شاة مسمومة أهدتها له يهودية في فتح خيبر ، وزعموا أن ذلك السم كان يعاوده سنوياً . « أبو داود : 2 / 370 ، وابن ماجة : 2 / 1174 » لكن أحاديثنا نفت أن يكون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكل من تلك الشاة ، ففي الثاقب لابن حمزة / 81 : « فلما وضعت الشاه بين يديه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، تكلمت كتفها فقال : مه يا محمد لا تأكلني ، فإني مسمومة » .
فالصحيح أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يأكل منها . وروينا أنه مات مسموماً من غير لحم الشاة ، بالدواء الذي لُدَّ به في مرضه ! والُّلدود دواء كالمرهم يوضع في الفم ، وقد روته عامة مصادرهم . وخلاصة القصة برواية البخاري : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يغشى عليه من شدة الحمى لدقائق ويفيق ، فأحس بأن بعض من حوله يريدون أن يسقوه دواء عندما يغمى عليه ، فنهاهم وشدد نهيه عليهم ، ومع ذلك عصوه ووضعوا في فمه دواء كالمرهم لما أغمي عليه فرفضه فوضعوه في فمه بالقوة ! فأفاق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووبخهم على عملهم ، وأمركل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء ، ما عدا بني هاشم !
قال البخاري : 7 / 17 : « قالت عائشة : لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء . فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ ! قلنا : كراهية المريض للدواء . فقال : لا يبقى في البيت أحد إلا لد وأنا أنظر ، إلا العباس فإنه لم يشهدكم » !
--------------------------- 441 ---------------------------
ورواه في ( 8 / 40 و 42 ) وفيه : أنه أحس باللد فنهاهم ، فلم يمتنعوا ، فعاقبهم !
وفي رواية الحاكم ( 4 / 202 ) : ( والذي نفسي بيده لا يبقى في البيت أحد إلا لُدَّ ، إلا عمِّي . قال فرأيتهم يلدونهم رجلاً رجلاً ! قالت عائشة : ومن في البيت يومئذ فيذكر فضلهم ، فلُدَّ الرجال أجمعون وبلغ اللدود أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلُددن ، امرأة امرأة » !
ويظهرأنهم لدوه مرتين ! أولاهما في أول مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كما فيمسند أحمد : 6 / 438 : عن أسماء بنت عميس قالت : أول ما اشتكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيت ميمونة فاشتد مرضه حتى أغمي عليه ، فتشاور نساؤه في لده فلدوه ! فلما أفاق قال : ما هذا ؟ ! فقلنا : هذا فعل نساء جئن من ههنا ، وأشرن إلى أرض الحبشة وكانت أسماء بنت عميس فيهن . قالوا : كنا نتهم فيك ذات الجنب يا رسول الله ! قال : إن ذلك لداء ما كان الله عز وجل ليقرفني به ! لا يبقين في هذا البيت أحد إلا التدَّ إلا عمُّ رسول الله يعني العباس ! فلقد التدت ميمونة وإنها لصائمة ، لعزمة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
والمرة الثانية التي رواها بخاري ومسلم : في آخر مرضه يوم الأحد ، قالوا : « ونزل أسامة يوم الأحد ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثقيل مغمور وهو اليوم الذي لدُّوه فيه ، فدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعيناه تهملان » . « الطبقات : 2 / 190 ، وتاريخ دمشق : 2 / 56 ، وعيون الأثر : 2 / 352 ، والإمتاع : 14 / 520 »
وقد اضطربت روايتهم فيمن وضع الدواء في فم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالقوة ، وسألهم هو فأشاروا في المرة الأولى إلى أسماء بنت عميس ، وقالوا له في الثانية إنه العباس ، والصحيح أنهما عائشة وحفصة .
كما تحير الفقهاء في يمينه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمعاقبة جميع من حضر وغرضه من ذلك ! لكن لا تفسير له إلا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد أن يفهم أجيال الأمة أنه مات مسموماً ، وأن الحاضرين غير بني هاشم ، متهمون بدمه !
ومما يدل على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات مسموماً قول الإمام الحسن ( عليه السلام ) بسند صحيح : « إني أموت بالسم كما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقالوا : ومن يفعل ذلك ؟ !
--------------------------- 442 ---------------------------
قال : امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس ، فإن معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك . قالوا : أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك ! قال : كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً ، ولو أخرجتها ما قتلني غيرها وكان لها عذر عند الناس » !
وروى سُليم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 363 ، قال : « فقام إليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهو يبكي فقال : بأبي أنت وأمي يا نبي الله أتُقتل ؟ قال : نعم أهلكُ شهيداً بالسم ! وتُقتل أنت بالسيف وتُخضب لحيتك من دم رأسك ، ويُقتل ابني الحسن بالسم ، ويُقتل ابني الحسين بالسيف ، يقتله طاغٍ ابن طاغ ، دعيُّ ابن دعي » !
وروى العياشي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « تدرون مات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو قتل ؟
إن الله يقول : أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ، فسُمَّ قبل الموت ، إنهما سقتاه » !
وما رواه وصححه مجمع الزوائد ( 8 / 34 ) عن ابن مسعود قال : « لأن أحلف تسعاً أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قتل قتلاً ، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل ، وذلك بأن الله عز وجل جعله نبياً واتخذه شهيداً !
قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : كانوا يرون أن اليهود سموه » ! ومما يؤيد موته بالسم ، أنه سقي ذلك الدواء يوم الأحد ، وتقيأ دماً يوم الاثنين ! قال ابن أبي الحديد في شرح النهج « 10 / 266 » : « يروى أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قذف دماً يسيراً وقت موته ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب ، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال وكانت فيها نفسه » .
لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نفى أن يكون مرضه ذات الرئة ، فلا بد أنه قذف دماً يوم الاثنين ، مما سقوه يوم الأحد ! ولم تذكر الروايات أين كان علي غائباً عن لدّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

9 - مدة مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونوع مرضه

تفاوتت الرواية في مدة مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين ثلاثة عشر وثمانية عشر يوماً ، والأخير أرجح ، لأن وفاته كانت يوم الاثنين ، وبدأ مرضه يوم السبت . والمشهورعندنا أن وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت في الثامن والعشرين من صفر ، وعند أتباع المذاهب أنها في الثاني عشرمن ربيع الأول .
--------------------------- 443 ---------------------------
وكان مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الحمى والصداع ، وقد نفى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) أن يكون مرضه ذات الجنب ، أي التهاب الرئة ، أو السحايا .
ففي الكافي ( 8 / 193 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اشتكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالت له عائشة : بك ذات الجنب ؟ فقال : أنا أكرم على الله عز وجل من أن يبتليني بذات الجنب » .
لكنها أصرَّت على قولها : « ما مات رسول الله إلا من ذات الجنب » ! « الزوائد : 9 / 34 » .
ولم يستطع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) النوم من الألم ، وسهر معه علي ( عليه السلام ) ففي شرح النهج ( 10 / 267 ) : ( قال سلمان الفارسي : دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه ، فقال لي : يا سلمان ، ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلي ! فقلت : يا رسول الله ألا أسهر الليلة معك بدله ؟ فقال : لا هو أحق بذلك منك ) .

10 - أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في البحار ( 22 / 490 ) عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عن أبيه ( عليه السلام ) قال : « لما كانت الليلة التي قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في صبيحتها دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وأغلق عليه الباب وعليهم ، وقال لفاطمة ( عليها السلام ) وأدناها منه ، فناجى من الليل طويلاً ، فلما طال ذلك خرج علي ومعه الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأقاموا بالباب والناس خلف ذلك ، ونساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينظرن إلى علي ( عليه السلام ) ومعه ابناه ، فقالت عائشة : لأمر ما أخرجك عنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخلا بابنته دونك في هذه الساعة ؟ فقال لها علي : قد عرفت الذي خلا بها وأرادها له ، وهو بعض ما كنت فيه ، وأبوك وصاحباه قد سماه ! فوجمت أن ترد عليه كلمة !
قال علي ( عليه السلام ) : فما لبثت أن نادتني فاطمة فدخلت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يجود بنفسه ، فبكيت ولم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال يجود بنفسه ، فقال لي : ما يبكيك يا علي ؟ ليس هذا أوان البكاء فقد حان الفراق بيني وبينك ، فأستودعك الله يا أخي فقد اختار لي ربى ما عنده ، وإنما بكائي وغمى وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي ، فقد أجمع القوم على ظلمكم ، وقد استودعتكم الله وقبلكم مني وديعة .
--------------------------- 444 ---------------------------
يا علي إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك ، فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة ، ثم ضمها إليه وقبل رأسها وقال : فداك أبوك يا فاطمة ! فعلا صوتها بالبكاء ، ثم ضمها إليه وقبل رأسها وقال : أما والله لينتقمن الله ربي وليغضبن لغضبك ! فالويل ثم الويل ثم الويل للظالمين ، ثم بكى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال علي ( عليه السلام ) : فوالله لقد حسست بضعة مني ذهبت لبكائه حتى هملت عيناه كمثل المطر ، حتى بلت دموعه لحيته وملأة كانت عليه ، وهو ملتزم فاطمة ( عليها السلام ) ورأسه على صدري وأنا مسنده ، والحسن والحسين يقبلان قدميه ، وهما يبكيان بأعلى أصواتهما .
قال علي ( عليه السلام ) : فلو قلت إن جبرئيل لم يكن في مثل تلك الليلة يفارق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقد رأيت من بكائها ما أحسست أن السماوات والأرضين قد بكت لها ، ثم قال لها : يا بنية خليفتي عليكم الله وهو خير خليفة ، والذي بعثني بالحق لقد بكى لبكائك عرش الله ، وماحوله من الملائكة ، والسماوات والأرضون وما فيها ، يا فاطمة والذي بعثني بالحق نبياً ، لقد حُرمت الجنة على الخلائق حتى أدخلها ، وإنك لأول خلق الله كاسية حالية ناعمة ، يا فاطمة فهنيئاً لك . والذي بعثني بالحق إن الحور العين ليفخرن بك وبقربك منهن ، ويتزين لزينتك ، والذي بعثني بالحق إنك لسيدة من يدخلها من النساء .
والذي بعثني بالحق إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا صعق ، فينادي بها إليك أن يا جهنم يقول لك الجبار : أسكتي واستقري بعزتي حتى تجوز فاطمة بنت محمد إلى الجنان ، ولا يشغلهم قتر ولا ذلة .
والذي بعثني بالحق ليدخل حسن عن يمينك ، وحسين عن يسارك ، والحور العين يتشرفن من أعلى الجنان فينظرن إليك بين يدي الله في المقام الشريف . ولواء الحمد مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أمامي ، يكسى إذا كسيت ، ويُحَلَّى إذا حُلِّيت .
والذي بعثني بالحق لأقومن بالخصومة لأعدائك ، وليندمن قوم ابتزوا حقك ، وقطعوا مودتك ، وكذبوا عليَّ ! وليختلجن دوني فأقول : أمتي ! فيقال : إنهم بدلوا بعدك ، وصاروا إلى السعير » .
وفي كمال الدين / 262 : « عن سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت سلمان الفارسي رضي
--------------------------- 445 ---------------------------
الله عنه يقول : كنت جالساً بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضته التي قبض فيها ، فدخلت فاطمة ( عليها السلام ) فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها ، فقال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما يبكيك يا فاطمة ؟ قالت : يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك ! فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء ، ثم قال : يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا ، وإنه حتم الفناء على جميع خلقه ، وإن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارني من خلقه فجعلني نبياً ، ثم اطلع إلى الأرض اطلاعة ثانية فاختار منها زوجك وأوحى إلي أن أزوجك إياه ، وأتخذه ولياً ووزيراً ، وأن أجعله خليفتي في أمتي .
فأبوك خير أنبياء الله ورسله ، وبعلك خير الأوصياء ، وأنت أول من يلحق بي من أهلي . ثم اطلع إلى الأرض اطلاعة ثالثة فاختارك وولديك ، فأنت سيدة نساء أهل الجنة ، وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة ، كلهم هادون مهديون ، وأول الأوصياء بعدي أخي علي ، ثم حسن ثم حسين ، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي ، وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله من درجتي ودرجة أبي إبراهيم . أما تعلمين يا بنية إن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي ، وخير أهل بيتي أقدمهم سلماً ، وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً ؟ !
فاستبشرت فاطمة وفرحت بما قال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم قال : يا بنية إن لبعلك مناقب : إيمانه بالله ورسوله قبل كل أحد ، فلم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي ، وعلمه بكتاب الله عز وجل وسنتي وليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي غيرعلي ( عليه السلام ) ، وإن الله جل وعز علمني علماً لا يعلمه غيري ، وعلم ملائكته ورسله علماً ، فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه ، وأمرني الله أن أعلمه إياه ففعلت ، فليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي وفهمي وحكمتي غيره . وإنك يا بنية زوجته ، وابناه سبطاي حسن وحسين ، وهما سبطا أمتي ، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فإن الله عز وجل آتاه الحكمة وفصل الخطاب .
--------------------------- 446 ---------------------------
ويا بنية : إنا أهل بيت أعطانا الله عز وجل ست خصال لم يعطها أحداً من الأولين كان قبلكم ، ولم يعطها أحداً من الآخرين غيرنا : نبينا سيد الأنبياء والمرسلين ، وهو أبوك ، ووصينا سيد الأوصياء وهو بعلك ، وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك ، قالت : يا رسول الله هو سيد الشهداء الذين قتلوا معه ؟ قال : لا بل سيد شهداء الأولين والآخرين ما خلا الأنبياء والأوصياء ، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة مع الملائكة ، وإبناك حسن وحسين سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة ، ومنا والذي نفسي بيده مهدي هذه الأمة ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً .
قالت وأي هؤلاء الذين سميتم أفضل ؟ قال : علي بعدي أفضل أمتي ، وحمزة وجعفر أفضل أهل بيتي ، بعد علي وبعدك وبعد ابني وسبطي حسن وحسين ، وبعد الأوصياء من ولد ابني هذا وأشار إلى الحسين ، منهم المهدي .
إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، ثم نظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليها وإلى بعلها وإلى ابنيها فقال : يا سلمان أشهد الله أني سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم ، أما إنهم معي في الجنة .
ثم أقبل على علي ( عليه السلام ) فقال : يا أخي أنت ستبقى بعدي ، وستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك ، فإن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك ، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفَّ يدك ، ولا تلق بها إلى التهلكة ، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ! فاصبر لظلم قريش إياك ، وتظاهرهم عليك ، فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه ، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه .
يا علي : إن الله تبارك وتعالى قد قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ، لا يختلف فيه اثنان من هذه الأمة ، ولا ينازع في شئ من أمره ، ولايجحد المفضول لذي الفضل فضله .
ولو شاء لعجل النقمة وكان منه التغييرحتى يُكَذَّبَ الظالم ويُعلم الحق أين مصيره ،
--------------------------- 447 ---------------------------
ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار القرار : لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .
فقال علي ( عليه السلام ) : الحمد لله شكراً على نعمائه ، وصبراً على بلائه » .
أقول : رووا هذا الحديث وحذفوا بعضه ، لكن ما بقي منه حجة كافية لمن أراد الحق !
ففي الطبراني الكبير : 3 / 57 : « عن علي بن علي المكي الهلالي عن أبيه قال : دخلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في شكاته التي قبض فيها ، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه ، قال : فبكت حتى ارتفع صوتها فرفع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طرفه إليها فقال : حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك ؟ فقالت : أخشى الضيعة من بعدك ! فقال : يا حبيبتي أما علمت أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعث برسالته ، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك وأوحى إلي أن أنكحك إياه .
يا فاطمة ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم يعط أحد قبلنا ولا يعطى أحد بعدنا : أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله وأحب المخلوقين إلى الله عزو جل وأنا أبوك . ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء وأحبهم إلى الله ، وهو عمك حمزة بن عبد المطلب وهو عم أبيك وعم بعلك .
ومنا من له جناحان أخضران يطير في الجنة مع الملائكة حيث يشاء ، وهو ابن عم أبيك وأخو بعلك .
ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما والذي بعثني بالحق خير منهما .
يا فاطمة : والذي بعثني بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة ، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً ، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ، ولا صغير يوقر كبيراً ، فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً ! يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً .
--------------------------- 448 ---------------------------
يا فاطمة : لا تحزني ولا تبكي ، فإن الله عز وجل أرحم بك وأرأف عليك مني وذلك لمكانك من قلبي ، وزوَّجك الله زوجاً هو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعية وأعدلهم بالسوية وأبصرهم بالقضية . وقد سألت ربي عز وجل أن تكوني أول من يلحقني من أهل بيتي !
قال علي رضي الله عنه : فلما قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم تبق فاطمة رضي الله عنها بعده إلا خمسة وسبعين يوماً ، حتى ألحقها الله عز وجل به » .
أقول : يظهر أن الفقرة الأخيرة من كلام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، لكن يحتمل أن تكون من كلام الراوي علي بن هلال الأب ، أو الابن .
ومعنى أخشى الضيعة من بعدك : أي ظلم الأمة . والهرج والمرج : القتل والفوضى . تظاهرت الفتن : توالت وتعاونت في تأثيرها . تقطعت السبل : بمعنى فقد الأمن . حصون الضلالة : مراكزها . قلوباً غلفاً : عليها غشاء عن سماع الحق واتباعه .

11 - أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) بتجهيزه

في روضة الواعظين / 71 : « قال ابن عباس : لما مرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعنده أصحابه قام إليه عمار بن ياسر وقال له : فداك أبي وأمي يا رسول الله من يغسلك منا إذا كان ذلك منك ؟ قال : ذاك علي بن أبي طالب ، إنه لا يهم بعضو من أعضائي ، إلا أعانته الملائكة على ذلك » .
وفي كفاية الأثر / 124 ، عن عمار بن ياسر : « لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا بعلي فسارَّه طويلاً ، ثم قال : يا علي أنت وصيي ووارثي ، قد أعطاك الله علمي وفهمي ، فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم ، وغصب على حقد .
فبكت فاطمة وبكى الحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، فقال لفاطمة : يا سيدة النسوان ممَّ بكاؤك ؟ قالت : يا أبة أخشى الضيعة بعدك ! قال : أبشري يا فاطمة فإنك أول من يلحقني من أهل بيتي ، ولا تبكي ولا تحزني ، فإنك سيدة نساء أهل الجنة ، وأباك سيد الأنبياء ، وابن عمك خير الأوصياء ، وابناك سيدا شباب أهل الجنة ، ومن صلب الحسين يخرج الله الأئمة التسعة مطهرون معصومون ، ومنا مهدي هذه الأمة .
--------------------------- 449 ---------------------------
ثم التفت إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا علي لايلي غسلي وتكفيني غيرك . فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله من يناولني الماء فإنك رجل ثقيل لا أستطيع أن أقلبك . فقال : إن جبرئيل معك والفضل يناولك الماء وليغطي عينيه ، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا انفقأت عينيه » .
أي لا يرى أحد غير علي ( عليه السلام ) بدن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا عميَ ، وهي خصوصية لبدنه بعد وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولعلي ( عليه السلام ) . والمقصود كل بدنه الشريف : لأن علياً ( عليه السلام ) لا يمكن أن ينظر إلى عورته ، والفضل معصوب العينين ، فيتعين أن يكون المقصود بعورته بدنه .
ويؤيده رواية ابن المغازلي / 99 ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « لا يحلُّ لرجل يَرَى مَجْردي إلاّ عليّ » . والمَجْرد ما تحت القميص ، وهو غير العورة ، وقد عبر عنه بالعورة .
وفي رواية دعائم الإسلام ( 228 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( وكان الفضل بن العباس يناوله الماء وقد عصب عينيه ، وعليٌّ وجبرئيل يغسلانه ) .
وفي رواية علل الشرائع ( 1 / 188 ) : ( فكنت أغسله والملائكة تقلبه ، والفضل بن العباس يناولني الماء ، وهو مربوط العينين بالخرقة ، ولقد أردت أنزع القميص فصاح بي صايح من البيت سمعت الصوت ولم أر الصورة : لاتنزع قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولقد سمعت الصوت يكرره عليَّ ، فأدخلت يدي من بين القميص فغسلته ، ثم قدم إلى الكفن فكفنته ثم نزعت القميص بعد ما كفنته ) .

12 - جاء الأنصار يبكون ، فخطب فيهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في أمالي المفيد / 46 : « عن عبد الله بن عباس قال : إن علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، دخلوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه الذي قبض فيه فقالوا : يا رسول الله هذه الأنصار في المسجد تبكي رجالها ونساؤها عليك . فقال : وما يبكيهم ؟ قالوا : يخافون أن تموت ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أعطوني أيديكم فخرج في ملحفة وعصابة حتى جلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فما تنكرون من موت نبيكم ؟ ألم أُنْعَ إليكم وتُنْع إليكم أنفسكم ؟ لو خُلِّدَ أحد قبلي ثم بعث إليه لخلدت فيكم . ألا إني لاحق بربي ،
--------------------------- 450 ---------------------------
وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله تعالى بين أظهركم ، تقرؤونه صباحاً ومساءً ، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، وكونوا إخواناً كما أمركم الله ، وقد خلفت فيكم عترتي أهل بيتي ، وأنا أوصيكم بهم ، ثم أوصيكم بهذا الحي من الأنصار ، فقد عرفتم بلاهم عند الله عز وجل وعند رسوله وعند المؤمنين ، ألم يوسعوا في الديار ، ويشاطروا الثمار ، ويؤثروا وبهم الخصاصة ؟ فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه ، فليقبل من محسن الأنصار ، وليتجاوز عن مسيئهم . وكان آخر مجلس جلسه حتى لقي الله عز وجل » .

13 - فاضت نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في يد علي ( عليه السلام )

في الفقيه : 4 / 163 ، عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما حضرت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة نزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله هل لك في الرجوع إلى الدنيا ؟ فقال : لا ، قد بلغت رسالات ربي . فأعادها عليه فقال : لا ، بل الرفيق الأعلى .
ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون حوله مجتمعون : أيها الناس إنه لا نبي بعدي ، ولا سنة بعد سنتي ، فمن ادعى بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ، ومن اتبعه فإنه في النار . أيها الناس : أحيوا القصاص ، وأحيوا الحق لصاحب الحق ، ولا تفرقوا ، أسلموا وسلموا تسلموا : كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ » .
وفي أمالي الصدوق / 384 ، أنه دخل على الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) رجلان من قريش فقال : « ألا أحدثكما عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقالا : بلى حدثنا عن أبي القاسم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال : سمعت أبي ( عليه السلام ) يقول : لما كان قبل وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاثة أيام هبط عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك وخاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك يقول : كيف تجدك يا محمد ؟ قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أجدني يا جبرئيل مغموماً ، وأجدني يا جبرئيل مكروباً !
فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل وملك الموت ، ومعهما ملك يقال له إسماعيل في الهواء على سبعين ألف ملك ، فسبقهم جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا أحمد ، إن الله عز وجل أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك خاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك ، فقال :
--------------------------- 451 ---------------------------
كيف تجدك يا محمد ؟ قال : أجدني يا جبرئيل مغموماً ، وأجدني يا جبرئيل مكروباً ! فاستأذن ملك الموت فقال جبرئيل : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك لم يستأذن على أحد قبلك ، ولايستأذن على أحد بعدك . قال : إئذن له ، فأذن له جبرئيل فأقبل حتى وقف بين يديه فقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك فيما تأمرني ، إن أمرتني بقبض نفسك قبضتها ،
وإن كرهت تركتها .
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتفعل ذلك يا ملك الموت ؟ قال : نعم ، بذلك أمرت أن أطيعك فيما تأمرني . فقال له جبرئيل ( عليه السلام ) : يا أحمد ، إن الله تبارك وتعالى قد اشتاق إلى لقائك . فقال رسول الله لملك الموت : إمض لما أمرت به ، فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : هذا آخر وطئي الأرض ، إنما كنت حاجتي من الدنيا » .
وفي الإرشاد / 187 : « ثم قضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجَّهَه وغمضه ، ومد عليه إزاره ، واشتغل بالنظر في أمره » .
أقول : قول جبرئيل ( عليه السلام ) : هذا آخر وطئي الأرض ، لا يمنع أن ينزل بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مهام مختلفة لغير النبوة ، لكن لا يطأ الأرض ، أو يرسل جنوده .
والذي نفهمه من أن نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاضت في يد علي ( عليه السلام ) ومسح بها وجهه ، أنه مقام عظيم لعلي ( عليه السلام ) ، وكأن نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تبرك بها علي ( عليه السلام ) ، لأنه وصيه ووارثه .
وقال علي ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 182 ) : « فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين سحري وصدري نفسك ، إنا لله وإنا إليه راجعون » .
وروي عن علي ( عليه السلام ) قال : ( غسلت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا وحدي وهو في قميصه ، فذهبت أنزع عنه القميص ، فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : يا علي ، لا تجرد أخاك من قميصه ، فإن الله لم يجرده ، فغسله في قميصه . وفي نص آخر : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي ( عليه السلام ) : « جبرئيل معك يعاونك ، ويناولك الفضل الماء . وقل له : فليغطِّ عينيه ، فإنه لا يرى أحد عورتي غيرك إلا انفقأت عيناه . فكان العباس وأسامة يناولان
--------------------------- 452 ---------------------------
الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين ، قال علي : فما تناولت عضواً إلا كأنما يقلِبّه معي ثلاثون رجلاً ، حتى فرغت من غسله ) . ( دعائم الإسلام : 1 / 228 ) .

14 - عَلَّم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) كيفية تغسيله وتكفينه ودفنه

في الإرشاد / 187 : « استدعى الفضل بن عباس فأمره أن يناوله الماء لغسله بعد أن عصب عينيه ، ثم شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ به إلى سرته ، وتولى غسله وتحنيطه وتكفينه ، والفضل يعاطيه الماء ويعينه عليه ، فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلى عليه وحده ، لم يشركه معه أحد في الصلاة عليه » . ثم صلى عليه المسلمون .
وفي البحار : 22 / 492 ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : كان في الوصية أن يدفع إليَّ الحنوط ، فدعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل وفاته بقليل فقال : يا علي ويا فاطمة هذا حنوطي من الجنة ، دفعه إليَّ جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما : إقسماه واعزلا منه لي ولكما . قالت : لك ثلثه ، وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فبكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضمها إليه . وقال : موفقة رشيدة مهدية ملهمة .
يا علي قل في الباقي ، قال : نصف ما بقي لها ، ونصف لمن ترى يا رسول الله ، قال : هو لك فاقبضه .
قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أضمنت ديني تقضيه عني ؟ قال : نعم ، قال : اللهم فاشهد . ثم قال : يا علي تغسلني ولايغسلني غيرك فيعمى بصره ، قال علي : ولمَ يا رسول الله ؟ قال : كذلك قال جبرئيل ( عليه السلام ) عن ربي ، إنه لا يرى عورتي « أي بدني بعد موتي » غيرك إلا عمي بصره ! قال علي : فكيف أقوى عليك وحدي ؟ قال : يعينك جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وإسماعيل صاحب السماء الدنيا . قلت : فمن يناولني الماء ؟ قال : الفضل بن العباس من غير أن ينظر إلى شئ مني ، فإنه لا يحل له ولا لغيره من الرجال والنساء النظر إلى عورتي وهي حرام عليهم .
فإذا فرغت من غسلي فضعني على لوح ، وافرغ علي من بئري بئر غَرْس » قرب مسجد قباء « أربعين دلواً مفتحة الأفواه . قال عيسى : أو قال أربعين قربة شككت أنا في ذلك ، قال : ثم ضع يدك يا علي على صدري ، وأحضر معك فاطمة والحسن والحسين من غير
--------------------------- 453 ---------------------------
أن ينظروا إلى شئ من عورتي ، ثم تفهم عند ذلك مني تفهم ما كان وما هو كائن ، إن شاء الله تعالى ! أقبلتَ يا علي ؟ قال : نعم . قال : اللهم فاشهد .
قال : وكان فيما أوصى به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يدفن في بيته الذي قبض فيه ، ويكفن بثلاثة أثواب : أحدها يمان ، ولا يدخل قبره غير علي ( عليه السلام ) .
ثم قال : يا علي كن أنت وابنتي فاطمة والحسن والحسين وكبروا خمساً وسبعين تكبيرة ، وكبر خمساً وانصرف ، وذلك بعد أن يؤذن لك في الصلاة . قال علي ( عليه السلام ) : بأبي أنت وأمي من يؤذنني ؟ قال : جبرئيل ( عليه السلام ) يؤذنك . قال : ثم من جاء من أهل بيتي يصلون علي فوجاً فوجاً ثم نساؤهم ، ثم الناس بعد ذلك » .
وفي الطبقات : 2 / 280 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « غسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاث غسلات بماء وسدر ، وغسل في قميص ، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء وكان يشرب منها ، وولي علي غسله والعباس يصب الماء ، والفضل محتضنه يقول : أرحني أرحني قُطعت وتيني ! إني أجد شيئاً يتنزل علي مرتين » .
أقول : قالت رواية أهل‌البيت ( عليهم السلام ) إن العباس لم يشارك ، بل ابنه الفضل .
وفي دعائم الإسلام : 1 / 227 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أوصاه بأن يتولى غسله فكان هو الذي وليه ، قال : فلما أخذت في غسله سمعت قائلاً من جانب البيت وهو يقول : لاتنزع القميص عنه فغسلته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قميصه ، وإني لأغسله وأحس يداً مع يدي تتردد عليه ، وإذا قلبته أعنت على تقليبه ، وقد أردت أن أكبه لوجهه فأغسل ظهره فنوديت لاتُكبه ، فقلبته لجنبه وغسلت ظهره » .
وفي تهذيب الأحكام : 1 / 296 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « كفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ثلاثة أثواب : برد أحمر حبرة ، وثوبين أبيضين صحاريين . قلت له وكيف صليَ عليه ؟ قال سجيَ بثوب وجعل وسط البيت ، فإذا دخل عليه قوم داروا به وصلوا عليه ودعوا له ، ثم يخرجون ويدخل آخرون ، ثم دخل علي ( عليه السلام ) القبر فوضعه على يديه وأدخل معه الفضل بن عباس ، فقال رجل من الأنصار من بني الخيلاء يقال له أوس بن خولى : أنشدكم الله أن تقطعوا حقنا ! فقال له علي ( عليه السلام ) : أدخل
--------------------------- 454 ---------------------------
فدخل معهما . فسألته : أين وضع السرير ؟ فقال : عند رجل القبر وسُلَّ سلاً » .
وفي الإرشاد ( 1 / 187 ) : « ولما صلى المسلمون عليه أنفذ العباس بن عبد المطلب برجل إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح ، وكان ذلك عادة أهل مكة ، وأنفذ إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، واستدعاهما وقال . اللهم خر لنبيك . فوجد أبو طلحة زيد بن سهل فقيل له : إحتفر لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحفر له لحداً .
ودخل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد ، ليتولوا دفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي ، إنا نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يذهب أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال : ليدخل أوس بن خولي ، وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف من الخزرج ، فلما دخل قال له علي ( عليه السلام ) : إنزل القبر فنزل ، ووضع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على يديه ودلاه في حفرته ، فلما حصل في الأرض قال له : أخرج فخرج ، ونزل علي بن أبي طالب القبر ، فكشف عن وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن ، وهال عليه التراب » .
أقول : لا يصح أن يكون العباس أرسل إلى أبي عبيدة بن الجراح ليحفر للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأن أبا عبيدة كان ثالث أهل السقيفة مع أبي‌بكر وعمر ، وكان مشغولاً معهم !
وفي أمالي المفيد / 102 ، عن ابن عباس قال : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تولى غسله علي بن أبي طالب ، والعباس معه والفضل بن العباس ، فلما فرغ علي ( عليه السلام ) من غسله كشف الإزار عن وجهه ثم قال : بأبي أنت وأمي طبت حياً وطبت ميتاً ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء .
خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء . ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشؤون . ولكن ما لا يرفع كمد وغصص محالفان وهما داء الأجل ، وقلَّا لك .
بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك . ثم أكب عليه فقبل وجهه ومد
--------------------------- 455 ---------------------------
الإزار عليه » .
أقول : معنى قوله ( عليه السلام ) : « انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك : انقطاع وحي النبوة إذ لا نبي بعده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . أما وحي الإمامة والإلهام ، وحتى نزول جبرئيل ( عليه السلام ) فمستمر . وقد ذكر القرآن الوحي لأم موسى ( عليه السلام ) وللنحل .

15 - علمهم علي ( عليه السلام ) كيفية الصلاة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الكافي : 1 / 450 ، عن أبي مريم الأنصاري أنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « كيف كانت الصلاة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال : لما غسله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكفنه سجَّاه ، ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ، ثم وقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وسطهم فقال : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، فيقول القوم كما يقول ، حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي .
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : أتى العباسُ أميرَالمؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا علي إن الناس قد اجتمعوا أن يدفنوا رسول الله في بقيع المصلى وأن يؤمهم رجل منهم ، فخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الناس فقال : يا أيها الناس إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إمام حياً وميتاً ، وقال : إني أدفن في البقعة التي أقبض فيها ، ثم قام على الباب فصلى عليه ، ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ، ثم يخرجون .
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : لما قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجاً فوجاً . وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول في صحته وسلامته : إنما أنزلت هذه الآية في الصلاة عليَّ بعد قبض الله لي : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا » .
أقول : صلى عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحده صلاة الجنازة ، ثم كانت صلاة المسلمين عليه دعاء ، فكانوا يتحلقون حوله وعلي ( عليه السلام ) معهم يقرأ الآية : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي . . ويرددونها معه . « راجع الحدائق : 10 / 451 » .
وفي دعائم الإسلام ( 1 / 234 ) : « فخرج علي صلوات الله عليه عليهم فقال : أيها
--------------------------- 456 ---------------------------
الناس ، إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان إماماً حياً وميتاً ، وإنه لم يقبض نبي إلا دفن في البقعة التي مات فيها . قالوا : إصنع ما رأيت . فقام علي على باب البيت فصلى على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقدم الناس عشرة عشرة ، يصلون عليه وينصرفون » .
وفي نهج البلاغة ( 2 / 172 ) قال ( عليه السلام ) : « ولقد قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن رأسه لعلى صدري ، لقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي ، ولقد وُليت غسله والملائكة أعواني ، فضجت الدار والأفنية ، ملأٌ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم يصلون عليه ، حتى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً » !
وفي روضة الواعظين / 17 ، أن عمار بن ياسر قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « فداك أبي وأمي يا رسول الله فمن يصلي عليك منا ، إذا كان ذلك منك ؟ قال : مه رحمك الله ، ثم قال لعلي ( عليه السلام ) يا ابن أبي طالب : إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وأنِقْ غسلي ، وكفِّني في طمريَّ هذين ، أو في بياض مصر وبرد يماني ، فلا تغال في كفني ، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري فأول من يصلى عليَّ الجبار جل جلاله من فوق عرشه ، ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصى عددهم إلا الله جل وعز ، ثم الحافُّون بالعرش ، ثم سكان أهل سماء سماء » .

16 - حديث علي ( عليه السلام ) عن خصائص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد موته !

1 . ثقل بدنه الشريف ثقلاً غيرعادي ، ففي المناقب ( 1 / 205 ) قال علي ( عليه السلام ) : « فما تناولت عضواً إلا كأنما كان يقلبه معي ثلاثون رجلاً ، حتى فرغت من غسله » .
وفي طبقات ابن سعد ( 1 / 280 ) عن الباقر ( عليه السلام ) قال : « وولي علي غسله والعباس يصب الماء والفضل محتضنه يقول : أرحني أرحني قُطعت وتيني ! إني أجد شيئاً يتنزل علي مرتين » ! وشاهدنا منه ثقل بدنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والعباس لم يشترك في تغسيله .
2 . أن كل بدنه عورة ، لا يجوز لأحد أن ينظر اليه لئلا يعمى ! فكأن فيه نوعاً من الأشعة تسبب فقدان البصر ، ولا يتحملها إلا وصيه علي ( عليه السلام ) . « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لا يلي غسلي غيرك ، ولا يواري عورتي غيرك ، فإنه إن رأى أحد عورتي غيرك
--------------------------- 457 ---------------------------
تفقأت عيناه ، فقلت له : كيف لي بتقليبك يا رسول الله ؟ فقال : إنك ستعان ، فوالله ما أردت أن اقلب عضوا من أعضائه إلا قلب لي ) . ( الخصال / 572 ) .
يا علي غسلني ، ولايغسلني غيرك فيعمى بصره . قال علي ( عليه السلام ) : ولمَ يا رسول الله ؟ قال : كذلك قال لي جبرئيل عن ربي ، إنه لا يرى عورتي أحد غيرك إلا عمي بصره » !
« جامع أحاديث الشيعة : 3 / 154 » .
« فإنه لا يرى أحد عورتي غيرك إلا طمست عيناه . . قلت : فمن يناولني الماء ؟ قال : الفضل بن العباس من غير أن ينظر إلى شئ مني ، فإنه لا يحل له ولا لغيره من الرجال والنساء النظر إلى عورتي . . وأحضر معك فاطمة والحسن والحسين من غير أن ينظروا إلى شئ من عورتي » . « المناقب : 1 / 205 ، والبحار : 22 / 493 » .
3 . أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تكلم بعد موته ! وقد عقد في بصائر الدرجات / 203 ، باباً روى فيه عشرة أحاديث ، ونحوها الكافي ( 1 / 296 ، و : 3 / 150 ) .
منها : عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : إذا أنا مِتُّ فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرس فغسلني وكفني ، وخذ بمجامع كفني وأجلسني ، ثم سلني ما شئت ، فوالله لا تسألني عن شئ إلا أجبتك » !
وفي رواية : « وكفِّني ثم أقعدني واسألني ، واكتب » .
وفي رواية : « فخذني وأجلسني ، وضع يدك على صدري ، وسلني عما بدا لك » .
وفي رواية : « وكفني وأقعدني وما أملي عليك فاكتب . قال قلت : ففعل ؟ قال : نعم » وفي رواية : « فأدرجني في أكفاني ، ثم ضع فاك على فمي . قال : ففعلت وأنبأئي بما هو كائن إلى يوم القيمة » .
وفي الخرائج ( 2 / 800 ، و : 2 / 827 ) : « أمرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا توفي أن أستقي سبع قرب من بئر غرس فاغسله بها ، فإذا غسلته وفرغت من غسله أخرجت من في البيت ، فإذا أخرجتهم قال : فضع فاك على في ثم سلني أخبرك عما هو كائن إلى يوم الساعة من أمر الفتن . قال علي ( عليه السلام ) : ففعلت ذلك ، فأنبأني بما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وما من فتنة تكون إلا وأنا أعرف أهل ضلالتها من أهل حقها » .
--------------------------- 458 ---------------------------
ومنها : « فغسلني بسبع قرب من بئر غرس ، غسلني بثلاث قرب غسلاً ، وسُنَّ عليَّ أربعاً سَنّاً ، فإذا غسلتني وحنطتني فأقعدني ، وضعْ يدك على فؤادي ثم سلني أخبرك بما هو كائن إلى يوم القيامة ! قال : ففعلت . وكان علي ( عليه السلام ) إذا أخبرنا بشئ يكون قال : هذا مما أخبرني به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد موته » ! والمناقب : 1 / 316 .

17 - أرسل علي ( عليه السلام ) إلى أهل السقيفة ليحضروا جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

لما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لبس عمر لباس حربه وخرج شاهراً سيفه يجول أمام بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يهدد من يقول إنه مات حتى أزبد شدقاه !
ففي سنن الدارمي ( 1 / 39 ) : « فقام عمر فقال : إن رسول الله لم يمت ، ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسى ، والله لا يموت رسول الله حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم ! فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما يتوعد ويقول ! فقام العباس فقال : إن رسول الله قد مات ، وإنه لبشر » . ومسند أحمد : 3 / 196 . .
وفي شرح النهج : 1 / 178 : « لما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشاع بين الناس موته طاف عمر على الناس قائلاً إنه لم يمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه ! وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات ! فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده ، حتى جاء أبو بكر فقال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت » !
وسبب فعل عمر أنه خاف أن يبادر بنو هاشم لبيعة علي ( عليه السلام ) حيث دعا العباس إلى ذلك وقال لعلي ( عليه السلام ) : « أبسط يدك أبايعك فيقال : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله » « الإمامة لابن قتيبة : 1 / 12 » . فأراد عمر أن يكسب الوقت حتى يحضر أبو بكر من بيته في السنح خارج المدينة ! فلما اطمأن إلى أن علياً ( عليه السلام ) لم يقبل البيعة ، وجاء أبو بكر وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات ، قبل عمر ذلك ، وسكت ! وبقي عندهما الخوف من الأنصار أن يبادروا إلى بيعة سعد بن عبادة ، وكان مريضاً في سقيفته التي تسمى سقيفة بني ساعدة ، فسارعا ليصفقا على يد أبي‌بكر في بيت سعد ، بمساعدة اثنين من خصومه الأوس وجمهور الطلقاء !
--------------------------- 459 ---------------------------
قال ابن كثير في سيرته : 4 / 491 : « توفي رسول الله وأبو بكر في صائفة من المدينة ، قال فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال : فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً ، مات محمد ورب الكعبة . فذكر الحديث قال : فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان حتى أتوهم ،
فتكلم أبو بكر . . . » .
وفي رواية النسائي في الوفاة / 75 : « ثم قال أبو بكر عندكم صاحبكم ، وخرج » !
وفي سنن البيهقي : 8 / 145 : « دونكم صاحبكم ، لبني عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعني في غسله وما يكون من أمره ، ثم خرج » !
وفي مصنف ابن أبي شيبة : 8 / 572 ، عن عروة : « إن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي ، وكانا في الأنصار ، فدفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل أن يرجعا » .
وقد سأل بعضهم عمر عن مراسم جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فحوله على علي ( عليه السلام ) ، ففي الطبقات : 2 / 262 : « عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين : ما كان آخر ما تكلم به رسول الله ؟ فقال عمر : سل علياً . قال : أين هو ؟ قال هو هنا فسأله فقال علي : أسندته إلى صدري ، فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة . فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون . قال : فمن غسله يا أمير المؤمنين ؟ قال : سل علياً . قال فسأله فقال : كنت أغسله وكان العباس جالساً وكان أسامة وشقران يختلفان إليَّ بالماء » .
وفي غيبة النعماني / 100 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن سكك المدينة يومها كانت خالية قال : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دخل المدينة رجل من ولد داود على دين اليهودية فرأى السكك خالية ، فقال لبعض أهل المدينة : ما حالكم ؟ فقيل له : توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال الداودي : أما إنه توفي اليوم الذي هو في كتابنا » !
وفي الإرشاد : 1 / 187 : « ولم يحضردفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر الناس ، لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك ! وأصبحت فاطمة ( عليها السلام ) تنادي : واسوء صباحاه ! فسمعها أبو بكر فقال لها :
--------------------------- 460 ---------------------------
إن صباحك لصباح سوء ! واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب برسول الله وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فتبادروا إلى ولاية الأمر واتفق لأبي‌بكر ما اتفق لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتى يفرغ بنو هاشم فيستقر الأمر مقره ، فبايعوا أبا بكر لحضوره المكان ، وكانت أسباب معروفة تيسر منها للقوم ما راموه » .
وفي المناقب ( 1 / 206 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « فصلوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء ، حتى صلى عليه الأقرباء والخواص ، ولم يحضرأهل السقيفة . وكان عليٌّ ( عليه السلام ) أنفذ إليهم بريدة ، وإنما تمت بيعتهم بعد دفنه » .
أي انشغلوا بسقيفتهم ولم يحضروا جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم تكتمل لهم البيعة إلا بعد دفنه . وتدل هذه الرواية على أن دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان ليلة الأربعاء ، وهو الأقوى والمشهور عند الشيعة والسنة ، ويوجد قول بأنه دفن ليلة الثلاثاء ، لكنه غير قوي .
كما تركت عائشة وحفصة جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حين وفاته ، وخالفتا الحداد الواجب عليهما ، وانشغلتا مع أبويهما بالذهاب إلى بيوت الأنصار لإقناعهم ببيعة أبي‌بكر !
قالت عائشة : « ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل » .
« الإستيعاب : 1 / 47 ، وابن هشام : 4 / 321 ، والطبري : 3 / 213 ، ودلائل النبوة : 7 / 256 » . وكانت عائشة تتحسر لتجهيز علي ( عليه السلام ) للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغيابها فقالت : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه » . « أحكام الجنائز للألباني / 49 وصححه » .

18 - لماذا أرسل لهم بريدة بن الحصيب ؟

أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي ليقول لهم : إن كنتم تآمرتم لتأخذوا خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خلسة بدون مشورتنا وإعلامنا ، فنحن لا ندفنه خلسة عنكم ، ولانحرمكم من التشرف بالمشاركة بجنازته ، فتفضلوا وشاركوا !
لكنهم خافوا أن يحضروا جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيواجههم عليٌّ ( عليه السلام ) والمسلمون ويبطلوا مشروعهم ! وقد اختار أن يكون رسوله إليهم بريدة الذي كان من حزبهم في بغض
--------------------------- 461 ---------------------------
علي ( عليه السلام ) وتاب على يد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فهوخبير بهم ، وهم خبيرون بما قاله له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ( عليه السلام ) . ولا بد أنه كلمهم بالحجة ، ولم يستطيعوا رده .
وقد اعترض عليهم بريدة لما هاجموا بيت الزهراء ( عليها السلام ) فضربوه وأخرجوه
من المسجد !

19 - كانت تصل اليه أخبار أهل السقيفة

روى المحدثون والمؤرخون أن علياً ( عليه السلام ) أدان عمل أهل السقيفة وفند حجتهم ، وأعلن أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره بأن الأمة ستغدر به من بعده ، وأوصاه أن يطلب النصرة من الصحابة ، فإن وجد أربعين رجلاً قاتل الطلقاء وخليفتهم ، وإلا حفظ نفسه لأن حربه معهم ستكون حرباً بين بني هاشم وقريش ، ويكون ضررها على الإسلام أكبر من نفعها ، لأن قريشاً ستعلن كفرها بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتزعم أنه ادعى النبوة ليؤسس ملكاً لبني هاشم ، وتؤلب العرب على الردة ، وهم مهيؤون لها !
روى المفيد في الإرشاد ( 1 / 189 ) : « لما تم لأبي‌بكر ما تم وبايعه من بايع ، جاء رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يسوي قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمسحاة في يده ، فقال له : إن القوم قد بايعوا أبا بكر ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم ، وبَدَرَ الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر ! فوضع طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ، ثم قال : بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . اَلَم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .
وفي شرح نهج البلاغة ( 1 / 116 ) : « لما انتهت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ( عليه السلام ) : ما قالت الأنصار ؟ قالوا قالت : منا أمير ومنكم أمير قال ( عليه السلام ) : فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ! قالوا وما في هذا من الحجة عليهم ؟ فقال ( عليه السلام ) : لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم .
--------------------------- 462 ---------------------------
ثم قال ( عليه السلام ) : فما ذا قالت قريش ؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول . فقال ( عليه السلام ) : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » !
وهذا غيضٌ من فيض من احتجاجه ( عليه السلام ) عليهم ، ببيعتهِم له يوم الغدير ، وبنصوص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العديدة القاطعة في خلافته له .

20 - دُفِنَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيته وليس في غرفة عائشة

كتبنا في جواهر التاريخ ( 3 / 303 ) بحثاً مستوفياً تحت عنوان : أين دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ وأثبتنا فيه أنه دفن في بيته وفي حجرته الكبيرة التي كان يستقبل فيها الناس ، وكان لها بابان باب إلى المسجد وباب إلى داخل داره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقد صلى المسلمون على جثمانه الشريف ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكانوا يدخلون من باب ويخرجون من آخر .
أما غرفة عائشة فقد نصوا على أنه كان لها باب واحد ! وقالت عائشة إنها كانت فارغة عندما انشغلوا بمرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغسله ، قالت عن آيات رضاعة الكبير : كما في ابن ماجة ( 1 / 625 ) : ( ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها ) .
والداجن : حيوان أهلي يربى في المنزل كالماعز ، ومعنى كلامها أن غرفتها كانت فارغة فدخلت السخلة وأكلت الآيات !
وفي الفصول للجصاص ( 2 / 264 ) : ( اشتغلنا بدفنه فدخلت داجن فأكلتها ) .
وفي محاضرات الأدباء ( 2 / 420 ، وطبعة / 448 ) : ( وشغلنا بشكاة رسول الله فدخلت داجن فأكلته ) .
وفي أصول السرخسي ( 2 / 78 ) : ( فاشتغلنا بدفن رسول الله فدخل داجن البيت فأكله ) .
وفي طبقات الحنفية للقرشي / 259 : ( تشاغلنا بغسله فدخل داجن الحي فأكلها ) .
وفي لجواهر المضية لابن أبي الوفا ( 1 / 359 ) : ( تشاغلنا بغسله فدخل داجن الحي فأكلها ) . . إلى آخرالأدلة على أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يدفن في بيتها ولا تمرض فيه كما زعمت . لكن السلطة سيطرت على بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فادعت عائشة أنها حجرتها ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفن فيها !
--------------------------- 463 ---------------------------

21 - حُزن أهل‌البيت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعزية جبرئيل والخضر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهم

في الكافي ( 1 / 445 ) عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بات آل محمد بأطول ليلة ، حتى ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم ! لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وترالأقربين والأبعدين في الله !
فبيناهم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه فقال : السلام عليكم أهل‌البيت ورحمة الله وبركاته ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، ونجاة من كل هلكة ، ودرَكاً لما فات : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ .
إن الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه ، واستودعكم علمه ، وأورثكم كتابه ، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزه ، وضرب لكم مثلاً من نوره ، وعصمكم من الزلل ، وآمنكم من الفتن ، فتعزوا بعزاء الله ، فإن الله لم ينزع منكم رحمته ، ولن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمت النعمة ، واجتمعت الفرقة ، وائتلفت الكلمة ، وأنتم أولياؤه ، فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق . مودتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ، ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير ، فاصبروا لعواقب الأمور ، فإنها إلى الله تصير .
قد قبلكم الله من نبيه وديعة ، واستودعكم أولياء المؤمنين في الأرض ، فمن أدى أمانته أتاه الله صدقه ، فأنتم الأمانة المستودعة ، ولكم المودة الواجبة ، والطاعة المفروضة ، وقد قبض رسول الله وقد أكمل لكم الدين ، وبين لكم سبيل المخرج ، فلم يترك لجاهل حجة ، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر ، أو نسي أو تناسى ، فعلى الله حسابه ، والله من وراء حوائجكم . وأستودعكم الله ، والسلام عليكم .
فسألت أبا جعفر ( عليه السلام ) : ممن أتاهم التعزية ؟ فقال : من الله تبارك وتعالى على لسان جبريل ( عليه السلام ) » . ونحوه : 3 / 221 ، والمناقب : 2 / 83 . .
وفي شرح الأخبار : 2 / 419 ، أن سفيان بن عيينة قال : « أتينا جعفر بن محمد ( عليه السلام ) نعزيه بابنه إسماعيل ، فتحدث معنا فذكر وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال في الحديث : فلما
--------------------------- 464 ---------------------------
قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتاهم آت يعني أهل بيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يسمعون كلامه ولا يرون شخصه ، فقال : السلام عليكم أهل‌البيت ورحمة الله وبركاته : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ . إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، فالله فارجوه ، وإياه فاعبدوه ، واعلموا أن المصاب من حرم الثواب ، والسلام علكيم ورحمة الله وبركاته . قال سفيان بن عيينة : فقلت لجعفر بن محمد : من كنتم ترون المتكلم ؟ قال : كنا نراه جبرائيل ( عليه السلام ) » .
وفي الأصول الستة عشر / 122 : « فسأله يحيى بن أبي القاسم : جعلت فداك ممن آتاهم التعزية ؟ قال : من الله عز وجل » .
وفي أمالي الصدوق / 349 : « فلما توفي رسول الله صلى الله على روحه الطيب ، جاءت التعزية ، جاءهم آتٍ يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة . إن في الله عز وجل عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، ودركاً من كل ما فات ، فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : هل تدرون من هذا ؟ هذا الخضر ( عليه السلام ) » .
ورواه في كمال الدين / 392 ، وقال : « قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : إن أكثر المخالفين يسلمون لنا حديث الخضر ( عليه السلام ) ويعتقدون فيه أنه حيٌّ غائب عن الأبصار ، وأنه حيث ذكر حضر ، ولا ينكرون طول حياته ، ولا يحملون حديثه على عقولهم . ويدفعون كون القائم ( عليه السلام ) وطول حياته في غيبته ، وعندهم أن قدرة الله عز وجل تتناول إبقاءه إلى يوم النفخ في الصور ، وإبقاء إبليس مع لعنته إلى يوم الوقت المعلوم في غيبته ، وأنها لا تتناول إبقاء حجة الله على عباده مدة طويلة في غيبته ، مع ورود الأخبار الصحيحة بالنص عليه بعينه واسمه ونسبه ، عن الله تبارك وتعالى ، وعن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعن الأئمة ( عليهم السلام ) » .
ورواه الحاكم وصححه « 3 / 57 » قال : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عزتهم‌الملائكة ،
--------------------------- 465 ---------------------------
يسمعون الحس ولا يرون الشخص فقالت : السلام عليكم أهل‌البيت ورحمة الله وبركاته . إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل فائت ، فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإنما المحروم من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » .
وفي كفاية الأثر / 198 ، عن محمود بن لبيد قال : « لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء وتأتي قبر حمزة وتبكي هناك ، فلما كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة فوجدتها تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكتت فأتيتها وسلمت عليها وقلت : يا سيدة النسوان قد والله قطعت أنياط قلبي من بكائك . فقالت : يا با عمرو يحق لي البكاء ، ولقد أصبت بخير الآباء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واشوقاه لي رسول الله ، ثم أنشأت عليها السلام تقول :
إذا مات يوماً ميتٌ قلَّ ذكره * وذكر أبي إذ مات والله أكثر
قلت : يا سيدتي إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري ؟ قالت : سل . قلت : هل نص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل وفاته على علي بالإمامة ؟ قالت : واعجباه أنسيتم يوم غدير خم ؟ ! قلت : قد كان ذلك ، ولكن أخبريني بما أسرَّ إليك . قالت : أشهد الله تعالى لقد سمعته يقول : عليٌّ خير من أخلفه فيكم ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار ، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين ، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة » .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « إن أصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك ، فاذكر مصابك برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط » . « الكافي : 3 / 220 » .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( يا علي غسلني ولايغسلني غيرك . ولقد قبض ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن رأسه لعلى صدري ، ولقد وليت غسله بيدي وحدي ، غسلته بالروح والريحان . وما تناولت عضواً إلا كأنه يقلبه معي ثلاثون رجلاً ) .
( ومن كلام له ( عليه السلام ) قاله وهو يلي غسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتجهيزه : ( بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء . خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس
--------------------------- 466 ---------------------------
فيك سواء . ولولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلاً ، والكمد محالفاً وقلَّا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه . بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك ) . ( نهج البلاغة : 2 / 228 ) .
وتقدم وصف حزنه على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جوابه للحبر اليهودي ( الخصال / 365 ) : ومما قال ( عليه السلام ) : ( فنزل بي من وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ، ولا يقوي على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم ، جازع لجزعهم . وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولا جزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليَّ ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً ) .
* *
--------------------------- 467 ---------------------------

الفصل الرابع والعشرون: أصعب أيام علي ( عليه السلام ) بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . الشهران الأشد إيلاماً لعلي ( عليه السلام )

عاش أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصعب أيام حياته بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الشهرين الأولين ، فقد كانت أياماً مليئة بالآلام والأخطار ، وكان أشدها عليه ظلامة الزهراء ( عليها السلام ) بمحضره ، لأنه لم يستطع نصرتها ، وهي العزيزة كزوجته وأم أولاده ، والغالية عليه لأنها وديعة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمانته عنده ! ويليها ظلامته هو ( عليه السلام ) في أحداث إجباره على بيعة
أهل السقيفة .
ثم جاءت موجة المتنبئ طليحة وخطره على الدولة الإسلامية وأصل الإسلام .

2 . مدة انشغاله بمراسم وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

المشهور عند الجميع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) توفي يوم الاثنين بعد الزوال ، ودفن ليلة الأربعاء أواخر الليل . ففي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 206 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( قال الناس : كيف الصلاة عليه ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : إن رسول الله إمام حياً وميتاً ، فدخل عليه عشرة فصلوا عليه يوم الاثنين ، وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء ، حتى صلى عليه الأقرباء والخواص ،
ولم يحضر أهل السقيفة ) .
وقبلَ صاحب الجواهر ذلك ، فقال ( 12 / 102 ) : ( فدخل عليه عشرة عشرة ، وصلوا عليه يوم الاثنين ، وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء ، حتى صلى عليه كبيرهم وصغيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وضواحي المدينة ، بغير إمام ) .
--------------------------- 468 ---------------------------
وفي رواية أخرى ارتضاها في الجواهر ( 12 / 105 ) : ( حتى صلى عليه أهل المدينة والعوالي ) .
وروى الطوسي في أماليه / 266 ، عن ابن حزم ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) توفي يوم الاثنين ، ودفن ليلة الأربعاء . وكأنه ارتضاه حيث لم يرده ولم يعقب عليه . لكن الشيخ المفيد ( رحمه الله ) اختار أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفن في يوم الاثنين ، وتبعه صاحب الصحيح من السيرة ( 22 / 337 ) واستدل بأنه يستحب تعجيل دفن الميت ، وأنه لم يكن موجب لتأخير دفنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لكن تعجيل الدفن يستثنى منه أهل الشرف ، وحالات عديدة . فهو رأي ضعيف أمام الشهرة القوية والنصوص المتقدمة ، ويكفي موجباً للتأخيرأن يصلي عليه
أهل المدينة وضواحيها ، كما نصت روايتنا : ( حتى صلى عليه كبيرهم وصغيرهم ، وذكرهم وأنثاهم وضواحي المدينة ) .
وروت مصادر السنيين مثله ، وأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفن ليلة الأربعاء ، ففي مسند أحمد ( 6 / 62 ) والبيهقي ( 3 / 409 ) : ( عن عائشة قالت : ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء ) . ورواه ابن هشام ( 4 / 1077 ) ودلائل النبوة للبيهقي : 7 / 256 ، والاكتفاء للكلاعي : 2 / 60 ، وسيرة ابن كثير : 4 / 505 ، والشمائل المحمدية للترمذي / 204 ، وغيرها .
وفي السيرة الحلبية ( 3 / 493 ) عن أم‌سلمة قالت : ( كنا مجتمعين نبكي تلك الليلة ( ليلة الأربعاء ) لم ننم ، فسمعنا صوت المساحي ، فصحنا وصاح أهل المسجد ، فارتجت المدينة صيحة واحدة ) . وقد أخذت عائشة هذا الكلام من أم‌سلمة ، لأن عائشة كانت مشغولة في السقيفة ، ولم تحضرجنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وخالفت ذلك روايات في مصادر السنة بأنه دفن يوم الاثنين ، وفي بعضها : يوم الثلاثاء ، وروى ابن سعد في الطبقات ( 2 / 305 ) : ( قال شيوخ من الأنصار في بني غنم : سمعنا صوت المساحي آخر الليل ليلة الثلاثاء . ورويَ : ودفن يوم الثلاثاء حين
زاغت الشمس ) .
وقال ابن عبد البر في الدرر / 271 : ( ودفن يوم الثلاثاء ، وقيل بل دفن ليلة الأربعاء ولم يحضرغسله ولا تكفينه إلا أهل بيته ) !
وقد عرفت أن المشهور عند الجميع أن دفنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان ليلة الأربعاء ، وهو الأقوى .
--------------------------- 469 ---------------------------

3 . خطة أبي سفيان لإشعال حرب بين بني هاشم وقريش

اعتبر قادة قريش أن أبا سفيان خضع في فتح مكة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمر قريشاً أن تستسلم لأنه لا طاقة لها بحربه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولما رأوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عين على مكة والياً أموياً ، قالوا إن أبا سفيان أخذته المنافية ، أي تواطأ مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على قريش ، لأن جدهما عبد مناف ! لذلك عزل زعماء قريش أبا سفيان ورأسوا بدله سهيل بن عمرو ، ولم يشركوه في خطتهم وفعالياتهم لأخذ خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فتفاجأ أبو سفيان بالسقيفة فأظهر غضبه ، وتحرك ليكسب سهماً من المتغلبين على الحكم ، فكان يفاوض أبا بكر وعمر من جهة ، ويحاول تحريك علي ( عليه السلام ) وبني هاشم ضد أهل السقيفة من جهة أخرى !
وجاء أبو سفيان إلى علي ( عليه السلام ) مرتين ، مرة وهو مشغول بتجهيز النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومرةً بعد دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ففي الإرشاد ( 1 / 189 ) : « وقد كان أبو سفيان جاء إلى باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي والعباس متوفران على النظر في أمره ، فنادى :
بني هاشم لاتُطمعوا الناس فيكمُ * ولاسيَّما تَيْمُ بن مرةَ أو عَدِي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسنٍ علي
أبا حسن فاشدد بها كف حازمٍ * فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي
ثم نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم يا بني عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل « بكر » الرذل بن الرذل ! أما والله لئن شئتم لأملأنها خيلاً ورجلاً !
فناداه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إرجع يا أبا سفيان ، فوالله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعلى كل امرئ ما اكتسب ، وهو ولي ما احتقب !
فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فوجد بني أمية مجتمعين فيه ، فحرضهم على الأمر فلم ينهضوا له » . وذلك لأنهم أطمعوهم بسهم فسكتوا .
--------------------------- 470 ---------------------------

4 . أحبط علي ( عليه السلام ) خطة أبي سفيان

لكن أبا سفيان تابع سعيه لإقناع العباس عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجماعة بأن يبايعوا علياً ( عليه السلام ) ويقاوموا أهل السقيفة ، فأجابه علي ( عليه السلام ) أيضاً بالرد كما أجابه في الأولى !
ففي نهج البلاغة ( 1 / 40 ) : « ومن خطبة له ( عليه السلام ) لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب ، في أن يبايعا له بالخلافة : أيها الناس : شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا عن تيجان المفاخرة . أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح . هذا ماء آجن ، ولقمة يغص بها آكلها ! ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه ! فإن أقل يقولوا حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت ! هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه .
بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة » . أي اضطراب حبل الدلو في البئر العميقة . وبذلك رفض عليٌّ ( عليه السلام ) عرض أبي سفيان والعباس بالبيعة له ، وإعلان الحرب على أهل السقيفة ، ونصحهم بالسكوت .
وفي شرح النهج ( 1 / 219 ) : ( لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واشتغل علي ( عليه السلام ) بغسله ودفنه ، وبويع أبو بكر ، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي ( عليه السلام ) لإجالة الرأي ، وتكلموا بكلام يقتضى الإستنهاض والتهييج ، فقال العباس : قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم ، ولا لظنة نترك آراءكم ، فأمهلونا نراجع الفكر ، فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد ، ونبسط إلى المجد أكفاً لانقبضها أو نبلغ المدى . وإن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ، ولا لوهنٍ في الأيْد ، والله لولا أن الإسلام قيد الفتك ، لتدكدكت جنادل صخر يُسمع اصطكاكها من المحل العلى .
فحلَّ علي ( عليه السلام ) حبوته وقال : الصبر حلم ، والتقوى دين ، والحجة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والطريق الصراط .
أيها الناس : شقوا أمواج الفتن . . . الخطبة ، ثم نهض فدخل إلى منزله ، وافترق القوم ) .
نلاحظ أن العباس تكلم بكلام مبهم ، وكان يميل إلى أن تتم بيعة علي ( عليه السلام ) وأن يقاتلوا
--------------------------- 471 ---------------------------
أهل السقيفة لكن علياً ( عليه السلام ) خالفه ، فحلَّ حبوته وقال . . أي أعلن عدم استجابته لدعوة أبي سفيان ، وأنه لا يشد لها حيازيمه ، بل يحلها ويقعد .
وقول الراوي : من خطبة له ( عليه السلام ) : يقصد به كلامه في عدة من الناس ، وسماه خطبة لبلاغته وفصاحته ، والكلام البليغ يسمى خطبة .
ونلاحظ هنا أن بني أمية لم يقبلوا مواجهة أهل السقيفة لمصلحة بني هاشم ، فهم أقرب إلى أهل السقيفة من جهة ، وهم يريدون الثمن لتأييدهم لأي طرف ! وهذا هو موقف أبي سفيان الحقيقي ، ولهذا الغرض كان تحريكه للعباس وعلي ( عليه السلام ) وبني هاشم ، وإظهاره أنه متضامنٌ معهم ، واستنكاره بيعة رجل من بني تيم ، ووصفه بأنه نذل ابن نذل ! ورفعه شعار أن الملك في قريش لبني عبد مناف !
فما هذا التجييش والتهويش إلا ليعطيه أهل السقيفة سهماً ! وقد فهموا عليه ، فقال عمر لأبي‌بكر لقد جاء أبو سفيان من نجران ومعه مال الجزية والصدقات فأعطه له ، وأعط ابنه يزيداً منصباً ، فأعطوه فانتهت ثورته وصار شتمه مدحاً وقال : وَصَلَتْهُم رحِمٌ وشكرهم !
أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقضيته تختلف ، لأنها غصب الخلافة والانحراف بالإسلام والأمة عن مسارها الذي رتبه الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . لكنه مأمور من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن لا يواجههم إلا إذا وجد أربعين يبايعونه على الموت .
قال ابن الجوزي في تذكرة الخواص ( 1 / 121 ) : ( عن ابن عباس قال : لما دفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء العباس وأبو سفيان بن حرب وجماعة من بني هاشم إلى علي ( عليه السلام ) فقالوا : مد يدك نبايعك وحرضوه ، فامتنع ، وقال له العباس : أنت والله بعد أيام عبدالعصا ، فخطب وقال : أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة . . الخ . ) .

5 . ذهول الصحابي البراء بن عازب من بيعة الخلسة !

قال الجوهري في كتابه السقيفة / 48 ، وهو من أقدم الكتب في هذا الموضوع : « سمعت البراء بن عازب ، يقول : لم أزل لبني هاشم محباً ، فلما قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذني ما يأخذ
--------------------------- 472 ---------------------------
الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي في الحجرة وأتفقد وجوه قريش . فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وعثمان وإذ قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ، وإذ قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ! فلم ألبث وإذا أنا بأبي‌بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي‌بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى !
فأنكرت عقلي ! وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً وقلت : قد بايع الناس لأبي‌بكر بن أبي قحافة ، فقال العباس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني !
فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعماراً ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ! فلما كان بليل خرجت إلى المسجد فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالقرآن ، فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء فضاء بني قضاعة ، وأجد نفراً يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم ، فعرفوني وما أعرفهم ، فأتيتهم فأجد المقداد بن الأسود ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي ، وأبا ذر ، وحذيفة ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وإذا حذيفة يقول لهم : والله ليكونن ما أخبرتكم به ، والله ما كذبت ولا كذبت ! وإذ القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ! ثم قال : إئتوا أبي بن كعب فقد علم كما علمت ، قال فانطلقنا إلى أبي فضربنا عليه بابه حتى صار خلف الباب فقال : من أنتم ؟ فكلمه المقداد فقال : ماحاجتكم ؟ فقال له : ما أنا بفاتح بابي وقد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد ؟ فقلنا : نعم ، فقال : أفيكم حذيفة ؟ فقلنا : نعم ، قال : فالقول ما قال ! وبالله ما أفتح عني بابي حتى تجرى على ما هي جارية ، ولمَا يكون بعدها شرٌّ منها ،
والى الله المشتكى !
وبلغ الخبر أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة ، فسألاهما عن
--------------------------- 473 ---------------------------
الرأي ؟ فقال المغيرة : الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له هذا الأمر نصيباً فيكون له ولعقبه ، فتقطعوا به من ناحية علي ، ويكون لكم حجة عند الناس على علي ، إذا مال معكم العباس .
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة ، حتى دخلوا على العباس ، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال : إن الله ابتعث لكم محمداً نبياً وللمؤمنين ولياً ، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم ، متفقين غير مختلفين فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرةً ولا جبناً ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب ، وما انفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتخذ لكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع وخطبه البديع ، فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عم رسول الله ، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك ، ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم ! وعلى رسلكم بني هاشم فإن
رسول الله منا ومنكم !
فاعترض كلامه عمر ، وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته ، فقال : إي والله وأخرى أنا لم نأتكم عن حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم وعامتهم ، ثم سكت » !
أقول : البراء بن عازب صحابي كبير ، وبطولاته في معارك الإسلام مشهورة .
قال الذهبي في سيره ( 3 / 194 ) : « البراء بن عازب بن الحارث ، الفقيه الكبير ، أبو عمارة الأنصاري الحارثي المدني ، نزيل الكوفة ، من أعيان الصحابة . روى حديثاً كثيراً وشهد غزوات كثيرة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
--------------------------- 474 ---------------------------
وتدل شهادته على أن خلافة أبي‌بكر كانت خلسة وفلتةً بعيدة عن النص النبوي ومشورة الأمة ! وكانت إجباراً وإرهاباً بالطلقاء الذين خرجوا مسلحين يخبطون من رأوه ويجبرونه على البيعة !
وتدل على أنها كانت بيعة متزلزلة أياماً ، حتى غلبت فيها قريش والطلقاء ، وانقسم الأنصار وتحاسدوا وتخاذلوا !

6 . جمع علي ( عليه السلام ) القرآن فأبوا أن يأخذوه !

في الإحتجاج ( 1 / 280 ) قال له الأشعث : ( ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله ما منعني من ذلك إلا عهد أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبرني وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك بعدي ، وتنقض فيك عهدي ، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى . فقلت : يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان ذلك كذلك ، فقال : إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً . فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ، ثم آليت يميناً أني لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت ، ثم أخذته وجئت به فعرضته عليهم قالوا : لا حاجة لنا به !
ثم أخذت بيد فاطمة وابنيَّ الحسن والحسين ، ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة ، فأنشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط : سلمان ، وعمار ، والمقداد ، وأبو ذر ، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي ) .

7 . مدة انشغاله ( عليه السلام ) بجمع القرآن

تدل الروايات على أنه بدأ بجمع القرآن في اليوم الثالث لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أي يوم الأربعاء ، واستغرق عمله ثلاثة أيام ، كما قال ابن النديم ، أي الخميس والجمعة والسبت ، وأخذه لهم مباشرة فنبذوه ، ثم خطب خطبة الوسيلة بعد سبعة أيام من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أي يوم الثلاثاء .
ففي الكافي ( 8 / 18 ) : ( إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من
--------------------------- 475 ---------------------------
وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه ) .
وفي تفسير فرات / 399 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لا تخرج ثلاثة أيام حتى تؤلف كتاب الله ، كي لا يزيد فيه الشيطان شيئاً ولا ينقص منه شيئاً ، فإنك في ضد سنِّه وصي سليمان . فلم يضع علي ( عليه السلام ) رداءه على ظهره حتى جمع القرآن ، فلم يزد فيه الشيطان شيئاً ، ولم ينقص منه شيئاً ) .
قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ضد سنة وصي سليمان ( عليه السلام ) : إشارة إلى قوله تعالى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا . وقد ورد أنهم وضعوا كتاب سحر بعد سليمان وقالوا : بهذا كان يتم له ملكه ! ( التبيان : 1 / 372 )
فالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لعلي ( عليه السلام ) : إحفظ القرآن وانشره ، لئلا يضعوا كتاب سحر وينسبوه لي ، كما فعلوا بعد سليمان ( عليه السلام ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 95 ) : ( فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثم آليت على نفسي يميناً ، أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت ) .
وفي المناقب ( 1 / 319 ) : ( في أخبار ابن أبي رافع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال في مرضه الذي توفي فيه لعلي ( عليه السلام ) : يا علي هذا كتاب الله خذه إليك ، فجمعه على في ثوب ، فمضى إلى منزله ، فلما قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جلس علي ( عليه السلام ) فألفه كما أنزله الله وكان به عالماً .
أبو العلاء العطار والموفق خطيب خوارزم في كتابيهما : بالإسناد عن علي بن رباح أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرعلياً بتأليف القرآن ، فألفه وكتبه .
عن سحيم ، عن أمير المؤمنين قال : لو ثنيت لي الوسادة وعرف لي حقي لأخرجت مصحفاً كتبته ، وأملاه عليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي أخبار أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أنه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه ، فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه ثم خرج إليهم به في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فأنكروا مصيره بعد انقطاع مع الإلية ( اليمين )
--------------------------- 476 ---------------------------
فقالوا : لأمرٍ ما جاء به أبو الحسن ! فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم ثم قال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة ! فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله ، فلا حاجة لنا فيكما ، فحمل ( عليه السلام ) الكتاب وعاد بعد أن ألزمهم الحجة .
وفي خبر طويل عن الصادق ( عليه السلام ) أنه حمله وولى راجعاً نحو حجرته ، وهو يقول : فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَايَشْتَرُونَ ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 107 ) : ( قال سلمان : فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت بيمين أن لا أرتدي برداء إلا للصلوات ، حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فجمعه في ثوب وختمه ، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي‌بكر في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنادى بأعلى صوته : أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغولاً بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب ، فلم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها كلها في هذا الثوب ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلمني تأويلها . فقالوا : لا حاجة لنا به ، عندنا مثله ) .
وفي كتاب سليم / 146 : ( فلما رآى غدرهم وقلة وفائهم له ، لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج من بيته حتى جمعه [ وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع ] فلما جمعه كله وكتبه بيده تنزيله وتأويله ، والناسخ منه والمنسوخ ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت على نفسي يميناً ألا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فسكتوا عنه أياماً ، فجمعه في ثوب واحد وختمه ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي‌بكر في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنادى علي ( عليه السلام ) بأعلى صوته : أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغولاً بغسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد ، فلم ينزل الله على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية من القرآن إلا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلمني تأويلها ثم قال علي ( عليه السلام ) : لا تقولوا غداً : إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ .
--------------------------- 477 ---------------------------
ثم قال لهم علي ( عليه السلام ) : لا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته .
فقال له عمر : ما أغنانا بما معنا من القرآن ، عما تدعونا إليه ! ثم دخل علي ( عليه السلام ) بيته ) .
وقد وضعنا فقرة : [ وكان في الصحف والشظاظ ] بين معقوفين ، لأنها لا توجد في نسخة المناقب ، وهو الصحيح لأنه كان مكتوباً عنده ( عليه السلام ) ، لكن رتبه كما أمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي فهرست ابن النديم / 30 : ( عن عبد خير عن علي ( عليه السلام ) أنه رأى من الناس طَيَرة عند وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأقسم أنه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن ، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن ، جمعه من قلبه ، وكان المصحف عند أهل جعفر . ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني ( رحمه الله ) مصحفاً قد سقط منه أوراق بخط علي بن أبي طالب ، يتوارثه بنو حسن على مر الزمان ، وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف . . وسقط ذكر ترتيب السور من أصل النسخة المطبوعة في ليبسك - leipzig سنة 1871 ) .
وفي تاريخ دمشق ( 42 / 398 ) : ( عن ابن سيرين : لما توفي النبي أقسم علي ألا يرتدي برداء إلا بجمعة ، حتى يجمع القرآن في مصحف ، ففعل ) . ونحوه المصاحف لابن أبي داود ( 1 / 59 ) وشواهد التنزيل ( 1 / 37 ) وغيره .
أقول : ذكرت رواية اليعقوبي ( 2 / 152 ) أسماء السور حسب ترتيبها . ووصفت الروايات نسخة قرآن علي ( عليه السلام ) بأنها بإملاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنها مرتبة حسب نزول القرآن ، كما قال ابن سيرين ، وأنها بينت سبب النزول ، والناسخ والمنسوخ . . الخ . لكن شيئاً من هذه الصفات التي ذكرتها الروايات لم يثبت بشكل قطعي ، والثابت أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره أن يجمعه على تنزيله ، ولا نعرف المقصود بتنزيله بالضبط . فتبقى صفات ظنية ، لأن علياً ( عليه السلام ) لم ينشر نسخته ، بل ورثها لأبنائه ( عليهم السلام ) حتى يخرجها المهدي الموعود ( عليه السلام ) .
وقال السيد شرف الدين في المراجعات / 411 : ( أما علي وشيعته ، فقد تصدوا
--------------------------- 478 ---------------------------
لذلك في العصرالأول ، وأول شئ دونه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كتاب الله عز وجل ، فإنه بعد فراغه من تجهيز النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آلى على نفسه أن لا يرتدي إلا للصلاة ، أن يجمع القرآن ، فجمعه مرتباً على حسب النزول ، وأشار إلى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وسننه وآدابه ، ونبه على أسباب النزول في آياته البينات ، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات .
وكان ابن سيرين يقول : لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم .
وقد عني غير واحد من قراء الصحابة بجمع القرآن ، غير أنه لم يتسن لهم أن يجمعوه على تنزيله ، ولم يودعوه شيئاً من الرموز التي سمعتها ، فإذن كان جمعه ( عليه السلام ) بالتفسير أشبه ) .

8 . ذهب إلى بيوت الصحابة لطلب النصرة

استنهض الإمام ( عليه السلام ) الأنصار وغيرهم من شخصيات المدينة ، فبعد أن جمع القرآن ، أخذ زوجته وأولاده ودار ليلاً على بيوت النقباء والوجهاء . ويعتبرأخذ زوجته وأولاده معه في عرف العرب جاهة كبيرة ، وأن صاحبها يطلب مطلباً مؤكداً ، فهو يطالب بحق وينادي بذلك !
وكان ( عليه السلام ) يكلم من يذهب اليه في مدخل داره ، ولم يجلس في بيوتهم ، وكان ذلك بعد أن طلبوا منه بيعة أبي‌بكر ، فقال لهم إنه مشغول بجمع القرآن ، أو ناظرهم فسكتوا عنه موقتاً .
وروى في الإحتجاج ( 1 / 107 ) عن سلمان رضي الله عنه قال : ( فلما كان الليل حمل علي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على حمار وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين ، فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ، ولا من الأنصار إلا أتى منزله ، وذكر حقه ودعاه إلى نصرته ، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعةٌ وأربعون رجلاً ، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم ، معهم سلاحهم وقد بايعوه على الموت ، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة ! قلت لسلمان : من الأربعة ؟ قال : أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام . ثم أتاهم من الليلة الثانية فناشدهم الله فقالوا : نصحبك بكرة ، فما منهم أحد وفى غيرنا ، ثم الليلة الثالثة فما وفى أحد غيرنا !
--------------------------- 479 ---------------------------
فلما رأى علي ( عليه السلام ) غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج حتى جمعه كله ، فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت بيمين أن لا أرتدي برداء إلا للصلوات حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فجمعه في ثوب وختمه ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي‌بكر في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنادى بأعلى صوته : أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغولاً بغُسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب ، فلم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها كلها في هذا الثواب ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلمني تأويلها . فقالوا : لا حاجة لنا به ، عندنا مثله . ثم دخل بيته ) .
أقول : يفهم من هذا الحديث أن طلبه النصرة كان قبل جمع القرآن ، لكن المرجح أن جمع القرآن كان أول عمل له بعد دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فالظاهرأن التقديم والتأخير من الراوي .
وفي كتاب سُليم / 216 ، من جواب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للأشعث بن قيس ، قال : ( ثم حملتُ فاطمة وأخذت بيد ابني الحسن والحسين فلم أدَع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ، ودعوتهم إلى نصرتي ، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير ، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به ، فقلت كما قال هارون لأخيه : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ! فلي بهارون أسوة حسنة ، ولي بعهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حجة قوية . . . الخ . ) .
وفي الإختصاص / 183 ، من حديث فدك : ( ثم خرجَتْ وحَمَلها عليٌّ ( عليه السلام ) على أتان عليه كساء له خمل ، فدار بها في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معها وهي تقول : يا معشر المهاجرين والأنصار أنصروا الله فإني ابنة نبيكم ، وقد بايعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول الله ببيعتكم ! قال : فما أعانها أحد ، ولا
--------------------------- 480 ---------------------------
أجابها ولا نصرها ! قال : فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت : يا معاذ بن جبل إني قد جئتك مستنصرة وقد بايعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن تنصره وذريته وتمنعه مما تمنع منه نفسك وذريتك ، وأن أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها ! قال : فمعي غيري ؟ قالت : لا ، ما أجابني أحدٌ . قال : فأين أبلغ أنا من نصرتك ؟ قال : فخرجت من عنده ودخل ابنه فقال : ما جاء بابنة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليك ؟ قال : جاءت تطلب نصرتي على أبي‌بكر فإنه أخذ منها فدكاً ، قال : فما أجبتها به ؟ قال قلت : وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي ؟ قال : فأبيتَ أن تنصرها ! قال : نعم . قال : فأيُّ شئ قالت لك ؟ قال : قالت لي : والله لأنازعنك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال فقال : أنا والله لانازعتك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إذ لم تجب ابنة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال : وخرجت فاطمة من عنده وهي تقول : والله لا أكلمك كلمة حتى أجتمع أنا وأنت عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم انصرفت ) !
ومعنى قولها ( عليها السلام ) : لا نازعتك الفصيح من رأسي : لا كلمتك كل عمري . ويظهر أن ابنه هو عبد الرحمن بن معاذ ، وذكروا أنه مات في طاعون عمواس بالشام ، وانقطع به نسل معاذ .
وتدل الرواية التالية على أن معاذاً كان يعيش تأنيب الضمير لشراكته مع القوم وخذلانه فاطمة ( عليها السلام ) ، وقد روتها مصادرهم وصححوها ، أن عمر رآه عند قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبكي فقال له : ( ما يبكيك يا معاذ ؟ قال : يبكيني شئ سمعته من صاحب هذا القبر ! قال : وما سمعته ؟ قال : سمعته يقول : إن اليسير من الرياء شرك ، وإن من عادى ولي الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة ، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا ، وإن حضروا لم يعدوا ولم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة ) . ( الحاكم : 4 / 328 ، وصححه ، ومسند الشهاب : 2 / 148 ، و 252 ) .
وفي الهداية للحضيني / 409 : ( حمل أمير المؤمنين لها في سواد الليل والحسن والحسين وزينب وأم‌كلثوم إلى دور المهاجرين والأنصار ، يذكرهم بالله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعهده الذي بايعوا الله ورسوله عليه في أربع مواطن في حياة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتسليمهم عليه بإمرة المؤمنين جميعهم ، فكلٌّ يعده النصرة ليومه المقبل ، فلما أصبح قعد جمعهم عنه ) .
--------------------------- 481 ---------------------------
وفي الخصال للصدوق / 173 : ( قالت سيدة النسوان فاطمة ( عليها السلام ) لما مُنِعَتْ فدك وخاطبت الأنصار فقالوا : يا بنت محمد لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي‌بكر ماعدلنا بعلي أحداً ، فقالت : وهل ترك أبي يوم غدير خم لأحد عذراً ) !
فمنطق الزهراء سلام الله عليها هو منطق الإسلام ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقام الحجة على الأمة كاملةً غير منقوصة ، وصدع بالحق الذي فرضه الله لعترته الطاهرين ( عليهم السلام ) فاختارهم لإمامة هذه الأمة .
وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين / 162 ، أنه ( عليه السلام ) قال : ( لو استمكنت من أربعين رجلاً ، فذكر أمراً ، يعني لو أن معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت ، يعني بيت فاطمة ( عليها السلام ) ) .
وفي كتاب سُليم / 217 و 218 : ( ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم تتمة أربعين رجلاً مطيعين لي لجاهدتهم ، وأما يوم بويع عمر وعثمان فلا ، لأني قد كنت بايعت ، ومثلي لا ينكث بيعته . يا ابن قيس ، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إني لو وجدت يوم بويع أخو تيم الذي عيرتني بدخولي في بيعته ، أربعين رجلاً كلهم على مثل بصيرة الأربعة الذين قد وجدت ، لما كففت يدي ولناهضت القوم ، ولكن لم أجد خامساً فأمسكت ) .
وقد عَيَّرَ معاوية علياً ( عليه السلام ) بأنه طلب نصرة الأنصار والصحابة ولم يستجيبوا له ، ففي شرح النهج ( 2 / 48 ) : ( من كتاب معاوية المشهور إلى علي ( عليه السلام ) : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين ، يوم بويع أبو بكر الصديق ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، واستنصرتهم على صاحب رسول الله ، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ، ولعمري لو كنت محقاً لأجابوك ، ولكنك ادعيت باطلاً ، وقلت ما لا يعرف ، ورمت ما لا يدرك . ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم
--------------------------- 482 ---------------------------
لناهضت القوم ، فما يوم المسلمين منك بواحد ، ولابغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع ) .
وقال ابن أبي الحديد ( 11 / 14 ) : ( أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت ، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة : الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان ، ثم أتاهم من الليل فناشدهم ، فقالوا : نصبحك غدوة فما جاءه منهم إلا أربعة ، وكذلك في الليلة الثالثة ) .
ويحتمل أن يكون كتابه التالي ( عليه السلام ) جواباً لمعاوية ( شرح النهج : 3 / 31 ) : ( أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لدينه وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه ، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا ونعمته علينا في نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدده إلى النضال . وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم تلحقك ثلمته . وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس ؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء ، والتمييز بين المهاجرين الأولين ، وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم . هيهات لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها . ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ؟ وتتأخر حيث أخرك القدر ، فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر ، وإنك لذهَّابٌ في التيه ، روَّاغٌ عن القصد .
ألا ترى غيرمخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث ، أن قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل ، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء ، وخصه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه .
أولا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل ، حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين .
ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجها آذان السامعين . فدع عنك من مالت به الرمية ، فإنا صنائع ربنا ، والناس بعد صنائع لنا . لم يمنعنا قديم عزنا ، ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ولستم هناك . وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ،
--------------------------- 483 ---------------------------
ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنا سيد شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ، ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ! في كثير مما لنا وعليكم . فإسلامنا قد سمع ، وجاهليتنا لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله : وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وقوله تعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِي الْمُؤْمِنِينَ . فنحن مرة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة .
ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم .
وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها !
وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت . وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه . وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها ) .

9 . وجه أصحابه أن يقيموا الحجة على أبي‌بكر !

في الإحتجاج ( 1 / 97 ) : في جواب الصحابة الذين أرادوا إنزال أبي‌بكر عن منبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال لهم ( عليه السلام ) : ( وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً ، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال ، وإذاً لأتوني فقالوا لي بايع وإلا قتلناك ، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي ، وذلك أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي ، وتنقض فيك عهدي ، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه ، والسامري ومن اتبعه . فقلت : يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان كذلك ؟ فقال : إذا وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً .
--------------------------- 484 ---------------------------
فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثم آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت . ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط : سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد ، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي ، فأبوا عليَّ إلا السكوت ، لما علموا من وغارة صدورالقوم وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم ، ليكون ذلك أوكد للحجة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله إذا وردوا عليه ) .
وفي الخصال / 371 ، في جوابه لرئيس اليهود عن امتحان الله لوصي النبي ، قال ( عليه السلام ) : « وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته ، وأخذ على من حضره منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب في ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إذا حضرته ، والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمور ، في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا بعد وفاته .
ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد ، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده . ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد !
فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ،
--------------------------- 485 ---------------------------
قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به ، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي !
فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول ، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها !
فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي ، مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها » .
وفي البحار ( 22 / 492 ) عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ما أنت صانع لو قد تآمرالقوم عليك بعدي ، وتقدموا عليك ، وبعث إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة ، ثم لُبِّبْتَ بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل ، مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً ، وبعد ذلك ينزل بهذه الذل ! قال : فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صرخت وبكت ، فبكى رسول الله لبكائها وقال : يا بنية لا تبكي ولا تؤذي جلساءك من الملائكة ، هذا جبرئيل بكى لبكائك وميكائيل وصاحب سرالله إسرافيل !
فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله أنْقَادُ للقوم وأصبر على ما أصابني ، من غير بيعة لهم ، وما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اللهم اشهد . فقال : يا علي ما أنت صانع بالقرآن والعزائم والفرائض ؟ فقال : يا رسول الله أجمعه ، ثم آتيهم به ، فإن قبلوه وإلا أشهدت الله عز وجل وأشهدتك عليهم . قال : اللهم اشهد » .
--------------------------- 486 ---------------------------

10 . خطبة سلمان في اليوم الثالث لدفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الإحتجاج ( 1 / 151 ) عن الإمام الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : « خطب الناس سلمان الفارسي ( رحمه الله ) بعد أن دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثلاثة أيام فقال فيها :
ألا يا أيها الناس : إسمعوا عني حديثي ثم اعقلوه عني ، ألا وإني أوتيت علماً كثيراً ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لقالت طائفة منكم هو مجنون ، وقالت طائفة أخرى اللهم اغفر لقاتل سلمان !
ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا ، ألا وإن عند علي ( عليه السلام ) علم المنايا والبلايا وميراث الوصايا ، وفصل الخطاب ، وأصل الأنساب ، على منهاج هارون بن عمران من موسى إذ يقول له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت وصيي في أهل بيتي ، وخليفتي في أمتي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى !
ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل فأخطأتم الحق ، فأنتم تعلمون ولا تعلمون ! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق ، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة !
أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم ، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي الله ، ولاطاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله .
ولكن أبيتم فوليتموها غيره فأبشروا بالبلايا ، واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء !
عليكم بآل محمد ، فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة . عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا ! فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه وقد حسد هابيل قابيل فقتله ، وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران ، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل ، فأين يذهب بكم !
أيها الناس : ويحكم ما لنا وأبو فلان وفلان ! أجهلتم أم تجاهلتم ؟ أم حسدتم أم تحاسدتم ؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد
--------------------------- 487 ---------------------------
على الناجي بالهلكة ، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة !
ألا وإني أظهرت أمري وسلمت لنبيي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام الصديقين ، والشهداء والصالحين » .
ورواها الكشي ( 1 / 75 ) بصيغة أطول ، وفيها :
الحمد لله الذي هداني لدينه بعد جحودي له : إذ أنا مذكٍ لنار الكفرأهلُّ لها نصيباً وأثبت لها رزقاً ، حتى ألقى الله عز وجل في قلبي حب تهامة فخرجت جائعاً ظمآن ، قد طردني قومي وأخرجت من مالي ، ولا حمولة تحملني ، ولا متاع يجهزني ، ولا مال يقويني ، وكان من شأني ما قد كان ، حتى أتيت محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه ، ورأيت من العلامة ما أخبرت بها ، فأنقذني به من النار ، فبنت من الدنيا على المعرفة التي دخلت عليها في الإسلام .
ألا أيها الناس : إسمعوا من حديثي ثم اعقلوا عني ، فقد أوتيت من العلم كثيراً ، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة : مجنون ، وقالت طائفة أخرى : اللهم اغفر لقاتل سلمان . ألا أن لكم منايا تتبعها بلايا ، فإن عند علي علم المنايا وعلم الوصايا وفصل الخطاب ، على منهاج هارون بن عمران .
قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت وصيتي وخلفيتي في أهلي ، بمنزلة هارون من موسي ، ولكنكم أصبتم سنة الأُول وأخطأتم سبيلكم ، والذي نفس سلمان بيده لتركبن طبقاً عن طبق ، سنة بني إسرائيل القذة بالقذة .
أما والله لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم ، فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء . وقد نابذتكم على سواء وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء .
أما والله لوأني أدفع ضيماً أو أعز لله ديناً لو ضعت سيفي على عاتقي ، ثم لضربت به قدماً قدماً .
ألا إني أحدثكم بما تعلمون ومالا تعلمون ، فخذوها من سنة السبعين بما فيها ،
--------------------------- 488 ---------------------------
ألا إن لبني أمية في بني هاشم نطحات . ألا إن بني أمية كالناقة الضروس ، تعض بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجلها وتمنع درها . فعليكم بآل محمد فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها إلى يوم القيامة ، وعليكم بعلي فوالله لقد سلمنا عليه بالولاة مع نبينا ، فما بال القوم حسدوه ! قد حسد قابيل هابيل ، أو كفروا فقد ارتد قوم موسى عن الأسباط ويوشع وشمعون وابني هارون شبر وشبير ، فأين يذهب بكم .
ما أنا وأبو فلان وفلان ! ويحكم والله ما أدري أتجهلون أم تتجاهلون أم نسيتم أم تتناسون ! أنزلوا آل محمد منكم منزلة الرأس من الجسد بل منزلة العينين من الرأس ، والله لترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ، ويشهد الناجي على الكافر بالنجاة ) .

11 . احتجاج شخصيات المهاجرين والأنصار على أبي‌بكر

كان كبار الصحابة مذهولين ، غاضبين ، لعمل أهل السقيفة وأسلوبهم في الخلسة والعنف ! والجو الإرهابي القمعي الذي أوجدوه بالطلقاء لفرض خليفتهم !
ولما صعد أبو بكر منبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الجمعة قام اثنا عشر صحابياً ، وتكلموا بقوة فأفحموه ، فسكت وانسحب مع أصحابه من المسجد ، وظلوا ثلاثة أيام ، يحشدون مناصريهم ، ثم عادوا بقوة وتهديد وشراسة !
روى في الإحتجاج ( 1 / 97 ) : « عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنكر على أبي‌بكر فعله وجلوسه مجلس رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال : نعم كان الذي أنكر على أبي‌بكر اثنا عشر رجلاً . من المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص ، وكان من بني أمية ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي . ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبي بن كعب ، وأبو أيوب الأنصاري . قال : فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم فقال بعضهم لبعض : والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
--------------------------- 489 ---------------------------
وقال آخرون منهم : والله لئن فعلتم ذلك إذا أعنتم على أنفسكم فقد قال الله عز وجل : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فانطلقوا بنا إلى أمير المؤمنين لنستشيره ونستطلع رأيه ، فانطلق القوم إلى أمير المؤمنين بأجمعهم فقالوا : يا أمير المؤمنين تركت حقاً أنت أحق به وأولى به من غيرك ، لأنا سمعنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : علي مع الحق والحق مع علي يميل مع الحق كيف ما مال . ولقد هممنا أن نصير إليه فننزله عن منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فجئناك لنستشيرك ونستطلع رأيك فما تأمرنا ؟
فقال أمير المؤمنين : وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً ، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال وإذا لأتوني فقالوا لي بايع وإلا قتلناك ، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي ، وذلك أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أوعز إلي قبل وفاته وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي ، وتنقض فيك عهدي وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه . فقلت : يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان كذلك ؟ فقال : إذا وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً . فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثم آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت . ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد ، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي ، فأبوا علي إلا السكوت لما علموا من وغارة صدور القوم ، وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه .
فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل ، فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم ، ليكون ذلك أوكد للحجة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا وردوا عليه .
فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان يوم الجمعة ، فلما صعد
--------------------------- 490 ---------------------------
أبو بكر المنبرقال المهاجرون للأنصار : تقدموا وتكلموا ، فقال الأنصار للمهاجرين : بل تكلموا وتقدموا أنتم ، فإن الله عز وجل بدأ بكم في الكتاب إذ قال الله عز وجل : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ .
فأول من تكلم به خالد بن سعيد بن العاص : ثم باقي المهاجرين ثم بعدهم الأنصار . وروى أنهم كانوا غُيَّبَاً عن وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقدموا وقد تولى أبو بكر ، وهم يومئذ أعلام مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال :
إتق الله يا أبا بكر فقد علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ونحن محتوشوه يوم بني قريظة حين فتح الله له باب النصر وقد قتل علي بن أبي طالب يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم : يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ، وموعدكم أمراً فاحفظوه ، ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربي ، ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ، ووليكم أشراركم .
ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي .
اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي يدركون به نور الآخرة ، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض .
فقال له عمر بن الخطاب : أسكت يا خالد فلست من أهل المشورة ولا ممن يقتدى برأيه . فقال له خالد : بل أسكت أنت يا ابن الخطاب ، فإنك تنطق على لسان غيرك ، وأيم الله لقد علمت قريش أنك من ألأمها حسباً وأدناها منصباً وأخسها قدراً وأخملها ذكراً ، وأقلهم عناءً عن الله ورسوله ، وإنك لجبان في الحروب ، بخيل بالمال لئيم العنصر ، مالك في قريش من فخر ، ولا في الحروب من ذكر ، وإنك في هذا الأمر بمنزلة الشيطان : إِذْ قَالَ للَّإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . فأبلس عمر ، وجلس خالد بن سعيد .
ثم قام سلمان الفارسي وقال : كرديد ونكرديد ، أي فعلتم ولم تفعلوا ، وقد كان امتنع
--------------------------- 491 ---------------------------
من البيعة قبل ذلك حتى وجئ عنقه ، فقال : يا أبا بكر إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه ، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه ، وما عذرك في تقدمك على من هو أعلم منك وأقرب إلى رسول الله وأعلم بتأويل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ، ومن قدمه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حياته وأوصاكم به عند وفاته ، فنبذتم قوله وتناسيتم وصيته وأخلفتم الوعد ونقضتم العهد ، وحللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد حذراً من مثل ما أتيتموه وتنبيهاً للأمة على عظيم ما احترمتموه ، ومن مخالفة أمره .
فعن قليل يصفو لك الأمر وقد أثقلك الوزر ونقلت إلى قبرك وحملت معك ما كسبت يداك ، فلو راجعت الحق من قريب وتلافيت نفسك وتبت إلى الله من عظيم ما اجترمت كان ذلك أقرب إلى نجاتك يوم تفرد في حفرتك ويسلمك ذوو نصرتك ، فقد سمعت كما سمعنا ورأيت كما رأينا ، فلم يردعك ذلك عما أنت متشبث به من هذا الأمر الذي لا عذر لك في تقلده ولاحظ للدين ولا المسلمين في قيامك به ، فالله الله في نفسك ، فقد أعذر من أنذر ولا تكن كمن أدبر واستكبر .
ثم قام أبو ذر الغفاري فقال : يا معشر قريش أصبتم قباحة وتركتم قرابة ، والله ليرتدن جماعة من العرب ولتشكن في هذا الدين ، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان ، والله لقد صارت لمن غلب ، ولتطمحن إليها عين من ليس من أهلها ، وليسفكن في طلبها دماء كثيرة - فكان كما قال أبو ذر - ثم قال : لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : الأمر بعدي لعلي ثم لابني الحسن والحسين ثم للطاهرين من ذريتي . فاطرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما عهد به إليكم ، فأطعتم الدنيا الفانية ، ونسيتم الآخرة الباقية ، التي لا يهرم شابها ولا يزول نعيمها ولا يحزن أهلها ولا يموت سكانها ، بالحقير التافه الفاني الزائل ، فكذلك الأمم من قبلكم كفرت بعد أنبيائها ، ونكصت على أعقابها ، وغيرت وبدلت واختلفت ، فساويتموهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ،
--------------------------- 492 ---------------------------
وعما قليل تذوقون وبال أمركم ، وتجزون بما قدمت أيديكم . وما الله بظلام للعبيد .
ثم قام المقداد بن الأسود فقال : يا أبا بكر إرجع عن ظلمك ، وتب إلى ربك والزم بيتك ، وابك على خطيئتك ، وسلم الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك ، فقد علمت ما عقده رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عنقك من بيعته ، وألزمك من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد وهو مولاه ، ونبه على بطلان وجوب هذا الأمر لك ولمن عضدك عليه بضمه لكما إلى عَلَم النفاق ومعدن الشنآن والشقاق عمرو بن العاص ، الذي أنزل الله فيه على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن شانئك هو الأبتر ، وهو كان أميراً عليكما وعلى سائر المنافقين في الوقت الذي أنفذه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غزاة ذات السلاسل ، وأن عمراً قلدكما حرس عسكره ، فأين الحرس إلى الخلافة .
إتق الله وبادر بالإستقالة قبل فوتها ، فإن ذلك أسلم لك في حياتك وبعد وفاتك ، ولا تركن إلى دنياك ولا تغرنك قريش وغيرها ، فعن قليل تضمحل عنك دنياك ، ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك ، وقد علمت وتيقنت أن علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) هو صاحب الأمر بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فسلمه إليه بما جعله الله له ، فإنه أتمُّ لسترك وأخفُّ لوزرك ، فقد والله نصحت لك إن قبلت نصحي ، وإلى الله ترجع الأمور .
ثم قام إليه بريدة الأسلمي فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا لقي الحق من الباطل ، يا أبا بكر أنسيت أم تناسيت وخدعت أم خدعتك نفسك ، أم سولت لك الأباطيل ، أو لم تذكر ما أمرنا به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تسمية علي ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين ، والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين أظهرنا ، وقوله له في عدة أوقات : هذا علي أمير المؤمنين وقاتل القاسطين ، إتق الله وتدارك نفسك قبل أن لا تدركها ، وانقذها مما يهلكها واردد الأمر إلى من هو أحق به منك ، ولا تتماد في اغتصابه ، وراجع وأنت تستطيع أن تراجع ، فقد محضتك النصح ، ودللتك على طريق النجاة ، فلا تكونن ظهيراً للمجرين .
ثم قام عمار بن ياسر فقال : يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين ، إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه ، وأقوم بأمور الدين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملته ، وأنصح لأمته ، فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل
--------------------------- 493 ---------------------------
أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ، ويظهر شتاتكم ، وتعظم الفتنة بكم وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم .
فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم ، وعلي أقرب منكم إلى نبيكم ، وهو من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلها غير بابه ، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة دون سائر من خطبها إليه منكم ، وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها .
وإنكم جميعاً مضطرون فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه ، وهو مستغن عن كل أحد منكم ، إلى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه وتبتزون علياً حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، بئس للظالمين بدلاً ، أعطوه ما جعله الله له ، ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين .
ثم قام أبي بن كعب فقال : يا أبا بكر لا تجحد حقاً جعله الله لغيرك ، ولا تكن أول من عصى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في وصيه وصفيه وصدف عن أمره ، أردد الحق إلى أهله تسلم ، ولا تتماد في غيك فتندم ، وبادر الإنابة يخف وزرك ، ولا تخصص بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك ، فعن قليل تفارق ما أنت فيه وتصير إلى ربك ، فيسألك عما جنيت وما ربك بظلام للعبيد .
ثم قام خزيمة بن ثابت فقال : أيها الناس ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري ؟ قالوا : بلى . قال : فأشهد أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل وهم الأئمة الذين يقتدى بهم . وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين .
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال : وأنا أشهد على نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه أقام علياً يعني في يوم غدير خم ، فقالت الأنصار : ما أقامه للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مولاه ، وكثر الخوض في ذلك
--------------------------- 494 ---------------------------
فبعثنا رجالاً منا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فسألوه عن ذلك فقال : قولوا لهم علي ولي المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي ، وقد شهدت بما حضرني ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، إن يوم الفصل كان ميقاتاً .
ثم قام سهل بن حنيف : فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد وآله ، ثم قال : يا معاشر قريش اشهدوا عليَّ أني أشهد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد رأيته في هذا المكان يعني الروضة وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهو يقول : أيها الناس هذا عليٌّ إمامكم من بعدي ووصيي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأول من يصافحني على حوضي ، فطوبى لمن اتبعه ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله .
وقام معه أخوه عثمان بن حنيف وقال : سمعنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم ، وقدموهم فهم الولاة من بعدي ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله وأي أهل بيتك ؟ فقال ، علي والطاهرون من ولده . وقد بين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلا تكن يا أبا بكر أول كافر به ، ولا تخونوا الله والرسول ، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال : اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم ، وارددوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم ، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومجلس بعد مجلس يقول : أهل بيتي أئمتكم بعدي ، ويؤمى إلى علي ويقول : هذا أمير البررة وقاتل الكفرة ، مخذول من خذله منصور من نصره . فتوبوا إلى الله من ظلمكم إياه إن الله تواب رحيم ، ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولاتتولوا عنه معرضين .
قال الصادق ( عليه السلام ) : فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يَحر جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني ، فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ، إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك واجعلها في سالم مولي أبي حذيفة .
قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل
--------------------------- 495 ---------------------------
فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم ؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل .
فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقال عمر : والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه .
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال ، يا بن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا أم بجمعكم تفزعوننا ، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم ، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين لأن حجة الله فينا ، والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله وطاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله ، إلى أن أبلي عذري .
فقام أمير المؤمنين : أجلس يا خالد فقد عرف الله لك مقامك ، وشكر لك سعيك ، فجلس .
وقام إليه سلمان الفارسي فقال : الله أكبر الله أكبر ، سمعت رسول الله بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتَا يقول : بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه ، فلست أشك إلا وأنكم هم . فهم به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ، ثم قال : يا ابن صهاك الحبشية لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ . والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو لقضية أقضيها فإنه لا يجوز بحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يترك الناس في حيرة ) .
--------------------------- 496 ---------------------------

12 . ملاحظات على احتجاج الاثني عشر صحابياً

1 . لعل وقت احتجاج الصحابة الاثني عشر رضي الله عنهم على أبي‌بكر ، في أول جمعة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لكن المرجح عندي أنه كان في الجمعة الثانية ، لأنهم تركوا المسجد يومها ثم استعدوا وعادوا اليه بعد أيام ، فكان الصدام ، وأعلن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ختم المناقشات . .
2 . لخالد بن سعيد بن العاص هيبة خاصة بين الصحابة ، بسبب شخصيته المميزة ، وموقع أبيه العاص بن سعيد المعروف بأبي أحيحة ، وهو من رؤساء بني أمية وأثريائهم . وقد أسلم خالد في شبابه وتحمل غضب أبيه وهاجر إلى الحبشة ، وكانت له مكانة عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كما كان من خاصة شيعة علي ( عليه السلام ) .
وهوقائد شجاع شارك في حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفي فتح اليمن ، وقاد فتح فلسطين في معركة أجنادين وما بعدها إلى اليرموك . وهذا سرُّ خوف عمر منه وسكوته أمام توبيخه .
وقد ترجمنا له في كتابنا : قراءة جديدة في الفتوحات الإسلامية ( 2 / 389 ) .
3 . لا يتسع المجال لشرح حججهم على أبي‌بكر ، لكنها جميعاً قوية بليغة مفحمة ، والواحدة منها تكفي لإثبات خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأن بيعة غيره كانت خلسة وفلتة ، كما وصفها عمر برواية البخاري ، ولا حجة لهم فيها إلا جبروت قريش وقوة الطلقاء .
4 . يدل قولهم : ( ولقد هممنا أن نصير إليه فننزله عن منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجئناك لنستشيرك ونستطلع رأيك فما تأمرنا ؟ فقال أمير المؤمنين : وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً ، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال ، وإذا لأتوني فقالوا لي : بايع وإلا قتلناك ، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي ) .
على أهل السقيفة جمعوا قوة من الطلقاء وأعراب بني سُلَيم للقتال ، وأنهم قرروا إجبار علي ( عليه السلام ) على البيعة ، فكان عمر يكرر قوله : لسنا على شئ حتى يبايع علي ! وكان علي ( عليه السلام ) يرى أن حربهم بعدد قليل له أضرار ، وقد ينجر إلى إبادة العترة ( عليهم السلام )
--------------------------- 497 ---------------------------
أو إعلان قريش والعرب الردة ، فيكون الخاسرالإسلام !
لذلك كان موقفه ( عليه السلام ) مقاومتهم بالحجة ، إلا إذا توفر له أربعون نفراً فإنهم يستطيعون تحقيق نصر واسع ، وتكون أن المعركة بين الصحابة وبني هاشم من جهة ، مقابل الطلقاء ومن نصبوه خليفة .

13 . خطبة أبيّ بن كعب ؟ رح ؟ في إدانة السقيفة

في الإحتجاج : 1 / 153 : « لما خطب أبو بكر قام إليه أبي بن كعب وكان يوم الجمعة أول يوم من شهر رمضان ، وقال : يا معشر المهاجرين الذين اتبعوا مرضات الله وأثنى الله عليهم في القرآن . ويا معشرالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان ، وأثنى الله عليهم في القرآن ، تناسيتم أم نسيتم أم بدلتم أم غيرتم أم خذلتم أم عجزتم ؟ ! ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام فينا مقاماً أقام فيه علياً فقال : من كنت مولاه فهذا مولاه يعني علياً ، ومن كنت نبيه فهذا أميره ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، طاعتك واجبة على من بعدي كطاعتي في حياتي ، غير أنه لا نبي بعدي ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : أوصيكم بأهل بيتي خيراً ، فقدموهم ولا تقدموهم ، وأمِّروهم ولا تأمروا عليهم ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله قال : أهل بيتي منار الهدى ، والدالون على الله ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي ( عليه السلام ) : أنت الهادي لمن ضل ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله قال : عليٌّ المحيي لسنتي ومعلم أمتي ، والقائم بحجتي ، وخير من أخلف من بعدي ، وسيد أهل بيتي ، وأحب الناس إلي ، طاعته كطاعتي على أمتي ؟
ألستم تعلمون أنه لم يول على علي أحداً منكم ، وولاه في كل غيبته عليكم ؟
ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحداً ، وارتحالهما واحداً ؟
ألستم تعلمون أنه قال : إذا غبت فخلفت عليكم علياً ، فقد خلفت فيكم رجلاً كنفسي ؟
--------------------------- 498 ---------------------------
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل موته قد جمعنا في بيت ابنته فاطمة ( عليها السلام )
فقال لنا : إن الله أوحى إلى موسى بن عمران أن اتخذ أخاً من أهلك فأجعله نبياً ، واجعل أهله لك ولداً ، أطهرهم من الآفات ، وأخلصهم من الريب ، فاتخذ موسى هارون أخاً ، وولده أئمة لبني إسرائيل من بعده ، الذين يحل لهم في مساجدهم ما يحل لموسى . وأن الله تعالى أوحي إليَّ أن أتخذ علياً أخاً كما أن موسى اتخذ هارون أخاً ، واتخذ ولده ولداً ، فقد طهرتهم كما طهرت ولد هارون ، إلا أني قد ختمت بك النبيين ، فلا نبي بعدك ، فهم الأئمة الهادية !
أفما تبصرون ، أفما تفهمون ، أفما تسمعون !
ضربت عليكم الشبهات ، فكان مثلكم كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شديد ، حتى خشي أن يهلك ، فلقي رجلاً هادياً في الطريق فسأله عن الماء ، فقال له أمامك عينان : إحداهما مالحة والأخرى عذبة ، فإن أصبت المالحة ضللت ، وإن أصبت العذبة هديت ورويت ! فهذا مثلكم أيتها الأمة المهملة كما زعمتم !
وأيم الله ما أهملتم ، لقد نصب لكم علمٌ يحل لكم الحلال ويحرم عليكم الحرام ، ولو أطعتموه ما اختلفتم ، ولا تدابرتم ولا تقاتلتم ولا برئ بعضكم من بعض .
فوالله إنكم بعده لناقضون عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإنكم على عترته لمختلفون ، وإن سئل هذا عن غير ما يعلم أفتى برأيه فقد أبعدتم ، وتخارستم وزعمتم أن الخلاف رحمة !
هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم يقول الله تعالى جَده : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . ثم أخبرنا باختلافكم فقال سبحانه : وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ، أي للرحمة ،
وهي آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : يا علي أنت وشيعتك على الفطرة ، والناس منها براء ، فهلا قبلتم من نبيكم ! كيف وهو خبركم بانتكاصتكم عن وصيه علي بن أبي طالب ، وأمينه ووزيره وأخيه ووليه دونكم أجمعين ، وأطهركم قلباً ، وأقدمكم سلماً ، وأعظمكم وعياً من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أعطاه تراثه ، وأوصاه بعداته ، فاستخلفه على
--------------------------- 499 ---------------------------
أمته ، ووضع عنده سره ، فهو وليه دونكم أجمعين ، وأحق به منكم أكتعين ، سيد الوصيين ، ووصي خاتم المرسلين ، أفضل المتقين ، وأطوع الأمة لرب العالمين ، سلمتم عليه بإمرة المؤمنين في حياة سيد النبيين ، وخاتم المرسلين ، فقد أعذر من أنذر وأدى النصيحة من وعظ وبصَّر من عمى ! فقد سمعتم كما سمعنا ، ورأيتم كما رأينا ، وشهدتم كما شهدنا !
فقام إليه عبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل فقالوا :
يا أبيُّ أصابك خبل أم بك جنة ؟ !
فقال : بل الخبل فيكم ، والله كنت عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوماً فألفيته يكلم رجلاً أسمع كلامه ولا أرى شخصه ، فقال فيما يخاطبه : ما أنصحه لك ولأمتك وأعلمه بسنتك ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أفترى أمتي تنقاد له من بعدي ؟ قال : يا محمد يتبعه من أمتك أبرارها ، ويخالف عليهم من أمتك فجارها ، وكذلك أوصياء النبيين من قبلك . يا محمد إن موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله وأطوعهم له ، فأمره الله عز وجل أن يتخذه وصياً كما اتخذت علياً وصياً ، وكما أمرت بذلك ، فحسده بنو إسرائيل ، سبط موسى خاصة ، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا له ! فإن أخذت أمتك سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك ، وجحدوا إمرته ، وابتزوا خلافته ، وغالطوه في علمه ! فقلت : يا رسول الله من هذا ؟ فقال رسول لله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : هذا ملك من ملائكة ربي عز وجل ، ينبئني أن أمتي تختلف على وصيي علي بن أبي طالب وإني أوصيك يا أبيُّ بوصية إن حفظتها لم تزل بخير : يا أبيُّ عليك بعليٍّ فإنه الهادي المهدي ، الناصح لأمتي ، المحيي لسنتي ، وهو إمامكم بعدي ، فمن رضي بذلك لقيني على ما فارقته عليه . يا أبيُّ ، ومن غيَّر أو بدل لقيني ناكثاً لبيعتي ، عاصياً أمري ، جاحداً لنبوتي ، لا أشفع له عند ربي ، ولا أسقيه من حوضي ! فقامت إليه رجال من الأنصار فقالوا : أقعد رحمك الله يا أبي ، فقد أديت ما سمعت الذي معك ووفيت بعهدك » .
--------------------------- 500 ---------------------------
أقول : روينا عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأهل‌البيت ( عليهم السلام ) توثيق أبيّ بن كعب الأنصاري ( رحمه الله ) ، وروى البخاري في صحيحه « 6 / 102 » وروى غيره أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرالأمة فقال : « خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب » .
لكنهم لم يأخذوا منه القرآن فكيف يأخذون برأيه في الخلافة ؟ !
وكان ( رحمه الله ) يسمي أصحاب السقيفة : أهل العقدة ويقول : « هلك أصحاب العقدة ورب الكعبة ! يقولها ثلاثاً ثم قال : والله ما عليهم آسى ولكن آسى على من أضلوا ! قال قلت من تعني بهذا ؟ قال : الأمراء » . « الحاكم : 2 / 226 ، وأحمد : 5 / 140 ، وتدوين القرآن للمؤلف / 254 » .
وفي آخر عمره قرر أُبيٌّ أن يخطب مرة أخرى ويفضحهم فقال : « والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولن فيهم قولاً ، لا أبالي أستحييتموني عليه أو قتلتموني » ! « الطبقات : 3 / 500 » . فمات ( رحمه الله ) يوم الأربعاء ( رحمه الله ) ! راجع : ألف سؤال وإشكال : 1 / 341 .

14 . خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في اليوم السابع من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في اليوم السابع لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خطبة بليغة تسمى خطبة الوسيلة . وسنوردها في فصل : حجج علي ( عليه السلام ) على خصومه .

15 . أرسلوا اليه أن يحضر ويبايع !

جمع علي ( عليه السلام ) القرآن وجاءهم به إلى المسجد فردوه فعاد إلى بيته ، قال سلمان ( الإحتجاج : 1 / 107 ) : ( فقال عمر لأبي‌بكر : أرسل إلى علي فليبايع ، فإنا لسنا في شئ حتى يبايع ، ولو قد بايع أمنا غائلته . فأرسل أبو بكر رسولاً أن أجب خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأتاه الرسول فأخبره بذلك ، فقال علي ( عليه السلام ) : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري ، فذهب الرسول فأخبره بما قاله فقال : إذهب فقل أجب أمير المؤمنين أبا بكر ، فأتاه فأخبره بذلك فقال علي ( عليه السلام ) : سبحان الله ، والله ما طال العهد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي ، وقد أمره رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سابع سبعة فسلموا عليَّ بإمرة المؤمنين ، فاستفهمَهُ هو وصاحبه عمر من بين السبعة فقالا : أمرٌ من الله ورسوله ؟ فقال لهما
--------------------------- 501 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم حقاً من الله ورسوله ، إنه أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وصاحب لواء الغر المحجلين ، يقعده الله يوم القيامة على الصراط ، فيدخل أولياءه الجنة ، وأعداءه النار .
قال : فانطلق الرسول إلى أبي‌بكر فأخبره بما قال ، فكفوا عنه يومئذ .
فلما كان الليل حمل فاطمة ( عليها السلام ) على حمار ، وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين ، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إلا أتاه في منزله ، فناشدهم الله حقه ، ودعاهم إلى نصرته . . الخ ) .

16 . هاجموا بيته ( عليه السلام ) مرات لإجباره على البيعة !

كان أهل السقيفة يتابعون ذهاب علي ( عليه السلام ) إلى بيوت النقباء وكبار الصحابة ، وطلبه النصرة منهم ، وعرفوا أن بعضهم استجاب له فطلب منهم أن يأتوه في الصباح محلقين رؤوسهم ويبايعوه على الموت ، فلم يجبه إلا أربعة أشخاص !
هنا قرر أهل السقيفة أن يضغطوا عليه ، ويجبروه على بيعة أبي‌بكر ، فهددوه بحرق بيته عليه وعلى زوجته وأولاده والمعتصمين معه إن لم يبايع ، بل هددوه بالقتل !
وقد وصف سلمان الفارسي رضي الله عنه هجومهم على بيت فاطمة ( عليها السلام ) ، فقال ( الإحتجاج : 1 / 108 ) : ( وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته ، واجتماع كلمة الناس مع أبي‌بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له ، جلس في بيته ، فقال عمر لأبي‌بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع ، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة معه .
وكان أبوبكرأرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غوراً ، والآخرأفظهما وأغلظهما وأخشنهما وأجفاهما ، فقال : مَن نرسل إليه ؟ فقال عمر : أرسل إليه قنفذاً ، وكان رجلاً فظاً غليظاً جافياً من الطلقاء ، أحد بني تيم ، فأرسله وأرسل معه أعواناً فانطلق فاستأذن فأبي علي ( عليه السلام ) أن يأذن له ، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي‌بكر وعمر وهما في المسجد والناس حولهما فقالوا : لم يأذن لنا . فقال عمر : إن
--------------------------- 502 ---------------------------
أذن لكم ، وإلا فأدخلوا عليه بغير إذنه ، فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : أُحَرِّجُ عليكم أن تدخلوا بيتي بغير إذن ! فرجعوا وثبت قنفذ فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا ، فحرجتنا أن ندخل عليها البيت بغير إذن منها ، فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء !
ثم أمر أناساً حوله فحملوا حطباً وحمل معهم ، فجعلوه حول منزله ، وفيه علي وفاطمة وابناهما ( عليهم السلام ) ، ثم نادى عمر حتى أسمع علياً ( عليه السلام ) : والله لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول الله أو لأضرمن عليك بيتك ناراً ، ثم رجع فقعد إلى أبي‌بكر ، وهو يخاف أن يخرج علي بسيفه ، لما قد عرف من بأسه وشدته .
ثم قال لقنفذ : إن خرج ، وإلا فاقتحم عليه ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم ناراً . فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر علي ( عليه السلام ) إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه ، فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه ، وألقوا في عنقه حبلاً أسود ، وحالت فاطمة ( عليها السلام ) بين زوجها وبينهم عند باب البيت ، فضربها قنقذ بالسوط على عضدها ، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج ( ورم متحجر ) من ضرب قنفذ إياها ، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ إضربها ! فالجأها إلى عضادة باب بيتها ، فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها ، وألقت جنيناً من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة ، صلوات الله عليها .
ثم انطلقوا بعلي ( عليه السلام ) ملبباً بحبل حتى انتهوا به إلى أبي‌بكر ، وعمر قائم بالسيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حصين وبشير بن سعد ، وسائر الناس قعود حول أبي‌بكر عليهم السلاح ، وهو ( عليه السلام ) يقول : أما والله لو وقع سيفي بيدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا مني ، وبالله لا ألوم نفسي في جهادكم ، ولو استمكنت من أربعين رجلاً لفرقت جماعتكم ، فلعن الله أقواماً بايعوني ثم خذلوني ، فانتهره عمر فقال : بايع . فقال : وإن لم أفعل ؟ قال : إذاً نقتلك ذلاً وضعاراً . قال : إذن تقتلون عبداً لله وأخاً لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال أبو بكر : أما عبد الله فنعم ، كلنا عبيد الله ، وأما أخو رسوله فلا نقر لك به ! قال ( عليه السلام ) : أتجحدون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آخى بين نفسه وبيني ، فأعادوا عليه ذلك ثلاث مرات ،
--------------------------- 503 ---------------------------
ثم أقبل علي ( عليه السلام ) فقال : يا معاشر المهاجرين والأنصار ، أنشدكم بالله أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم غدير خم كذا وكذا ، وفي غزاة تبوك كذا وكذا ، فلم يدع شيئاً قاله فيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علانية للعامة إلا ذكره ؟ فقالوا : اللهم نعم .
فلما خاف أبو بكر أن ينصروه ويمنعوه بادرهم فقال : كل ما قلته قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا ، ولكني سمعت رسول الله يقول بعد هذا : إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا ، واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل‌البيت النبوة والخلافة .
فقال علي ( عليه السلام ) : أمَا أحد من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شهد هذا معك ؟ قال عمر : صدق خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد سمعنا منه هذا كما قال ، وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل : صدق قد سمعنا ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال لهم : لشد ما وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة : إن قتل الله محمداً أو أماته ، أن تزووا هذا الأمر عنا أهل‌البيت !
فقال أبو بكر : وما علمك بذلك أطلعناك عليها ؟ قال علي يا زبير ويا سلمان وأنت يا مقداد أذكركم بالله وبالإسلام أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك : إن فلاناً وفلاناً حتى عد هؤلاء الخمسة ، قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا ؟
قالوا : اللهم نعم ، قد سمعناه يقول ذلك لك ، فقلت له بأبي أنت وأمي يا نبي الله فما تأمرني أن أفعل إذا كان ذلك ؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم ، وإن لم تجد أعواناً فبايعهم واحقن دمك .
فقال علي ( عليه السلام ) : أما والله لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا ، لجاهدتكم في الله ولله ، أما والله لا ينالها أحد من عقبكم إلى يوم القيامة !
ثم نادى قبل أن يبايع : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي . ثم تناول يد أبي‌بكر فبايعه ، فقيل للزبير بايع الآن ، فأبى فوثب عليه عمر وخالد ابن الوليد والمغيرة بن شعبة في أناس فانتزعوا سيفه من يده ، فضربوا به الأرض حتى كسر ، فقال
--------------------------- 504 ---------------------------
الزبير وعمر على صدوه : يا ابن صهاك أما والله لو أن سيفي في يدي لحدت عني ، ثم بايع .
قال : سلمان : ثم أخذوني فوجؤوا عنقي حتى تركوها مثل السلعة ( ضربوني على عنقي فورمت وصارت غدة ) ثم فتلوا يدي ، فبايعت مكرهاً ، ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين . ولم يكن أحد منا أشد قولاً من الزبير ، فلما بايع قال : يا بن صهاك أما والله لولا هؤلاء الطلقاء الذين أعانوك ما كنت لتقدم علي ومعي السيف ، لما قد علمت من جبنك ولؤمك ، ولكنك وجدت من تقوى بهم وتصول بهم .
فغضب عمر فقال : أتذكر صهاك ؟ فقال الزبير : ومن صهاك وما يمنعني من ذلك ، وإنما كانت صهاك أمة حبشية لجدي عبد المطلب ، فزنا بها نفيل فولدت أباك الخطاب ، فإنه لعبد جدي ولد زنا ! فأصلح بينهما أبو بكر ، وكفَّ كل منهما عن صاحبه .
فقال سليم : فقلت يا سلمان بايعت أبا بكر ولم تقل شيئاً ؟ قال : قد قلت بعد ما بايعت : تباً لكم سائر الدهر ، أو تدرون ماذا صنعتم بأناسكم ، أصبتم وأخطأتم : أصبتم سنة الأولين ، وأخطأتم سنة نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها .
فقال لي عمر : أما إذا بايع صاحبك وبايعت فقل ما بدا لك وليقل ما بدا له .
قال : قلت فإني أشهد أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إن عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم . وقال : قل ما شئت أليس قد بايع ولم يقر الله عينك بأن يليها صاحبك .
قال ، قلت : فإني أشهد أني قرأت في بعض كتب الله المنزلة آية باسمك ونسبك وصفتك ، بابٌ من أبواب جهنم . قال : قل ما شئت ، أليس قد عزلها الله عن أهل‌البيت الذين قد اتخذتموهم أرباباً .
قال قلت : فأشهد أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول وقد سألته عن هذه الآية : فَيَوْمَئِذٍ لايُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ؟ فقال : إنك أنت هو .
فقال عمر : أسكت . قال قلت : أسكتَ الله نأمتك أيها العبد يا ابن اللخناء ! فقال لي علي ( عليه السلام ) : أسكت يا سلمان ، فسكتُّ . فوالله لولا أنه أمرني بالسكوت لأخبرته بكل شئ نزل فيه وفي صاحبه !
--------------------------- 505 ---------------------------
فلما رأى ذلك عمر أنه قد سكت قال : إنك له مطيع مسلِّم ! وإذ لم يقل أبو ذروالمقداد شيئاً كما قال سلما ن ، قال عمر : يا سلمان ألا تكفُّ عنا كما كفَّ صاحباك ، فوالله ما أنت بأشد حباً لأهل هذا البيت منهما ، ولا أشد تعظيماً لهم ولحقهم ، فقد كفَّا ، كما ترى وبايعا .
فقال أبو ذر : أفتعيرنا يا عمر بحب آل محمد وتعظيمهم ، لعن الله من أبغضهم وابتز عليهم ، وظلمهم حقهم ، وحمل الناس على رقابهم ، ورد الناس على أدبارهم القهقري ، وقد فعل ذلك بهم !
فقال عمر : آمين ، فلعن الله من ظلمهم حقهم ، لا والله ما لهم فيها حق ، وما هم وعرض الناس في هذا الأمر إلا سواء . قال أبو ذر : فلم خاصمتم بحقهم وحجتهم ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : يا ابن صهاك فليس لنا حق ، وهو لك ولابن آكلة الذبان !
فقال عمر : كفَّ الآن يا أبا الحسن إذا بايعت ، فإن العامة رضوا بصاحبي ولم يرضوا بك فما ذنبي . قال علي ( عليه السلام ) لكن الله ورسوله لم يرضيا إلا بي ، فأبشر أنت وصاحبك ومن اتبعكما وآزركما بسخط من الله وعذابه وخزيه !
ويلك يا ابن الخطاب أو تدري مما خرجت وفيم دخلت ؟ وماذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك ! فقال أبو بكر : يا عمرأما إذا بايع وأمنا شره وفتكه وغائلته ، فدعه يقول ما شاء ) . ( الإحتجاج : 1 / 108 ) .
وفي الشافي ( 3 / 244 ) عن عدي بن حاتم قال : ( ما رحمت أحداً رحمتي علياً حين أتي به ملبباً ، فقيل له : بايع ، قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : إذاً نقتلك ، قال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، ثم بايع كذا ، وضم يده اليمنى ) .

17 . الهجوم على بيت علي ( عليه السلام ) برواية سُليم عن سلمان

في كتاب سُلَيم / 285 ، ملخصاً : ( فبعث إليه ابن عم لعمر يقال له قنفذ ، فأقبل قنفذ فقال : يا علي ، أجب أبا بكر . فقال علي ( عليه السلام ) : إني لفي شغل عنه ، وما كنت بالذي أترك وصية خليلي وأخي ، وأنطلق إلى أبي‌بكر ، وما اجتمعتم عليه من الجور . فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر ، فوثب عمر غضبان ،
--------------------------- 506 ---------------------------
فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً ، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب علي ( عليه السلام ) وفاطمة ( عليها السلام ) قاعدة خلف الباب ، قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأقبل عمر حتى ضرب الباب ثم نادى : يا ابن أبي طالب إفتح الباب . فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : يا عمر ما لنا ولك لا تدعنا وما نحن فيه ! قال : إفتحي الباب وإلا أحرقناه عليكم ! فقالت : يا عمر أما تتقي الله عز وجل ، تدخل عليَّ بيتي وتهجم عليَّ داري ! فأبى أن ينصرف ، ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب ثم دفعه عمر فاستقبلته فاطمة ( عليها السلام ) وصاحت : يا أبتاه يا رسول الله ! فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت ، فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت : يا أبتاه ! فوثب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأخذ بتلابيب عمر ثم هزه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله ، فذكر قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما أوصى به من الصبر والطاعة ، فقال : والذي كرم محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالنبوة يا ابن صهَّاك ، لولا كتاب من الله سبق ، لعلمت أنك لا تدخل بيتي ! فأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وسلَّ خالد بن الوليد السيف ليضرب فاطمة ( عليها السلام ) ، فحمل عليه علي بسيفه فأقسم على علي ( عليه السلام ) فكف .
وأقبل المقداد وسلمان وأبو ذر وعمار وبريدة الأسلمي ، حتى دخلوا الدار أعواناً لعلي ( عليه السلام ) حتى كادت تقع فتنة ، فأُخْرِجَ علي ( عليه السلام ) ، وتبعه الناس ، وتبعه سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمار ، وبريدة الأسلمي وهم يقولون : ما أسرع ما خنتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأخرجتم الضغائن التي في صدوركم .
وقال بريدة بن الخصيب الأسلمي : يا عمر أتثب على أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه وعلى ابنته فتضربها ، وأنت الذي تعرفك قريش بما تعرفك به ! فرفع خالد بن الوليد السيف ليضرب به بريدة ، وهو في غمده ، فتعلق به عمر ومنعه من ذلك .
وفي رواية : قال عمر لأبي‌بكر وهو جالس فوق المنبر : ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك ؟ ألا تأمر به فتضرب عنقه ! والحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قائمان على رأس علي ( عليه السلام ) فلما سمعا مقالة عمر بكيا ورفعا أصواتهما : يا جداه يا رسول الله ، فضمهما علي ( عليه السلام ) إلى صدره وقال : لا تبكيا فوالله لا يقدران على قتل أبيكما ، هما أقل
--------------------------- 507 ---------------------------
وأذل وأدخر من ذلك .
وأقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأم‌سلمة فقالتا : يا عتيق ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد ! فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد ، وقال : ما لنا وللنساء ! ثم قال : يا علي قم بايع ، فقال : إن لم أفعل ؟ قال : إذاً والله نضرب عنقك ! قال ( عليه السلام ) : كذبت والله يا ابن صهَّاك لا تقدر على ذلك ، أنت ألأم وأضعف من ذلك .
فوثب خالد بن الوليد واخترط سيفه وقال : والله إن لم تفعل لأقتلنك . فقام إليه علي ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم دفعه حتى ألقاه على قفاه ووقع السيف من يده . فقال عمر : قم يا علي فبايع ، قال ( عليه السلام ) : فإن لم أفعل ؟ قال : إذاً والله نقتلك ! واحتج عليهم علي ( عليه السلام ) ثلاث مرات ، ثم مد يده من غير أن يفتح كفه ، فضرب عليها أبو بكر ورضي منه بذلك . ثم توجه إلى منزله وتبعه الناس ) !
وفي رواية سليم / 147 : ( فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت : يا رسول الله ، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر . . قال قلت لسلمان : أدَخلوا على فاطمة بغير إذن ؟ قال : إي والله وما عليها من خمار فنادت : وا أبتاه ، وا رسول الله ، يا أبتاه ، فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر ! ولما أن بصر به أبو بكر صاح : خلوا سبيله ! فقال علي : يا أبا بكر ما أسرع ما توثبتم على رسول الله ! بأي حق وبأي منزلة دعوت الناس إلى بيعتك ؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ !
وقد كان قنفذ ضرب فاطمة ( عليها السلام ) بالسوط حين حالت بينه وبين زوجها ، وأرسل إليه عمر : إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها ، فألجأها قنفذ إلى عضادة باب بيتها ودفعها فكسر ضلعها من جنبها ، فألقت جنيناً من بطنها ! فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت ، صلى الله عليها ، من ذلك شهيدة !
قال : ولما انتهى بعلي إلى أبي‌بكر انتهره عمر وقال له : بايع ودع عنك هذه الأباطيل ، فقال له : فإن لم أفعل فما أنتم صانعون ؟ قالوا : نقتلك ذُلاً وصغاراً ! فقال : إذاً تقتلون عبد الله وأخَ رسوله إلي آخر ما تقدم وفيه :
--------------------------- 508 ---------------------------
فقام المقداد فقال : يا عليُّ بمَ تأمرني ؟ والله إن أمرتني لأضربن بسيفي وإن أمرتني كففتُ . فقال عليٌّ : كفَّ يا مقداد واذكر عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وما أوصاك به .
فقمت ( سلمان ) وقلت : والذي نفسي بيده ، لو أني أعلم أني أدفع ضيماً وأ
عزلله ديناً لوضعت سيفي على عنقي ثم ضربت به قدماً قدماً ! أتثبون على أخي رسول الله ووصيه وخليفته في أمته وأبي ولده ! فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء !
وقام أبو ذر فقال : أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها المخذولة بعصيانها ، إن الله يقول : إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . وآل محمد الأخلاف من نوح وآل إبراهيم من إبراهيم والصفوة والسلالة من إسماعيل . وعترة محمد أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة ، والكعبة المستورة ، والعين الصافية ، والنجوم الهادية ، والشجرة المباركة ، أضاء نورها وبورك زيتها . محمد خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم ، وعلي وصي الأوصياء وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، وهو الصديق الأكبر ، والفاروق الأعظم ، ووصي محمد ووارث علمه ، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ . فقدِّموا من قدم الله ، وأخِّروا من أخر الله ، واجعلوا الولاية والوراثة لمن جعل الله . الخ ) .
وفي الكافي ( 8 / 237 ) : ( عن أبي هاشم قال : لما أُخرج بعلي ( عليه السلام ) خرجت فاطمة ( عليها السلام ) واضعة قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على رأسها آخذة بيدي إبنيها فقالت : مالي ومالك يا أبا بكر ، تريد أن تؤتم ابنيَّ وتُرملني من زوجي ! والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي ! فقال رجل من القوم : ما نريد إلى هذا ، ثم أخذت بيده فانطلقت به ) !
أقول : هذا يدل على تكرر الهجوم أيضاً ، لأنهم حسب هذه الرواية تركوه .
وفي رواية ابن جرير الطبري الشيعي في المسترشد / 377 : ( قال : إذاً تقتلون عبداً لله وأخاً لرسول الله . قالا : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسول الله فلا ! قال : فرجع يومئذ ولم يبايع ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 113 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( لما استُخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام )
--------------------------- 509 ---------------------------
من منزله خرجت فاطمة صلوات الله عليها خلفه ، فما بقيت امرأة هاشمية إلا خرجت معها ، حتى انتهت قريباً من القبر فقالت لهم : خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمداً أبي بالحق إن لم تخلوا عنه لأنشرنَّ شعري ولأضعن قميص رسول الله على رأسي ، ولأصرخن إلى الله تبارك وتعالى ، فما صالحٌ بأكرمَ على الله من أبي ، ولا الناقةُ بأكرم مني ، ولا الفصيلُ بأكرم على الله من ولديَّ !
قال سلمان رضي الله عنه : كنت قريباً منها ، فرأيت والله آساس حيطان مسجد رسول الله تقلعت من أسفلها ، حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ ، فدنوت منها فقلت : يا سيدتي ومولاتي إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمةً فلا تكوني نقمة ، فرجعت ورجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها ، فدخلت في خياشيمنا ) !
وفي الإختصاص / 186 : ( فخرجت فاطمة ( عليها السلام ) فقالت : يا أبا بكر وعمر تريدان أن ترمِّلاني من زوجي ! والله لئن لم تكفَّا عنه لأنشرن شعري ولأشقَّن جيبي ، ولآتين قبر أبي ولأصيحن إلى ربي ! فخرجت وأخذت بيد الحسن والحسين متوجهة إلى القبر ! فقال علي لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمد . . الخ . )
ومعناه : أن علياً ( عليه السلام ) أمر سلمان أن يبلغها أن لا تدعو عليهم .
وفي رواية العياشي ( 2 / 66 ) والمفيد في الإختصاص / 185 : ( عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه ، عن جده قال : ما أتى على علي ( عليه السلام ) يوم قط أعظم من يومين أتياه ، فأما أول يوم فاليوم الذي قبض فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأما اليوم الثاني فوالله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي‌بكر والناس يبايعونه إذ قال له عمر : يا هذا ليس في يديك شئ ما لم يبايعك علي ! فابعث إليه حتى يأتيك يبايعك فإنما هؤلاء رعاع . فبعث إليه قنفذ . . .
ثم دخلوا فأخرجوا علياً ملبباً ! فخرجت فاطمة فقالت : يا أبا بكر أتريد أن ترمِّلني من زوجي ، والله لئن لم تكفَّ عنه لأنشرن شعري ولأشقنَّ جيبي ولآتين قبر أبي ولأصيحنَّ إلى ربي ، فأخذت بيد الحسن والحسين وخرجت تريد قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال علي لسلمان : أدرك ابنة محمد فإني أرى جنبتي المدينة تكفيان ،
--------------------------- 510 ---------------------------
والله إن نشرت شعرها وشقت جيبها وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربها ، لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها !
فأدركها سلمان فقال : يا بنت محمد إن الله إنما بعث أباك رحمة فارجعي ، فقالت : يا سلمان يريدون قتل علي ! ما على عليٍّ صبر فدعني حتى آتى قبر أبي فأنشر شعري وأشق جيبي وأصيح إلى ربي ! فقال سلمان : إني أخاف أن يخسف بالمدينة ، وعليٌّ بعثني إليك ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك وتنصرفي ، فقالت : إذاً أرجع وأصبر وأسمع له وأطيع .
قال : فأخرجوه من منزله ملبباً ومروا به على قبر النبي عليه وآله السلام قال : فسمعته يقول : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي . . .
فبلغ ذلك العباس بن عبد المطلب فأقبل مسرعاً يهرول فسمعته يقول : إرفقوا بابن أخي ولكم عليَّ أن يبايعكم ، فأقبل العباس وأخذ بيد علي فمسحها على يد أبي‌بكر ، ثم خلوه مغضباً فسمعته يقول : ورفع رأسه إلى السماء : اللهم إنك تعلم أن النبي قد قال لي : إن تموا عشرين فجاهدهم ، وهو قولك في كتابك : إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ . قال : وسمعته يقول : اللهم وإنهم لم يتموا عشرين ، حتى قالها ثلاثاً ، ثم انصرف ) .
ويدل مجموع الروايات دلالة قطعية على أنهم هاجموا بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بوحشية وقسوة ، وكانوا حاضرين أن يقتلوا علياً وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن معهما ، وهذا وحده كاف لمن كان له عقل ، في إثبات الجريمة والانحراف الخطير عن الإسلام !

18 . خافوا أن يستجير علي ( عليه السلام ) بقبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوضعوا الأحاديث !

بعد الهجوم على بيت علي ( عليه السلام ) وإجباره على البيعة ، اتخذوا إجراءات مشددة حول قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومنعوا إقامة مجالس العزاء والنوح على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومطلق التجمع عند قبره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! لأنهم خافوا من مجالس الندب والنوح على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي كانت تقيمها فاطمة ( عليها السلام ) ، أن توظفها لتأليب الأنصار وبعض المهاجرين ضد أهل السقيفة . كما خافوا أن يستجير علي ( عليه السلام ) بقبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما هي عادة العرب ، ويطلب تطبيق وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حقه !
--------------------------- 511 ---------------------------
فكان الحل عندهم أن يقولوا إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نهى عن التجمع عند قبره حتى للصلاة ! وإنه لعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، أي صلوا عندها !
قال السرخسي في المبسوط ( 1 / 206 ) : ( رأى عمر رجلاً يصلي بالليل إلى القبر فناداه : القبرالقبر ، فظن الرجل أنه يقول القمر ، فجعل ينظر إلى السماء ، فما زال به حتى بيَّنه ) . أي أبعده عن قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقالت عائشة إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في آخر لحظاته قال : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا ) . ( البخاري : 1 / 422 ، 6 / 386 ، 8 / 116 ،
ومسلم : 2 / 67 ، والنسائي : 1 / 115 ) . لكن حديثها لا يصح لأن اليهود والنصارى لم يتخذوا أي قبر نبي مسجداً ! اللهم إلا المؤمنون الذين مدحهم الله بأنهم اتخذوا مسجداً على قبور أهل الكهف ، فقال تعالى : وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) .
فقد غفل واضعوا الحديث عن هذه الآية ، وكذبوا على تاريخ اليهود والنصارى !
وكذا حديثهم المزعوم بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نهى أن يجعل قبره مجمعاً للعبادة ، فقال : ( لا تتخذوا قبري عيداً أو وثناً ) !
فهو حديث موظف لمنع استجارة بني هاشم به . وفسروه بالنهي عن قصد قبره للتعبد عنده ! ( أحكام الجنائز للألباني / 219 ) ! وهدفهم أن يمنعوا علياً ( عليه السلام ) أن يستجير بقبرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! لأن العرب يوجبون الاستجابة للمستجير ، وإلا لحق العار بمن يعز عليه القبر !
وقد روى المؤرخون أخبارالإستجارة بالقبورومنها الإستجارة بقبرغالب جد الفرزذق ( أنساب الأشراف : 2 / 3037 ) . واستجارة الكميت بقبر معاوية بن هشام ( الغدير : 2 / 207 ) واستجارة عجرد الشاعر بقبر سليمان بن علي العباسي ( أشعار أولاد الخلفاء / 2 ) .
وقد غفلوا عن أن حرمة قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعظم من الخلافة ، وأنهما لا يكسران حرمته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأي ثمن !
--------------------------- 512 ---------------------------

19 . منعوا مجلس فاطمة ( عليها السلام ) فاتخذت مجلساً في البقيع

بمجرد أن توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) توافدت نساء الأنصار والمهاجرين على منزله ومسجده ، يعزين عزيزته الزهراء ( عليها السلام ) ، وأقمن مجالس النوح واللدم على عادتهن من يوم شهادة حمزة . واستمر المجلس صباحاً وعصراً ، تندب فيه النائحات ، وقد نقلت المصادر فقرات وأبياتاً بليغة كانت تندب بها الزهراء أباها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل كان منظر فاطمة الحزينة ( عليها السلام ) يجعلهن ينفجرن بالبكاء !
قال البخاري ( 5 / 144 ) : ( عن أنس قال لما ثقل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعل يتغشاه فقالت فاطمة : واكرب أباه ! فقال لها : ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم ! فلما مات قالت : يا أبتاه أجاب رباً دعاه . يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه . يا أبتاه إلى جبريل ننعاه .
فلما دفن قالت فاطمة ( عليها السلام ) : يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب ! ) . ( وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينيها ، وقالت :
ماذا على من شمَّ تربة أحمدٍ * أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا
صُبَّتْ عَليَّ مصائبٌ لو أنها * صُبَّتْ على الأيام عُدْنَ لياليا
( مسند أحمد : 2 / 489 ) .
وكان مجلسها للنوح على أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صباحاً وعصراً كما هو عادة نساء المدينة ، وكنَّ يبدأن بحمزة ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ولكن حمزة لا بواكي له ! فهنَّ اليوم إذا يبكين يندبن بحمزة ) . ( مسند أحمد : 2 / 40 ) .
ورووا أن فاطمة ( عليها السلام ) نظرت إلى الحجرة يوماً فأغمي عليها ، فتبادرت النساء فنضحن الماء على وجهها حتى أفاقت من غشيتها ، فقامت وهي تقول : يا أبتاه ، بقيت والهة وحيدة ، وحيرانة فريدة ، فقد خمد صوتي ، وانقطع ظهري ، وتنغص عيشي ، وتكدر دهري ، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا راداً لدمعتي ، فأنا للدنيا بعدك قالية ، وعليك ما ترددت أنفاسي باكية ، لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك . يا أبتاه ، من للأرامل والمساكين ، ومن للأمة إلى يوم الدين .
يا أبتاه ، أمسينا بعدك من المستضعفين . يا أبتاه ، أصبحت الناس عنا معرضين ،
--------------------------- 513 ---------------------------
ولقد كنا بك معظمين .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس فتقول : هاهنا كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هاهنا كان المشركون . وفي رواية : كانت تصلي هناك وتدعو ،
حتى ماتت ( عليها السلام ) ) . ( الكافي : 3 / 228 ) .
تقول بذلك : بهذه الدماء الطاهرة ، وأغلاها دماء بني هاشم ، وبهذه الجهود المتواصلة وأعلاها جهود بني هاشم ، جاء هذا الفتح ، وبُنِيَ هذا المجد ، الذي صادرته قريش ، واستحلت حرق بيوتنا علينا ، طمعاً في سلطان أبي !
فهذا أبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المؤسس لهذه الأمة ، والشاهد على أعمالها . وهذا حمزة عمي ، وزير النبي وناصره ، يثوي هنا شاهداً . وذاك أخوه جعفرعمي يثوي شهيداً وشاهداً في مؤتة ، على مشارف القدس ! فأين كانت قريش وطلقاؤها ؟ ! وذاك هو عليٌّ زوجي ( عليه السلام ) الذي قام الإسلام بسيفه ، يتجرع الغصص من قريش إلى اليوم ، يقولون له بايع وإلا قتلناك !
ولذا خافت السلطة من تجمهر نساء المسلمين في مجلس فاطمة ( عليها السلام ) ، وفقالوا إن المجلس يعطل أعمال الناس ، وقد وضعوا أحاديث لإبعاد الناس عن قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كحديث أن البكاء على الميت حرام ! قال البخاري ( 2 / 85 ) : ( وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . وكان عمر يضرب فيه بالعصا ، ويرمي بالحجارة ، ويحثي بالتراب ) !
وذكرت مصادرنا أن ( بعض أهل المدينة ) شَكوْا من استمرار مجالس فاطمة ( عليها السلام ) ليلاً ونهاراً ! وطلبوا من علي أن تقلل مجالسها ! فقالت : يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم ، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً ، أو ألحق بأبي رسول الله ! فقال لها علي : إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك ، وبني لها بيتاً في البقيع . ( بحار الأنوار : 43 / 177 ) . وعرف ذلك المكان ببيت الأحزان ، ويقع قرب قبور الأئمة ( عليهم السلام ) .
--------------------------- 514 ---------------------------
قال ابن جبير المتوفى سنة 614 هجرية ، في رحلته / 174 : ( ويلي القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه الذي أوت إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها المصطفى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وقال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 301 : ( وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحي الزهراء ( عليها السلام ) عن البلد في نياحتها على أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخروجها بولديها في لُمّة من نسائها إلى البقيع يندبن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، في ظل أراكة كانت هناك ، فلما قطعت بني لها علي ( عليه السلام ) بيتاً في البقيع كانت تأوى إليه للنياحة يدعى بيت الأحزان ، وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة كما تزار المشاهد المقدسة ، حتى هدم في هذه الأيام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود النجدي ، لما استولى على الحجاز وهدم المقدسات في البقيع ، عملاً بما يقتضيه مذهبه الوهابي ، وذلك سنة 1344 للهجرة . وكنا سنة 1339 تشرفنا بزيارة هذا البيت بيت الأحزان ، إذ منَّ الله علينا في تلك السنة بحج بيته وزيارة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومشاهد أهل بيته الطيبين الطاهرين ( عليهم السلام ) في البقيع ) .
ورحم الله الشاعر الحلي الكَوَّاز حيث قال ، كما في بيت الأحزان للقمي / 128 :
الواثبين لظلم آل محمد * ومحمد ملقىً بلا تكفينِ
والقائلين لفاطم آذيتنا * في طول نوح دائمٍ وحنينِ
والقاطعين أراكةً كيما تقيلَ * بظلِّ أوراقٍ لها وغصون
ومُجمِّعي حطبٍ على البيت الذي * لم يجتمع لولاه شملُ الدين
والهاجمين على البتولة ببيتها * والمسقطين لها أعزَّ جنين
والقائدين إمامهم بنجاده * والطهر تدعو خلفه برنين
خلوا ابن عمي أولأكشف للدعا * رأسي وأشكو للإله شجوني
ما كان ناقة صالح وفصيلها * بالفضل عند الله إلا دوني
ورنَت إلى القبر الشريف بمقلة * عبرى وقلبٍ مُكمَد محزون
قالت وأظفار المصاب بقلبها * غوثاه قلَّ على العداة معيني
أبتاه هذا السامري وعجله * تُبعا ومال الناس عن هارون
--------------------------- 515 ---------------------------
أيَّ الرزايا أتقي بتجلدي * هو في النوائب مُذْ حييت قريني
فقدي أبي أم غصب بعلي حقه * أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني
أم أخذهم إرثي وفاضل نحلتي * أم جهلهم حقي وقد عرفوني
قهروا يتيميك الحسين وصنوه * وسألتهم حقي وقد نهروني ) !

20 . أنهى علي ( عليه السلام ) المناقشات وأعلن فصل الدين عن الدولة !

روى في الإحتجاج ( 1 / 104 ) اعتراض الصحابة الاثني عشر على أبي‌بكر وخطبهم في المسجد ، وجاء فيه : « قال الصادق ( عليه السلام ) : فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم ، أقيلوني أقيلوني ! فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ! قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل ( أي هيأ ألفاً من بني سليم ) فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم ؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل ( بعضهم حاضر وبعضهم مستعد للحضور ) فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب ، حتى وقفوا بمسجد رسول الله ، فقال عمر : والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه !
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال : يا ابن صهَّاك الحبشية ، أبأسيافكم تهددوننا ، أم بجمعكم تفزعوننا ، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم ، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين ، لأن حجة الله فينا .
والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطاعة إمامي أولى بي ، لشهرت
--------------------------- 516 ---------------------------
سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري !
فقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : أجلس يا خالد ، فقد عرف الله لك مقامك ، وشكر لك سعيك . فجلس .
وقام إليه سلمان الفارسي فقال : الله أكبر ، الله أكبر ! سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتَا ، يقول : بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه ، إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار ، يريدون قتله وقتل من معه ، فلست أشك إلا وإنكم هم !
فهمَّ به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ثم قال : يا ابن صهَّاك الحبشية ! لولا كتاب من الله سبق ، وعهدٌ من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقدم ، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً ! ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو لقضية أقضيها ، فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أن يترك الناس في حيرة » !
* *
أقول : كانت هذه آخر مواجهة حادة لعلي ( عليه السلام ) مع عَرَّاب السقيفة ، وقد وصلت إلى حافة القتال ، وأظهر فيها علي ( عليه السلام ) قوته ، ثم أسكت أنصاره ، وأعلن إنهاء المناقشة ، وترك أهل السقيفة ومشروعهم ، لكنه أعلن فصل دولتهم عن الدين !
والفقرة الأخيرة تحدد موقف علي ( عليه السلام ) من نظام الخلافة القرشية بدقة :
فقد قرر أولاً ، أن لايقاومهم بالقوة ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إن لم يجد ناصراً أن يحقن دمه . قال ( عليه السلام ) : « أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما الأمة صانعة بي بعده فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت ! فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إلي إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن
--------------------------- 517 ---------------------------
دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً » . ( كتاب سليم / 215 )
وأعلن ( عليه السلام ) ثانياً ، أنه لن يعترف بشرعية نظامهم ، إلا اعتراف المُكره المُجبر المقهور . ولذلك قال المفيد ( قدس سره ) إنه ( عليه السلام ) لم يبايع ولا ساعة ! أي مختاراً ، وبيعة المُكره لا شرعية لها ! قال في المقنعة / 612 : « ولا يصح بيع بإكراه ، ولا يثبت إلا بإيثار واختيار » . وفي صحيح بخاري ( 8 / 57 ) : « باب إذا أكره حتى وهب عبداً أو باعه ، لم يجز » .
راجع : فتح الباري : 12 / 280 ، وتحرير المجلة : 3 / 156 ، مادة : 948 . وكافة مصادر الفقه .
وأعلن ثالثاً ، فصل الدين عن دولتهم ، وأنهم إن أخذوا منه الخلافة والحكم ، فعنده مقام من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يستطيعون أخذه ، فقد نصبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حجة لأمته ليبين لها ويقضي بينها ، لذلك سيحضر في المسجد ليزور قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويقوم بهذه المسؤولية ، فيبين للأمة العقيدة والشريعة ويقضي بينهم ( فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أن يترك الناس في حيرة » !
ومعناه أنه أعلن فصل الدين عن الدولة ، فهو مسؤول عن الدين وسيقوم بمسؤوليته ، وهو مبدأ موجودٌ في القرآن ، فالنبوة والملك ، والإمامة والملك ، قد تجتمعان وقد تفترقان ، وافتراقهما قد يكون مع إدانة الدولة كما في السقيفة ، أو مع شرعيتها كما في قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فقال لهم الإمام ( عليه السلام ) إن الحجة على الأمة والقضاء بينها ، انفصل عن الحكم الذي أسسوه لقبائل قريش . وهذا يتفق مع ما بيناه في الجهاز القضائي ، وأن القضاء لا يكون إلا لنبي أو وصي .
وقد فرح أهل السقيفة بموقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأنه ترك لهم الحكم ، فهم مستعدون للسماح له بأن يجلس في المسجد ويبين للناس ويقضي بينهم ، ولا يصلي خلفهم . فالمهم عندهم أنه مسح بيده على يد خليفتهم ، وترك قتالهم .
وقد أعلن ( عليه السلام ) أنه سيعتزلهم ولايعترف بنظامهم ، ولا يكون جزء من جهازهم ولا يقبل مناصبهم ، لأن الله أمَّرَه على الأمة فلا يجوز له أن يكون مأموراً لأحد إلا مكرهاً ! ولهذا لم يؤمِّر عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحداً أبداً ، بينما أمَّره على جميع الصحابة ،
--------------------------- 518 ---------------------------
ونهاه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يتقدم عليه أحد من الصحابة حتى في مجلس أو طريق !
ففي حديث أحمد بن همام ، قال ( الإحتجاج : 1 / 291 ) : « أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي‌بكر فقلت : يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي‌بكر قبل أن يستخلف ؟ فقال : يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثونا ! فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي‌بكر ، كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحق بالنبوة من أبي جهل ! قال : وأزيدكم : إنا كنا ذات يوم عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء علي وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل عليٌّ على أثرهما ، فكأنما سُفِيَ على وجه رسول الله الرماد ! ثم قال : يا عليُّ أيتقدمانك هذان ، وقد أمَّرك الله عليهما ؟
فقال أبو بكر : نسيت يا رسول الله ، وقال عمر : سهوت يا رسول الله !
فقال رسول الله : ما نسيتما ولا سهوتما ! وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحازبتما عليه ، وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله !
وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا !
ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها ، وذلك لأمر قد قضي ! ثم بكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى سالت دموعه ، ثم قال : يا عليُّ الصبرَ الصبرَ حتى ينزل الأمر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك . فإذا أمكنك الأمر فالسيفَ السيفَ ، القتلَ القتلَ ، حتى يفيئوا إلى أمر الله وأمر رسوله ، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل ، وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة » .
انتهى كلام عُبادة بن الصامت رضي الله عنه . ولهذا لم يقبل أمير المؤمنين ولا الحسنان ( عليهم السلام ) أي منصب من أبي‌بكر وعمر وعثمان .
قال ابن أعثم في الفتوح ( 1 / 57 ) قال أبو بكر لعمر : « إني عزمت على أن أوجه إلى هؤلاء القوم علي بن أبي طالب ، فإنه عدل رضا عند أكثر الناس لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه وفهمه ، ورفقه بما يحاول من الأمور ، قال : فقال له عمر بن الخطاب : صدقت
--------------------------- 519 ---------------------------
يا خليفة رسول الله ، إن علياً كما ذكرت وفوق ما وصفت ، ولكني أخاف عليك خصلة منه واحدة ، قال له أبو بكر : وما هذه الخصلة التي تخاف علي منها منه ؟ فقال عمر : أخاف أن يأبى لقتال القوم فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك فلم تجد أحداً يسير إليهم إلا على المكروه منه ، ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة ، فإنك لا تستغني عنه وعن مشورته ، واكتب إلى عكرمة بن أبي جهل فمره بالمسير إلى الأشعث وأصحابه ، فإنه رجل حرب وأهلٌ لما أهل له ، فقال أبو بكر : هذا هو الرأي » .
وروى المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 309 ) أن عثمان أشار على عمر بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر فقال له : « ابعث رجلاً له تجربة بالحرب وبَصَر بها . قال عمر : ومن هو ؟ قال : علي بن أبي طالب ، قال : فالقه وكلمه وذاكره ذلك ، فهل تراه مسرعاً إليه أو لا ؟ فخرج عثمان فلقي علياً فذاكره ذلك فأبى علي ذلك وكرهه ، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره ، فقال له عمر : ومن ترى ؟ قال : سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، قال : ليس بصاحب ذلك » .
وروى في شرح النهج ( 9 / 174 ) : « قيل لعمر : ولِّ علياً أمر الجيش والحرب ، فقال : هو أتْيَهُ من ذلك » ! والتحفة العسجدية ليحيى بن الحسين بن القاسم / 142 .
أي أكبر من أن يقبل به . وفي نسخة : أنبهُ من ذلك ، وهو بمعناه .
وفي فتوح البلاذري ( 2 / 313 ) : « كتب المسلمون إلى عمر يعلمونه كثرة من تجمع لهم من أهل فارس ويسألونه المدد . . . وعرض على عليٍّ الشخوص فأباه » .
بل امتنع علي ( عليه السلام ) حتى من مرافقة عمر عندما ذهب إلى الشام ، فقد روى في شرح النهج ( 12 / 78 ) والتحفة العسجدية / 146 ، عن ابن عباس أن عمر قال له : « يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً ، فيمَ تظن موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنك لتعلم ! قال : أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة . قلت : هو ذاك ، إنه يزعم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد الأمر له . فقال : يا ابن عباس ، وأراد رسول الله الأمر له ، فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد
--------------------------- 520 ---------------------------
رسوله ! أوَكلما أراد رسول الله كان » ! !
فعمر يقول : أراد رسول الله أمراً وأردنا غيره ، ونسب عمر معصية الرسول إلى الله تعالى ، ولا يصح ذلك ، فكان يجب أن يقول : أراد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأردنا ، وسمح الله تعالى بوقوع ما أردنا !
* *
وقد نهض علي ( عليه السلام ) من نفسه ودفع جيش طليحة عن المدينة ، ولم يكن مأموراً لأبي‌بكر ولا عمر ولا عثمان ، نعم قد يرسل بعض تلاميذه إذا لزم الأمر ، لأن قبوله بنفسه قيادة جيش اعترافٌ بأن الخليفة قائده ، وهذامخالفةٌ للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فبماذا يجيبه لو قال له : لقد حفظتُ مقامك الرباني فلم أؤمر عليك أحداً ، فلماذا أمَّرتهم على نفسك اختياراً ! وبماذا يجيبه الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا سألهما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لقد جعلكما الله إمامين ، ولم أؤمر عليكما أحداً ، فلماذا أمَّرتما على نفسيكما وكنتما مختارين ؟ !
وقد فسر الإمام الباقر ( عليه السلام ) حيثيات هذا الموقف فقال : « إن الناس لما صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر لم يمنع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أن يدعو إلى نفسه إلا نظراً للناس وتخوفاً عليهم أن يرتدوا عن الإسلام فيعبدوا الأوثان ، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكان الأحب إليه أن يقرهم على ما صنعوا من أن يرتدوا عن جميع الإسلام ، وإنما هلك الذين ركبوا ما ركبوا ، فأما من لم يصنع ذلك ودخل فيما دخل فيه الناس على غير علم ولا عداوة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فإن ذلك لا يكفره ولا يخرجه من الإسلام . ولذلك كتم علي ( عليه السلام ) أمره وبايع مكرهاً حيث لم يجد أعواناً » . ( الكافي : 8 / 295 ) .
وقد فرح أبو بكر وعمر بإعلان علي ( عليه السلام ) هذا الموقف رغم بعض عناصره ، فلا مانع عندهما أن لا يعترف بشرعية نظامهما ، ولا يصلي خلف الحاكم ، ويجلس في زاويته في المسجد ويبين الشريعة ، ما دام يسكت عنهم .
بل قالوا له : « إن بايعت كففنا عنك ، وأكرمناك وقربناك وفضلناك . وإن لم تفعل قتلناك » . ( كتاب سليم / 216 ) .
وروى المؤرخون أن أبا بكر وعمر لما رأيا آراء علي ( عليه السلام ) الصائبة ، ونصحه لهم في تدبير
--------------------------- 521 ---------------------------
حرب المرتدين والفتوحات ، طمعا بأن يقبل منهما قيادة جيش لكنه لم يقبل ، وكان يقترح عليهم قائداً كفوءاً ، ويأخذان برأيه غالباً !
لهذا لا يصح القول إنه ( عليه السلام ) اعتزل الشؤون العامة بنحو مطلق ، فقد كان يزور قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويصلي عنده منفرداً ، ويجلس لمراجعات الناس وبيان الشريعة والقضاء بين الناس فيما رجعوا اليه فيه ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نصبه حجة للأمة وقاضياً بينها .
نعم يصح القول إنه اعتزل ( عليه السلام ) نسبياً ، وكان أوج اعتزاله في الشهرين الأولين حتى تفاقمت حركة طليحة الأسدي المتنبئ ، واستجابت له قبائل كثيرة ، وبلغ عدد قواته في حائل وسميراء وبزاخة عشرين ألفاً وأكثر . ثم اتخذ معسكراً في ذي القَصَّة قرب المدينة فيه عشرة آلاف مقاتل ، بقيادة ابن أخ طليحة حِبَال بن سلمة بن خويلد الأسدي ، وكان فارساً مشهوراً . فتهض علي ( عليه السلام ) .
أما الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فروى بعضهم أنهما شاركا في الفتوحات في عهد عثمان ، رواه البلاذري ( 2 / 411 ) بصيغة تضعيف ، قال : « فغزا سعيد طبرستان ، ومعه في غزاته فيما يقال الحسن والحسين أبناء علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) » .
لكن لا يصح ذلك لأنهما لو شاركا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لاشتهر ذلك ، ويكفي لرده أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان شديد المحافظة على حياتهما ( عليهم السلام ) والخوف عليهما من منافقي قريش ، وليس من المعارك !
قال ( عليه السلام ) كما في نهج البلاغة ( 2 / 298 ) : « اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة عليَّ . اللهم احفظ حسناً وحسيناً ، ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حياً ) ( شرح النهج : 2 / 298 ) .

21 . أمروا خالداً بأن يقتل علياً ( عليه السلام ) ففشل !

قال السمعاني في الأنساب ( 3 / 95 ) : « عباد بن يعقوب الرواجني . . روى عنه جماعة من مشاهيرالأئمة ، مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، روى عنه حديث أبي‌بكر أنه قال : لا يفعل خالد ما أمر به . سألت الشريف عمر بن
--------------------------- 522 ---------------------------
إبراهيم الحسيني بالكوفة عن معنى هذا الأثر فقال : كان أمر خالد بن الوليد أن يقتل علياً ( عليه السلام ) ، ثم ندم بعد ذلك فنهى عن ذلك » .
وفي شرح النهج ( 13 / 301 ) قال ابن أبي الحديد : ( سألت النقيب أبا جعفر فقلت له : أحق ما يقال في حديث خالد ؟ فقال : إن قوماً من العلوية يذكرون ذلك ، ثم قال : وقد روي أن رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة ، فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث ، فقال : إنه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال ، فقال الرجل : وما الذي قاله أبو بكر ؟ قال : لا عليك ، فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة ، فقال : أخرجوه ، قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي خطاب ) .
فالقضية مشهورة عندهم ، يرويها أحد رواة البخاري ، ويفتي بها أبو حنيفة !
وقد تفاوتت الرواية في وقت هذه الحادثة ، وفيما فعله ( عليه السلام ) بخالد ، وفي بعضها أنه طوق عنقه بعمود حديد ، فلم يستطيعوا فكه حتى توسط العباس عند علي ( عليه السلام ) بطلب أبي‌بكرففكه . وليس بأعجب من قوته الخارقة ( عليه السلام ) في دحو باب خيبر ثم حمله !
وروى الصدوق في علل الشرائع ( 1 / 191 ) بسند صحيح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لما منع أبو بكر فاطمة ( عليها السلام ) فدكاً وأخرج وكيلها جاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى المسجد وأبو بكر جالس وحوله المهاجرون والأنصار فقال : يا أبا بكر لم منعت فاطمة ما جعله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لها ووكيلها فيه منذ سنين ؟
فقال أبو بكر : هذا فئ للمسلمين فإن أتت بشهود عدول ، وإلا فلا حق لها فيه .
قال : يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف ما تحكم في المسلمين ؟ قال ، لا . قال : أخبرني لو كان في يد المسلمين شئ فادعيت أنا فيه ممن كنت تسأل البينة ؟ قال إياك كنت أسأل . قال : فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون تسألني فيه البينة ؟ قال فسكت أبو بكر .
فقال عمر هذا فئ للمسلمين ولسنا من خصومتك في شئ ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأبي‌بكر يا : أبا بكر تقر بالقرآن ؟ قال بلى ، قال فأخبرني عن قول الله عز وجل : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً . أفينا أو في
--------------------------- 523 ---------------------------
غيرنا نزلت ؟ قال : فيكم ، قال فأخبرني لو أن شاهدين من المسلمين شهدا على فاطمة بفاحشة ما كنت صانعاً ؟ قال كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على نساء المسلمين ، قال كنت إذن عند الله من الكافرين ! قال ولمَ ؟ قال لأنك كنت ترد
شهادة الله وتقبل شهادة غيره ، لأن الله عز وجل قد شهد لها بالطهارة ، فإذا رددت
شهادة الله وقبلت شهادة غيره كنت عند الله من الكافرين !
قال فبكى الناس وتفرقوا ودمدموا ، فلما رجع أبو بكر إلى منزله بعث إلى عمر فقال : ويحك يا ابن الخطاب ، أما رأيت علياً وما فعل بنا ، والله لئن قعد مقعداً آخر ليفسدن هذا الأمر علينا ، ولا نتهنأ بشئ ما دام حياً .
قال عمر : ماله إلا خالد بن الوليد ، فبعثوا إليه فقال له أبو بكر : نريد أن نحملك على أمر عظيم . قال : إحملني على ما شئت ، ولو على قتل علي . قال : فهو قتل علي ، قال فصر بجنبه فإذا أنا سلمت فاضرب عنقه ، فبعثت أسماء بنت عميس وهي أم محمد بن أبي‌بكر خادمتها فقالت اذهبي إلى فاطمة فاقرئيها السلام ، فإذا دخلت من الباب فقولي : إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ . فإن فهمتها وإلا فأعيديها مرة أخرى ، فجاءت فدخلت وقالت : إن مولاتي تقول : يا بنت رسول الله كيف أنتم ، ثم قرأت هذه الآية ، فلما أرادت أن تخرج قرأتها فقال لها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إقرأي مولاتك مني السلام وقولي لها إن الله عز وجل يحول بينهم وبين ما يريدون إن شاء الله ، فوقف خالد بن الوليد بجنبه ، فلما أراد أن يسلم لم يسلم وقال : يا خالد لا تفعل ما أمرتك . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ما هذا الأمر الذي أمرك به ثم نهاك قبل أن يسلم ؟ قال : أمرني بضرب عنقك وإنما أمرني بعد التسليم ، فقال : أوَكنت فاعلاً ؟ فقال إي والله لو لم ينهني لفعلت !
قال : فقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخذ بمجامع ثوب خالد ثم ضرب به الحائط ، وقال لعمر : يا ابن صهَّاك ، والله لولا عهد من رسول الله وكتاب من الله سبق ، لعلمت أينا أضعف جنداً وأقل عدداً ) .
--------------------------- 524 ---------------------------
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 122 ) أن ذلك كان وعلي ( عليه السلام ) في أرض له خارج المدينة ، قال خالد : ( وهو في أرض له ، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد وقعقعة الرعد ، فقال لي : ويلك أكنت فاعلاً ؟ فقلت أجل ، فاحمرت عيناه وقال : ياا بن اللخناء أمثلك يقدم على مثلي أو يجسر أن يدير اسمي في لهواته ، في كلام له ، ثم قال : فنكسني والله عن فرسي ولا يمكنني الامتناع منه فجعل يسوقني إلى رحى للحارث بن كلدة ، ثم عمد إلى قطب الرحى الحديد الغليظ الذي عليه مدار الرحى ، فمده بكلتا يديه ولواه في عنقي كما يتفتل الأديم ، وأصحابي كأنهم نظروا إلى ملك الموت ، فأقسمت عليه بحق الله ورسوله فاستحيا وخلى سبيلي ، قالوا : فدعا أبو بكر جماعة من الحدادين فقالوا : إن فتح هذا القطب لا يمكننا إلا أن نحميه بالنار ، فبقي في ذلك أياماً والناس يضحكون منه ، فقيل إن علياً جاء من سفره ، فأتى به أبو بكر إلى علي يشفع إليه في فكه فقال علي : إنه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جموعه : أراد أن يضع مني في موضعي فوضعت منه عندما خطر بباله وهمت به نفسه . ثم قال : وأما الحديد الذي في عنقه فلعله لا يمكنني في هذا الوقت فكه ، فنهضوا بأجمعهم ، فأقسموا عليه فقبض على رأس الحديد من القطب فجعل يفتل منه يمينه شبراً شبراً فيرمي به ) .
وفي رواية الإحتجاج ( 1 / 124 ) : ( فأخذه علي ( عليه السلام ) فجلد به الأرض ، فاجتمع الناس عليه ، فقال عمر يقتله ورب الكعبة ، فقال الناس ، يا أبا الحسن الله الله بحق صاحب القبر . فخلى عنه ثم التفت إلى عمر فأخذ بتلابيبه وقال : يا ابن صهاك والله لولا عهد من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكتاب من الله سبق ، لعلمت أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً . ودخل منزله ) .
وفي رواية أخرى لأبي ذر ( رحمه الله ) ( الإحتجاج : 1 / 117 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخذ خالداً بأصبعيه فعصره عصراً ، فصاح خالد صيحة منكرة ، ففزع الناس وهمتهم أنفسهم ، وأحدث خالد في ثيابه ، وجعل يضرب برجليه الأرض ولا يتكلم ! فقال أبو بكر لعمر : هذه مشورتك المنكوسة ، كأني كنت أنظر إلى هذا وأحمد الله على سلامتنا ، وكلما دنى أحد ليخلصه من يده لحظة تنحى عنه رعباً ، فبعث أبو بكر وعمر إلى العباس فجاء وتشفع
--------------------------- 525 ---------------------------
إليه وأقسم عليه فقال : بحق هذا القبر ومن فيه وبحق ولديه وأمهما ، إلا تركته ، ففعل ذلك وقبَّل العباس بين عينيه ) .

22 . أرسل علي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لتطالب أبا بكر بفدك

إن هدف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من إرسالها للمطالبة بفدك ، أن تسجل موقفاً للتاريخ ، وتكشف التأثير السلبي لعمرعلى أبي‌بكر . ومن جهة أخرى أن تفتح ملف فدك وتحضرالشهود ، وقد شهد الشهود وثبت أن الخليفة صادر أرضاً من بنت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغير حق ، وهذا يطعن في عدالته وخلافته ، ويكشف أن حديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، موضوع .
روى المفيد في الإختصاص / 185 : « قال لها عليٌّ : إئت أبا بكر وحده فإنه أرقٌّ من الآخر ، وقولي له : إدعيت مجلس أبي وأنك خليفته وجلست مجلسه ، ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك ، لوجب ردها عليَّ . فلما أتته وقالت له ذلك قال : صدقت . قال : فدعا بكتاب فكتبه لها برد فدك .
فقال : فخرجت والكتاب معها ، فلقيها عمر فقال : يا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك ؟ فقالت : كتاب كتب لي أبو بكر برد فدك ، فقال : هلميه إلي ، فأبت أن تدفعه إليه ، فرفسها برجله وكانت حاملة بابن اسمه المحسن ، فأسقطت المحسن من بطنها ، ثم لطمها فكأني أنظر إلى قرط في أذنها . .
ثم أخذ الكتاب فخرقه ، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة مما ضربها عمر » .
أقول : يظهر أن ضرب عمر لها كان في آخرمجيئها إلى أبي‌بكر ، ويفهم من نصوص القضية أنها ذهبت أولاً واعترضت ، فطلب أبو بكر منها الشهود ، فجاءت بأم أيمن وشقران ، فكتب لها عدم تعرض ، فخطف الكتاب عمر ومزقه ، ثم جاء علي ( عليه السلام ) واعترض .
وعادت إلى أبي‌بكر فكتب لها مرة ثانية فلحقها عمر وأخذ الكتاب بالقوة ومزقه ،
--------------------------- 526 ---------------------------
ثم عقد أبو بكر جلسة أخرى كان فيها علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتصدى عمر للرد والجواب ، وسكت أبو بكر .
ففي الكافي ( 1 / 543 ) : « فقال لها : إئتني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأم أيمن فشهدا لها ، فكتب لها بترك التعرض ، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال : ما هذا معك يا بنت محمد ؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة ، قال : أرينيه فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه ، فقال لها : هذا ( وأشار إلى رقبته ) لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ، فضعي الحبال في رقابنا » !
أقول : لاحظ هذالجواب الفج المواجه لكتاب الله تعالى وحقوق رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ثم تابعت الزهراء ( عليها السلام ) مطالبتها لأبي‌بكر فطلب الشهود مجدداً فجاء علي ( عليه السلام ) : « شهد لفاطمة عند أبي‌بكر الصديق ومعه أم أيمن ، فقال له أبو بكر : لو شهد معك رجل أو امرأة أخرى لقضيت لها بذلك » . ( المحلى : 9 / 415 ) .
وفي شرح الأخبار ( 3 / 32 ) : « فشهد علي ( عليه السلام ) وأم أيمن وهي ممن شهد له رسول الله بالجنة أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقطع ذلك فاطمة ( عليها السلام ) ، فرد أبو بكر شهادتها وقال : عليٌّ جارٌّ إلى نفسه ، وشهادة أم أيمن وحدها لا تجوز » !
وفي كتاب سُليم / 391 : « فقال عمر : لا تقبل شهادة امرأة عجمية لا تفصح ، وأما علي فيحوز النار إلى قرصه » !
وفي رواية المفيد ( الإختصاص / 183 ) أن عمر كان حاضراً وأن أم أيمن استشهدته على قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « فاطمة سيدة نساء أهل الجنة » فشهد ! فقالت : « فمن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدعي ما ليس لها ؟ وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد إلا بما سمعت من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال عمر : دعينا يا أم أيمن من هذه القصص ، بأي شئ تشهدان ؟ فقال عمر : أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها ، وأما علي فيجر إلى نفسه ! قال : فقامت مغضبة وقالت : اللهم إنهما ظلما ابنة محمد نبيك حقها ، فاشدد وطأتك عليهما » !
وفي رواية أنها جاءت بشاهد حسب طلب أبي‌بكر فرده : « فجاءت بأم أيمن وأسماء
--------------------------- 527 ---------------------------
بنت عميس وعلي ( عليه السلام ) » . ( أصول الأخبار / 71 ) .
وفي رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن فاطمة ( عليها السلام ) جاءت برجل آخر فشهد ، وقد يكون أبا واقد أو شقران : « فشهد على ذلك علي بن أبي طالب ، ومولى لرسول الله وأم أيمن ) . ( الخرائج : 1 / 114 ) .
وروى الطبري في دلائل الإمامة / 119 ، حوار الزهراء ( عليها السلام ) مع أبي‌بكر ، وفيه : « زعمتَ أن النبوة لا تورث وإنما يورث ما دونها ، فما لي أمنع إرث أبي ؟ أأنزل الله في كتابه : إلا فاطمة بنت محمد ، فدلني عليه أقنع به . .
قال : ولم يكن عمر حاضراً ، فكتب لها أبو بكر إلى عامله برد فدك كتاباً فأخرجته في يدها ، فاستقبلها عمر ، فأخذه منها وتفل فيه ومزقه ، وقال : لقد خرف ابن أبي قحافة وظلم ! فقالت له : مالك لا أمهلك الله وقتلك » .
وفي كتاب سُليم / 390 : ( قال : ثم إن فاطمة ( عليها السلام ) بلغها أن أبا بكر قبض فدك . فخرجت في نساء بني هاشم حتى دخلت على أبي‌بكر فقالت : يا أبا بكر ، تريد أن تأخذ مني أرضاً جعلها لي رسول الله ، وتصدق بها عليَّ ، من الوجيف الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ؟ أما كان قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : المرء يحفظ في ولده بعده ؟ وقد علمت أنه لم يترك لولده شيئاً غيرها .
فلما سمع أبوبكرمقالتها والنسوة معها دعا بدواة ليكتب لها . فدخل عمر فقال : يا خليفة رسول الله لا تكتب لها حتى تقيم البينة بما تدعي . فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : نعم ، أقيم البينة . قال : من ؟ قالت : علي وأم أيمن . فقال عمر : لا تقبل شهادة امرأة عجمية لا تفصح ، وأما علي فيحوز النار إلى قرصه ! فرجعت فاطمة ( عليها السلام ) وقد جرعها من الغيظ ما لا يوصف ، فمرضت ) .
وروى في الإحتجاج ( 1 / 127 ) : ( رسالة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى أبي‌بكر لما بلغه عنه كلام بعد منع الزهراء ( عليها السلام ) فدك : شقوا متلاطمات أمواج الفتن بحيازيم سفن النجاة ، وحطوا تيجان أهل الفخر بجميع أهل الغدر ، واستضيئوا بنور الأنوار . اقتسموا مواريث الطاهرات الأبرار ، واحتقبوا ثقل الأوزار ، بغصبهم
--------------------------- 528 ---------------------------
نحلة النبي المختار ، فكأني بكم تترددون في العمى ، كما يتردد البعير في الطاحونة . أما والله لوأذن لي بما ليس لكم به علم ، لحُصِدت رؤسكم عن أجسادكم كحب الحصيد ، بقواضب من حديد ، ولقلعت من جماجم شجعانكم ما أقرح به آماقكم ، وأوحش به محالكم ، فإني مذ عرفت مردي العساكر ، ومفني الجحافل ، ومبيد خضرائكم ، ومخمل ضوضائكم ، وجرار الدوارين ، إذ أنتم في بيوتكم معتكفون ، وإني لصاحبكم بالأمس ، لعمر أبي وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة ، وأنتم تذكرون أحقاد بدر ، وثارات أحد !
أما والله لو قلت ما سبق الله فيكم ، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم ، كتداخل أسنان دوارة الرحى ! فإن نطقتُ يقولون حسداً ، وإن سكتُّ فيقال ابن أبي طالب جزع من الموت ، هيهات هيهات ! الساعة يقال لي هذا وأنا المميت المائت ، وخواض المنايا في جوف ليل حالك ، حامل السيفين الثقيلين ، والرمحين الطويلين ، ومنكس الرايات في غطامط الغمرات ، ومفرج الكربات عن وجه خير البريات ، أيهنوا فوالله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بمحالب أمه .
هبلتكم الهوابل ، لو بحت بما أنزل الله سبحانه في كتابه فيكم ، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة ، ولخرجتم من بيوتكم هاربين ، وعلى وجوهكم هائمين ، ولكني أهون وجدي حتى ألقى ربي ، بيد جذاء صفراء من لذاتكم ، خلو من طحناتكم ، فما مثل دنياكم عندي إلا كمثل غيم علا فاستعلى ثم استغلظ فاستوى ، ثم تمزق فانجلى .
رويداً فعن قليل ينجلي لكم القسطل ، وتجنون ثمر فعلكم مراً ، وتحصدون غرس أيديكم ذعافاً ممقراً ، وسماً قاتلاً ، وكفى بالله حكيماً وبرسول الله خصيماً ، وبالقيامة موقفاً ، فلا أبعد الله فيها سواكم ، ولا أتعس فيها غيركم ، والسلام على من اتبع الهدى ) .
فلما أن قرأ أبو بكر الكتاب رعب من ذلك رعباً شديداً وقال : يا
سبحان الله ما أجرأه عليَّ وأنكله عن غيري . معاشر المهاجرين والأنصار تعلمون أني شاورتكم في ضياع فدك بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقلتم : إن الأنبياء لا يورثون ، وإن
--------------------------- 529 ---------------------------
هذه أموال يجب أن تضاف إلى مال الفيئ ، وتصرف في ثمن الكراع والسلاح ، وأبواب الجهاد ، ومصالح الثغور ، فأمضينا رأيكم ، ولم يمضه من يدعيه ، وهو ذا يبرق وعيداً ، ويرعد تهديداً ، إيلاء بحق محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يمضحها دماً زعافاً !
والله لقد استقلت منها فلم أُقل ، واستعزلتها عن نفسي فلم أُعزل ، كل ذلك كراهية مني لابن أبي طالب وهرباً من نزاعه ! ما لي ولابن أبي طالب أهل نازعه أحد ففلج عليه ؟ !
فقال : له عمر : أبيت أن تقول إلا هكذا ؟ فأنت ابن من لم يكن مقداماً في الحروب ، ولا سخياً في الجدوب . سبحان الله ما أهلع فؤادك ، وأصغر نفسك ، قد صفيت لك سجالاً لتشربها فأبيت إلا أن تظمأ كظمائك ، وأنخت لك رقاب العرب ، وثبت لك الإشارة والتدبير ، ولولا ذلك لكان ابن أبي طالب قد صير عظامك رميماً ، فأحمد الله على ما قد وهب لك مني ، واشكره على ذلك ، فإنه من رقى منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان حقيقاً عليه أن يحدث لله شكراً ، وهذا علي بن أبي طالب الصخرة الصماء ، التي لا ينفجر ماءها إلا بعد كسرها ، والحية الرقشاء التي لا تجيب إلا بالرقى ، والشجرة المرة التي لو طليت بالعسل لم تنبت إلا مراً .
قتل سادات قريش فأبادهم ، وألزم آخرهم العار ففضحهم ، فطب عن نفسك نفساً ، ولا تغرنك صواعقه ، ولا يهولنك رواعده وبوارقه ، فإني أسد بابه قبل أن يسد بابك .
فقال له أبو بكر : ناشدتك الله يا عمر لما أن تركتني من أغاليطك وتربيدك ، فوالله لو هم ابن أبي طالب بقتلي وقتلك لقتلنا بشماله دون يمينه ، وما ينجينا منه إلا إحدى ثلاث خصال : إحداها : أنه وحيد ولا ناصر له ، والثانية : إنه ينتهج فينا وصية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والثالثة : إنه ما من هذه القبائل أحد إلا وهو يتخضمه كتخضم الثنية الإبل أوان الربيع ، فتعلم لولا ذلك لرجع الأمر إليه وإن كنا له كارهين ، أما إن هذه الدنيا أهون إليه من لقاء أحدنا للموت .
أنسيت له يوم أحد ؟ وقد فررنا بأجمعنا ، وصعدنا الجبل ، وقد أحاطت به ملوك
--------------------------- 530 ---------------------------
القوم ، وصناديدهم موقنين بقتله ، لا يجد محيصاً للخروج من أوساطهم ، فلما أن سدد عليه القوم رماحهم نكس نفسه عن دابته حتى جاوزه طعان القوم ، ثم قام قائماً في ركابيه وقد طرق عن سرجه وهو يقول : يا الله يا الله يا جبرئيل يا جبرئيل يا محمد يا محمد النجاة النجاة ، ثم عمد إلى رئيس القوم فضربه ضربة على أم رأسه ، فبقي على فك واحد ولسان ، ثم عمد إلى صاحب الراية العظمى فضربه ضربة على جمجمته ففلقها ، ومرالسيف يهوي في جسده فبراه ودابته بنصفين : ولما أن نظر القوم إلى ذلك انجفلوا من بين يديه ، فجعل يمسحهم بسيفه مسحاً حتى تركهم جراثيم جموداً على تلعة من الأرض ، يتمرغون في حسرات المنايا ، يتجرعون كؤوس الموت ، قد اختطف أرواحهم بسيفه ، ونحن نتوقع منه أكثر من ذلك ، ولم نكن نضبط من أنفسنا من مخافته حتى ابتدئت منك إليه التفاتة ، وكان منه إليك ما تعلم ، ولولا أنه نزلت آية من كتاب الله لكنا من الهالكين ، وهو قوله تعالى : وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُم ، فاترك هذا الرجل ما تركك ولا يغرنك قول خالد أنه يقتله ، فإنه لا يجسر على ذلك ، ولو رام لكان أول مقتول بيده ، فإنه من ولد عبد مناف ، إذا هاجوا هيبوا ، وإذا غضبوا أدموا ، ولا سيما علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) نابها الأكبر ، وسنامها الأطول ، وهامتها الأعظم ، والسلام على من اتبع الهدى ) .
أقول : لا يبعد أن تكون هذه الرسالة من علي ( عليه السلام ) إلى أبي‌بكر ، وجوابها ، وحوار أبي‌بكر مع عمر ، موضوعة . لكنها تدل على ما يعتقده الناس ويتداولونه عن شجاعة علي ( عليه السلام ) ، وجو الرعب من علي ( عليه السلام ) حتى عند الحاكم .

23 . دفاع فاطمة عن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كانت فاطمة الزهرا ( عليها السلام ) تعرف أن أهل السقيفة مصرون على إجبار علي ( عليه السلام ) على بيعتهم ، وأن علياً ( عليه السلام ) مأمور بعدم مقاومتهم بالسيف .
لذلك كان همها عندما هاجموا بيتها أن تمنعهم من أخذه بالقوة ، وإذا غلبوها وأخذوه أن تمنعهم من قتله . وفي مرة حالت بينهم وبينه عند الباب ومنعتهم من أخذه ، وفي مرة أخذوه وذهبت خلفه إلى المسجد تصيح ، واستطاعت أن تخلصه من أيديهم وعادت
--------------------------- 531 ---------------------------
به إلى البيت . وفي المرة الأخيرة أرادت منعهم من أخذه فضربها عمر ، فلم يصبر علي ( عليه السلام ) فأمسك بتلابيب عمر ورفعه وجلد به الأرض : ( فوثب علي ( عليه السلام ) فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله ، فذكر قول رسول الله وما أوصاه به فقال : والذي كرم محمداً بالنبوة يا ابن صهَّاك ، لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلمت أنك لا تدخل بيتي ) . ( كتاب سليم / 150 ) .
وفي مرة : ( ثار علي ( عليه السلام ) إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه ، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه وضبطوه ، فألقوا في عنقه حبلاً وحالت بينهم وبينه فاطمة ( عليها السلام ) عند باب البيت ، فضربها قنفذ الملعون بالسوط ! فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدُّمْلُج من ضربته ) : أي ورمٌ جامد .
وفي الإختصاص / 186 : ( فخرجت فاطمة ( عليها السلام ) فقالت : يا أبا بكر وعمر تريدان أن ترمِّلاني من زوجي ! والله لئن لم تكفَّا عنه لأنشرن شعري ولأشقَّن جيبي ، ولآتين قبر أبي ولأصيحن إلى ربي ! فخرجت وأخذت بيد الحسن والحسين متوجهة إلى القبر ! فقال علي لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمد . الخ . ) .
وفي الكافي ( 8 / 237 ) : ( عن أبي هاشم قال : لما أُخرج بعلي ( عليه السلام ) خرجت فاطمة ( عليها السلام ) واضعة قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على رأسها ، آخذة بيدي إبنيها فقالت : مالي ومالك يا أبا بكر ، تريد أن تؤتم ابني وترملني من زوجي ، والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي ! فقال رجل من القوم : ما نريد إلى هذا ! ثم أخذت بيده فانطلقت به ) !
وفي الإحتجاج ( 1 / 113 ) : عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( لما استُخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من منزله خرجت فاطمة صلوات الله عليها خلفه ، فما بقيت امرأة هاشمية إلا خرجت معها ، حتى انتهت قريباً من القبر فقالت لهم : خلوا عن ابن عمي ، فوالذي بعث محمداً أبي بالحق إن لم تخلوا عنه لأنشرنَّ شعري ولأضعن قميص رسول الله على رأسي ، ولأصرخن إلى الله تبارك وتعالى ، فما
--------------------------- 532 ---------------------------
صالحٌ بأكرمَ على الله من أبي ، ولا الناقةُ بأكرم مني ، ولا الفصيلُ بأكرم على الله من ولديَّ !
قال سلمان رضي الله عنه : كنت قريباً منها ، فرأيت والله أساس حيطان مسجد رسول الله تقلعت من أسفلها ، حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ ، فدنوت منها فقلت : يا سيدتي ومولاتي إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمةً فلا تكوني نقمة ، فرجعت ورجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها ، فدخلت في خياشيمنا ) .
أقول : رؤية سلمان رضي الله عنه ارتفاع جدران المسجد ، قد تكون حقيقية وقد تكون بالكشف .

24 . طالبت فاطمة بحق علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فعلها وكلامها وخطبها

ومن كلامها ( عليه السلام ) في توبيخ الصحابة ، ما رواه ابن الأثير في كتابه : منال الطالب في شرح طوال الغرائب / 533 . طبعة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، بجامعة أمّ القرى بمكة المكرمة ، بالمملكة العربية السعودية . . .
قال ابن الأثير بعد أن أورد خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : حديث آخر لفاطمة رضي الله عنها : روي أنها مرِضتْ قبل وفاتها فدخلَ إليها نساءُ المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها فقلن لها : كيف أصبحتِ من علتك يا ابنة رسول الله ؟ فقالت :
أصبحتُ والله عائفةً لدنياكنّ ، قاليةً لرجالكن ، لفظتهم بعد أنْ عجمتهم ، وشنئتهم بعد أنْ سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحدّ وخطل الرأي وخور القناة ! لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ! لقد قلَّدتهم ربقتها ، وشنَّت عليهم غارتها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين .
ويحهم أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين ! ما الذي نقموا من أبي الحسن ؟ نقموا والله شدة وطأته ونكال وقعته ، ونكير سيفه ، وتنمّره في ذات الله . وأيم الله لو تكافؤوا على زمام نبذه إليه رسول الله ، لسار بهم سيراً سُجُحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفّتاه ، ولأصدرهم بطاناً قد تخير بهم الريُّ ، غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض .
--------------------------- 533 ---------------------------
ألا هلمَّ فاعجب وما عشت أراك الدهر عجباً ! فرغماً لمعاطس قومٍ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ! ولعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ! ثم احتلبوا طلاعَ القعب دماً عبيطاً ، وذعاقاً ممقراً ! فهنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبَّ ما أسّس الأولون ! فطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وطامنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيفٍ صارم ، وهرج شامل ، يدع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً .
فيا حسرة عليكم وأنى بكم وقد عميت عليكم ! أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لهَا كارِهُونْ .
قال ابن الأثير : هذا طرف من حديث أطول منه يروى من طريق أهل‌البيت ) . ( رواه الصدوق في معاني الأخبار / 354 ، والطوسي في الأمالي / 374 ، والجوهري في السقيفة / 120 ، وشرح نهج البلاغة : 16 / 233 وبلاغات النساء / 23 ) .

25 . خطبة فاطمة الزهراء في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

ومن العجيب أن الوهابية نشروها بتحقيق الدكتور الفاضل محمود محمد الطناحي ، ضمن كتاب منال الطالب في شرح طوال الغرائب ، لابن الأثير مجد الدين المبارك بن محمد - 544 - 606 ه - ، وهي في الصفحات : 501 - 534 . والكتاب من سلسلة ( من التراث الإسلامي ) منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، بجامعة أمّ القرى بمكّة المكرّمة ، بالمملكة العربية السعودية . . .
وسوف نورد الخطبة كاملة مع شرحها في سيرة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ، ونورد هنا ما يتعلق بسيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
قالت زينب بنت علي بن أبي طالب : لَمّا بلغ فاطمة إجْماَع أَبي بَكْرٍ عَلى مَنْعها حقَّها من فَدَكٍ لاثَتْ خِمارَها وَاشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها ، وَأَقْبَلَتْ في لُمَّةٍ مِنْ حَفَدَتِها وَنِساءِ قَوْمِها تجُرُّ أدْراعَها ، وتَطَأُ ذُيُولَها ، لا تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسُولِ اللهِ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حَتَّى دَخَلَتْ عَلى أبِي بَكْرٍ ، وَهُوَ فِي حَشَدٍ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنْصارِ وَغَيْرِهِمْ . فَنِيطَتْ دُونَها مُلاءَةٌ ، فَجَلَستْ ثُمّ أنَّتْ أنَّةً أجْهَشَ لَها القَوْمُ بِالْبُكاءِ والنحيب ، فَارْتَجَّ الَمجْلِسُ ، ثُمَّ أمْهَلَتْ هُنَيَّةً حَتّى إِذا سَكَنَ نَشِيجُ القَوْمِ وهَدَأتْ فَوْرَتُهُمْ وسكنت روعتهم ، افْتَتَحَتِ الكَلامَ
--------------------------- 534 ---------------------------
بالِحَمْدِ للهِ وَالثَّناءِ عَلَيْهِ ، وَالصَلاةِ عَلى رَسُولِهِ في كلام طويل من الثناء والتحميد ، فَعادَ الَقْومُ فِي بُكائِهِمْ ، فَلمَّا أمْسَكُوا عَادَتْ فِي كَلامِها فَقَالَتْ ( عليها السلام ) :
وَأشْهَدُ أنَّ أَبي مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، اخْتَارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أنْ أرْسَلَهُ ، وَسَمَّاهُ قَبْلَ أنْ إجْتَبَلَهُ ، وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أنْ ابْتَعَثَهُ إِذِ الخَلائِقُ بِالْغَيْبِ مَكْنُونَةٌ ، وَبِسَتْرِ الأهاوِيلِ مَصُونَةٌ ، وَبِنهايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعالَى بِمآئِلِ الأُمُورِ ، وَإِحاطَةً بِحَوادِثِ الدهُورِ ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ المقدُورِ . . .
ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إلَيْهِ قَبْضَ رَأفَةٍ وَاخْتِيارٍ ، وَرَغْبَةٍ وَإيثارٍ ، فَمُحَمَّدٌ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فِي راحَةٍ مِنْ تَعَبِ هذِهِ الدّارِ ، مَوضُوعَاً عَنْهُ أعْباءُ الأَوْزارِ ، وَمَحْفُوفَاً بِالْملاَئِكَةِ الأَبْرارِ ، وَرِضْوانِ الربِّ الغَفَّارِ ، وَمُجاوَرَةِ المَلِكِ الجَبَّارِ ، صَلَّى الله على أبي نَبِيِّهِ وَأمِينِهِ عَلى الَوحْي وَصَفِيهِ ، وَخِيَرَتِهِ مِنَ الخَلْقِ وَرَضِيّهِ ، وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ . . .
أيها النّاسُ : أنَا فَاطِمَةُ وَأبِي مُحَمَّدٌ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أقُولُها حَقَّاً عَوْدَاً وَبَدْءاً ، ما أقُولُ إذ أقُولُ غَلَطَاً ، وَلاَ أفْعَلُ مَا أفْعَلُ سرفاً ولا شَطَطَاً . لَقَدْ جَاءَ كُمْ رَسُولٌ مِنَ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ . فَإِنْ تَعْزُوهُ تَجِدُوهُ أبِي دُونَ نِسائِكُمْ ، وَأخا ابْنِ عَمي دُونَ رِجالِكُمْ ، وَلَنِعْمَ المَعْزِي إلَيْهِ صلّى الله عليه ، فَبَلَّغَ النذارَةَ صَادِعَاً بِالرسَالَةِ ، ناكباً عَنْ سنن المُشْرِكِينَ ، ضَارِباً لأثْباَجِهِمْ ، آخِذَاً بِأكْظامِهِمْ ، دَاعِيَاً إلى سَبِيلِ رَبّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ . .
ثمّ التفتت ( عليها السلام ) إلى أهل المجلس وقالت :
وكُنْتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّار ، مُذقةَ الشارب ، ونهزةَ الطامع ، وقبسةَ العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطَّرَق ، وتقتاتون القِدّ ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُني ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون
--------------------------- 535 ---------------------------
بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال !
فلما اختار الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسَمُلَ جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم . هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ .
فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنى تؤفكون ! وكتاب الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ، أم بغيره تحكمون ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً . وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ . ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تُورون وَقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهمال سنن النبي الصفي ، تشربون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء ، ويصبر منكم على مثل حز المدى ، ووخز السنان في الحشا . وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ( تبغون ) وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . . !
فَالْتَفَتَتْ فاطِمَةُ ( عليها السلام ) إلى النَّاسِ وَقَالَتْ : مَعاشِرَ النَّاسِ المُسْرِعَةَ إلى قِيلِ الباطِلِ ، المُغْضِيَةَ إلى الفِعْلِ الخاسِرِ ، أفَلا تَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها . كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِكُمْ ما أسَأتُمْ مِنْ أعْمالِكُمْ ، فَأخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأبْصارِكُمْ . .
ثُمَّ انكفأت إلي قبر أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متمثّلة بقول صفية بنت عبد المطلب وقيل أمامة :
قَدْ كانَ بَعْدَكَ أنْباءٌ وَهَنْبَثَةٌ * لَوْ كُنْتَ شاهِدَها لَمْ تَكْثُرِ الخُطَبُ
إِنّا فَقَدْناكَ فَقْدَ الأَرْضِ وَاِبلَها * وغاب مذْ غِبْتَ عنّا الوحيُ والكُتُبُ
--------------------------- 536 ---------------------------
تَهَضَّمَتْنا رِجالٌ وَاسْتُخِفَّ بِنا * إذْ بِنْتَ عنّا فنحن اليوم نُغْتَصَبُ
أبْدَتْ رِجالٌ لَنا نَجوْى صُدُورِهِمُ * لَمَّا فُقِدْتَ وَحالَتْ دُونَكَ الكُثُبُ
قال : فما رأينا يوماً أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم . ثُمَّ انكَفَأتْ وَأمِيرُ المُؤمِنِينَ يَتَوَقَّعُ رُجُوعَها إلَيهِ وَيَتَطَلَّعُ طُلُوعَها عَلَيْهِ ، فَلمَّا اسْتَقَرَّتْ بِها الدَّارُ قَالَتْ لأَمِيرِ المُؤمِنينَ ( عليه السلام ) : يا ابْنَ أبِي طالِبٍ اشْتَمَلْتَ شِمْلَةَ الجَنِينِ ، وَقَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَنِينِ ، نَقَضْتَ قادِمَةَ الأَجْدَلِ ، فَخانَكَ رِيشُ الأَعْزَلِ ، هَذا ابْنُ أبِي قُحافَةَ يَبْتَزنِي نِحْلَةَ أبِي وَبُلْغَةَ ابْنَيَّ ، لَقَدْ أجْهَدَ فِي خِصامِي ، وَألْفَيْتُهُ ألَدَّ فِي كَلاَمِي ، حَتَّى حَبَسَتْنِي قَيْلَةُ نَصْرَها ، وَالمُهاجِرَةُ وَصْلَهَا ، وَغَضَّتِ الجَماعَةُ دُونِي طَرْفَها ، فَلا دافِعَ وَلا مانِعَ ! خَرَجْتُ كاظِمَةً ، وَعُدْتُ راغِمَةً . . أضْرَعْتَ خَدَّكَ يَوْمَ أضَعْتَ حَدَّكَ ، افْتَرَسْتَ الذئابَ وَافْتَرَشْتَ الترابَ ، مَا كَفَفْتَ قائِلاً ، وَلا أغْنَيْتَ طائِلاً . وَلا خِيارَ لِي ، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هُنيَّتي وَدُونَ ذِلَّتِي !
عَذِيريَ اللهُ مِنْهُ عادِياً ، وَمِنْكَ حامِياً ، وَيْلايَ فِي كُلّ شارِقٍ وَغارِبٍ ، ماتَ العَمَدُ ، وَوَهَتِ العَضُدُ ، شَكْوايَ إلى أبِي ، وَعَدْوايَ إلى رَبي ، اللهمَ إنَّكَ أشَد قُوَّةً وَحَوْلاً ، وأحَد بَأسَاً وَتَنكِيلاً .
فَقَالَ لَهَا أمِيرُ المُؤمِنِينَ ( عليه السلام ) : لا وَيْلَ لَكِ بَلِ الوَيْلُ لِشانِئِكِ ، ثُمَّ نَهْنِهِي عَنْ وَجْدِكِ يابْنَةَ الصَّفْوَةِ ، وَبَقِيَّةَ النبُوَّةِ ، فَما وَنَيْتُ عَنْ دِيِني ، وَلا أخْطَأتُ مَقْدُورِي ، فَاِنْ كُنْتِ تُريِدِينَ البُلْغَةَ فَرِزْقُكِ مَضْمُونٌ ، وَكَفِيلُكِ مَأمُونٌ ، وَما أُعِدَّ لَكِ أفْضَلُ مِمّا قُطِعَ عَنْكِ ، فَاحْتَسِبِي اللهَ . فَقَالَتْ : حَسْبِيَ اللهُ ، وَأمْسَكَتْ ) . ( راجع : معاني الأخبار / 354 ، والطوسي في الأمالي / 374 ، والجوهري في السقيفة / 120 ، وشرح نهج البلاغة : 16 / 233 وبلاغات النساء / 23 ) .

26 . جواب علي ( عليه السلام ) على عتاب فاطمة ( عليها السلام )

في الإحتجاج ( 1 / 144 ) : ( فلما استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا ابن أبي طالب . . وروى نحو ما تقدم . . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا ويلَ لك ، بل الويل لشانئك ، ثم نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة ، وبقية النبوة ، فما ونيتُ عن ديني ، ولا أخطأتُ مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما
--------------------------- 537 ---------------------------
أعد لك أفضل مما قطع عنك ، فاحتسبي الله . فقالت : حسبي الله . وأمسكت ) .
ومعنى كلامها ( عليها السلام ) : يا علي مالك تلفعت بالشملة كالصبي ، وقعدت عن العمل كالبخيل ، وكأنك طائر قصصتَ ريشه فلم يستطع الطيران بالزغب ، أما ترى أبا بكر غصب مني نحلة أبي ومصرف أولادي ، لقد تمحل جاهداً في خصومتي ، وجادلني بعداوة ، ولم تنصرني الأنصار مع واجب حقي عليهم ، ولم ترعَ المهاجرة نسبي من قريش ، وتعامى عني المسلمون ، فلا مدافع عني ولا ممانع من ظلمي وقد خرجت إلى المسجد أكظم غيضي ، وعدت مرغمة بعناده معي وأنت يا علي اضطررت أن تضرع وتخضع يوم تركت سل سيفك ! ومن حولك تفترس الذئاب ، وأنت تفترش التراب ، ما كففت عني مخاصماً ، ولا نفعتني في شئ ، وأنا مكتوفة اليدين ! ليتني مت قبل أجلي وقبل أن أرى المذلة ، ليَ الله منه معتدياً عليَّ ، وليَ الله منك مسؤولاً عن حمايتي !
ويلي عند كل شروق وغروب ، لقد مات أبي وعمادي ، ووهنت قوتي .
شكواي إلى أبي ، وطلبي من ربي الانتقام من أبي‌بكر . اللهم إنك أشد قوة وحولاًمن ظالميَّ ، وأشد بأساً وتنكيلاً .
وقد استبعد بعضهم أن يصدر مثل هذا الكلام من الزهراء ( عليها السلام ) ، لأنه توبيخٌ لأمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يتناسب مع مقامه ولا مقامها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقد تصور هؤلاء أن المقصود بكلامها الإمام ( عليه السلام ) ، لكنها تخاطب الأمة ، وتسجل موقفاً للتاريخ ، وأنها غضبى ، وأن واجب المسلمين نصرتها ، وواجب علي ( عليه السلام ) قبلهم ، لكنه مأمور بالصبر إن لم يجد ناصراً ، والمسلمون غير مأمورين بذلك ، فلا عذر لهم !
ويوجد مثل هذا الخطاب في القرآن ، ظاهره عتب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتهديد له ، وواقعه عتب على الناس وتوبيخ لهم وتهديد . كقوله تعالى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . وقوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ . وقوله تعالى : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . وقوله تعالى : وَلا تَكُنْ للَّخَائِنِينَ خَصِيمًا . وكلها يقصد بها تفهيم غيره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 538 ---------------------------
27 . لماذا سمح علي ( عليه السلام ) لأبي‌بكر وعمر بزيارة فاطمة ( عليها السلام ) ؟
روى سليم بن قيس في كتابه / 391 : ( كان علي ( عليه السلام ) يصلي في المسجد الصلوات الخمس ( مفرداً ) فكلما صلى قال له أبو بكر وعمر : كيف بنت رسول الله ؟ إلى أن ثقلت ، فسألا عنها وقالا : قد كان بيننا وبينها ما قد علمت ، فإن رأيت أن تأذن لنا فنعتذر إليها من ذنبنا ؟ قال ( عليه السلام ) : ذاك إليكما . فقاما فجلسا بالباب ودخل علي على فاطمة ( عليها السلام ) فقال لها : أيتها الحرة ، فلان وفلان بالباب يريدان أن يسلما عليك ، فما ترين ؟ قالت : البيت بيتك والحرة زوجتك فافعل ما تشاء .
فقال : شدي قناعك فشدت قناعها وحولت وجهها إلى الحائط ، فدخلا وسلما وقالا : إرضي عنا رضي الله عنك . فقالت : ما دعاكما إلى هذا ؟ فقالا : اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا وتخرجي سخيمتك . فقالت : فإن كنتما صادقين فأخبراني عما أسألكما عنه ، فإني لا أسألكما عن أمر إلا وأنا عارفة بأنكما تعلمانه ، فإن صدقتما علمت أنكما صادقان في مجيئكما . قالا : سلي عما بدا لك . قالت : نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : فاطمة بضعة مني ، فمن آذاها فقد آذاني ؟ قالا : نعم . فرفعت يدها إلى السماء فقالت : اللهم إنهما قد آذياني ، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك .
لا والله لا أرضى عنكما أبداً حتى ألقى أبي رسول الله وأخبره بما صنعتما ، فيكون هو الحاكم فيكما !
قال : فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور وجزع جزعاً شديداً . فقال عمر : تجزع يا خليفة رسول الله من قول امرأة ؟ ) .
وقال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 115 ) : ( استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما ، فلما طال عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه ، فكلمها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ، ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما ، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أليس قد صنعت ما أردت ؟ قال نعم قالت : فهل أنت صانع ما آمرك قال : نعم . قالت : فإني أنشدك الله أن لا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري ) .
--------------------------- 539 ---------------------------
وقال الطبري الشيعي في دلائل الإمامة / 134 : ( وكان الرجلان من أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سألا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يشفع لهما إليها ، فسألها أمير المؤمنين فأجابت ، فلما دخلا عليها قالا لها : كيف أنت يا بنت رسول الله ؟ قالت : بخير بحمد الله . ثم قالت لهما : ما سمعتما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ؟ قالا : بلى . قالت : فوالله ، لقد آذيتماني . قال : فخرجا من عندها وهي ساخطة عليهما ) .
وفي رواية عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( البحار : 29 / 158 ) : ( عن أسماء بنت عميس قالت : طلب إلي أبو بكر أن استأذن له على فاطمة يترضاها ، فسألتها ذلك فأذنت له ، فلما دخلت ولت وجهها الكريم إلى الحائط ، فدخل وسلم عليها فلم ترد ، ثم أقبل يعتذر إليها ويقول : إرضيْ عني يا بنت رسول الله . فقالت : يا عتيق ، حملت الناس على رقابنا ! أخرج ، فوالله ما كلمتك أبداً حتى ألقى الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأشكوك إليهما ) .
ومن صحاح أخبارهم ، ما رواه البخاري ( 4 / 41 ) : ( فغضبت فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 30 ) وكحالة في أعلام النساء ( 3 / 1214 ) : ( فقال عمر لأبي‌بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً فكلماه فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام ! فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله ! والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي ، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أني متُّ ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ، إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول : لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة . فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تعرفانه وتفعلان به ؟ قالا : نعم . فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن
--------------------------- 540 ---------------------------
أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه ! فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها !
ثم خرج باكياً فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ! لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي ! قالوا : يا خليفة رسول الله ، إن هذا الأمر لا يستقيم ، وأنت أعلمنا بذلك ، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين . فقال : والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة ، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة ) .

28 . وصية فاطمة لعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وقد أوصت فاطمة علياً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن يدفنها ليلاً سراً ، ولايأذن لهما بالصلاة عليها .
ففي معاني الأخبار / 356 ، قال ( عليه السلام ) : ( لما حضرت فاطمة الوفاة دعتني فقالت : أمنفذٌ أنت وصيتي وعهدي ؟ قال قلت : بلى أنفذها . فأوصت إليَّ ، وقالت : إذا أنا متُّ فادفني ليلاً ، ولا تؤذننَّ رجلين ، ذكرتهما ) .
وفي رواية : غسلها علي ( عليه السلام ) في قميصها ، ثم حنطها من فضلة حنوط رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكفنها . قال : فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت : يا أم‌كلثوم ، يا زينب ، يا سكينة ، يا فضة ، يا حسن ، يا حسين . هلموا تزودوا من أمكم ، فهذا الفراق واللقاء في الجنة . فلما أقبل الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكلماها ، يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إني أشهد الله أنها قد حنَّت وأنَّت ومدَّت يديها وضمتهما إلى صدرها ملياً . وإذا بهاتف من السماء ينادي : يا أبا الحسن إرفعهما عنها ، فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات ، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب . قال : فرفعتهما عن صدرها .
ثم ذكر ( عليه السلام ) أنه عقد الرداء ، ثم حملها على يده وأقبل بها إلى قبر أبيها ، ثم عدل بها إلى الروضة ، فصلى عليها في أهله ومواليه وأصحابه وأحبائه ، وطائفة من المهاجرين
--------------------------- 541 ---------------------------
والأنصار . ثم واراها وألحدها في لحدها . ( البحار : 43 / 179 ) .
وفي كتاب سليم بن قيس / 392 : ( قال ابن عباس : فقبضت فاطمة من يومها فارتجَّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان له : يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله . . فلما كان في الليل دعا علي العباس والفضل والمقداد وسلمان وأبا ذر وعماراً ، فقدم العباس فصلى عليها ودفنوها .
فلما أصبح الناس أقبل أبو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة ( عليها السلام ) فقال المقداد : قد دفنا فاطمة البارحة ! فالتفت عمر إلى أبي‌بكر فقال : ألم أقل لك إنهم سيفعلون ! قال العباس : إنها أوصت أن لا تصليا عليها ! فقال عمر : والله لا تتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبداً ! إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب ! والله لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها ! فقال علي : والله لو رمت ذلك يا ابن صهَّاك لا رجعتْ إليك يمينك ! والله لئن سللت سيفي لا أغمدته دون إزهاق نفسك ، فَرُمْ ذلك ! فانكسر عمر وسكت ، وعلم أن علياً ( عليه السلام ) إذا حلف صدق ) .
وفي رواية روضة الواعظين للنيسابوري / 151 : ( فقالت : يا ابن عم إنه قد نُعِيَتْ إليَّ نفسي وإنني لأرى ما بي ، لا أشك إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة ، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي . قال لها علي : أوصني بما أحببت يا بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت .
ثمّ قالت : يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني ، فقال علي : معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم ، وأشد خوفاً من الله أن أوبخك غداً بمخالفتي ، فقد عز عليَّ مفارقتك وفقدك ، إلاّ أنه أمر لا بد منه ، والله جدد عليَّ مصيبة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها ، هذه والله مصيبة لا عزاء عنها ورزية لا خلف لها .
--------------------------- 542 ---------------------------
ثم بكيا جميعاً ساعة وأخذ علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأسها وضمها إلى صدره ، ثم قال : أوصيني بما شئت ، فإنك تجديني وفياً أمضي كل ما أمرتني به ، وأختار أمرك على أمري .
ثم قالت : جزاك الله عني خير الجزاء يا ابن عم ، أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإن الرجال لا بد لهم من النساء . قال : فمن أجل ذلك قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أربعة ليس إلى فراقهن سبيل : أمامة أوصتني بها فاطمة ، ثم قالت أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً ، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته ، فقال لها : صفيه إلي فوصفته فاتخذه لها ، فأول نعش عمل في وجه الأرض ذلك ، وما رأى أحد قبله ولا عمل أحد .
ثم قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي ، فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله ، وأن لا يصلي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم . وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار .
ثم توفيت صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها ، فصاح أهل المدينة صيحة واحدة ، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخن صرخة واحدة ، كادت المدينة أن تزعزع من صراخهن وهن يقلن : يا سيدتاه يا بنت رسول الله !
وأقبل الناس مثل عُرْف الفرس إلى علي وهو جالس والحسن والحسين بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما ، وخرجت أم‌كلثوم وعليها برقعة وتجر ذيلها ، متجللة برداء عليها تسحبه وهي تقول : يا أبتاه يا رسول الله ، الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده ، واجتمع الناس ، فجلسوا وهم يرجون وينظرون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها .
وخرج أبو ذر فقال : انصرفوا فإن ابنة رسول الله قد أخر إخراجها في هذه العشية . فقام الناس وانصرفوا . فلما أن هدأت العيون ومضى من الليل أخرجها علي والحسن والحسين وعمار والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان وبريدة ، ونفر من بني هاشم وخواصهم ، صلوا عليها ودفنوها في جوف الليل ، وسوَّى عليٌّ حواليها قبوراً مزورة مقدار سبعة ، حتى لا يعرف قبرها ) .
وفي رواية : أتاه أبو بكر وعمر وقالا : لم لاتخرجها حتى نصلي عليها ، فقال : ما أرانا
--------------------------- 543 ---------------------------
إلا سنصبح . وخرج أبو ذر وقال : انصرفوا فإن ابنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أُخِّرَ إخراجها في هذه العشية . فقام الناس وانصرفوا ، فدفنها ( عليه السلام ) في الليل . .
وفي رواية : فضج الناس ، ولام بعضهم بعضاً ، وقالوا : لم يخلِّف نبيكم فيكم إلا بنتاً واحدة ، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها ، ولا تعرفون قبرها !
وفي رواية : أنهم أرادوا أن يأتوا بنساء لنبش قبر الزهراء والصلاة عليها ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين فخرج مغضباً وقد احمرت عيناه ، ودرت أوداجه ، وعليه قباؤه الأصفر ، الذي كان يلبسه في كل كريهة ، وهو متوكئ على سيفه ذي الفقار حتى ورد البقيع ، وهو يقسم بالله : لئن حول من هذه القبور حجر ، ليضعن السيف على غابر الآخِر ، فلما بلغهم خبرمجيئه على هذا الحال تلقاه عمر ومن معه من أصحابه ، وقال له : ما لك يا أبا الحسن ! والله لننبشن قبرها ، فضرب علي ( عليه السلام ) بيده إلى جوامع ثوبه ثم ضرب به الأرض ، وقال له : يا بن السوداء ، أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتد الناس عن دينهم ، وأما قبر فاطمة ، فوالذي نفس علي بيده ، لئن رمت وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقين الأرض من دمائكم ، فإن شئت فاعرُض يا عمر !
فتلقاه أبو بكر فقال : يا أبا الحسن ، بحق رسول الله وبحق من فوق العرش إلا ما خليت عنه ، فإنَّا غير فاعلين شيئاً تكرهه .
قال : فخلى عنه ، وتفرق الناس ، ولم يعودوا إلى ذلك . ( دلائل الإمامة / 137 ) .
وهكذا استثمرت الزهراء ( عليها السلام ) موتها وجنازتها وموضع قبرها في معارضة السلطة ! تقول للأجيال : إفهموا لماذا غضبت فاطمة عليهم ، فقاطعتهم حتى لقيت ربها وأباها ؟ ولماذا أوصت أن لا يحضروا جنازتها ولا يصلوا عليها ! ولماذا أوصت أن يعفَّى قبرها ولا يعرف !

29 . كلام علي ( عليه السلام ) على قبر فاطمة ( عليها السلام )

في أمالي المفيد / 281 ، عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : ( فلما حضرتها الوفاة أوصت أمير المؤمنين أن يتولى أمرها ويدفنها ليلاً ويعفي قبرها ! فتولى ذلك
--------------------------- 544 ---------------------------
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ودفنها ، وعفى موضع قبرها ، فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خديه ، وحول وجهه إلى قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال :
السلام عليك يا رسول الله مني ، والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك ، والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار لها الله سرعة اللحاق بك . قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، وضعف عن سيدة النساء تجلدي ، إلا أن في التأسي لي بسنتك والحزن الذي حل بي بفراقك ، موضع التعزي ، فلقد وسدتك في ملحود قبرك ، بعد أن فاضت نفسك على صدري ، وغمضتك بيدي ، وتوليت أمرك بنفسي .
نعم وفي كتاب الله أنعم القبول : إنا لله وإنا إليه راجعون . لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، واختلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء . يا رسول الله ! أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهد ، لا يبرح الحزن من قلبي ، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم . كَمَدٌ مُقيح ، وهَمٌّ مُهيج . سرعان ما فرق بيننا ، وإلى الله أشكو .
وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك عليَّ ، وعلى هضمها حقها ، فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً ! وستقولُ ويحكم الله ، وهو خير الحاكمين .
سلام عليك يا رسول الله سلام مودع ، لاسئمٍ ولا قالٍ ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ، والصبر أيمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً ، واللبث عنده معكوفاً ، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية ! فبعين الله تدفن ابنتك سراً ، وتهتضم حقها قهراً ، وتمنع إرثها جهراً ، ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر ! فإلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك أجمل العزاء . وصلوات الله عليك وعليها ، ورحمة الله وبركاته ) .

30 . لماذا ترك علي ( عليه السلام ) فدكاً ولم يأخذها في خلافته ؟

أورد الصدوق ( قدس سره ) في علل الشرائع ( 1 / 154 ) جوابين للإمام الصادق ( عليه السلام ) في العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فدكاً لما وليَ الناس ، يقول أولهما إن الظالم والمظلوم قدما على الله تعالى ، ويقول الثاني إنه اقتدى برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما فتح مكة وقد باع عقيل بن أبي طالب داره ، فقيل له يا رسول الله ألا ترجع إلى دارك ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وهل ترك
--------------------------- 545 ---------------------------
عقيل لنا داراً ، إنا أهل بيت لانسترجع شيئاً يؤخذ منا ظلماً ، فلذلك لم يسترجع فدك لما وليَ .
وأورد جواباً عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) يقول : لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو ، عز وجل ، ونحن أولياء المؤمنين . إنما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم ، ولا نأخذ لأنفسنا .
وهي أجوبة سياسية لتعليم الشيعة وإسكات الخصم . أما السبب الأساسي فهو أنه ( عليه السلام ) كان يعلم أن الغلبة ستكون لغيره وأنهم سيأخذون فدك بعده ، فتركها . وقد نص ( عليه السلام ) على أنه ترك تحريفات قام بها الحكام قبله ، لأن العامة أشربوا حبها ، ولا يتقبلون إرجاعها إلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكان ( عليه السلام ) يعلم أن أبا بكر وعمر اتخذوا قراراً مشدداً بإفقارهم ومصادرة كل ماليتهم !
جاء في مجمع الزوائد ( 9 / 39 ) عن عمر ، أنه لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا : ما تقول في ما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله ! قال فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك ! فقلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير !
قال ( عليه السلام ) كما في الكافي ( 8 / 59 ) : ( إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة ، فإذا غير منها شئ قيل : قد غيرت السنة ، وقد أتى الناس منكراً !
ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب ، وكما تدق الرحا بثفالها ، ويتفقهون لغير الله ، ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة . ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال :
قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيرين لسنته ، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي ، الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله
--------------------------- 546 ---------------------------
عز وجل وسنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ( عليها السلام ) ، ورددت صاع رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضي بها ، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن ، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأرحام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ، وألقيت المساحة ، وسويت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه ، وحرمت المسح على الخفين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجده ممن كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أدخله ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائرالأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ،
إذاً لتفرقوا عني !
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة ، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ! !
ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة ، وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار !
--------------------------- 547 ---------------------------
وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل : إن كنتم آمنتم بالله وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ . فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال تعالى : فَللَّهِ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، فينا خاصة ، كَىْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ في ظلم آل محمد ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، لمن ظلمهم .
رحمة منه لنا ، وغنىً أغنانا الله به ، ووصى به نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً ، أكرم الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأكرمنا أهل‌البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس ، فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا ! ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
والله المستعان على من ظلمنا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) .
* *
--------------------------- 548 ---------------------------

الفصل الخامس والعشرون: علي ( عليه السلام ) يمنع انهيارالدولة في عهد أبي‌بكر

موجة الردة وادعاء النبوة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

راجع لتفصيل هذا الموضوع كتابنا الثلاثة : قراء جديدة في حروب الردة ، وقراءة جديدة في الفتوحات . فقد فصلنا فيها دورأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وتلاميذه القادة ، في قمع الردة وفي حروب الفتوحات . ونذكر هنا خلاصة في سياقها من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
قال ابن واضح اليعقوبي ( 2 / 128 ) يصف الردة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « وتنبأ جماعة من العرب ، وارتد جماعة ووضعوا التيجان على رؤوسهم ، وامتنع قوم من دفع الزكاة إلى أبي‌بكر . . » .
وقال الطوسي في المبسوط ( 7 / 267 ) : « أهل الردة بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضربان : منهم قوم كفروا بعد إسلامهم مثل مسيلمة وطليحة والعنسي وأصحابهم ، وكانوا مرتدين بالخروج من الملة بلا خلاف . والضرب الثاني : قوم منعوا الزكاة مع مقامهم على الإسلام وتمسكهم به ، فسموا كلهم أهل الردة ، وهؤلاء ليسوا أهل ردة عندنا وعند الأكثر » .
وقال الزمخشري في الكشاف : 1 / 620 : « وقيل بل كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة . .
أقول : تعدادهم للمرتدين غير دقيق ، فبعضهم اعترضوا على خلافة أبي‌بكر فسموهم مرتدين ، مثل بني يربوع من بني تميم ، الذين كان رئيسهم مالك بن نويرة رضي الله عنه صحابياً جليلاً شهد له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالجنة . وعندما أرسل أبو بكر خالداً لقتال طليحة ، أمره أن يقتل مالك بن نويرة بتهمة الردة حتى لايفتق عليه فتقاً ، فذهب خالد واحتال على مالك وقتله غدراً ، وأخذ زوجته !
--------------------------- 549 ---------------------------
وقد اعترض عليه عدد من الصحابة كانوا معه كعبد الله بن عمر وأبي قتادة الأنصاري ، فأصر على فعله ولم يسمع كلامهم . وانتقده عمر وطالب أبا بكر أن يقتص منه ويقتله ، لأنه قتل مسلماً وعدا على زوجته !
وكذلك كانت حركة قبائل كندة في حضرموت ، فعندما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاهم عاملهم زياد البياضي إلى بيعة أبي‌بكر : « فقال له الحارث : أخبرني لم نَحَّيْتُم عنها أهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهم أحق الناس بها ، لأن الله عز وجل يقول : وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ . فقال له زياد بن لبيد : إن المهاجرين والأنصار أَنْظَرُ لأنفسهم منك . فقال له الحارث بن معاوية : لا والله ! ما أزلتموها عن أهلها إلا حسداً منكم لهم ، وما يستقر في قلبي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علماً يتبعونه ! فارحل عنا أيها الرجل فإنك تدعو إلى غير رضا ، ثم أنشأ الحارث بن معاوية يقول :
كان الرسول هو المطاع فقد مضى * صلى عليه الله لم يستخلف !
قال : فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي فقال : صدق والله الحارث بن معاوية ! أخرجوا هذا الرجل عنكم ، فما صاحبه بأهل للخلافة ولايستحقها بوجه من الوجوه وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأمة من نبيها » . ( ابن الأعثم : 1 / 48 ) .
فهي حركة ضد أبي‌بكر وليست ردة عن الإسلام ، ثم دخل في حركتهم الأشعث بن قيس الكندي فجعلها ردة ، وتفاوض مع أبي‌بكر وأخذ امتيازات ، وأهم امتيا ز له أنه تزوج أخت أبي‌بكر !
لكن اتهام الحكومة لمخالفيها بالردة لا ينفي وجود حركة ردة في قبائل العرب . فإن عدداً من القبائل تصوروا أن نبوة قريش انتهت بوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن الفرصة جاءتهم ليعلنوا نبوتهم ، ويحققوا مكاسب قبلية ، كما حققت قريش من نبوتها مكاسب بتصورهم ! وهم الذين قال الله فيهم : قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الآيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .
قال في تاريخ دمشق : 25 / 156 : « فلما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام عيينة بن حصن في
--------------------------- 550 ---------------------------
غطفان فقال : ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ، وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة . ووالله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش . وقد مات محمد وبقي طليحة ، فطابقوه على ذلك » !
ويقصد بالحليفين : غطفاناً وأسداً ، فقد قلد أبا جهل لما قال : نبيٌّ من بني هاشم ! لا والله حتى يكون نبي من مخزوم ! وقال علي ( عليه السلام ) عن خطر الردة : « فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » ! ( نهج البلاغة : 3 / 119 ، من رسالته لأهل مصر ) .

لجوء أبي‌بكر إلى علي ( عليه السلام )

ادعى طليحة بن خويلد النبوة في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبعد وفاته نشط في دعوا وانضمت اليه بطون من طيئ وخزاعة وفزارة ، وبلغ جيشه ثلاثين الفاً وقيل أربعين ألفاً وأرسل الرسائل والوفود إلى أبي‌بكر مطالباً بالاعتراف بنبوته مع نبوة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبإسقاط الزكاة والصلاة عن أتباعه . وأرسل عشرة آلاف بقيادة ابن أخيه حِبال ، ليفاوضوا أبا بكر ، فإن لم يستجب لهم غزوا المدينة واحتلوها !
وكان طليحة مطمئناً إلى نجاح خطته ، لأن قريشاً عزلت بطلها علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فاعتزل في بيته وانتهت أسطورته ، ولأن جيش أسامة ذهب إلى مؤتة فخليت المدينة فاعتبرها طليحة فرصة لغزو المدينة وقتل خليفة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإعلان نبوته !
وعاش أبو بكر ومن حوله الرعب ، وأشار عليه عمر بن الخطاب أن يقبل بشروطهم ، ليكفوا عن مهاجمة المدينة !
وأحس أبو بكر بحاجته الماسَّة إلى علي ( عليه السلام ) فأرسل له الواسطة بعد الأخرى يعتذر اليه من عزله من الخلافة ، ويؤكد له بأنه سيعيدها اليه بعد وفاته . ( الخصال للصدوق / 343 ) .
وقد وصف البلاذري فرح أبي‌بكر بمجيئ علي ( عليه السلام ) اليه ! فقال في أنساب الأشراف ( 1 / 588 ) : « لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى عليّ فقال : يا ابن عم ، إنه لا يخرج أحد إلى هذا العدو وأنت لم تبايع ، فلم يزل به حتى مشى إلى أبي‌بكر . فقام أبو بكر إليه فاعتنقا
--------------------------- 551 ---------------------------
وبكى كل واحد إلى صاحبه . فبايعه فسُرَّ المسلمون ، وجدَّ الناس في القتال ، وقطعت البعوث » .
قال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 3 / 118 ، والغارات للثقفي : 1 / 307 ، والإمامة والسياسة : 1 / 133 ) : « من كتاب له ( عليه السلام ) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر ، لما ولاه إمارتها : أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان ( أبي‌بكر ) يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب . فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه » .
وتعبير : ما كان يلقى في روعي ، تعبير مجازي ، للأمر المفاجئ غير المنطقي . ومعنى تنهنه : سكن واطمأن .
وفي كشف المحجة / 176 : « حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام ، تدعو إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وملة إبراهيم ( عليه السلام ) » .
يقصد بذلك حركة طليحة في حائل ، وحركة مسيلمة في اليمامة ، وحركة الأسود العنسي في اليمن . ومعنى دعوتهم إلى مَحْقِ دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وملة إبراهيم ( عليه السلام ) ، أنهم يريدون إزالة الإسلام ، وحتى الحج إلى الكعبة الذي بقي عند العرب من ملة إبراهيم ( عليه السلام ) ! لأن دعوتهم كانت إلى نبوة مقابل نبوة قريش سادنة الكعبة .
وكانت بعض القبائل ومنها طيئ لاتحج إلى الكعبة ، ولعلهم كانوا مرتبطين بهرقل عن طريق الغساسنة ، وأما العنسي فعن طريق الحبشة .
ورواه بعضهم كابن قتيبة في الإمامة : 1 / 134 ، والثقفي في الغارات : 1 / 306 ،
--------------------------- 552 ---------------------------
وفيه : « فمشيت عند ذلك إلى أبي‌بكر فبايعته ، ونهضت معه في تلك الأحداث حتى زهق الباطل وكانت كلمة الله هي العليا وإن رغم الكافرون . فتولى أبوبكرتلك الأمور ، فيسر وسدد ، وقارب واقتصد ، فصحبته مناصحاً ، وأطعته فيما
أطاع الله فيه جاهداً » .
وكلمة ( فبايعته ) لا تصح على أصولنا ، لأنه ( عليه السلام ) كان بايعه مكرهاً ، ولا يجوز له أن يبايعه مختاراً ، فالصحيح : تألفته بدل بايعته ، كما رواه في المسترشد / 97 ، و / 411 ، ودلائل الإمامة ( 1 / 83 ) في منشور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي كتبه ليُقرأ على المسلمين في بلادهم وهو من صفحات ، قال ( عليه السلام ) : « ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم ، فمشيت عند ذلك إلى أبي‌بكر فتألفته ، ولولا أني فعلت ذلك لباد الإسلام ! ثم نهضت في تلك الأحداث حتى انزاح الباطل ، وكانت كلمة الله هي العليا ، ولو كره المشركون » .
ومعنى قوله ( عليه السلام ) : ولولا أني فعلت ذلك لبادَ الإسلام ! أنه لو لم ينهض ( عليه السلام ) ويقاوم جيش طليحة المهاجم لسيطر على المدينة ، وقتل أبا بكر وأصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأعلن نبوته وإلغاء نبوة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! أو أعلن الأذان : أشهد أن طليحة ومحمداً رسول الله !

مشاورة أبي‌بكر لعلي ( عليه السلام ) في أمر طليحة

روى مسدد في مسنده ( كنز العمال : 6 / 531 ) أن أبا بكر : « استشارعلياً في أهل الردة فقال : إن الله جمع الصلاة والزكاة ، ولا أرى أن تفرق ، فعند ذلك قال أبو بكر : لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه » .
وفي الرياض النضرة للطبري : 1 / 129 : « شاوره أبو بكر في قتال أهل الردة بعد أن شاور الصحابة فاختلفوا عليه ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : إن تركت شيئاً مما أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم فأنت على خلاف سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال : أما لئن قلت ذلك ، لأقاتلنهم ولو منعوني عقالاً . أخرجه ابن السمان » . وذخائر العقبى لأحمد الطبري / 97 ، وجواهر المطالب للدمشقي : 1 / 261
ومعناه أن أبا بكر أخذ برأي علي ( عليه السلام ) وخالف عمر ، بل وبخه ووصفه بالجبن والخور !
--------------------------- 553 ---------------------------
فقال له عمر : « تألَّف الناس وارفق بهم ، فإنهم بمنزلة الوحش . فقال له : رجوتُ نصرك وجئتني بخذلانك ! جَبَّارٌ في الجاهلية خَوَّارٌ في الإسلام ! ماذا عسيتُ أن أتألفهم ، بشعر مفتعل أو بسحر مفترى ، هيهات هيهات ، مضى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانقطع الوحي . والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي ، وإن منعوني عقالاً » . ( كنز العمال : 6 / 527 ) .
وقال البخاري في صحيحه ( 8 / 140 ) : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستُخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي‌بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله ؟ فقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال . والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ، لقاتلتهم على منعه » .
ومعناه أن عمر كان يرى تحريم قتالهم ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ! لكن أبا بكر أخذ برأي علي ( عليه السلام ) .
ثم استشار علياً ( عليه السلام ) في غزو الروم : « ماذا ترى يا أبا الحسن ؟ فقال : أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم ، نُصرت عليهم إن شاء الله . فقال :
بشرك الله بخير » . ( تاريخ دمشق : 2 / 64 ) .

أهل المدينة يتوقعون هجوم جيش طليحة

روى الطبري ( 2 / 476 ) : ( فرجع وفد المرتدة إليهم فأخبروا عشائرهم بقلة أهل المدينة وأطمعوهم فيها . وجعل أبو بكر بعدما خرج الوفد على أنقاب المدينة نفراً : علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وأخذ ( ألزم ) أهل المدينة بحضور المسجد . وقال لهم إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة ، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً وأدناهم منكم على بريد . . فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارةً مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حِسْي ، ليكونوا لهم ردءً ) .
--------------------------- 554 ---------------------------
أقول : كانت هذه الحادثة بعد ستين يوماً من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكان لها وقع شديد على الصحابة ، خاصة القرشيين أهل السقيفة والنظام الجديد ، وغابت عنهم فرحتهم بأخذ دولة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أهل بيته ( عليهم السلام ) !

الوضع العسكري لدولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند وفاته

1 . كانت دولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متوثبة لبسط حكمها على فارس والروم والعالم كما أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكانت تواجه أخطاراً كبيرة أهمها أطماع القبائل التي كانت تسارع إلى الردة والى غزو المدينة . وكان ثقل القوة القتالية للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالأنصار وقد انتهت قوتهم بسبب اختلافهم ! فلم يكن للأوس رئيس يجمعهم ، ورئيس الخزرج سعد بن عبادة لم يستطع أن يكسب الأوس ، وزاد من ضعفه أنه لما رأى أن قريشاً قررت عزل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) رشح نفسه للخلافة ، فعادته قريش وخصومه الأوسيون وأذلوه وأهانوه وهددوه فبايعوا أبا بكر في بيته وكان مريضاً ، وخذله الخزرج فخضع وانتهت قوته حتى أن عمر نفاه من المدينة إلى الشام وقتله ، فلم يتحرك الخزرج ، وكان ابنه قيس ضعيفاً !
وكانت القوة العسكرية لأبي‌بكر طلقاء قريش ، ومن يستطيع جمعه من أهل المدينة والقبائل ، لكنها قوة شرطة وليست قوة معارك مع الفرس والروم والقبائل القوية .
2 . يتوقف كل إنجاز عسكري على القائد الميداني والجندي الشجاع ، فهما اللذان يحققان النصر ، ويسمون أهل البلاء وأهل الغَناء وأهل النكاية بالعدو ، أي يُغنون عن غيرهم . فهم الخط الأول المقتحمون ، وهم الثابتون إذا تراجع غيرهم . وهم القوة الحقيقية للجيش وصُنَّاع النصر .
والعجيب أن هؤلاء كلهم أو جِلُّهم من تلاميذ علي ( عليه السلام ) ، وليس مع أبي‌بكر وعمر منهم أحد ! قد تقول : أين خالد بن الوليد ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهم ؟ والجواب : أن مكذوبات الحكومة لهؤلاء كثيرة ، لكنهم لم يبرز أحد منهم إلى فارس ، ولا اقتحم في معركة أبداً !
--------------------------- 555 ---------------------------
ولذلك لما هدد طليحة المدينة توسل أبو بكر وعثمان بعلي ( عليه السلام ) وقالوا له إن أهل المدينة لا يخرجون حتى تخرج ، يقولون إن خرج عليٌّ خرجنا معه ! ولما استغاث خالد وأبو عبيدة بالخليفة ليرسل لهم مدداً إلى اليرموك مقابل الروم ، لجأ الخليفة إلى علي ( عليه السلام ) فكتب إلى تلاميذه فرسان اليمن ، فجاءه مالك الأشتر ونخبة من النخعيين ، وعمرو بن معدي كرب ونخبة من الزبيديين . وبعثهم إلى الشام فقطفوا النصر في معركة اليرموك .
كان فرسان المسلمين القادة من تلاميذ الإمام ( عليه السلام ) ، مثل حذيفة بن اليمان قائد معركة نهاوند فتح الفتوح ، وأبي دجانة سماك بن خراش ، والنعمان بن مقرن وإخوته الستة ، وسلمان الفارسي القائد في فتح العراق وإيران وأرمينيا ، وحجر بن عدي الكندي ، وعمار بن ياسر ، وهاشم المرقال الزهري ، وأبي ذر القائد في فتح الشام وقبرص ومصر ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي ، بطل معركة أجنادين في فتح فلسطين وما بعدها إلى اليرموك ، وأخويه أبان بن سعيد وعمرو بن سعيد ، وبريدة الأسلمي ، وعبادة بن الصامت ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعثمان بن حنيف وإخوته ، وعبد الرحمن بن سهل الأنصاري ، والمقداد بن عمرو ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، والبراء بن عازب ، وقيس بن ثابت ، وبلال بن رباح ، وعبد الله بن خليفة البجلي ، وعدي بن حاتم الطائي ، وأبي عبيد الثقفي ، وصعصعة بن صوحان العبدي وإخوته ، والأحنف بن قيس ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وجعدة بن هبيرة ابن أخت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، والمسيب بن نجبة ، ومسلم بن عوسجة ، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة الأموي ، وأبي رافع وأولاده .
ولكل واحد من هؤلاء أدوارٌ وإنجازات ، أخفاها إعلام الخلافة ، وجعلوا بدلها أدواراً مكذوبة لأشخاص موالين للسلطة .
--------------------------- 556 ---------------------------

مقارنة بين شجاعة علي ( عليه السلام ) وأبي‌بكر وعمر

كان من أهم عوامل انتصار الإسلام شجاعة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومعه فرسان بني عبد المطلب : عليٌّ وحمزة وجعفر وعبيدة ، فلولا هؤلاء لما انتصر المسلمون في بدر ، ولما غيروا المعادلة لمصلحة الإسلام . ولو لم يثبت علي ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أحُد ، ويردَّ عنه هجمات قريش المستميتة ، لتغيَّر مسار المعركة ، ومسار التاريخ .
ولو لم يبرز علي ( عليه السلام ) لعمرو بن ود يوم الخندق ، لقتل عمرو عدداً من المسلمين وفتح ثغرة الخندق لجيش الأحزاب ، فدخلوا المدينة واحتلوها ! وعندما حاصر المسلمون خيبر وفشلوا في اقتحامه ، لو لم يأت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي ( عليه السلام ) من القسم الأول من خيبر ، ليقتحم الحصن ، لما تحقق النصر على اليهود .
وعندما انهزم المسلمون في حنين وتركوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لو لم يهاجم عليٌّ ( عليه السلام ) جيش هوازن ، ويقتل أربعين من حملة راياتهم ، لما تحقق النصر . وكذلك الحال في كل معركة ، فإن النصر فيها يتوقف على البطل أو الأبطال ، الذين يغيرون المعادلة .
ولذلك صارت الأمثال تضرب بشجاعة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وبطولته ، ويليه أفراد معدودون من الصحابة ، لكن الفارق كبير بينه وبينهم .
أما الباقون ففيهم شجعان ، لكن فيهم كثيرون إذا حميَ الوطيس رجع أحدهم إلى الصف الخلفي ، أو هرب مُوَلِّياً من المعركة تاركاً النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لسيوف أعدائه !
وقد وصفتهم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فقالت كما في بلاغات النساء / 13 : « وكنتم على شفا حفرة من النار ، مُذقة الشارب ، ونَهزة الطامع ، وقَبْسَة العَجْلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطَّرَق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ! فأنقذكم الله بأبي بعد اللُّتَيَّا والتي ، وبعد ما مُنِيَ ببُهم الرجال ، وذؤبان العرب ، ومَرَدَة أهل الكتاب ، كلما حَشَوْا ناراً للحرب أطفأها ، ونَجَمَ قرنٌ للضلال ، وفَغَرت فاغرةٌ من المشركين ، قذف بأخيه في لهواتها ، فلاينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بحده ، مكدوداً في ذات الله ، قريباً من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، سيداً في أولياء الله ، وأنتم في بَلَهْنِيَةٍ وادعون آمنون .
--------------------------- 557 ---------------------------
حتى إذا اختار الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دار أنبيائه ، ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الآفلين ، وهدر فنيق المبطلين . . الخ . » .
وكما اتفق المسلمون على شجاعة علي ( عليه السلام ) ، اتفقوا على أن أبا بكر وعمر لم يشتركا في أي معركة من معارك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يضربا ضربةً بسيف ولا طعنا طعنةً برمح ! بل كانا عندما تبرز الأبطال ويزحف الصفان ، يتأخران إلى الصفوف الخلفية يحفظان حياتهما ، أو يوليان الدبُر ويهربان !
قال في مناقب آل أبي طالب : 1 / 341 : « المعروفون بالجهاد : عليٌّ ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، وسعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب ، وسعد بن معاذ ، ومحمد بن مسلمة . وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلي ( عليه السلام ) في شوكته وكثرة جهاده . فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي ، فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة » .
وروى سليم بن قيس في كتابه / 247 ، قول علي ( عليه السلام ) يصف أبا بكر وعمر وعثمان : « ألا إن العجب كل العجب من جُهال هذه الأمة وضُلالها ، وقادتها وساقتها إلى النار ، لأنهم قد سمعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول عوداً وبدءً : ما ولَّت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه ، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ، ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه . وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ، وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله . وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولاغَناءٌ معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبةً في البقاء . وقد علموا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل بنفسه فقتل أبيَّ بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف ، وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك .
وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولا يبارز الأبطال ولا يفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شديدة قط ولا كَرَبَهُ أمرٌ ولا
--------------------------- 558 ---------------------------
ضاق مستصعب من الأمر ، إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمي عن وجهي ! فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولله عز وجل ولرسوله بذلك المَنُّ والطول حيث خصني بذلك ووفقني له .
لم يكن لأبي‌بكر وعمر أي سابقة في الدين ، وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غيرمرة واحدة ، ثم فرَّ ومنح عدوه دُبُرَه ، ورجع يُجَبِّن أصحابه ويجبنونه ، وقد فرَّ مراراً !
فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغيَّر ( أظهر الغيرة ) وأمر ونهى » !
إلى آخر كلامه ( عليه السلام ) وهو طويل ، ملئ بالحجج !
كما نلاحظ أن الله تعالى أنزل السكينة على المؤمنين في حُنين فقال : ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . بينما أنزلها في الهجرة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحده ولم ينزلها على صاحبه فقال تعالى : فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ . ولم يقل : عليهما .
وفي معركة بدر : قال الله عز وجل عن فريق من الصحابة : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ . وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ .
قال مسلم في صحيحه ( 5 / 170 ) : « شاورحين بلغه إقبال أبي سفيان ، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه » !
وفي الدر المنثور ( 3 / 165 ) : « فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إنها قريش وعزها ! والله ما ذلت منذ عزت ، ولا آمنت منذ كفرت ، والله لتقاتلنك ، فتأهب لذلك أهبته واعدد له عدته » ! أي إرجع واستعد لقتالها ! فهو ينصح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالرجوع فعلاً ، وعدم قتال قريش !
وقد ثبت عن أبي‌بكر وعمر أنهما لم يقاتلا في بدر ، وزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استبقى أبا بكر معه في العريش ليستشيره في إدارة المعركة ! لكنهم رووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل قتالاً شديداً ، ولم يكن معه أبو بكر ولا عمر ، فأين كانا ؟ ! قال علي ( عليه السلام ) : « لقد رأيتني يوم بدر
--------------------------- 559 ---------------------------
ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » !
ومجمع الزوائد : 9 / 12 ، وقد صححوه . ثم أنزل الله في بدر : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ . ومعناه أنه كان في بدر فرارٌ إلى الصفوف الخلفية ! وهو فرارٌ تام الشروط والأركان ، مستوجبٌ لغضب الرحمن ، فكيف ينكرون وجود فارِّين !
وقد اعترف عمر بأنه فَرَّ من العاص بن سعيد : « رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه ، فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزُغت عنه ! فقال إلى أين يا ابن الخطاب » . ( ابن هشام : 2 / 464 ) .
وفي معركة أحُد : زعموا أن أبا بكر ثبت : « وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكر الصديق ، وسبعة من الأنصار » . ( الطبقات : 2 / 42 ) . لكنهم تنازلوا عن هذه الرواية فقال أبو بكر إنه من أول من رجع من الفرار !
« عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم أحد » . ( الطبقات : 3 / 155 )
تقصد أنه كان في الأوائل الذين عادوا من الفرار بعد الظهر ، بعد أن انسحب المشركون ، وبعد أن صلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على الشهداء !
أما عمر فقال إنه كان يقفز صعوداً على الجبل ، ففي تفسير الطبري ( 4 / 193 ) : « خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران . . قال : لما كان يوم أحد . . ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد » . أي : العنز الجبلية التي تتسلق الصخور !
وقال ابن إسحاق ( 3 / 309 ) إن أنس بن النضر : « انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ( انهاروا ) فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله ! قال : فما تظنون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل » .
--------------------------- 560 ---------------------------
ولم يؤثِّر كلامه في الصحابة المحترمين ، ولصقوا بالصخرة !
وفي تفسير الطبري ( 4 / 151 ) : « قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول » ! وفي الدر المنثور : 2 / 80 ، قال أحدهم : « والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لنعطينهم بأيدينا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل ! فترخصوا في الفرار حينئذ » ! أي نلتحق نحن القرشيين بعشائرنا !
وفي معركة الخندق : أخذوا يستأذنون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليتفقدوا بيوتهم فيذهبون ولا يعودون ! وبعضهم هرب بلا استئذان !
قال حذيفة كما رواه الحاكم ( 3 / 31 ) : « إن الناس تفرقوا عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة الأحزاب ، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً » !
وهذا فرار مخفي فضحه الله بقوله : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً . ومعناه : أنهم ولوهم الأدبار ، بترك الخندق !
وقال عبد الله بن عمر : « بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف ، فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي ، وقال : من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا ، وكان ذلك في برد شديد ، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم : إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا . قال : فلاوالله ماعطف عليَّ منهم اثنان أو واحد » ! ( أوسط الطبراني : 5 / 275 ، وصححه الزوائد : 6 / 135 ) .
وقد وصفت عائشة ( أحمد : 6 / 141 ) اختباء جماعة من الصحابة في حديقة ، منهم عمر وطلحة ، وكانا يتخوفان من الفرار العام ، وأن طلحة أفتى بأن الفرار جائز ، لأنه فرارٌ إلى الله تعالى !
ورووا أنه بعد أن قتل علي ( عليه السلام ) عمرو بن ود ، أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمر بن الخطاب أن يبرز إلى ضرار بن الخطاب ، فنكص عنه ! ( تفسير القمي : 2 / 182 ) .
بينما روى الجميع قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « لمَبُارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد وُدٍّ يومَ الخندق ، أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة » . ( الحاكم : 3 / 32 ) .
--------------------------- 561 ---------------------------
وفي معركة خيبر : قال النسائي : 5 / 108 : « دعا أبا بكر فعقد له لواءً ثم بعثه فسار بالناس فانهزم ، حتى إذا بلغ رجع ! فدعا عمر فعقد له لواءً ، فسار ثم رجع منهزماً بالناس ! فقال رسول الله : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله له ليس بفرار » ومجمع الزوائد : 9 / 124 وصححه .
وفي رواية عن سعد بن أبي وقاص : « فغضب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه » . ( أمالي المفيد / 56 ) .
وفي غزوة ذات السلاسل : رجع أبو بكر وعمر منهزمين ، فأرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً فانتصر ، ونزلت سورة العاديات . ( الإرشاد : 1 / 150 ) .
وفي غزوة حنين : فرَّ أبو بكر وعمر مع الفارين ، وتركوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لسيوف عشرين ألف مقاتل من هوازن ، وثبت معه بنو هاشم فقط ! قال الله تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ .
ورووا أن أبا بكر عانهم ، أي أصابهم بالعين !
وفي سيرة ابن كثير ( 3 / 610 ) : « وقال أبو بكر الصديق : لن نغلب اليوم من قلة ، فانهزموا ، فكان أول من أنهزم بنو سليم ثم أهل مكة ، ثم بقية الناس » .
وقال المفيد في الإفصاح / 68 : « وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس فقال لانغلب اليوم من قلة . ثم كان أول المنهزمين ومن ولى من القوم الدبر ، فقال الله تعالى : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ . فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره ، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق » .
بعد ستين يوماً من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هاجم طليحة المدينة
روى الطبري عن عروة ، قال : ( 2 / 476 ) : ( فرجع وفد المرتدة إليهم فأخبروا عشائرهم بقلة أهل المدينة وأطمعوهم فيها . وجعل أبو بكر بعدما خرج الوفد على
--------------------------- 562 ---------------------------
أنقاب المدينة نفراً : علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وأخذ ( ألزم ) أهل المدينة بحضور المسجد . . وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم ، فأنفش العدو ( انهزموا في فوضى ) فأتبعهم المسلمون على إبلهم ، حتى بلغوا ذا حسي . . فبات أبو بكر ليلته يتهيأ فعبأ الناس ، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن ، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن ، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب ، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد ، فما سمعوا للمسلمين همساً ولاحساً ، حتى وضعوا فيهم السيوف ، فاقتتلوا في أعجاز ليلتهم ، فما ذرَّ قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار ، وغلبوهم على عامة ظهرهم ، وقُتِل حِبَال . وعز المسلمون بوقعة أبي‌بكر ، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة ، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة . وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي :
غداة سعى أبو بكر إليهم * كما يسعى لموتته جُلَالُ
أراحَ على نواهقها علياً * ومجَّ لهن مهجته حِبالُ ) .
ومعنى البيتين في النص : يوم سعى إليهم أبو بكر في الغداة ، كما يسعى الجُلال أي الجمل الكبير إلى موتته أي إلى أجله ، ويقصد بها هنا فريسته . وجعل علياً ( عليه السلام ) على خيل المدينة المرتاحة ، فكانت النتيجة أن القائد حبال لفظ مهجته لخيل علي ( عليه السلام ) ، ومعنى مجَّ : مص الماء ونحوه ، وتستعمل بمعنى صبه ، والمعنى هنا : أن حِبال القائد لفظَ مهجته للنواهق ، أي لخيول علي ( عليه السلام ) .
والبيتان تصوير دقيق للمعركة ، فقد خرج أبو بكر في اليوم التالي على النواضح مع المصلين ، ووصلوا إلى ذي حسي القريب فدحرج كمين طليحة القِرَب أمام النواضح فجفلت ورجعت مذعورة مجنونة إلى المدينة .
أما خيل المسلمين ( النواهق ) التي كانت على أنقاب المدينة فقادها علي ( عليه السلام ) وتبعهم حتى اشتبك معهم وقتل قائدهم ، فانفرط عقدهم وانهزموا من معسكرهم في ذي القصة ، الذي يبعد عن المدينة نحو عشرين كيلوا متراً . وفي اليوم التالي ذهب عاود أبو بكر الذهاب إلى ذي القصة مع جيش المدينة بقيادة أولاد مقرن .
--------------------------- 563 ---------------------------
ونلاحظ أن رواية عروة في الطبري وقعت في تناقض فذكرت أنهم خرجوا على النواضح ، وذكر الشاعر أنهم على الخيل ( النواهق ) كما أن عروة لم يذكر علياً ( عليه السلام ) في المدافعين ، وذكر الشاعر أنه قائد الخيل !
والصحيح أن أبا بكر لم يذهب لقتال المرتدين ، لا في نقاب المدينة ، ولا في ذي حِسْي ، ولا في ذي القَصَّة ، ولا في أبرق الربذة على بعد 150 كيلو متراً عن المدينة ، لأنهم رووا بسند صحيح عن الزهري عن عائشة ، قالت : « خرج أبي شاهراً سيفه راكباً على راحلته إلى ذي القصة ، فجاء علي بن أبي طالب وأخذ بزمام راحلته فقال : إلى أين يا خليفة رسول الله ؟ أقول لك ما قال لك رسول الله يوم أحد : شم سيفك ولاتفجعنا بنفسك ، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً ، فرجع وأمضى الجيش » . ( تاريخ دمشق : 30 / 316 ، وابن كثير في النهاية : 6 / 346 ،
ورواه في كنز العمال ( 5 / 665 ، عن ابن عمر ) .
فهي تقول إن أباها أبا بكر تهيأ وتعبأ وأعدَّ واستعد ، وركب ناقته ، وأخرج سيفه من غمده ، ورفعه في الهواء ، وتحرك خطوات ، لكن علياً غفر الله له وقف أمام ناقته وترجَّاه أن لا يذهب ، ففكر أبو بكر بين جهاد المرتدين وبين كلام علي فقرر أن يسمع نصيحته فرجع !
وقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا تفجعنا بنفسك ، يعني أنك إن خرجت تقتل بيد المرتدين ، فيقع الضرر على الإسلام !
كما توجد عندهم رواية للزهري صحيحة أيضاً ( تاريخ دمشق : 25 / 163 ) تقول إن أبا بكر تحرك أمتاراً ، ورجع من تلقاء نفسه بدون نصيحة علي ( عليه السلام ) ، لأنه خاف على المدينة ! « عن الزهري قال : لما استخلف الله أبا بكر ، فارتد من ارتد من العرب عن الإسلام ، خرج أبو بكر غازياً حتى إذا بلغ نقعاً من نحو البقيع ، خاف على المدينة فرجع ، وأمَّر خالد بن الوليد سيف الله ، وندب معه الناس » .
فقد غيَّر أبو بكر رأيه بنفسه ، ورجع من تلقاء نفسه ، من أجل حفظ الإسلام ومدينة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 564 ---------------------------
فرواية عائشة ، ورواية عبد الله بن عمر ، ورواية الزهري ، وكلها صحيحة عندهم ، تكفي لنفي خروج أبي‌بكر للقتال إلى ذي حسي ، أو ذي القَصَّة أو الربذة . فيكون ذهابه إلى ذي القَصة بعد انسحاب جيش طليحة منها .
أما معركة الأبرق فلايوجد سندٌ مقبول لأصل وجودها . ولا مصداق لقول الطبري : « فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفاً ، وأخذ الحطيئة أسيراً » لأن الحطيئة شاعر مشهور ، ولو أسر لأتيَ به إلى المدينة وكانت له أخبار ، كأخباره لما أسره زيد الخيل الطائي وجزَّ ناصيته . وعندما حبسه عمر لهجائه الزبرقان بقوله :
دع المكارمَ لا ترحلْ لبُغْيتها * واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
( تاريخ المدينة لابن شبة : 3 / 786 ) .
والنتيجة أن طليحة أرسل وفداً إلى المدينة ، يطلب الاعتراف بنبوته وإسقاط الزكاة عن أتباعه فنصح عمرأبا بكر أن يقبل منهم لأنه لا طاقة له بقتال طليحة ، ونصحه علي ( عليه السلام ) بأن لا يقبل وأن يقاتل فأخذ أبو بكر بنصيحته ، وكان مطمئناً لأن علياً إلى جانبه . ثم هاجم طليحة المدينة ، ونهض علي ( عليه السلام ) في تلك الأحداث وهو البطل المميز في التخطيط والتنفيذ ، وقد قال : لو لم أنهض لباد الإسلام وأهله ! ومعناه أن الخطر كان حقيقياً فدفعه فادعته السلطة وتبجحت به !
وجعلوا علياً مأموراً من أبي‌بكر على نقب من أنقاب المدينة ، ثم جعلوه مرافقاً لأبي‌بكر إلى ذي القَصَّة ، وذكروا مقتل القائد حِبَال ولم يذكروا أنه قتله !
ولا يمكن لعاقل أن يقبل أن المرتدين هاجموا المدينة وانهزموا بدون معركة !
فلا بد أن علياً ( عليه السلام ) عرف من أين سيأتون فاستقبلهم في فرسان انتخبهم ، واشتبك معهم وقتل قائدهم فانهزموا . فبهذا يمكن أن تفهم قول الشاعر :
أراحَ على نواهقها علياً . . ومجَّ لهن مهجته حِبالُ
وفي اليوم الثاني جاء الخبر بأن جيش طليحة انهزم وأخلوا معسكر ذي القَصَّة ، فاقترح علي ( عليه السلام ) النعمان بن مقرن المزني لقيادة المسلمين إلى ذي القصة ، وهو فارس يثق به ، وقد اختاره بعدها قائداً لمعركة نهاوند ، أكبرمعارك فتح فارس .
--------------------------- 565 ---------------------------

الفصل السادس والعشرون: علي ( عليه السلام ) ينهض لمقاومة حركة طليحة ومسيلمة

الدور العظيم لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه

1 . عدي بن حاتم نبيلٌ في الجاهلية ، قائد في الإسلام . فأبوه حاتم يضرب به المثل للكرم في العرب وفي العالم ، وهو : « حاتم بن عبد الله ، بن سعد ، بن الحشرج ، بن امرئ القيس ، بن عدي ، بن أخزم ، بن ربيعة » . ( اليعقوبي : 1 / 264 ) .
قال في العقد الفريد ( 1 / 81 ) : « أجود أهل الجاهلية الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر : حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي ، وهرم بن سنان المري ، وكعب بن مامة الإيادي . ولكن المضروب به المثل حاتم وحده . . )
وكان عَدِيٌّ أبو طريف أكبر أبناء حاتم وأبرزهم ، فورث مكانة أبيه . « كان يكنى أبا طريف ، وكان طويلاً إذا ركب الفرس كادت رجلاه تخطَّ في الأرض » . ( المعارف ابن قتيبة / 313 ) .
وفي الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة / 355 : « كان يفتُّ الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ) ! وفيه يقول الشاعر رؤبة :
بأبه اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَم * ومن يُشَابِهْ أَبَه فَمَا ظلَم
( معجم القواعد العربية / 47 ) .
2 . أسلم عَدِيٌّ على أثر سرية أرسلها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى طيئ بقيادة علي ( عليه السلام ) ، لمنع تحويل طئ إلى قاعدة للروم قبيل غزوة تبوك ، كما ذكرنا ، وجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بوفد من زعماء طيئ فاسلموا وحسن إسلامهم . . ( البحار : 21 / 365 ) .
--------------------------- 566 ---------------------------
وكان عَدِي أيام وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة ، وشهد بعض أحداث السقيفة ، ومما قاله : « ما رحمت من خلق الله أحداً كرحمتي عليّ بن أبي طالب ، رأيته حين أُتيَ به إلى بيعة أبي‌بكر فلما نظر إلى القبر قال : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي . فقالوا : بايع . قال : فَإن لم أَفعل ؟ قالوا : نقتلك ! قال : تقتلون إذاً عبدَ الله وأخا رسول الله ! فمسح القوم على يده وأصابعه مضمومة ، ولم يستطيعوا بسطها » . ( الشافي : 3 / 244 ) .
وفي العقد النضيد / 161 ، عن تميم بن بجدل قال : « ولقد سمعته بصفين يخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيّها الناس إمضوا على بصيرتكم ، وقاتلوا على نوركم ، واعلموا أنّكم لن تقاتلوا تحت راية أهدى من هذه الراية ، ولا قوماً أضل من أهل الشام ، ألا تحبون أن تلقوا الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غداً وهما عنكم راضيان ؟ تقاتلون مع ابن عم رسول الله ووصيه وخليفته على أُمته . والله لقد رأيتنا نسلم عليه بالخلافة في حياة رسول الله ، فماذا في قتال معاوية وأصحابه ؟ وإنما هم أشباه البهائم أتى بهم معاوية ليوردهم النار ويشعرهم العار ! وإن فاطمة ( عليها السلام ) كانت تنادي عمر : يا ابن السوداء ، والله لولا أن يصيب البلاء من لا ذنب له ، لدعوت الله أن يطبق عليكم أحشاء مكة والمدينة ، ولوجدت الله سريع الإجابة ! فقال الناس : فلا جزيتم عنا خيراً يا أصحاب محمد ، إنكم شهدتم وغبنا ، فهلا أعلمتمونا ! قال : وبَدَرَ الناس إلى عدي بن حاتم ، فخشي أن يتفرَّق الناس عن عليٍّ ( عليه السلام ) فأمسك . . فقيل له : هل قلت يوم بيعة أبي‌بكر شعراً ؟ قال : نعم ، وأنشد شعراً :
أبا حسن صبراً وفي الصبر عصمةٌ * وفيه نجاة المرء في السرٍّ والجهر
ألم تر أنّ الصبر أحجى بذي الحِجى * وأن ابتدار الأمر شين على الأمر
وقد لقي الأخيار قبلك ما لقوا * وأُودَوا عباد الله في سالف الدهر » .
أقول : يقصد الراوي أنه عندما تحدث عدي عما جرى بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكر كلام الزهراء ( عليها السلام ) لعمر ، أظهر الناس انتقادهم للصحابة لماذا لم ينقلوا إليهم الحقيقة ، وبَدَرَ اليه الناس أي ركضوا ليسمعوا منه ، فأمسك وسكت خوفاً أن لا يتحمل الناس نقد أبي‌بكر وعمر ، فيتفرقوا عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 567 ---------------------------
وينبغي الإلفات إلى أن قريشاً جعلت الخلافة أمراً يخصها وحدها ، وكانت تقمع كل من تكلم عن وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي والحسنين والعترة ( عليهم السلام ) ، وعن أحداث السقيفة وهجومهم على بيت علي والزهراء ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعن إجبارهم المسلمين بالسيف على بيعة أبي‌بكر . ولذا لم يستطع عدي بن حاتم الطائي ، ومالك بن نويرة التميمي ، وأمثالهما ، أن يقولوا الحقيقة عن الخلافة !
3 . ثبت عدي على الإسلام بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونشط في نصح قبيلته ،
وكان له أكبر الأثر في رد موجة طليحة الأسدي ، فأقنع طيئاً وبجيلة بترك طليحة والثبات على الإسلام ، والانضمام إلى خالد في حرب طليحة .
قال ابن حجر في الإصابة : 4 / 388 : « وثبت على إسلامه في الردة ، وأحضر صدقة قومه إلى أبي‌بكر ، وشهد فتح العراق ، ثم سكن الكوفة ، وشهد صفين مع علي ، ومات بعد الستين وقد أسن ، قال خليفة : بلغ عشرين ومائة سنة ) .
وفي تهذيب التهذيب : 7 / 151 : « وحضر فتح المدائن ، وشهد مع علي الجمل ، وصفين ، والنهروان » .
4 . كان عَدِيٌّ في حرب مسيلمة قائداً : « وقدم عدي بن حاتم بألف رجل من طئ ، حتى أتى اليمامة » . ( مجمع الزوائد : 6 / 220 ، ومسند أبي يعلى : 13 / 146 ) . وكان دورهم أساسياً في هزيمة طليحة ، ثم مسيلمة .
5 . وبعد حرب اليمامة سار عدي مع خالد وشارك في فتح العراق ، ( الطبري : 2 / 554 ) وشارك وقبيلته في معركة الجسر في العراق ، بعد ذهاب خالد ، بقيادة أبي عبيد الثقفي ، وكان قائد الميسرة . ثم كان قائداً مع المثنى ومع هاشم المرقال في عمليات في فتح العراق . ( الأخبار الطوال / 115 ) .
وذكر ابن الأثير في الكامل ( 6 / 386 ) أنه قتل أحد أبطال الفرس .
وقال الطبري : 3 / 7 : « وكان المثنى في ثمانية آلاف من ربيعة . . وألفان من قضاعة وطيئ ، وعلى طيئ عدي بن حاتم » .
--------------------------- 568 ---------------------------
6 . وكان عدي من قادة القادسية ، ففي الإصابة ( 5 / 66 و 4 / 389 ) أنه كان في أول خيل
غارت على المدائن .
7 . وكان عدي يحدث بمناقب علي ( عليه السلام ) ، قال : « ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلاببغض علي بن أبي طالب » . ( البخاري وفقه أهل العراق / 25 ) . كما شهد بحديث الغدير لما ناشد علي ( عليه السلام ) الذين حضروه . ( الغدير : 1 / 54 ) .
8 . وكان عدي في المدينة عندما خرجت عائشة وطلحة والزبير ، فبادر إلى طيئ يستنفرهم لنصرة الإمام ( عليه السلام ) . ( الإمامة والسياسة ( 1 / 55 ) . 0
ومر علي ( عليه السلام ) على بني طيئ في فيد في طريقه إلى البصرة والتحقوا به . ( فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : جزى الله طيئاً خيراً : وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . فلما انتهوا إليه سلموا عليه . قال عبد الله بن خليفة : فسرني والله ما رأيت من جماعتهم وحسن هيئتهم ، وتكلموا فأقروا والله عيني ، ما رأيت خطيباً أبلغ من خطيبهم ، قام عدي بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأديت الزكاة على عهده ، وقاتلت أهل الردة من بعده . أردت بذلك ما عند الله ، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى . وقد بلغنا أن رجالاً من أهل مكة نكثوا بيعتك ، وخالفوا عليك ظالمين ، فأتيناك لننصرك بالحق ، فنحن بين يديك ، فمرنا بما أحببت ، ثم أنشأ يقول :
ونحن نصرنا الله من قبل ذاكم * وأنت بحق جئتنا فستنصرُ
سنكفيك دون الناس طراً بأسرنا * وأنت به من سائر الناس أجدرُ
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : جزاكم الله من حي عن الإسلام وأهله خيراً ، فقد أسلمتم طائعين ، وقاتلتم المرتدين ، ونويتم نصر المسلمين . . فأتبعه منهم ست مائة رجل حتى نزل ذا قار ، فنزلها في ألف وثلاث مائة رجل » . ( أمالي المفيد / 295 )
9 . وكان لعدي بن حاتم وبنيه وقبيلته مواقف مشهورة في حرب الجمل .
وقال الطبري ( 3 / 529 ) : « رأيت عبد الله بن حكيم بن حزام ومعه راية قريش ، وعدي
--------------------------- 569 ---------------------------
بن حاتم الطائي ، وهما يتصاولان كالفحلين ، فتعاورناه فقتلناه ، يعني عبد الله ، فطعن عبد الله عدياً ففقأ عينه » . وقتل ابنه طريف . ( الجمل للمفيد / 196 ) وقال عدي :
أنا عديٌّ ونماني حاتمُ * هذا عليٌّ بالكتاب عالمُ
لم يعصه في الناس إلا ظالُم
( مناقب آل أبي طالب : 2 / 346 ) .
وفي أنساب الأشراف : 5 / 92 : « دخل عديُّ بن حاتم الطائي على معاوية ، فقال له ابن الزبير : يا أبا طريف متى ذهبت عينك ؟ قال : يوم فرَّ أبوك ، وقتل خالك يعني طلحة ، لأنّه من بني تيم ، وضربتَ على قفاك مولياً ، وأنا مع الحقّ وأنت مع الباطل ! فقال معاوية : ما بقي من حبك لعلي ؟ قال : هو على ما كان وكلَّما ذكر زاد ) !
10 . وكان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في صفين ، وعندما تحرك ( عليه السلام ) من المدائن : « خلَّف عليهم عديَّ بن حاتم ، فاستخلص منهم ثمان مائة رجل ، فسار بهم وخلَّف معهم ابنه زيداً ، فلحقه في أربع مائة رجل منهم » . ( شرح نهج البلاغة لميثم : 2 / 126 )
وروى ابن مزاحم في وقعة صفين / 397 ، أنه لما انهزم في المعركة عمرو بن العاص : « اشرأب لعلي همام بن قبيصة ، فقال عدي بن حاتم لصاحب لوائه : أدن مني ، فأخذه وحمل وهو يقول :
يا صاحب الصوت الرفيع العالي * إن كنت تبغى في الوغى نزالي
فادنُ فإني كاشف عن حالي * تفدي علياً مهجتي ومالي
وأسرتي يتبعها عيالي
فضربه وسلب لواءه ، فقال ابن حطان وهو شامت به :
أهمامُ لا تذكر مدى الدهر فارساً * وعَضَّ على ما جئته بالأباهم
سما لك يوماً في العجاجة فارس * شديد القفيز ذو شجاً وغماغم
فوليته لما سمعت نداءه * تقول له خذ يا عدي بن حاتم
فأصبحت مسلوب اللواء مذبذباً * وأعظم بهذا من شتيمة شاتم » .
--------------------------- 570 ---------------------------
وكذلك هرب من عديٍّ عبد الرحمن بن خالد ، القائد العام لجيش معاوية : « فقواه معاوية بالخيل والسلاح ، وكان معاوية يعده ولداً ، فلقيه عدي بن حاتم في حماة مذحج وقضاعة ، فبرز عبد الرحمن أمام الخيل وهو يقول :
قل لعديٍّ ذهب الوعيدُ * أنا ابن سيف الله لا مزيدُ
وخالدٌ يَزِينُهُ الوليد * ذاك الذي هو فيكم الوحيد
قد ذقتم الحرب فزيدوا زيدوا * فما لنا ولا لكم محيد
عن يومنا ويومكم فعودوا
ثم حمل فطعن الناس ، وقصده عدي بن حاتم ، وسدد إليه الرمح وهو يقول :
أرجو إلهي وأخاف ذنبي * وليس شئ مثل عفو ربي
يا ابن الوليد بغضكم في قلبي * كالهضب بل فوق قنان الهضب
فلما كاد أن يخالطه بالرمح ، توارى عبد الرحمن في العجاج ، واستتر بأسنة أصحابه ، واختلط القوم ، ورجع عبد الرحمن إلى معاوية مقهوراً ، وانكسر معاوية » ( وقعة صفين / 430 ) .
أقول : لاحظ أن عبد الرحمن بن خالد يفتخر بجده الوليد بن المغيرة ، الذي قال الله تعالى فيه : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً . . وقال فيه : وَلاتُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ .
وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت في الوليد ، ففي تفسير الجلالين / 758 : « دعيٌّ في قريش ، وهو الوليد بن المغيرة ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة » .
فافتخاره بجده الطاغية الزنيم بقوله : وخالد يزينه الوليد ، يعني أنه لم يدخل الإيمان قلبه !
وروى في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 359 ) حملة عدي بن حاتم ، ومالك الأشتر ، وسعيد بن قيس ، لرد أشد حملات أبي الأعور السلمي ومن معه ، وهو أقوى قادة معاوية ، وإيقاعهم بهم ، حتى انهزم مع جنوده .
11 . وكان عدي مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في حربه للخوارج في النهروان . وكان طرفة بن عدي مع الخوارج ، قال الطبري ( 4 / 55 ) : « وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم
--------------------------- 571 ---------------------------
الطائي فاتبعه أبوه ، فلم يقدر عليه فانتهى إلى المدائن » .
12 . وعندما أخذ معاوية يَغِيرُ على أطراف العراق ، وتباطأ الناس عن رده ، نهض عدي رضي الله عنه

13 . وبقي عدي ( رحمه الله ) وفياً لعلي ( عليه السلام ) إلى آخر عمره على رغم ضغوط معاوية .

ففي مروج الذهب ( 3 / 4 ) : « ذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية فقال له معاوية : ما فعلت الطرفات ؟ يعني أولاده ؟ قال : قتلوا مع علي . قال : ما أنصفك عَليٌّ ، قتل أولادك وبقي أولاده فقال عدي : ما أنصفْتُ علياً ، إذ قُتل وبقيتُ بعده ! فقال معاوية : أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان مايمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن . فقال عدي : والله إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فتراً لندنينَّ إليك من الشر شبراً ، وإن حَزَّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليٍّ . فسلُّ السيف يا معاوية باعثٌ سل السيف ! فقال معاوية : هذه كلمات حكم فاكتبوها ، وأقبل على عدي محادثاً له كأنه ما خاطبه بشئ » !
وفي رواية : فأرسل إليه معاوية بجائزة سنية وترضاه » .
14 . وعاش بعد علي ( عليه السلام ) في الكوفة ، وكان يداري السلطة أكثر من غيره ، وقد تعرض للحبس في قضية حجر بن عدي وأصحابه ، فقد كان عبد الله بن خليفة الطائي من أصحاب حجر الخاصين رضوان الله عليهم .
15 . وامتد العمر بِعُدَيٍّ ( رحمه الله ) فعاش إلى سنة ثمان وستين هجرية وتوفي زمن المختار عن عمر بلغ مئة وعشرين سنة وقيل 180 سنة . ( خليفة بن خياط / 127 ) .
16 . أوكل علي ( عليه السلام ) وأبو بكر إلى عدي مهمات كبيرة في حرب الردة
روى الطبري ( 2 / 483 ) : « وبعث أبو بكر عدياً قبل توجيه خالد من ذي القَصَّة إلى قومه وقال : أدركهم لا يؤكلوا ! فخرج إليهم ، فَفَتَلَهُمْ في الذروة والغارب ، وخرج خالد في أثره » .
--------------------------- 572 ---------------------------

وقام عَدِي بعملين كبيرين سبَّبَا نصر المسلمين

وهذان العملان هما : إقناع قبيلة جديلة حليفة طيئ ، وبطون من طيئ ، بأن يتركوا طليحة وينضموا اليه ، والثاني قيادته لطيئ في حرب طليحة . وفي تاريخ دمشق : 25 / 158 : « عن الشعبي قال : ارتدت العرب بعد رسول الله عوام أو خواص ، فارتدت أسد ، واجتمعوا على طليحة ، واجتمعت عليه طيئ إلا ما كان من عدي بن حاتم ، فإنه تعلق بالصدقات فأمسكها ، وجعل يكلم الغوث ، وكان فيهم مطاعاً يستلطف لهم ويرفق بهم ، وكانوا قد استَحْلَوْا أمر طليحة وأعجبهم » .

هرب خالد بجيشه من طليحة ولجأ إلى عدي بن حاتم !

قال الطبري ( 2 / 484 ) : « وسار خالد بن الوليد حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم أحد بني العجلان حليف الأنصار طليعةً ، حتى إذا دنوا من القوم ، خرج طليحة وأخوه سلمة ينظران ويسألان ، فأما سلمة فلم يمهل ثابتاً أن قتله ، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه ، أن أعِني على الرجل فإنه آكلي ، فاعْتَوَنَا عليه فقتلاه ، ثم رجعا » .
وقال طليحة مفتخراً بقتله عكاشة وثابتاً ، ثأراً بابن أخيه حِبال :
« نصبت لهم صدر الحمالة إنها * معاودة قبل الكماة نزالي
فيوماً تراها في الجلال مصونةً * ويوما تراها غير ذات جلال
ويوماً تُضئ المشرفية نحرها * ويوما تراها في ظلال عوال
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم * أليسوا وإن لم يسلموا برجال
عشية غادرت ابن أقرم ثاوياً * وعكَّاشة الغنْمي عنه بحال
فإن تك أذوادٌ أخذنَ ونسوةٌ * فلَمْ تَذْهَبُوا فِرْغاً بقَتْلِ حِبَالِ »
( تاريخ دمشق : 25 / 166 ) . ومعنى فِرْغاً : لم يذهب دمه هدراً . ( الزبيدي : 12 / 51 ) .
ولما وصل خالد بجيشه إلى قرب بُزَّاخَة رأى عكاشة وثابتاً قتيلين ، فانهار خالد الذي زعموا أنه « سيف الله المسلول » ورجع بجيشه من أبواب بُزَّاخَة ، ولجأ إلى عدي بن حاتم في جبلي طيئ ، ليستعين به على قتال طليحة !
--------------------------- 573 ---------------------------
قال الطبري ( 2 / 484 ) : « نظروا فإذا هم بعكاشة بن محصن صريعاً ، فجزع لذلك المسلمون . . قال لهم : هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حي من أحياء العرب ، كثير عددهم شديدة شوكتهم ، لم يرتد منهم عن الإسلام أحد ؟ فقال له الناس : ومن هذا الحي الذي تعني ، فنعم والله الحي هو ؟ قال لهم : طيئ . فقالوا : وفقك الله ، نعم الرأي رأيت . فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيئ » .
أقول : تبعد حائل عن المدينة 450 كيلومتراً ، وبُزَّاخَة عن حائل على بعد 40 كيلومتراً وقطن التي قتل فيها عكاشة قرب بُزَّاخَة ( تاريخ خليفة / 65 ) .
أما منازل طيئ فأقربها إلى بُزَّاخَة جبل أجأ نحو 100 كيلو متر ، أما جبل سلمى التي ذهب إليها خالد ( النهاية : 6 / 349 ) فتبعد كما ذكروا في جغرافية حائل 175 كيلو متراً . ومعناه أن خالداً وصل إلى قرب معسكر طليحة ، فرأى الفارسين الذين أرسلها طليعة مقتولين ، فانذعر وخاف وذهب بعيداً ، مع أن معه جيشاً من 2700 رجلاً !
وروى الطبري : 2 / 484 ، أن عدياً أرسل إلى خالد أن يأتيه أياماً ثم يذهب معه إلى قتال طليحة ! ولوصح ذلك لقصد خالد طيئاً قبل قطن وبُزَّاخَة ، وقبل أن يرى القتيلين ، فالطريق مختلف وفرق المسافة أربعة أيام !
وقد فرح طليحة بهروب خالد ، فنقل معسكره إلى قطن ، فكانت مكان معركته مع المسلمين !

17 . كان عدي مرجع خالد في الرأي والإدارة والتدبير

وكان عدي قائداً شجاعاً بعكس خالد . قال الطبري ( 2 / 485 ) : « إن خيل طيئ كانت تلقى خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم ، فيتشاتمون ولايقتتلون ، فتقول أسد وفزارة : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً ! فتقول لهم خيل طيئ : نشهد ليقاتلنكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر » .

18 . نهض الأنصار وبنو طيئ بثقل المعركة ضد طليحة

لكن الرواة أعطوا بطولتها لخالد على عادتهم ، مع أنه لم يشارك بنفسه ، لا في مبارزة ولا حملة !
--------------------------- 574 ---------------------------
قال في تاريخ دمشق : 25 / 163 : « فلما رأى طليحة كثرة انهزام أصحابه قال : ويلكم مايهزمكم ؟ ! قال رجل منهم : أنا أحدثك ، ما يهزمنا أنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله ، وإنا لنلقي قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه » .
قال الطبري ( 2 / 485 ) : « عن محمد بن طلحة . . قال : حُدثت أن الناس لما اقتتلوا ، قاتلَ عيينة مع طليحة في سبع مائة من بني فزارة قتالاً شديداً ، وطليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر يتنبأ لهم ، والناس يقتتلون !
فلما هزَّت عيينة الحرب وضَرُسَ القتال ، كرَّ على طليحة فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : لا . قال : فرجع فقاتل حتى إذا ضرس القتال وهزته الحرب ، كرَّ عليه فقال : لا أباً لك ، أجاءك جبريل بعد ؟ قال : لا والله . قال : يقول عيينة حلفاً : حتى متى ، قد والله بلغ منا ! قال : ثم رجع فقاتل حتى إذا بلغ كرَّ عليه فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : نعم . قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : إن لك رحاً كرحاه ، وحديثاً لاتنساه . قال : يقول عيينة : أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لاتنساه ! يا بني فزارة هكذا فانصرفوا ، فهذا والله كذاب ! فانصرفوا وانهزم الناس ، فغَشَوْا طليحة يقولون : ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعدَّ فرسه عنده ، وهيأ بعيراً لامرأته النوار ، فلما أن غَشَوْهُ يقولون ماذا تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه ، وحمل امرأته ثم نجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت ، وينجو بأهله فليفعل ) !
وقال ابن أعثم ( 1 / 13 ) : « وجعل عدي بن حاتم وزيد الخيل وقبائل طيئ يقاتلون بين يدي خالد بن الوليد قتالاً لم يقاتلوا قبله في يوم من أيامهم التي سلفت ، ومدحهم خالد بن الوليد . . . ثم ولى عيينة بن حصن منهزماً مع بني عمه من فزارة ، وانهزمت بنو أسد وغطفان ، وسيوف المسلمين في أقفيتهم كأنها الصواعق ) !
فقال طليحة بن خويلد : ويحكم ما بالكم منهزمين ؟ فقال رجل منهم : أنا أخبرك يا أبا عامر : لم لا ننهزم ؟ نحن قوم نقاتل ونريد البقاء ، وهؤلاء قوم يقاتلون ويحبون الفناء .
قال : فقالت نوار امرأة طليحة : أما إنه لو كانت لكم نية صادقة لما انهزمتم عن نبيكم ! فقال لها رجل منهم : يا نوار لو كان زوجك هذا نبياً حقاً لما خذله ربه ! قال :
--------------------------- 575 ---------------------------
فلما سمع طليحة ذلك صاح بامرأته : ويلك يا نوار ! إقتربي مني فقد اتضح الحق وزاح الباطل . ثم استوى طليحة على فرسه وأردف امرأته من ورائه ، ومرَّ منهزماً مع من انهزم ) !
واحتوى خالد ومن معه من المسلمين على غنائم القوم ، وعامة نسلهم وأولادهم . قال : فجمع خالد غنائم القوم فوكل نفراً من المسلمين يحفظونها » .
أقول : بهذه الخفة أنهى طليحة المتنبئ أكذوبته وأحلامه وهزمه الله . ونلاحظ أن خالد بن الوليد لم يبرز إلى فارس أبداً ، ولا شارك في حملة على جيش طليحة ، وكذلك كان في كل معاركه ! لكن تأتيه البطولة على الأسرى والعُزَّل الذين يلقي القبض عليهم بعد الحرب ، ويعطيهم الأمان ثم يغدر بهم ، كما فعل في بني جذيمة !
وكان في بُزَّاخَة يرسل خيله فتأتيه بشخص أو جماعة مكتفين فيتفنن في قتلهم !
قال الطبري ( 2 / 491 ) : « فأقام على البُزَّاخَة شهراً يُصَعِّدُ عنها ويُصَوِّبُ ، ويرجع إليها في طلب أولئك فمنهم من أحرقه ، ومنهم من قَمَّطَه ورضخه بالحجارة ، ومنهم من رمى به من رؤس الجبال » .
وفي التمهيد : 5 / 315 : « فأمر خالد بالحظيرة أن تبنى ، ثم أوقد تحتها ناراً عظيمة فألقى الأسارى فيها » .
وقد فصلنا ذلك في كتاب : قراءة جديدة في حروب الردة وذكرنا توبة طليحة ، وجهاده وشهادته في الفتوحات .
* *
--------------------------- 576 ---------------------------

الفصل السابع والعشرون: تلاميذ علي ( عليه السلام ) قادوا حرب اليمامة

1 - أخطر حركات الردة حركة مسيلمة

أهم حركات الردة حركة مسيلمة الكذاب ، فقد جمع حوله قبيلته بني حنيفة ، وكان مركزه اليمامة وهي قرب مدينة الرياض الفعلية ، ومكان المعركة يسمى عَقْرُبَاء ، وتسمى اليوم الجبيلة ، وتبعد نحو 40 كيلو متراً عن الرياض .
وبعد أن هزم المسلمون طليحة قصد خالد بجيشه اليمامة لحرب مسيلمة ، ونهض الأنصار بثقل المعركة ، وكانت أطول وأشد من حرب طليحة ، استشهد فيها ألف ومئتان من المسلمين ، ولم يشارك خالد في أي قتال فيها ، بل انهزم من خيمته ، وانهزم أمام فارس حنفي !
والذي حقق النصرهم شيعة علي ( عليه السلام ) : عمار بن ياسر ، والبراء بن مالك ، وأبو دجانة ، وثابت بن قيس بن شماس ، وابن عمه بشير بن عبد الله من بني الحارث بن النجار ، وآخرون .
وثابت بن قيس بن شماس غير ثابت بن قيس بن زيد ، ويوجد ثالث أيضاً .

2 - بنو حنيفة قبيلة مسيلمة

بنو حنيفة بن لجيم من قبائل بكر بن وائل ، أبناء عم بني عجل بن لجيم وبني شيبان . ومساكنهم في اليمامة وهي سافلة نجد مما يلي البحرين ، وهي الآن محافظة الرياض . وكان رئيسهم في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثمامة بن أثال ، وقد أسلم وحسن إسلامه ( الكافي : 8 / 299 ) وكان هو وهوذة بن علي مَلِكا اليمامة ) . ( ابن هشام : 4 / 1026 ) وكان هوذة نصرانياً وبنى كنيسة ، وكان على صلة بالغساسنة والروم . ونصب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثمامة والياً على اليمامة ، وكتب إلى هوذة يدعوه إلى الإسلام .
وقد وقف ثمامة في وجه مسيلمة وحذَّر بني حنيفة منه لأنه كذاب . لكن مسيلمة أثر عليهم
--------------------------- 577 ---------------------------
بسجعه فأطاعوه ، وسيطر على مدينة الحِجْر وهي عاصمة اليمامة ، وأخرج ثمامة ومن معه ، فكتب له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقاتلهم ، وأرسل إلى بعض رؤساء تميم أن يمدوه . ( المنتظم : 4 / 22 ) .
قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1258 ) : « وبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فرات بن حيان العجلي إلى ثمامة بن أثال ، في قتل مسيلمة وقتاله » .

قال مسيلمة : من حق بني حنيفة أن يكون لهم نبي !

قال إنهم ليسوا أقل من قريش عدداً وعُدة ! وإن الله بعثه شريكاً لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في النبوة ، وطلب من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقبل ذلك ، فسماه : مسيلمة الكذاب .
وكان مسيلمة وَفَدَ إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع بني حنيفة ، ولما رجع كتب له : « من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك ، فإني قد أُشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون .
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب وسمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لهما حين قرءا كتاب مسيلمة : فما تقولان أنتما ؟ قالا : نقول كما قال . فقال : أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ! فكتب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مسيلمة : بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » . ( ابن هشام : 4 / 1019 ) .
قال الحموي في معجم البلدان ( 3 / 288 ) : « سهام : اسم موضع باليمامة كانت به وقعة أيام أبي‌بكر ، بين ثمامة بن أثال ومسيلمة الكذاب ، فالتقوا بسهام دون الثنية ، أظنه يعني ثنية حجر اليمامة » .
ونشط مسيلمة في الدعوة إلى نفسه فأجابه أكثر بني حنيفة ! ولم يستطع ثمامة أن يرد موجته لأن أبا بكر لم يساعده ! فأخرجه مسيلمة من حِجْر اليمامة .
وعندما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تفاقم أمر مسيلمة ، وشهد له نَهَّار بن عُنفوة الحنفي المسمى بالرحَّال بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشركه في النبوة ! وكان الأب الروحي لمسيلمة ! « وكان الرحَّال قائد مقدمة جيش مسيلمة ، وهو أول من قتل من جيشه . ( الطبري : 2 / 510 ) .
--------------------------- 578 ---------------------------

3 - وتنبأت سجاح التميمية وتزوجت مسيلمة

وهي من أهل الموصل من بني تميم ، واتَّبعها بعض بني تميم وأخوالها بنو تغلب . وذهبت إلى اليمامة ومعها جيش صغير ، وآمنت بمسيلمة وتزوجته وأخذت منه مالاً ، ثم تركته بعد ثلاثة أيام ، وعادت إلى الموصل .
وفي تاريخ الطبري ( 2 / 496 ) : « فبينا الناس في بلاد بني تميم على ذلك . . فجأتهم سجاح بنت الحارث ، قد أقبلت من الجزيرة وكانت ورهطها في بني تغلب ، تقود أفناء ربيعة ، معها الهذيل بن عمران في بني تغلب ، وعقة بن هلال في النمر ، وزياد بن فلان في أياد ، والسليل بن قيس في شيبان ، فأتاهم أمر دهيٌّ هو أعظم مما فيه الناس ، لهجوم سجاح عليهم » .
وفي تاريخ الطبري ( 2 / 498 ) : « وكانت راسخة في النصرانية ، قد علمت من علم نصارى تغلب . فقال مسيلمة : سمع الله لمن سمع ، وأطمعه بالخير إذ طمع ، ولازال أمره في كل ما سر نفسه يجتمع ، رآكم ربكم فحياكم ، ومن وحشة خلاكم ، ويوم دينه أنجاكم ، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار ، لا أشقياء ولا فجار ، يقومون الليل ويصومون النهار ، لرب الكبار ، رب الغيوم والأمطار . ثم دارسها فقال : ما أوحى إليك ؟ قالت : هل تكون النساء يبتدئن ، ولكن أنت ما أوحى إليك ؟ قال : ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى . قالت : وماذا أيضاً ؟ قال : أوحى إليَّ إن الله خلق النساء أفراجاً ، وجعل الرجال لهن أزواجاً ، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً ثم نخرجه إذا نشاء إخراجاً ، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً ! قالت : أشهد أنك نبي . قال : هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت : نعم . . » .

4 - خالد بن الوليد قائد جبان في حرب اليمامة

عَسْكَرَ خالد مقابل مسيلمة ، ونصب فسطاطه في آخر الجيش ! وجعل على مقدمته شرحبيل بن حسنة ، ورجلاً من بني مخزوم اسمه خالد ، وعلى ميمنته زيد بن الخطاب ، وعلى ميسرته أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، ورايته بيد سالم مولى أبي حذيفة ، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس . ( الطبري : 2 / 508 ، و : 3 / 288 ) .
--------------------------- 579 ---------------------------
وقال الطبري ( 2 / 508 ) في عدد جيش مسيلمة : « المقلل يقول أربعين ( ألفاً ) والمكثر يقول ستين » . وفيه مبالغة ، وقد يكون عددهم عشرة آلاف ، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف . وقيل استشهد منهم ألفٌ ومئتان . واستمرت المعركة يومين ، وانهزم المسلمون في اليوم الأول مرات ، وانهزموا في اليوم الثاني حتى وصل بنو حنيفة إلى فسطاط خالد بن الوليد ، فهرب خالد وترك زوجته للعدو !
ثم لَطُفَ الله تعالى بالمسلمين بمبادرات أبطالهم خاصة عمار بن ياسر ، فثبَّتوا المسلمين وشجَّعوهم ، وتقدموا أمامهم وحملوا على العدو فجندلوا أبطاله ، وألجؤوا بني حنيفة إلى حديقة مسورة ، فدخلوا فيها وأغلقوا بابها ، فتسور شجعان المسلمين ونزلوا خلف الباب ، وكسروه ، فانتقلت المعركة إلى داخل الحديقة ، وكانت معركة صعبه ، فصمد المسلمون حتى قُتل عدو الله مسيلمة .
قال ابن الأعثم ( 2 / 30 ) : « قال رافع بن خديج الأنصاري . . هزمونا نيفاً على عشرين هزيمة ، وقتلوا منا مقتلة عظيمة ، وكادوا أن يفضحونا مراراً ، غير أن الله عز وجل أحب أن يعز دينه » .
وأصح وصف للمعركة ما رواه ابن الأعثم ( 1 / 27 ) ، وخلاصته : أن أول من تقدم للحرب عمار بن ياسر رضي الله عنه وفي يده صحيفة له يمانية ، فحمل وقتل منهم جماعة . فلما كان من الغد تقدم مُحَكَّمُ بن الطفيل وزير مسيلمة وحمل على المسلمين فقاتل قتالاً شديداً ، وحمل عليه ثابت بن قيس الأنصاري فطعنه في خاصرته طعنة نكسه عن فرسه قتيلاً . ثم لم يزل ثابت يقاتل حتى قتل .
ثم : « صاحت بنو حنيفة بعضها ببعض ، وحملوا على المسلمين حملة منكرة حتى أزالوهم عن موقفهم ، وقتلوا منهم نيفاً على ثمانين رجلاً . قال : ثم كبر المسلمون وحملوا عليهم وكشفوهم كشفة قبيحة . ثم تراجعت بنو حنيفة ومعهم صاحبهم مسيلمة حتى وقف أمام قومه ثم حسر عن رأسه ، ثم إنه حمل وحمل معه بنو حنيفة وانهزم المسلمون بين أيديهم وأسلموا سوادهم ، وصارت بنو حنيفة إلى فسطاط خالد . « فزال ( هرب ) خالد عن فسطاطه ، ودخل أناس الفسطاط وفيه مجاعة
--------------------------- 580 ---------------------------
( أسيرخالد ) عند أم تميم ، فحمل عليها رجل بالسيف ، فقال مجاعة : أنا لها جارٌ فنعمت الحرة ، عليكم بالرجال فرَعْبَلُوا الفسطاط بالسيوف » . ( الطبري : 2 / 510 ) .
وكان مجاعة مقيداً فحل وثاقه بنو حنيفة لأنه من رؤسائهم ، فأمرهم بترك أم تميم فأطاعوه ، والعجيب أنه لم يذهب معهم وبقي أسيراً ، والظاهر أنه عشق أم تميم ، وكانت كما قالوا أجمل نساء العرب ، وقد وجد خالد مَجَّاعة في الطريق فأسره وجعله عند زوجته ! ثم زوج مجاعة خالداً ابنته !
ثم كانت حملة فرسان الأنصار المئة : « وأقبل عباد بن بشرالأنصاري حتى وقف على باب الحديقة ثم نادى بأعلى صوته : يا معشر الأنصار ! إحطموا جفون سيوفكم واقتحموا الحديقة عليهم فقاتلوهم أو يقتل مسيلمة الكذاب . ثم كسر عباد بن بشرجفن سيفه ، وكسرت الأنصار جفان سيوفهم واقتحموا الحديقة ، فقاتلوا حتى ما بقي منهم إلا أربعة نفر ، فإنهم أقبلوا مجروحين لما بهم . قال : وعظم الأمر على الفريقين جميعاً » !
ثم اقتحم المسلمون الحديقة فنجح هجومهم داخلها حتى قتلوا عدو الله مسيلمة .
وبعد هذه الهزيمة القبيحة ، نهض الأبطال عمار بن ياسر ، والبراء بن مالك ، وأبو دجانة ، وثابت بن قيس بن شماس ، وابن عمه بشير من بني النجار ، وغيرهم من حماة الأنصار ، فتقدموا وحملوا على بني حنيفة حتى هزموهم وساقوهم إلى الحديقة .
وهنا تشجع خالد ! فقال ابن الأعثم ( 1 / 31 ) : « واقتحم خالد بن الوليد الحديقة بفرسه وبيده سيف لو ضرب به الحجر لقطعه ، قال : فاستقبله رجل من بني حنيفة فقال له : أين تريد يا ابن كذا وكذا ؟ فحمل عليه خالد واعتنقه الحنفي فسقطا عن فرسيهما جميعاً إلى الأرض ، فسقط الحنفي تحت خالد فجعل يجرحه بخنجر كان معه ، وخالد قد قبض على حلقه والحنفي يجرحه من تحت ، حتى جرحه سبع جراحات ، فوثب خالد وتركه ، وإذا فرس خالد قد غار عن الحديقة ، فجعل خالد ظهره إلى باب الحديقة وجعل يقاتل حتى تخلص وهو لما به » !
أي لم يستطع خالد أن يغلب الحنفي ، مع أن سيفه يقطع الصخر والحنفي وقع تحته ! فطعنه الحنفي طعنات وتمكن خالد أن يهرب منه فوجد فرسه قد هرب ، فاحتمى
--------------------------- 581 ---------------------------
بحائط الحديقة ورجع إلى خيمته وهو في آخر رمق ولم يدخل إلى الحديقة ، مع أن المعركة دامت فيها نصف نهار وقد كان مسيلمة يقاتل وهو حاسر ، حتى قُتل ! وبعد قتل مسيلمة تشجع القائد خالد : « حتى دخل الحديقة ومعه جماعة من المسلمين ، فوقف على مسيلمة وهو مقتول » !

5 - تلاميذ علي ( عليه السلام ) صُنَّاع النصر في حرب اليمامة

1 . كان سبب هزيمة المسلمين المكررة في معركة اليمامة : أن المعركة في بلد العدو ، فبنو حنيفة مدافعون والمسلمون مهاجمون . والسبب الأهم جبن القائد خالد بن الوليد ! فمسيلمة كان يقاتل في أول قومه : « ثم حسر عن رأسه ، ثم إنه حمل وحمل معه بنو حنيفة كحملة رجل واحد ، وانهزم المسلمون بين أيديهم ، وأسلموا سوادهم . . وصارت بنو حنيفة إلى فسطاط خالد » . ( ابن الأعثم : 1 / 27 ) .
أما خالد ، فيجلس في فسطاطه في آخر الجيش ، ولما وصلت الهزيمة إلى خيمته هرب وترك « زوجته » التي سرقها من مالك بن نويرة . وهذا أسلوبه في إدارة المعركة يجلس في مؤخرة الجيش ، فإن انتصر تقدم لإدارة النصر ، وإن انهزم كان في أوله ثم يتشاور مع ضباطه فيما يفعل . وقد يحضرأثناء المعركة للمراقبة ومعه مجموعة حرس .
قال الطبري ( 2 / 512 ) : « وحمل خالد بن الوليد وقال لحماته : لا أوتين من خلفي » .
2 . قاد عمار الحرب لا خالد !
سبب انتصار المسلمين بعد هزائمهم ، مبادرات تلاميذ علي ( عليه السلام ) الأبطال الشجعان ، وهم : عمار بن ياسر ، وأبو دجانة الأنصاري ، والبراء بن مالك ، وثابت بن قيس ، وبشير بن عبد الله ابن عم ثابت ، وأم سليم نسيبة بنت عمارة .
أما الذين نسبت لهم السلطة النصر فهم : خالد بن الوليد وزيد بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي‌بكر ووحشي . وحذيفة بن عتبة ، وسالم مولاه .
قال عبد الله بن عمر ( ابن الأعثم : 1 / 27 ) : « وتقدم عمار بن ياسر وفي يده صفيحة له يمانية ، ثم حمل فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة ، وحمل رجل من بني حنيفة
--------------------------- 582 ---------------------------
فضربه فاتقاها عمار بجحفته فزاحت الضربة عن الجحفة وهوت إلى أذن عمار فرمت بها ، فلما بقيت أذن عمار معلقة سقطت على عاتقه ، قال : وداخله عمار فضربه ضربة قتله » .
وروى الحاكم : 3 / 385 ، عن عبد الله بن عمر : « رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح : يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون ! أنا عمار بن ياسر ، أمن الجنة تفرون ! أنا عمار بن ياسر ، هلمَّ إليَّ . وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تَذَبْذَب ، وهو يقاتل أشد القتال » !
وكفى بهذين المشهدين دليلاً على أن عماراً كان قائد المعركة فالقائد في أول الجيش ، وكان يومها ابن بضع وستين سنة . فأين كان خالد !
وبطولات عمارعديدة في فتوحات العراق وفارس ، وقبلها في حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد قتل في بدر بضعة فرسان منهم أحد صناديد قريش الحارث بن زمعة . ( ابن هشام : 2 / 527 ) .
ومن صناع النصر في اليمامة أبو دجانة :
سماك بن خرشة الخزرجي ، وكان من شجعان بدر بعد علي ( عليه السلام ) وحمزة وعبيدة بن الحارث . وفي معركة أحُد أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفاً بيده فهزه وقال : « من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقال الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله ، فأعرض عنه وقال : من يأخذه بحقه ؟ فقام إليه أبو دجانة فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : ألايقفَ به في الكُبُول ، وأن يضرب به في العدو حتى ينحني . فقال : أنا آخذه يا رسول الله فدفعه إليه فأخذه أبو دجانة ، ثم أخرج عصابة معه حمراء فتعصب بها فقالت الأنصار : تعصب أبو دجانة عصابته قد نزل الموت ) ! ( شرح الأخبار : 1 / 273 ، وصحيح مسلم : 7 / 151 ) .
وفي الكافي ( 8 / 318 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما انهزم الناس يوم أحد عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) انصرف إليهم بوجهه وهو يقول : أنا محمد أنا رسول الله ، لم أقتل ولم أمت . . وبقي معه علي ( عليه السلام ) وسماك بن خرشة أبو دجانة فدعاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا أبا دجانة انصرف وأنت في حل من بيعتك ، فأما عليٌّ فأنا هو وهو أنا ، فتحول وجلس بين يدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى وقال : لا والله ، ورفع رأسه إلى السماء وقال : لا والله ، لاجعلت نفسي في حل من بيعتي ، إني بايعتك فإلى من أنصرف يا رسول الله ؟ إلى زوجة تموت
--------------------------- 583 ---------------------------
أو ولد يموت أو دار تخرب ومال يفنى وأجل قد اقترب ! فرقَّ له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
فلم يزل يقاتل حتى أثخنته الجراحة ، وهو في وجه وعلي في وجه ، فلما سقط احتمله علي فجاء به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووضعه عنده فقال : يا رسول الله أوفيت ببيعتي ؟ قال : نعم ، وقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خيراً » .
ولما رأى أبو دجانة هزيمة المسلمين أمام قوم مسيلمة ، وأنهم رَعْبَلوا فسطاط خالد وقطعوا أطنابه بالسيوف ، غاضه ذلك فنادى هو وعمار : ويحكم يا قراء القرآن ! أما تخافون غضب الرحمن وعذاب النيران ؟ ويحكم يا أهل دين محمد ! أين الفرار ممن يزعم أنه شريك نبيكم محمد في نبوته ورسالته ! أما تخافون الله أن يطلع عليكم فيجازيكم على سوء فعلتكم ! ( الطبري : 2 / 510 ) .
قال ابن الأعثم ( 1 / 29 ) : « فثاب الناس إليه من كان جانب حتى أحدقوا به ، ودنت بنو حنيفة للقتال كأنهم الأسد الضارية واشتبك الحرب بين الفريقين ، وتقدم أبو دجانة ثم حمل على بني حنيفة فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة . . حتى تحصنوا في الحديقة ) .
وفي فتوح ابن الأعثم ( 1 / 30 ) : « فلما أدخلوهم إلى جوفها ومسيلمة معهم ، فقال أبو دجانة الأنصاري : ويحكم يا معشر الأنصار إحملوني حملاً وألقوني إليهم ، قال : فحملوا أبا دجانة على ترس ثم رُفِع بالرماح حتى ألقيَ في جوف الحديقة . . ثم وثب كالليث المغضب ، فلم يزل يقاتل في جوف الحديقة حتى قتل ، رحمة الله عليه » .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 130 ) : « ثم قتل مسيلمة في المعركة ، طعنه أبو دجانة الأنصاري ، فمشى إليه مسيلمة في الرمح فقتله . ورماه وحشي بحربته فقتله » !
وفي تاريخ خليفة / 70 : « اقتحم فقاتلهم على الحديقة حتى فتحها للمسلمين . . وفيه بضع وثمانون جراحة » !

ومن صناع النصر ثابت بن قيس خطيب الأنصار :

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 2 / 11 ) : « قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس وشهد له بالجنة . . وشهد بدراً والمشاهد كلها ودخل عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
--------------------------- 584 ---------------------------
وهو عليل فقال : أذهب البأس رب الناس ، عن ثابت بن قيس بن شماس » .
روى المفيد في أماليه / 49 : « عن مروان بن عثمان قال : لما بايع الناس أبا بكر . . خرج علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) نحو العالية فلقيه ثابت بن قيس بن شماس فقال : ما شأنك يا أبا الحسن ؟ فقال : أرادوا أن يحرقوا عليَّ بيتي ، وأبو بكر على المنبر يبايع له ولا يدفع عن ذلك ولا ينكره ! فقال له ثابت : ولا تفارق كفي يدك حتى أقتل دونك ، فانطلقا جميعاً حتى عادا إلى المدينة » .
ويبدو أن قيس بن ثابت ( رحمه الله ) كان ناشطاً بعد فتح مكة عندما كثر القرشيون في المدينة ، وكانوا يعملون لأخذ الخلافة ، وعزل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) والأنصار ، ولذلك أرادوا اغتياله فوقاه علي ( عليه السلام ) ، وأنجاهما الله تعالى بكرامة ( مناقب آل أبي طالب : 2 / 130 ) .
وروى اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 179 ) فرحة الصحابة ببيعة علي ( عليه السلام ) ، وخُطَبَهم في المسجد النبوي ، فقال : « وقام قوم من الأنصار فتكلموا ، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وكان خطيب الأنصار ، فقال : والله يا أمير المؤمنين لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين ، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ، ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون ، وما احتجت إلى أحد مع علمك . ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري وهو ذو الشهادتين ، فقال : يا أمير المؤمنين ! ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ، ولا كان المنقلب إلا إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا فيك ، فلأنت أقدم الناس إيماناً وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لك ما لهم ، وليس لهم ما لك . . . الخ . » .
وعندما انهزم المسلمون في اليمامة وقف ثابت ونادى في المسلمين فقال : « بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! اللهم إني أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء يعنى أهل اليمامة ، وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء يعني المسلمين » ! ( الطبري : 2 / 510 )
وفي فتوح ابن الأعثم ( 1 / 29 ) : « فتقدم وفي يده راية صفراء ، ثم حمل على القوم فلم يزل يطاعن حتى قتل . قال : فتقدم ابن عم له يقال له بشير بن عبد الله ، حتى وقف بين الجمعين ،
--------------------------- 585 ---------------------------
قال : ثم حمل بشير بن عبد الله هذا فلم يزل يقاتل حتى قتل » .

ومن صناع النصر البراء بن بن مالك :

قال السيد الخوئي ( 4 / 188 ) : « البراء بن مالك الأنصاري ، أخو أنس بن مالك ، شهد بدراً وأحداً والخندق وقتل يوم تستر . من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . .
وقال الكشي في ترجمة أبي أيوب . . من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أبو الهيثم بن التيهان ، وأبو أيوب ، وخزيمة بن ثابت ، وجابر بن عبد الله ، وزيد بن أرقم ، وأبو سعيد الخدري ، وسهل بن حنيف ، والبراء بن مالك ، وعثمان بن حنيف ، وعبادة بن الصامت . ثم ممن دونهم قيس بن سعد بن عبادة ، وعدي بن حاتم ، وعمرو بن الحمق ، وعمران بن الحصين ، وبريدة الأسلمي ، وبشر بن كثير » . ومعنى رجوعهم اليه ( عليه السلام ) إدانتهم لأهل السقيفة .
وقال الطبري : 2 / 510 ، عن بطولة البراء في اليمامة : « انهزم المسلمون . . ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، وكان إذا حضر الحرب أخذته العروراء حتى يقعد عليه الرجال ، ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله ، فإذا بال يثور كما يثور الأسد ، فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال ، فلما بال وثب فقال : أين يا معشر المسلمين ، أنا البراء بن مالك هلمَّ إليَّ ! وفاءت فئة من الناس فقاتلوا القوم حتى قتلهم الله ، وخلصوا إلى مُحكَّم اليمامة وهو محكم بن الطفيل . . ثم زحف المسلمون حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت ، وفيها عدو الله مسيلمة الكذاب فقال البراء : يا معشر المسلمين ألقونى عليهم في الحديقة ، فقال الناس : لا نفعل يا براء ، فقال والله لتطرحني عليهم فيها ! فاحتُمل حتى إذا أشرف على الحديقة من الجدار اقتحم فقاتلهم عن باب الحديقة حتى فتحها للمسلمين ، ودخل المسلمون عليهم فيها فاقتتلوا حتى قتل الله مسيلمة عدو الله » .

ومن صناع النصر عباد بن بشر الأنصاري :

روى ابن سعد ( 3 / 441 ) عن أبي سعيد الخدري قال : « سمعت عباد بن بشريقول : يا
--------------------------- 586 ---------------------------
أبا سعيد رأيت الليلة كأن السماء قد فرجت لي ثم أطبقت عليَّ ، فهي إن شاء الله الشهادة . قال قلت : خيراً والله رأيت . قال فأنظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار إحطموا جفون السيوف وتميزوا من الناس . وجعل يقول أخلصونا أخلصونا ، فأخلصوا أربع مائة رجل من الأنصار ، ما يخالطهم أحد يقدمهم عباد بن بشر وأبو دجانة والبراء بن مالك ، حتى انتهوا إلى باب الحديقة فقاتلوا أشد القتال ، وقتل عباد بن بشر ، فرأيت بوجهه ضرباً كثيراً » .
وقال ابن الأعثم ( 1 / 31 ) : « وأقبل عباد بن بشرالأنصاري حتى وقف على باب الحديقة ثم نادى بأعلى صوته : يا معشر الأنصار ! إحطموا جفون سيوفكم واقتحموا الحديقة عليهم فقاتلوهم ، قال : ثم كسر عباد بن بشرجفن سيفه ، وكسرت الأنصار جفان سيوفهم واقتحموا الحديقة مائة رجل ، فقاتلوا حتى ما بقي منهم إلا أربعة نفر ، فإنهم أقبلوا مجروحين لما بهم . قال : وعظم الأمر على الفريقين جميعاً . . والتفت بنو حنيفة إلى مسيلمة فقالوا له : يا أبا ثمامة ! ألا ترى إلى ما نحن فيه من قتال هؤلاء . . قال : فاقتحم المسلمون بأجمعهم على مسيلمة وأصحابه فقاتلوهم حتى احمرت الأرض من الدماء » .

6 - خالد بن الوليد عنده هواية القتل !

في الطبري ( 2 / 516 ) : « خرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالداً فقال : أكتب كتابك فكتب : هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلاناً وفلاناً ، قاضاهم على الصُّفَّراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع ، وحائط من كل قرية ومزرعة ، على أن يسلموا . ثم أنتم آمنون بأمان الله ، ولكم ذمة خالد بن الوليد وذمة أبي‌بكر خليفة رسول الله ، وذمم المسلمين على الوفاء . لكن خالداً لم ينفذ ما كتبه معهم بل نفذ أمر أبي‌بكر : ( بعث رجلاً من الأنصار إلى خالد يأمره أن يقتل من أنبت من
بني حنيفة ) . ( تاريخ الطبري : 2 / 517 ، وخليفة / 72 ، وابن خلدون : 2 ق 2 / 76 ، والكامل : 2 / 365 ، والإصابة : 7 / 342 ) .
وبقي خالد بعد معركة اليمامة شهراً وتزوج بنت أسيره مجَّاعة ، ومارس هوايته في القتل
--------------------------- 587 ---------------------------
صبراً ! فقد نص المؤرخون على أنه قتل نحو سبعة آلاف !
قال الطبري : 2 / 516 ، وغيره : « وقتل من بني حنيفة في الفضاء بعقرباء سبعة آلاف ، وفي حديقة الموت سبعة آلاف ، وفي الطلب نحوٌ منها » أي كان خالد يبعث الخيل فيقبضوا عليهم ويقتلهم !
* *
--------------------------- 588 ---------------------------

الفصل الثامن والعشرون: علي ( عليه السلام ) يمنع انهيارالدولة في عهد عمر

كان عمر يستشير علياً ( عليه السلام ) في شؤون الدولة

1 . كان لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) دور واسعٌ في كل الفتوحات ، من فتح العراق إلى إيران ، وفتح فلسطين ، إلى بقية بلاد الشام ، ثم مصر . فهو الذي ساند القائد المثنى بن حارثة الشيباني في معاركه مع قوات كسرى ، في حين وبخه عمر وأمره بالإنسحاب .
وهو الذي أرسل القائد خالد بن سعيد بن العاص فقاد المسلمين مع شرحبيل بن حسنة معركة أجنادين ، فانتصروفتح فلسطين ، ثم حقق النصر فيما بعدها من معارك إلى اليرموك .
وهو الذي أرسل مالك الأشتر وأصحابه الفرسان ، وعمرو بن معدي كرب وأصحابه الفرسان ، مدداً لأبي عبيدة وخالد في معركة اليرموك ، فحققوا النصر وهزموا الروم ، حتى قرر هرقل الانسحاب من بلاد الشام كلياً .
وهو الذي أدار معركة نهاوند لما جمع الفرس مئة وخمسين ألف مقاتل ، فارتعد عمر والمسلمون ، فأطلق يد علي ( عليه السلام ) فأدار المعركة ، وجعل قائدها النعمان بن مقرن ، فإن استشهد فحذيفة بن اليمان ، وقد حققا النصر للمسلمين .
وهو الذي شجع عمرعلى فتح إيران ، حتى أقنعه فبعث الأحنف لفتح خراسان .
قال علي ( عليه السلام ) : ( كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ) . ( الخصال / 365 ) .
لذلك كان علي ( عليه السلام ) يشكو قريشاً فيقول ( شرح النهج : 20 / 298 ) : « اللهم إني أستعديك على
--------------------------- 589 ---------------------------
قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبةُ بي والدائرةُ عليَّ .
ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة ، لما عَبَدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدَّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً ! ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرَتْ بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سَمِجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا أنه حق لما كان كذا ! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خَمِل ذكرُه وخَبَتْ نارُه ، وانقطع صوته وصِيتُه ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف » !
يذكرهم سلام الله عليه بأنه هو الذي رد هجوم المرتدين عن المدينة ، ودفع أبا بكر إلى حروب الردة ، ثم إلى هذه الفتوح ، ودبر إدارتها وهيأ أبطالها ، لكن إعلام السلطة نسبها إلى الخليفة ! ومن الواضح أن مَشُورة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالفتوحات ، وإرساله بعض قادتها ، لا يعني مسؤوليته عن المظالم الكبيرة التي ارتكبها قادة وولاةٌ لم يعينهم هو .
أما الذين أرسلهم هو فكانوا قدوة في نزاههتم وبطولاتهم .
2 . وهذه قائمة بأبرز تلاميذه وشيعته ( عليه السلام ) ، من فرسان الفتوحات وقادتها الميدانيين الذين خاضوا غمار المعارك ، وحققوا الانتصارات الواسعة ، فمنهم :
حذيفة بن اليمان ، وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن عمرو ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وابنه وأخوه عمرو ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص المعروف بالمرقال ، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب الهاشمي ، وأولاده عبد الله وعتبة ، وبريدة الأسلمي ، وعبادة بن الصامت ، وأبو أيوب الأنصاري ، وعثمان بن حنيف وإخوته ، وعبد الرحمن بن سهل الأنصاري ، ومالك بن الحارث الأشتر وإخوته ، ومعه عدد من القادة والفرسان
--------------------------- 590 ---------------------------
النخعيين ، وصعصعة بن صوحان العبدي وإخوته ، والأحنف بن قيس ، وحجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وأبو الهيثم بن التيهان ، والنعمان بن مقرن ، وبديل بن ورقاء الخزاعي ، وأبو رافع مولى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأولاده ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، والبراء بن عازب ، وبلال بن رباح مؤذن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقيس بن ثابت الأنصاري ، وعبد الله بن خليفة البجلي ، وعدي بن حاتم الطائي ، وأبو عبيد بن مسعود الثقفي ، وأبو الدرداء ، ومحمد بن أبي‌بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة الأموي ، وجارية بن قدامة السعدي ، وأبو الأسود الدؤلي . . وغيرهم .
* *

أول معركة للمسلمين مع الروم في غزة قادها شيعي

قال البلاذري : 1 / 130 : « فأول وقعة كانت بين المسلمين وعدوهم بقرية من قرى غزة يقال لها دائن ، كانت بينهم وبين بطريق غزة ، فاقتتلوا فيها قتالاً شديداً ، ثم إن الله تعالى أظهر أولياءه وهزم أعداءه وفض جمعهم ، وذلك قبل قدوم خالد بن الوليد الشام ) .
وفي تاريخ الطبري : 2 / 601 : « اجتمع الروم جمعاً بالعَرْبَة من أرض فلسطين فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي ، ففض ذلك الجمع . قالوا : فأول حرب كانت بالشام بعد سرية أسامة ( يقصد جيش أسامة ) بالعربة ، ثم أتوا الداثنة ويقال الداثن فهزمهم أبو أمامة الباهلي ، وقتل بطريقاً منهم » .
وقد طمسوا دور أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وهو صحابي ثقة ، وقائد بطل . قال في الإستيعاب : 4 / 1602 : « اسمه صُدَيُّ بنُ عجلان . كان من المكثرين في الرواية عن رسول الله ، وأكثر حديثه عند الشاميين . توفي سنة إحدى وثمانين ) .
وقال ابن قتيبة في المعارف / 309 : « كان ممن شهد مع علي صفين ، ونزل بالشام ، وهو ممن يعد فيمن تأخر موته من الصحابة ، وتوفي سنة ست وثمانين ، وهو ابن إحدى وتسعين سنة » .
وذنبه عندهم أن أحاديثه صريحة في التشيع لأهل‌البيت ( عليهم السلام ) كالذي رواه عنه محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( 1 / 545 ) قال : « دخل على معاوية بن أبي سفيان فألطفه
--------------------------- 591 ---------------------------
وأدناه ، ثم دعا بغداء فجعل يطعم أبا أمامة بيده ، ثم أوسع رأسه ولحيته طيباً بيده ، ثم أمر له ببدرة دنانير فأتي بها فدفعها إليه ، ثم قال : يا أبا أمامة سألتك بالله ، أنا خير أم علي بن أبي طالب ؟ !
فقال أبو أمامة : والله لا كذبت ، ولو بغير الله سألتني لصدقت فكيف وسألتني بالله ! عليٌّ والله خير منك وأكرم وأقدم هجرة ، وأقرب من رسول الله قرابة وأشد في المشركين نكاية ، وأعظم على المسلمين منة ، وأعظم غَنَاءً عن الأمة منك ! يا معاوية أتدري ويلك مَن علي ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين ، وأبو الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وابن أخي حمزة سيد الشهداء ، وأخو جعفر ذي الجناحين الطيار مع الملائكة في الجنة ، فأين تقع أنت من هذا ! يا معاوية ، أوَظننت أني سأخيِّرُك على علي بن أبي طالب بإلطافك وإطعامك ومالك ، فأدخل إليك مؤمناً وأخرج عنك كافراً ! ؟ بئس ماسوَّلت لك نفسك يا معاوية ! ثم نفض ثوبه وخرج من عنده . قال : فأتبعه معاوية بالمال فقال : والله لا أرزأ منه ديناراً أبداً » !
وروى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ( 2 / 203 ) : « عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة ، فأنا أصلها وعليٌّ فرعها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجى ، ومن زاغ هوى .
ولو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثم ألف عام ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالي ، ثم لم يدرك محبتنا أكبه الله على منخريه في النار » . وأحاديثه في فضائل أهل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجوب اتباعهم كثيرة مهمة .
هذا ، وقد ذكر الواقدي ( 2 / 235 ) أن المقداد بن الأسود كان في فتوح الشام ، وهو قائد ، وقد أهملوا دوره !
* *
--------------------------- 592 ---------------------------

أرسل علي ( عليه السلام ) خالد بن سعيد ليثأر لجعفر ( عليه السلام ) ويفتح فلسطين

1 . كان أول جيش أرسله أبو بكر لفتح الشام جيش خالد بن سعيد بن العاص ، وبعد أن قطع ثلث الطريق من الحجاز إلى الشام عزله أبو بكر وعيَّن مكانه يزيد بن أبي سفيان . فرجع خالد إلى المدينة ، ثم خرج محتسباً مع جيش شرحبيل بن حسنة ، وكان عدد جيشه بضعة آلاف . فقاد الجيش عملياً خالد ، وحقق النصر في معركة أجنادين ففتح فلسطين ، ثم سلمه كل القادة جيوشهم وقادها !
قال ابن أعثم في الفتوح ( 1 / 80 ) : ( ثم إن عبد الرحمن بن عوف قام فقال : يا خليفة رسول الله ، إنها الروم وبنو الأصفر ، حد مديد ، وركن شديد ، ما أرى أن نقتحم عليهم اقتحاماً ، ولكن نبعث الخيل فتغير في قواصي أرضهم ثم ترجع إليك . . . وبعد ذلك تكلم كل من طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار كلاماً بهذا المعنى ، وعلي رضي الله عنه ساكت ، فقال أبو بكر : ماذا ترى يا أبا الحسن ؟ فقال : أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت عليهم إن شاء الله .
فقال : بشرك الله بخير . ومن أين علمت ذلك ؟ قال سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه ، حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون . فقال : سبحان الله ، ما أحسن هذا الحديث .
ثم ذكر تأميره لخالد بن سعيد فقبل خالد ذلك وقال : إنني مع إخواني وأبناء عمومتي قد وطنا العزم على الجهاد في سبيل الله ، وسنبذل ما في وسعنا لجهاد الكفرة ، فأثنى الصديق على موقفه ) !
وقال البلاذري في الفتوح ( 1 / 128 ) : « لما عقد أبو بكر لخالد بن سعيد كره عمر ذلك فكلم أبا بكر في عزله وقال إنه رجل فخور ، يحمل أمره على المغالبة والتعصب ) .
أقول : سبب عداء عمر لخالد بن سعيد رضي الله عنه أنه كان أول من اعترض على بيعة أبي‌بكر وخطب في المسجد ووبخ أبا بكر وعمر ، فأجابه عمر فرده خالد بشدة
--------------------------- 593 ---------------------------
وأسكته وهو الوحيد الذي أسكت عمر !
ثم كانت لخالد مواقف شديدة معهم في أحداث السقيفة ، لذلك أصر عمر على أبي‌بكر حتى عزله عن جيش الشام بعد أن سار بأيام !
ثم خرج مع شرحبيل بن حسنة ، جندياً احتساباً لله تعالى ، وكان شرحبيل يحترمه فكان هو القائد عملياً ، وقد فرضت كفاءته وبطولته نفسها على قادة الجيوش في الشام ، فسلموه قيادة المعارك بعد أجنادين ، ثم انقطع خبره وهو في معركة اليرموك ، فلا يبعد أنهم قتلوه !
2 . كانت معركة أجنادين بعد تبوك ، ثأراً لجعفر ! قال اليعقوبي ( 2 / 67 ) :
« سار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جمع كثير إلى تبوك يطلب بدم جعفر بن أبي طالب ( رحمه الله ) ) .
وكان شرحبيل بن حسنة وخالد بن سعيد رضي الله عنهما يعيشان هذا الهدف لأنهما كانا مهاجرين مع جعفر في الحبشة ، ورأيا مكانته عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشاركا في جيش تبوك . وعندما سمعا بتجميع هرقل لقواته في أجنادين وهي قرب مؤتة استبشرا ، وأرسلا إلى أبي عبيدة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وعمرو العاص ، وخالد بن الوليد الذي ، كان وصل بست مئة مقاتل من العراق ، وأخبراهم بجمع الروم ، فتوجه الجميع إلى أجنادين .
وتقع أجنادين قرب الخليل ، وقيل في وادي عَجُّور على بُعد 37 كيلو متراً عن الخليل ، و 30 كيلو متراً عن الرملة ، وفيها مؤتة وهي مركز قوات الروم المدافعة عن القدس . « قال ابن إسحاق : ثم ساروا جميعاً قِبَل فلسطين ، فالتقوا بأجنادين بين الرملة وبين بيت جبريل ، والأمراء كلٌّ على جنده . وعلى الروم القنقلار ، فقتل القنقلار وهزم الله المشركين » . ( تاريخ خليفة / 79 ) .
وفي تاريخ دمشق ( 16 / 84 ) : « ثم زحف إليهم فوقف خالد بن سعيد في مقدمة الناس ، يحرض الناس على القتال ، ويرغبهم في الشهادة » .
وقال اليعقوبي ( 2 / 134 ) : « وكانت بينهم وبين الروم وقعات بأجنادين صعبة ، في كل ذلك يهزم الله الروم ، وتكون العاقبة للمسلمين » .
--------------------------- 594 ---------------------------
وفي معجم البلدان ( 1 / 103 ) : « قالت العلماء بأخبار الفتوح : شهد يوم أجنادين
مائة ألف من الروم » .
3 . وقد افتتح معركة أجنادين حفيدان لعبدالمطلب ، ثأراً لجعفر بن أبي طالب
رضي الله عنهم ، أولهما عبد الله بن الزبيرأكبر أبناء عبد المطلب ، وكان أول من برز يوم أجنادين عندما برز بطريق مُعَلَّم ودعا إلى المبارزة ، وكانوا يعطون للفارس الشجاع درجة بطريق ، والمُعَلَّم : الذي عنده درجة في الفروسية ، فبرز إليه عبد الله فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله بن الزبير ، ولم يتعرَّض لسلبه مع أنهم كانوا يحرصون على سلب الفرسان المميزين ، لأنه يلبس قلنسوة مُذَهَّبة ، وحزاماً عريضاً مُذهباً ، يسمى مَنطقة . لكن حفيد عبد المطلب رضي الله عنه أعرض عنه ، لأنه رأى بطلاً رومياً آخر جاء يطلب المبارزة فبرز إليه ، فتشاولا بالرمحين ثم صارا إلى السيفين ، وكان الرومي مُدَرَّعاً ، فحمل عليه عبد الله فضربه على عاتقه ، وهو يقول : خذها وأنا ابن عبد المطلب ! فشقت ضربته الدرع ، وأسرع السيف في منكب الرومي ، فولى منهزماً ، ثم سقط .
وقيل لعبد الله كفاك هذا فلا تقاتل ! فقال : لا أجدني أصبر ، وحمل على الروم وقتل عدداً من فرسانهم . وبحث عنه المسلمون بعد المعركة فوجدوه مثخناً بالجراح ، في وجهه ثلاثون ضربة سيف ، وحوله عشرة من الروم مجندلين ، ووجدوا سيفه بيده لاصقاً ، فعالجوه حتى نزعوه بعد عناء . وذكروا أن أمه مخزومية ، وله عدة أخوات ولاعقب له رضي الله عنه وأرضاه .
( الإستيعاب : 3 / 904 ، والإصابة : 4 / 78 ، وتاريخ دمشق : 8 / 138 ) .
أما ثاني حفيد لعبدالمطلب فهو : طُلَيب بن عمير بن وهب من بني عبد بن قصي : « أمّه أروى بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، يكنى أبا عدي . هاجر طُليب بن عمير إلى أرض الحبشة ثم شهد بدراً وكان من خيار الصحابة . قال الزبير بن بكار : كان طُليب بن عمير بن وهب من المهاجرين الأولين ، وشهد بدراً ، قتل بأجنادين شهيداً ) . ( الإستيعاب : 2 / 772 ) .
--------------------------- 595 ---------------------------
4 . وقاد خالد بن سعيد ، وهاشم المرقال ، معركة أجنادين ، ومَرْجَ الصُّفَّر ، وفِحل ، وحققا النصر للمسلمين ، وكذا في محاصرة دمشق ! وقال ابن سعد في الطبقات ( 4 / 98 ) : « شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين وفحل ومرج الصُّفَّر » .
وارتضاه الجميع قائداً عاماً لمعركة مرج الصُّفَّر ، ففي تاريخ خليفة / 120 : « قال ابن إسحاق : في هذه السنة وقعة مرج الصُّفَّر يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، والأمير خالد بن سعيد » .
وقال الذهبي في العبر ( 1 / 17 ) : « كانت وقعة هائلة استشهد فيها جماعة » .
أقول : مرج الصُّفَّر موضع بين دمشق والجولان ، وكانت معركتها بعد أجنادين بنحو عشرين يوماً ، وكان عدد الروم فيها شبيهاً بعددهم في أجنادين .
وقد اختار القادة الأربعة : ابن الجراح وابن أبي سفيان وابن العاص وشرحبيل ، خالدَ بن سعيد للقيادة ، لأنهم رأوا منه في أجنادين سداد رأي وبطولة .
كما وصفوا بطولة أخيه عمرو في هذه المعركة ، فقال في فتوح بن الأعثم ( 1 / 152 ) : « تقدم عمرو بن سعيد وكان من أفاضل الناس وفرسان المسلمين ، حتى وقف بين الجمعين ثم رفع صوته وقرأ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يا أيها الناس أطلبوا الجنة فإنها نعم المأوى ونعم القرار ولنعم دار الأبرار ، ولمن هي يا قوم ؟ هي والله لمن شرى نفسه وقاتل في سبيل الله ! ثم نادى بأعلى صوته : إليَّ إليَّ يا أهيل الإسلام ، فأنا عمرو بن سعيد ! ثم حمل هذا عمرو على الروم فقاتل قتالاً حسناً ، ثم رجع إلى المسلمين وقد أصابته ضربة على حاجبه الأيمن والدم يسيل من الضربة حتى ملأت عينه ، فلم يستطع أن يفتح جفن عينه من الدم . قال : ثم حمل عمرو بن سعيد فلم يزل يقاتل حتى قتل رحمة الله عليه » .
ثم كانت معركة فِحل في فلسطين ، وقادها خالد بن سعيد أيضاً ( ابن الأعثم : 1 / 153 ) وتقع قيسارية على ساحل فلسطين بين حيفا ويافا ، ويقع بمحاذاتها إلى داخل
--------------------------- 596 ---------------------------
فلسطين سهل بيسان ، وبمحاذاته إلى الداخل فِحل ، وهي قريبة نسبياً من اليرموك ، قبل أن تصل إلى مرج الصفر .
وبهذا كان فتح فلسطين وقسم من سوريا ، بيد تلاميذ علي ( عليه السلام ) الذين أرسلهم إلى الشام .

تعاظَمَ أمرخالد بن سعيد فقتلوه !

أجمع قادة جيوش الشام على تسليم القيادة له بعد بطولاته في معركة أجنادين . وطبيعي أن يُغضب ذلك عمر بن الخطاب لأنه عدوه اللدود ، فقد عزله عن قيادة جيشٍ فصار قائداً لكل الجيوش !
وطبيعي أن يكتب عمرلأبي عبيدة ويوبخه على إعطاء القيادة لخالد بن سعيد . وهذا يفسرلنا انقطاع أخباره بعد هذا التعاظم ، ويكفي أن نقرأ رواية الطبري لنفهم
أنهم قتلوه !

قال الطبري ( 2 / 597 ) : « وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك ، عكرمة ، وعمرو بن عكرمة ، وسلمة بن هشام ، وعمرو بن سعيد ، وأبان بن سعيد ، وأثبت ( جُرح ) خالد بن سعيد ، فلا يدرى أين مات » !

* *

علي ( عليه السلام ) يختار مالك الأشتر لبطولة اليرموك

1 . أخذ هرقل يحشد قواته لمعركة اليرموك ، وخاف أبو عبيدة من المفاجأة ، فأمر بالإنسحاب من حمص إلى دمشق ، فدخلت قوات الروم إلى حمص وأعادت احتلالها .
وروى الحموي في معجم البلدان ( 3 / 280 ) سبب تجميع هرقل جيشه في اليرموك ، فقال : « لما نصر الله المسلمين بفحل ، وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بأنطاكية ، دعا رجالاً منهم فأدخلهم عليه فقال : حدثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فأنتم أكثر أو هم ؟ قالوا : بل نحن ، قال : فما بالكم ؟ فسكتوا ، فقام شيخ منهم وقال : أنا أخبرك أنهم إذا حملوا صبروا ولم يكذبوا ، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب ، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويرون أن قتلاهم في الجنة
--------------------------- 597 ---------------------------
وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر .
فقال : يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجن من هذه القرية وما لي في صحبتكم من حاجة ، ولا في قتال القوم من إرَب !
فقال ذلك الشيخ : أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر ، فقال : قد قاتلتم بأجنادين ودمشق وفحل وحمص كل ذلك تفرون ولاتصلحون ، فقال الشيخ : أتفر وحولك من الروم عدد النجوم ، وأي عذر لك عند النصرانية ؟ فثناه ذلك إلى المقام ، وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجميع الجيوش فقال لهم : يا معشر الروم إن العرب إذا ظهروا على سورية لم يرضوا حتى يتملكوا أقصى بلادكم ، ويسبوا أولادكم ونساءكم ويتخذوا أبناء الملوك عبيداً ، فامنعوا حريمكم وسلطانكم ، وأرسلهم نحو المسلمين فكانت وقعة اليرموك ، وأقام قيصر بأنطاكية .

فلما هزم الروم وجاءه الخبر وبلغه أن المسلمين قد بلغوا قنسرين خرج يريد القسطنطينية ، وصعد على نشز وأشرف على أرض الروم وقال : سلام عليك يا سورية ، سلام مودع لا يرجو أن يرجع إليك أبداً ! ثم قال : ويحك أرضاً ! ما أنفعك أرضاً ! ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب ! ثم إنه مضى إلى القسطنطينية » .

وفي تاريخ دمشق ( 2 / 162 ) : « فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلاً واسع العطن ، واسع المطرد ضيق المهرب . . فنزلوا الواقوصة على ضفة اليرموك ، وصار الوادي خندقاً لهم وهو لهب لا يدرك ، وإنما أراد باهان وأصحابه أن تستفيق الروم » . فخاف خالد وأبو عبيدة من تحشيد الروم ، فكتبا إلى أبي‌بكر ، ثم كتب أبو عبيدة إلى عمر : « حشد الروم مئة وعشرين ألف مقاتل ، وكان عدد المسلمين أربعةً وعشرين ألفاً ) . ( تاريخ دمشق : 2 / 143 ) .
أقول : وكان عليٌّ ( عليه السلام ) أرسل إلى الأشتر وابن معدي كرب ، وفرسان النخعيين والزبيديين ، وكانوا شيعته وأنصاره لما كان في اليمن .
--------------------------- 598 ---------------------------
قال الواقدي ( 1 / 68 ) : « فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي . . وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام . . واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف ، فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتاباً إلى خالد بن الوليد . . وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة ، ويكفيك ابن معد يكرب الزبيدي ، ومالك بن الحارث » .
ثم توفي أبو بكر واستمر تحشيد الروم قواتهم ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر : « واعلم يا أمير المؤمنين أن كلب الروم هرقل قد استفزَّ علينا كل من يحمل الصليب ، وقد سار القوم الينا كالجراد المنتشر ، وقد نزلنا باليرموك بالقرب من أرض الرماة والخولان . . .
فلما فتح عمر الكتاب انتقع لونه وتزعزع كونه ، وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون . فقال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من الصحابة : يا أمير المؤمنين أطلعنا على ما في هذا الكتاب من أمر إخواننا المسلمين . فقام عمر ورقى المنبر خطيباً وقرأ الكتاب على الناس ، فلما سمعوا ما فيه ضجوا بالبكاء شوقاً إلى إخوانهم وشفقة عليهم ، وكان أكثر الناس بكاء عبد الرحمن بن عوف . . فقال له علي بن أبي طالب : أبشروا رحمكم الله تعالى ، فإن هذه الوقعة يكون فيها آيةٌ من آيات الله تعالى ، يختبر بها عباده المؤمنين لينظر أفعالهم وصبرهم ، فمن صبر واحتسب كان عند الله من الصابرين . واعلموا أن هذه الوقعة هي التي ذكرها لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي يبقى ذكرها إلى الأبد ! هذه الدائرة المهلكة . فقال العباس : على مَن هي يا ابن أخي ؟ فقال : يا عماه على من كفر بالله واتخذ معه ولداً ، فثقوا بنصر الله عز وجل . ثم قال لعمر : يا أمير المؤمنين ، أكتب إلى عاملك أبي عبيدة كتاباً ، وأعلمه فيه أن نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا ، فيوشك أن يكون أمر عظيم ) . ( فتوح الشام للواقدي : 1 / 177 ) .
ويقصد علي ( عليه السلام ) بالآية من آيات الله تعالى : آية النصر بمالك الأشتر رضي الله عنه ، حيث قتل ماهان القائد العام لجيوش هرقل ، وعشرة أو أكثر من قادتهم في مطلع المعركة ، فضعضع أركانهم ، وألقى الرعب في قلوبهم !
قال الواقدي ( 1 / 68 ) : « فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي يريد الشام ، فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي ، فنزل عند
--------------------------- 599 ---------------------------
الإمام علي بأهله ، وكان مالك يحب سيدنا علياً ( عليه السلام ) وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام » .
2 . وقد كتم أكثر رواة السلطة مشاورة أبي‌بكر لعلي ( عليه السلام ) ، وإرساله فرسان النخع
وزبيد . وتبشيره بالنصر ! ونسبوا بطولات الأشتر إلى غيره !
وكذلك بقية أبطال الشيعة كهاشم بن عتبة المرقال ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأخويه عمرو وأبان وابنه سعيد ، والمقداد بن الأسود فارس حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأبي ذر الغفاري ، وكان قائداً لخمس مئة فارس . فقد شهد هؤلاء معركة اليرموك ، كما شهدها القائد حذيفة بن اليمان ، وكان رسول أبي عبيدة بالفتح ، وشهدها عمرو بن معديكرب وهو فارس له وزنه . وشهدها عبادة بن الصامت بن أخ أبي ذر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وهو من الأبطال ، وأبو أيوب الأنصاري وهو من الفرسان القادة ، وجابر بن عبد الله الأنصاري . . وأمثالهم .
وقال في تاريخ دمشق : 2 / 143 : « شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيهم نحو من مائة من أهل بدر » .
ودامت المعركة أربعة أيام ، وكانت حافلة بالأحداث . ( فتوح الشام : 1 / 211 ) . وجعل رواة السلطة بطولاتها لخالد بن الوليد ، وضرار بن الأزور الذي قُتل في اليمامة قبل سنتين ، فأحيوه في اليرموك ! وحتى أبو هريرة الذي لم يُقاتل كل عمره ، صار عند الرواة أسداً في اليرموك !
3 . لكن بطولات الأشتر ظهرت بين السطور ، وقد وصفها الواقدي ، فقال :
( 1 / 223 ) : « فلما عزم ( بطل الروم ما هان ) على الخروج تقدم له راهب من الرهبان فقال : أيها الملك ما أرى لك إلى البراز سبيلاً ولا أحبه لك . قال : ولمَ ذلك ؟ قال : لأني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز . فقال ماهان : لست أفعل والقتل أحب إليَّ من العار ! قال فبخروه وودعوه ، وخرج ماهان إلى القتال ، وهو كأنه جبل ذهب يبرق ، وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز ، وخوف باسمه ، فكان أول من عرفه خالد بن الوليد فقال : هذا ماهان ، هذا صاحب القوم قد خرج . ووالله ما عندهم
--------------------------- 600 ---------------------------
شئ من الخير ! ( ولم يبرز اليه خالد ولا أبو عبيدة ) ! قال : وماهان يُرَعِّبُ باسمه . .
وكان أول من برز مالك النخعي الأشتر وساواه في الميدان ، فقال له ماهان : أنت صاحب خالد بن الوليد ؟ قال : لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه ، فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه ، فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر .
قال : فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ، ثم فكر فيما عزم عليه ، فدبر نفسه وعلم أن الله ناصره ، والدم فائر من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكاً وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه ، وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين : يا مالك إستعن بالله يعنك على قرينك . قال مالك : فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعاً غير موهن ، فعلمت أن الأجل حصين . فلما أحسن ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره ) !
أقول : يفهم من الرواية أن ماهان فرَّ جريحاً ، فذهلت الروم ومالت كفة المعركة لصالح المسلمين ! وقد مات من ضربة الأشتر كما نص الكلاعي ، ثم برز بطل آخر فقتله الأشتر ، فكانوا ثلاثة مبارزة ، ثم حمل عليهم فقتل ثمانية من قادتهم ، فصاروا أحد عشر !
قال في الاكتفاء : 3 / 273 : « كان من جلداء الرجال وأشدائهم ، وأهل القوة والنجدة منهم ، وإنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم ، وقتل منهم ثلاثة مبارزة » !
وقوله قبل أن ينهزموا يعني أن ذلك كان في أول المعركة ، وأنه أثَّر في هزيمتهم .
وفي تاريخ دمشق ( 56 / 379 ) : « وكان الأشتر الأحسن في اليرموك ! قالوا لقد قتل ثلاثة عشر » .
4 . مالك الأشتر وجماعته هم الآية الربانية ، والعباد الموعودون ، أولو البأس الشديد ، فهم الذين فتحوا سوريا وفلسطين والقدس ، لا زيد ولا عمرو !
قال الله تعالى : وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا
--------------------------- 601 ---------------------------
كَبِيرًا . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا . إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا . عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا » .
ومعناها : حكمنا لكم في القضاء المبرم أنكم ستفسدون في المجتمع البشري مرتين ، وتستكبرون وتعلون علواً كبيراً مرة واحدة . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا : وقت عقوبتكم على إفسادكم الأول على يد رسولنا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمته ، أرسلنا عليكم عباداً لنا أصحاب بطش ينزلونه بكم . فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا : أي دخلوا فلسطين بسهولة ، وجاس جنودهم بين البيوت يتعقبون المقاتلين من الروم وعملائهم اليهود . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ : أي أعدنا الغلبة لليهود على هؤلاء المسلمين ، وأعطيناهم أموالاً وأولاداً ، وجعلناهم أكثر منهم أنصاراً في العالم .
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ : إن تبتم بعدها وعملتم خيراً فهو لكم ، وإن أسأتم وطغيتم وعلوتم فهو لكم أيضاً .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ : معناه أنكم ستُسيؤون ، فنمهلكم إلى وقت العقوبة الثانية ونسلط عليكم نفس العباد فيسوؤوا وجوهكم ، ثم يدخلوا المسجد الأقصى فاتحين ، كما دخلوه أول مرة ، ويسحقوا علوكم سحقاً .
فتاريخ اليهود من بعد موسى ( عليه السلام ) إلى آخر حياتهم يتلخص بإفسادهم أولاً ثم عقوبتهم على يد المسلمين ، ثم غلبتهم على المسلمين وكثرة أنصارهم في العالم ، ومعها عُلُوُّهم ، حتى يجئ وعد العقوبة الثانية على يد المسلمين أيضاً ، فالقوم المبعوثون في العقوبة الثانية ، نفسهم المبعوثون في العقوبة الأولى ، وقد أخطأ كثير من المفسرين فجعلوهم قومين ! وقد فسرتهم الأحاديث بأنهم هم أصحاب علي والمهدي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( معجم أحاديث الإمام المهدي ( عليه السلام ) / 640 ) .
--------------------------- 602 ---------------------------
5 . يعلم الله كم من بطولاتٍ في اليرموك أخفاها رواة السلطة ، لخالد بن سعيد بن العاص
وابنه وإخوته ، ولهاشم المرقال ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وحذيفة ، وأبي أمامة ، وعبادة بن الصامت ، وعمرو بن معدي كرب ، وعشرات الأبطال الشيعة ، أصحاب العجائب في المعارك .
وقد ذكر ابن أبي شيبة ( 8 / 14 ) أن النخعيين كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة مقاتل ، وقال : « كنت لا تشاء أن تسمع يوم القادسية : أنا الغلام النخعي ، إلا سمعته » .
6 . وصفوا مالك الأشتر بأنه من شجعان العالم ، قويَّ الروح والبنية ، طويل القامة :
« يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض » . ( المحبر / 113 ) .
وترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 4 / 34 ) ولم يستطع رغم نصبه إلا أن يمدحه فقال : « الأشتر : ملك العرب ، مالك بن الحارث النخعي ، أحد الأشراف والأبطال المذكورين . . فقئت عينه يوم اليرموك . وكان شهماً مطاعاً . . ألب على عثمان وقاتله ، وكان ذا فصاحة وبلاغة . شهد صفين مع علي ، وتميز يومئذ وكاد أن يهزم معاوية ، فحمل عليه أصحاب علي لما رأوا مصاحف جند الشام على الأسنة يدعون إلى كتاب الله ، وما أمكنه مخالفة علي ، فكف » .
وقال العلامة في الخلاصة / 276 : « قدس الله روحه ورضي الله عنه ، جليل القدر عظيم المنزلة ، كان اختصاصه بعلي ( عليه السلام ) أظهر من أن يخفى ، وتأسف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لموته وقال : لقد كان لي كما كنت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وقال السيد الخوئي ( 15 / 168 ) : « لما نُعي الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تأوه حزناً وقال : رحم الله مالكاً وما مالك ، عزَّ عليَّ به هالكاً . لو كان صخراً لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فنداً ، وكأنه قُدَّ مني قَدّاً » !
أي هو من نوع قماشي وطينتي ، وهو تعبير لم يستعمله الإمام ( عليه السلام ) في غيره .

7 . وطارد الأشتر جيش الروم داخل بلادهم .

روى الكلاعي ( 3 / 273 ) : « أن الأشتر قال لأبي عبيدة : ابعث معي خيلاً أتبع آثار القوم ، فإن عندي جزاء وغناء . فقال له أبو عبيدة : والله إنك لخليق بكل خير ، فبعثه في ثلاث
--------------------------- 603 ---------------------------
مائة فارس وقال له : لا تتباعد في الطلب ، وكن مني قريباً . فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين ونحو ذلك . . وأتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم ، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض فعلوا فوقه وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم ، فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف فإن خيل المسلمين لمواقفتهم ، إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم ، فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم ! قال : فوالله ما خرج إليه رجل منهم ، فقال لهم الأشتر : أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج ؟ فلم يتكلم أحد !
قال : فنزل الأشتر ثم خرج إليه ، فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر وعلى الرومي مثل ذلك ، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما فوقع سيف الرومي على هامة الأشتر فقطع المغفر وأسرع السيف في رأسه حتى كاد ينشب في العظم ، ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومي فلم تقطع شيئاً من الرومي إلا أنه ضربه ضربة شديدة أوهنت الرومي وأثقلت عاتقه ، ثم تحاجزا .
فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئاً انصرف فمشى على هيئته ، حتى أتى الصف وقد سال الدم على لحيته ووجهه فقال : أخزى الله هذا سيفاً ، وجاءه أصحابه فقال : عليَّ بشئ من حناء فأتوه به من ساعته ، فوضعه على جرحه ثم عصبه بالخرق ، ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض ثم قال : ما أشد لحيتي ورأسي وأضراسي .
وقال لابن عم له : أمسك سيفي هذا وأعطني سيفك ، فقال : دع لي سيفي رحمك الله ، فإني لا أدري لعلي أحتاج إليه ، فقال : أعطنيه ولك أم النعمان يعني ابنته . فأعطاه إياه ، فذهب ليعود إلى الرومي فقال له قومه : ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج فقال : والله لأخرجن إليه فليقتلني أو لأقتلنه فتركوه فخرج إليه ، فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق ، فاضطربا بسيفيهما فضربه الأشترعلى عاتقه فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته ، ووقعت ضربة الرومي على عاتق الأشتر فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئاً ، ووقع الرومي ميتاً وكبر المسلمون ، ثم حملوا على صف
--------------------------- 604 ---------------------------
رجالة الروم ، فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق ، فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل ، وباتوا ليلتهم يتحارسون ، فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع ، فارتحل الأشتر منصرفاً بأصحابه » .
وفي تاريخ حلب ( 1 / 156 ) : « وأول من قطع جبل اللكام وصار إلى المصيصة : مالك بن الحارث الأشتر النخعي » .
والمصيصة بعد إسكندرونة بأكثر من مئة كيلو متر . وتبعد عن دمشق نحو 500 كم . وذكر البلاذري في فتوحه ( 1 / 194 ) أن مالك الأشتر كان قائداً في فتح أنطاكية .
وذكر ( 1 / 302 ) كيف خطط مالك لفتح حلب ، ثم كيف فتح حصن عزاز ، واستخلف عليه سعيد بن عمرو الغنوي ، ورجع إلى أبي عبيدة ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بالنصر » .
وقال الواقدي ( 1 / 462 ) في فتح الموصل : « التقى مالك الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم أنه من ملوكهم ، فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره » .
وقال البلاذري : 1 / 162 : « قالوا : ولما بلغ هرقل خبر أهل اليرموك وإيقاع المسلمين بجنده هرب من أنطاكية إلى قسطنطينية . فلما جاوز الدرب قال : عليك يا سورية السلام ! ونعم البلد هذا للعدو ، يعني أرض الشام لكثرة مراعيها . وكانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة » .
أقول : بعد هزيمة اليرموك انسحب هرقل من سوريا وفلسطين ومصروقبرص ، ففتحت كل مدنها أمام المسلمين ولم تحتج إلى قتال ، بل كان يكفي أن يذهب رسول بكتاب من القائد العام أبي عبيدة إلى القدس أو أي مدينةفيطلب حضورهم فيأتونه ليكتب معهم عهد صلح ، ويقبلوا بالجزية التي هي ضريبة سنوية .
فكل ما رواه الرواة من معارك بعد اليرموك ، فهو معركة صغيرة أو مناوشات مع حاميات غير رومية ، ضخمها الرواة ليثبتوا بطولات لخالد بن الوليد وعمرو العاص وأمثالهم ، وغالباً ما تكون المعركة من أصلها مكذوبة .
وكذا ما رووه من معارك في فتح القدس وقبرص ومصر ! وما أسهل أن تكشف كذب الرواة إذا بحثت عن الجيش الذي قاتلوه ، فلا تجد جندياً رومياً واحداً !
--------------------------- 605 ---------------------------

شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه في مصر

في تاريخ دمشق ( 56 / 376 ) أن معاوية قال لأهل الشام : « يا أهل الشام إنكم منصورون ومستجاب لكم الدعاء ، فادعوا الله على عدوكم ! فرفع أهل الشام أيديهم يدعون عليه ، فلما كانت الجمعة الأخرى خطب فقال : يا أهل الشام إن الله قد استجاب لكم وقتل عدوكم ! وإن لله جنوداً في العسل ، فرفع أهل الشام أيديهم حامدين الله على كفايتهم إياه » .
وقال الطبري ( 2 / 72 ) : « وأقبل معاوية يقول لأهل الشأم : إن علياً وجَّهَ الأشتر إلى مصرفادعوا الله أن يكفيكموه ، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر . وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر ، فقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قَطعتُ إحداهما يوم صفين يعنى عمار بن ياسر ، وقَطعت الأخرى اليوم
يعني الأشتر » .
وروى نحوه اليعقوبي ( 2 / 179 ) وسيأتي ذكره في أحداث خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
* *
--------------------------- 606 ---------------------------

الفصل التاسع والعشرون: دور تلاميذ علي ( عليه السلام ) في فتح العراق إلى القادسية

الصحابي المثنى بن حارثة رائد فتح العراق !

1 . وَفَدَ المثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنة تسع . وعندما ملكت بوران بنت كسرى بدأ عملياته في تحرير العراق فأخذ يغير على مسالح الفرس . قال في الإستيعاب ( 4 / 1456 ) : « المثنى بن حارثة الشيباني كان إسلامه وقدومه في وفد قومه على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سنة تسع » .
وفي الإصابة ( 6 / 51 ) : « كان المثنى ومذعور قد وفدا على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصحباه » .
ثم وفد زعيم بني شيبان حريث بن حسان على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبايعه على الإسلام له ولقومه . ( الطبقات : 1 / 318 و : 7 / 58 ، والإصابة : 8 / 289 ، ومجمع الزوائد : 6 / 11 ) . وفي الإصابة ( 2 / 117 ) : قال بطل ذي قار حنظلة بن سيار :
ونحن بعثنا الوفد بالخيل ترتمي * بهم قُلَّصٌ نحو النبي محمد
بما لقي الهرموز والقوم إذ غزوا * وما لقي النعمان عند التورد » .
ومعناه أنهم أسلموا وواصلوا معاركهم مع كسرى ، وإنما سكت كسرى عنهم لانشغاله بقتال الروم ! ثم قتله ابنه شيرويه واضطرب نظامه ، فاستغل المثنى فترة اضطراب حكمهم ووسع هجماته على حاميات الفرس ، وكان ذلك تنفيذاً لتوجيهات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
2 . بعد حرب اليمامة جاء خالد بن الوليد والياً على العراق من قبل أبي‌بكر ، وكان دوره أن
يبرم عقود الصلح مع القرى والدساكر التي فتحها المثنى ، ولم يخض أي معركة مع الفرس ، بل
--------------------------- 607 ---------------------------
شن غارات نهب وسبي على السكان العرب وغيرهم من الأقليات . وبعد ذهابه إلى الشام كانت معركة بابل مع الجيش الفارسي ، قبيل وصول أبي عبيد ، ثم قاد أبو عبيد معركتين : معركة النمارق ، ثم معركة الجسرالتي استشهد فيها رضي الله عنه . ثم كانت معركة البويب التي ثأر فيها المثنى لمعركة الجسر .
ثم كانت معركة القادسية الكبرى التي كانت حاسمة في فتح العراق . ثم تلتها بعد نحو سنتين معركة المدائن الصغيرة . وكانت المرحلة الأخيرة معركة جلولاء الكبرى ، وهي آخر معارك فتح العراق .
3 . واستعمل عمر أبا عبيد الثقفي على العراق ، فجاهد مع المثنى رضي الله عنهما ، وثبَّتا ما تمَّ تحريره ، وطردا الحاميات الفارسية الصغيرة والمتوسطة من الدساكر .
وذكر البلاذري ( 2 / 307 ) أنه بعد سنة من ولاية أبي عبيد ، أرسل رُستم القائد الفارسي ونائب الملك ، جيشاً ، فكانت معركة الجسر ، وانهزم المسلمون فيها وخسروا نحو أربعة آلاف رجل ، واستشهد أبو عبيد ، ومسعود أخ المثنى ، وكثيرمن فرسان المسلمين . وكانت المعركة في شهر رمضان سنة 13 هجرية ، فقد أخطأ المسلمون وعبروا إلى الجيش الفارسي النهر وكان مكانهم غير ملائم ، فلقوا ذا الحاجب وهو في أربعة آلاف واقتتلوا قتالاً شديداً ، وكثرت الجراحات وفشت في المسلمين . فقال سليط بن قيس : يا أبا عبيد قد كنت نهيتك عن قطع هذا الجسر إليهم فأبيت ! وقاتل سليط وأبو عبيد حتى استشهدا ، وانسحب المثنى بالمسلمين بصعوبة وهو جريح .
وقد أثرت هذه الخسارة في نفس عمر بن الخطاب كثيراً ، فلم يرسل أحداً إلى العراق إلا بعد أكثر من سنة ، ونشط المثنى ليأخذ بثأر المسلمين ، فأرسل عمر جرير بن عبد الله البجلي والياً على العراق ، فخيم على حدود العراق من جهة الحجاز ، وأرسل إلى المثنى بأمر عمر أن ينسحب من العراق كلياً ويأتي اليه !
قال ابن الأعثم ( 1 / 136 ) : « فسار جرير بن عبد الله من المدينة في سبع مائة رجل ، حتى صار إلى العراق فنزلها ، وبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني ، فكتب إليه : أما بعد يا جرير فإنا نحن الذين أقدمنا المهاجرين والأنصار من بلدهم ،
--------------------------- 608 ---------------------------
وأقمنا نحن في نحر العدو نكابدهم ليلاً ونهاراً ، وإنما أنت مدد لنا ، فما انتظارك رحمك الله لا تصير إلينا ؟ فصر إلينا وكثِّرنا بأصحابك . . .
قال فكتب إليه جرير : أما بعد فقد ورد كتابك عليَّ فقرأته وفهمته ، فأما ما ذكرت أنك الذي أقدمت المهاجرين والأنصار إلى حرب العدو ، فصدقت ، وليتك لم تفعل ! وأما قولك : إن المهاجرين والأنصار لحقوا ببلدهم ، فإنه لما قتل أميرهم لحقوا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وأما ما ذكرت أنك أقمت في نحر العدو ، فإنك أقمت في بلدك وبلدك أحب إليك من غيره .
وأما ما سألتني من المصير إليك ، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم يأمرني بذلك ، فكن أنت أميراً على قومك ، وأنا أمير على قومي . والسلام » .
أقول : هذا يكشف عن استياء عمر من توغل المثنى وخوفه من حرب الفرس ، خاصة بعد خسارة العرب في معركة الجسر ! لكن المثنى رضي الله عنه فرض عليه الأمر الواقع ، وأقنع جريراً أخيراً ، فجاء ببني بجيلة وشارك في معركة البويب رغم نهي عمر !
وقاد المثنى المعركة خير قيادة ، وكانت كما يقول ابن كثير بحجم معركة اليرموك ، وحقق المثنى فيها النصر المبين للمسلمين ، وطارد بعدها جيش الفرس ، ووسع غاراته إلى الأهواز شرقاً ، والى حدود سوريا غرباً .
والبويب : « نهر كان بالعراق موضع الكوفة ، فمهُ عند دار الرزق ، يأخذ من الفرات » . ( معجم البلدان : 1 / 512 ) .

عمر يغضب على المثنى رضي الله عنه وينتقم منه !

وأصر عمر بعد معركة البويب على الانسحاب من العراق ! وأرسل سعد بن
أبي وقاص والياً وأمره أن لا يدخل إلى العراق وأن يخيَّم في زَرود على حدود العراق من جهة الحجاز ، تبعد عن حائل نحو 170 كيلو متراً ، فنزل فيها سعد وبقي فيها نحو ستة أشهر ، وهو يصر على المثنى بتنفيذ أمر عمر بالإنسحاب وأن يأتيه بجيشه إلى زرود !
قال ابن خليفة / 87 : « وتنازع جرير والمثنى بن حارثة الإمارة ، فبعث عمر سعد بن مالك وكتب إليهما أن اسمعا له وأطيعا » . أي فلينسحب المثنى ويأتي بقواته إلى زرود !
--------------------------- 609 ---------------------------
وقد استاء المثنى والمسلمون من قرار عمر بالإنسحاب ، وانتقد عدم دخول سعد إلى العراق ، وجرت بينهما مراسلات شبيهة بمراسلاته مع جرير !
وفي هذا الجو مات المثنى فجأة ! وكان أخوه المعنى مع رأي عمر ، فذهب المعنى مع أرملة أخيه المثنى إلى سعد وخطبها سعد وتزوجها ، وأمَّر أخاه المُعَّنى مكانه . وكلامه عن أخيه يوجب الشك والريبة ، وزواج سعد بزوجة المثنى يؤكد الريبة أيضاً . وبعد وفاة المثنى رضي الله عنه أخذ الفرس يستعدون لمعركة القادسية ، حتى آخر سنة ستة عشر ، بعد سنة من معركة البويب . ( البلاذري : 2 / 314 ) .

وغضب عمر على شيعي آخر هو حاكم البحرين !

كانت ولاية البحرين تشمل البحرين الفعلية والقطيف والأحساء ، وقد وَفَدَ أهلها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسلموا طوعاً ، فعيَّن العلاء بن الحضرمي والياً عليهم . ولما رأى العلاء اضطراب حكم الفرس ، وانسحاب أكثر جيشهم من جهة العراق والبحرين ، عبر بسفنه من البحرين إلى ساحل شيراز وتوغل فيه ففتح مناطق واسعة حتى وصل جيشه إلى شيراز .
وبلغ ذلك عمر فلم يشكره ولم يرسل له مدداً ، بل غضب عليه ووبخه وعزله بحجة أنه غامر بركوب البحر وعرض المسلمين للخطر ! والسبب الحقيقي أن العلاء من جماعة علي ( عليه السلام ) ، وإذا فتح منطقة فسيكون حاكمها ، وتكون قوة لعلي ( عليه السلام ) ، لذلك أمرهم عمر بالإنسحاب .
قال ابن سعد في الطبقات ( 4 / 260 ) : « عبر العلاء إلى أهل دارين فقاتلهم فقتل المقاتلة وحوى الذراري . وبعث العلاء عرفجة بن هرثمة إلى أسياف فارس فقطع في السفن ، فكان أول من فتح جزيرة بأرض فارس ، واتخذ فيها مسجداً وأغار على باريخان والأسياف ، وذلك في سنة أربع عشرة » .
ثم وصف ابن سعد عمل العلاء وأنه أرسل القائد الأزدي عرفجة ، فعبر بجنوده من بني عبد القيس ومن انضم إليهم من الأزد ، في سفنهم إلى الساحل الفارسي الذي يقابل البحرين ، ويظهر أنه ميناء سيراف ويسمى الآن ميناء
--------------------------- 610 ---------------------------
جم ، ويبعد عن البحرين في البحر نحو 200 كيلومتر ، ويبعد عن إصطخر وشيراز نحو 300 كيلومتر ، كما تدل الخرائط .
وقد غضب عمر على العلاء غضباً شديداً وعزله عن البحرين وأمره بطاعة خصمه سعد بن أبي وقاص ! وزعم عمر أن العلاء الحضرمي يعمل لغير الله ، فرفض العلاء تنفيذ أمره ، كما رفض المثنى ، ومات فجأة كما مات المثنى ! روى ذلك الطبري ، وابن خياط ، والحموي ، والكلاعي ، والنويري ، وابن خلدون ، وغيرهم .
وقال الطبري ( 3 / 176 ) وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان « إن العلاء بن الحضرمي حمل جنداً من المسلمين ، فأقطعهم أهل فارس وعصاني ، وأظنه لم يرد الله بذلك ، فخشيت عليهم أن لا ينصروا وأن يغلبوا وينشبوا ، فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يُجتاحوا ) .
لكن غزوان أبى طاعة سعد أيضاً ، فمات كما مات المثنى والعلاء ، ولم يحكم البصرة إلا ستة أشهر !
وكلٌّ من المثنى بن حارثة ، وعتبة بن غزوان ، والعلاء الحضرمي أفضل من سعد وأكثر جهاداً ، وقد ماتوا فجأة بعد أن اعترضوا على عمر ورفضوا طاعة سعد ، فهل كان عمر يقوم بسم من يغضب عليهم ، وهل بلال وأصحابه الثلاثون ، الذين كتبوا إلى عمر من الشام يعترضون على معاوية ، فماتوا كلهم ، ماتوا بالسم ؟ !

ومع ذلك يقولون إن عمر فتح إيران ، وإن علياً ( عليه السلام ) وشيعته كانوا معارضين !

سارع تلاميذ علي ( عليه السلام ) من اليرموك إلى القادسية !

1 . في مروج الذهب ( 1 / 118 ) : « كان الفرات الأكثر من مائه ينتهي إلى بلاد الحِيرةِ ونهرها بين إلى هذا الوقت ، وهو يعرف بالعتيق ، وعليه كانت وقعة المسلمين مع رُستُم ، وهي وقعة القادسية ، فيصب في البحر الحبشي ( الخليج ) وكان البحر حينئذ في الموضع المعروف بالنّجَف في هذا الوقت ، وكانت تجيئ اليه سفن الصين والهند ، ترِد إلى ملوك الحيرة » . ومعناه : أن معركة القادسية كانت قرب النجف الأشرف ، وأن الوادي المسمى بحر النجف ، كان خليجاً متصلاً بالبصرة والخليج ، تبُحر فيه السفن !
--------------------------- 611 ---------------------------
2 . قال خليفة بن خياط / 89 : « كان رستم في ستين ألفاً من أخص ديوانه ، والمسلمون ستة آلاف أو سبعة . . . عن إبراهيم قال : كانوا ما بين الثمانية آلاف إلى التسعة آلاف ، وجاءهم قدر ألفين ، فأقاموا قدر شهر لايلقاهم العدو » .
وروى ابن أبي شيبة ( 8 / 14 ) أن النخعيين كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة : « كنت لا تشاء أن تسمع يوم القادسية : أنا الغلام النخعي ، إلا سمعته » . « فقال عمر : ما شأن النخع أصيبوا من بين سائر الناس ، أفرَّ الناس عنهم ؟ قالوا : لا ، بل وُلُّوا عِظَم الأمر وحدهم » . ( والإصابة : 1 / 196 ) .
3 . كان قائد جيش المسلمين المفترض سعد بن أبي وقاص ، لكنه كان كخالد بن الوليد لا يقاتل بنفسه ، فلم يشارك في معركة القادسية ، ولا في غيرها ! والذين قادوا المعركة هم : هاشم بن عتبة المرقال ، وحجر بن عدي ، وعمرو بن معدي كرب ، وعدد من الأبطال من تلاميذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وغاب سعد زاعماً أن في فخذه دملة ، فذهب إلى قصر العذيب ، وهو يبعد عن القادسية بضع عشرة كيلومتر ! وقد فضحته زوجته واتهمته بالجبن ! ومع ذلك قالوا إنه كان يدير المعركة من قصر العذيب ! فكيف يديرها وهو على بعد ثلاث ساعات مشياً ، أو ساعة للفارس المُجِدّ !
قال الطبري ( 3 / 76 ) : « قادس قرية إلى جانب العذيب ، فنزل الناس بها ، ونزل سعد في قصر العذيب » .
وقال الإدريسي ( 1 / 383 ) : « من القادسية إلى العذيب ستة أميال » .
والميل قريب من كيلومترين ، لأنه ثلث الفرسخ ، فالمسافة بين المعركة وسعد نحو 15 كلم ، لكن الرواة كذبوا فجعلوا قصر العذيب جنب المعركة !
وفي فتوح البلاذري ( 2 / 316 ) : « وكان مقيماً في قصر العذيب ، فجعلت امرأته وهي سلمى بنت حفصة من بني تيم الله بن ثعلبة ، امرأة المثنى بن حارثة ، تقول : وامثنياه ، ولامثنى للخيل ! فلطمها ، فقالت : يا سعد أغيرةً وجبناً » !
وفي الطبري : ( 3 / 81 ) ومعجم البلدان ( 4 / 291 ) : « قاتل المسلمون يومئذ وسعد في
--------------------------- 612 ---------------------------
القصر ينظر إليهم ، فنُسب إلى الجبن ، فقال رجل من المسلمين :
« ألم ترَ أن الله أنزل نصره * وسعدٌ بباب القادسية مُعصمُ
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة * ونسوةُ سعدٍ ليس فيهنَّ أيِّمُ »
ومن العجيب أن رواة أحداث معركة القادسية لأربعة أيام يقولون : فأمر سعد ، وقال سعد ، وكبَّر سعد ، وتقدم سعد ، ورجع سعد ! ومعناه هاشم المرقال ، أو حجر بن عدي ، أو بقية القادة الأبطال الذين خاضوا المعركة ، وفتح الله على أيديهم !
وكان المسلمون أكثر من عشرة آلاف ، منهم ألفان وأربع مئة من النخعيين جماعة مالك الأشتر ، وكان ثقل القتال عليهم . وفي نفس الوقت كانت نخبة من النخع مع الأشتر في اليرموك ، تطارد الروم في جبال تركيا بعد المعركة ! ( الكلاعي : 3 / 273 ) .

أبرز القادة الشيعة الذين شاركوا في فتح العراق وإيران

المثنى بن حارثة ، ومعه إخوته وأبناؤه وأقاربه ، وقد استشهد ابنه ثمامة في حرب الجمل مع علي ( عليه السلام ) ( أنساب الأشراف / 244 ) .
وسلمان الفارسي ، الذي نشط في دعوة الفرس إلى الإسلام ، وكان رائد المسلمين وداعيتهم ، ثم والياً على المدائن .
وعمار بن ياسر ، والي الكوفة ، وكان قائداً في معركة فتح تستر ، وهو الذي جاء بالهرمزان أسيراً إلى المدينة فأسلم على يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . ثم كان عمار قائداً في معركة نهاوند ، ومعارك فتح بقية إيران .
وحذيفة بن اليمان ، كان قائداً في معارك فتح العراق ، والقائد العام في فتح نهاوند ، وما بعدها من مدن إيران ، ثم في فتح أرمينيا ، ومناطق من آسيا .
وعدي بن حاتم الطائي ، كان قائداً في معارك فتح العراق وإيران ، والشام .
وحجر بن عدي ، كان قائداً في القادسية والمدائن وجلولاء ، وفي فتح الشام .
وأبو عبيد بن مسعود الثقفي ، أبو المختار ، كان والياً على العراق ، وقائداً لمعركة الجسر ، واستشهد فيها ( رحمه الله ) .
وهاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص ، كان قائداً في معركة أجنادين التي فتحت بها
--------------------------- 613 ---------------------------
فلسطين ، ثم في معركة اليرموك ، ثم سارع إلى القادسية .
وكان القائد العام من قبل عمه سعد فيها وفي معركة المدائن وجلولاء وحلوان ، وقائداً في معركة نهاوند ، ثم كان له دور في ترسيخ حكم المسلمين في مصر .
وقطبة بن قتادة بن الخصاصية وابنه سويد ، صحابي كان مع المثنى يغير على مسالح الفرس في البصرة .
وبشير بن الخصاصية ، وهو صحابي قائد ، كان المثنى يعتمد عليه في الإدارة والمعارك ، ويستخلفه إذا غاب ، وقد استخلفه قائداً لجيشه عندما توفي .
وعمرو بن حزم ، كان يغير مع المثنى على أطراف أرض السواد .
والنعمان بن مقرن ، وإخوته ، وهم سبعة : معقل وعقيل وسويد وسنان وعبد الرحمن ، وسابع لم يسم ، صحابة كان يعتمد عليهم علي ( عليه السلام ) . وكانوا معه عندما خرج للدفاع عن المدينة ، وكانوا قادة في فتح العراق وغيره . وكان النعمان القائد العام لمعركة نهاوند باقتراح علي ( عليه السلام ) ، وقد استشهد فيها .
ومذعور بن عدي العجلي ، كان قائداً عند المثنى في معركة الجسر ، ومعركة البويب وغيرها . وهو صحابي وفد مع المثنى إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( تاريخ دمشق : 57 / 198 ) .
وعمرو بن معدي كرب الزبيدي ، كتب اليه علي ( عليه السلام ) فجاء وأرسله إلى معركة اليرموك ، ثم سارع مع هاشم المرقال إلى القادسية وشارك فيها ، ثم في معركة جلولاء وحلوان ، وتستر ، واستشهد في معركة نهاوند .
وقيس بن مكشوح المرادي ، وهو صحابي كتب له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليساعد في قتل مدعي النبوة الأسود العنسي ، وكانت له أدوار بطولية وقيادية في الفتوحات ، فقد شارك في معركة اليرموك وسارع مع هاشم المرقال إلى العراق ، فحضر القادسية وكان قائد ميسرتها ، وكان قائداً فيما بعدها من معارك . وهو من كبار أصحاب علي ( عليه السلام ) ،
واستشهد معه في صفين .
وعطارد بن حاجب ، وأبوه حاجب زعيم بني تميم ، الذي اشتهر برهن قوسه وثيقة عند كسرى ، وقد جاء ابنه عطارد بوفد تميم إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسلم في السنة
--------------------------- 614 ---------------------------
التاسعة ، وشارك في القادسية وبعض الفتوح وابنه عمير ، وكان من أصحاب علي ( عليه السلام ) وقادته في صفين . وغيرهم كثير . . كانوا أبطالاً وقادة في معارك الفتوحات وأحداثها .

أبرزالقادة غيرالشيعة في فتح العراق وإيران

خالد بن الوليد ، كان والياً على العراق من قبل أبي‌بكر نحو سنة ، ولم يكن في عصره معارك مع الفرس أبداً ، لانشغالهم بوضعهم الداخلي . فكان عمل خالد في العراق توقيع عهود الصلح مع القرى والدساكر التي خرجت من تحت النفوذ الفارسي . وقد أغار على بعض الدساكر وقتل منها وأخذ منها أسرى . وأغار على قبائل عربية كبني تغلب وقتل منهم وسبى ، وكان منهم مسلمون فلم يصدقهم وقتلهم ، فدفع أبو بكر دية بعضهم .
ثم ذهب خالد قائداً في جيش فتح الشام ، ثم عزله عمر ، وبقي بدون صفة رسمية ، وشارك في معركة اليرموك وغيرها ، لكن لم يثبت أنه قاتل أبداً ، وقد ادعى لنفسه بطولات كبيرة واضحة الكذب كقوله برواية البخاري إنه قاتل في مؤتة وكسر تسعة سيوف ! مع أنه لما رجع إلى المدينة حثى المسلمون التراب في وجهه لانهزامه ، وتشاءموا به ! وسكن خالد في حمص وتوفي فيها .
وعتبة بن غزوان : بعثه عمر إلى البصرة في ثلاث مئة مقاتل ، وبقي فيها شهوراً ، وكره أن يكون أميره سعد بن أبي وقاص ، واستعفى . ونسبوا له فتح الأبلة في البصرة ، لكن رووا أن أهلها خرجوا اليه بالمساحي ! أي لم يكن فيها جيش للفرس ولا حاميات ، ولا كان أهلها مسلحين . كما نسبوا إلى عتبة فتح ميسان وإرسال جيش إلى فارس . ورددنا ذلك في محله .
والأشعث بن قيس الكندي : وكان يقود مقاتلي قبيلته كندة في القادسية وبعدها .
والمغيرة بن شعبة : وهو ثقفي استنابه عتبة بن غزوان على البصرة ، ووقعت له فضيحة مع امرأة محصنة زنى بها ، فسترها عمر ، ثم ولاه البصرة ، ثم الكوفة . فالأشعث والمغيرة لايعتبران قائدين عسكريين في الفتح ، بل هما واليان .
قال البلاذري ( 13 / 344 ) : « خرج المغيرة ومعه جرير بن عبد الله ، والأشعث بن قيس ، وهو يومئذ والي الكوفة ، فلقوا أعرابياً فقالوا له : ما تقول في المغيرة بن شعبة ؟ قال أعيور زنَّاء ، ترفعه إمرته وتضعه أسرته ! قالوا : فجرير بن عبد الله ؟ قال : هو بجيلة
--------------------------- 615 ---------------------------
إذا رأيتموه فقد رأيتموها ! قالوا : فالأشعث ؟ قال : لا يغزى قومه ما بقي لهم .
( أي لحنكته وحيله ) .
فقالوا له : هذا المغيرة ، وهذا جرير ، وهذا الأشعث ! فانصرف وقال : ما كنت لآتي قوماً أسمعتهم المكروه ، وقال لامرأته يا أم فلان إصرفي حمارك » .
وأبو موسى الأشعري : وكان معروفاً ببغضه لعلي والعترة ( عليهم السلام ) ، وقد بعثه عمر والياً على البصرة ، وكان القائد الرسمي لمعركة تستر ، ولم يبرز إلى أحد ولا قاتل في معركة ، فهو من نوع خالد وسعد بن أبي وقاص ، بل دونهما .
وجرير بن عبد الله البجلي : بعثه عمر والياً على العراق ومدداً للمثنى ، وأعطاه ربع الخمس من الغنائم . وشارك في معركة البويب والقادسية ، وما بعدها ، وكان له ولبجيلة دور متوسط في المعارك ، ضخَّمه الرواة .
وعياض بن غنم : الأشعري أو الفهري ، شهد اليرموك ، ونسبوا اليه أنه فتح الجزيرة والموصل .
وطليحة بن خويلد الأسدي : الذي تنبأ وانهزم إلى الشام ، ثم تاب ، وكان شجاعاً قائداً في القادسية وما بعدها ، وقد استشهد في معركة نهاوند .
والقعقاع بن عمرو التميمي ، وقد بالغ رواة الفتوح في بطولاته وأساطيره ، حتى أنكر وجوده الباحث السيد العسكري في كتابه : مئة وخمسون صحابي مختلق ، وقد وقع كثيراً في إنكار الواضحات !
وذو الخمار الأسدي : وكان من فرسان القادسية . ( الأنساب : 4 / 122 ) .
وأبو محجن الثقفي : الذي كان محبوساً لإدمانه الخمر ، فلما رأى خيل المسلمين انهزمت في القادسية طلب من امرأة سعد أن تُطلقه ْ وسيعود إلى سجنه ، فأطلقته وأعطته فرس سعد ، فحمل على العدوحملة بطل وقتل منهم ورجع إلى سجنه وتاب عن الخمر . وذكر الطبري ( 2 / 644 ) أنه هرب من أليس .
هذا ، وقد ترجمنا في كتاب قراءة جديدة للفتوحات لعدد من هؤلاء الشخصيات ، ترجمة وافية ، واقتصرنا هنا على ما هو مسيس الصلة بسيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 616 ---------------------------

علي ( عليه السلام ) يمنع تكوين إقطاعية ظالمة في العراق

أراد عمر أن يُملك أرض العراق للعسكر الفاتحين ، فوجد أن سهم المقاتل الواحد ثلاثة فلاحين مع أراضيهم الزراعية ، فمنعه علي ( عليه السلام ) من ذلك وأمره أن يتركها أرضاً خراجية يستفيد منها كل المسلمين من فتحها منهم وأجيالهم الآتية .
فقد قال البيهقي في سننه ( 9 / 134 ) والبلاذري في فتوحه ( 2 / 326 ) : « أراد عمر أن يقسم أهل السواد بين المسلمين ، وأمر بهم أن يحصوا ، فوجدوا الرجل المسلم يصيبه ثلاثة من الفلاحين يعني العلوج ، فشاور أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ذلك فقال علي : دعهم يكونون مادةً للمسلمين . فبعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم : ثمانية وأربعين ، وأربعة وعشرين ، واثني عشر » .
وبذلك نجا العراق من تكوين إقطاعة سيئة للمقاتلين وأولادهم .
* *
--------------------------- 617 ---------------------------

الفصل الثلاثون: دور تلاميذ علي ( عليه السلام ) في فتح المدائن ومعركة جلولاء

هاشم المرقال بطل أجنادين إلى اليرموك إلى القادسية والمدائن

هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، المرقال ، الزهري رضي الله عنه ، صحابي جليل ، وخطيب مُفَوَّهٌ وبطلٌ شجاع ، وشيعيٌّ صلب .
كان ضخم الجثة بطلاً قائداً في معركة أجنادين في فتح فلسطين ، ومعركة اليرموك ، وسارع بعدها مع عدد من المقاتلين إلى معركة القادسية وشارك فيها قائداً ، ثم اعتمد عليه عمه سعد بن أبي وقاص كلياً فقاد فتح المدائن ، وفتح جلولاء ، وفتح حلوان ، وفتح عدة مناطق من إيران . وسُمِّيَ المِرْقَال لأنه يَرقل برايته في الحرب ، أي يهرول فيها هرولةً خاصة .
وفي العقد الفريد ( 5 / 88 ) : يقال له المرقال لقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له : أُرْقُلْ يا ميمون ! وقلنا إنه نقيض أبيه ، لأنه صاحب إيمان وتقوى ، بينما أبوه عتبة بن أبي وقاص من عتاة قريش ، وقد بقي على شركه وعداوته للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى مات .
وقلنا إنه على عكس عمه سعد بن أبي وقاص ، لأن هاشماً من أبطال الإسلام والتاريخ ، وعمه سعد قائد شكلي لم يبرز يوماً إلى فارس ، ولا شارك بجدية في معركة أبداً ! وإذا حضر المعركة يحفظ نفسه في الخط الخلفي ! وفي معركة القادسية ذهب إلى قصر العذيب ، مدعياً أن في فخذه دُمَّلاً ، فلم يصدقه المسلمون ، وعيَّروه ووصفوه بالجُبن وقالوا فيه قصائد !
وكان سعد والي الكوفة فاستفاد منه ابن أخيه هاشم ، وكانت علاقته به جيدة مع أن رأيه فيه سئ ، وقد تزوج هاشم ابنته أم إسحاق . ( المحبر / 69 ) .
وكان سعد يفتخر بابن أخيه هاشم لشجاعته ، رغم أنه شيعي !
--------------------------- 618 ---------------------------
ربع قرن في الجهاد
خاض هاشم المرقال رضي الله عنه معارك الجهاد وقادها ، لمدة ربع قرن ، في فتوح فلسطين ، والشام ، ومصر ، والعراق ، وإيران ، ثم في حروب علي ( عليه السلام ) . وهي مدة طويلة ، والأهم من بطولاته إيمانه وإخلاصه رضي الله عنه !
وقد أرسله أبو بكر قائداً في فلسطين والشام ، قال ابن الأعثم ( 1 / 85 ) ملخصاً : « دعا أبو بكر بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وهو ابن أخي سعيد بن أبي وقاص فقال : يا هاشم إن من سعادة جِدِّك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها ، وممن يثق الوالي بوفائه وصدقه ونصحه وبأسه وشجاعته . وقد بعث أبو عبيدة بن الجراح والمسلمون يخبرونني باجتماع الكفار عليهم ، فأخرج فعسكر حتى أندب إليك الناس . .
قال هاشم : أفعل ذلك إن شاء الله . فعندها قام أبو بكر في الناس خطيباً فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إن إخوانكم من المسلمين الذين أغزيناهم إلى الشام إلى جهاد عدوهم معافون ، مدفوع عنهم مصنوع لهم ، قد ألقى الله الرعب في قلوب أعدائهم ، وقد جاءني كتاب أبي عبيدة يخبرني بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم ونزوله مدينة أنطاكية وقد اجتمع عليه خلق كثير من النصرانية .
وقد رأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم فيشد الله عز وجل بكم ظهورهم ، ويكبت بكم أعداءهم ، ويلقى الرعب في قلوبهم ، فانتدبوا رحمكم الله مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، واحتسبوا في ذلك الأجر العظيم فإنكم إن قاتلتم ونصرتم فهو الفلح والغنيمة ، وإن هلكتم فهو الشهادة والسعادة . قال : فانتدب لأبي‌بكر خلق كثير ، من همدان ، وأسلم ، وغفار ، ومزينة ، ومراد ، والأزد ، وجميع القبائل » .
وقال ابن الأعثم ( 1 / 95 ) : « ثم سار هاشم بن عتبة في ثلاثة آلاف مجهز ، حتى قدم على أبي عبيدة بن الجراح ، قال : فَسُرَّ أبو عبيدة وجميع المسلمين بقدوم هاشم بن عتبة ومن معه ، سروراً شديداً » .
وكانت أول مشاركة لهاشم في معركة أجنادين ، وهي المعركة التي فتحت على أثرها فلسطين ، وقادها هاشم مع خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهما ، فكان هو
--------------------------- 619 ---------------------------
قائد الميسرة في معارك فتح وفلسطين والشام : أجنادين ومرج الصُّفَّر وفِحل واليرموك ، وكان خالد بن سعيد قائد الخيل كلها ، في المعارك الأربعة .
أسرع هاشم بعد اليرموك إلى القادسية
وبعد اليرموك مباشرة ، سارع هاشم في نخبة من جيش المسلمين إلى العراق ، للمشاركة في معركة القادسية ، التي كانت بعد اليرموك بشهر . وبقي الأشتر وقيس بن سعد بن عبادة في الشام ولم يشاركا في القادسية ، واشتغل الأشتر بمطاردة جيش الروم المنسحب ، حتى وصل وراءهم إلى جبال اللكام في تركيا .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 60 ) : « قدم هاشم بن عتبة من قبل الشام معه قيس بن المكشوح المرادي في سبع مائة بعد فتح اليرموك ودمشق ، فتعجل في سبعين فيهم سعيد بن نمران الهمداني . فتعجل في أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفر ، منهم ابن المكشوح ، فلما دنا تعجل في ثلاث مائة فوافق الناس وهم على مواقفهم فدخلوا مع الناس في صفوفهم » .
وبعد القادسية قاد هاشم فتح المدائن
حاصر المسلمون المدائن شهوراً ، وقيل تسعة أشهر ، وقيل أكثر من ذلك وكانوا يترامونهم بالمنجنيق والسهام .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 116 ) : « وخرج هاشم وخرج سعد في أثره ، وانتهى إلى مظلم ساباط ( نفق مبني فوق الأرض ) ووقف لسعد حتى لحق به ، فوافق ذلك رجوع المُقَرَّط أسدٌ كان لكسرى قد ألَّفه وتخيَّره .
« وقيل نظر هاشم إلى الناس قد أحجموا ووقفوا فقال : ما لهم ؟ فقيل له : أسد قد منعهم ، ففرج هاشم الناس وقصد له فثاوره الأسد وضربه هاشم فقطع وصليه كأنما احتدم غضباً ، ووقعت الضربة في خاصرته » . ( الروض المعطار / 297 ) .
قال الواقدي ( 2 / 197 ) : « فلما ترتبت الصفوف كان أول من برز واشتهر وسما وافتخر فيروز ، ورطن بالفارسية وقال : يا هؤلاء العرب لقد أطمعتم أنفسكم
--------------------------- 620 ---------------------------
فيما لا تصلون إليه ، وساءت ظنونكم وزعمتم أنكم تملكون العراق وتأخذونه من أيدي الأكاسرة ، وهذا ظن لا يصير أبداً !
ونحن كتيبة كسرى أولوا الشدة والبأس والقوة والمراس ، وأنا مقدمهم والرئيس فيهم ، فليبرز إليَّ مقدمكم ويفعل مثل ما فعلت أنا من بين قومي .
قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه هاشم المرقال يجر قناته من ورائه ، وحمل عليه وحصل بينهما حرب يشيب منها الطفل ، ثم إن هاشماً طعنه في صدره فأطلع السنان من ظهره ! قال : فلما قتله هاشم ورجع إلى المسلمين قبَّله سعد بين عينيه ) .
نص الرواة على أن هاشماً قاد الجيش إلى المدائن ، ثم إلى جلولاء ، ولم يكن فيه عمه سعد . ( البلاذري : 2 / 323 ) . فلابد أنه قبله بعد رجوعه .
وهرب الشاه يزجرد إلى داخل إيران قبل وصول جيش المسلمين إلى المدائن . ثم جمع الفرس قواتهم في جلولاء وخانقين فهزمهم المسلمون .
ثم جمعوها في تستر فهزموهم . ثم كان أكبر تجمُّع للفرس في نهاوند ، وكانت معركتها سنة إحدى وعشرين للهجرة ، فهزمهم المسلمون .
وقال ابن خلدون : 2 ق 2 / 101 : « وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة ، ووجدوا حلية كسرى : ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان يجلس فيها للمباهاة ، أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين وأخذ منهم أيضاً وَقْر بغل من السيوف ، وآخر من الدروع والمغافر ، منسوبة كلها : درع هرقل وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وبهرام جور ، وسياوخش والنعمان بن المنذر . وسيف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان . . وقسم سعد الفئ بين المسلمين بعدما خمسه ، وكانوا ستين ألفاً ، فصار للفارس اثنا عشر ألفاً » .
وفي شرح النهج ( 12 / 14 ) : « جئ بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته للجواهر التي كانت عليه ، فقال : إن قوماً أدوا هذا لأمناء . فقال علي ( عليه السلام ) : إنك عففت فعفوا ، ولو رتعت لرتعوا » .
وفي فتوح الواقدي ( 2 / 205 ) : « إن هاشم بن عتبة تبع المنهزمين من جنود الملك فانتهى
--------------------------- 621 ---------------------------
سيره إلى مرج حلوان ، فالتقى بكتيبة من أهل فارس بالعدد والسلاح والهوادج والخدم والجواري والمماليك ، وقد داروا بمحفة من العود الرطب وعليها من الثياب الملونة المذهبة ، وأهلتها من الذهب مرصعة بالجواهر ، وقاتلوا دون المحفة قتالاً شديداً ، وكانت المحفة لشاهران ابنة الملك يزدجرد بن كسرى ، وكان السائر بها ساقر بن هرمز فقتله وقتل أصحابه ، وأكثر ما كان مع ساقر وولى الباقي منهزمين ، وتسلم هاشم المحفة وما حولها ، وأتوا بذلك كله إلى سعد . . ثم أشرف سعد على ما بقي من الخزائن ، فوجد صندوقاً عظيماً ظاهره وباطنه بالديباج المذهب ، وفي داخله بساط كسرى ، وهو البساط الذي كان يفتخر به على الملوك ملوك الدنيا ، كله ذهب منسوج بالحرير ، منظوم بالدر واليواقيت الملونة والمعادن والجواهر المثمنة والزمرد . وكان طوله ستين ذراعاً قطعة واحدة ، في جانب منه كالصور وفي جانب كالشجر والرياض والأزهار ، وفي جانب كالأرض المزروعة المقبلة بالنبات في الربيع . وكل ذلك من الحرير الملون والمعادن على قضبان الذهب والزمرذ والفضة . وكان الملك لا يبسطه الا في أيام الشتاء في إيوانه إذا قعد للشراب ، وكانوا يسمونه بساط النزهة والمسرات ، فيكون لهم شبه الروضة الزهراء ، فلما رآه العرب قالوا : والله هذه قطيفة زينة !
ثم إن سعداً رأى رأياً أن يُسَيَّرَ بشيراَ يبشر عمر بفتح المدائن وبقدوم الخمس وقال : فلما سمع عمر هذا المقال حمد الله وأثنى عليه . .
ثم إنه قسم البساط قطعاً بين الناس ، قال : فأصاب كل رجل منهم قطعة ، فباعها بنحو العشرين ألف دينار » !
هاشم المرقال قائد معركة جلولاء وخانقين
وقاد هاشم المرقال جيش المسلمين في معركة جلولاء الكبرى ، وبعدها ، وتقع جلولاء في شمال شرق بغداد قرب الحدود العراقية الإيرانية ، وتبعد عن بغداد 180 كيلو متراً ، وقد اتخذها الفرس مركزاً لتجميع القوات الآتية من أنحاء إيران لنجدة يزدجرد في المدائن .
--------------------------- 622 ---------------------------
قال الطبري ( 3 / 134 ) : « ففَصَل هاشم بن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ست عشرة في اثني عشر ألفاً ، منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ، ممن ارتد وممن لم يرتد ، فحاصرهم وطاولهم أهل فارس ، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلا إذا أرادوا وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفاً ، كل ذلك يعطى الله المسلمين عليهم الظفر ) .
وانشغل سعد بخزائن كسرى في المدائن ، وكتب له هاشم والمسلمون يطلبون حضوره إليهم فحضر على مضض ، ورجع ولم يذهب معهم إلى حلوان ، حيث هرب يزدجرد !
قال ابن الأعثم في الفتوح ( 1 / 216 ) : « قال : فغضب المسلمون لقعود سعد عنهم ثم أنشأ إبراهيم بن حارثة الشيباني يقول في ذلك :
أما بال سعد خامَ عن نصر جيشه * لقد جئت يا سعد بن زهرة منكرا
وأقسم بالله العلي مكانه * لو أن المثنى كان حياً لأصحرا
وقاتل فيها جاهداً غير عاجز * وطاعن حتى يحسب الجون أحمرا
ولكن سعداً لم يرد أجر يومه * ولم يأتنا في يوم بأس فيعذرا
أقول : لاحظ أن أخ المثنى كان في جلولاء ، وهجا سعداً لعدم مشاركته المسلمين في الحرب ، وعيَّره بأخيه المثنى !
وقال البلاذري ( 2 / 324 ) : « فلقوهم وحجر بن عدي الكندي على الميمنة ، وعمرو بن معدي كرب على الخيل ، وطليحة بن خويلد على الرجال ، وعلى الأعاجم يومئذ خرزاد أخو رستم . فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله ، رمياً بالنبل وطعناً بالرماح حتى تقصفت ، وتجالدوا بالسيوف حتى انثنت .
ثم إن المسلمين حملوا حملة واحدة قلعوا بها الأعاجم عن موقفهم وهزموهم ، فولوا هاربين ، وركب المسلمون أكتافهم يقتلونهم قتلاً ذريعاً حتى حال الظلام بينهم ، ثم انصرفوا إلى معسكرهم .
وجعل هاشم بن عتبة جرير بن عبد الله بجلولاء في خيل كثيفة ليكون بين المسلمين وبين عدوهم . فارتحل يزدجرد من حلوان ، فأتوا مهروذ ، فصالح دهقانها هاشماً على جريب من دراهم » .
--------------------------- 623 ---------------------------
ونلاحظ أن القادة ما عد طليحة شيعة لعلي ( عليه السلام ) .
سعد ينصب هاشماً قائداً عاماً لجيشه
قال ابن الأعثم ( 1 / 210 ) : « وكتب سعد بن أبي وقاص إلى ابن أخيه هاشم بن عتبة فجعله أمير المسلمين ) .
وكان هاشم يباشر المعركة بنفسه ويديرها ، واستمر في منصبه القيادي حتى بعد أن عزل عمر سعداً عن ولاية الكوفة ، وولى عمار بن ياسر . فقد اعتمد عمار على هاشم أيضاً في الإعداد لمعركة نهاوند .
هاشم المرقال قائداً في معركة نهاوند
رغم كل هزائمهم فقد استعاد الفرس المبادرة ، وجمعوا قوات كبيرة في نهاوند بلغت مئة وخمسين ألفاً ، واستعادوا كثيراً من المناطق التي فتحها المسلمون داخل إيران ! وكتب عمار بن ياسر والي الكوفة إلى عمر بن الخطاب ، كما روى الكلاعي وابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 291 ) قال :
« قد اجتمعوا بأرض نهاوند في خمسين ومائة ألف ، من فارس وراجل من الكفار ، وقد كانوا أمروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، وسنفاد بن حشروا ، وخهانيل بن فيروز ، وشروميان بن إسفنديار ، وإنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا على أنهم يخرجوننا من أرضنا ويأتونكم من بعدنا . وهم جمع عتيد وبأس شديد ودواب فره وسلاح شاك ، ويد الله فوق أيديهم . فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، وقد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، وقد عزموا أن يقصدوا المدائن ويصيروا منها إلى الكوفة ، وقد والله هالنا ذلك ، وما أتانا من أمرهم وخبرهم » .
مدح علماء السنة هاشم المرقال
مدح علماء السنة وأئمتهم هاشم المرقال وروى عنه الستة ، ووثقه ابن معين والنسائي ، وأحمد والبزار . وحدث عن ابن المسيب ، وعامر ، وعائشة وسعد بن مالك ،
--------------------------- 624 ---------------------------
وإسحاق بن عبد الله ، وغيرهم . وحدث عنه موسى بن يعقوب الزمعي ، ومالك وأبو أسامة . . وجماعة . ( تهذيب التهذيب : 11 / 20 ) . وعقدوا لمناقبه باباً كالحاكم في المستدرك ( 3 / 395 ) .
وفي الإستيعاب ( 4 / 1546 ) : « كان من الفضلاء الخيار ، وكان من الأبطال البُهْم ، فُقئت عينه يوم اليرموك ، ثم أرسله عمر من اليرموك مع خيل العراق إلى سعد كتب إليه بذلك ، فشهد القادسية وأبلى بها بلاء حسناً ، وقام منه في ذلك ما لم يقم من أحد ، وكان سبب الفتح على المسلمين . وكان بهمةً من البَهم فاضلاً خيراً . وهو الذي افتتح جلولاء فعقد له سعد لواء ووجهه ، وفتح الله عليه جلولاء ولم يشهدها سعد » . والبُهْمَة : الفارس الشديد البأس ، لأنه مبهم لا يُنفذ اليه . ( الصحاح : 5 / 1875 ) .
وقد روى المرقال أحاديث في فضائل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) كحديث الغدير ، وصحح عنه الحاكم والذهبي بشرط الشيخين ( 4 / 398 ) : « أن رسول الله اضطجع ذات يوم فاستيقظ وهو خائر النفس ، وفي يده تربة حمراء فقلت : ما هذه التربة يا رسول الله ؟ فقال : أخبرني جبريل أن هذا يقتل بأرض العراق للحسين فقلت لجبريل : أرني تربة الأرض التي يقتل بها ، فهذه تربتها » .
وقال في الإصابة ( 6 / 404 ) : « لما جاء خبرعثمان إلى أهل الكوفة قال هاشم لأبي موسى الأشعري : تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الأمة علي ! فقال : لا تعجل فوضع هاشم يده على الأخرى فقال : هذه لعلي وهذه لي وقد بايعت علياً ، وأنشد :
أبايع غير مكترثٍ علياً * ولا أخشى أميراً أشعريا
أبايعه وأعلم أن سأرضي * بذاك الله حقاً والنبيا » .
ومدحه علماء الشيعة فوصفوه بأنه صحابي جليل خَيِّرٌ فاضلٌ رضي الله عنه ، من خواص أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شهد معه حرب الجمل ، وكان حامل لوائه الأعظم يوم صفين ، واستشهد فيها هو وعمار بن ياسر ، فصلى عليهما علي ( عليه السلام ) ودفنهما بثيابهما ولم يُغسِّلهما ، وأعطى لواءه لابنه عبد الله ، وكان زعيماً في البصرة ، ورئيس الشيعة فيها .
( معجم السيد الخوئي : 15 / 241 ) .
وستأتي بعض أخباره في الجمل وصفين وكان القائد العام لجيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 625 ---------------------------
ففي رجال الكشي ( 1 / 281 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية . فأما الخمسة فمحمد بن أبي‌بكر رحمة الله عليه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس . وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال . وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان : إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبو الربيع » .
وقد فضَّله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على محمد بن أبي‌بكر ، مع حبه له رضي الله عنهما ، ففي نهج البلاغة ( 1 / 116 ) : « من كلام له ( عليه السلام ) لما قلد محمد بن أبي‌بكر مصر فمُلكت عليه فقُتل : وقد أردتُ تولية مصر هاشم بن عتبة ، ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة ولا أنهزهم الفرصة . بلا ذم لمحمد بن أبي‌بكر ، فلقد كان إليَّ حبيباً وكان لي ربيباً » . ( الغارات : 1 / 300 ) .
وجهه علي ؟ ع ؟ إلى الشهادة فقال له : يا هاشم إلى متى تأكل من خبز الدنيا !
وقرت عين هاشم بالفوز بالشهادة بين يدي مولاه ( عليه السلام ) ، فقاتل في صفين قتال الأبطال حتى استشهد هو وعمار في يوم واحد !
ففي وقعة صفين / 353 : « أن هاشم بن عتبة دعا في الناس عند المساء : ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فليقبل . فأقبل إليه ناس فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشام مراراً ، فقاتل قتالاً شديداً ثم قال لأصحابه : لايهولنكم ما ترون من صبرهم ، فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها ، وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق . يا قوم إصبروا وصابروا واجتمعوا ، وامشوا بنا إلى عدونا على تؤده رويداً واذكروا الله ، ولا يسلمن رجل أخاه ، ولا تكثروا الالتفات ، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين .
وكان هاشم من خاصة أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكان يمازحه ، وأخبره بيوم
--------------------------- 626 ---------------------------
شهادته وبشره بأنه سيأكل هذا اليوم من طعام الجنة .
قال نصر / 346 : « ثم إن علياً ( عليه السلام ) دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة ومعه لواؤه فقال له :
يا هاشم ، حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء ؟ ! فقال هاشم : لأجهدن على ألا أرجع إليك أبداً ! قال علي ( عليه السلام ) : إن بإزائك ذا الكلاع وعنده الموت الأحمر ! وكثرت القتلى وحمل
ذو الكلاع فاجتلد الناس فقتلا جميعاً . وأخذ ابن هاشم اللواء ، وهو يقول :
أهاشم بن عتبة بن مالك * أعزز بشيخ من قريش هالك
تخبطه الخيلات بالسنابك * في أسود من نقعهن حالك
أبشر بحور العين في الأرائك * والروح والريحان عند ذلك » .
وقال هاشم ( رحمه الله ) : أيها الناس ، إني رجل ضخم فلا يهولنكم مسقطي إن أنا سقطت ، فإنه لايفرغ مني أقل من نحر جزور ، حتى يفرغ الجزار من جزرها » . ( صفين / 353 ) .
وفي الأخبار الطوال / 183 : « فلما أصبح عليٌّ غادى أهل الشام القتال ، ودفع رايته العظمى إلى هاشم بن عتبة فقاتل بها نهاره كله ، فلما كان العشي انكشف أصحابه انكشافه ، وثبت هاشم في أهل الحفاظ منهم والنجدة ، فحمل عليهم الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه طعنة جائفة ، فلم ينته عن القتال .
ووافاه رسول علي ( عليه السلام ) يأمره أن يقدم رايته ، فقال للرسول : أنظر إلى ما بي ، فنظر إلى بطنه فرآه منشقاً ! فرجع إلى علي فأخبره ، ولم يلبث هاشم أن سقط ، وجال أصحابه عنه ، وتركوه بين القتلى ، فلم يلبث أن مات . وحال الليل بين الناس وبين القتال ، فلما أصبح علي ( عليه السلام ) غَلَّسَ بالصلاة ، وزحف بجموعه نحو القوم على التعبية الأولى ، ودفع الراية إلى ابنه عبد الله بن هاشم بن عتبة وتزاحف الفريقان فاقتتلوا )
وفي أسد الغابة ( 5 / 49 ) : « فقطعت رجله يومئذ ، وجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك ويقول : الفحل يحمى شوله معقول . وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة :
يا هاشم الخير جُزيت الجنة * قاتلتَ في الله عدو السنة » .
« ولما قتل هاشم جزع الناس عليه جزعاً شديداً ، وأصيب معه عصابة من أسلم من القراء ، فمرَّعليهم علي ( عليه السلام ) وهم قتلى حول أصحابه الذين قتلوا معه ، فقال :
--------------------------- 627 ---------------------------
جزى الله خيراً عصبةً أسلميةً * صباحَ الوجوه صُرِّعُوا حولَ هاشمِ
يزيدٌ وعبد الله بشرٌ ومعبدٌ * وسفيانُ وابنا هاشم ذي المكارم
وعروة لا يبعد ثناه وذكره * إذا اخترطت يوماً خفاف الصوارم
ثم قام عبد الله بن هاشم ، وأخذ الراية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس ، إن هاشماً كان عبداً من عباد الله ، الذين قدر أرزاقهم ، وكتب آثارهم ، وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ، فدعاه ربه الذي لا يعصى فأجابه ، وسلم لأمر لله ، وجاهد في طاعة ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأول من آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلين ما حرم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان ، فزين لهم الإثم والعدوان ، فحق عليكم جهاد من خالف سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعطل حدود الله ، وخالف أولياء الله . فجودوا بمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى ، والملك الذي لا يبلى . فلو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية ابن أكالة الأكباد . فكيف وأنتم ترجون ما لا يرجون » . ( وقعة صفين / 356 ) .

أخوة هاشم المرقال وأولاده

كان لهاشم المرقال أبناء مثله شيعة ، وكان له إخوة قادة ، ومن إخوته حمزة بن عتبة ، وكان مع علي ( عليه السلام ) في صفين واستشهد فيها . كما في وقعة صفين / 278 ، وذكر الحاكم نافع بن عتبة ( 3 / 430 ) وذكره ابن حبان في ثقاته ( 3 / 412 ) وذكر أن له صحبة ورواية ، وأنه هو الذي استشهد في صفين .
وذكر البخاري في تاريخه الصغير ( 2 / 72 ) هاشم بن هاشم ، وذكره ابن حبان في ثقاته ( 2 / 342 ) والذهبي في سيره ( 6 / 206 ) . وذكر خليفة / 185 ، ابنه إسحاق . وذكر ابن حجر في الإصابة ( 3 / 201 ) ابنه سليمان ، وفي تقريب التهذيب ( 1 / 229 ) ابنه حفصاً . كما ذكروا له ابنين استشهدا معه في صفين ، وأنهما المقصودان بقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رثائه : وابنا هاشم ذي المكارمِ .
--------------------------- 628 ---------------------------
وذكر له في تاريخ دمشق ( 33 / 347 ) ثلاثة أولاد ، عبد الرحمن وعبد الله وعبد الملك ، وأمهم أمية بنت عوف من الأزد . وذكر في الإصابة ( 4 / 601 ) ابنته درة .

عبد الله بن هاشم المرقال بطلٌ كأبيه

أشهر أبنائه عبد الله ، واشتهر بأجوبته المفحمة لمعاوية وعمرو بن العاص ، لما قبض عليه بعد صفين . وكان وجيه الشيعة في البصرة .
ففي شرح النهج ( 8 / 32 ) ومروج الذهب ( 3 / 8 ) عن أبي عبيد الله المرزباني قال :
« إن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي ( عليه السلام ) بعث زياداً على البصرة ونادى منادى معاوية : أمن الأسود والأحمر بأمان الله ، إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة ! فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب ولا يعرف له خبراً ، حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة فقال له : أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة ، أكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية ! فدعا كاتبه فكتب : من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بنى مخزوم ففتشه داراً داراً حتى تأتى إلى دار فلانة المخزومية ، فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق رأسه وألبسه جبة شعر وقيده وغل يده إلى عنقه واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غطاء ، وانفذ به إليَّ . . .
فاقتحم الدار واستخرج عبد الله منها ، فأنفذه إلى معاوية ، فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصباً كثيراً ، ومن الهجير ما غيَّر جسمه ، وكان معاوية يأمر بطعام ، فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش ولأشراف الشام ووفود العراق . فلم يشعر معاوية إلا وعبد الله بين يديه وقد ذبل وسَهِمَ وجهه فعرفه ولم يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية : يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا الفتى ؟ قال لا ، قال : هذا ابن الذي كان يقول في صفين :
إني شَرَيْتُ النفس لما اعتلَّا * وأكْثَرَ اللوم وما أقلَّا
أعور يبغي أهله محلَّا * قد عالج الحياة حتى ملَّا
لا بد أن يَفُلَّ أو يُفَلا * أشلُّهم بذي الكعوب شلا
لا خير عندي في كريمٍ ولَّى
--------------------------- 629 ---------------------------
دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب ، فاشخب أوداجه على أسباجه ، ولا تردَّه إلى أهل العراق ، فإنه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق ، وحزب إبليس ليوم هيجاء ، وأن له هوى سيرديه ، ورأياً سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة سيئة مثلها .
فقال عبد الله : يا عمرو إن أُقتَل فرجلٌ أسلَمه قومه وأدركه يومه ، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ، ونحن ندعوك إلى النزال ، وأنت تلوذ بسمال النطاف ، وعقائق الرصاف ، كالأمة السوداء ، والنعجة القوداء ، لا تدفع يد لامس !
فقال عمرو : أما والله لقد وقعت في لهاذم شَذقم للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتاً من مخاليب أمير المؤمنين .
فقال عبد الله : أما والله يا ابن العاص إنك لبطر في الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم إذا وليت ، هيابة إذا لقيت ، تهدر كما يهدر العَوْد المنكوس المقيد ، بين مجرى الشول لايستعجل في المدة ، ولا يرتجى في الشدة ، أفلا كان هذا منك إذا غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً ، ولم يمزقوا كباراً ، لهم أيدٍ شداد ، وألسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل !
فقال عمرو : أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه ، وتبق أمعاؤه ، وتضطرب أطلاؤه ، كأنما انطبق عليه صمد .
فقال عبد الله : يا عمرو ، إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوباً غادراً ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يسامونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ إليك عقلك ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القَعود الذي أثقله حمله . فقال معاوية : إيهاً عنكما ، وأمر باطلاق عبد الله ) .
أقول : كان معاوية يتحالم ، لأنه لا يريد أن يفتح معركة مع بني زهرة ، فيكون لهم ثأر عنده بقتل ابن المرقال . أما عمرو العاص ، فهو زنيم لا يعرف الحلم ولا التحالم .
* *
--------------------------- 630 ---------------------------

حجر بن عدي الكندي راهب الصحابة وقائد في الفتوحات

وقد ترجمنا له في : قراءة جديدة في الفتوحات ( 2 / 327 ) ونورد هنا نقاطاً حوله :
1 . حجر بن عدي الكندي ، صحابيٌّ جليل ، وقائدٌ في الفتوح ، كان كثيرالعبادة حتى وصفوه براهب الصحابة . قال الحاكم ( 3 / 468 ) : « ذكر مناقب حجر بن عدي رضي الله عنه ، وهو راهب أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » . وكان باراً بأمه محباً لها ، يرتب مكان نومها بيديه ، ثم ينام فيه ليطمئن أنه ممهد ! ( تاريخ دمشق : 12 / 212 . ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 76 ) .
2 . كان قائداً في فتح العراق وإيران ، وقائد الميسرة في معركة القادسية ، وقائد الميمنة في فتح المدائن ، وفي معركة جلولاء ، وشارك في فتح الشام ، وهو الذي فتح مرج عذراء ، الذي قتله فيه معاوية ! ( المحبر / 292 والطبري : 3 / 135 ، وابن الأعثم : 1 / 211 ، والطبقات : 6 / 217 ، والغارات : 2 / 812 ) .
3 . ظهرت له كرامات في حروبه وشهادته ، وكان أول من اقتحم بفرسه نهر دجلة العريض في فتح المدائن ، فقد طال اصطفاف المسلمين والفُرس ، وكان الفُرس على الضفة الأخرى لدجلة ، فتقدم حِجْر وقرأ : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ . وأقحم فرسه وهو يقول باسم الله ، فعبر وعبر المسلمون على أثره ! فلما رآهم العدو قالوا : ديوان ديوان ! ( جمع دِيو : الغول ) فهربوا فدخلنا عسكرهم » . ( كرامات الأولياء اللالكائي / 152 ، وتفسير ابن كثير : 1 / 419 ) .
4 . تحمل اضطهاد معاوية ، مع عدد من أصحابه من رؤساء القبائل وقادة الإسلام وفرسانه ، الذين فتحوا العراق والشام ، فمنهم مثلاً : « سعيد بن نمران الهمداني الناعطي ، كان كاتباً لعلي ( عليه السلام ) وأدرك من حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعواماً وشهد اليرموك ، وسار إلى العراق مدداً لأهل القادسية ، وكان من أصحاب حجر بن عدي ، وسيَّره زياد مع حجر إلى الشام ، فأراد معاوية قتله مع حجر ، فشفع فيه حمزة بن مالك الهمداني ، فخلى سبيله » . ( أسد الغابة : 2 / 316 ) .
وكفى بذلك دليلاً على اضطهاد الخلافة القرشية لقادة الفتح ، فالعسكريون الأبطال يضحون ويفتحون البلاد ويسلمونها إلى الخليفة ، فيسلمها إلى أجبن الناس وأبعدهم عن أخلاق الجهاد والفروسية ، فيضطهدون الفاتحين ، ويزعمون أنهم هم جاهدوا وفتحوا !
--------------------------- 631 ---------------------------

وحاول معاوية إجباره على لعن علي ( عليه السلام )

ففي شرح النهج ( 4 / 58 ) : « وأمر المغيرة بن شعبة وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية ، حجرَ بن عدي أن يقوم في الناس فليلعن علياً ! فأبى ذلك فتوعده فقام فقال : أيها الناس ، إن أميركم أمرني أن ألعن علياً فالعنوه ! فقال أهل الكوفة :
لعنه الله ، وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد » .
5 . وكان حجرٌ يردد قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الموت في حب علي ( عليه السلام ) شهادة ! ففي مختصر أخبار الشعراء للمرزباني / 49 : « لما قَدِمَ حجر عذراء قال : ما هذه القرية ؟ فقيل : عذراء . فقال : الحمد لله ، أما والله إني لأول مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأول مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثم أنا اليوم أحمل إليها
مصفداً في الحديد !
ثم قال حجر للذي أمر بقتلهم : دعني أصلي ركعتين خفيفتين فلما سلم انفتل إلى الناس فقال : لولا أن يقولوا جزع من الموت لأحببت أن يكونا أنفس مما كانتا ، وأيم الله لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ما هاتان بنافعتيَّ شيئاً ، ثم أخذ ثوبه فتحزَّم به ، ثم قال لمن حوله من أصحابه : لاتحلوا قيودي فإني أجتمع ومعاوية على هذه المحجة !
ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص إليه حجر فقال : ألم تقل إنك لم تجزع من الموت ؟ فقال : أرى كفناً منشوراً ، وقبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع ! أما والله لئن جزعت لا أقول ما يسخط الرب ! فقال له : فابرأ من علي وقد أعدَّ لك معاوية جميع ما تريد إن فعلت ! فقال : ألم أقل إني لا أقول ما يسخط الرب ! والله لقد أخبرني حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيومي هذا !
ثم قال : إن كنت أمرت بقتل ولدي فقدمه فقدمه فضربت عنقه ، فقيل له : تعجلت الثكل ! فقال : خفت أن يرى هوْل السيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي ( عليه السلام ) ، فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين !
ثم التفت إلى بقية أصحابه فرأى منهم جزعاً فقال : قال لي حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
--------------------------- 632 ---------------------------
يا حجر تقتل في محبة عليٍّ صبراً ، فإذا وصل رأسك إلى الأرض مادت وأنبعت عين ماء فتغسل الرأس ! فإذا شاهدتم ذلك فكونوا على بصائركم ، وقدم فضربت عنقه فلما وصل رأسه إلى الأرض مادت من تحته وأنبعت عين ماء فغسلت الرأس !
قال : فجعل أصحابه يتهافتون إلى القتل ، فقال لهم أصحاب معاوية : يا أصحاب علي ما أسرعكم إلى القتل ! فقالوا : من عرف مستقره سارع إليه » !
6 . كان لقتل حِجْرٍ وقع شديد على شخصيات المسلمين
فقد غضب الحسين ( عليه السلام ) لقتله وعائشة والصحابة وأخيار الأمة .
وقالت عائشة لمعاوية ( تاريخ دمشق : 12 / 226 ) : « ما حملك على قتل حجر وأصحابه ؟ فقال : يا أم المؤمنين أني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة وأن بقاءهم فساد للأمة ! فقالت : سمعت رسول الله يقول : سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء » .
راجع : الطبقات ( 6 / 219 ، والطبري : 4 / 208 ، والاستيعاب : 1 / 331 ، وأنساب الأشراف / 1265
والروض الأنف : 3 / 366 ) .
وفي تاريخ دمشق ( 12 / 227 ) : « عن علي ( عليه السلام ) قال : يا أهل الكوفة ، سيقتل فيكم سبعة نفر خياركم ، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود » .
وكان في صفين قائد ميمنة علي ( عليه السلام ) ( الطبري : 4 / 63 ) وقائد قوات كندة . ( خليفة 146 ) .
7 . وقتل معاوية بدون حجة إلا تشيعه لعلي ( عليه السلام ) رغم أنه كان في بنود صلحه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) أن لا يتعقب أحداً من شيعة علي ( عليه السلام ) .
واعترف معاوية بجريمته فقال : « ما قتلت أحداً إلا وأنا أعرف فيمَ قتلتُه وما أردت به ! ما خلا حجر بن عدي فإني لا أعرف فيمَ قتلته » . ( تاريخ دمشق : 12 / 231 ) .
وكان قتله في صفر سنة إحدى وخمسين هجرية ( الطبري : 4 / 187 ، وتاريخ خليفة بن خياط / 160 ، ومستدرك الحاكم : 3 / 468 ، ومعارف ابن قتيبة / 178 ) .
8 . كان الربيع بن زياد المذحجي من قادة الفتوح ، وهو يشبه حجر بن عدي الكندي رضي الله عنهما ، وعندما قتل حجر كان حاكم خراسان .
قال ابن سعد في الطبقات ( 6 / 159 ) : « وكان عمر يقول : دلوني على رجل إذا كان
--------------------------- 633 ---------------------------
في القوم وهو أمير ، فكأنه ليس بأمير ، وإذا كان فيهم وهو غير أمير فكأنه أمير . فقالوا : ما نعلمه إلا الربيع بن زياد بن أنس ، وكان متواضعاً خيراً ، وقد ولي خراسان ،
وفتح عامتها » .
وقد نزل عليه قتل حجر بن عدي كالصاعقة ، فقال : ذلت العرب بعد قتل حجر صبراً !
9 . وقُتل مع حِجْر خمسة من أصحابه ضربت أعناقهم رضي الله عنهم وهم : شريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسي ، ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري ، وكدام بن حيان العنزي .
أما السابع عبد الرحمن بن حسان العنزي ، فأعاده معاوية إلى زياد بن أبيه ، وأمره أن يدفنه حياً في الكوفة ليرهب به الناس !
وتوسط لهم الصحابة وزعماء القبائل والشخصيات ، فلم يقبل معاوية وساطتهم إلا في سبعة فأطلقهم ، وهم :
كريم بن عفيف الخثعمي ، وعبد الله بن حوية التميمي ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء بن سمي البجلي ، والأرقم بن عبد الله الكندي ، وعتبة بن الأخنس من
بني سعد بن بكر ، وسعيد بن نمران الهمداني » . ( تاريخ دمشق : 8 / 27 ) .
10 . وأصيب معاوية بالهذيان قبل موته فكان يهذي باسم علي ( عليه السلام ) وحجر ، وعمرو بن الحمق .
قال ابن الأعثم في الفتوح ( 4 / 344 ) : « وجعل معاوية يبكي لما قد نزل به . . وكان في مرضه يرى أشياء لا تسره ! حتى كأنه ليهذي هذيان المدنف وهو يقول : إسقوني إسقوني فكان يشرب الماء الكثير فلايروى ! وكان ربما غُشيَ عليه اليوم واليومين فإذا أفاق ينادي بأعلى صوته : ما لي ومالك يا حجر بن عدي ! مالي وما لك يا عمرو بن الحمق ! مالي ومالك يا ابن أبي طالب » !
وبعد أن قتل معاوية حجراً ، أمر عامله فهدم داره بالكوفة ! ( الطبري : 4 / 536 ) .
* *
--------------------------- 634 ---------------------------

الفصل الحادي والثلاثون: أسلم الهرمزان حاكم الأهواز على يد علي ( عليه السلام )

الهرمزان حاكم الأهواز ، أخ زوجة كسرى

1 . قال البلاذري ( 2 / 387 ) : « هرب يزدجرد من المدائن إلى حلوان ثم إلى إصبهان ، فلما فرغ
المسلمون من أمر نهاوند ، هرب من إصبهان إلى إصطخر » .
وكان الهرمزان حاكم الأهواز وعاصمتها تستر « شوشتر » أي البلد الأنزه والأطيب .
( معجم البلدان : 2 / 29 ) .
والهرمزان أخ زوجة كسرى أم شيرويه ، الذي قتل أباه وملك بعده شهوراً ، فهو خال شيرويه وخال يزدجرد أيضاً كما ذكر ابن قتيبة ، وكان الهرمزان من قادة الفرس في القادسية ، وغيرها .
وروى ابن سعد ( 5 / 90 ) في وصفه : « قال أنس بن مالك : ما رأيت رجلاً بطِناً ، ولا أبعد أخمص ( أصابع ) ولا أبعد ما بين المنكبين ، من الهرمزان » .
2 . عاش الهرمزان في المدينة المنورة خمس سنوات ، فقد كان فتح تستر في سنة 17 ، وكان قتل الهرمزان عند قتل عمر في آخر سنة 22 . وفي هذه السنوات عاش في المدينة عيشة الملوك ، لأن المسلمين لم يتعرضوا لماله الشخصي ، وهذه واحدة من ميزاتهم .
وقد صدق الهرمزان في إسلامه ، وساعد المسلمين في فتح بقية إيران .
قال الطبري ( 3 / 185 ) : « وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند ، وانتهاء أهل مهرجان قذق وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته ، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الإنسياح » .
--------------------------- 635 ---------------------------
ومعناه أنه كان يوجه الفرس لطاعة الخليفة ، ويساعد بإخلاص في فتح بقية إيران .
وكانت داره في المدينة واسعة ! قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ( 3 / 857 ) : « قال الهرمزان لعمر : إيذن لي أصنع طعاماً للمسلمين . قال إني أخاف أن تعجز . قال : لا . قال : فدونك . قال : فصنع لهم ألواناً من حلو وحامض ، ثم جاء إلى عمر فقال : قد فرغت فأقبل . فقام عمر وسط المسجد فقال : يا معشر المسلمين ، أنا رسول الهرمزان إليكم ، فاتبعه المسلمون ، فلما انتهى إلى بابه قال للمسلمين : مكانكم ، ثم دخل فقال : أرني ما صنعته ثم دعا بأنطاع فقال : ألق هذا كله عليها واخلطوا بعضه ببعض ! فقال الهرمزان : إنك تفسده ، هذا حلو وهذا حامض ، فقال عمر : أردت أن تفسد عليَّ المسلمين ! ثم أذن للمسلمين ، فدخلوا فأكلوا » !
3 . قال الطبري ( 3 / 171 ) : « كان الهرمزان من أحد البيوتات السبعة في أهل فارس ،
وكانت أمَّتُهُ ( قومه ) في مهرجان قذق وكور الأهواز ، فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس ، فلما انهزم يوم القادسية كان وجهه إلى أُمَّته فملكهم وقاتل بهم من أرادهم ، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودست ميسان من وجهين ، من مناذر ونهرتيري ، فاستمد عتبة بن غزوان سعداً ، فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود ، وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودست ميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيري . . فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيري . . فكسر الله في ذرعه وذرع جنده وهزمه وإياهم » .
وقال ابن سعد ( 5 / 90 ) : « وحاصرهم أبو موسى سنتين ويقال ثمانية عشر شهراً » ! قال في معجم البلدان ( 2 / 30 ) : « وجعل الرجل من الأعاجم يقتل أهله وولده ويلقيهم في دجيل ، خوفاً من أن تظفر بهم العرب » !
أقول : هذا الحصار الطويل دليل على سوء إدارة أبي موسى الأشعري ، لأنه كان عنده قوة كافية للهجوم أو الضغط عليهم لقبول الصلح . لكنه اختار محاصرتهم وأخذ يبطش بمن تصل اليه يده من المدنيين ، من أهل تستر وقراها !
قال ابن الأعثم ( 2 / 283 ) : « فلما رأى الهرمزدان ما هو فيه ، بعث إلى أبي موسى يسأله أن يعطيه الأمان ، على أن يحمله إلى عمر بن الخطاب مع أهله وولده
--------------------------- 636 ---------------------------
وحشمه وجميع أهل بيته ، فأجابه أبو موسى إلى ذلك . قال : وأسلم الهرمزدان وأسلم كل من كان معه من أهل بيته وولده وخدمه وحشمه ، فأمر عمر بفك قيده وقربه وأدناه ، وفرح بإسلامه ، وخلطه المسلمون بأنفسهم » .
أقول : زعموا أن عمر أمر بقتل الهرمزان فطلب ماء وأخذ الأمان من عمر حتى يشرب الماء فأعطاه ، فأراق الهرمزان الماء ولم يشربه ، ليكون قول عمر أماناً كل عمره . وأكثروا من رواية ذلك بصيغ مختلفة . ( الطبقات : 5 / 90 ) .
والصحيح أن الهرمزان أسلم على يد سلمان رضي الله عنه ، ولهذا كان ولاؤه لسلمان ، وسلمان مولى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فولاؤه لبني هاشم ، وكان ولاء الهرمزان لعلي ( عليه السلام ) بنص عمر بن الخطاب .
4 . لما ضُرب عمر سارع ابنه عبيد الله فقتل الهرمزان لأنه اتهمه بالمشاركة في قتل أبيه لأن
أبا لؤلؤة فارسي ! وقد برأ عمر الهرمزان ، كما شهد علي ( عليه السلام ) بأنه مؤمن . ونصت الرواية على أنه أسلم على يد علي ( عليه السلام ) ومعناه أنه رآه قبل أن يراه عمر !
قال أبو القاسم الكوفي في كتاب الاستغاثة ( 1 / 58 ) وهو متوفى سنة 351 : « وكان أسلم على يد أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ثم أعتقه من قسمته في الفئ ، فبادر إليه عبيد الله بن عمر فقتله من قبل أن يموت عمر ، فقيل لعمر : إن عبيد الله قتل الهرمزان ، فقال : أخطأ ، فإن الذي ضربني أبو لؤلؤة ، وما كان للهرمزان في أمري صنع ، وإن عشت احتجت أن أقتله به ، فإن علياً لا يقبل منا الدية ، وهو مولاه .
فمات عمر واستولى على الناس عثمان فقال علي ( عليه السلام ) لعثمان : إن عبيد الله بن عمر قتل مولاي الهرمزان بغير حق ، وأنا وليه والطالب بدمه فسلمه لي لأقتله به . فقال عثمان : بالأمس قُتل عمر وأقتل اليوم ابنه ! أورد على آل عمر ما لأقوام لهم به . فامتنع من تسليمه إلى أمير المؤمنين شفقة منه بزعمه على آل عمر ، فقال علي ( عليه السلام ) : أما لئن مكنت منه يوماً لأقتلنه .
فلما رجع الأمر إليه ( عليه السلام ) هرب عبيد الله بن عمر إلى الشام ، فصار مع معاوية وحضر صفين مع معاوية محارباً لعلي ( عليه السلام ) وكان متقلداً سيفين ، فقتل .
--------------------------- 637 ---------------------------
وروى عبد الرزاق في المصنف ( 5 / 478 ) عن عبد الرحمن بن أبي‌بكر : « فخرج
عبيد الله بن عمر مشتملاً على السيف حتى أتى الهرمزان ، فقال : إصحبني حتى ننظر إلى فرس لي ، وكان الهرمزان بصيراً بالخيل ، فخرج يمشي بين يديه فعلاه عبيد الله بالسيف ، فلما وجد حرَّ السيف قال : لا إله إلا الله ، فقتله ، ثم أتى ابنة
أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعي الإسلام فقتلها .
فلما ولي عثمان قال : أشيروا عليَّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق ، يعني عبيد الله بن عمر ، فأشار عليه المهاجرون أن يقتله ، وقال جماعة من الناس : أقُتِلَ عمر أمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم ، أبعد الله الهرمزان وجفينة !
قال : يرحم الله حفصة إن كانت لممن شجع عبيد الله على قتل الهرمزان وجفينة » !
أقول : تدل قضية الهرمزان وأن ولاءه لعلي ( عليه السلام ) علي فعاليات مهمة لعلي ( عليه السلام ) وشيعته لم تصل الينا ، ومنها فعاليات سلمان الفارسي لإقناع الفرس بالإسلام .
* *
--------------------------- 638 ---------------------------
--------------------------- 639 ---------------------------
--------------------------- 640 ---------------------------
--------------------------- 641 ---------------------------
--------------------------- 642 ---------------------------
--------------------------- 643 ---------------------------
--------------------------- 644 ---------------------------
--------------------------- 645 ---------------------------
--------------------------- 646 ---------------------------
--------------------------- 647 ---------------------------
--------------------------- 648 ---------------------------
--------------------------- 649 ---------------------------
--------------------------- 650 ---------------------------
--------------------------- 651 ---------------------------
--------------------------- 652 ---------------------------
--------------------------- 653 ---------------------------
--------------------------- الغلاف 2 ---------------------------
يتضمن هذا المجلد سيرة أمير المؤمنين عليه السلام من مولده الشريف إلى دوره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله في الفتوحات الإسلامية . في واحد وثلاثين فصلا .
ويشمل نشأته في بيت النبي صلى الله عليه وآله ، ومواكبته له من بعثته ، ثم هجرته بعائلة النبي صلى الله عليه وآله ، ونصرته له في المدينة في دعوته وحروبه ، في بدر ، وأحد ، والأحزاب ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة ، ومعركة حنين ، وفتح اليمن ، وبقية حروب النبي صلى الله عليه وآله ، وغزواته ، وسراياه .
وتشمل زواجه بفاطمة عليها السلام بعد بدر ، وولادة الحسنين وبقية أولاده صلى الله عليه وآله .
ثم إعلان النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع خليفة ووصيا ، ودوره في أحداث سيرة النبي إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وشهادته ومراسم جنازته .
وتشمل احتجاجه عليه السلام على أهل السقيفة ، واعتزاله ، حتى داهم الخطر المدينة فنهض لنصرة الإسلام ، ومنع انهيار الدولة .
ثم دوره وتلاميذه في حروب الردة ، وفتح العراق وإيران والشام ومصر .
دار المعروف
للطباعة والنشر
إيران - قم - شارع مصلى القدس - رقم 682
تلفون : 2532939140 ( 0 ) 0098

مقدمة

( مقدمة لسيرة مختصرة لأمير المؤمنين صلوات الله عليه ،
نشرتها في سنة 1425 . وأنشرها الآن لأنها تأريخ للإعتداءات الوهابية
على زوار الحسين ( عليه السلام ) ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا
محمد وآله الطيبين الطاهرين .

فجائع . . على هامش عاشوراء

هزت وجدان العالم مشاهد مفجعة بثتها الفضائيات يوم عاشوراء ، من مدينتي كربلاء والكاظمية في العراق ، ومدينة كويته في باكستان ، وأثارت في النفوس ألواناً من مشاعرالغيظ والحزن ! فقد قام مجرمون بإلقاء متفجرات وسط ملايين المؤمنين الذين جاؤوا إلى كربلاء لزيارة قبرحفيد نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهم ما بين دموع الحزن وأناشيد الولاء ! لقد سمع الناس خبر شخص يلقي متفجرة في أماكن العبادة ، فيقتل العشرات عشوائياً ! لكن الجديد عليهم هذا المسكين الذي عبأه مشايخه ( الأتقياء ) بالعدوان ،
--------------------------- 6 ---------------------------
ودفعوه لأن يلف نفسه بمتفجرات ويفجر نفسه في وسط المحتشدين في مراسم دينية ، فيقتل معه عشرين أو خمسين منهم ، كباراً وصغاراً ، نساءً وأطفالاً ، لاذنب لهم إلا أنهم جاؤوا للمشاركة في هذه المناسبة الدينية !
ومن جهة ثانية ، أثارت هذه المشاهد مشاعر الإكبار لنُبْل الشيعة وتصرفهم تجاهها ، فقد سجل مراسلوا الفضائيات دهشتهم من أمرين : الأول ، السرعة التي انتهى فيها ذعرالناس في مكان تفجيرات كربلاء ومناظرها المرعبة ، فقد بادرمتطوعون منهم في مكان الحادث إلى نقل الجرحى وجمع الجثامين والأشلاء ، بينما واصل ملايينهم حتى الذين كانوا قرب المكان عملهم المقدس الأهم ، وهو أداء مراسمهم في عزاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، في مواكبهم الذاهبة إلى حرمه المقدس أوالعائدة منه بدموعها الحرَّى على سيد الشهداء ( عليه السلام ) ، وأناشيدها ولطمها الحزين !
قال لي شخص كان على بُعد أمتار من تفجيرات كربلاء : لقد أدهشني زوار الإمام الحسين ( عليه السلام ) ! فما هي إلادقائق حتى واصلوا مواكبهم بهتافهم المشهور : أبدْ والله ما ننسى حسينا ، وأضاف بعضهم إلى هتافهم : أبدْ والله بالتفجير ما ننسى حسينا . . واستمروا في المراسم ، وكأن شيئاً لم يحدث !
والثاني ، قرار الصبر والعض على الجراح ، الذي اتضح بسرعة ، وظهر منه أن الشيعة قد تبانوا عليه فيما بينهم ، واتخذوا موقفاً مسبقاً حازماً بعدم الإنجرار إلى الفتنة الطائفية ، بإجماع مراجعهم وجمهورهم .

جذور الظلامة

والأمر الأهم الذي أثارته هذه الفواجع لدى المراقب : التأمل في جذورها الفكرية والتاريخية ، التي جعلت قتل الشيعي ( ديناً ) يربي المتطرفون عوامهم عليه ، ويقنعونهم بأن الشيعي مشركٌ مهدورالدم ، وأن عليهم أن يتقربوا إلى الله بإراقة دمه ، ونهب ماله ، وهتك عرضه !
فمتى بدأت هذه الحالة في تاريخنا الإسلامي ، وكيف تطورت ؟
--------------------------- 7 ---------------------------
إن موجة التكفيرالمعاصرة أو موجة استحلال الدماء وسفكها ، تعود جذورها القريبة إلى المتوكل العباسي ! فهذا ( الخليفة ) تبنى مذهب مجسمة الحنابلة المتعصبين ، وشكل ( ميليشيا ) في بغداد لمهاجمة مجالس عاشوراء ومنع الشيعة من إقامتها ! وسمى حزبه : أهل الحديث ، والمحدثين ، وأهل السنة ، بينما سماهم المسلمون : مجسمة الحنابلة ، والنواصب .
وقد روى الذهبي سخرية البغوي الإمام المعروف ، من هذه التسمية التي خص المتوكل بها حزبه ، فقال في سير أعلام النبلاء ( 14 / 449 ) : ( اجتاز أبو القاسم البغوي بنهرطابق على باب مسجد ، فسمع صوت مُسْتَمْلٍ فقال : من هذا ؟ فقالوا : ابن صاعد . قال : ذاك الصبي ! قالوا : نعم . قال : والله لا أبرح حتى أملي هاهنا ، فصعد دكةً وجلس ورآه أصحاب الحديث فقاموا وتركوا ابن صاعد . ثم قال : حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن يولد المحدثون ! وحدثنا طالوت قبل أن يولد المحدثون ! وحدثنا أبو نصر التمار . فأملى ستة عشرحديثاً ، عن ستة عشر شيخاً ، ما بقي من يروي عنهم سواه ) !
ومعنى قوله : ( ذاك الصبي . . قبل أن يولد المحدثون ! ) أن هؤلاء الصبيان ، أحداثٌ جمعهم المتوكل حول ابن حنبل ، وجعله إماماً لهم !
فالبغوي يقول : إن المتوكل هو الذي حَنْبَلهم ، أي اتخذ لهم ابن حنبل المروي مولى شيبان ، إماماً ، فصار اسمه : الإمام أحمد ، ودعاه إلى سامراء وأقام له مراسم احترام وتجليل ، وأشاع بين العوام كراماته !
وذات مرة مرضت جارية المتوكل المفضلة عنده من بين أربعة آلاف جارية ، فأرسلها إلى بغداد ليعالجها الإمام ! فلما رآها أحمد قال : لقد دخل فيها جني ، وأمره أن يخرج منها وهدده بالقبقاب ، فأطاعه الجني وخرج من الجارية ، وشفيت ! وانتشر الخبر بكرامة الإمام أحمد !
والمتوكل هو الذي أمر بنشرأحاديث التجسيم والنصب ، وبالغ في احترام ( المحدثين ) الذين يروونها ويتحمسون لها ، وأغدق عليهم ، وحَشَدَ الناس حولهم ، وحضر مجالسهم بنفسه ! »
--------------------------- 8 ---------------------------
والمتوكل هو الذي بَخَّرَهُم ، أي جعل لهم ابن إسماعيل بن بَرد زبه الفارسي أوالسلجوقي ، إماماً ، فصار اسمه الإمام البخاري ، وجعل كتابه إمام مصادر السنة النبوية ، صحيحاً من الجلد إلى الجلد !
والمتوكل هو الذي شجع التجسيم ، فجمع المجسمين وسلطهم على الناس ، وجاهر بالنصب ، وجاهر في بغض علي وأهل‌البيت النبوي صلوات الله عليهم ، وكان يعقد مجالس في دار الخلافة بسامراء للسخرية من علي ( عليه السلام ) ! فيأمرعُبادة المخنث أن يشد على بطنه مخدة ويمثِّل شخصية علي ( عليه السلام ) ويسخر منه ويضحك ، ويأمر المغنين والمغنيات أن يغنوا بسبه ويشرب الخمر على غنائهم !
والمتوكل هو الذي اضطهد شيعة علي ( عليه السلام ) وتتبعهم أينما كانوا ، واضطهد الأئمة المعصومين من العترة النبوية الطاهرة ، ففرض الإقامة الجبرية في سامراء على الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) ، ثم حبسه ، حتى قتلوه بعده بالسم ، ثم حبس ولده الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، وعمل بكل جهده لقتله !
والمتوكل هو صاحب العُقدة من قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) واحتشاد المسلمين لزيارته في كربلاء ، فمنعهم ، واضطهد من يزوره !
ولمَّا عجز عن منعهم ، أرسل فرقة جيش بقيادة يهودي اسمه ( زيرج ) ومعه ( ميليشيا السلفيين ) فهدموا قبرالحسين ( عليه السلام ) وحرثوا أرضه ! وأجروْا عليه الماء ، فحار الماء ودار حوله ، فسميت دائرته : الحائر الحسيني !
لقد هلك المتوكل وهو سكران ، ولقي جزاء عمله ، على يد بعض قادة جيشه الأتراك ، وقد يكون فيهم محبون لأهل‌البيت ( عليهم السلام ) فقتلوه ، ومعهم ابنه المنتصر ، الذي اعترض عليه يوماً لإهانته علياً ( عليه السلام ) فأمرالمتوكل المغنيات أن يغنين بسبِّ ولده وأمه !
قال ابن الأثير في تاريخه ( 6 / 108 ) : ( في هذه السنة ( 236 ) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يبذر ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق ، فهرب الناس وتركوا زيارته ، وخُرب وزُرع ! وكان المتوكل شديد
--------------------------- 9 ---------------------------
البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم ! وكان من جملة ندمائه عُبادة المخنث ، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ، ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكل ، والمغنون يغنون قد أقبل الأصلع البدين ، خليفة المسلمين ! يحكي بذلك علياً ، والمتوكل يشرب ويضحك ! ففعل ذلك يوماً والمنتصرحاضرفأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه فقال المتوكل ما حالك ؟ فقام وأخبره فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك ، وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ! فكل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله ! فقال المتوكل للمغنين : غنوا جميعاً :
غار الفتى لابن عمهْ * رأس الفتى في حرِ أمهْ
فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل المتوكل ) .
وقال العصامي في سمط النجوم ( 3 / 469 ) : ( كان المتوكل يبغض علياً فذكر يوماً عليٌّ عنده فغض منه ، فتمعَّر وجه ابنه المنتصر لذلك ، فشتمه أبوه المتوكل وأنشد مواجهاً له . . ) .
وفي مآثر الإنافة ( 1 / 228 ) : ( كان شديد البغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ولأهل بيته ، على خلاف ما كان عليه المأمون ) . وذكر القصة .
ومع أن المتوكل صاحب الخطة مات ، إلا أن حزبه بقي بلاءً على الأمة ، وامتحاناً للمسلمين عامة وللشيعة خاصة ! وعُرفوا باسم مجسمة الحنابلة .
ومع أن الخلفاء بعد المتوكل لم يتبنَّوهم رسمياً ، لكنهم كانوا يستفيدون منهم كحزب عنيف في بغداد ، فيدفعونهم للحد من نفوذ الشيعة ، الذين كان لهم جمهورهم وثقلهم ، في بغداد وخارجها .
كانت حكومة بغداد تدفع مجسمة الحنابلة لضرب الشيعة وتساندهم ، فإذا زاد طغيان المجسمة خلوا بينهم وبين الشيعة ، وربما ساعدوا الشيعة عليهم ! لذلك كان للطرفين أنصارٌ في وزراء الخليفة ، وأمراء جيشه !
* *
--------------------------- 10 ---------------------------
ثم جاء البويهيون في مطلع القرن الرابع فكانت دولتهم متنفساً للشيعة فتوقف نزفهم المتواصل من زمن المتوكل ، وضمَّدوا جراحهم .
والبويهيون آل بُويَهْ ، وهم فُرْس من شمال إيران وشيعة ، احتلوا بغداد وفرضوا أنفسهم على الخليفة بدل الأتراك ، وأجبروه أن يَرْسِم كبيرهم سلطاناً ، ويأمر الخطباء بالدعاء له بعد الخليفة ، فورثوا الأتراك في التسلط على مقدرات الدولة ، وكانوا ينصبون الخليفة ويجرون له مرتباً شهرياً ، وقد يعزلونه ! وفي عهدهم الذي استمر أكثر من قرن ( 334 - 447 هجرية ) ضعف مجسمة الحنابلة لكنهم لم ينتهوا ، فالبويهيون كانوا سياسيين ، وقلدوا الأتراك في لعبة الخلاف بين الشيعة والحنابلة ، فربما اختاروا الحياد ، وربما رجحوا كفة الشيعة ، أوكفة الحنابلة ! .
* *
واستمر الأمر على هذه الحال حتى جاءت ثورة السلاجقة الأتراك ، وهم بدوٌ من برِّ بخارى من جهة الصين ، فاحتلوا إيران والعراق ، وقضوا على بني بُويَه ، وسيطروا على الخلافة العباسية ( 447 - 581 هجرية ) وتبنوا مجسمة الحنابلة حزب المتوكل ، وشنوا على الشيعة موجة اضطهاد قاسية ، استباحوا فيها أحياءهم في بغداد قتلاً ونهباً وحرقاً ، خاصة منطقة الكرخ مركز ثقل الشيعة التاريخي ، وبدؤوأ هجومهم بإحراق خزانة كتب الكرخ العالمية التي أسسها البويهيون ! وقتلوا الألوف المؤلفة من الشيعة ، فاضطر أكثرهم إلى الاختفاء أو الهجرة ، وكان ممن نجا منهم مرجع الشيعة الشيخ الطوسي ( قدس سره ) الذي فرَّ إلى النجف الأشرف سنة 448 ، في السنة الثانية لاستيلاء السلاجقة ، وأسس الحوزة العلمية ونماها ، حتى توفي سنة 460 هجرية ( رحمه الله ) .
* *
وقد نشط مجسمة الحنابلة في عصر السلاجقة ، وساعدهم السلاجقة في كثير من الأحيان ، لكنهم ظلوا حزباً متطرفاً يراوح مكانه ولم يمتد في العالم الإسلامي ، بسبب نفوذ الشيعة وقوة التيار السني المخالف لهم .
--------------------------- 11 ---------------------------
ثم انحسر دعم السلاجقة لهم لسوء تصرفهم ، وكانت الحكومة تضطر أحياناً إلى تأديبهم لإرضاء عامة البغداديين الشاكين من عنفهم !
وبسقوط السطان بهلوان رئيس قبيلة قُزَل وآخرسلاطين السلاجقة ، سنة 582 هجرية ( سير أعلام النبلاء : 21 / 45 ) سقط معهم مجسمة الحنابلة ، وغلب على بغداد الإعتدال السني والميل إلى التشيع ، ولم نعد نسمع بالحنابلة المتطرفين لقرون !
ولم يظهر لهم طوال هذه القرون أي وجود لهم في بلاد المسلمين ، حتى جاء القرن الثامن فظهروا حزباً صغيراً في الشام بزعامة شخص متوتر هو الشيخ أحمد عبد الحليم بن تيمية ، الذي تبناه بعض الأمراء الشراكسة ، وعينه لمدة قصيرة في منصب شيخ الإسلام في الشام ، ثم عزلوه وسجنوه وحاكموه ، بحكم علماء المذاهب الأربعة ، وأبقوه في السجن حتى مات . وبموته تلاشى حزبه ، وغابت أفكاره لخمسة قرون ، حتى ظهرت على يد الشيخ محمد عبد الوهاب النجدي في حركة ضد الخلافة العثمانية يمولها ويديرها الإنكليز ! .
* *
--------------------------- 12 ---------------------------

كلمة في أسلوب هذه السيرة

تتسع الكتابة في سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) لأساليب من التأليف :
منها : أن يجمع المؤلف ما ورد في سيرة المعصوم ( عليه السلام ) من نصوص ، ويبوبها ويضع لها عناوين ، ويسلسلها من الولادة إلى الوفاة ويسرها سرداً ويشرح بعضها .
وهذا هو أسلوب المصنفين القدماء ، وأولهم ابن إسحاق .
ومنها : أن يقرأ المؤلف نصوص سيرة المعصوم ( عليه السلام ) من مصادرها ، ويقرأ مكتوبات أخرى حوله ، فيكوِّن صورة عن شخصيته وأحداثها ، ثم يبدأ بكتابة تصوره ، ويؤيد آراءه بنصوص من مصادرها . وهذا أسلوب الكتاب المنشئين ، مثل الجاحظ والمفيد والإربلي ، ومن المتأخرين : العقاد ، وعبدالمقصود ، والدكتور الصغير ، وجرداق .
ومنها : أن يرصد المؤلف ما كتبه الآخرون في سيرة المعصوم ( عليه السلام ) ، خاصة ما كتبه الخصوم ، فيؤيد المقولة ، أو ينقدها ويفندها . فيكون طابع الكتاب كلامياً نقدياً للسيرة الرسمية ، ومثاله من المعاصرين كتاب الصحيح من السيرة للسيد جعفر مرتضى .
ومنها : أن يهتم كاتب السيرة بجانب معين من سيرة المعصوم ( عليه السلام ) ، فيركز عليه ، كالجانب السياسي أو الروحاني أو التربوي ، فتأتي السيرة مطبوعة بذلك البُعد ، بمستوى ثقافة كاتبها ، لأن الكتاب مرآة مؤلفه في عقليته ، وذهنه ، وثقافته .
أما هذه السيرة فإن أسلوبها قد جمع إيجابيات ، وأهم ميزاتها :
1 . أن منهجها تاريخي عقلاني . فهي تعتمد النص الصحيح ، وقد تمحصه إن لزم ، وقد تطل على الرأي المخالف فتحاكمه .
2 . أنها تضيئ على عصرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ومحيطه دائماً ، من حياته في عهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى عهود أبي‌بكر وعمر وعثمان ، وحركة الفتوحات ، وخلافته ( عليه السلام ) .
فهي معنية بالمحيط لتبرز شخصية الإمام الربانية العظيمة سامقةً في أهل عصرها ، في تفكيرها ونبلها وأهدافها .
3 . تجد فيها فيها الكثير الجديد ، من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحياته ، في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعده ، في أعماله ، وكلماته ، وصفاته .
--------------------------- 13 ---------------------------
4 . كما تجد فيها مواضيع استوفيناها في بحث موضوعي ، مثل مالية الإمام ( عليه السلام ) مقارنة بمالية غيره ، وجهاز الحكم عنده مقارناً بجهاز الحكم عند غيره ، وأصول سياسته مع الحكام خاصة عثمان ، ودوره في الفتوحات ، وعمله لإعادة العهد النبوي .
د . وجدنا موضوعات مجملة عند الرواة والمؤلفين ، يكثر فيها الإبهام والخلط ، فتتبعنا مفرداتها وفككناها ، وأعطيناها التسلسل المنطقي ، مثل حرب الجمل ، فجاءت دراسة موضوعية مفصلة وجديدة .
أسأل الله تعالى أن يصليَ على نبيه ووصيه أمير المؤمنين ، وآلهما الأطهار ، وأن يتقبل هذا الجهد في أعمال نشر فضائلهم والدفاع عنهم . فهو ولي القبول .
حرره بقم المشرفة في السابع عشر من شهر رمضان 1438
علي الكوراني العاملي
* *
--------------------------- 14 ---------------------------
.
--------------------------- 15 ---------------------------

الفصل الأول: كنت وعلياً نورا قبل الخلقً

1 . روت أحاديث عالم النور مصادر الشيعة والسنة

عقدنا في أول السيرة النبوية فصلاً بعنوان : أول ما خلق الله تعالى نور نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأوردنا فيه أحاديث من مصادر الطرفين في الموضوع ، وملاحظات حولها .
ونورد هنا عدداً من الأحاديث والملاحظات ، ونضيف إليها بحثاً حول الميثاق الذي أخذه الله على البشر في عالم الذر ، وعلى الأنبياء ( عليهم السلام ) بولاية نبينا وعترته صلوات الله عليهم .
إن عقيدتنا نحن أتباع أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أن الله تعالى خلق النبي وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل خلق البشر ، فكانوا أنواراً مؤيدة بروح القدس ، يسبحون الله عز وجل ويطوفون حول العرش ، ثم أودعهم في صلب آدم ( عليه السلام ) . وقد روت ذلك مصادر السنة أيضاً وصححته .
ففي مناقب علي لأبي‌بكر بن مردويه / 285 ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين ، فجزءٌ أنا وجزء علي » .
وفي الكافي ( 1 / 530 ) : ( عن أبي حمزة قال : سمعت علي بن الحسين ( عليه السلام ) يقول : إن الله خلق محمداً وعلياً وأحد عشر من ولده ( عليهم السلام ) من نور عظمته ، فأقامهم أشباحاً في ضياء نوره ، يعبدونه قبل خلق الخلق ، يسبحون الله ويقدسونه ) .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « سلك ذلك النور في صلبه [ آدم ( عليه السلام ) ] فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب ، حتى أقره في صلب عبد المطلب ، فقسمه قسمين : قسماً في صلب عبد الله ،
--------------------------- 16 ---------------------------
وقسماً في صلب أبي طالب ، فعلي مني وأنا منه ، لحمه لحمي ، ودمه دمي ، فمن أحبه فبحبي أحبه ، ومن أبغضه فببغضي أبغضه » . ( الخصال للصدوق / 640 ) .
ورواه العلامة في كشف اليقين / 11 ، ونهج الحق / 212 ، عن ابن مردويه وابن حنبل ، وابن المغازلي ، وفيه : « حتى قسمه جزءين ، فجعل جزءً في صلب عبد الله ، وجزءً في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبياً ، وأخرج علياً ولياً » .
وفي علل الشرائع ( 1 / 208 ) عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، لا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر ، يسعد بنا قوم ويشقى بنا آخرون ، فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب ، أخرج ذلك النور فشقه نصفين ، فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب ، ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة ، والنصف إلى فاطمة بنت أسد ، فأخرجتني آمنة وأخرجت فاطمة علياً .
ثم أعاد عز وجل العمود إليَّ فخرجت مني فاطمة ( عليها السلام ) .
ثم أعاد عز وجل العمود إلى عليٍّ ( عليه السلام ) فخرج منه الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، يعني من النصفين جميعاً ، فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن ( عليه السلام ) ، وما كان من نوري صار في ولد الحسين ( عليه السلام ) ، فهو ينتقل في الأئمة من ولده ( عليهم السلام ) إلى يوم القيامة ) .
وفي علل الشرائع ( 1 / 5 ) والعيون ( 1 / 237 ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني ، قال : علي ( عليه السلام ) فقلت يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل ( عليه السلام ) ؟ فقال :
يا علي ، إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك ، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا ! يا علي ، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا ، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ، ولا الجنة ولا النار ، ولا السماء ولا الأرض ، فكيف لا تكون أفضل من الملائكة ، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه ، لأن أول ما خلق الله عز وجل خلق أرواحنا فانطقنا بتوحيده وتحميده ، ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نوراً
--------------------------- 17 ---------------------------
واحداً ، استعظموا أمرنا ، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون ، وأنه منزه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا ، لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد ولسنا بآلهة ، يجب أن نعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلا الله .
فلما شاهدوا كبرمحلنا كبرنا ، لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به ، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العز والقوة ، قلنا لا حول ولا قوة إلا بالله ، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله .
فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة ، قلنا : الحمد لله ، لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمته ، فقالت الملائكة : الحمد لله . فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله ، وتسبيحه ، وتهليله ، وتحميده ، وتمجيده .
ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبهُ ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً ، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون .
وإنه لما عرج بي إلى السماء أذن جبرئيل مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى ، ثم قال لي تقدم يا محمد ، فقلت له : يا جبرئيل أتقدم عليك ؟ فقال : نعم ، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين ، وفضلك خاصة ، فتقدمت فصليت بهم ولا فخر ، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل : تقدم يا محمد ، وتخلفَ عني ، فقلت : يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني ؟ فقال : يا محمد إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعديَّ حدود ربي جل جلاله . فزج بي في النور زجةً حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علو ملكه ، فنوديت : يا محمد ، فقلت : لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت ، فنوديت : يا محمد أنت عبدي وأنا ربك ، فإياي فاعبد وعليَّ فتوكل ، فإنك نوري في عبادي ، ورسولي إلى خلقي ، وحجتي على بريتي ، لك ولمن أتبعك خلقت جنتي ، ولمن خالفك خلفت ناري ، ولأوصيائك أوجبت
--------------------------- 18 ---------------------------
كرامتي ، ولشيعتهم أوجبت ثوابي .
فقلت : يا رب ومن أوصيائي ، فنوديت يا محمد : أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي ، فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش ، فرأيت اثني عشر نوراً في كل نور سطر أخضر ، عليه اسم وصي من أوصيائي ، أولهم : علي بن أبي طالب ، وآخرهم مهدي أمتي ، فقلت : يا رب هؤلاء أوصيائي من بعدي ؟ فنوديت : يا محمد هؤلاء أوليائي وأوصيائي وحججي بعدك على بريتي ، وهم أوصياؤك وخلفاؤك ، وخير خلقي بعدك . وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني ، ولأعلين بهم كلمتي ، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأمكننه مشارق الأرض ومغاربها ، ولأسخرن له الرياح ، ولأذللن له السحاب الصعاب ، ولأرقينه في الأسباب ، ولأنصرنه بجندي ، ولأمدنه بملائكتي ، حتى تعلو دعوتي ، ويجتمع الخلق على توحيدي ، ثم لأديمن ملكه ، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة ) .
وروى أحمد في فضائل الصحابة ( 2 / 262 ) عن سلمان قال : « سمعت حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
يقول : كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا وجزء علي » .
وقد اجتزأه أحمد ، فهو كما في تاريخ دمشق : 42 / 67 : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله مطيعاً ، يسبح الله ذلك النور ويقدسه ، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم رَكَزَ ذلك النور في صلبه ، فلم نَزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي » .
ورواه في شرح النهج « 9 / 171 » عن الفردوس ، وقال : « رواه أحمد في المسند ، وفي كتاب فضائل علي ، وذكره صاحب كتاب الفردوس ، وزاد فيه : ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب ، فكان لي النبوة ولعلي الوصية » .
وقد حذفوه من مسند أحمد ، وبقي في مناقب الصحابة ، أما في الفردوس فنصه الموجود » 3 / 283 « كرواية أحمد ، وكذا في الرياض النضرة للطبري / 392 ، فأَعجب
لهذا التحريف !
--------------------------- 19 ---------------------------

2 . نقاط من أحاديث عالم الأنوار

1 . عالم الأنوار خاص بأصحاب الكساء ( عليهم السلام ) لا يشركهم فيه غيرهم : ( عن أبي سعيد الخدري قال : كنا جلوساً مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذ أقبل إليه رجل فقال : يا رسول الله أخبرني عن قوله عز وجل لإبليس : قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ . فمن هو يا رسول الله الذي هو أعلى من الملائكة ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين ، كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا ، قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام ، فلما خلق الله عز وجل آدم أمرالملائكة أن يسجدوا له ، ولم يأمرنا بالسجود : فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ، ولم يسجد ، فقال الله تبارك وتعالى : أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ، عنَى من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم في سرادق العرش . فنحن باب الله الذي يؤتى منه ، بنا يهتدي المهتدي . فمن أحبنا أحبه الله وأسكنه جنته ، ومن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره . ولا يحبنا إلا من طاب مولده ) !
( فقد شمل الأمر بالسجود كل الملائكة ، وشمل إبليس الذي كان في مجتمعهم وهو من الجن . ولم يشمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) الذين كانوا أنواراً تامة العقل والحياة ، يعيشون في منطقة عُلْيَا حول العرش ) . ( فضائل الشيعة للصدوق / 8 )
2 . اتفق الجميع على صحة عدد من أحاديث عالم الأنوار ، وفيها أن الله تعالى أظهر عالم الأنوار وأهله لأبينا آدم ، فرآهم ( عليهم السلام ) وعرفه مقامهم .
3 . تدل الأحاديث على أن أهل عالم الأنوار ( عليهم السلام ) أعلى أنواع المخلوقات كلها ، فلا يصح أن يقدم عليهم غيرهم ، ولا أن يقاس بهم الصحابة ، وحتى بقية الأنبياء ( عليهم السلام ) .
ولولاهمُ لم يخلق الله آدماً * ولا كان زيدٌ في الوجود ولا عمرو
وهم مؤيدون بروح القدس ، وهي فوق الأرواح التي في أبداننا : ( أشباح نور بين يدي الله ، قلت : وما الأشباح ؟ قال : ظل النور ، أبدان نورانية بلا أرواح ،
--------------------------- 20 ---------------------------
وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس ، فبه كان يعبد الله وعترته كذلك ، خلقهم حلماء علماء ، بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم ، والسجود والتسبيح والتهليل ) . ( الكافي : 1 / 442 ) .
4 . وكانوا موجودين قبل الملائكة ، وقد تعلم منهم الملائكة خمسة أمور : ( ومنا تعلمت الملائكة التسبيح والتقديس والتوحيد والتهليل والتكبير ، ونحن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه ، فتاب عليه ) . ( المحتضر / 136 ) إشارة إلى قوله تعالى : فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ .
وفي رواية : ( كنا أشباح نور ندور حول عرش الرحمان ، فتعلم الملائكة منا التسبيح والتهليل والتحميد ) . ( علل الشرائع : 1 / 23 ) .
5 . كثرت الرواية وتفاوتت في ترتيب خلق الله تعالى لنبيه وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولبقية الخلق ، ففي بعضها أن الله خلق نور محمد وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من نوره ، وفي بعضها خلقه من نور عظمته . وفي بعضها خلق أربعة عشر معصوماً من نور عظمته . وفي بعضها أنه خلق علياً والأئمة ( عليهم السلام ) من نور محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وفي بعضها فتق نورمحمد فخلق منه العرش . وفي بعضها خلق منه السماوات والأرض وفي بعضها ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة ، ثم فتق نور فاطمة ، والحسن ، والحسين . . الخ .
وفي بعضها : « إن الله كان إذ لا كان ، فخلق الكان والمكان ، وخلق الأنوار ، وخلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار ، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار ، وهو النور الذي خلق منه محمداً وعلياً فلم يزالا نورين أولين ، إذ لا شئ كون قبلهما ، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة ، حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب » .
وفي بعضها خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، وفي بعضها خُلِقْتُ من نور الله عز وجل وخُلق أهل بيتي من نوري ، وخُلق محبوهم من نورهم .
وفيها أحاديث صحيحة وأحاديث مرسلة ، وبحوثها مهمة لكنها خارجةعن هدف الكتاب .
--------------------------- 21 ---------------------------
6 . كما كثرت الرواية وتفاوتت في المدة التي أمضاها النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عالم النور ، ففي بعضها ألفا عام ، وفي بعضها أربعة آلاف عام ، وفي بعضها سبعة آلاف عام ، وفي بعضها ألف دهر ، وفي بعضها أربعين ألف عام ، وفي بعضها خمسين ألف سنة . وقد يكون ذلك لتفاوت معني السنة .
7 . كما تنوعت الرواية في الطينة التي خلق منها النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبقية الخلق ، ففي بعض الروايات أنها طينة مخلوقة من نور عظمة الله تعالى ، وفي بعضها طينة مخزونة مكنونة تحت العرش ، فأسكن ذلك النور فيها ، وفي بعضها طينة عليين ، وفي بعضها طينة من أعلى عليين .

أخذ الله ميثاق الخلق بولاية محمد وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . دلت آية : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ . . على أن الله تعالى أخذ الميثاق على توحيده من جميع الخلق . وهناك أنواع من المواثيق ذكرتها آيات القرآن ، وأحاديث السنة ، قد تبلغ ثلاثين نوعاً .
منها : ميثاق الله تعالى على الأنبياء ( عليهم السلام ) ، قال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا .
ومنها : ميثاقه على الأنبياء بأن يطيعوا من يرسله ، قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ اقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا . قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ .
ومنها : المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل كقوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا للَّنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ .
وقوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ . فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً .
--------------------------- 22 ---------------------------
وقوله تعالى : وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا . فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا .
وقال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .
وقال تعالى : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ .
ومنها ميثاق الله على النصارى ، قال تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ .
ومنها ميثاقه على اليهود والنصارى ، قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ للَّنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ .
ومنها : ميثاقه على المسلمين بمقتضى إسلامهم ، قال تعالى : وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
وقال تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ .
ومنها مدح الذين يفون بميثاقهم ، وذم الذين ينقضونه ، قال تعالى : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ . . وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ .
ومنها التحذير من نقض الميثاق الذي تضمنه عقد الزوجية : وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا .
2 . وقد نصت الأحاديث على أن الله تعالى أخذ ميثاق الأنبياء ( عليهم السلام ) بالولاية لنبينا وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وأخذ ميثاق كل الخلق بالولاية لنبينا وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
روى الكليني في الصحيح ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 3 / 415 ) : ( قال له رجل كيف سميت الجمعة ؟ قال : إن الله عز وجل جمع فيها خلفه لولاية محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه ( عليه السلام ) في الميثاق ، فسماه يوم الجمعة ، لجمعه فيه خلقه ) .
--------------------------- 23 ---------------------------
3 . وقال الصدوق في الهداية / 23 : ( ويجب أن يعتقد أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أفضل من محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن بعده الأئمة صلوات الله عليهم وأنهم أحب الخلق إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه ، وأولهم إقراراً به لما أخذ الله ميثاق النبيين في الذر ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى . وبعدهم الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وأن الله بعث نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الأنبياء ( عليهم السلام ) في الذر ، وأن الله أعطى ما أعطى كل نبي على قدر معرفته نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسبقه إلى الإقرار به . ويعتقد أن الله تبارك وتعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنه لولاهم ما خلق الله السماء والأرض ، ولا الجنة ولا النار ، ولا آدم ولا حواء ، ولا الملائكة ، ولا شيئاً مما خلق ، صلوات الله عليهم أجمعين ) .
4 . وأخيراً نشير إلى المواثيق التي أخذت على المؤمن ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( الكافي : 2 / 2 ) :
( إن الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع ، أيسرها عليه مؤمن يقول بقوله يحسده ، أو منافق يقفو أثره ، أو شيطان يغويه ، أو كافر يرى جهاده ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أخذ الله ميثاق المؤمن على أن لا تصدق مقالته ، ولا ينتصف من عدوه ، وما من مؤمن يشفي نفسه إلا بفضيحتها ، لأن كل مؤمن مُلجم ! ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث ، ولربما اجتمعت الثلاث عليه ، إما بغض من يكون معه في الدار ، يغلق عليه بابه يؤذيه ، أو جار يؤذيه ، أو من في طريقه إلى حوائجه يؤذيه ، ولو أن مؤمناً على قلة جبل لبعث الله عز وجل إليه شيطاناً يؤذيه ، ويجعل الله له من إيمانه أنساً لا يستوحش معه إلى أحد .
وفي رواية : ( مؤمن يحسده وهو أشدهن عليه ، ومنافق يقفو أثره ، أو عدو يجاهده ، أو شيطان يغويه .
وفي رواية : ما كان ولا يكون وليس بكائن مؤمن إلا وله جار يؤذيه ، ولو أن مؤمناً في جزيرة من جزائر البحر لابتعث الله له من يؤذيه ) .
--------------------------- 24 ---------------------------

عوالم وجودنا قبل هذا العالم !

من أعجب ما تقرأ في القرآن والسنة ، أنا كنا موجودين في عوالم أخرى قبل أن نولد من آبائنا وأمهاتنا في هذا العالم !
تقرأ مثلاً قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .
( الأعراف : 172 - 174 )
فالآيات تقول لك : إن الله تعالى استخرج أبناء آدم ( عليه السلام ) من ظهره ، ثم من ظهور أبنائه إلى آخر أب ، ثم كوَّنَهم بشكل معين فكانوا مخلوقات تامة ، وأشهدهم فأقروا ، وكلمهم وأخذ عليهم المواثيق ، ثم أعادهم إلى حالتهم الأولى في ظهر آدم ( عليه السلام ) !
تقول لك : إنك كنت معهم وأديت امتحانك الكامل هناك ، وأخذت عليك عهود ومواثيق ، وقد نسيتها فعلاً وسوف تذكرها ، وهي مسجلة عليك حرفياً !
وتقول لك الأحاديث : إن الله بدأ الخلق بنور خلقه من نور عظمته ، ثم خلق من هذا النورمحمداً وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكانوا أجساماً نورانية ، وكائنات في قمة الشعور والعقل والوعي ، يعيشون حول عرش الله تعالى ، وأرواحهم تختلف عن أرواحهم التي فيهم في هذه النشأة : ( يا جابر ، إن الله أول ما خلق خلق محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعترته الهداة المهتدين ، فكانوا أشباح نور بين يدي الله . قلت : وما الأشباح ؟ قال : ظل النور ، أبدان نورانية بلا أرواح . وكان مؤيداً بروح واحدة هي روح القدس فبه كان يعبد الله . وعترته ، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ، ويصلون الصلوات ويحجون ويصومون ) . ( الكافي : 1 / 442 ، بسند صحيح ) .
هنا يقف ذهنك ، وتكل قدرته عن التصور ، خاصة أنك نسيت مواثيق الله عليك ، لكن العقل يقول لك : إقبل الأمر ، لأن الذي يخبرك به هو الله تعالى ، الذي يعلم ولا تعلم ، ولا يمكنك أن تحيط بعلمه .
وقد ضغطت هذه الحقائق لثقلها على أذهان بعض المفسرين فقالوا إن الأخذ في
--------------------------- 25 ---------------------------
الآية مجازي ! والمعنى خلقهم وأشهدهم على ربوبيته بتكوينهم ، فهذا هو الأخذ ، ومنهم صاحب تفسير الميزان ، قال ( 8 / 305 ) : ( ومعنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد ، وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا ، فاعترفوا بذلك قائلين : بلى شهدنا أنك ربنا . وعلى هذا يكون قولهم : بلى شهدنا ، من قبيل القول بلسان الحال ، أو إسناداً للازم القول إلى القائل بالملزوم ، حيث اعترفوا بحاجاتهم ، ولزمهم الاعتراف بمن يحتاجون إليه ) . لكن رأيه لا يصح ، لأن ظهور الألفاظ يأباه ، وتأباه الروايات المتواترة المفسرة للآية ، عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) .
ثم قال صاحب الميزان عن عالم الذر : ( هو عالم الملكوت والخزائن ) وأطال الكلام حوله ، واختصرالإستدلال عليه . وهو تفسير لا يصح لأنه استحساني ولا دليل عليه ، ولو صح لما حل المشكلة لأن عالم الملكوت يشمل كل عوالم ملكه تعالى ، ففي أي عالم من ملكوت الله تعالى كان خلق الناس ، وأخذ الميثاق منهم ؟
إن أحاديث عوالم وجود النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ووجود والناس قبل هذا العالم ، صريحة متواترة فلا يمكن ردها ، ولا إغفالها في البحث ، ولا دمجها في عالم واحد ، كعالم الملكوت أو الخزائن !

3 . فاطمة بنت أسد ( عليها السلام ) أول هاشمية ولدت لهاشمي

« كانت جليلة القدر ، كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوها أمي ، ولما توفيت صلى عليها ودخل قبرها وترحم عليها » . ( عمدة الطالب / 30 ، ومقاتل الطالبيين / 4 ) .
« فاطمة بنت أسد أول هاشمية ولدت من هاشمي ، وكانت بمحل عظيم من الأعيان في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) ( الحاكم : 3 / 108 ) .
وكانت : ( أول امرأة هاجرت إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من مكة إلى المدينة ، على قدميها ) . « الكافي : 1 / 453 » .
--------------------------- 26 ---------------------------

4 . ولد ( عليه السلام ) في الكعبة في الثلاثين من عمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 59 ) : ( أول هاشمي ولد من هاشميين ، وأول من ولد في الكعبة ، وأول من آمن ، وأول من صلى ، وأول من بايع ، وأول من جاهد وأول من تعلم من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأول من صنف ، وأول من ركب البغلة في الإسلام بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وعلي ( عليه السلام ) آخر الأوصياء ، وآخر من آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وآخر من فارقه عند موته ، وآخر من وسده في قبره وخرج » .
أي أول من ولد مع إخوته وأخواته من هاشمييْن ، فهو الأول مع أشقائه .
وفي كشف الغمة ( 1 / 62 ) وأمالي الصدوق / 194 ، عن سعيد بن جبير ، عن الإمام الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) عن يزيد بن قعنب ، وفي أمالي الطوسي / 706 : ( عن الزهري ، عن عائشة . . عن أنس بن مالك والعباس بن عبد المطلب . . وعن الصادق ( عليه السلام ) قال : كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق ، فقالت : يا رب إني مؤمنة بك ، وبما جاء من عندك من رسل وكتب وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وإنه بنى البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا البيت والمولود الذي في بطني إلا ما يسرت عليَّ ولادتي .
قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشق عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله ، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أن ذلك من أمر الله تعالى ، ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ثم قالت : إني فضلت على من تقدمني من النساء ، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله سراً في موضع لا يحب الله أن يعبد فيه إلا اضطراراً ، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً ، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف وقال : يا فاطمة سمه علياً فهو علي والله العلى الأعلى يقول : اشتققت اسمه من اسمي وأدبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي . وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني
--------------------------- 27 ---------------------------
ويمجدني ، فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن أبغضه وعصاه .
قال : فولدت علياً ولرسول الله ثلاثون سنة فأحبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً شديداً ، وقال لها : إجعلي مهده بقرب فراشي وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يلي أكثر تربيته وكان يطهرعلياً في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ورقبته ، ويقول هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها ) .
أقول : ترد إشكالات على رواية ابن قعنب ، منها أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) لا يحتاج أن يرويها عنه ، ومنها معارضة روايات أخرى لها ، والمرجح عندنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء بها إلى الكعبة وأدخلها إليها ، كما روى ابن المغازلي ، ونحوه في المناقب / 25 : ( فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منُظفاً لم أر كَحُسنِ وجهه ، فسماه أبو طالب علياً ، وحَمله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى أداه إلى منزلها » .

5 . اسمه ونسبه ( عليه السلام )

سماه أبوه علياً ، وسمته أمه حيدرة ، وفي الإنجيل إيليا وحيدار ، وهو معرب اسم قيدار بن إسماعيل ( عليهم السلام ) .
روى الصدوق في التوحيد / 398 ، عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ذات يوم جالساً في مسجده ، إذ دخل عليه رجل من اليهود فقال : يا محمد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله . قال : يا محمد أخبرني عن هذا الرب الذي تدعو إلى وحدانيته ، وتزعم أنك رسوله . كيف هو ؟ قال : يا يهودي إن ربي لا يوصف بالكيف ، لأن الكيف مخلوق وهو مُكيفه . قال : فأين هو ؟ قال : إن ربي لا يوصف بالأين ، لأن الأين مخلوق وهو أيَّنَه . قال : فهل رأيته يا محمد ؟ قال : إنه لا يُرى بالأبصار ولا يُدرك بالأوهام .
قال : فبأي شئ نعلم أنه موجود ؟ قال : بآياته وأعلامه . قال : فهل يحمل العرش أم العرش يحمله ؟ فقال : يا يهودي إن ربي ليس بحال ، ولا محل . . قال اليهودي :
--------------------------- 28 ---------------------------
يا محمد إني أجد في التوراة أنه لم يكن لله عز وجل نبي إلا كان له وصي من أمته ، فمن وصيك ؟ قال : يا يهودي وصيي علي بن أبي طالب ، واسمه في التوراة إليا وفي الإنجيل حيدار ، وهو أفضل أمتي ، وأعلمهم بربي ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وإنه لسيد الأوصياء كما أني سيد الأنبياء .
فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأن علي بن أبي طالب وصيك حقاً ، والله إني لأجد في التوراة كل ما ذكرت في جواب مسائلي ، وإني لأجد فيها صفتك وصفة وصيك ، وأنه المظلوم ومحتوم له بالشهادة ، وأنه أبو سبطيك وولديك شبر وشبير ، سيدي شباب أهل الجنة ) .
وفي معاني الأخبار / 58 : ( عن أبي جعفر محمد بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة ، بعد منصرفه من النهروان ، وبلغه أن معاوية يسبه ويلعنه ويقتل أصحابه ، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكر ما أنعم الله على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعليه ، ثم قال . . أنا اسمي في الإنجيل إليا ، وفي التوراة برء ، وفي الزبور أري ، وعند الهند كبكر ، وعند الروم بطريسا ، وعند الفرس جبتر ، وعند الترك بثير ، وعند الزنج حيتر ، وعند الكهنة بويئ ، وعند الحبشة بثريك ، وعند أمي حيدرة ، وعند ظئري ميمون ، وعند العرب علي ، وعند الأرمن فريقو . . ألا وقد جُعِلْتُ محنتكم . ببغضي يعرف المنافقون ، وبمحبتي امتحن الله المؤمنين ، هذا عهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، وأنا صاحب لواء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا والآخرة ، ورسول الله فَرَطي وأنا فَرَط شيعتي ، والله لا عطشَ محبي ، ولا خاف وليي ، وأنا ولي المؤمنين ، والله وليي ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 318 ) : ( فخرج إليه مرحب في عامة اليهود ، وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على أم رأسه ، وهو يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر اني مرحبُ * شاكِ سلاحي بطلٌ مجرب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب * إذا الليوث أقبلت تلتهب
--------------------------- 29 ---------------------------
فقال علي ( عليه السلام ) :
أنا الذي سمتني أمي حيدرَهْ * ضرغام آجام وليثٌ قسورهْ
على الأعادي مثل ريحٍ صرصرهْ * أكيلكم بالسيف كيل السندره
أضرب بالسيف رقاب الكفرة
قال مكحول : فأحجم عنه مرحب لقول ظئر له : غالب كل غالب الحيدر بن أبي طالب ، فأتاه إبليس في صورة شيخ فحلف أنه ليس بذلك الحيدر ، والحيدر في العالم كثير ، فرجع ) .

6 . اسم أبي طالب ( عليه السلام )

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة ( 8 / 114 ) : ( قيل اسمه عبد مناف ، وهوالأصح لقول أبيه عبد المطلب في وصيته له بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أوصيك يا عبد مناف بعدي ) .
ثم ضعَّف رواية أن اسمه عمران ، ثم نقل قول الحاكم : أكثر المتقدمين على أن اسمه كنيته . وذكر أنه يوجد بآخر مصحف بخطه ( عليه السلام ) : كتبه علي بن أبو طالب .
وقال الحاكم أيضاً ( 3 / 108 ) : ( وقد تواترت الأخبار بأن أبا طالب كنيته اسمه ) .
واستدل المسعودي ( مروج الذهب : 2 / 109 ) بأن علياً ( عليه السلام ) كتب في كتاب ليهود خيبر : وكتب علي بن أبي طالب ، بإسقاط الألف ) . أي أسقطها من ابن لأنه وقع بين علمين .
أقول : لا يمكن الاعتماد على رواية أن اسمه عمران ، لأنها لم ترد في أمهات المصادر ، بل نسبها في المناقب ( 3 / 43 ) إلى قول ، وفي فتح الباري ( 7 / 147 ) إلى بعض الروافض ! ولا عبرة بسقوط الألف من ابن فقد يكون من اجتهاد الناسخ ، ولا برواية أنه كتب أبو بالواو لأن الياء والواو يتشابهان . أما التواتر الذي قاله الحاكم فيعارضه أن أكثر المصادر روت أبيات عبد المطلب ( عليه السلام ) وسمته عبد مناف ، كما قال ابن إسحاق ( 1 / 47 ) ونهاية الأرب ( 16 / 31 ) وابن البطريق / 21 . وقال اليعقوبي ( 2 / 13 ) : ( قال لأبي طالب :
أوصيك يا عبد منافٍ بعدي * بمفردٍ بعد أبيه فردِ
فارقَه وهو ضجيعُ المهد * فكنتُ كالأم له في الوجد
--------------------------- 30 ---------------------------
تدنيه من أحشائها والكبْد * فأنت من أرجى بنيَّ عندي
لدفع ضيمٍ أو لشد عقد ) .
ويتصور بعضهم أن منافاً صنم ، لكن ابن بشرالكلبي قال في الأصنام ( 1 / 32 ) إنه جد قريش ولم يثبت أنه صنم ، قال : ( كانت تسمى قريش : عبد مناف ، ولا أدري أين كان [ مناف ] ولا من نصبه ) ! فهو جد قريش ، وإن صح أنه صنم فقد يكون بعضهم سمى صنماً باسم جدهم .
قال ابن منظور ( 9 / 342 ) : ( وأَناف الشئُ على غيره : ارتفع وأَشرف . ويقال لكل مُشرف عل غيره : إنه لمُنيف ) . والمناف اسم مفعول بمعنى اسم الفاعل : المُنيف .
ويؤيد أن عبد مناف لقب لجدهم وليس إسماً ، ما رواه الصدوق في أماليه / 700 : ( اسم عبد مناف المغيرة ، فغلب اللقب على الاسم ) .
والظاهرأن يكون عبد مناف لقب تعظيم يطلق للرجل المحترم ، أي غلام جده .

7 . أخذه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي طالب ( عليه السلام ) وهو طفل صغير

1 . ولد علي ( عليه السلام ) قبل زواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنحو سنتين . وقالت أمه ( عليها السلام ) كما في « كشف اليقين / 23 » : « فأحبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً شديداً وقال لي : إجعلي مهده بقرب فراشي . وكان يلي أكثر تربيته ، وكان يطهرعلياً في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره . . . » .
2 . وفي شرح النهج ( 13 / 200 ) : ( كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يمضغ اللحمة والتمرة حتى تلين ، ويجعلهما في فم علي ( عليه السلام ) وهو صغير في حجره ) .
وفي الصراط المستقيم ( 1 / 253 ) : ( أسند أبو العلاء القطان أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتاه قِنْوُ مَوْزٍ ، فجعل يقشره ويضعه في فم علي ( عليه السلام ) فقيل : إنك تحبه ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أو ما علمت أنه مني وأنا منه ) .
3 . لما تزوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طلب من عمه أبي طالب ( عليه السلام ) أحد أولاده ليكون له عضداً فخيره بينهم ، فاختار علياً ( عليه السلام ) وكان عمره نحو ثلاث سنوات .
--------------------------- 31 ---------------------------
ففي رواية أبي رافع الصحيحة « المناقب : 2 / 29 » : « ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب : إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني ، وأشكر لك بلاك عندي . فقال أبو طالب : خذ أيهم شئت ، فأخذ علياً ( عليه السلام ) » .
قال علي ( عليه السلام ) ( النهج : 2 / 357 ) : « وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ، ويمسني جسده ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشئ
ثم يلقمنيه » .
وقلنا إنه كان في نحو الثالثة لأن عمره ( عليه السلام ) عند البعثة عشر سنين ، وعاش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاثاً وثلاثين سنة وبعده ثلاثين ، منها أيام أبي‌بكر سنتان وأربعة أشهر ، وأيام عمر تسع سنين وأشهر ، وأيام عثمان اثنتا عشرة سنة ، ومدة خلافته خمس سنين وأشهر . واستشهد في الثالثة والستين ، بعمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأمر بإخفاء قبره لئلا ينبشه بنو أمية ، حتى أظهره الإمام الصادق ( عليه السلام ) .
4 . زعم رواة السيرة الرسمية أن قريشاً أصابتها أزمة شديدة ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعمه العباس انطلق بنا إليه لنخفف عن أبي طالب ( عليه السلام ) من عياله ، فأخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً ( عليه السلام ) فضمه إليه . ولا نقبل هذه الرواية لأن أصلها مجاهد بن جبر « ابن هشام : 1 / 162 » وهو مولى بني مخزوم ، وظاهرها مدح علي ( عليه السلام ) بأن فقر أبيه كان سبب أخذ تربية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له ! مع أن أبا طالب كان ينفق على سقاية الحجاج أكثر من ثلاثين ألف درهم .
وقد روج لهذه المقولة محمد بن سلام الجمحي توفي 231 ، وهو من أتباع المتوكل المشهور بنصبه وبغضه لعلي ( عليه السلام ) ، وغرضهم منها القول إن أبا طالب ( عليه السلام ) كان فقيراً ، وأن العباس أنفق على أولاده ثم زعموا أنه اشترى منه حق السقاية والرفادة ، فصارت للعباسيين . وكله لا يصح .
--------------------------- 32 ---------------------------

8 . نسبه وشمائله ( عليه السلام )

هو : علي بن أبي طالب ، بن عبد المطلب ، بن هاشم بن عبد مناف ، بن قصي ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن النضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان . . أمه : فاطمة بنت أسد ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصي . . إلى آخر النسب الشريف . . وهو نسب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من عبد المطلب فما بعده . وقد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا .

9 . حاولوا تشويه صفة علي ( عليه السلام ) !

1 . قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1123 ) : ( أحسن ما رأيت في صفة علي رضي الله
عنه أنه كان ربعة من الرجال ، إلى القصر ما هو ، أدعج العينين ، حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المنكبين ، شئن الكفّين ، عتداً ( تام الخلق ) أغيد ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه ، كبير اللحية ، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضاري ، لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجاً ، إذا مشى تكفَّأ ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفَسه فلم يستطع أن يتنفس ، وهو إلى السمن ما هو ، شديد الساعد واليد ، وإذا مشى للحرب هرول ، ثبت الجنان ، قويٌّ شجاع ، منصور على من لاقاه ) .
2 . صح عندنا مدح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لصفة الأنزع البطين ، فقد روى الطوسي في أماليه / 293 : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، إن الله قد غفر لك ولشيعتك ، ومحبي شيعتك ، فأبشر فإنك الأنزع البطين ، منزوع من الشرك ، بطين من العلم ) .
وصح عندنا قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( خذوا بحجزة هذا الأنزع فإنه الصديق الأكبر ، والهادي لمن اتبعه ، ومن سبقه مرق من دين الله ، ومن خذله محقه الله ، ومن اعتصم به فقد اعتصم بالله ، ومن أخذ بولايته هداه الله ، ومن ترك ولايته أضله الله ، ومنه سبطا أمتي الحسن والحسين وهما ابناي ، ومن ولد الحسين الأئمة الهداة والقائم المهدي ، فأحبوهم وتوالوهم ، ولا تتخذوا عدوهم وليجة من دونهم ، فيحل عليكم غضب
--------------------------- 33 ---------------------------
من ربكم وذلة في الحياة الدنيا ، وقد خاب من افترى ) . ( كامل الزيارات / 115 ) .
لكن تعالَ انظر كيف شوهوا شكله ( عليه السلام ) وأخذوا بكذبة عمرو بن العاص !
3 . قال ابن شهرآشوب في المناقب ( 3 / 91 ) : ( ابن إسحاق ، وابن شهاب : أنه كتب حلية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن ثبيت الخادم عن عمره ( أي ثبيت الضبي ، عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ) فأخذها عمرو بن العاص فزمَّ بأنفه ( أي امتعض مستكبراً ) فقطعها وكتب : إن أبا تراب كان شديد الأدمة ، عظيم البطن ، حمش الساقين ، ونحو ذلك ! فلذلك وقع الخلاف في حليته ) .
فجعله عمرو شديد السمرة يميل إلى السواد ، ولا يوجد هاشمي بهذا اللون ، بل هو لون عمر بن الخطاب ، قال إنه جاءه من أخواله الأحباش إخوة صهَّاك . أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقد وصفوه بأنه أحمر ، أي أبيض .
وزعموا : أن علياً كان أعمش العينين ، بينما كانت عيناه عظيمتين جميلتين .
وزعموا : أن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) شكت من شكله فقالت للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : زوجتنيه أُعيمش عظيم البطن ! فقال لها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لقد زوجتكه وإنه لأول أصحابي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً .
وزعموا : أنه قصير القامة وهومعتدل القامة . وقالوا : له سنامٌ كسنام الثور . وقالوا : أحمش الساقين . والحمش صفة لسيقان السود .
وقالوا أنزع الشعر كبير الصلعة ، وهي صفة عمر ، حتى أن امرأة خافت من صلعته فقالت له : ما هذا يا أبا غفر ، حفص الله لك .
وقالوا كان يسيل المذي منه كثيراً ، وإنه وضع في آلته فتيلة ! ( سنن البيهقي : 1 / 356 ) !
وقالوا ، وقالوا . . وتسربت بعض مقولاتهم إلى كتبنا مع الأسف !
4 . قال نصر في كتاب صفين / 233 : ( كان على رجلاً دحداحاً ، أدعج العينين ، كأن وجهه القمر ليلة البدر حُسناً ، ضخم البطن ، عريض المسربة ، شثن الكفين ، ضخم الكسور ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا خفاف
--------------------------- 34 ---------------------------
من خلفه ، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري ، إذا مشى تكفأ به ومارَ به جسده ، لا تبين عضده من ساعده ، قد أدمجت إدماجاً ، لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس ، وهو إلى السمرة ، أذلف الأنف ، إذا مشى إلى الحرب هرول ، وقد أيده الله بالعز والنصر ) .
5 . وفي حلية الأبرار ( 2 / 394 ) : ( ومما ورد في صفته ( عليه السلام ) ما أورده صديقنا العز المحدث ( الحنبلي الموصلي ) وذلك حين طلب منه السعيد بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ، أن يخرج أحاديث صحاحاً وشيئاً مما ورد في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وصفاته ، وكتب على أتوار الشمع الاثني عشرالتي حملت إلى مشهده ( عليه السلام ) وأنا رأيتها ، قال : كان ربعة من الرجال ، أدعج العينين ، حسن الوجه ، كأنه القمر ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المنكبين ، شئن الكفين ، أغيد كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ، كث اللحية ، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري ، لا يبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجاً ، إن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه ، فلم يستطع أن ينفس ، شديد الساعد واليد ، إذا مشى إلى الحرب هرول ، ثبت الجنان ، قوى ، شجاع ، منصور على من لاقاه ) .
6 . وفي الخصال / 440 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( بينما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الرحبة والناس عليه متراكمون فمن بين مستفت ومن بين مستعدٍ إذ قام إليه رجل فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فنظر إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعينيه هاتيك العظيمتين ثم قال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، من أنت ؟ فقال : أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك قال : ما أنت من رعيتي وأهل بلادي ، ولو سلمت علي يوماً واحداً ما خفيتَ عليَّ ، فقال : الأمان يا أمير المؤمنين ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هل أحدثت في مصري هذا حدثاً منذ دخلته قال : لا ، قال : فلعلك من رجال الحرب ؟ قال : نعم ، قال : إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس . قال : أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلاً لك أسألك عن شئ بعث فيه ابن الأصفر وقال له : إن كنت أنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمد ، فأجبني عما أسألك ، فإنك إذا فعلت ذلك اتبعتك وأبعث إليك بالجائزة ، فلم يكن عنده جواب ، وقد أقلقه ذلك فبعثني إليك لأسألك عنها .
--------------------------- 35 ---------------------------
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قاتل الله ابن آكلة الأكباد ما أضله وأعماه ومن معه ! والله لقد أعتق جارية فما أحسن أن يتزوج بها ! حكم الله بيني وبين هذه الأمة ، قطعوا رحمي ، وأضاعوا أيامي ، ودفعوا حقي ، وصغروا عظيم منزلتي . . الخ ) .
7 . وفي كامل ابن الأثير ( 3 / 397 ) : كان من أحسن الناس وجهاً ، لا يغير شيبه ، كثيرالتبسم . قال في جامع الأصول في كتاب النون عند ذكره صفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : رجل ربعة معتدل القامة بين الطول والقصر . صفاته ( عليه السلام ) مواطئة
لصفات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
* *
--------------------------- 36 ---------------------------

الفصل الثاني: علي ( عليه السلام ) من طفولته إلى بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

« تميزه ( عليه السلام ) في نشأته وصباه »

روت عامة المصادر تميز أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ولادته ونشأته . مثل كلامه وهو في المهد ، وقوته البدنية ، وقوة شخصيته . ومهما شكك البعض فإن مجموعها يدل على أن الله تعالى أعطاه كرامات ومعجزات . ( راجع : مناقب آل أبي طالب ( 2 / 120 ) ) .

1 . شاء الله أن يولد في الكعبة :

في أمالي الطوسي / 706 : ( عن الزهري ، عن عائشة . . عن أنس بن مالك والعباس بن عبد المطلب . . وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين . . . وقد تقدم .

2 . كان وهو طفل يفك قماطه :

قال : ثم شدته وقمطته بقماط فبتر القماط ، قال : فأخذت فاطمة قماطاً جيداً فشدته به فبتر القماط ، ثم جعلته في قماطين فبترهما ، فجعلته ثلاثة فبترها ، فجعلته ستة من ديباج وواحداً من الأدم فتمطى فيها فقطعها كلها . . فقال أبو طالب عند ذلك : إنه سيكون له شأن ونبأ ) .

3 . كان محبوب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخديجة ( عليها السلام ) :

ولما أخذه إلى بيته وهو صغير كانت خديجة ( عليها السلام ) أماً له ، فقد ربته مع أمه ، وأحبته كما أحبه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

4 . كان ( عليه السلام ) طفلاً فقتل حية قصدته :

في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 120 ) : أنه ( عليه السلام ) رأى حية تقصده وهو في المهد شدت يداه في حال
--------------------------- 37 ---------------------------
صغره فحول نفسه فأخرج يده وأخذ بيمينه عنقها وغمزها غمزة حتى أدخل أصابعه فيها وأمسكها حتى ماتت ، فلما رأت ذلك أمه نادت واستغاثت فاجتمع الحشم ، ثم قالت كأنك حيدرة ( لبوة ) . قال الحميري :
ويا من اسمه في الكتب * معروف به حيدر
وسمته به أم * له صادقة المخبر
وقال دعبل :
أبو تراب حيدرة * ذاك الامام القسورة
مبيد كل الكفرة * ليس له مناضل
مبارز ما يهب * وضيغم ما يغلب
وصادق لا يكذب * وفارس محاول
سيف النبي الصادق * مبيد كل فاسق
بمرهف ذي بارق * أخلصه الصياقل

5 . أمسك طفلاً أكبر منه ومنعه من السقوط في البئر :

جابر الجعفي قال : كانت ظئرة علي ( عليه السلام ) التي أرضعته امرأة من بني هلال خلفته في خبائها مع أخ له من الرضاعة وكان أكبر منه سناً بسنة ، وكان عند الخباء قليب فمرالصبي نحوالقليب ونكس رأسه فيه فتعلق ( علي ) بفرد قدميه وفرد يديه ، أما اليد ففي فمه وأما الرجل ففي يديه ، فجاءت أمه فأدركته فنادت في الحي : يا للحي من غلام ميمون أمسك عليَّ ولدي ، فأمسكوا الطفل من رأس القليب وهم يعجبون من قوته وفطنته فسمته أمه : مباركاً . وكان الغلام في بني هلال يعرف بمعلق الميمون ، وولده إلى اليوم ، قال العوني :
واسم أخيه في بني هلال * فاسأل به إن كنت ذا سؤال
معلق الميمون ذا المعالي * بذكره القوم على الليالي

موهبة خُص بها صبيا

--------------------------- 38 ---------------------------

6 . كان يصارع من هم أكبر منه ويصرعهم :

في المناقب : ( كان أبو طالب يجمع ولده وولد إخوته ثم يأمرهم بالصراع ، وذلك خُلُقٌ في العرب ، فكان يحسر عن ذراعيه وهو طفل ويصرع كبار إخوته وصغارهم وبني عمه ، فيقول أبوه : ظهر عليٌّ ، فسماه ظهيراً ، قال العوني :
هذا وقد لقبه ظهيرا * أبوه إذ عاينه صغيرا
يصرع من إخوته الكبيرا * مشمراً عن ساعد تشميرا
تراه عبلاً فتلاً قوياً
فلما ترعرع ( عليه السلام ) كان يصارع الرجل الشديد فيصرعه . ويعلق بالجُبَار بيده ( فسيل النخلة ) ويجذبه فيقلعه . وربما قبض على مراق بطنه ورفعه إلى الهواء .

7 . وكان يعترض الحصان المندفع فيرده :

قال في المناقب ( 2 / 121 ) : ( وربما يلحق الحصان الجاري فيصدمه ، فيرده على عقبيه ) . وهو يدل على قوته البدنية الخارقة ، وسرعته في الجري .

8 . كان يحمل الصخر الثقيل الذي يعجز عنه رجال :

وكان ( عليه السلام ) يأخذ من رأس الجبل حجراً ويحمله بفرد يديه ، ثم يضعه بين يدي الناس ، فلا يقدر الرجل والرجلان والثلاثة على تحريكه . وإنه ( عليه السلام ) لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنَفَسه ، فلم يستطع أن يتنفس !

9 . ثم كان يقطع الأسطوانة من الجبل ويحملها :

قال في المناقب ( 2 / 121 ) : ( ومنه ما ظهر بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قطع الأميال وحملها إلى الطريق ، سبعة عشر ميلاً تحتاج إلى أقوياء حتى تحرك ميلاً منها . قطعها وحده ونقلها ونصبها ، وكتب عليها هذا ميل علي . ويقال إنه كان يتأبط باثنين ويدير واحداً برجله ) .
وفي كتاب المراتب للبستي ( 1 / 140 ) : ( ما ظهر عليه بعد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فمنه قطع الأميال من الجبل ، وحملها إلى الطريق سبعة عشر ميلاً ، يحتاج إلى أقوياء حتى تحرك ميلاً ميلاً ، فقلعها ، ونقلها ، ونصبها ، وكتب عليها : هذا ميل علي ( عليه السلام ) ) .
أقول : الأميال : الأسطوانات الحجرية التي هي علامات الطريق بين المدينة ومكة ، وبين
--------------------------- 39 ---------------------------
مكة وعرفات ، وهذا يدل على أنه ( عليه السلام ) جددها أو أبدلها بأميال أوضح . فكان يقطع الصخر من الجبل على شكل أسطوانة بطول ثلاثة أذرع ، وينقله إلى مكانه ، فيحمل ميلين منها تحت إبطه ، أو على كتفيه ، ويدفع الثالث برجله !
قال الأزرقي في تاريخ مكة ( 2 / 190 ) : ( عدد الأميال من المسجد الحرام إلى موقف الإمام بعرفة وذكر مواضعها . . والميل حجر طوله ثلاثة أذرع ) .
وفي قاموس الكتاب المقدس / 292 ) : ( وفي العصور الرومانية كانت تقام معالم الأميال الحجرية على الطرق العامة الرئيسية ، كما على الطريق مثلاً بين صور وصيداء ، وبين بيلا وجيراسا ، حيث لا تزال هذه ترى هناك ) .
ويطلق الميل على المسافة ، قال العلامة في النهاية ( 2 / 169 ) : ( الفرسخ : ثلاثة أميال إجماعاً ، والميل الهاشمي منسوب إلى هاشم جد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربعة آلاف خطوة واثني عشر ألف قدم ، لأن كل خطوة ثلاثة أقدام ، وهو أيضا أربعة آلاف ذراع ، لأن المسافة تعتبر بمسير اليوم للإبل السيرالعام ) .

10 . وكان يضرب الصخر بيده فتؤثر فيه :

قال في المناقب ( 2 / 121 ) : ( وكان منه في ضرب يده في الأسطوانة حتى دخل إبهامه في الحجر وهو باق في الكوفة . وكذلك مشهد الكف في تكريت والموصل وقطيعة الدقيق ، وغير ذلك ) . ولا بد أن بني أمية أزالوه .

11 . ويضرب الصخر بسيفه فيشق فيه :

( ومنه أثر سيفه في صخرة جبل ثور ، عند غار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأثر رمحه في جبل من جبال البادية ، وفي صخرة عند قلعة خيبر ) .

12 . ويختم الحصى بخاتمه :

ومنه ختم الحصى قال ابن عباس : صاحب الحصاة ثلاثة : أم سُليم وارثة الكتب طبع في حصاتها النبي والوصي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم أم الندى حبابة بنت جعفر الوالبية الأسدية ، ثم أم غانم الأعرابية اليمانية ، وختم في حصاتها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وذلك مثل ما رويتم أن سليمان كان يختم على النحاس للشياطين ، وعلى الحديد
--------------------------- 40 ---------------------------
للجن ، فكان كل من رأى برقه أطاعه ) .

13 . جاءكم قُضَم ، جاءكم قُضَم :

كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد هلاك المستهزئين ربما ذهب إلى المسجد وحده بدون حراسة ، فحركوا عليه أولادهم ليؤذوه في طريق ذهابه أو عودته !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أغروا به الصبيان ، وكانوا إذا خرج يرمونه بالحجارة والتراب ، فشكى ذلك إلى علي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك ، فخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتعرض الصبيان لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم ( يفركها بقوة ) ! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون : قضمنا عليٌّ ، قضمنا علي ! فسمي لذلك : القضيم » . ( تفسير القمي ( 1 / 114 ) .
« كانت قريش إذا رأته قالت : إحذروا الحطم ، إحذروا القضم ! أي الذي يقضم الناس فيهلكهم » . ( نهاية ابن الأثير : 1 / 402 ، و : 4 / 78 ) . وفي أدب الكاتب لابن قتيبة / 171 : « الخضم بالفم كله ، والقَضْمُ بأطراف الأسنان . قال أبوذَرّ ( رحمه الله ) :
تَخْضِمُونَ وَنَقْضَمُ ، والمَوْعِدُ الله » .
وفي أحُد لما دعا طلحة حامل لواء المشركين إلى المبارزة ، فبرز اليه علي ( عليه السلام ) ، قال له : ( قد علمتُ يا قُضَيْم أنه لايَجسر عليَّ أحد غيرك ) !

14 . كان قبل البعثة يذهب مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الشعاب ويصليان :

في الهداية الكبرى / 65 : ( كان يخرج وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما في كل ليلة إلى الشعاب فيصليان فيها سراً من قريش ومن الناس ، وكانت خديجة تخاف عليهما أن تقتلهما قريش ، فجاءت إلى أبي طالب فقالت له : إني لست آمن على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلى علي من قريش أن يقتلوهما ، فاني أراهما يذهبان في بعض تلك الشعاب يصليان . فأتاهما أبو طالب وقال لهما : إني أعلم أن هذا الأمر سيكون له آخر ، وأن هذا الذي أنتما عليه لدين الله ، وإني أعلم أنكما على بينة من ربكما فاتقيا قريشاً ، فوالله ما أخاف عليكما إلا من قريش خاصة ، وما أنتما بكاذبين ولكن القوم يحسدونكما ، والذي دعوتما إليه عظيم
--------------------------- 41 ---------------------------
عندهم ، وإنما تريدان أن تقلباهم عن دينهم ودين آبائهم إلى دين لا يعرفونه ، ويستعظمون ما تدعوانهم إليه . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأملكن رقابهم ، ولأطأن بلادهم بالخيل ، ولتُسلمن قريش والعرب طوعاً أو كرهاً ، ولأقطعن أكابرهم جهراً ، ولآخذنهم بالسيف عُنْوةً ، وهكذا أخبرني جبريل ( عليه السلام ) عن الله عز وجل !
فرجع أبو طالب من تلك الشعاب من عندهما وهو من أسرِّالناس بما أخبره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وأتى خديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخبرها بذلك ففرحت فرحاً شديداً وسُرَّت ، وعلمت أنهما في حفظ الله عز وجل ، فكان هذا من دلائله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .

15 . صلى مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربع سنوات قبل البعثة وثلاثاً بعدها :

روى الحاكم ( 3 / 112 ) بسند صحيح على شرط الشيخين عن علي ( عليه السلام ) أنه قال :
« أنا عبد الله وأخو رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتر ، لقد صليت قبل الناس بسبع سنين » . والخصال / 401 ، ومناقب ابن سليمان : 1 / 260 و 275 .
وروى عن أنس قال : « نُبَّئ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين ، وأسلم علي يوم الثلاثاء » . ونص حديث أهل‌البيت ( عليهم السلام ) على أن جبرئيل ( عليه السلام ) جاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سن السابعة والثلاثين وأخبره بأنه سيكون رسولاً ، وعلمه الوضوء والصلاة ، فأخبرخديجة وعلياً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصدقاه ، وكانا يصليان معه .
وفي إعلام الورى ( 1 / 102 ) : « ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم ، وهو من أجلِّ رواة أصحابنا في كتابه : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتياً أتاه فيقول : يا رسول الله ، فينكر ذلك ، فلما طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب فنظر إلى شخص يقول له : يا رسول الله ، فقال له : من أنت ؟ قال : جبرئيل ، أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً فأخبر رسول الله خديجة بذلك ، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبر اليهودي وخبر بحيراء ، وما حدثت به آمنة أمه ، فقالت : يا محمد إني لأرجو أن تكون كذلك . وكان رسول الله يكتم ذلك ، فنزل عليه جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء فقال : يا محمد قم توضأ للصلاة ، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ومسح
--------------------------- 42 ---------------------------
الرأس والرجلين إلى الكعبين ، وعلمه السجود والركوع .
فلما تم له أربعون سنه أمره بالصلاة وعلمه حدودها ، ولم ينزل عليه أوقاتها ، فكان رسول الله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت ، وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه ، فدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يصلي فلما نظر إليه يصلي قال : يا أبا القاسم ما هذا ؟ قال : هذه الصلاة التي أمرني الله بها ، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وصلى معه وأسلمت خديجة ، فكان لا يصلي إلا رسول الله وعلي وخديجة خلفه . فلما أتى لذلك أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه جعفر ، فنظر إلى رسول الله وعلي بجنبه يصليان ، فقال لجعفر : يا جعفر صِلْ جناح ابن عمك ، فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر ، فلما وقف جعفر على يساره بدر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من بينهما وتقدم » . وقصص الأنبياء ( عليهم السلام ) / 315 ، والمناقب ( 1 / 41 ) وكشف الغمة ( 1 / 86 ) وفيه : « أنشأ أبو طالب في ذلك يقول :
إن علياً وجعفراً ثقتي * عند ملم الزمان والكربِ
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بنيَّ ذو حسبِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي »
وفي الفوائد لأبي الفتح الكراجكي / 116 : « كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف ، أو سمع من حوله رجفة راجف ، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً ، يخبر بذلك خديجة وعلياً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويستسرهما هذه الحال ، فكانت خديجة تثبته وتصبره ، وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له : والله يا ابن العم ما كذب عبد المطلب فيك ، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك ، ولم يزل كذلك إلى أن أُمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالتبليغ فكان أول من آمن به من النساء خديجة ، ومن الذكور أمير المؤمنين علي » .
وفي الاستغاثة ( 2 / 31 ) : ( أجمعوا في الرواية أن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال في غير موضع : والله لقد صليت قبل كل أحد مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، سبع سنين ) .
ولعله يقصد أربع سنين قبل البعثة وثلاثاً بعدها ، حتى أمر الله نبيه بالدعوة العامة . وطرق هذا الحديث في مصادر الطرفين تصل إلى التواتر ، ومن مصادره ابن ماجة ( 1 / 44 ) وصححه .
--------------------------- 43 ---------------------------
ومجمع الزوائد ( 9 / 102 ) بعدة روايات ، وابن أبي شيبة ( 7 / 498 ) والضحاك في الآحاد والمثاني ( 1 / 148 ) وابن أبي عاصم في السنة / 584 ، وتفسير الثعلبي ( 5 / 85 ) والطبري في الرياض النضرة ( 2 / 209 ) والنسائي في السنن ( 5 / 106 و 107 ) . والخطيب في المتفق ( 3 / 141 ) . وتاريخ دمشق ( 42 / 39 ) . ورد ابن حجر في القول المسدد / 102 ، كلام َ الذهبي !
ورواه في شرح النهج ( 13 / 200 و 228 ) عن الطبري وقال : وفي غير رواية الطبري : أنا الصديق الأكبر ، وأنا الفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبي‌بكر ، وصليت قبل صلاته بسبع سنين . كأنه ( عليه السلام ) لم يرتض أن يذكر عمر ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه ، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً » !
ولم يتركوا هذه المنقبة لعلي حتى دسوا فيها الطعن بأبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ففي مسند أحمد : 1 / 99 ، عن حبة العرني قال : « رأيت علياً رضي الله عنه ضحك على المنبر ، لم أره ضحك ضحكاً أكثر منه حتى بدت نواجذه ! ثم قال : ذكرت قول أبي طالب ! ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونحن نصلي ببطن نخلة فقال : ماذا تصنعان يا ابن أخي ؟ فدعاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الإسلام فقال : ما بالذي تصنعان بأس أو بالذي تقولان بأس ، ولكن والله لا تعلوني إستي أبداً ! وضحك تعجباً لقول أبيه » .
والطيالسي / 26 ، ومسند زيد / 405 ، وتاريخ دمشق : 42 / 32 . و : 66 / 313 .
أقول : إن مقولة ( لا تعلوني إستي ) قالها مشركوا قريش وثقيف ، وهي تدل على عامية وتكبرٍ بدوي ! ثم ألصقوها بأبي طالب بغضاً بعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
أقول : كأن الله تعالى أمر رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يذهب إلى الشعاب ليصلي فيها تحت السماء ، وقد يكون لغرض آخر مع الصلاة ، مثل تنزل الملائكة ، أو الالتقاء بالمؤمنين .

16 . افتقد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً أيام الهجرة ، فخرجت خديجة ( عليها السلام ) تبحث عنه :

في شرح الأخبار ( 2 / 205 ) ( عن معاذ بن جبل ، قال : لما فشى أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكة وأسلم من أسلم من المسلمين ، ووثب عليهم قومهم يعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم ، وأذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهم في الهجرة ، فهاجر من خاف
--------------------------- 44 ---------------------------
من قومه على نفسه وتفرقوا في البلدان ، وأقام مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حماه قومه ،
افتقد علياً ( عليه السلام ) ذات يوم فلم يعلم مكانه حتى أمسى فاشتد غمه به ، فرأت أثر الغم عليه خديجة رضوان الله عليها فقالت : يا رسول الله ما هذا الغم الذي أراه عليك ؟ قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صنع به ، وقد أعطاني الله عز وجل فيه ثلاثاً في الدنيا ، وثلاثاً في الآخرة : لا أخاف معها عليه أن يموت ولا يقتل حتى يعطيني الله موعده إياي ، إلا أني أخاف عليه واحدة . قالت : يا رسول الله ، وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الدنيا ؟ وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الآخرة ، وما الواحدة التي تخشاها عليه ؟ قال : يا خديجة ، إن الله عز وجل أعطاني في علي لدنياي أنه يَقتل أربعة وثمانين مبارزاً قبل أن يموت أو يقتل ، وأنه يواري عورتي عند موتي ، وأنه يقضي ديني وعداتي من بعدي . وأعطاني في علي لآخرتي أنه صاحب مفتاحي يوم أفتح أبواب الجنة ، وأنه صاحب لوائي يوم القيامة ، وأنه صاحب حوضي . والتي أخافها عليه : ضغائن له في قلوب قوم ! فخرجت خديجة في الليل تلتمس خبر علي فوافقته ، فأعلمته باغتمام رسول الله بغيبته وألفته مقبلاً إليه فسبقته تبشره ، فقام قائماً فحمد الله تعالى رافعاً يديه » .
وفي مناقب محمد بن سليمان ( 1 / 304 ) : أنها أعطته بعيرها ليأتي إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم يقبل وقال : بل إمضي فأخبري رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنا قادم على أثرك . قالت خديجة : فمضيت فأخبرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإذا هو قائم يقول : اللهم فرج غمي بأخي علي ، فإذا بعلي قد جاء فتعانقا . قالت خديجة : ولم أكن أجلس إذا كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قائماً ، فما افترقا متعانقين حتى ضربتا عليَّ قدماي » .
أي تعبت قدماي من الوقوف وأنا أنتظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو واقف معانقٌ علياً ( عليه السلام ) يتحدث معه .

17 . كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حراء لما بعثه الله تعالى :

قال علي ( عليه السلام ) في الخطبة التي تسمى القاصعة : « ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة . ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان أيس من
--------------------------- 45 ---------------------------
عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وإنك لعلى خير » . « نهج البلاغة : 2 / 157 » .
أقول : يشير ذلك إلى أن علياً ( عليه السلام ) كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند بعثته . وقد رووا أن أهله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانوا معه في غار حراء لما بعث . قال الجاحظ في العثمانية / 305 : « فجاور في حراء في شهر رمضان ، ومعه أهله خديجة ، وعلي بن أبي طالب ، وخادم » .
وفي السيرة الحلبية : 1 / 383 : « كان يخرج لجواره ومعه أهله ، أي عياله التي هي خديجة ، إما مع أولادها ، أو بدونهم » .
وفي دلائل البيهقي : 2 / 14 ، وإمتاع الأسماع : 3 / 24 : « وخرج معه بأهله » .
لكن رواية البخاري « 8 / 67 » غيبت علياً وخديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال : « عن عائشة . . فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبدالليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فتزوده لمثلها » .

18 . كان عقيل يظلم علياً ( عليه السلام ) في طفولته فيشترط أن يداووه قبله :

روى الصدوق الإعتقادات / 105 ، أن علياً ( عليه السلام ) قال : ( ما زلت مظلوماً منذ ولدتني أمي ، حتى أن عقيلاً كان يصيبه الرمد فيقول : لا تذرُّوني حتى تذرُّوا علياً ، فيذرُّوني وما بي رمد ) !
وفي الغارات للثقفي ( 2 / 768 ) : ( ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى يوم الناس هذا . وقوله ( عليه السلام ) : اللهم اجز قريشاً فإنها منعتني حقي وغصبتني أمري .
وقوله ( عليه السلام ) : فجزى قريشاً عني الجوازي فإنهم ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي . وقوله ( عليه السلام ) : وقد سمع صارخاً ينادي : أنا مظلوم فقال : هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلت مظلوماً . وقوله ( عليه السلام ) : وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى . وقوله ( عليه السلام ) : أرى تراثي نهباً . وقوله : أصغَيَا بإنائنا وحملا الناس على رقابنا . وقوله ( عليه السلام ) : إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى .
وقوله ( عليه السلام ) : ما زلت مستأثَراً عليَّ مذعوفاً عما أستحقه وأستوجبه .
--------------------------- 46 ---------------------------

الفصل الثالث: علي ( عليه السلام ) من البعثة إلى الهجرة

1 . علي ( عليه السلام ) أول من أسلم وآمن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . علي ( عليه السلام ) أول من أسلم وآمن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
تقدم قول علي ( عليه السلام ) متواتراً : « صليت قبل الناس بسبع سنين » « الحاكم : 3 / 111 » .
وقال ابن عبد البر « الإستيعاب : 3 / 1095 » : « عن أنس بن مالك قال : استنبئ النبي يوم الاثنين وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء . وقال زيد بن أرقم : أول من آمن بالله بعد رسول الله علي بن أبي طالب » . وحسَّنَه في الزوائد : 9 / 274 : « أسلم زيد بن حارثة بعد علي ، فكان أول من أسلم بعده » . والطبراني الكبير : 5 / 84 ، والطبري : 2 / 60 ، وتهذيب الكمال : 5 / 52 ، وسير الذهبي : 1 / 216 .
وقال ابن هشام ( 1 / 163 ) : « وكان أول ذكر أسلم وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما » . وسير الذهبي : 1 / 13 ، وتاريخ دمشق : 19 / 353 .
وفي الترمذي ( 5 / 304 ) : « بُعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين ، وصلى وعليٌّ ( عليه السلام ) يوم الثلاثاء » !
وفي الأحوذي « 10 / 160 » : « أول من أسلم من الذكور هو علي » .
لكن علماء السلطة بعد القرن الخامس أنكروا أن علياً ( عليه السلام ) أول من أسلم !
قال ابن الصلاح في مقدمته / 178 : « قال الحاكم : لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب أولهم إسلاماً . واستُنكر هذا من الحاكم » !
قال في الصحيح من السيرة « 2 / 315 » : « إن أول من أسلم واتبع وصدق وآزر وناصر ، هو أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى أبنائه الأئمة الطاهرين . وأورد العلامة الأميني ( 3 / 95 ) أقوالاً لعشرات الصحابة والتابعين وغيرهم من الأعلام ، وعشرات من المصادر غير الشيعية ، تؤكد أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو أول الأمة إسلاماً » .
--------------------------- 47 ---------------------------
وقال المناوي في فيض القدير ( 4 / 468 ) : « علي أخي في الدنيا والآخرة : كيف وقد بُعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين فأسلم وصلى يوم الثلاثاء ، فمكث يصلي مستخفياً سبع سنين ، كما رواه الطبراني عن أبي رافع . وفي أوسط الطبراني عن جابر مرفوعاً : مكتوب على باب الجنة : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي سنة ! عن أبي أمامة أن النبي آخى بين الناس ، وآخى بينه وبين علي . قال الإمام أحمد : ما جاء في أحد من الفضائل ما جاء في علي !
والعجب كل العجب من ابن حجر الذي يعرف حديث الدار وإنذار العشيرة الأقربين في أول البعثة ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعلن علياً ( عليه السلام ) أخاه ووزيره ووصيه ، ويعرف الأحاديث الصحيحة المتقدمة في خلق نورالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونور علي ( عليه السلام ) قبل الخلق ، ويعرف حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الصحيح أن الملائكة صلت عليه وعلى علي سبعاً ! وقول علي ( عليه السلام ) : « أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ! صليت قبل الناس لسبع سنين » . وأنه صحيح بشرط الشيخين !
ويعرف أنه لا يوجد حديث في أن أبا بكر أول من أسلم إلا ما نسبوه إلى عمار ! وقد صرح هو في « فتح الباري : 7 / 130 » بأن البخاري لم يجد حديثاً في أن أبا بكر أسلم أولاً إلا ما نسبه إلى عمار فقال : « اكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئاً على شرطه غيره ، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي‌بكر ، إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الرجال غيره » !
ومع كل ذلك أفتى ابن حجر بأولية إسلام أبي‌بكر بحديث مبهم ، وردَّ الأحاديث القوية ، فقال : « قد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال » . يقصد بالجمهور أتباع السلطة فقط ، مع أن اتفاقهم تم في القرن الخامس ، وكان الاتفاق قبلها على أولية علي ( عليه السلام ) !
أما روايات أهل‌البيت ( عليهم السلام ) فأجمعت على أن علياً وخديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول من أسلم ، ومنها رواية اليعقوبي « 2 / 22 » : « أتاه جبريل ( عليه السلام ) وأعلمه أنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبلغه
--------------------------- 48 ---------------------------
عن الله وعلمه : إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ثم أتى خديجة ابنة خويلد ( عليها السلام ) فأخبرها فتوضأت وصلت ، ثم رآه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ففعل كما رآه يفعل ، ثم زيد بن حارثة ، ثم أبو ذر » .
وفي روضة الواعظين / 85 : « قال أبو رافع : صلى النبي غداة الاثنين ، وصلت خديجة آخر نهار يوم الاثنين ، وصلى علي يوم الثلاثاء » .
وروى ابن طاووس في كتاب الطرف / 5 ، والبحار « 65 / 392 » عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : إنهما أسلما لما دعاهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلَّمتما له ؟ وقال : إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام ، فأسلما تسلما وأطيعا تُهديا ، فقالا : فعلنا وأطعنا يا رسول الله ، فقال : إن جبرئيل عندي يقول لكما : إن للإسلام شروطاً ومواثيق ، فابتداؤه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة ، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ، ويبعث من في القبور . قالا : شهدنا . قال : وإسباغ الوضوء على المكاره واليدين والوجه والذراعين ، ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين ، وغسل الجنابة في الحر والبرد ، وإقام الصلوات ، وأخذ الزكوات من حلها ووضعها في أهلها ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان ، والجهاد في سبيل الله ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، والعدل في الرعية ، والقسم في السوية ، والوقوف عند الشبهة إلى الإمام ، فإنه لا شبهة عنده ، وطاعة ولي الأمر بعدي ومعرفته في حياتي وبعد موتي ، والأئمة من بعده واحداً فواحداً ، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه . والحياة على ديني وسنتي ودين وصيي وسنته ، إلى يوم القيامة ، والموت على مثل ذلك ، غير شاقة لأمانته ولامتعدية ولامتأخرة عنه ، وترك شرب الخمر ، وملاحاة الناس .
يا خديجة فهمت ما شرط عليك ربك ؟ قالت : نعم وآمنت وصدقت ورضيت وسلمت . قال علي : وأنا على ذلك . فقال : يا علي تبايع على ما شرطت عليك ؟ قال : نعم » .
--------------------------- 49 ---------------------------

2 . المأمون يشهد أن علياً وأولاده ( عليهم السلام ) خلوٌ من الناس :

جمع المأمون الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والفلاسفة ، وناظرهم في أن علياً هو خليفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وليس أبا بكر . ومما احتج به أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاه إلى الإسلام قبل بلوغه ولم يدع صبياً غيره لأنه لا تصح دعوة الصبيان ، وكانت دعوته له بأمر الله تعالى ولم يتَكلَّف ذلك من نفسه ، فإن الله يقول : وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلفِّين ! وهذا يعني أن علياً وهو صغير السن كبير ، تمييزاً له عن الخلق ليُعرف مكانه وفضله ، ثم كان المأمون يقول : ( ويحكم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ ( غير ) من هذا الخلق ! أوَمَا علمتم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بايع الحسن والحسين وهما صبيان غير بالغين ولم يبايع طفلاً غيرهما ! أَوَمَا علمتم أن علياً آمن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو ابن عشر سنين ، فقبل الله ورسوله منه إيمانه ولم يقبل من طفل غيره ، ولا دعا النبي طفلاً غيره إلى الإيمان ! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ) ! ( الإختصاص / 98 ) .
وقد روى مناظرات المأمون للعلماء ابن عبد البر في العقد الفريد ( 2 / 240 ) والصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 199 ) وروى أن الإمام الرضا ( عليه السلام ) كان يقول لأصحابه الذين يثق بهم : لا تغتروا منه بقوله ، فما يقتلني والله غيره ! ومعناه أن المأمون متناقض ، فهو يناظرالعلماء في فضل علي وأولاده الأئمة ( عليهم السلام ) ، ثم يقتل الإمام الرضا لخوفه من تفاقم شعبيته !
وقد تضمنت مناظرات المأمون إبطال خلافة غيرعلي ( عليه السلام ) ، وعدم جواز تلقي الدين من غيره . قال محمد بن يحيى بن عمران الأشعري : فسكت القوم فقال لهم : لم سكتم ؟ قالوا : لا ندري ما تقول ؟ قال : تكفيني هذه الحجة عليكم . قال : فخرجنا متحيرين خجلين . ثم نظرالمأمون إلى الفضل بن سهل فقال : هذا أقصى ما عند القوم ، فلايظن ظان أن جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ) !

3 . علي ( عليه السلام ) الحارس الخاص للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمره إحدى عشرة سنة :

أوردنا في سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قصة إسلام أبي ذر ( رحمه الله ) أنه جاء إلى مكة وطلب
--------------------------- 50 ---------------------------
من أبي طالب أن يوصله إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فحقق معه وأخره يوماً ويومين حتى اطمأن بصدقه ، ثم أخذه إلى بيت فيه حمزة فحقق معه ، ثم أخذه إلى بيت فيه جعفر فحقق معه ، قال أبو ذر : ( فدفعني إلى بيت فيه علي سلمت وجلست فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : هذا النبي المبعوث فيكم ؟ قال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ، ولا يأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ قال فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول الله فسلمت وجلست فقال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما حاجتك ؟ قلت : النبي المبعوث فيكم ؟ قال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه ولايأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا ذر انطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عم لك قد مات وليس له وارث غيرك ، فخذ ماله وأقم عند أهلك حتى يظهر أمرنا » !
أما البخاري « 4 / 241 » فروى القصة عن ابن عباس ، وفيها : « حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به عليٌّ فقال : أما آن للرجل أن يعلم منزله ! فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ ! حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على عليٍّ مثل ذلك فأقام معه ، ثم قال : ألا تحدثني ما الذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت ، ففعل فأخبره ، قال : فإنه حق وهو رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك ، فقمت كأني أريق الماء ، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل ، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودخل معه ، فسمع من قوله وأسلم مكانه ، فقال له النبي : إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري ) .
ومعنى روايتنا : أن علياً كان وهو ابن إحدى عشرة سنة أو نحوها ، الحلقة الأمنية الرابعة في حراسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ومعنى رواية البخاري : أنه ( عليه السلام ) استضاف أبا ذر في بيته ، ولما اطمأن إلى صدقه ، أخذه إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأسلم . وكلاهما كرامة لعلي ( عليه السلام ) .

4 . اتخذه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وزيراً وهو صبي فوجبت طاعته على الصحابة :

فقد أمره الله أن يدعو بني هاشم ، وأنزل عليه : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . فجمعهم وكانوا
--------------------------- 51 ---------------------------
أربعين رجلاً ، ودعاهم إلى الإسلام ، واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته ، كما أمره ربه .
قال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد « 1 / 49 » : « أجمع على صحته نُقاد الآثار ، حين جمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة ، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر ، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن ، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة « الذبيحة » في مقام واحد ، ويشرب الفَرْق « السطل » من الشراب في ذلك المقام . وأراد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم ، إظهارالآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه . ثم أمر بتقديمه لهم ، فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوْا منه ، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك ، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه . ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب : يا بني عبد المطلب ، إن الله بعثني إلى الخلق كافة ، وبعثني إليكم خاصة ، فقال عز وجل : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار ، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . فلم يجب أحد منهم ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأرمصهم عيناً ، فقلت : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : أجلس ، ثم أعاد القول على القوم ثانية فأُصمتوا ، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى ، فقال : أجلس . ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر ، فقال : أجلس ، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يا أبا طالب ليهنك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميراً عليك ! وهذه منقبة جليلة
--------------------------- 52 ---------------------------
اختص بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار ، ولا أحد من أهل الإسلام ، وليس لغيره عِدْلٌ لها من الفضل ، ولامقاربٌ على حال » .
أقول : روت حديث الدار عامة المصادر ، وصححه علماء الجرح والتعديل ، وألفوا فيه كتباً وفصولاً ، لكن أتباع الحكومات أفتوا بأنه يجب إنكاره ، لأنه يكشف بطلان خلافة غير علي ( عليه السلام ) !
فقد طلب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من بني هاشم أن يؤمنوا به ، وأن يبايعه رجل منهم على نصرته والتفرغ معه للدعوة ، فيتخذه وزيراً وأخاً ووصياً وخليفةً ، فأعلن عليٌّ ( عليه السلام ) قبوله فأعلنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وزيراً وخليفة ، وأخبربذلك أنه يعيش بعده !
وقد رواه الطبري ( 2 / 62 ) بصيغته الصحيحة ، قال : ( لما نزلت هذه الآية على رسول الله : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين ، دعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لي يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين . . فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رِجل شاة واملأ لنا عِسَّاً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ، ثم قال : خذوا بسم الله ، فأكل القوم حتى مالهم
--------------------------- 53 ---------------------------
بشئ حاجة ، وما أرى إلا موضع أيديهم ، وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : إسق القوم ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ، ولم يكلمهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال الغد : يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ، ثم اجمعهم إليَّ . قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة ، ثم قال إسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثم تكلم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ) ! ورواه برواية أخرى وفيها : فأيكم يبايعني على أن يكون كذا وكذا !
وفي الإرشاد : 1 / 49 ، ومسند الشاميين : 2 / 66 : « فمن يجيبني إلى هذا الأمرويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » .
وهو يدل على أنه طلب منهم من يتفرغ معه للدعوة ، فأجابه علي ( عليه السلام ) فأوجب طاعته وهو صغيرالسن على جميع المسلمين ! لكنهم أخفوا منه خلافة علي ( عليه السلام ) ، فرواه ابن كثير في النهاية ( 3 / 53 ) : ( فقال : إن هذا أخي وكذا وكذا . . فاسمعوا له وأطيعوا ) . ورواه بعضهم كاملاً سليماً ، راجع : ابن إسحاق ، والنسائي ، والبزار ، وسعيد بن منصور ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في المستدرك ، وابن حنبل في مسنده ، وابن مردويه ، وأبي حاتم ، والطحاوي ، وأبي نعيم ، والبغوي ، والمقدسي ، وابن عساكر ، والبيهقي في الدلائل . الخ .
ومن أعمال الوهابيين لإخفاء هذا الحديث أن محمد حسنين هيكل أورده سليماً في كتابه : حياة محمد ، في الطبعة الأولى / 104 ، ثم حرفه في الطبعة الثانية / 139 ، إجابةً لطلب الوهابية ، لقاء شرائهم ألف نسخة من كتابه بخمس مائة جنيه ! « راجع : فلسفة التوحيد والولاية / 179 للشيخ محمد جواد مغنية » .
--------------------------- 54 ---------------------------

5 . اتخذه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصياً فكان نبأ عظيماً أغضب قريشاً :

كان خبر بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدوي في أندية قريش ، فجاءهم خبر اجتماع بني هاشم وأن محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طلب منهم وزيراً يبايعه على نصرته ، فاستجاب له ابن عمه علي فاتخذه وزيراً ووصياً وخليفة ! فرأوا ذلك نبأً عظيماً يؤكد أن نبوة بني هاشم مشروع لحكم العرب ، ولذا يجب قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ففي المناقب « 2 / 276 » عن تفسيرالقطان ، بسند صحيح عندهم ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عبد خير ، عن علي قال :
« أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ ؟ قال : يا صخر ، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى ! قال : فأنزل الله تعالى : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما » !
وفي الكافي « 1 / 207 » عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال له الثمالي : « جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . قال فقال : هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه » .
وقدورد عن أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أن النبأ العظيم ولاية علي ( عليه السلام ) ، ومعنى : كَلا سَيَعْلَمُونَ : يعلمون عند ظهور المهدي ( عليه السلام ) ، ثم يوم القيامة أن إمامة العترة ( عليهم السلام ) حق . راجع : معجم الإمام المهدي ( عليه السلام ) : 5 / 377 ، وتفسير القمي : 2 / 401 .
إن القرشيين لا يفهمون من النبوة إلا أنها انشقاق بني هاشم عنهم ! فهم يسألون عمن يستخلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعده هل هو من بني هاشم أو من غيرهم ؟ وكلفوا أبا سفيان أن يستطلع الأمر !
وقد فسرأتباع الخلافة النبأ العظيم بالقيامة أو القرآن ، بدون سند إلا أقوال مفسري الدولة الأموية ! فقال مجاهد هو القيامة وروي عن قتادة ، وقال قتادة هو القرآن .
« عبد الرزاق : 3 / 342 والطبري : 30 / 4 » .
لكن المشركين لا يرون ضرراً عليهم أن يقول محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنه يوجد خمسون آخرة ،
--------------------------- 55 ---------------------------
ولا أن ينزل عليه خمسون قرآناً ! كما أنهم مستعدون للتنازل عن أصنامهم وبيعها بثمن جيد ! لكن النبأ العظيم الذي يشغلهم أن تكون القيادة بعد محمد لبني هاشم دونهم ، فهي الكفر العظيم ، والنبأ العظيم !
وقد تحير صاحب تفسير الميزان « 17 / 223 » ففسر النبأ العظيم في سورة صاد بالقرآن ، قال : « وهو أوفق بسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن » .
ثم فسره في سورة النبأ « 20 / 163 » بالقيامة وقال : « في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي ( عليه السلام ) وهو من البطن » .
وتبعه تفسيرالأمثل « 14 / 555 ، و : 19 / 317 » وعقد عنواناً : « الولاية والنبأ العظيم » وأورد بعض رواياته ، وحاول أن يجمع بينها وبين تفسير النبأ العظيم بالمعاد !
لكن الذي كان يؤرق زعماء قريش ويتساءلون عنه كما أسلفنا هو نبأ اتخاذ النبي وصياً من بني هاشم دونهم ، فهذا هو الظاهر الأنسب بالسياق !
والقرآن والقيامة أقل وقعاً عليهم من النبوة وخلافتها ، فكيف تصير القيامة ظاهراً ، والإمامة باطناً . ولذا تواترت فيه أحاديث أهل‌البيت ( عليهم السلام ) !

6 . كانت خلافة علي ( عليه السلام ) محسومة من أول البعثة :

وقد اتضح ذلك من آية : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وحديث الدار . وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرض نفسه على القبائل ويطلب أن يأخذوه معهم ويحموه ليبلغ رسالة ربه ، فيطلبون منه أن تكون لهم خلافته ، فيجيبهم بأن الأمر لله وقد اختار له أهلاً ، وعليهم أن لاينازعوا الأمر أهله ! قال ابن هشام « 2 / 289 » : « أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء .
قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه » .
--------------------------- 56 ---------------------------
إلى عشرات الأحاديث النبوية ، التي دلت على أن الخلافة كانت محسومة ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صرح بعلي ( عليه السلام ) وأوصى الأمة ، ثم رفع بيد علي ( عليه السلام ) في حجة الوداع وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ! لكن قريشاً لا تريد أن تَقنع لأنها تريد الخلافة ، ثم جاء الأتباع فأحسنوا الظن بالصحابة الماضين ، وأنكروا الوصية لعلي ( عليه السلام ) .

7 . زادت مسؤولية علي ( عليه السلام ) في حصار الشعب :

ولم يسجل رواة السلطة جهاده في سنوات الحصار ، إلا لمُاماً من حراسته للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا عجب فهو منكور الفضل كأبيه أبي طالب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وقد وصلنا شئ برواية أبي جعفر الإسكافي أحد كبار علماء المعتزلة ، فنقل في شرح النهج : 13 / 254 ، رده على الجاحظ بقوله : « وهو المخصوص دون أبي‌بكر بالحصار في الشعب ، وصاحب الخلوات برسول الله في تلك الظلمات ، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما ، والمصطلي لكل مكروه ، والشريك لنبيه في كل أذى ، قد نهض بالحمل الثقيل وناء بالأمر الجليل . ومَن الذي كان يخرج ليلاً من الشعب على هيئة السارق ، يخفي نفسه ويضائل شخصه ، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش ، كمطعم بن عدي وغيره ، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح ، وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل وغيره ، ولو ظفروا به لأراقوا دمه ! أعليٌّ كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر ؟
ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويظمئ نفسه ويسقيه ! وهو كان المعلل له إذا مرض ، والمؤنس له إذا استوحش ، وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم ، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة ، ولا يعلم بشئ من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ، ثلاثَ سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم ، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم ! فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها » !
وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 57 ) : « كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاءه أبو طالب ( عليه السلام ) فأنهضه عن مضجعه وأضجع علياً ( عليه السلام ) مكانه ، ووكل عليه
--------------------------- 57 ---------------------------
وُلْدَهُ وَوُلد أخيه ، فقال علي ( عليه السلام ) : يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ، فقال أبو طالب :
إصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى * كل حيٍّ مصيرُه لشَعوب
قد بلوناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب * والباع والفناء الرحيب
إن تصبك المنون بالنبل تبرى * فمصيب منها وغير مصيب
كل حي وإن تطاول عمراً * آخذٌ من سهامها بنصيب
فأجابه علي ( عليه السلام ) :
أتأمرني بالصبر في نصر أحمدٍ * ووالله ما قلتُ الذي قلتُ جازعا
ولكنني أحببت أن ترَ نُصرتي * وتعلمَ أني لم أزلْ لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعا
أقول : معنى قوله ( عليه السلام ) : يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ، أن قريشاً مصرة على قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهي تترصده من أعلى الشعب وجوانبه لتعرف مكان نومه ، فيتسلل ذئابها ويقتلوه في جوف الليل ! فهو يخبر عن تقديره للوضع الأمني إخباراً ، وكأنه يطلب منه تغيير مكان نوم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو تحسين مراقبة الشعب ، وحاشاه أن يكون ذلك منه خوفاً ، لأنه لا يخاف من الموت ، ويأنس بفدائه لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

8 . أرسله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مهمة إلى الحبشة فنال شرف الهجرتين :

فقد روي أنه سافر مرة إلى الحبشة مع جعفر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرسله في مهمات خاصة غير معلنة . وفي المناقب : 1 / 289 ، عن ابن عباس : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنصار : نزلت في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سبق الناس كلهم بالإيمان ، وصلى إلى القبلتين ، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان ، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة ، ومن الحبشة إلى المدينة » .
أقول : كان جعفر ( عليه السلام ) يرجع إلى مكة ويأتي بأحبار وأساقفة وقساوسة ، ليروا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وذكر المفسرون وفوداً منهم في تفسير قوله تعالى : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ . ولعل هجرة علي ( عليها السلام ) كانت
--------------------------- 58 ---------------------------
في مهمة مع جعفر في إحدى رجعاته من الحبشة .

9 . حزن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) على أبي طالب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

قال اليعقوبي « 2 / 35 » : « توفي أبو طالب بعد خديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة ، وقيل تسعون سنة . ولما قيل لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن أبا طالب قد مات ، عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسرثلاث مرات ، ثم قال : يا عم ، ربيت صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً ، فجزاك الله عني خيراً . ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول : وصلتك رحم ، وجزيت خيراً . وقال : اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان ، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً . يعني مصيبة خديجة وأبي طالب » .
وروى ابن حاتم في الدر النظيم / 221 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أخبرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بموت أبي طالب فبكى ثم قال : إذهب فغسله وكفنه وواره ، غفرالله له ورحمه ، ففعلت ثم أمرني فاغتسلت ونزلت في قبره ، وجعل يستغفر له ، وبقي أياماً لا يخرج من بيته » .
أقول : اعتكف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيته بعد وفاة عمه ( عليه السلام ) لأن قريشاً لما علمت بوفاة أبي طالب استنفرت لقتله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ومع ذلك شارك في مراسم تشييعه في بيته القريب ، وحمله معهم على سريره . وروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه شيع جنازته إلى قبره في الحجون رغم الخطر على حياته . ثم اعتكف في بيته أياماً وهو يواجه عمل قريش لقتله . ولعله لم يذهب مع جنازته إلى الحجون ، وأوكل دفنه إلى علي ( عليه السلام ) بسبب ظرفه الأمني ، ثم ذهب إلى قبره بعد ذلك .
وفي الجواهر السنية / 219 ، عن عبد الرحمن بن كثير : « قلت للصادق ( عليه السلام ) : إن الناس يقولون إن أبا طالب في ضحضاح من النار ! فقال : كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل ! قلت : وبماذا نزل جبرئيل ؟ فقال أتى جبرئيل في بعض ما كان ينزل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إن أهل الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك ، فآتاه الله أجره مرتين . ثم قال ( عليه السلام ) : كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب فقال : يا محمد أخرج من مكة فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب » .
--------------------------- 59 ---------------------------
وفي الكافي ( 1 / 439 و 449 و : 8 / 341 » قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « لما توفي أبو طالب
أوحى الله إلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أخرج من القرية الظالم أهلها ، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب . . قيل له : إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافراً ؟ فقال : كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً * نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب ) .
وقال الإمام العسكري ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « إن الله أوحى إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إني قد أيدتك بشيعتين : شيعة تنصرك سراً ، فسيدهم وأفضلهم أبو طالب ، وشيعة تنصرك علانية ، فسيدهم وأفضلهم علي بن أبي طالب » .
وفي كمال الدين / 174 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « والله ما عَبَدَ أبي ولاجدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف ، صنماً قط . قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به » .
وعن الباقر ( عليه السلام ) : « مات أبو طالب بن عبد المطلب مسلماً مؤمناً » . ( البحار : 35 / 116 ) .
10 . اختباؤه ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحجون :
في مجمع الزوائد « 6 / 15 » : « عن أبي هريرة قال : لما مات أبو طالب تحينوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما أسرع ما وجدتُ فقدك يا عم » .
وقال اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 36 ) : « اجترأت قريش على رسول الله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه ، وهموا به مرة بعد أخرى » .
وفي تفسير القمي « 2 / 431 » : « لما مات أبو طالب ( عليه السلام ) فنادى أبو جهل والوليد عليهما لعائن الله : هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره ! فقال الله تعالى : فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُو الزَّبَانية . قال : كما دعا إلى قتل محمد رسول الله نحن أيضاً ندع الزبانية » .
وهو يدل على نزول هذه الآيات مرتين ، وهو كثير في القرآن .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 1 / 449 » : « لما توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد أخرج من مكة فليس لك فيها ناصر ، وثارت
--------------------------- 60 ---------------------------
قريش بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج هارباً حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون ، فصار إليه » .
ومعنى ثاروا به : أنهم هاجموا بيته يريدون قتله ! ولابد أن يكون اختباؤه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحجون بعد وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) مباشرة ، وفي شهر شوال قبل ذهابه إلى الطائف ، أو بعد رجوعه وقبل حلول ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم ، وكان يأمن فيها بنو هاشم .
وقد استفاد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الأشهر الحرم في إكمال بيعة الأنصار ، وإرسال من بقي من المسلمين إلى المدينة ، وبعد انتهاء الأشهر الحرم ، استنفرت قريش في مراقبته ومحاولة قتله ، إلى هجرته في ربيع الأول . وكان علي ( عليه السلام ) في كل ذلك مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . لكن لم يذكر لنا رواة السلطة أين كان الصحابة الذين ادعوا البطولة في تلك الفترة ، ولماذا ذابوا كما يذوب الملح !

11 . رافق علي ( عليه السلام ) النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سفره إلى الطائف :

ذكرت أكثر مصادرهم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان وحده في سفره إلى الطائف ، أو كان معه زيد بن حارثة فقط !
قال في الطبقات : 1 / 211 : « فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة ، وذلك في ليال بقين من شوال . فأقام بالطائف عشرة أيام » . لكن ابن أبي الحديد المعتزلي روى عن المدائني وهو إمام عندهم ، أن علياً ( عليه السلام ) كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سفرته تلك ، قال في شرح النهج ( 4 / 127 ) : « فكان معه علي وزيد بن حارثة في رواية أبي الحسن المدائني ، ولم يكن معهم أبو بكر . وقال ابن إسحاق كان معه زيد بن حارثة وحده ) .

12 . كان علي ( عليه السلام ) يرافق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لدعوة القبائل في موسم الحج :

وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوهم إلى الإسلام ويطلب منهم حمايته ، وكان يذهب معه زيد بن حارثة ، أو علي ( عليه السلام ) ، وروت المصادر أن أبا بكر ذهب معه ذات مرة ، كما في ثقات ابن حبان « 1 / 80 » عن علي قال : « لما أمر الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج وأنا معه وأبو بكر ، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر فسلم وقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة . قال : وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها ؟ فقالوا : لا ، بل من هامتها العظمى . قال أبو بكر : وأي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا : من ذهل الأكبر . قال أبو بكر : فمنكم عوف الذي يقال له لا حُرَّ بوادي عوف ؟ قالوا :
--------------------------- 61 ---------------------------
لا . قال : فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا . قال أبو بكر : فلستم إذا ذهلاً الأكبر ، أنتم ذهل الأصغر .
فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بَقَل وجهه ، فقال : على سائلنا أن نسأله ! يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً ، فممن الرجل ؟ فقال أبو بكر : أنا من قريش . فقال الفتى : بخٍ بخٍ أهل الشرف والرئاسة ، فمن أي القرشيين أنت ؟ قال : من ولد تيم بن مرة . قال : أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة ، فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر ، فكان يدعى في قريش مجمعاً ؟ قال : لا . قال : فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجافُ ؟ قال : لا . قال : فمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا . قال : فمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا . قال : فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء ، الذي كأن وجهه القمر يضئ في الليلة الظلماء الداجية ؟ قال : لا . قال : فمن أهل السقاية ؟ قال : لا . واجتذب أبو بكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال الغلام :
صادف درأ السيل درأً يدفعه * يُهيضه حيناً وحيناً يصدعه !
أما والله لو ثبت ! قال فتبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال عليٌّ : فقلت يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة « داهية » ! فقال لي : أجل يا أبا الحسن ، ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والبلاء موكل بالمنطق ! قال علي : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار . ووصف لقاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ببني شيبان ورئيسهم المثنى بن حارثة الشيباني . . الخ .
وفيه أنهم اعتذروا عن حمايته خوفاً من كسرى ، ووعدهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يرثوا ملكه . ويظهر أن هذا اللقاء شجعهم على معركة ذي قار ، وقد اتخذوا اسم محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شعارهم ، ثم جاؤوا بعدها وفداً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسلموا .
--------------------------- 62 ---------------------------

13 . أخذ علي ( عليه السلام ) البيعة لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الأنصار :

روى في المناقب : 1 / 305 ، وأوسط الطبراني : 2 / 207 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أشهد لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي ، قال : لما جاءت الأنصار تبايع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على العقبة قال : قم يا علي . فقال علي : على ما أبايعهم يا رسول الله ؟ قال : على أن يطاع الله فلايعصى ، وعلى أن يمنعوا رسول الله وأهل بيته وذريته ممايمنعون منه أنفسهم وذراريهم . ثم كان الذي كتب الكتاب بينهم » .
وفي الكافي ( 8 / 261 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « وأخذ عليهم عليٌّ أن يمنعوا محمداً وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم . . نجا من نجا ، وهلك من هلك » . وفي مناقب ابن سليمان : 2 / 165 : « فالتزمتها رقاب القوم ، ووفى بها من وفى » .
* *

مبيته ( عليه السلام ) على فراش رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفداؤه بنفسه

1 . أحست قريش أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد يهاجر في أي لحظة :

فأخذت تراقب بيته وحركته ، واتخذت قراراً محكماً لاغتياله قبل أن يهاجر ويفلت منها ، وانتدبت من كل بطن رجلاً ليهاجموا بيته ليلاً ويضربوه ضربة رجل واحد ، فلا يعرف من قتله ويضيع دمه بين القبائل . قال الله تعالى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُاللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . ويظهرمن حديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع الحبر اليهودي أنهم اتفقوا على ساعة معينة للدخول إلى بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقتله .
ففي الخصال / 365 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن حاخام اليهود الأكبر أتى علياً ( عليه السلام ) فقال : « يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ! قال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ؟ قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده ، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في
--------------------------- 63 ---------------------------
حياة الأنبياء ، ويمتحنهم بعد وفاتهم . فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء ، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟
فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني في حياء نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة الله له مطيعاً . قال : فيمَ وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : أما أولاهن . . . وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ، ثم يأتي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهونائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدراً !
فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً بأن أقتل دونه ، فمضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي ، بما قد علمه الله » .
أقول : معناه أنه ( عليه السلام ) كان نائماً في غرفة وليس في الدار ، كما هي الرواية المشهورة . وقد يكون في الغرفة نافذة يراقبونه منها أو يرمونه بالحصى ، كما روي .

2 . وفي أمالي الطوسي / 466 ، عن عمار وأبي رافع :

« فخرج القوم عِزِين « متفرقين » وسبقهم بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل ( عليه السلام ) فتلا هذه الآية على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . فلما أخبره جبرئيل
--------------------------- 64 ---------------------------
بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة ، دعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفاً ، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي ، وأنه أوحى إليَّ ربي عز وجل أن أهجر دار قومي ، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي ، وأمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي ، ليخفى بمبيتك عليهم أثري ، فما أنت قائل وصانع ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : أوَتسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ؟ قال : نعم ، فتبسم علي ( عليه السلام ) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً بما أنبأه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من سلامته ، وكان علي ( عليه السلام ) أول من سجد لله شكراً ، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما رفع رأسه قال له : إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ، ومرني بما شئت أكن فيه بمسرتك ، واقعاً منه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلا بالله . قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وإنه ألقي عليك شبهٌ مني ، فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي .
ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه ، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ( عليهم السلام ) ثم الأمثل فالأمثل ، وقد امتحنك يا ابن عم وامتحنني فيك ، بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم ، والذبيح إسماعيل ( عليهم السلام ) ، فصبراً صبراً ، فإن رحمة الله قريب من المحسنين . ثم ضمه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى صدره وبكى إليه وَجْداً به ، وبكى علي ( عليه السلام ) لفراق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولبث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكانه مع علي يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين ، ثم خرج في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره ، ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين ، فخرج وهو يقرأ هذه الآية : وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ . وأخذ بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم ، فما شعر القوم به حتى تجاوزهم !
فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر ، أقبل القوم على علي ( عليه السلام ) يقذفونه بالحجارة والحِلَم « الأعواد » ولايشكُّون أنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح ، هجموا على علي ( عليه السلام ) وكانت دور مكة يومئذ سوائب
--------------------------- 65 ---------------------------
لا أبواب لها ، فلما بصر بهم علي ( عليه السلام ) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها ، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، وثب له علي ( عليه السلام ) فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر « يرفس كالفصيل » ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح ، وهم في عرج الدار « منعطفها » من خلفه ، وشد عليهم علي ( عليه السلام ) بسيفه يعني سيف خالد ، فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار ، فتبصروه فإذا هو علي ( عليه السلام ) فقالوا : إنك لعلي ؟ قال : أنا علي . قالوا : فإنا لم نردك فما فعل صاحبك ؟ قال : لا علم لي به . وقد كان علم يعني علياً ( عليه السلام ) أن الله تعالى قد أنجى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار واختبائه فيه ، فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت في طلبه الصعب والذلول . وأمهل علي ( عليه السلام ) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة ، انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الغار ، فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين ، فقال أبو بكر : قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب . فقال : إني لاآخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن . قال : فهي لك بذلك ، فأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) فأقبضه الثمن . ثم أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته ، وكانت قريش تدعومحمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الجاهلية الأمين ، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك ، فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشياً : ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة ، فليأت فلتؤد إليه أمانته .
وقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تَقْدِمَ عليَّ ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً . ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما ، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم .
قال أبو عبيدة : فقلت لعبيد الله يعني ابن أبي رافع : أوَ كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجد ما ينفقه هكذا ؟ فقال : إني سألت أبي عما سألتني وكان يحدث بهذا الحديث فقال :
--------------------------- 66 ---------------------------
فأين يذهب بك عن مال خديجة ( عليها السلام ) ؟ وقال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة . وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يفك من مالها الغارم والعاني ، ويحمل الكَل ، ويعطي في النائبة ، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة ، ويحمل من أراد منهم الهجرة ، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين ، يعني رحلة الشتاء والصيف ، كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قريش مالاً ، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها ، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها .
وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي وهو يوصيه : وإذا أبرمت ما أمرتك ، فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله ، وسر إليَّ لقدوم كتابي إليك ولا تلبث بعده . وانطلق رسول الله لوجهه يؤم المدينة ، وكان مقامه في الغار ثلاثاً ، ومبيت علي على الفراش أول ليلة . قال عبيد الله بن أبي رافع : قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) شعراً يذكر فيه مبيته على الفراش ، ومقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الغار ثلاثاً :
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجْرِ
محمدُ لما خاف أن يمكروا به * فوقَّاه ربي ذو الجلال من المكر
وبتُّ أراعيهم متى ينشرونني * ووطنت نفسي على القتل والأسر
ويأت رسول الله في الغار آمناً * هناك وفي حفظ الإله وفي ستر
أقام ثلاثاً ثم زَمَّت قلائصٌ * قلائص يفرين الحصا أينما تفري »

3 . كان المهاجمون يطوقون البيت ويراقبون :

إلى ساعة معينة قرب الفجر ، وفي تلك الساعة تسلقوا سور البيت ودخلوا ، فرأوه نائماً في غرفة قد تغطي في برد حضرمي ، فرموه بالحصى ليستيقظ وكان النائم علياً ( عليه السلام ) ، فلم يكشف الكساء حتى وصلوا اليه فنهض في وجوههم وهم شاهرون سيوفهم يتقدمهم خالد بن الوليد ، فأساء الكلام فأمسكه علي ( عليه السلام ) وجذبه وعصرعضده ونزع منه سيفه ، فصاح خالد كالبَكر أي البعيرالصغير ، فتدخل البقية وقالوا له إنهم لا يريدون به شراً ولايقصدونه هو !
وفي إعلام الورى : 1 / 146 : « فنام ( عليه السلام ) على فراش رسول الله والتحف ببردته ، وجاء
--------------------------- 67 ---------------------------
جبرئيل ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : أخرج والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه ، وعلي ( عليه السلام ) نائم عليه ، فيتوهمون أنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » !
وفي تفسير القمي ( 1 / 275 ) : « فوثب عليٌّ في وجوههم فقال : ما شأنكم ، قالوا له أين محمد ؟ قال أجعلتموني عليه رقيباً ، ألستم قلتم نخرجه من بلادنا ، فقد خرج » .

4 . وفي المناقب ( 1 / 339 ) : « الثعلبي في تفسيره :

وابن عقبة في ملحمته ، وأبو السعادات في فضايل العشرة ، والغزالي في الإحياء ، وفي كيمياء السعادة أيضاً ، برواياتهم عن أبي اليقظان . وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي الينا ، نحو ابن بابويه ، وابن شاذان ، والكليني ، والطوسي ، وابن عقدة ، والبرقي ، وابن فياض ، والعبدلي ، والصفواني ، والثقفي ، بأسانيدهم عن ابن عباس ، وأبي رافع ، وهند بن أبي هالة ، أنه قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ، فأيكما يؤثر أخاه ؟ فكلاهما كره الموت ! فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمد نبيي ، فآثره بالحياة على نفسه ، ثم ظل بائتاً على فراشه يقيه بمهجته ! إهبطا إلى الأرض جميعاً فاحفظاه من عدوه . فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرئيل يقول : بخٍ بخٍ ، من مثلك يا ابن أبي طالب والله يباهي بك الملائكة ! فأنزل الله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ » . وشواهد التنزيل : 1 / 123 ، والثعلبي في تفسيره : 2 / 125 ، والمسترشد للطبري / 360 والصراط المستقيم : 1 / 173 ، وأسد الغابة : 4 / 25 ، والفضائل لابن عقدة / 179 ، وكشف اليقين / 89 ، والصراط المستقيم : 1 / 173 ، والصحيح من السيرة : 4 / 32 ، وأمالي الطوسي / 468 ، والعمدة / 239 ، والطرائف / 37 ، وسعد السعود / 216 ، وخصائص الوحي المبين / 120 ، والجواهر السنية / 307 . والمراجعات / 216 .
وروى العياشي « 1 / 101 » عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « فإنها أنزلت في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حين بذل نفسه لله ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة اضطجع على فراش رسول الله » . وأمالي الطوسي / 446 و 469 ، عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، وشواهد التنزيل : 1 / 123 ، و 129 ،
--------------------------- 68 ---------------------------
و 130 ، عن أبي سعيد الخدري . والإرشاد : 1 / 53 ، والمسترشد / 360 ، والصراط المستقيم : 1 / 173 ، ومناقب الخوارزمي / 127 ، ومنهاج الكرامة / 122 ، والخصال : 2 / 364 ، وأمالي الطوسي / 446 ، والتعجب للكراجكي / 122 ، وشرح الأخبار : 2 / 345 .
ومن مصادر غيرنا ، صحح الحاكم « 3 / 4 » حديثنزولها في علي ( عليه السلام ) فقال : « عن ابن عباس قال : شرى عليٌّ نفسه ولبس ثوب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألبسه بُردهُ ، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعلوا يرمون علياً ( عليه السلام ) ويرونه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد لبس بردته » .
ونحوه الصالحي في سبل الهدى « 3 / 233 » . وقد فصَّل ذلك المقريزي فقال في الإمتاع « 1 / 57 » : « فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه . فلما رآهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر علياً بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الحضرمي الأخضر ، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك . فقام علي مقامه وتغطى ببرد أخضر فكان أول من شرى نفسه وفيه نزلت : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله .
وخرج ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخذ حفنة من تراب وجعله على رؤوسهم وهو يتلو الآيات من : يس وَالْقٌرْآنِ الحَكِيم . إلى قوله : فهم لايُبْصِرُون ، فطمس الله تعالى أبصارهم فلم يروه وانصرف . وهم ينظرون علياً فيقولون إن محمداً لنائم » .
وبذلك يتضح أن نوم علي ( عليه السلام ) مكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان ضرورياً ، لطمأنة الذين يطوقون البيت إلى أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما زال لم يخرج من مكة .

5 . لكن السلطة لا تريد الإقرار :

بأن الآية نزلت في علي ( عليه السلام ) ، فجعلتها في صهيب الرومي ، وقالت إن المشركين منعوه من الهجرة ، فبذل لهم ماله فنزلت فيه الآية ! مع أنهم رووا أنه هاجر مع علي ( عليه السلام ) واحتمى به ! وصهيب من قبيلة نمر بن قاسط من ربيعة ، وعرف بالرومي لأن الروم أسروه وباعوه عبداً ، وكان محباً لعمر . « أسباب النزول للواحدي / 39 ، ومجمع الزوائد : 6 / 318 » .
--------------------------- 69 ---------------------------

6 . ثم قالوا : إن الآية لاتخص علياً ( عليه السلام ) ، بل تعم المهاجرين والأنصار ! « عبد الرزاق : 1 / 81 » .

7 . ثم قالوا : اختلف أهل التأويل فيمن نزلت ، فقال بعضهم في المهاجرين والأنصار ، وقال بعضهم في من باع نفسه في الجهاد واستقتل ، وقال بعضهم في رجال من المهاجرين بأعيانهم منهم علي ، ثم رجح الطبري أنها نزلت في كل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، كما قال عمر بن الخطاب ! « تفسير الطبري : 2 / 437 » .
وذكر الفخر الرازي : 5 / 233 ، في سبب نزولها أقوالاً ، في صهيب وعمار وبلال وغيرهم ، والثاني : في من أمر بمعروف ونهى عن منكر . والثالث : « نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ليلة خروجه إلى الغار ، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب ، يباهي الله بك الملائكة . ونزلت الآية » .
8 . أما معاوية فبذل مالاً لصحابي ( ! ) ليشهد زوراً أن الآية نزلت في
ابن ملجم قاتل علي ( عليه السلام ) ، ويشهد أن آيةً أخرى نزلت في ذم علي ( عليه السلام ) ! « قال أبو جعفر الإسكافي : وروي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَأَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعىَ فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ . فلم يقبل ، فبذل له مأتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاث مائة ألف فلم يقبل ، فبذل أربع مائة فقبل ! وقال : إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي فاختلقوا ما أرضاه ! منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير » « شرح النهج : 4 / 73 ، والغارات : 2 / 840 » .
وسمرة هذا الذي كان في آخر عمره يقول : ( لعن الله معاوية ، لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذّبني أبداً ) ! ( تاريخ الطبري : 4 / 217 ) .
--------------------------- 70 ---------------------------
9 . أنكر النواصب نزول الآية في علي ( عليه السلام ) :
ومنهم ابن تيمية ، بل أنكر أن يكون مبيته فضيلة ، لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره أن المشركين لايقتلونه ، وهذا من بغضه لعلي ( عليه السلام ) ، فإن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يخبره أنهم لايجرحونه جراحاً بليغة مثلاً . ثم إن إخباره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان لما أتاه في الغار ، بعد مبيته وفدائه ، فقال له : لن يصلوا إليك من الآن بمكروه » . « أمالي الطوسي / 469 » .

10 . من الشبهات على مبيت علي ( عليه السلام ) :

في فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنه لم يكن للمبيت حاجة ، ما دام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) انسحب من بين المحاصرين بمعجزة . فكان يمكنه أن يضع على فراشه أي شئ ويغطيه ليموه على المراقبين أنه ما زال موجوداً ، ثم يخرج .
لكن أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) بالمبيت ، بل أمر الله تعالى ، يدل على ضرورته ، ونزول الآية في مدح علي ( عليه السلام ) يصدق ذلك .
ويدل رمي المحاصرين النائم بالحصى وتضور علي ( عليه السلام ) أي تحركه وإظهاره التألم ، على أنهم كانوا يريدون التأكد من وجود النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلو وضع مكانه شيئاً جامداً مثلاً ، لاكتشفوا أنه قد غادر منزله وأفلت من أيديهم ! فكان من الضروري تطمين المحاصرين إلى وجود هدفهم ، لينتظروا الوقت المحدد لقتله قبيل الفجر .
ومما يدل على ما ذكرناه قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : ( وإنه ألقي عليك شبه مني ، فارقد على فراشي ، واشتمل ببردي الحضرمي ) . فكانت مراقبتهم دقيقة ليتأكدوا أنه موجود ولم يهاجر ، فإلقاء شبهه على علي ( عليه السلام ) في الجسم والشكل ، لأجل أن يدخل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويطمئن من يراقبونه ويتلصصون عليه بأنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وسيأتي ذكر رواية صحيحة عندهم بأن أبا بكر جاء إلى بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجد علياً نائماً في فراشه ، فأخبره بهجرته فلحق به . وردُّنا عليها .
وهنا يقال : هل كان بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالياً ، وأين فاطمة ( عليها السلام ) ، وأم أيمن رضي الله عنها ؟ والجواب : أن أم أيمن كانت مع زوجها زيد ، وأن فاطمة بنت النبي ( عليها السلام ) كانت في دار عمه أبي طالب عند فاطمة بنت أسد ( عليهم السلام ) .
--------------------------- 71 ---------------------------

11 . جهز علي ( عليه السلام ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هجرته :

تقدم من أمالي الطوسي / 466 : أن علياً ( عليه السلام ) انتظر إلى اليوم الثاني للهجرة حتى هَوَّد الليل ، فذهب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غار الهجرة : ( وأمهل علي ( عليه السلام ) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة ، انطلق هو وهند بن أبي هالة . . وقد تقدم ) .
قال ابن هشام « 2 / 336 » : « فلما قرَّب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ، ثم قال : إركب فداك أبي وأمي ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إني لا أركب بعيراً ليس لي ، قال : فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي . قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟ قال : كذا وكذا ، قال : قد أخذتها به . قال : هي لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا ، وأردف أبوبكرالصديق عامر بن فهيرة مولاه خلفه ، ليخدمهما في الطريق » .
وفي صحيح بخاري « 7 / 39 » : « قال : النبي : بالثمن » . وفي مقدمة فتح الباري / 300 : « في سيرة عبد الغني وغيره أن الثمن كان أربع مائة درهم ، وعند الواقدي أنه ثمان مائة » .
ونلاحظ أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر علياً ( عليه السلام ) أن يفديه بنفسه ، بينما لم يقبل من أبي‌بكر بعيراً إلا بثمنه ، فكيف قالوا : كان ينفق عليه !
وقد حاول السهيلي ( فتح الباري : 7 / 183 ) أن يوفق بين رفض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) راحلة أبي‌بكر ، وبين قولهم إنه أنفق عليه الملايين ، بأن اعتذار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خاص بالهجرة ، أما في غيرها فكان يقبل منه ! وهو كلامٌ واهٍ ، لأن الذي يرفض ناقة للركوب ، يرفض الملبوس والمأكول والمشروب ، بطريق أولى .
على أن البعير الذي اشتراه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي‌بكر مات في الطريق ! فقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) راكباً ناقته القصواء ، وأبو بكر على بعيره ويردف غلامه ابن فهيرة ، والبعير الثالث للدليل ابن أريقط ، وهو الذي اشتراه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي‌بكر ، وقالت الرواية : « وقف عليهم بعض ظهرهم ، وفي بعضها : أعيا » .
« جوامع السير / 93 ، وأسد الغابة : 1 / 147 و : 3 / 10 » .
--------------------------- 72 ---------------------------
والبعير الذي مات ليس ناقة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القصواء ، ولا بعير أبي‌بكر ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
استأجر بدله وليس أبا بكر ، فيكون البعير الذي اشتراه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي‌بكر للدليل ابن أريقط .
قال ابن هشام ( 2 / 340 ) : « فحمل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة ، وبعث معه غلاماً له يقال له مسعود بن هنيدة
« ليرد الجمل » . ( مناقب ابن سليمان : 1 / 364 ، والدرر / 37 ) .
وفي أمالي الطوسي / 467 : ( قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « لعلي ( عليه السلام ) في الغار » : إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليَّ ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً . ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما ، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم .
وكانت قريش تدعو محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الجاهلية الأمين ، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها . . . فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشياً : ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة ، فليأت فلتؤد إليه أمانته . قال : وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) وهو يوصيه : وإذا أبرمت ما أمرتك فكن على أهبة الهجرة . . وانطلق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لوجهه يؤم المدينة ، وكان مقامه في الغار ثلاثاً ، ومبيت علي صلوات الله عليه على الفراش أول ليلة ) .
12 - أدى أمانات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة جهاراً نهاراً :
قال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد : 1 / 53 : « ومن ذلك أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان أمين قريش على ودائعهم ، فلما فَجَأَهُ من الكفار ما أحوجه إلى الهرب من مكة بغتةً ، لم يجد في قومه وأهله في يأتمنه على ما كان مؤتمناً عليه ، سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فاستخلفه في رد الودائع إلى أربابها ، وقضاء ما عليه من دين لمستحقيه ، وجمع بناته ونساء أهله وأزواجه والهجرة بهم إليه ، ولم ير أن أحداً يقوم مقامه في ذلك من كافة الناس ، فوثق بأمانته وعول على نجدته وشجاعته ، واعتمد في الدفاع عن أهله وحامته على بأسه وقدرته ، واطمأن إلى ثقته على أهله وحرمه ، وعرف من ورعه وعصمته ما تسكن النفس معه إلى إئتمانه على ذلك .
--------------------------- 73 ---------------------------
فقام ( عليه السلام ) به أحسن القيام ورد كل وديعة إلى أهلها ، وأعطى كل ذي حق حقه ، وحفظ بنات نبيه ( عليه السلام ) وآله وحرمه ، وهاجر بهم ماشياً على قدمه ، يحوطهم من الأعداء ، ويكلؤهم من الخصماء ، ويرفق بهم في المسير ، حتى أوردهم عليه المدينة ، على أتم صيانة وحراسة ورفق ورأفة وحسن تدبير .
فأنزله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند وروده المدينة داره ، وأحله قراره ، وخلطه بحرمه وأولاده ، ولم يميزه من خاصة نفسه ، ولا احتشمه في باطن أمره وسره » .
وقال في السيرة الحلبية ( 2 / 232 ) : « فلما توجه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة قام عليٌّ بالأبطح ينادي : من كان له عند رسول الله وديعة فليأت تُؤَدَّى إليه أمانته . فلما نفد ذلك وردَ عليه كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالشخوص إليه ، فابتاع ركائب ، وقدم ومعه الفواطم ، ومعه أم أيمن وولدها أيمن ، وجماعة من ضعفاء المؤمنين » . ونحوه الصالحي : 3 / 267 .
13 . تحدى علي ( عليه السلام ) قريشاً وأعلن عزمه على الهجرة ! قال المناقب : 1 / 335 :
« ذكر الواقدي وغيره أن علياً لما عزم على الهجرة قال له العباس : إن محمداً ما خرج إلا خِفْياً ، وذكر حديثاً ثم قال له : ما أرى أن تمضي إلا في خفارة خزاعة ، فقال علي ( عليه السلام ) :
إن المنية شَرْبَةٌ مورودةٌ * لا تجزعنَّ وشُدَّ للترحيل
إن ابن آمنة النبي محمداً * رجل صدوقٌ قال عن جبريل
أرْخ الزمام ولاتخفْ من عائقٍ * فالله يرديهم إلى التنكيل
إني بربي واثقٌ وبأحمد * وسبيله متلاحقٌ بسبيلي »
أقول : فإعلان هجرته ( عليه السلام ) كان بأمرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! بعد هجرة أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أولاً ، ثم هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فأراد الله تعالى أن تكون هجرة علي ( عليه السلام ) رسالة نبوية قوية إلى قريش ، لأنها لا تفهم غيرالقوة !
14 . أول قتال خاضه علي ( عليه السلام ) وهو في الثالثة والعشرين :
فقد دبرت قريش اغتياله ، رواها في المناقب « 1 / 335 » عن الواقدي ، وأبي الفرج النجدي ، وأبي الحسن البكري ، وإسحاق الطبراني ، قال : « فكمن له مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل ، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه ، فصاح
--------------------------- 74 ---------------------------
عليٌّ به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه ! فلما أصبح توجه نحو المدينة ، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب بثمانية فوارس » .
أقول : هذه أول صيحة وأول ضربة سيف من علي ( عليه السلام ) صلوات الله عليه . أما قول الراوي إنه توجه في اليوم التالي إلى المدينة فلا يصح ، لما ستعرف من مؤامرتهم الثانية المالية ، التي كانت بعد محاولة اغتياله .
15 . رد علي ( عليه السلام ) مكيدة مالية لأبي سفيان وهند :
فقد دبرت قريش له مكيدة مالية ، رواها في المناقب : 2 / 175 ، عن الواقدي وإسحاق الطبري : « أن عمير بن وابل الثقفي أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدعي على علي ( عليه السلام ) ثمانين مثقالاً من الذهب وديعةً عند محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنه هرب من مكة وأنت وكيله ، فإن طلب بينةَ الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه ، وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب ، منها قلادة عشر مثاقيل لهند ، فجاء وادعى على علي ( عليه السلام ) فاعتبر الودايع كلها ورأى عليها أسامي أصحابها ، ولم يكن لما ذكره عمير خبرٌ ، فنصح له نصحاً كثيراً فقال : إن لي من يشهد بذلك وهو أبو جهل ، وعكرمة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبو سفيان ، وحنظلة ! فقال ( عليه السلام ) : مكيدة تعود إلى من دبرها ، ثم أمر الشهود أن يقعدوا في الكعبة ، ثم قال لعمير : يا أخا ثقيف أخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه إلى رسول الله ، أي الأوقات كان ؟ قال : ضحوة نهار ، فأخذها بيده ودفعها إلى عبده . ثم استدعى بأبي جهل وسأله عن ذلك قال : ما يلزمني ذلك ! ثم استدعى بأبي سفيان وسأله فقال : دفعها عند غروب الشمس ، وأخذها من يده وتركها في كمه ! ثم استدعى حنظلة وسأله عن ذلك فقال : كان عند وقت وقوف الشمس في كبد السماء ، وتركها بين يديه إلى وقت انصرافه ! ثم استدعى بعقبة وسأله عن ذلك فقال : تسلمها بيده ، وأنفذها في الحال إلى داره وكان وقت العصر ! ثم استدعى بعكرمة ، وسأله عن ذلك فقال : كان بزوغ الشمس ، أخذها فأنفذها من ساعته إلى بيت فاطمة ! ثم أقبل على عمير وقال له : أراك قد اصفر لونك وتغيرت أحوالك ! قال : أقول الحق ولا يفلح غادر ، وبيت الله ما كان لي عند محمد وديعة ، وإنهما حملاني على ذلك ، وهذه دنانيرهم وعقد هند ، عليه اسمها مكتوب ! ثم
--------------------------- 75 ---------------------------
قال علي : إيتوني بالسيف الذي في زاوية الدار ! فأخذه وقال : أتعرفون هذا السيف ؟ فقالوا : هذا لحنظلة . فقال أبو سفيان : هذا مسروق . فقال ( عليه السلام ) : إن كنت صادقاً في قولك فما فعل عبدك مهلع الأسود ؟ قال : مضى إلى الطائف في حاجة لنا ! فقال : هيهات أن يعود تراه ، ابعث إليه أحضره إن كنت صادقاً ! فسكت أبو سفيان .
ثم قام ( عليه السلام ) في عشرة عبيد لسادات قريش فنبشوا بقعة عرفها ، فإذا فيها العبد مهلع قتيل ، فأمرهم بإخراجه فأخرجوه وحملوه إلى الكعبة ، فسأله الناس عن سبب قتله فقال : إن أبا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقه وحثَّاه على قتلي ، فكمن لي في الطريق ووثب عليَّ ليقتلني ، فضربت رأسه وأخذت سيفه ! فلما بطلت حيلتهم أرادوا الحيلة الثانية بعمير ! فقال عمير : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » !
16 - انتظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في قباء وكتب اليه : في أمالي الطوسي / 469 :
« قال أبيٌّ ، وابن أبي رافع : ثم كتب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التَّلوُّم « التأخر » وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي ، فلما أتاه كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تهيأ للخروج والهجرة ، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين ، فأمرهم أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي طوى . وخرج علي ( عليه السلام ) بفاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله ، وأبو واقد مولى رسول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم ، فقال علي : إرفق بالنسوة يا أبا واقد ، إنهن من الضعائف . قال : إني أخاف أن يدركنا الطلب ! فقال علي ( عليه السلام ) : إربع عليك فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي : يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه ، ثم جعل يعني علياً ( عليه السلام ) يسوق بهن سوقاً رفيقاً ، وهو يرتجز :
ليس إلا الله فارفع ظَنَّكا * يكفيك ربُّ الناس ما أهمَّكا » .
--------------------------- 76 ---------------------------

17 - علي ( عليه السلام ) يهزم فرسان قريش ويقتل قائدهم : في أمالي الطوسي / 470 :

« وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب ، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين ، وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعى جناحاً ، فأقبل علي ( عليه السلام ) على أيمن وأبي واقد ، وقد تراءى القوم فقال لهما : أنيخا الإبل واعقلاها ، وتقدم حتى أنزل النسوة ، ودنا القوم فاستقبلهم ( عليه السلام ) منتضياً سيفه ، فأقبلوا عليه فقالوا : أظننت أنك يا غُدَر ناجٍ بالنسوة ، إرجع لا أباً لك ! قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : لترجعن راغماً ، أو لنرجعن بأكثرك شعراً ، وأهون بك من هالك ! ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها ، فحال علي ( عليه السلام ) بينهم وبينها ، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي ( عليه السلام ) عن ضربته ، وتختله علي فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه ، فكان ( عليه السلام ) يشد على قدمه شد الفارس على فرسه ، فشد عليهم بسيفه وهو يقول :
خلوا سبيل الجاهد المجاهدِ * آليت لا أعبدُ غير الواحدِ
فتصدع عنه القوم وقالوا له : أغنِ عنا نفسك يا ابن أبي طالب . قال : فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله بيثرب ، فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني ، أو فليدن مني ! ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما : أطلقا مطاياكما » .
والكاثبة : مجتمع الكتف . وهذه ثاني ضربة سيف من علي صلوات الله عليه . ونلاحظ أنه ( عليه السلام ) راغ عن ضربة جناح لأنه كان راجلاً ولم يكن عنده ترس يدفع به الضربة ، وأنهما تصاولا وتراكضا ، فكان علي ( عليه السلام ) راجلاً وجناح فارساً ، وكان كل منهما يشد على الآخر فينهزم الآخر ، أو يروغ عن ضربته ، وأن علياً ( عليه السلام ) تختله حتى ضربه على كتفه فشقه حتى وصل إلى سرج فرسه !
18 - هاجر علي ووالدته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشياً على أقدامهما :
اختارت فاطمة بنت أسد ( عليها السلام ) أن تهاجر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ماشية على قدميها ، تحتسب ذلك عند الله تعالى ، ففي الكافي « 1 / 453 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من مكة إلى المدينة على قدميها ، وكانت من أبر الناس برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
--------------------------- 77 ---------------------------
وكذلك اختار علي ( عليه السلام ) أن يهاجر ماشياً ولا يركب ، وإن دميت قدماه ، فكان هو وأمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول من أسس زيارة النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) راجلين !
وقد نص الأئمة ( عليهم السلام ) على أن فاطمة بنت أسد ، وكذا عبد المطلب وأبا طالب وأبوي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كبار الأولياء المقربين إلى الله تعالى ، سلام الله عليهم ، وأنهم لم يعبدوا الأصنام كما زعم رواة السلطة .
قال داود الرقي : ( دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ولي على رجل مالٌ قد خفتُ تَوَاهُ « ذهابه » فشكوت إليه ذلك فقال لي : إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافاً وصل ركعتين عنه ، وطف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن عبد الله طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين ، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين ، ثم ادع أن يرد عليك مالك . قال : ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا ، وإذا غريمي واقف يقول : يا داود حبستني ، تعال إقبض مالك » .
19 - نزلت آيات في مدح علي ( عليه السلام ) والفواطم في طريق الهجرة :
في أمالي الطوسي / 471 : « ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان ، فتلوَّمَ بها قدر يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فظل ليلته تلك هو والفواطم ، أمه فاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفاطمة بنت الزبير ، طوراً يصلون ، وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر ، فصلى ( عليه السلام ) بهم صلاة الفجر ، ثم سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل ، لا يفتر عن ذكر الله ، والفواطم كذلك وغيرهم ممن صحبه ، حتى قدموا المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ
--------------------------- 78 ---------------------------
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ . فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ .
الذَّكَر علي ( عليه السلام ) ، والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن وهن فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت الزبير . بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ : يقول : علي من فاطمة أو قال : الفواطم ، وهن من علي ( عليه السلام ) ، وتلا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ، وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله ، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله ، وآخرهم عهداً برسوله ، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ، ولا يبغضك إلا منافق أو كافر » . أي أولهم في الهجرة الكبرى إلى الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حيث وهب نفسه من صغره .
20 - بخلت السلطة برواية هجرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
أخفت السلطة مناقب علي ( عليه السلام ) في هجرته ، وما جرى له في مكة ، ومكائد قريش ضده ، ولحاق فرسانها به ، وقتله فارسهم جناح ، ولم يذكر رواتها نزول الآيات فيه وفي والدته ورفقائهما ( عليهم السلام ) في طريق الهجرة ، ولا أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مدحه !
فذاك يرفع من قدره ، وهم يريدون انتقاص قدره !
قال ابن هشام ( 2 / 335 ) : « قال ابن إسحاق : ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي‌بكر . أما علي فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الودائع التي كانت عنده للناس ، وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته » .
وقال ابن هشام في : 2 / 342 : « وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها ، حتى أدى عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الودائع التي كانت عنده الناس ، حتى إذا فرغ منها لحق
--------------------------- 79 ---------------------------
برسول الله ، فنزل معه على كلثوم بن هَدم » .
وقال في السيرة الحلبية ( 2 / 233 ) : « كان يسير الليل ويكمن النهار ، حتى تفطرت قدماه ، فاعتنقه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرَّهما على قدميه ، فلم يشكُهُما بعد ذلك ! ولا مانع من وقوع ذلك من علي مع وجود ما يركبه ، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشياً ، رغبة في عظيم الأجر » .
أقول : وكان يسير في الليل بسبب الحر ، وليس بسبب الخوف .
وروى ابن سعد : 3 / 22 : « قدم علي للنصف من شهر ربيع الأول ، ورسول الله بقباء لم يُرِمْ بعدُ » . أي لم يتحرك .
وكثرت مكذوباتهم في هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسرته ، وزعموا أن علياً ( عليه السلام ) لم يؤد الأمانات ولم يهاجر بالأسرة ! وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث شخصين أتيا بهن ! قال في الطبقات : 1 / 237 : « بعث رسول الله من منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع ، وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة ، فقدما عليه بفاطمة وأم‌كلثوم ابنتي رسول الله ، وسودة بنت زمعة » !
والصحيح أن زينب كانت مع زوجها الربيع ، وأن سودة لم تكن زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة ! .
21 - سرقوا مناقب علي ( عليه السلام ) وأعطوها لعمر !
فقد هاجر عمر قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشهور أو سنة ، سراً ، وواعد هشام بن العاص عند إضاة بني غفار في المدينة ، ولم يواعده في أطراف مكة ، ولا في الطريق ! « التنبيه / 200 ، والدرر / 77 ، والإمتاع : 9 / 188 ، والسيرة الحلبية : 2 / 183 ، وغيرها » . بل روى الذهبي في تاريخه : 1 / 313 ، بسند صحيح عندهم : « فلما اشتدوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأصحابه أمر رسول الله أصحابه بالهجرة فخرجوا رَسْلاَ رسلاَ . . » . وعدَّ في الذين هاجروا عمر ، وكان ذلك قبل شهور أو سنة من هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ومع ذلك سرقوا هجرة علي ( عليه السلام ) العلنية وأعطوها لعمر ، وجعلوا روايتها على لسان علي ( عليه السلام ) ! فقال كما زعموا : « ما علمت أحداً من المهاجرين
--------------------------- 80 ---------------------------
هاجر إلا مختفياً ، إلا عمر بن الخطاب » ! « أسد الغابة : 4 / 58 » .
قال في الصحيح من السيرة : 4 / 195 : « ونحن نقطع بعدم صحة هذا الكلام ، لأن عمر لم يكن يملك مثل هذه الشجاعة . لما تقدم في حديث إسلامه عن البخاري وغيره ، من أنه حين أسلم اختبأ في داره خائفاً ، حتى جاءه العاص بن وائل فأجاره ، فخرج حينئذٍ » . ثم عدَّد فراره في الحروب ، وما عرف به من الجُبن .
أقول : وقد وثق في مجمع الزوائد « 6 / 61 » قول عمر إنه تواعد مع اثنين عند مشارف المدينة ، فحبس أحدهما ونجا الآخر ! وقال البخاري « 2 / 264 » هاجر في عشرين ولم يسمِّ أحداً منهم ! ولا وصف هجرته كيف كانت !
أما ابن الجوزي فيدهشك في كتابه : المدهش / 224 ، بقوله : « هاتوا لنا مثل عمر كل الصحابة هاجروا سراً ، وعمر هاجر جهراً ، وقال للمشركين قبل خروجه : ها أنا على عزم الهجرة ، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي » !
لكن كيف نصدق كلامه ونحن لا نرى عمرفي أي خطر تعرض له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا نجد ه في نزول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قباء ، ولا في بناء المسجد النبوي . ثم نقرأ أنه نزل في المدينة قرب اليهود خارج المدينة ، وكان يحضر دروسهم ، قال عمر كما في البخاري : 1 / 31 : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك » .
وبنو أمية بن زيد جيران ملاصقون لبني قريظة وبني زريق . « تاريخ المدينة : 1 / 170 ، وابن إسحاق : 3 / 299 ، وابن هشام : 2 / 569 » .
وبنو زريق هم الذين كتبوا له التوراة ليتبناها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخٍ لي من بني زريق ، فتغير وجه رسول الله » ! « مجمع الزوائد ( 1 / 174 ) ووثقه » .
--------------------------- 81 ---------------------------

22 - فرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بوصول علي ( عليه السلام ) !

في إمتاع الأسماع للمقريزي ( 1 / 68 ) : ( وقدم علي رضي الله عنه من مكة للنصف من ربيع الأول ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقباء لم يُرِم بعدُ ، وقدم معه صهيب ، وذلك بعد ما أدى علي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الودائع التي كانت عنده ، وبعد ما كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه ، فاعتنقه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرهما على قدميه فلم يشتكهما بعد ذلك حتى قتل رضي الله عنه . ونزل على كلثوم بن الهدم وقيل على امرأة ، والراجح أنه
نزل مع النبي ) .
أقول : حسب هذه الرواية فإن صهيباً هاجر مع علي ( عليه السلام ) محتمياً به ، وهذا ينقض قولهم إنه هاجر فاعترضته قريش فبذل لهم مالاً ، فنزل فيه قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ . « أسباب النزول للواحدي / 39 ، ومجمع الزوائد : 6 / 318 » .
أما نزول علي ووالدته عند امرأة ، فيصح قبل أن يتم بناء بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيته ، لأن بيت أبي أيوب الأنصاري كان صغيراً . كما يظهر أن البيت الذي بناه له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان صغيراً أيضاً ، لأنه لما تزوج أخذ له بيتاً أكبر وسكن فيه .
23 . انتظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في قباء ، وتركه أبو بكر !
فقد روى في الكافي ( 8 / 340 ) : عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أن أبا بكر أراد من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
أن يدخل المدينة ولا ينتظر علياً ( عليه السلام ) فقال له : ( فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً فما أظنه يقدم عليك إلى شهر ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كلا ، ما أسرعه ، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل ، وأحب أهل بيتي إليَّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين . قال : فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز ، وداخله من ذلك حسدٌ لعلي ( عليه السلام ) وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ، وأول خلاف على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقُبا ينتظر علياً ( عليه السلام ) ) .
* *
--------------------------- 82 ---------------------------

الفصل الرابع: علي ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة

بيت علي ( عليه السلام ) جنب بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
1 . لما هاجر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بنى له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيتاً : ولوالدته فاطمة بنت أسد ( عليها السلام ) ، إلى جنب بيته وسكنا فيه ، ويظهر أنه كان صغيراً ، فعندما تزوج علي ( عليه السلام ) انتقل إلى بيت جديد ، وسكنت معه والدته أيضاً . وكان لبيته باب يفتح على السكة وباب يفتح على ساحة المسجد . وكان لبيوت بعض المهاجرين أبواب تفتح على ساحة المسجد .
وفي طبقات ابن سعد : 8 / 22 : « لما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها ، فلما تزوج علي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي : أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قليلاً فبنى بها فيه ، فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليها فقال : إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ ، فقالت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد تحول حارثة عنا قد استحيت منه ، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك وهذه منازلي وهي أسقب بيوت نبي النجار بك ، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله ! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع ! فقال رسول الله : صدقت ، بارك الله عليك ، فحولها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بيت حارثة » . ومعنى ذلك أن أمير المؤمنين نزل مع والدته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيت أبي أيوب مدة ، ثم انتقل إلى بيت مستقل . ثم سكن في البيت الذي بناه له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولعله كان صغيراً فلم يتزوج فيه ، فقد كان زفافه بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيت بعيد قليلاً عن بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم اشترى لهما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيت
--------------------------- 83 ---------------------------
حارثة الملاصق لبيته ، وهو بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الكبير الذي يفتح على سكة بني هاشم ، ويفتح من جهة على ساحة المسجد .
وفي كتاب سُلَيْم / 321 ، قال الحسين ( عليه السلام ) : ( أنشدكم الله ، هل تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي . ثم سد كل باب شارع إلى المسجد غير بابه ، فتكلم في ذلك من تكلم فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ، ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه ، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ) .
وفي الكافي ( 4 / 555 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إذا دخلت من باب البقيع فبيت علي صلوات الله عليه على يسارك ، قدر ممر عنز من الباب ، وهو إلى جانب بيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وباباهما جميعاً مقرونان » .
وفي صحيح بخاري ( 4 / 208 ) أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن علي ( عليه السلام ) : « فذكر محاسن عمله ، وقال : هوذاك بيته أوسط بيوت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ثم قال : لعل ذاك يسوءك ؟ قال : أجل ! قال فأرغم الله بأنفك » !
وفي فتح الباري « 7 / 59 » : « أنظر إلى منزله من نبي الله ليس في المسجد غير بيته . . فقال الرجل : فإني أبغضه . فقال له ابن عمر : أبغضك الله تعالى » .
وفي الرياض النضرة ( 3 / 158 ) : ( عن ابن عمر : لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال ، لئن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعمة : زوجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ابنته وولدت له ، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر ) .
وقال في الطبقات « 8 / 166 » يصف بيوت أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « رأيت منازل أزواج رسول الله حين هدمها عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ، في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وزادها في المسجد : كانت بيوتاً باللبن ، ولها حجر من جريد ، مطرور بالطين ، عددت تسعة أبيات بحجرها ، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
ومعناه : أن حجرة عائشة أبعد الحُجَر عن بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 84 ---------------------------
2 . ونزل أبو بكر بعد هجرته في السنح : شرقي المدينة ، وهو يبعد كيلومترات من المسجد . قال ابن سعد في الطبقات ( 3 / 186 ) : « فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر ، يغدو على رجليه إلى المدينة ، وربما ركب على فرس له ، وعليه إزار ورداء ممشق ، فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس ، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح . فكان إذا حضر صلى بالناس ، وإذا لم يحضر صلى عمر بن الخطاب . وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ، ثم يروح لقدر الجمعة ، فيجمع بالناس ) .
3 . ونزل عمر في العوالي وهي خارج المدينة : على بعد كيلو مترات من المسجد أيضاً ، فقد قال عمر ( صحيح بخاري : 1 / 31 ) : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك » . وهم جيران بني قريظة وزريق ( تاريخ المدينة ( 1 / 170 ) وابن إسحاق : 3 / 299 ، وابن هشام : 2 / 569 ) .
أقول : إحفظ مكان بيت أبي‌بكر وعمر ، لأن عائشة والبخاري سينقلانهما إلى جنب المسجد ، ويزعمان أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سد الأبواب الشارعة على المسجد إلا باب بيت أبي‌بكر !

4 . أعطى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) أرضاً كبقية المهاجرين :

قال البلاذري في الفتوح « 1 / 5 » : « وهبت الأنصار لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل فضل كان في خططها ، وقالوا : يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا ! فقال لهم خيراً » .
وفي معجم البلدان ( 5 / 86 ) : « كان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُقطع أصحابه هذه القطائع ، فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه ، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له ، فكان يقطع من ذلك ما شاء . وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان ، فوهب له ذلك وأقطعه » .
وذكر الأحمدي في مكاتيب الرسول « 1 / 350 » نحو ثلاثين مورداً أقطع فيها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصحابه موضع دار أو أرضاً زراعية .
وفي مكاتيب الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( 1 / 333 ) : ( عن عمار بن ياسر قال : أقطع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
علياً بذي العشيرة من ينبع ، ثم أقطعه عمر بعد أن استخلف قطيعة ، واشترى علي إليها
--------------------------- 85 ---------------------------
قطيعة . وكانت أموال علي ( عليه السلام ) بينبع عيوناً متفرقة تصدق بها . وقال السمهودي : فلما أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينبع أقطعها لكشد فقال : إني كبير ولكن أقطعها لابن أخي فأقطعها له ، فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد الأنصاري بثلاثين ألف درهم ، فخرج عبد الرحمن إليها وأصابه سافيها وريحها فسئمها وأقبل راجعاً ، فلحق علي بن أبي طالب دون ينبع فقال : من أين جئت ؟ فقال : من ينبع وقد سئمتها ، فهل لك أن تبتاعها ؟ قال علي : قد أخذتها بالثمن . قال : هي لك ، فكان أول شئ عمله علي فيها البغيبغة . . ضيعة بالمدينة أو عين غزيرة ، كثيرة النخل ، لآل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وفي الكافي ( 7 / 54 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قسَّم نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفئ فأصاب علياً ( عليه السلام ) أرضاً فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير ، فسماها يَنْبُع ، فجاء البشير يبشر فقال ( عليه السلام ) : بشِّر الوارث ، هي صدقة بَتَّةٌ بَتْلاً ، في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله ، لا تباع ولا توهب ولا تورث ) .
وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ( 1 / 221 ) : ( لما أشرف علي على ينبع فنظر إلى جبالها قال : لقد وُضِعْتِ على نقيٍ من الماء عظيم ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 388 ) : ( قال له رجل ورأى عنده وَسَقٌ نَوَى : ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : مائة ألف نخلة إن شاء الله ، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة ) ! وسيأتي الحديث عن ماليته ( عليه السلام ) .
5 . وكان علي ( عليه السلام ) التلميذ الخاص لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : روى في الكافي ( 1 / 64 ) أن علياً ( عليه السلام ) قال : ( كنت أدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل يوم دخلة ، وكل ليلة دخلة ، فيخليني فيها ، أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نسائه فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ( عليها السلام )
ولا أحد من بنيَّ ، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتُّ عنه وفنيت مسائلي
--------------------------- 86 ---------------------------
ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا علماً أملاه علي وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً ، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً ، فقلت : يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يفتني شئ لم أكتبه ، أفتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد ؟ فقال : لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل ) .
وزادت فيه رواية الصدوق في الإعتقادات / 122 ، عن سُلَيْم : ( وقد أخبرني الله تعالى أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون بعدك . قلت : يا رسول الله ومن شركائي ؟ قال : الذين قرن الله طاعتهم بطاعته وبطاعتي . قلت : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين قال الله تعالى فيهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الَّله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ . قلت : يا نبي الله من هم ؟ قال : هم الأوصياء بعدي ، ولا يتفرقون حتى يردوا علي الحوض ، هادين مهديين ، لا يضرهم كيد من كادهم ، ولأخذلن من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم ، بهم تنتصر أمتي وبهم يمطرون ، وبهم يدفع البلاء ، وبهم يستجاب لهم الدعاء . قلت : يا رسول الله ، سمهم لي . قال : أنت يا علي ، ثم ابني هذا ، ووضع يده على رأس الحسن ، ثم ابني هذا ، ووضع يده على رأس الحسين ، ثم ابنه سميك يا أخي سيد العابدين ، وسيولد في زمانك يا أخي فاقرأه مني السلام ، ثم ابنه يسمى محمداً ، باقرعلمي وخازن وحي الله ، ثم تكملة اثني عشر إماماً من ولدك إلى مهدي أمة محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت قبله ظلماً وجوراً . والله إني لأعرفه يا سُلَيْم حيث يبايع بين الركن والمقام ، وأعرف أسماء أنصاره وقبائلهم ) !
--------------------------- 87 ---------------------------
وفي إثبات الهداة ( 1 / 313 ) : ( روى ابن بابويه في كتاب علل الشرائع والأحكام . . عن عبد الله بن عباس عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حديث طويل أنه كان في بيت أم‌سلمة ، فجاء علي ( عليه السلام ) فدق الباب فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قومي يا أم‌سلمة فافتحي له الباب ، فقالت أم‌سلمة : من هذا الذي بلغ من خطره أن أستقبله بمحاسني ومعاصمي ؟ فقال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كهيئة المغضب : من يطع الرسول فقد أطاع الله ! قومي فافتحي له الباب فإن في الباب رجلاً ليس بالخرق ولا بالنزق ولا بالعجول في أمره ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وليس بفاتح الباب حتى يتوارى عنه الوطأ ( صوت المشي ) فقامت أم‌سلمة وهي لا تدري من بالباب ، إلا أنها قد عرفت النعت والمدح ، فمشت نحو الباب ففتحت ، فأمسك بعضادتي الباب ولم يزل قائماً حتى خفي عنه الوطأ ، ودخلت أم‌سلمة خدرها ، ففتح الباب ودخل فسلم ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أم‌سلمة أتعرفينه ؟ إلى أن قال : إنه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين » .
وفي فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لابن عقدة / 51 : ( قال علي : دخلت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في بعض حجراته ، فاستأذنت عليه فأذن لي ، فلما دخلت قال لي : يا علي ، أما علمت أن بيتي بيتك فما لك تستأذن علي ؟ قال فقلت : يا رسول الله ، أحببت أن أفعل ذلك . قال : يا علي ، أحببت ما أحب الله وأخذت بآداب الله . يا علي أما علمت أنك أخي ؟ أما إنه أبى خالقي ورازقي أن يكون لي سر دونك . يا علي أنت وصيي من بعدي ، وأنت المظلوم المضطهد بعدي . يا علي الثابت عليك كالمقيم معي ومفارقك مفارقي . يا علي كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك ، لأن الله تعالى خلقني وإياك من نور واحد ) .
وفي متشابه القرآن لابن شهرآشوب ( 2 / 38 ) : ( ذكر في تاريخ البلاذري ، ومسند أحمد ، وأبي يعلى ، وسنن ابن ماجة ، وكتاب أبي‌بكر عياش ، ومسند أبي رافع ، أنه كانت لعلي كل ليلة دخلة ، وفي رواية دخلتان ، لم تكن لأحد من الناس ، ولم يكن لأحد أن يدخل على أزواج رسول الله بعد آية الحجاب إلا له .
--------------------------- 88 ---------------------------
وهذه مرتبة القربى ، كما قال : إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ ) .
وذكرت عامة مصادر المذاهب هذه الفضيلة لعلي ( عليه السلام ) في بحث أن التنحنح لا يبطل الصلاة ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان أحياناً يتنحنح في صلاته . قال في سبل السلام ( 1 / 140 ) : ( عن علي قال : كان لي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدخلان أي وقتان أدخل عليه فيهما فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي ، رواه النسائي ، وابن ماجة ، وصححه . والحديث دليل على أن التنحنح غير مبطل للصلاة ، وقد ذهب إليه الناصر ، والشافعي ، عملاً بهذا الحديث ) .
وفي فقه السنة لسيد سابق ( 1 / 266 ) : ( كان لي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ساعة آتيه فيها ، فإذا أتيته استأذنت فإن وجدته يصلي تنحنح فدخلت ، وإن وجدته فارغاً أذن لي . ذكره النسائي وأحمد ، ولفظ أحمد : كان لي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدخل من الليل والنهار ، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح . رواه أحمد وعمل به ، فكان يتنحنح في صلاته ، ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة ) . ويظهر أن الساعة التي بعد الفجر كانت وقتاً ثابتاً لعلي ( عليه السلام ) ، فكان يذهب فيها إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو كان هو ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يأتيه إلى بيته . والساعة الثانية متغيرة ، تكون في الوقت المناسب من النهار ، أو بعد صلاة العشاء .
6 . وكان علي ( عليه السلام ) بإجماع الأمة أعلم الصحابة : قال العلامة نهج الحق / 240 : ( وفي صحيح مسلم : أن علياً قال على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله عز وجل ، فما من آية إلا وأعلم حيث نزلت ، بحضيض جبل ، أو سهل أرض ، سلوني عن الفتن ، فما فتنة إلا وقد علمت كبشها ، ومن يقتل فيها ) . ورواه غير العلامة أيضاً عن صحيح مسلم ، ولم نجده في نسخة مسلم الموجودة !
وفي كامل الزيارات / 156 : ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يخطب الناس وهو يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله ما تسألوني عن شئ مضى ولا شئ يكون ، إلا نبأتكم به . قال : فقام إليه سعد بن أبي وقاص وقال : يا أمير المؤمنين : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة ؟ فقال له : والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنك ستسألني عنها ، وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ! وإن في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني ! وعُمَرُ يومئذ يدرج بين يدي أبيه ) !
--------------------------- 89 ---------------------------

7 . وكان علي ( عليه السلام ) كاتب معاهدات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمدة رسائله :

ففي الإستيعاب ( 1 / 69 ) : ( وكان الكاتب لعهوده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا عاهد وصلحه إذا صالح ، عليَّ ابن أبي طالب رضي الله عنه ) . وقال ابن شهرآشوب ( 2 / 66 ) : ( كان ( عليه السلام ) يكتب الوحي والعهد وكاتب الملك أخص إليه ، لأنه قلبه ولسانه ويده ، فلذلك أمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجمع القرآن بعده ، وكتب له الأسرار وكتب يوم الحديبية بالاتفاق ، وقال أبو رافع : إن علياً كان كاتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى من عاهد ووادع ، وإن صحيفة أهل نجران كان كاتبها . وعهود النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا توجد قط إلا بخط علي ( عليه السلام ) ) .
أقول : إن حَصْركتابة العهود بين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغيره بعلي ( عليه السلام ) يدل على أن الالتزام النبوي بأن العهد ينبغي أن يكون بخط من هو منه ووصيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
8 . كان علي ( عليه السلام ) متفرغاً للدعوة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونادراً ما عمل لمعيشته : والسبب أنه بايع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما نزل قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيَرتَك الأَقْرَبِين ، وطلب من يؤازره على الدعوة ويتفرغ معه ، فاستجاب له علي ( عليه السلام ) فأعلنه أخاه ووزيره ووصيه وخليفته ، وكانت المهمات التي يكلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بها تستوعب وقته ، إلا أحياناً قليلة كان يعمل لتأمين مصروف بيته ، فعمل في سقي النخل بالأجرة وما شابه .

أما بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد اتسع وقته فنمى ثروته ، واستنبط العيون وأنشأ البساتين خاصة في ينبع ، وقد أوقفها على بني فاطمة ( عليها السلام ) .

9 . عمل علي ( عليه السلام ) في بناء مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيته : لكن بعض الصحابة غاب عن بناء المسجد كأبي‌بكر وعمر ، وبعضهم حضر ولم يعمل بفعالية كعثمان فقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد ( 5 / 90 ) عن أم‌سلمة ( عليها السلام ) قالت : ( لما بني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب ، وما يحتاج إليه ، ثم قام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوضع رداءه ، فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يعملون ويرتجزون :
لئن قعدنا والنبي يعملُ * ذاك إذاً لعمل مضللُ ) .
--------------------------- 90 ---------------------------
10 . وظلم عثمان عماراً فانتصرله علي ( عليه السلام ) والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : في رواية ابن هشام ( 2 / 344 ) والإمتاع ( 10 / 87 ) : ( فدخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن فقال : يا رسول الله قتلوني ، يحملون عليَّ ما لا يحملون . قالت أم‌سلمة : فرأيت رسول الله ينفض وفرته بيده ، وكان رجلاً جعداً وهو يقول : ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك ، إنما تقتلك الفئة الباغية ! قال ابن إسحاق : فقال ( عثمان ) : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، والله إن لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك . قال : وفي يده عصا . قال : فغضب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : ما لهم ولعمار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، إن عماراً جلدة ما بين عينيَّ وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق ، فاجتنبوه ) .
أقول : مقتضى قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ومن يظل عن الغبار حائداً ، أن عثمان لم يكن يعمل ، كما أن اختلافه مع عمار كان قبل هذا الشعر ، فقاله علي ( عليه السلام ) وعلمه لعمار ليجيب به عثمان ، ولما طغى عثمان ، أجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وتدل رواية القمي ( 2 / 323 ) على شدة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على عثمان : ( ثم أتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : لم ندخل معك لتسب أعراضنا ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد أقلتك إسلامك فاذهب ، فأنزل الله : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) !
وقالت أم‌سلمة ( العقد الفريد : 5 / 90 ) : ( وكان عثمان بن عفان رجلاً نظيفاً متنظفاً ، فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه ، فإذا أصابه شئ من التراب نفضه ، فنظر إليه علي فأنشد :
لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها راكعاً وساجدا
وقائماً طوراً وطوراً قاعدا * ومن يرى عن التراب حائدا
فسمعها عمار بن ياسر ، فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني ، فسمعه عثمان فقال : يا ابن سمية ما أعرفني بمن تعرض ، ومعه جريدة فقال : لتكفن أو لأعترضن بها وجهك ! فسمعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو جالس في ظل حائط ، فقال : عمار جِلْدَةُ ما بين عينيَّ وأنفي ، فمن بلغ ذلك منه فاجتببوه ، وأشار بيده فوضعها بين عينيه ، فكف الناس عن
--------------------------- 91 ---------------------------
ذلك ، وقالوا لعمار : إن رسول الله قد غضب فيك ، ونخاف أن ينزل فينا قرآن . . . فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول : يا ابن سمية ، لايقتلك أصحابي ، ولكن تقتلك الفئة الباغية . فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال معاوية : هم قتلوه ، لأنهم أخرجوه إلى القتل ! فلما بلغ ذلك علياً قال : ونحن قتلنا أيضاً حمزة ، لأنا أخرجناه ) !

11 . آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المسلمين واختار علياً ( عليه السلام ) أخاً له :

كتبنا في سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كانت المؤاخاة مرتين في مكة والمدينة « فتح الباري : 7 / 210 » . وربما آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المسلم وثلاثة ، فقد آخى بين سلمان الفارسي وأبي ذر ، وبينه وبين أبي الدرداء .
قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 208 : « قال حذيفة بن اليمان ( رحمه الله ) : آخى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المهاجرين والأنصار ، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال : هذا أخي . قال حذيفة : فرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيد المرسلين وإمام المتقين ، ورسول رب العالمين الذي ليس له في الأنام شبيه ولا نظير ، وعلي أخوه . والأخبار في ذلك كثيرة ، وهذه منزلة شريفة ومقام عظيم ،
لم يحصل لأحد مثله » .
أما وقت المؤاخاة ، فقيل بعد الهجرة بثمانية أشهر وقيل بخمسة ، والصحيح أنها في ثاني عشر شهر رمضان في السنة الأولى لهجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند نزول قوله تعالى :
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .

قال الصدوق في كتاب مسارِّ الشيعة / 7 ، وفي طبعة / 32 : « وفي الثاني عشر نزل الإنجيل على عيسى بن مريم ، وهو يوم المؤاخاة التي آخى فيه بين أصحابه ، وآخى بينه وبين علي ( عليه السلام ) » . وقد أوردنا هناك أسماء الذين آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بينهم . كما أن مؤاخاته له هنا وبعدها تأكيد لاتخاذه أخاً لما نزلت : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وجمع بني هاشم واتخذ علياً ( عليه السلام ) من بينهم أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة .

--------------------------- 92 ---------------------------
12 . معنى مؤاخاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : معنى أخوة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : أنه أقرب المسلمين اليه ، لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يختار أخاً له عن هوى ، بل بمقاييس الإيمان والعمل .
ومعناها : أنه أشبه الناس بشخصيته ، لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آخى بين الأشباه والنظائر .
ومعناها : أنه الأولى برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولذلك كان علي ( عليه السلام ) يقول : لا يدعي أحد غيري أنه أخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا كذاب .
ومعناها : أنه خليفته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى لو لم ينص عليه ، فكيف وقد نص عليه مراراً ؟
ومعناها : أنه أخوه في الآخرة وفي الجنة ، وقد نص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ذلك .
ومعناها : أنه تثبت له كل حقوق مقام أخ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا ما خرج بدليل .

أمر الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يطهر مسجده فسد الأبواب الشارعة عليه

1 . في مناقب علي لابن المغازلي / 205 ، والدر النظيم لابن حاتم / 312 :
( حدث عدي بن ثابت قال : خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المسجد وقال : إن الله عز وجل أوحى إلى نبيه موسى ( عليه السلام ) أن ابن لي مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا موسى وهارون ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإن الله قد أوحى إلي أن أبني له مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا أنا وعلي وابنا علي ) . وفي سبل الهدى ( 10 / 424 ) : ( وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن أبي حازم الأشجعي قال رسول الله : إن الله أمر موسى أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه الا هو وهارون ، وإن الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا أنا وعلي وأبناء علي ) .
فقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعملين : فأخرج الفقراء الذين كانوا ينامون في المسجد ، وبنى لهم الصفة وهي سقيفة بجنب المسجد . وثانيهما : أمر أن تسد أبواب البيوت الشارعة على ساحة المسجد ، إلا باب بيته وبيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
2 . روى النسائي في خصائص علي ( عليه السلام ) / 73 ، عدة أحاديث : منها عن سعد بن أبي وقاص ، قال : ( كنا مع رسول الله في المسجد فنودي فينا ليخرج من في المسجد إلا آل رسول الله . قال : فخرجنا فلما أصبح أتاه عمه فقال : يا رسول الله أخرجت أصحابك وأعمامك وأسكنت هذا الغلام . فقال رسول الله : ما أنا أمرت بإخراجكم ولا بإسكان
--------------------------- 93 ---------------------------
هذا الغلام إن الله هو أمر به . قال فطر عن عبد الله بن شريك عن عبد الله بن أرقم ، عن سعد أن العباس أتى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : سددت أبوابنا إلا باب علي . فقال : ما أنا فتحتها ولا أنا سددتها ) .

أقول : لم يكن العباس في المدينة ، فلا بد أن يكون المقصود حمزة رضي الله عنه .

3 . وروى في الكافي ( 5 / 339 ) بسند صحيح عن الباقر ( عليه السلام ) قصة جويبر :

قال : ( إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له : جويبر أتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه ، وكان رجلاً قصيراً دميماً ، محتاجاً عارياً ، وكان من قباح السودان ، فضمه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لحال غربته وعراه ، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأول ، وكساه شملتين ، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل ، فمكث بذلك ما شاء الله ، حتى كثر الغرباء ممن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة وضاق بهم المسجد ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن طهر مسجدك ، وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل ، ومر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب ، إلا باب علي ( عليه السلام ) ومسكن فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا يمرن فيه جنب ولا يرقد فيه غريب .
قال : فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد أبوابهم إلا باب علي ( عليه السلام ) وأقر مسكن فاطمة ( عليها السلام ) على حاله ، قال : ثم إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أن يتخذ للمسلمين سقيفة ، فعملت لهم وهي الصفة ، ثم أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم ، فنزلوها واجتمعوا فيها ، فكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتعاهدهم بالبر والتمر والشعير والزبيب ، إذا كان عنده ، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقون عليهم لرقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ويصرفون صدقاتهم إليهم . فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقة عليه فقال له : يا جويبر لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك ، فقال له جويبر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، من يرغب فيَّ ، فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال ، فأية امرأة ترغب فيَّ ؟ فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا جويبر إن الله قد وضع بالإسلام من كان
--------------------------- 94 ---------------------------
في الجاهلية شريفاً ، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً ، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها ،
فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم وإن آدم خلقه الله من طين ، وإن أحب الناس إلى الله عز وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم . وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع ، ثم قال له : انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم فقل له : إني رسول رسول الله إليك وهو يقول لك : زوج جويبرا ابنتك الذلفاء ، قال : فانطلق جويبر برسالة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده ، فاستأذن فأعلم ، فأذن له فدخل وسلم عليه ، ثم قال : يا زياد بن لبيد إني رسول رسول الله إليك في حاجة لي فأبوح بها ، أم أسرها إليك ؟ فقال له زياد : بل بح بها ، فإن ذلك شرف لي وفخر ، فقال له جويبر : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لك : زوج جويبرا ابنتك الذلفاء ، فقال له زياد : أرسول الله أرسلك إلي بهذا ؟ فقال له : نعم ، ما كنت لأكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقال له زياد : إنا لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا من الأنصار ، فانصرف يا جويبر حتى ألقى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره بعذري ، فانصرف جويبر وهو يقول : والله ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها ، فأرسلت إلى أبيها أدخل إليَّ فدخل إليها فقالت له : ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبر ؟ فقال لها : ذكر لي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسله وقال : يقول لك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : زوج جويبراً ابنتك الذلفاء ، فقالت له : والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحضرته ، فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً ، فبعث زياد رسولا فلحق جويبرا فقال له زياد : يا جويبر مرحباً بك إطمئن حتى أعود إليك ! ثم انطلق زياد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : بأبي أنت وأمي إن جويبراً أتاني برسالتك وقال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لك : زوج جويبراً ابنتك الذلفاء فلم ألن له بالقول ، ورأيت لقاءك ، ونحن لا نتزوج إلا
--------------------------- 95 ---------------------------
أكفاءنا من الأنصار ، فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا زياد جويبر مؤمن والمؤمن كفوٌ للمؤمنة والمسلم كفوٌ للمسلمة ، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه ، قال : فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالت له : إنك إن عصيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كفرت ! فزوج جويبراً ، فخرج زياد فأخذ بيد جويبر ، ثم أخرجه إلى قومه فزوجه على سنة الله وسنة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضمن صداقه قال : فجهزها زياد وهيؤوها ، ثم أرسلوا إلى جويبر فقالوا له : ألك منزل فنسوقها إليك ، فقال : والله مالي من منزل ، قال : فهيؤوها وهيؤوا لها منزلاً وهيؤوا فيه فراشاً ومتاعاً ، وكسوا جويبرا ثوبين ، وأدخلت الذلفاء في بيتها ، وأدخل جويبر عليها معتماً ، فلما رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيبة ، قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى طلع الفجر ، فلما سمع النداء خرج وخرجت زوجته إلى الصلاة ، فتوضأت وصلت الصبح ، فسئلت هل مسك ؟ فقالت : ما زال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتى سمع النداء ، فخرج . فلما كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك ، وأخفوا ذلك من زياد ، فلما كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك فأخبر بذلك أبوها ، فانطلق إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله أمرتني بتزويج جويبر ولا والله ما كان من مناكحنا ولكن طاعتك أوجبت علي تزويجه . فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فما الذي أنكرتم منه ؟ قال : إنا هيئنا له بيتاً ومتاعاً وأدخلت ابنتي البيت وأدخل معها معتماً فما كلمها ولا نظر إليها ولادنا منها ، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى سمع النداء ، فخرج ثم فعل مثل ذلك في الليلة الثانية ، ومثل ذلك في الثالثة ، ولم يدن منها ولم يكلمها ! إلى أن جئتك وما نراه يريد النساء ، فانظر في أمرنا . فانصرف زياد وبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جويبر فقال له : أما تقرب النساء ؟ فقال له : جويبر : أو ما أنا بفحل ، بلى يا رسول الله إني لشبق نهم إلى النساء ، فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد خبرت بخلاف ما وصفت به نفسك ، قد ذكر لي أنهم هيؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأدخلت عليك فتاة حسناء عطرة ، وأتيت معتماً
--------------------------- 96 ---------------------------
فلم تنظر إليها ولم تكلمها ، ولم تدن منها فما دهاك إذن ؟ فقال له جويبر : يا رسول الله دخلت بيتاً واسعاً ورأيت فراشاً ومتاعاً وفتاة حسناء عطرة ، وذكرت حالي التي كنت عليها وغربتي وحاجتي ووضيعتي وكسوتي مع الغرباء والمساكين ، فأحببت إذ أولاني الله ذلك أن أشكره على ما أعطاني ، وأتقرب إليه بحقيقة الشكر ، فنهضت إلى جانب البيت فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر الله حتى سمعت النداء ، فخرجت . فلما أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم ففعلت ذلك ثلاثة أيام ولياليها ، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني الله يسيراً ، ولكني سأرضيها وأرضيهم الليلة إن شاء الله ، فأرسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى زياد ، فأتاه فأعلمه ما قال جويبر فطابت أنفسهم قال : ووفى لها جويبر بما قال : ثم إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد رحمه الله تعالى ، فما كان في الأنصار أيَّمٌ أنفق منها بعد جويبر ) !
أقول : اتضح بذلك أن الأمر بتطهير المسجد أمرٌ بإخراج من يبيتون فيه من الفقراء ، وأمرٌ بسد أبواب البيوت الشارعة على المسجد ليكون مدخلها من السكة ، وليس من ساحة المسجد ، إلا بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
4 . حسدوا علياً لاستثنائه ، فاخترعوا حديث الخوخة !
قالت عائشة والبخاري ( 4 / 190 ) إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استثنى أبا بكر وليس علياً ! فقال : ( لا يبقين في المسجد باب الأسد الا باب أبي‌بكر ) لكن مشكلة عائشة أن بيت أبيها في السنح ، وهو يبعد كيلو مترات عن المسجد ، فكيف يكون له باب يفتح على ساحة المسجد ! وكذلك بيت عمر كان في العوالي . لكنهم أصروا على التناقض !
كذلك قالوا إن بيت العباس عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يفتح على المسجد ، لكن العباس كان في مكة ، ولم يأت إلى المدينة إلا بعد فتح مكة .
نعم قد يكون بيت حمزة ، ونقلوا أنه اعترض فأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن ذلك أمر الله تعالى وليس من أمره هو ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقبل حمزة . ومعناه أن سد الأبواب كان قبل أُحُد ، لأن حمزة رضي الله عنه استشهد فيها .
لكن عائشة قالت إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال في مرض وفاته : ( يا أيها الناس سدوا الأبواب
--------------------------- 97 ---------------------------
الشارعة في المسجد إلا باب أبي‌بكر ، فإني لا أعلم امرؤاً أفضل عندي يداً في الصحبة من أبي‌بكر ) . ( السنة لابن أبي عاصم في السنة / 565 ) .
وفي نفس الوقت قالت عائشة : ( لما قدمت المدينة نزلنا السنح ) . ( سنن البيهقي : 10 / 220 ) وقالت : ( إن رسول الله مات وأبو بكر بالسنح ) . ( البخاري : 4 / 193 ) وقالت :
( إن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح ) . ( البخاري : 5 / 142 ) .
وقال ابن سعد ( 3 / 186 ) : « فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر ، يغدو على رجليه إلى المدينة ، وربما ركب على فرس له ، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح ) .
وحاول شراح البخاري وعلماء السلطة أن يحلوا تناقض عائشة والبخاري ، فقالوا إن قولي عائشة صحيحان وإن كانا متناقضين ! لأنه لا يجوز رد منقبة لأبي‌بكر وعمر وعائشة ، حتى لو كانت متناقضة مع منقبة أخرى !
5 . وجعلوا باب أبي‌بكر خوخة ليحلوا التناقض ! كنت أفكر في قولهم إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : سدو الأبواب إلا باب أبي‌بكر ، فهو مقابل : إلا باب علي ( عليه السلام ) . لكن لماذا جعلوا باب أبي‌بكر خوخة كما في البخاري وغيره ؟ والخوخة كوة أو نافذة أو باب صغيرلايكاد يسع شخصاً ؟ ! فوجدت السبب أنهم افتضحوا لأنه لا بيت لأبي‌بكر قرب المسجد لكنه لما صار خليفة فتح خوخة في قبلة المسجد ليمر منها ، وسميت خوخة أبي‌بكر ، فقالوا إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إلا خوخة أبي‌بكر ، أي التي سيفتحها بعد وفاتي !
وسبب الخوخة أن أبا بكر كان يخاف من القتل والسم ، فلما استخلف أحضر طبيب السموم الحارث بن كلدة من الطائف ، فكان لا يأكل طعاماً إلا وهو معه ! قال البلاذري ( 10 / 87 ) والمسعودي ( 1 / 552 ) : ( سمته اليهود في شئ من الطعام وأكل معه الحارث بن كلدة فعميَ ) وصححه السيوطي في تاريخ الخلفاء / 61 ، وقال : ( كانا يأكلان خزيزة ( لحم مثروم مطبوخ ) أهديت لأبي‌بكر ، فقال الحارث لأبي‌بكر : إرفع يدك يا خليفة رسول الله ! والله إن فيها لسُم سنة ، وأنا وأنت نموت في يوم واحد ! فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة ) .
--------------------------- 98 ---------------------------
وفي رواية بعد ثلاثة أيام ، أو خمسة عشر يوماً ! ( وتاريخ دمشق : 30 / 409 ، وفتح الباري : 7 / 34 ،
وتحفة الأحوذي : 10 / 96 ، والحاكم : 3 / 64 ، والطبقات : 3 / 198 ، وأسد الغابة : 3 / 223 ، وصفة الصفوة : 1 / 263 ، والرياض النضرة : 1 / 259 و 2 / 243 ، والمنتظم : 4 / 129 ، ومسائل الإمام أحمد / 75 ، والمصباح المضي : 1 / 33 ، وتخريج الدلالات للخزاعي / 670 ، والتراتيب الإدارية : 1 / 456 ، والصواعق المحرقة : 1 / 253 ،
والعقد الفريد / 1010 . . وغيرها ) .
فخوخة أبي‌بكر باب صغير قبلي المسجد النبوي فتحه ليدخل منه إلى المحراب مباشرة ولا يمر بين الناس ، فزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استثناها قبل وجودها !
قال المناوي في فيض القدير ( 1 / 120 ) : ( وفي رواية البخاري : إلا خوخة أبي‌بكر ، فلا تسد تكريماً له ، وإظهاراً لتميزه بين الملأ . ثم هذه الكلمة إن أريد بها الحقيقة فذلك ، لأن أهل المنازل الملاصقة للمسجد قد جعلوا لبيوتهم مخترقاً يمرون فيه إلى المسجد ، أو كوة ينظرون منها إليه ، فأمر بسدها وترك خوخة أبي‌بكر إعظاماً له . ثم رمز للناس في ضمن ذلك إلى شأن الخلافة . وإن أريد بها المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب القالة دون التطرق إليها والتطلع نحوها . قال بعضهم : والمجاز أقوى ، إذ لم يصح أن أبا بكر كان منزله بلصق المسجد بل بعوالي المدينة ، فالقصد بالأمر بالسد سد طرق منازعته في الخلافة ، على طريق الاستعارة ) !
وقال المحب الطبري في الرياض النضرة ( 1 / 129 ) : ( سدوا كل خوخة في القبلة إلا خوخة أبي‌بكر . فيه دليل بمنطوقه على أن الخوخات المسدودة كانت في القبلة ، وبمفهومه على أن في المسجد خوخات غيرها لم تسد ) .
ولم تكن خوخات في القبلة في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فالحديث مكذوب ومفصل على خوخة أبي‌بكر ! ويؤيد كذبه أنك تجد في ألفاظه أنواعاً من المديح لأبي‌بكر على لسان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مثل قوله : لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر . . وقد زوجني بنته ، وواساني بنفسه . ما لأحد عندنا من يد إلا لأبي‌بكر ، وإن خير المسلمين مالاً أبو بكر ، أعتق بلالاً ، وحملني إلى دار الهجرة . . الخ .
وزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كال هذه المدائح عند أمره بأن لا يسدوا خوخة أبي‌بكر ، اي
--------------------------- 99 ---------------------------
سيكون خليفة ويفتح خوخة فلا تسدوها !
ومما يؤيد كذبهم ، أن عمر فتح خوخة أخرى في قبلي المسجد ، فسميت خوخة عمر ! فهل يشملها الأمر بالسد ؟ قال ابن سعد في الطبقات ( 5 / 188 ) : ( كان مجلس القاسم وسالم بن عبد الله في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واحداً . . فكان تجاه خوخة عمر بين القبر والمنبر ) . وفي تهذيب الكمال للمزي ( 31 / 353 ) : ( وإذا يحيى بن سعيد خارج من خوخة عمر ) !
6 . ابن حجر يحاول حل مشكلة باب أبي‌بكر وخوخته !
قال في فتح الباري ( 7 / 12 ) : ( والخوخة طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء ، ولا يشترط علوها ، وحيث تكون سفلى يمكن الإستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب ، وهو المقصود هنا ، ولهذا أطلق عليها باب . .
قال الخطابي وابن بطال وغيرهما : في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي‌بكر ، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة ، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر . وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة ، والأمر بالسد كناية عن طلبها ، كأنه قال لايطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لاحرج عليه في طلبها ، والى هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث : في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه حسم بقوله : سدوا عني كل خوخة في المسجد ، أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاء بعده . وقوى بعضهم ذلك بأن منزل أبي‌بكر كان بالسنح من عوالي المدينة ، فلا يكون له خوخة إلى المسجد ، وهذا الإسناد ضعيف لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد ، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار ، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس بالاتفاق ، وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ .
وقد تعقب المحب الطبري كلام ابن حبان فقال وقد ذكر عمر ابن شبة
--------------------------- 100 ---------------------------
في أخبار المدينة أن دار أبي‌بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ، ولم تزل بيد أبي‌بكر حتى احتاج إلى شئ يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها ، فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم ، فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد ، فامتنعت وقالت كيف بطريقي إلى المسجد . فقيل لها : نعطيك داراً أوسع منها ، ونجعل لك طريقاً مثلها فسلمت ورضيت ) .
أقول : الصحيح أن أبا بكر لم يكن عنده بيت فيه باب أو خوخة على المسجد في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل كان يسكن في السنح كما نصت عائشة وغيرها . وبعد خلافته بمدة اشترى بيتاً قرب المسجد ، وهذا هو الذي اشترته منه حفصة !
ثم قال ابن حجر : ( تنبيه : جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب ، منها حديث سعد بن أبي وقاص قال : أمرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد الأبواب الشارعة في المسجدوترك باب علي . أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي ، وفي رواية للطبراني في الأوسط رجالها ثقات من الزيادة ، فقالوا : يا رسول الله سددت أبوابنا ! فقال : ما أنا سددتها ولكن الله سدها !
وعن زيد بن أرقم قال كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سدوا هذه الأبواب إلا باب علي ، فتكلم ناس في ذلك ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إني والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكن أمرت بشئ فاتبعته . أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات .
وعن ابن عباس قال : أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره . أخرجهما أحمد والنسائي ورجالهما ثقات . وعن جابر بن سمرة قال : أمرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد الأبواب كلها غير باب علي ، فربما مر فيه وهو جنب . أخرجه الطبراني .
وعن ابن عمر قال كنا نقول في زمن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر . ولقد أعطيَ علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن
--------------------------- 101 ---------------------------
أحب إلي من حمر النعم : زوجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ابنته وولدت له ، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر . أخرجه أحمد وإسناده حسن .
وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار بمهملات قال فقلت لابن عمر : أخبرني عن علي وعثمان ، فذكر الحديث وفيه : وأما علي فلا تسأل عنه أحداً ، وانظر إلى منزلته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه . ورجاله رجال الصحيح الا العلاء ، وقد وثقه يحيى بن معين .
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً ، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلاً عن مجموعها . وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات ، وأخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص ، وزيد بن أرقم وابن عمر ، مقتصراً على بعض طرقه عنهم ، وأعله ببعض من تكلم فيه من رواته ، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق . وأعله أيضاً بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي‌بكر ، وزعم أنه من وضع الرافضة ، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي‌بكر . انتهى .
وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً ، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة ، مع أن الجمع بين القصتين ممكن ، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال : ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي ، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي‌بكر ، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري ، يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيري وغيرك . والمعنى : أن باب علي كان إلى جهة المسجد ، ولم يكن لبيته باب غيره ، فلذلك لم يؤمر بسده . ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن ، من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب ، إلا لعلي بن أبي طالب ، لأن بيته كان في المسجد .
ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين ، ففي الأولى استثنيَ علي
--------------------------- 102 ---------------------------
لما ذكره ، وفي الأخرى استثنيَ أبو بكر . ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي ، وما في قصة أبي‌بكر على الباب المجازي ، والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه ، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها ، وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدها ، فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين ) !
أقول : يدرك الباحث بأدنى تفكير أنه لا يمكن الجمع بين الأمر بسد الأبواب إلا باب علي ( عليه السلام ) في حياة حمزة أي قبل أحُد ، ثم يقول في مرض موته : إلا باب أبي‌بكر أو خوخته ! فالعجب من تخبط ابن حجر وكبار علمائهم بين الخوخة والباب ، والحقيقة والمجاز ، وإصرارهم على إثبات منقبة لأبي‌بكر مقابل منقبة علي ( عليه السلام ) ، حتى لو لم يكن لأبي‌بكر بيت قرب المسجد ، وحتى لو أحدث خوخته بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقال الحافظ الغماري في إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل / 18 : ( أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي . حديث صحيح ، أخطأ ابن الجوزي بذكره في الموضوعات . ورد عليه الحافظ في القول المسدد . وابن تيمية لانحرافه عن علي كما هو معلوم لم يكفه حكم ابن الجوزي ، بوضعه فزاد من كيسه حكاية اتفاق المحدثين على وضعه ! وأمثلة رده للأحاديث التي يردها لمخالفة رأيه كثيرة يعسر تتبعها ) .
قال الكميت بن زيد الأسدي ( رحمه الله ) :
علي أمير المؤمنين وحقه * من الله مفروض على كل مسلم
وان رسول الله أوصى بحقه * وأشركه في كل حق مقسم
وزوجه صديقة لم يكن لها * معادلة غير البتولة مريم
وردم أبواب الذين بنى لهم * بيوتا سوى أبوابه لم يردم
وأوجب يوما بالغدير ولاية * على كل بر من فصيح وأعجم
( تفسير أبي الفرج : 2 / 193 ) .
7 . اعترف بعضهم بوضع حديث الخوخة ! واعترف ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 11 / 49 ) بأن حديث سد الأبواب إلا باب أبي‌بكر أو خوخته ، مكذوب مقابل حديث :
--------------------------- 103 ---------------------------
إلا باب علي ( عليه السلام ) . وقال التستري في خلاصة عبقات الأنوار ( 1 / 89 ) : ( وجاء علماء الكلام وأصحاب الكتب في الإمامة منهم ، فعارضوا بهذه الموضوعات الأحاديث الصحاح في فضل علي ( عليه السلام ) . . وكان من جملة هذه الأحاديث المحرفة أو الموضوعة رأساً في مقابل فضيلة من الفضائل :
1 - لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن الله اتخذ صاحبكم خليلاً .
2 - سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد ، غير خوخة أبي‌بكر .
3 - ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي‌بكر .
4 - لو كان بعدي نبي لكان عمر .
5 - لو لم أبعث فيكم لبعث عمر .
6 - ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر .
7 - أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى .
8 - اقتدوا باللذين من بعدي أبي‌بكر وعمر .
9 - خلقني الله من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر من نور أبي‌بكر ، فخلق أمتي من نور عمر ، وعمر سراج أهل الجنة .
10 - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .
11 - أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعلي بابها .
12 - أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وأبو بكر وعمر وعثمان حيطانها وأركانها .
13 - أصحابي كالنجوم ، فبأيهم اقتديتم اهتديتم .
* *
--------------------------- 104 ---------------------------
علي ( عليه السلام ) في عمليات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل بدر
قال البيهقي في دلائل النبوة ( 3 / 11 ) : ( ثم غزا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ربيع الآخر يريد قريشاً حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ، ثم رجع ولم يلق كيداً فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادي الأولى .
ثم غزا يريد قريشاً فسلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على نقب بني دينار بن النجار حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها بقية جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة . .
عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع ، فلما نزلها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقام بها شهراً ، فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم فقال لي علي بن أبي طالب : هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون ، فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ، ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه ، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء ، فيومئذ قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي يا أبا تراب لما عليه من التراب فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال : ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا بلى يا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه ، ووضع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده على رأسه ، حتى يبل منها هذه ووضع يده على لحيته ) !
أقول : نلاحظ أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يخبر عن مستقبل أمته ، من أول نبوته ، وكأنه صفحة مفتوحة أمامه ، ففي غزوة العشيرة في السنة الثانية أخبر عن قتل ابن ملجم لعلي ( عليه السلام ) ، وسماه أشقى الآخرين ، وكانوا يبنون مسجده في المدينة ، وأخبر أن عماراً ستقتله الفئة الباغية . كما نلاحظ أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقَّب علياً ( عليه السلام ) ( أبا تراب ) . لأن العرب يلقبون أولادهم وأعزائهم بلقب ظاهره الذم وواقعه مدح ، ليعجب ذلك خصومهم فيستعملونه ، ولا يلقبوهم بألقاب ذم .
* *
--------------------------- 105 ---------------------------

الفصل الخامس: علي ( عليه السلام ) بطل معركة بدرالكبرى

من سيرة علي ( عليه السلام ) في معركة بدر

1 . أحس علي ( عليه السلام ) بنزول الملائكة وسلموا عليه :
ذكرنا في السيرة النبوية ، دور علي ( عليه السلام ) في معركة بدر ، ونذكر هنا نقاطاً
منها : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث علياً ( عليه السلام ) ليلة بدر ليستقي لهم ، فأحس بنزول مجموعات الملائكة . ففي تفسير العياشي » 2 / 65 « : « عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لما عطش القوم يوم بدر انطلق علي ( عليه السلام ) بالقربة يستقي وهو على القليب ، إذ جاءت ريح شديدة ثم مضت فلبث ما بدا له ، ثم جاءت ريح أخرى ثم مضت ، ثم جاءت أخرى كادت أن تشغله وهو على القليب ، ثم جلس حتى مضت ، فلما رجع إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره بذلك فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما الريح الأولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة ، والثانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة ، والثالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة ، وقد سلموا عليك وهم مدد لنا ، وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى ، حتى يقول : وَقَالَ إِنِّي بَرِيئٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي
أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ » .
وفي المناقب » 2 / 80 « : « عن محمد بن الحنفية قال : بعث رسول الله علياً ( عليه السلام ) في غزوة بدر أن يأتيه بالماء حين سكت أصحابه عن إيراده . .
وفي رواية أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال له عن الملائكة : ما أتوا إلا ليحفظوك . . عن الليث وكان يقول : كان لعلي في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاث مناقب ، ثم يروي هذا الخبر ، قال الحميري :
--------------------------- 106 ---------------------------
وسلم جبريل وميكال ليلةً * عليه وإسرافيلُ حياه معربا
أحاطوا به في ردءة جاء يستقي * وكل على ألف بها قد تحزبا
ثلاثة آلافٍ ملائكَ سلموا * عليه فأدناهم وحِيّاً ومرحبا »
وفي أمالي الطوسي / 547 ، أنه ( عليه السلام ) ناشد المسلمين بعد قتل عثمان : « فهل فيكم من سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة ، وفيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ليلة القليب لما جئتُ بالماء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غيري ؟ قالوا : لا » .
2 . علمه الخضر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاء قبل بدر : ففي التوحيد للصدوق / 89 : « قال ( عليه السلام ) : رأيت الخضر ( عليه السلام ) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له : علمني شيئاً أُنصرُ به على الأعداء ، فقال : قل : يا هوَ ، يا من لا هوَ إلا هو . فلما أصبحت قصصتها على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لي : يا علي عُلَّمْتَ الاسم الأعظم ، فكان على لساني يوم بدر . وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قرأ : قُلْ هُوَ الله أحَد ، فلما فرغ قال : يا هو ، يا من لا هو إلا هو ، اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين . وكان علي ( عليه السلام ) يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد ، فقال له عمار بن ياسر : يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات ؟ قال : اسم الله الأعظم ، وعماد التوحيد لله لا إله إلا هو ، ثم قرأ : شَهِدَ الله أنَّهُ لا إلهَ إِلَّا هُو ، وآخر الحشر ، ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال . وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه ، والله هوالمستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات » .
وهذا يدل على أن سر الاسم الأعظم في الذي يُعلمه ، وفي الذي يدعو به .

3 . بدر أول معركة خاضها علي ( عليه السلام ) :

كانت معركة بدر أول حرب يخوضها علي ( عليه السلام ) ، وكان عمره نحو أربع وعشرين سنة ، على الرواية المشهورة بأن عمره عند البعثة عشر سنين ، وكانت بدر بعد أربع عشرة سنة ونصف من البعثة . ولم يشترك ( عليه السلام ) قبلها في حرب لكن كان له تجربتان في القتال في مكة بعد هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حيث كمن له فارسٌ في الليل ليفاجأه ويقتله : « فصاح علي به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه » « المناقب : 1 / 335 » فكانت
--------------------------- 107 ---------------------------
هذه أول صيحة له وأول ضربة سيف ! ثم في طريق هجرته ( عليه السلام ) لما أرسلت قريش ثمانية فرسان ليردوه ، يقودهم فارس فاتك : « فأهوى له جَنَاح بسيفه فراغ علي ( عليه السلام ) عن ضربته ، وتختله علي ( عليه السلام ) فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه » ! « أمالي الطوسي / 470 » فكانت تلك ثاني ضربة لعلي ( عليه السلام ) ! والكاثبة : مجتمع الكتف ، أي شقت ضربته كتف الفارس وبدنه ، حتى وصلت إلى ظهر فرسه !
وفي نسخة المناقب ( 2 / 312 ) أن سعد بن أبي وقاص رأى علياً يوم بدر : « يحمحم فرسه » وقد كان راجلاً ولم يكن عنده فرس ، فهو تصحيف لراوية الخوارزمي في مناقبه / 158 ، عن سعد : « قال معاوية : أتحب علياً ؟ قلت : وكيف لا أحبه وقد سمعت رسول الله يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، ولقد رأيته بارز يوم بدر وهو يُحمحم كما يحمحم الفرس ، ويقول :
ما تنقمُ الحرب العوان مني * بازلُ عامين حديثٌ سني
سنحْنَحْلُ الليل كأني جني * لمثل هذا ولدتني أمي !
فما رجع حتى خضب سيفه » .
ومناقب ابن سُلَيْمان : 2 / 569 ، والفايق : 1 / 95 ، وينابيع المودة : 1 / 158 ، والنهاية لابن الأثير : 2 / 412 ، ولسان العرب : 11 / 52 وفيه : يقول : أنا مستجمع الشباب مستكمل القوة . ونسب ابن هشام ( 2 / 463 ) أبيات علي ( عليه السلام ) إلى أبي جهل !

4 . سطع نجم علي ( عليه السلام ) في بدر :

وبرز بطلاً فاق عمه حمزة ( رحمه الله ) ، حيث قَتل قرينه ، وساعد حمزة على قتل قرينه : « وحمل أمير المؤمنين على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه ، ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : يا علي أما ترى الكلب قد أبهر عمك ! فحمل علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فطرح نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق ، فأجهز عليه » . » المناقب : 1 / 311 « .
--------------------------- 108 ---------------------------
وفي الفصول المهمة لابن الصباغ : 1 / 315 ، أن المبارزة كانت بالترتيب : بارز عليٌّ الوليد ، ثم بارز حمزة عتبة ، ثم بارز عبيدة شيبة . « برز الوليد لعلي فقال : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقتله » . « الطبقات : 2 / 23 ، وابن كثير : 2 / 414 » . ولم يذكر رواة السلطة أنه ( عليه السلام ) قتل قرن حمزة وأجهز على قرن عبيدة ، قالوا : « أما علي فلم يمهل الوليد أن قتله » . « ابن هشام : 2 / 456 » أي برز مع صاحبيه لقرنيهما !
وفي الدر النظيم / 152 : « ثم بارز أمير المؤمنين ( عليه السلام ) العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه ، فلم يلبث إلا أن قتله . وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله ، وبرز بعده طعيمة بن عدي فقتله ، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش . ولم يزل ( عليه السلام ) يقتل واحداً منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم ، وكانوا سبعين قتيلاً . وتولى كافة من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين الشطر الآخر ، وكان قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للشطر بمعونة الله تعالى له وتوفيقه وتأييده ونصره ، وكان الفتح له بذلك » .
وفي الإرشاد ( 1 / 74 ) : « فاختلفا ضربتين أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واتقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين فأبانتها . قال ( عليه السلام ) : كأني أنظر إلى وميض خاتمه في شماله ، ثم ضربته ضربة أخرى فصرعته وسلبته فرأيت به ردعاً من خَلوق « طيب » فعلمت أنه قريب عهد بعرس » .
وفي إعلام الورى : 1 / 170 : « عن أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم ، وقد قتلت الوليد بن عتبة ، إذ أقبل إليَّ حنظلة بن أبي سفيان ، فلما دنا مني ضربته بالسيف فسالت عيناه ، ولزم الأرض قتيلاً » .
* *
وفي الإرشاد للمفيد ( 1 / 70 ) : ( وقد أثبت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتلهم ببدر من المشركين ، على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح ، فكان ممن سموه : الوليد بن عتبة كما قدمناه ، وكان شجاعاً جريئاً فاتكاً وقاحاً ، تهابه الرجال . والعاص بن سعيد ، وكان هَوْلاً عظيماً تهابه الأبطال ، وهو الذي حاد عنه
--------------------------- 109 ---------------------------
عمر بن الخطاب ، وقصته فيما ذكرناه مشهورة ، ونحن نثبتها فيما نورده بعد إن شاء الله . وطعيمة بن عدي بن نوفل ، وكان من رؤوس أهل الضلال . ونوفل بن خويلد ، وكان من أشد المشركين عداوةً لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه ، وهو الذي قرن أبا بكر بطلحة قبل الهجرة بمكة وأوثقهما بحبل وعذبهما يوماً إلى الليل ، حتى سئل في أمرهما ، ولما عرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حضوره بدراً سأل الله عز وجل يكفيه أمره فقال : اللهم اكفني قتل بن خويلد ، فقتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وزمعة بن الأسود .
والحارث بن زمعة . والنضر بن الحارث بن عبد الدار . وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم ، عم طلحة بن عبيد الله . وعثمان ومالك ابنا عبيد الله ، أخوا طلحة بن عبيد الله . ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة . وقيس بن الفاكه بن المغيرة . وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة . وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة . وحنظلة بن أبي سفيان . وعمرو بن مخزوم . وأبو المنذر بن أبي رفاعة . ومنبه بن الحجاج السهمي . والعاص بن منبه . وعلقمة بن كلدة . وأبو العاص بن قيس بن عدي . ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص . ولوذان بن ربيعة . وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة . ومسعود بن آمنة بن المغيرة . وحاجب بن السائب بن عويمر . وأوس بن المغيرة بن لوذان . وزيد بن مليص . وعاصم بن أبي عوف . وسعيد بن وهب ، حليف بني عامر . ومعاوية بن عامر بن عبد القيس . وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد . والسائب بن مالك . وأبو الحكم بن الأخنس . وهشام بن أبي أمية بن المغيرة . فذلك خمسة وثلاثون رجلاً ، سوى من اختلف فيه ، أو شرك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيه غيره ، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر ) .
* *
وفي كشف الغمة : 1 / 181 : « قال الواقدي في كتاب المغازي : جميع من يحصى قتله من المشركين ببدر تسعة وأربعون رجلاً ، منهم من قتله علي وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً ، شرك في أربعة وقتل بانفراده ثمانية عشر ، وقيل إنه قتل بانفراده
--------------------------- 110 ---------------------------
تسعة بغير خلاف وهم : الوليد بن عتبة بن ربيعة خال معاوية قتله مبارزة ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية ، وعامر بن عبد الله ، ونوفل بن خويلد بن أسد وكان من شياطين قريش ، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه ، وعبد الله ابن المنذر بن أبي رفاعة ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، وحاجب بن السايب .
وأما الذين شارك في قتلهم غيره فهم : حنظلة بن أبي سفيان أخو معاوية وعبيدة بن الحارث ، وزمعة وعقيل ابنا الأسود بن المطلب .
وأما الذين اختلف الناقلون في أنه قتلهم أو غيره فهم : طعيمة بن عدي ، وعمير بن عثمان بن عمرو ، وحرملة بن عمرو ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العباس بن قيس ، وأوس الجمحي ، وعقبة بن أبي معيط صبراً ، ومعاوية بن عامر . فهذه عدة من قيل إنه قتلهم في هذه الرواية ، غير النضر بن الحارث فإنه قتله صبراً بعد القفول من بدر . هذا من طرق الجمهور .
فأما المفيد فقد ذكر في كتابه الإرشاد . . أثبت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتلهم ببدر من المشركين ، على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح ، فكان ممن سموه . فذلك ستة وثلاثون رجلاً ، سوى من اختلف فيه ، أو شرك أمير المؤمنين فيه غيره ، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه . وعلى اختلاف المذهبين في تعيين عدة المقتولين ، فقد اتفقا على أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتل النصف ممن قتل ببدر أو قريباً منه !
وقال المفيد ( رحمه الله ) : فمن مختصرالأخبار التي قد جاءت بشرح ما أثبتناه ، ما رواه شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب ، قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس إلا المقداد بن الأسود ، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فإنه كان منتصباً في أصل شجرة يصلي ويدعو حتى الصباح » !
5 . كان يقاتل ثم يعود ليطمئن على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
وكان جبرئيل ( عليه السلام ) يوجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قتاله ، فكان يقاتل شوطاً ثم يرجع إلى مركزه ويدعو . ويظهر أنه بعد أن ألقى كف الحصى على المشركين واصل الدعاء حتى وقعت
--------------------------- 111 ---------------------------
الهزيمة ، قال علي ( عليه السلام ) : « لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال ، ثم جئت مسرعاً لأنظر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما فعل . فجئت فإذا هو ساجد يقول : يا حي يا قيوم ، يا حي يا قيوم ، لا يزيد عليها . فرجعت إلى القتال ، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً . فذهبت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك ، حتى فتح الله عليه » .
« الصحيح من السيرة : 5 / 68 » .
وروت ذلك عامة مصادرهم ، وفي بعضها أنه ( عليه السلام ) رجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرتين ، كما في النسائي : 6 / 157 ، والطبقات : 2 / 26 ، والحاكم : 1 / 147 ، وصححه . وفي مجمع الزوائد : 10 / 147 ، أنها ثلاث مرات ، وكذا الثعالبي عن الترمذي .
وشارك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في القتال ، وقال علي ( عليه السلام ) : « رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهوأقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » .
« مكارم الأخلاق / 18 » .

6 . مَدَحَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في بدر ورفع بيده :

وأكد للمسلمين أنه وزيره ووليهم من بعده ، ففي الإحتجاج ( 1 / 209 ) : « قال ( عليه السلام ) في احتجاجه على أعضاء شورى عمر : نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله بيده يوم بدر فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه وهو يقول : ألا إن هذا ابن عمي ووزيري ، فوازروه وناصحوه ، فإنه وليكم بعدي ، غيري ؟ قالوا : لا » .

7 . وكان معه جبرئيل وميكائيل وعزرائيل ( عليهم السلام ) : « وكان جبرئيل يقاتل عن يمين علي ( عليه السلام ) وميكائيل عن يساره ، وملك الموت قدامه » . « المناقب : 3 / 54 » . وسماه المشركون : الموت الأحمر . « المناقب : 3 / 43 » . وقَتَّال العرب فعندما حمل الحسين ( عليه السلام ) على جيش عمر بن سعد في كربلاء وكانوا ثلاثين ألفاً ، قال لهم عمر بن سعد : « الويل لكم أتدرون من تبارزون ! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتَّال العرب فاحملوا عليه من كل جانب » . « المناقب : 3 / 258 » .
وسموه : قاتل الأحبة ، ففي جواهر الكلام ( 21 / 331 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما زار
--------------------------- 112 ---------------------------
عائشة بعد معركة الجمل : « انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له ، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار ، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن : هذا قاتل الأحبة ، فلم يقل لهن شيئاً وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها ، وسمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير لا والله وبلى والله ، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة ، فقال لها يا صفية فأتته مسرعة ، فقال ألا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني قاتل الأحبة ! ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه وأومأ إلى ثلاث حجر ! فذهبت إليهن وقالت لهن : فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت ولا قائمة إلا قعدت ! قال الأصبغ : وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها ، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش ، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله » .
8 . كانت بدر ثالث امتحان لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وقد تحدث أمير المؤمين عن بدر في مناسبات ، واعتبرها أحد امتحاناته الربانية السبعة التي وفقه الله للنجاح فيها ، فقال له حبر يهودي إن كتبنا تقول إن وصي هذا النبي يمتحن في حياته وبعد وفاته ، فكم هذه الإمتحانات وما هي ؟ فقال ( عليه السلام ) : « وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن ابني ربيعة وابن عتبة ، كانوا فرسان قريش ، دَعوا إلى البراز يوم بدر ، فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع صاحبيَّ رضي الله عنهما وقد فعل ، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة ، سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي . واستشهد ابن عمي في ذلك ( رحمه الله ) » . « الخصال / 367 » .
وذكرعليٌّ ( عليه السلام ) بدراً ، رداً على قولهم إنهم بايعوا أبا بكر يوم السقيفة خوفاً على الإسلام فقال ( عليه السلام ) : « ما لنا ولقريش ؟ وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيَّد الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى الله فوق رؤوسهم رؤوسنا ، واختارنا الله عليهم ، فنقموا عليه أن اختارنا عليهم ! وسخطوا ما رضي الله وأحبوا ما كره الله ! فلما اختارنا عليهم شركناهم في حريمنا ، وعرفناهم الكتاب والسنة ، وعلمناهم الفرايض والسنن ، وحفظناهم الصدق واللين ، وديَّناهم الدين والإسلام ، فوثبوا علينا ، وجحدوا فضلنا ، ومنعونا
--------------------------- 113 ---------------------------
حقنا ، وأَلَتُونا أسباب أعمالنا !
اللهم فإني أستعديك على قريش ، فخُذ لي بحقي منها ، ولا تدع مظلمتي لها ، وطالبهم يا رب بحقي ، فإنك الحكم العدل .
يا معشر المهاجرين والأنصار : أين كانت سبقة تيمٍ وعديٍّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة ؟ ألا كانت يوم الأبواء ( غزوة بني المصطلق ) إذ تكاتفت الصفوف ، وتكاثرت الحتوف ، وتقارعت السيوف ؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد وُدّ ، وقد نفح بسيفه ، وشمخ بأنفه ، وطمح بطرفه ! وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر ، إذ الأرواح في الصَّعْداء ترتقي ، والجياد بالصناديد ترتدي ، والأرض من دماء الأبطال ترتوي ؟
ثم عدَّد ( عليه السلام ) وقايع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرَّعهما بأنهما في كل هذه المواقف كانا مع النظارة ! ثم قال : ما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا من قريش ؟ أنا صاحب هذه المشاهد ، وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال الحميدة . . . » . « المناقب : 2 / 46 » .
وذكر ( عليه السلام ) بدراً ، في رسالة إلى معاوية :
« فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحلسونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل . ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه ، بحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان آمن . وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا احمر البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة ! فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أحد ، وقتل جعفر يوم مؤتة . وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة ، ولكن آجالهم عُجلت ، ومنيته أُجلت .
فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ، ولم تكن له كسابقتي ، التي لا يدلي أحد بمثلها ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ،
--------------------------- 114 ---------------------------
والحمد لله على كل حال » . « نهج البلاغة : 3 / 8 » .
وقال ( عليه السلام ) في رسالة له إلى معاوية : « وقد دعوتَ إلى الحرب ، فدع الناس جانباً واخرج إليَّ ، وأعف الفريقين من القتال ، ليعلم أينا المرين على قلبه ، والمغطى على بصره ! فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوي ، ما استبدلت ديناً ، ولا استحدثت نبياً . وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ، ودخلتم فيه مكرهين » . « نهج البلاغة : 11 / 8 » .
وفي رسالة له ( عليه السلام ) إلى معاوية أيضاً : « فأنا ابن عبد المطلب صاحب ذلك السيف ، وإن قائمه لفي يدي ، وقد علمتَ من قتلتُ من صناديد بني عبد شمس ، وفراعنة بني سهم ، وجمح ، وبني مخزوم ، وأيتمت أبناءهم وأيَّمت نساءهم ، وأذكرك ما لست له ناسياً يوم قتلت أخاك حنظلة وجررت برجله إلى القليب ، وأسرت أخاك عمراً ، فجعلت عنقه بين ساقيه رباطاً ، وطلبتك ففررت ولك حصاص » « نهج السعادة ( 4 / 213 ) . والحِصَاص : ركض الشيطان إذا سمع الأذان ، وركض الكلب إذا اشتد عدوه ، وهو يمصع بذنبه - نهاية ابن الأثير : 1 / 396 » .
9 . غُلُو السلطة في الصَّحابة البدريين غَيْر علي ( عليه السلام ) :
كانت معركة بدر معجزة ربانية ، وسر إعجازها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والملائكة ، وبطولة علي ( عليه السلام ) وبني هاشم . وقد سرقت السلطة القرشية تلك البطولة وأعطتها لكل الصحابة ! وجعلتهم جميعاً كالملائكة : أبطالاً أخياراً أبراراً ، من أهل الجنة ! ويكفي جواباً على زعمهم : سورة الأنفال التي نزلت في بدر ، وكشفت وجه صحابة بدريين جاؤوا على كره ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ! ومنهم من أراد من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يرجع ولا يقاتل قريشاً ! ومنهم من كان يلحُّ على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة أن يقاتل قريشاً فيقول لهم كفوا أيديكم واصبروا ، فلما كتب عليه القتال في بدر اعترضوا على ربهم لماذا كتب عليهم القتال ، ونكصوا عن مبارزة الفرسان ، وفروا إلى خلف الصفوف ، جبناً وحباً بالحياة ! فوبخهم الله تعالى بقوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً .
--------------------------- 115 ---------------------------
ومنهم : من اختلفوا على الغنائم ، على دراهم أو فرس أو بعير ، أو ثوب قماش ، أو نصف كيس شعير ! ومنهم : من أفقده الطمع دينه فاتهم نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه سرق قطيفةً أو عباءة ! فكذبهم الله تعالى بقوله : وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ !
فأي عاقل يعمم المدح لكل الصحابة في بدر ، إلا أن يكون جاهلاً أو في
قلبه مرض !

10 . وهل كانت بدر إلا لعلي ( عليه السلام ) ؟ !

قال في شرح النهج ( 4 / 58 ) : ( فأما عمر بن عبد العزيز فإنه قال : كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود ، فمر بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ، ونحن نلعن علياً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي ، فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني ، حتى أحسست منه بذلك ، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي ، فقلت له : ما بال الشيخ ؟ فقال لي : يا بنيَّ أنت اللاعن علياً منذ اليوم ؟ قلت : نعم ، قال : فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ! فقلت : يا أبت ، وهل كان علي من أهل بدر ! فقال : ويحك ! وهل كانت بدر كلها إلا له ! فقلت : لا أعود ، فقال : اللهَ إنك لاتعود ! قلت : نعم ، فلم ألعنه بعدها .
ثم كنت أحضرتحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة ، فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه ، حتى يأتي إلى لعن علي فيجمجم ، ويعرض له من الفهاهة والحصرما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوماً : يا أبت ، أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك ، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألكن عيِياً ! فقال : يا بني ، إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لوعلموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك ، لم يتبعنا منهم أحد ! فوقرت كلمته في صدري ، مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري ، فأعطيت الله عهداً لئن كان لي في هذا
--------------------------- 116 ---------------------------
الأمر نصيب لأغيرنه ، فلما من الله عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه :
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وكتب به إلى الآفاق فصار سنة . ومدحه الشعراء لذلك ، فقال كُثَيِّر عزة :
ولِيتَ فلم تشتمْ علياً ولم تُخفْ * بَرِيَاً ولم تقبل إساءة مجرم
وكفَّرتَ بالعفو الذنوب مع الذي * أتيت فأضحى راضياً كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه * من الأود البادي ثقاف المقوم
وقال الشريف الرضي من قصيدة :
يا ابن عبد العزيز لو بكت العي‍ * نُ فتى من أمية لبكيتكْ
غير أني أقول إنك قد طِبْتَ * وإن لم يَطبْ ولم يَزْكُ بيتُك
أنت نزهتنا عن السب والشت‍ * م فلو أمكن الجزا لجزيتُك
دير سمعان لا أغبك غيث * خير ميت من آل مروان ميتُك
فلوَ اني ملكتُ دفعاُ لما * نابك من طارق الردى لفديتك
( شرح النهج : 4 / 58 ، ومختصر أخبار شعراء الشيعة / 69 ، والحماسة / 150 )
* *

رمى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكف حصى في بدر وشاركت الملائكة في القتال

جاء في حديثهم عن هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( فأقبل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى قام على رؤسهم فأخذ قبضة من التراب فقال : شاهت الوجوه ، ثم حصبهم بها ، فما أصاب رجلاً من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافراً » . « مجمع الزوائد : 8 / 228 ، وصححه »
وجاء في حديث بدر : ( كان علي ( عليه السلام ) في المعركة قرب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : ناولني كفاً من حصى ، فرمى بها في وجوههم وقال لهم : شاهت الوجوه ! فلم يبق أحد منهم إلا ولى الدبر لذلك منهزماً » . « الدر النظيم / 152 وابن هشام : 2 / 458 » . فأنزل الله تعالى : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّه قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّه رَمَى وَلِيُبْليَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
--------------------------- 117 ---------------------------
ومعناه أن إصابة التراب والحصى لمن أصابته ، كانت عملاً محسوباً من الله تعالى . ولعلها علامة للملائكة ليقوموا بعمل ما .
وقال علي ( عليه السلام ) : « لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » ! رواه في مجمع الزوائد ( 9 / 12 ) وصححه . ولم يكن معه أبو بكر ، فأين كان !
وقد اعتذروا عن أبي‌بكر وعمر لأنهما لم يقاتلا في بدر ، بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استبقاهما معه في العريش ، ليستشيرهما في إدارة المعركة ! وجواب ذلك أنه لم يكن للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عريش في بدر ، وأنه قاتل قتالاً شديداً ، فأين كانا ؟
أما عمر فاعترف بأنه رأى العاص بن سعيد فهرب منه إلى الصفوف الخلفية ، قال : « فهبته وزُغت عنه ! فقال إلى أين يا ابن الخطاب » ! ( ابن هشام : 2 / 464 ) .
* *

علي ( عليه السلام ) حامل لواء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا والآخرة

قال السرخسي في المبسوط ( 1 / 73 ) : ( ولما كسرت إحدى زندي عليٍّ رضي الله تعالى عنه يوم حنين ، حتى سقط اللواء من يده ، قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إجعلوها في يساره ، فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة ) !
وروى الحاكم ( 3 / 111 ) قول ابن عباس : ( لعلي أربع خصال ليست لأحد ، هو أول عربي وأعجمي صلى مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو الذي كان لواؤه معه في كل مشهد وكل زحف ، والذي صبرمعه يوم المهراس ، وهو الذي غسله وأدخله قبره ) .
وروى الخوارزمي في المناقب / 358 : ( عن جابر بن سمرة قال : قيل يا رسول الله من يحمل رأيتك يوم القيامة ؟ قال : من عسى أن يحملها إلا من حملها في الدنيا ، علي بن أبي طالب ) .
وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( يا أم‌سلمة ، إسمعي واشهدي :
--------------------------- 118 ---------------------------
هذا علي بن أبي طالب ، وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة . يا أم‌سلمة ، إسمعي واشهدي ، هذا علي بن أبي طالب حامل لوائي في الدنيا ، وحامل لوائي غداً في القيامة ) .
( أمالي الصدوق / 464 ) .
وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : ( سألت ربي عز وجل أن يجعلك حامل لوائي وهو لواء الله الأكبر ، عليه مكتوب : المفلحون الفائزون بالجنة ، فأعطاني ) . ( الخصال / 314 ) .
وفي علل الشرائع ( 1 / 173 ) عن علي ( عليه السلام ) : ( قال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أول من يدخل الجنة ، فقلت يا رسول الله أدخلها قبلك ؟ قال : نعم أنت صاحب لوائي في الآخرة كما أنك صاحب لوائي في الدنيا ، وحامل اللواء هو المتقدم . ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي كأني بك وقد دخلت الجنة وبيدك لوائي ، وهو لواء الحمد ، تحته آدم فمن دونه ) .
وفي الصراط المستقيم ( 2 / 119 ) : ( أسند في مراصد العرفان إلى سلمان حين سأله : من الخليفة بعدك يا رسول الله ؟ قال : أدخل عليَّ أبا ذر والمقداد وأبا أيوب ، فقال : اشهدوا وافهموا أن علياً وصيي ووارثي وقاضي ديني وحامل لوائي ، وولده بعده ، ثم من ولد الحسين أئمة تسعة هداة إلى يوم القيامة ، أشكو إلى الله جحد أمتي له وأخذهم حقه ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ( سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أفضل الكلام قول لا إله إلا الله ، وأفضل الخلق أول من قال : لا إله إلا الله ، فقيل : يا رسول الله ومن أول من قال : لا إله إلا الله ؟ قال : أنا ، وأنا نور بين يدي الله جل جلاله أُوَحِّدُهُ وأسبحه وأكبِّره وأقدسه وأمجده ، ويتلوني نور شاهد مني ، فقيل يا رسول الله ومن الشاهد منك ؟ فقال : علي بن أبي طالب ، أخي وصفيي ، ووزيري وخليفتي ووصيي ، وإمام أمتي ، وصاحب حوضي ، وحامل لوائي ، فقيل له : يا رسول الله فمن يتلوه ؟ فقال : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، ثم الأئمة من ولد الحسين إلى يوم القيامة ) . ( كمال الدين / 669 ) .

منصب حامل لواء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

معنى حامل اللواء أو الراية : القائد العام للجيش ، فهو أمير يجب على كل من كان تحت رايته أن يطيعه . وقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حريصاً على أن يؤمر علياً ( عليه السلام ) على كل جيش أو سرية يكون فيها ، وأن لا يؤمر عليه غيره ، بل ورد أن تأميرغيره عليه ، أو
--------------------------- 119 ---------------------------
قبوله بذلك عليه حرام ، لأن الله أمره على الآخرين ، فالقبول بكونه مأموراً لغير الله ورسوله حرامٌ عليه .
قال أحمد بن همام كما في الإحتجاج ( 1 / 292 ) : ( أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي‌بكر ، فقلت : يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي‌بكر قبل أن يستخلف ؟ فقال : يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثونا ، فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي‌بكر كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحق بالنبوة من أبي جهل ! قال : وأزيدكم : إنا كنا ذات يوم عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء علي ( عليه السلام ) وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله ، فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ، ثم دخل علي على أثرهما ، فكأنما سُفِيَ على وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الرماد ! ثم قال : يا علي أيتقدمانك هذان وقد أمَّرك الله عليهما ! فقال أبو بكر : نسيت يا رسول الله ، وقال عمر : سهوت يا رسول الله ، فقال رسول : ما نسيتما ولا سهوتما ، وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحازبتما عليه ، وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله ! وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا ! ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها ، وذلك لأمر قد قضي !
ثم بكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى سالت دموعه ثم قال : يا علي الصبر الصبر حتى ينزل الأمر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك ، فإذا أمكنك الأمر فالسيف السيف ، القتل القتل ، حتى يفيئوا إلى أمر الله وأمر رسوله ، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل ، وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة ) .
ومعناه أنه يحرم على علي ( عليه السلام ) أن يقبل بأن يتقدم عليه أحد ، حتى في الدخول إلى مجلس ، لأن الله تعالى أمَّره فلا يكون مأموراً ، إلا مجبراً .
--------------------------- 120 ---------------------------

عدد الذين قتلهم علي ( عليه السلام ) في بدر

في شرح الأخبار ( 2 / 205 ) أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل علياً ( عليه السلام ) أيام هجرة المسلمين إلى الحبشة في مهمة ، فتأخر فذهبت خديجة ( عليها السلام ) تبحث عنه ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صنع به ، وقد أعطاني الله عز وجل فيه ثلاثاً في الدنيا ، وثلاثاً في الآخرة : لا أخاف معها عليه أن يموت ولا يقتل حتى يعطيني الله موعده إياي ، إلا أني أخاف عليه واحدة . قالت : يا رسول الله ، وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الدنيا ؟ وما الثلاث الذي أعطاكها الله في الآخرة ، وما الواحدة التي تخشاها عليه ؟ قال : يا خديجة ، إن الله عز وجل أعطاني في علي لدنياي أنه يَقتل أربعة وثمانين مبارزاً قبل أن يموت أو يقتل ، وأنه يواري عورتي عند موتي ، وأنه يقضي ديني وعداتي من بعدي . وأعطاني في علي لآخرتي أنه صاحب مفتاحي يوم أفتح أبواب الجنة ، وأنه صاحب لوائي يوم القيامة ، وأنه صاحب حوضي ) .
أما الذين قتلهم ( عليه السلام ) في حملاته في حروب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم في حروبه ، فهم أضعاف ذلك . فقد قتل في بدر مبارزة وفي حملاته فيها نحو أربعين ، وفي أحد نحو ذلك ، وقتل في حرب الأحزاب عمرو بن ود وابنه وبضعة نفر ، وفي حرب بني قريظة عشرة ، وأسر في الحديبية نحو مائة ولم يقتلهم لحفظ حرمة البيت ، وطالب بهم سهيل بن عمرو فأطلقهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقتل ( عليه السلام ) في حنين نحو أربعين من أصحاب الرايات ، ونحو ستين من غيرهم ، وفي خيبر نحو ثلاثين ، وفي سراياه نحو ثلاثين . وقتل ( عليه السلام ) في حرب الجمل بضعة نفر مبارزة وعشرات في حملاته ، وقتل في حرب صفين المئات مبارزة وفي حملاته ، وفي النهروان مئات من الخوارج .
وقد اتفق الجميع على أنه ( عليه السلام ) مبارز لا نظير له في سرعة ملاحظته وسرعة عمله ، فكان ( عليه السلام ) ينظرالى من يبارزه فيعرف نقاط ضعفه ويعين مكان ضربته له . ومن خصوصياته التي لا يشركه فيها أحد : أن ضرباته كانت وتراً ، فلا تحتاج إلى ضربة ثانية ، وكان إذا علا قَدَّ وإن اعترض قَطّ ! كما كان ( عليه السلام ) قائداً مميزاً ، يتقدم جيشه ولا يحتمي به كبعض القادة الذين يكونون في وسط الجيش أو آخره . وكان يبرز ويقاتل أمامهم ، ولا يقعد ويقاتل
--------------------------- 121 ---------------------------
بغيره كخالد بن الوليد . ولايستمد قوته ومعنوياته من جيشه ، بل يعطي لجيشه ببطولته ويقينه قوة معنوية كبيرة . . إلى آخر صفاته القيادية المميزة ( عليه السلام ) .
وقد تميز ( عليه السلام ) بصرخته الحيدرية التي يرتعب منها الفرسان ، وبعضهم يولي هارباً ! فقد جاء في فتح اليمن : ( فقام خالد بن سعيد قال له : دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه ( يقصد عمرو بن معدي كرب ) فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك فوقف ، ثم برز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فصاح به صيحة ، فانهزم عمرو بن معدي كرب ) ! ( الإرشاد : 1 / 160 ) .
* *

أول ملف ظلامة في يوم المحشر ملف علي ( عليه السلام )

1 . علي هو المظلوم الأول في محكمة القيامة :

فقد روى الجميع أن أول محكمة تقام يوم القيامة ، تكون لمحاكمة خصوم علي ( عليه السلام ) والأخذ بحقه منهم ! ففي صحيح البخاري ( 5 / 6 ) : ( أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمان يوم القيامة ) ! وفي رواية الحاكم ( 2 / 386 ) : « يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة » .
وقال رواة السلطة إن خصومته تكون مع من قتلهم في بدر ! لكن مبارزة بدر انتهت بفوز أهل الحق ، وليس فيها ظلامة تحتاج إلى محكمة ، فضلاً عن أن تكون القضية الأولى في المحكمة الكبرى . فالقضية هنا محكمة مهمة بين يدي الرحمن عز وجل ، تأتي بعد مشهد القيامة الأول وهو العرض على الله تعالى ، وبعد المشهد الثاني وهو مرحلة التناصف بين العباد ، والمحاكمات هي المرحلة الثالثة يحكم فيها عند القضاة الذين ينصبهم الله تعالى . وطبيعي أن تكون القضايا الأولى المتعلقة بظلامات المجرمين للبشرية والأجيال ، شبيهاً بملفات أمن الدولة وجرائم الحرب . فشكاية علي ( عليه السلام ) إنما هي ظلم قريش لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) هو المرافع عنه ! وكم كان يشكو قريشاً ويعدهم بالمحاكمة والخصومة بين يدي الله تعالى ، فيقول : « اللهم إني أستعديك
--------------------------- 122 ---------------------------
على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبةُ بي والدائرةُ عليَّ . ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة ، لما عَبَدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدَّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً ! ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرَتْ بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سَمِجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا أنه حق لما كان كذا ! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها . . الخ ) . ( شرح النهج : 20 / 298 ) .
ويؤيد ما ذكرنا أن المفسرين اضطروا لأن يوسعوا معنى قوله تعالى : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ . . وقد أفلتت بعض روايات أهل‌البيت ( عليهم السلام ) عندهم كالذي رواه ابن سعد ( 5 / 94 ) والذهبي في سيره ( 4 / 116 ) عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : إنهما نحن وبنو أمية ! وبنو أمية هي قريش .
وهذا نفس ما رواه الصدوق ( الخصال / 43 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( نحن وبنو أمية ، اختصمنا في الله عز وجل ، قلنا صدق الله ، وقالوا : كذب الله . فنحن وإياهم الخصمان يوم القيامة ) .
ولا يعقل تفسير أن يكون ملف خصومة علي ( عليه السلام ) أول ملف على مستوى البشرية ، إلا بذلك . فهو مرافع عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخصمه قريش بالدرجة الأولى ، ثم الذين شاركوهم وقاوموه وظلموه ، ومنعوا نور دينه أن يعم العالم .

ذو الفقار جاء به جبرئيل ( عليه السلام ) يوم بدر

1 . نزل به جبرئيل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

ففي الكافي « 1 / 234 ، و : 8 / 267 ، وأمالي الصدوق / 364 » عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « سألته عن ذي الفقار سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أين هو ؟ قال : هبط به جبرئيل من السماء ، وكانت حليته من فضة ، وهو عندي » .
وفي الإحتجاج » 1 / 200 « أن علياً ( عليه السلام ) قال في احتجاجه على أعضاء شورى عمر : « نشدتكم بالله هل فيكم أحد نوديَ باسمه من السماء يوم بدر : لا سيف إلا ذو الفقار ،
--------------------------- 123 ---------------------------
ولا فتى إلا عليٌّ ، غيري ؟ قالوا : لا » .
وفي الفقيه للصدوق « 4 / 178 » : « كان له سيفان يقال لأحدهما ذو الفقار والآخر : العون ، وكان له سيفان آخران يقال لأحدهما : المخذم ، والآخر الرسوم » .
وفي تاريخ اليعقوبي « 2 / 88 « : « وكان رسم رايته العقاب ، وكانت سوداء على عمل الطيلسان ، وكان له سيف يقال له المخدام [ المخذم ] وسيف يقال له الرسوب ، وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار ، وقد روي أن جبريل ( عليه السلام ) نزل به من السماء ، فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبراً ، وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة ، وفيه حلقتان فضة ، ورمحه المثوي ، وحربته العنزة وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول : هكذا أخلاق السنن ، وقوسه الكتوم ، وكنانته الكافور ، ونبله المتصلة ، وترسه الزلوق ، ومغفره السبوغ ، ودرعه ذات الفضول ، وفيها زردتان زائدتان ، وفرسه السكب ، وفرس آخر المرتجز ، وفرس آخر السجل ، وفرس آخر البحر » .

2 . سُمِّيَ ذو الفقار لفقراته ، ولأنه يفقر من ضرب به :

في علل الشرائع « 1 / 160 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنما سمي سيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذا الفقار ، لأنه كان في وسطه خط في طوله ، فشبه بفقار الظهر ، فسميَ ذا الفقار بذلك ، وكان سيفاً نزل به جبرئيل ( عليه السلام ) من السماء ، وكانت حلقته فضة ، وهو الذي نادى به مناد من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي » .
وروي أنه سمي ذا الفقار ، لأنه ما ضرب به أحدٌ إلا افتقر في الدنيا والآخرة ، وهو معنى منتزع من اسمه . وفي المناقب » 3 / 81 « : » زعم الأصمعي أنه كان فيه ثماني عشرة فقرة . كان طوله سبعة أشبار ، وعرضه شبر ، وفي وسطه كالفقار . قال ابن حماد :
فأنزل الله ذا الفقار له * مع جبرئيل الأمين منتجبا
وقيل إن النبي ناوله * جريدة رطبة لها اجتلبا
فانقلبت ذا الفقار في يده * كرامة من إلهه وحبا
سيف يكون الإله طابعه * فكيف ينبو وأن يقال نبا
--------------------------- 124 ---------------------------
وقال الزاهي :
من هزم الجيش يوم خيبره * وهز باب القموص واقتلعه
من هز سيف الإله بينكم * سيف من النور ذو العلى طبعه
أبو عبد الله ( عليه السلام ) : نظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي .
القاضي أبو بكر الجعاني بإسناده عن الصادق ( عليه السلام ) : نادى ملك من السماء يوم أحد يقال له رضوان : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي .
ومثله في إرشاد المفيد ، وأمالي الطوسي عن عكرمة وأبي رافع . وقد رواه السمعاني في فضائل الصحابة ، وابن بطة في الإبانة ، إلا انهما قالا : يوم بدر . قال أحمد بن علوية :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا أبو حسن فتى الفتيان
قال النبي أما علمت بأنه * مني ومنه أنا وقد أبلاني
جبريل قال له وإني منكما * فمضى بفضل خلاصة الخلان
وقال أبو مقاتل بن الداعي العلوي :
ومن مشى جبريل مع ميكاله * عن جانبيه في الحروب إذ مشى
ومن ينادي جبرئيل معلناً * والحرب قد قامت على ساق الردى
لا سيف إلا ذو الفقار فاعلموا * ولا فتى إلا علي في الورى
وقال الزاهي :
لا فتى في الحروب غير علي * لا ولا صارم سوى ذي الفقار
وقال العوني :
من صاح جبريل بالصوت العلي به * دون الخلائق عند الجحفل اللجب
فخرًا ولا سيف إلا ذو الفقار ولا * غير الوصي فتى في هفوة الكرب
وقال منصور الفقيه :
من قال جبرئيل والأرماح شارعة * والبيض لامعة والحرب تشتعل
لا سيف يذكر إلا ذو الفقار ولا * غير الوصي إمام أيها الملل
--------------------------- 125 ---------------------------
وقال آخر :
جبريل نادى في الوغى * والنقع ليس بمنجل
والمسلمون بأسرهم * حول النبي المرسل
والخيل تعثر بالجما * جم والوشيح الذيل
هذا النداء لمن له * الزهراء ربة منزل
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
وقال غيره :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا علي للطغاة طعون
ذاك الوصي فما له من مشبه * فضلاً ولا في العالمين قرين
ذاك الوصي وصي أحمد في الورى * عف الضماير للإله أمين
وقال آخر :
من كان يمدح ذا ندى لنواله * فالمدح مني للنبي وآلهِ
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا علي في أوان قتالهِ
نادى النبي له بأعلى صوته * يا رب من والى علياً والهِ » .
3 . أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى : في معاني الأخبار للصدوق / 119 :
« إن أعرابياً أتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج إليه في رداء ممشق فقال : يا محمد لقد خرجت إليَّ كأنك فتى . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم يا أعرابي أنا الفتى ، ابن الفتى ، أخو الفتى . فقال : يا محمد ، أما الفتى فنعم ، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى ؟ فقال : أما سمعت الله عز وجل يقول : قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، فأنا ابن إبراهيم ، وأما أخو الفتى فإن منادياً نادى في السماء يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، فعليٌّ أخي وأنا أخوه » .
4 . ما ضربت به أحداً إلا ودخل النار ! كتب علي ( عليه السلام ) إلى والٍ خانَ بيت المال :
« فسبحان الله ، أما تؤمن بالمعاد ؟ أو ما تخاف نقاش الحساب ؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب ! كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً
--------------------------- 126 ---------------------------
وتشرب حراماً ؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين ، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد . فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك ، لأعذرن إلى الله فيك ، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار » ! « نهج البلاغة : 3 / 62 » .
5 . كان يَعْوَجُّ فيقومه علي ( عليه السلام ) بركبته : في شرح النهج « 2 / 282 » في حربه ( عليه السلام ) للخوارج :
« التفت إلى أصحابه فقال لهم : شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم . وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات ! كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ، ثم يخرج فيسويه بركبتيه ، ثم يحمل به » .
6 . انكسر سيفه يوم أحد فأعطاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذا الفقار : في علل الشرائع « 1 / 7 »
عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال في أحُد : « وكان علي ( عليه السلام ) كلما حملت طائفة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استقبلهم وردهم ، حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه ، فجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه سيفه ذا الفقار ، فما زال يدفع به عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى أثر وانكسر ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) وقال : يا محمد إن هذه لهي المواساة من علي لك ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما . وسمعوا دوياً من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي » .
في الخرائج ( 1 / 148 ) : « قال علي ( عليه السلام ) : » انقطع سيفي يوم أحد فرجعت إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقلت : إن المرء يقاتل بسيفه ، وقد انقطع سيفي ، فنظر إلى جريدة نخل عتيقة يابسة مطروحة فأخذها بيده ، ثم هزها فصارت سيفه ذا الفقار فناولنيه ، فما ضربت به أحداً إلا وقدَّهُ بنصفين » .
أقول : يظهر من هذا أن سرَّ ذي الفقار من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنه كان له ، وقد أعطاه لعلي ( عليه السلام ) في المعركة ، ولما انكسر عوض الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن أمره أن يهز جريدة النخل اليابسة ، فكانت ذا الفقار بخصائصه . كما روي أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعطاه لعلي ( عليه السلام ) لما برز إلى عمرو بن ود ، بعد أحُد بسنتين .
--------------------------- 127 ---------------------------
وفي المناقب » 3 / 81 « : « وقد روى كافة أصحابنا أن المراد بهذه الآية : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ ، ذو الفقار أنزل به من السماء على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعطاه علياً . وسئل الرضا ( عليه السلام ) من أين هو ؟ فقال : هبط به جبرئيل من السماء ، وكان حلية من فضة وهو عندي . وقيل : أمر جبرئيل أن يتخذ من صنم حديد في اليمن ، فذهب علي وكسره واتخذ منه سيفين : مخذم ، وذا الفقار ، وطبعهما عمير الصيقل ، وقيل : صار إليه يوم بدر أخذه من العاص بن منبه السهمي وقد قتله ، وقيل : كان من هدايا بلقيس إلى سُلَيْمان ، وقيل : أخذه من منبه بن الحجاج السهمي في غزاة بني المصطلق بعد أن قتله . وقيل : كان سعف نخل نفث فيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصار سيفاً . وقيل : صار إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم بدر فأعطاه علياً ( عليه السلام ) ، ثم كان مع الحسن ، ثم مع الحسين ، إلى أن بلغ المهدي ( عليه السلام ) » .
وهذا يدل على أن ذا الفقار نزل من السماء ، ولكنه كان قابلاً للكسركأي سيف ، فانكسر بيد علي ( عليه السلام ) مرات ، وعوضه الله بسعفة نخل صارت بيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذا الفقار بخصوصياته . وفي إحداها أمر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يصنعه من حديد هو قاعدة صنم في اليمن ، ولعل أصل ذلك الحديد من سليمان ( عليه السلام ) ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بإعجاز إلى اليمن وأتى به ، وأعطاه للحداد فصنع منه ذا الفقار .
ففي بصائر الدرجات / 206 : « عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : جاء جبرئيل إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال يا محمد ، إن باليمن صنماً من حجارة ، له مقعد من حديد ، فابعث إليه حتى يجاء به ، قال فبعثني النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى اليمن فجئت بالحديد ، فدفعته إلى عمر الصيقل ، فضرب عنه سيفين ذا الفقار ومُخَذَّماً فتقلد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مخذماً وقلدني ذا الفقار ، ثم إنه صار إليَّ بعدُ مخذم » .
أقول : ظاهر قوله تعالى : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ ، أن الحديد نازل من السماء ، وقيل إن الحديد غبار من كواكب أخرى . وقد ورد أن للمهدي ( عليه السلام ) أنصاراً من كواكب أخرى لهم سيوف من حديد غير هذا الحديد ( بصائر الدرجات / 512 ) فيبدو أن حديد ذي الفقار يختلف عن الحديد العادي !
--------------------------- 128 ---------------------------
وقد روى في كشف الغمة ( 1 / 254 ) : ( إن ضرباته ( عليه السلام ) كانت على وتيرة واحدة ، إن ضرب طولاً قدَّ ، أو عرضاً قطَّ ! وكانت كأنها مكواة بالنار ) !
وبعضهم لا يقبل روايات كسر ذي الفقار ولا أنه من حديد الأرض .
7 . قَاتَلَ الحسينُ ( عليه السلام ) بذي الفقار يوم عاشوراء :
في أمالي الصدوق / 222 : « ثم وثب الحسين ( عليه السلام ) متوكئاً على سيفه ، فنادى بأعلى صوته ، فقال : أنشدكم الله ، هل تعرفوني ؟ قالوا : نعم ، أنت ابن رسول الله وسبطه . . قال : فأنشدكم الله ، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنا متقلده ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : فأنشدكم الله ، هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا لابسها ؟ قالوا : اللهم نعم . . قال : فبم تستحلون دمي ، وأبي الذائد عن الحوض غداً ، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعيرالصادي عن الماء ، ولواء الحمد في يدي جدي يوم القيامة ؟ قالوا : قد علمنا ذلك كله ، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً ! فأخذ الحسين ( عليه السلام ) بطرف لحيته ، وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة ، ثم قال : اشتد غضب الله على قوم قتلوا نبيهم ، واشتد غضب الله على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم » .

8 . ذو الفقار في مواريث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

في الكافي « 1 / 236 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : » لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تباري الريح ، قال : فأطرق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هنيئة ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح . قال : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثم قال : يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي . قال العباس : فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال : تختم بهذا في حياتي ، قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من
--------------------------- 129 ---------------------------
جميع ما ترك الخاتم . ثم صاح : يا بلال عليَّ بالمغفر ، والدرع ، والراية ، والقميص ، وذي الفقار ، والسحاب ، والبرد ، والأبرقة ، والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك - يعني الأبرقة - فجيئ بشقة كادت تخطف الأبصار ، فإذا هي من أبرق الجنة فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها ، وقال : يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة . ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميصين القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر ، وقلنسوة العيدين والجمع ، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه . ثم قال : يا بلال علي بالبغلتين : الشهباء والدلدل ، والناقتين : العضباء والقصوى ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحيزوم ، وهو الذي كان يقول أقدم حيزوم ، والحمار عفير ، فقال : أقبضها في حياتي . فذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أول شئ من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قطع خطامه ثم مر يركض ، حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها ، فكانت قبره « .

9 . ذو الفقار من علامات الإمام ( عليه السلام ) :

في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) « 1 / 192 » قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : » للإمام علامات : يكون أعلم الناس وأحكم الناس وأتقى الناس وأحلم الناس وأشجع الناس وأسخى الناس وأعبدالناس . . ويكون عنده سلاح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسيفه ذو الفقار » .
10 . طلبه المسور بن مخرمة من الإمام زين العابدين ( عليه السلام )
ففي مسند أحمد « 4 / 226 » والبخاري « 4 / 47 » : « ابن شهاب أن علي بن حسين حدثه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية ، مقتلَ حسين بن علي رحمة الله عليه ، لقيه المسور بن مخرمة فقال له : هل لك إلى من حاجة تأمرني بها ؟ فقلت له : لا ، فقال : فهل أنت معطي سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه . وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليهم أبداً حتى تبلغ نفسي » . وفي فتح
--------------------------- 130 ---------------------------
الباري « 6 / 149 » : « والذي يظهرأن المراد بالسيف المذكور ذو الفقار الذي تنفله يوم بدر ، ورأى فيه الرؤيا يوم أحد « .
وذكر ابن حجر وغيره أن غرض المسور حفظ السيف له إكراماً لجدته فاطمة ( عليها السلام ) .
11 . وقالوا إنه كان سيف منبه بن الحجاج :
قال البلاذري في أنساب الأشراف « 1 / 145 » : « وأما نبيه فقتله علي بن أبي طالب . وقتل أيضاً العاص بن منبه ، وكان صاحب ذي الفقار ، سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذلك الثبت . وبعضهم يقول : إنه كان سيف منبه » .
وقال الواقدي في المغازي « 1 / 103 » : « عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : تنفل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفه ذا الفقار يومئذٍ ، وكان لمنبه بن الحجاج » .
وقال الطبري « 2 / 172 » : « وفي غزوة بدر انتقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفه ذا الفقار وكان لمنبه بن الحجاج . وفيها غنم جمل أبي جهل ، وكان مهرياً يغزو عليه » .
وقد وضعوا هذه الروايات ليسلبوا علياً ( عليه السلام ) فضيلة نزول ذي الفقار من السماء .

12 . وادعاه العباسيون والحسنيون ( عليه السلام ) :

في عمدة القاري « 15 / » : « ولم يزل ذو الفقار عنده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى وهبه لعلي رضي الله تعالى عنه قبل موته ثم انتقل إلى آله . وكانت له عشرة أسياف منها : ذو الفقار ،
تنفله يوم بدر » .
وفي الطبري « 6 / 219 » : « الأصمعي قال : رأيت الرشيد أمير المؤمنين بطوس متقلداً سيفاً فقال لي : يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار ؟ قلت بلى جعلني الله فداك ، قال : استل سيفي هذا ، فاستللته فرأيت فيه ثمان عشرة فقارة » .
وفي وفيات الأعيان « 6 / 330 » : « كان سبب وصوله إلى هارون الرشيد فيما ذكره أبو جعفر الطبري بإسناد متصل إلى عمر بن المتوكل عن أمه ، وكانت أمه تخدم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قالت : كان ذو الفقار مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم قتل في محاربته
--------------------------- 131 ---------------------------
لجيش أبي جعفر المنصور العباسي والواقعة مشهورة ، فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه وكان له عليه أربع مائة دينار وقال له : خذ هذا السيف فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه منك
وأعطاك حقك » .
وفي الكافي « 1 / 233 » : قيل للإمام الصادق ( عليه السلام ) إن شخصين يزعمان أن عبد الله بن الحسن عنده سيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقال : « والله ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه ، ولا رآه أبوه ، اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين ، فإن كانا صادقين فما علامة في مقبضة ، وما أثر في موضع مضربه ! وإن عندي لسيف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإن عندي لراية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودرعه ولأمته ومغفره ، فإن كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ وإن عندي لراية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المغلبة ، وإن عندي ألواح موسى وعصاه ، وإن عندي لخاتم سُلَيْمان بن داود ، وإن عندي الطست الذي كان موسى يقرب به القربان ، وإن عندي الاسم الذي كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة . وإن عندي لمِثْل التابوت الذي جاءت به الملائكة . ومَثَلُ السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل ، في أي أهل بيت وجد التابوت على أبوابهم أوتوا النبوة ، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة ، ولقد لبس أبي درع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطت على الأرض خطيطاً ولبستها أنا فكانت وكانت ، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله » .
وصححه المجلسي الأول في روضة المتقين « 12 / 243 » وقال : « وفي البصائر في الموثق كالصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لبس أبي درع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذات الفضول فخطت ، ولبستها أنا ففضلت » . إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة .

وفي بصائر الدرجات / 205 : « أتاني إسحاق بن جعفر فعظم عليّ بالحق والحرمة السيف الذي أخذه هو سيف رسول الله . فقلت : لا ، كيف يكون هذا وقد قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل حيثما دار دار الأمر » .

--------------------------- 132 ---------------------------
13 . لماذا قدم جبرئيل ( عليه السلام ) ذا الفقار على اسم علي ( عليه السلام ) ؟
سبب ذلك أن ذا الفقار يعني قدرة الله تعالى المعطاة لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه ( عليه السلام ) ، فيكون المعنى : لا قدرة إلا قدرة الله تعالى ، ولا فتى إلا علي ( عليه السلام ) .
* *

شرَّع الله الخمس لبني هاشم فحرمتهم منه قريش !

شرع الله الخمس لبني هاشم قبل بدر ، وعين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صحابياً مسؤول الأخماس ، ثم أنزل الله آية الخمس يوم بدر وربطه بالإيمان بالوحي : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَاأَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . يقول لهم عز وجل : أيها المختلفون على الغنائم ، المتهمون لنبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه غلَّ وسرق منها ! إنكم مدينون بوجودكم وانتصاركم لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرابته ، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بما عاينتم ! ألا ترون أن الملائكة وبني هاشم هم الذين حققوا لكم النصر ، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة ؟ !
وقد سمى الله معركة بدر يوم الفرقان : لأنها فرقانٌ بين باطل قريش وحقانية الإسلام ، وفرقانٌ بين الهدى الإلهي والضلال البشري ، وفرقانٌ في تكوين شيعة العترة بين من يتولاهم ومن يعاديهم أو يعرض عنهم . فالفرقان في السورة بثلاث معان : فرقان الأمة وتمييزها عن غيرها . وفرقان البصيرة للمؤمن بين الحق والباطل : إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا . « الفرقان : 29 » . وفرقان الموالين للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أهل بيته ( عليهم السلام ) من الأمة كما نص في آية الخمس .
وفي تحف العقول / 341 : « فلما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة أنزل الله عليه : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيئٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى . . » . وفي الكافي « 8 / 63 » : « فنحن والله عنى بذي القربى الذين قرننا الله بنفسه وبرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
قال البيضاوي ( 3 / 109 ) : « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ : متعلق بمحذوف دل عليه : وَاعْلَمُوا . أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء ، فسلموه إليهم » .
--------------------------- 133 ---------------------------
وفي كتاب سُلَيْم بن قيس / 228 : « قال سُلَيْم : ثم أقبل « علي ( عليه السلام ) » على العباس وعلى من حوله ثم قال : ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن ؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا فقال : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ » .
وفي سنن النسائي ( 7 / 129 ) أن ابن عباس أجاب نجدة رئيس الخوارج : ( كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو ؟ وهو لنا أهل‌البيت ، وقد كان عمر دعانا إلى أن يُنكح منه أيِّمنا ، ويخدم منه عائلنا ، ويقضي منه عن غارمنا ، فأبينا إلا أن يُسلمه لنا ، وأبى ذلك فتركناه عليه ) . وفي رواية أن عمر قال : هذا كثير ننظر فيه !
وقال ابن قدامة في المغني ( 2 / 519 ) : « لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة ، وقد قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنما هي أوساخ الناس . أخرجه مسلم .
وعن أبي هريرة قال : أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كخ كخ ، ليطرحها وقال : أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ! متفق عليه . قال : ولا لمواليهم : يعني أن موالي بني هاشم ، وهم من أعتقهم هاشمي لايُعْطَوْنَ من الزكاة .
( فتاوى اللجنة الدائمة الوهابية . جمع الدويش : 10 / 69 ) .
وهذا التكريم من الله تعالى لعترة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعشيرته بني هاشم . لا يشمل نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلا حق لهن في الخمس لأنهن لا تحرم عليهن الصدقة !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 3 / 281 ) : ( ولا يحرم عليهن الصدقة قولاً واحداً ) .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 4 / 243 ) : « عن أم عطية قالت : بعث إليَّ رسول الله بشاة من الصدقة ، فبعثت إلى عائشة منها بشئ ، فلما جاء رسول الله قال : هل عندكم من شئ ؟ فقالت : لا ، إلا أن نسيبة بعثت إلينا من الشاة التي بعثتم بها إليها ، فقال : إنها قد بلغت محلها ! متفق عليه . . وذكر ابن المنير أنها لا تحرم الصدقة على الأزواج ، قولا واحداً » .
وقال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 540 ) : « وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة
--------------------------- 134 ---------------------------
لهم ، دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم ، عوضاً لهم من صدقات الناس ، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكرامةً من الله لهم عن أوساخ الناس ، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة . ولا بأس بصدقات بعضهم على بعض . وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس ، هم قرابة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذين ذكرهم الله فقال : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وهم بنو عبد المطلب الذكر منهم والأنثى ، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ، ولا من العرب أحد ، ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم » .
وقد حبست الحكومات الخمس عن بني هاشم ، ففي جامع أحاديث الشيعة ( 8 / 622 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما وليَ أبو بكر قال له عمر : إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ، فامنع عن علي الخمس والفئ وفدكاً ، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا علياً رغبة في الدنيا ) .
وقال السيوطي في الدر المنثور ( 3 / 186 ) : ( وأخرج ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : سألت علياً رضي الله عنه فقلت : يا أمير المؤمنين أخبرني كيف كان صنعُ أبي‌بكر وعمر رضي الله عنهما في الخمس نصيبكم ؟ فقال : أما أبو بكر رضي الله عنه فلم تكن في ولايته أخماس ، وأما عمر رضي الله عنه فلم يزل يدفعه إليَّ في كل خمس ، حتى كان خمس السوس وجند نيسابور فقال وأنا عنده : هذا نصيبكم أهل‌البيت من الخمس ، وقد أحل ببعض المسلمين واشتدت حاجتهم . فقلت : نعم . فوثب العباس بن عبد المطلب فقال : لاتعرض في الذي لنا . فقلت : ألسنا أحق من أرفق المسلمين ، وشفع أمير المؤمنين ، فقبضه . فوالله ما قبضناه ، ولا قدرت عليه في ولاية عثمان ) .

قتلى بدر « هولوكست » قريش !

1 . كانت معركة بدر ضربة قاصمة لقريش :

فقد قتل سبعون من فرسانها وقادتها ، ثم كانت إذلالاً لها بأسرسبعين منهم . وكان أول عمل قامت به بعد بدر ، جمعها المال لحرب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وقد عقدنا في السيرة النبوية فصلاً لثأرها لقتلى بدر !
--------------------------- 135 ---------------------------
قال اليعقوبي ( 2 / 47 ) : ( اجتمعت قريش واستعدت لطلب ثأرها يوم بدر واستعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان وقالوا : لاتنفقوا منه شيئاً إلا في حرب محمد ) .
وفي السيرة الحلبية ( 2 / 446 ) : ( ناحت قريش على قتلاهم شهراً ، وجزَّ النساء شعورهن ، وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتُستر بالستور ، ويَنُحْنَ حولها ويخرجن إلى الأزقة ، ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه ، فيشمتوا بكم ، ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم ، وتواصوا على ذلك ) !
وقال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ( 1 / 110 ) : « فلما غزوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم أحد ، أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح ) .
2 . وقد أقاموا عليهم أكبر مناحة !
فلا تجد معركة أعمق تأثيراً في التاريخ من بدر ! وما زالت نتائجها ممتدةً في حياتنا إلى اليوم ! وما زال اليهود يبتزون العالم باسم الهولوكست ، لكن قريشاً فاقتهم ، وكان أول ابتزازها أن سيطرت على دولة النبي وعزلت عترته ، لأنهم مسؤولون عن بدر !
قال عثمان لعلي ( عليه السلام ) : « ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم ، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين ، كأن وجوههم شنوف الذهب ، تشرب أنوفهم قبل شفاههم » !
أي وجوههم كأقراط الذهب وأنوفهم طويلة جميلة . « نثر الدرر / 259 ،
وابن حمدون / 1567 » .
فدماء هؤلاء العتاة المشركين في أعناق بني هاشم ، وعلى قريش أن تأخذ الخلافة ثأراً لهم ، ولو أخذها بنو هاشم فعلى قريش تأليب العرب عليهم ، حتى لو وصل ذلك إلى إعلان الردة عن الإسلام !
قال العلامة الحلي ( قدس سره ) في كشف اليقين / 470 : « وروى أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد بسنده عن ابن عباس ، قال : دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني للأكل فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرٍّ كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، ثم قال :
--------------------------- 136 ---------------------------
من أين جئت يا عبد الله ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر فقلت : خلفته يلعب مع أترابه . قال لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل‌البيت . قلت : خلفته يمتح بالغرب ( يسقي بالدلو ) على نخلات له وهو يقرأ القرآن فقال : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، أبقيَ في نفسه شئ من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أيزعم أن رسول الله جعلها له ؟ قلت : نعم وأزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ [ غلو ] من قول لا يُثبت حجة ولا يقطع عذراً ، وقد كان يربع في أمره وقتاً ما . ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لاورب هذه البينة لا تجتمع عليه قريش أبداً ! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ! فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم !
أشار بذلك إلى اليوم الذي قال فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إئتوني بدواة وكتف ، فقال عمر : إن الرجل ليهجر » !
ومعنى انتقضت عليه العرب : أي قريش ! ومعنى انتقضت عليه : نقضناها عليه !
3 . وقد بلغت وقاحة قريش : أن هند بنت عتبة واجهت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه قتل أبناءها ! فقد جاءت مع نساء مكة ليبايعنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد فتح مكة فبايعهن على الآية وقرأ عليها : وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( فقالت هند : أما الولد فقد ربيناهم صغاراً ، وقتلتهم كباراً ) . ( الكافي : 5 / 527 ) ! وفي رواية ابن سعد : ( 8 / 189 ) : ( قالت : وهل تركت لنا ولداً إلا
قتلته يوم بدر ) !
4 . وبلغ تأثير قريش حتى على أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فلما رأت زوجته سودة بنت زمعة سهيل بن عمر أسيراً في المدينة ، قالت ( ابن هشام : 2 / 472 ) : ( فرجعتُ إلى بيتي ورسول الله فيه ، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ، مجموعةٌ يداه إلى عنقه بحبل . قالت : فلا والله
--------------------------- 137 ---------------------------
ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت : أي أبا يزيد ، أعطيتم بأيدكم ألا مِتُّم كراماً ! فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله : من البيت : يا سودة ، أعلى الله ورسوله تحرضين ؟ قالت قلت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ، أن قلت ما قلت ) !
أي قالت له : أنتم عظماء قريش ، فكيف سمحتم لمحمد أن يأسركم ؟ !
5 . وحدَّثَ عمر عن نفسه بأنه زاغ يوم بدر عن العاص بن أبي أحيحة وهابه لم يقاتله ! قال لابنه سعيد بن العاص : « مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه ، فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه ، فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له علي فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله !
فقال له علي : اللهم غفراً ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم ، فما لك تهيِّج الناس عليَّ ؟ فكفَّ عمر . وقال سعيد : أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب » . ( ابن هشام : 2 / 464 ) .
6 . ولذلك قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : « فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنها ضغائن في صدور قوم ، أحقاد بدر وتِراتُ أحد ! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه : إن ضلوا ثم وجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، فإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ، ولا يفرق بينهم . فافعل أنت كذلك ، إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك » . « كتاب سُلَيْم / 305 » .
وقال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 21 ) : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
ما تركت بدرٌ لنا مَذيقا [ صديقا ] * ولا لنا من خلفنا طريقا -
وسئل زين العابدين ( عليه السلام ) : لم أبغضت قريش علياً ( عليه السلام ) ؟ قال : لأنه أورد أولهم النار ، وقلد آخرهم العار ) .
7 . وقال علي ( عليه السلام ) ( المناقب : 1 / 382 ) : ( اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم ظلموني في الحجر والمدر . وقال على : ما زلت مظلوماً منذ قبض الله نبيه إلى يومي هذا . وبينما هو يخطب وأعرابي يقول وا مظلمتاه ، فقال ( عليه السلام ) : أدن ، فدنا فقال : لقد ظلمتُ عدد المدر والمطر والوبر ، وما لا يحصى ) .
--------------------------- 138 ---------------------------

وقال ( عليه السلام ) ( شرح النهج : 4 / 108 ) : ( ما رأيت منذ بعث الله محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رخاء ، لقد أخافتني قريش صغيراً ، وأنصبتني كبيراً ، حتى قبض الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكانت الطامة الكبرى ، والله المستعان على ما تصفون ) .

8 . وقد اعترف ابن أبي الحديد : وهو سني معتزلي ، متعصب لأبي‌بكر وعمر ، أن خلافة قريش قامت على الثأر من بني هاشم لقتلى بدر وأحُد ، وقال إن بغض القرشيين للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) وبني هاشم طبيعي حتى بعد أن أسلموا !
قال في شرح النهج « 13 / 299 » : « ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له « علي » وانحرافها عنه ، فإنه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ! ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم ! وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهده اليوم عياناً ، والناس كالناس الأُوَل ، والطبائع واحدة ! فاحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم ، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ، ثم أسلمت ، أكان إسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ؟ كلا ، إن ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة ، لا كإسلام كثير من العرب ! فبعضهم أسلم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه !
واعلم أن كل دم أراقه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسيف علي ( عليه السلام ) وبسيف غيره ، فإن العرب بعد وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب وحده ، لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده ! وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته ، طالبت بها أمثل الناس من أهله ! لمَّا قَتَلَ قومٌ من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرِّض عَمْرواً عليهم :
من مُبْلغٌ عَمْراً بأن المَرْ * ءلم يُخلق صَبارهْ
فاقتل زرارة لا أرى * في القوم أمثلَ من زرارهْ !
--------------------------- 139 ---------------------------
فأمره أن يقتل زرارة رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخ الملك ، ولاحاضراً قتله » !
أقول : خاطب الشاعر الملك هند بن عمرو ملك الحيرة ، بأن الإنسان لم يخلق صَبَارة ، أي حجراً ، بل له إحساسات ومنها غريزة الثأر ، فيجب عليك أن تأخذ ثأرك من
بني تميم الذين قتل أحدهم أخاك حتى لو كان قتل خطأ ، وكان رئيس هم زرارة بن عدس غائباً عن القتل ، لكنه أنسب شخصية لتقتله بثأرك . فأطاع الملك الشاعر وهاجم بني تميم وقتل رئيسهم زرارة ، وقتل معه أكثر من مئتين وبقر بطون نسائهم وأحرقهم ! فالقاعدة عند القبائل أن الثأر لا ينسى بحال من الأحوال والأزمان !
وقريش لها ثأر عند محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعظمه ثأرها في بدر وأحُد ، ولا يجوز أن تنساه حتى لو أسلمت وأخذت دولته ! وهذا اعتراف جرئ من ابن أبي الحديد ، بأن بطون قريش عصبت دماء قتلاها بعلي ( عليه السلام ) ، وأن خلافتها قامت على الثأر من بني هاشم ! أما وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعترته وجعلهم كالقرآن ، فلا يصح أن تسمعه قريش ! بل يجب أن تسمع لصوت الثأر ، وأن تأخذ منهم دولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعزلهم .
وعلى المنصف أن يفهم النتيجة السلبية الضخمة لذلك ، على الإسلام كله .
9 . وقد نظم شعراء قريش قصائد كثيرة : في رثاء قتلى بدر ونشروها ، خاصة شعر ابن الزِّبَعْرَى ، وضرار بن الخطاب ، والحاخام كعب بن الأشرف ، وكلها هجاء للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأنصار ومدح لمشركي قريش ، فكان شعر قتلى بدر يُقرأ في المجالس ، وصار ثقافة لمجالس الخمر ، حتى تأثر به الصحابة !
واشتهرت قصيدة عبد الله بن الزبعرَى السهمي في أحُد « ابن هشام : 2 / 541 » :
يا غراب البين أسمعت فقلْ * إنما تنطق شيئاً قد فعلْ
أبلغن حسان عني آية * فقريض الشعر يشفى ذا الغلل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
فسل المهراس عن ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
--------------------------- 140 ---------------------------
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
بسيوف الهند تعلو هامهم * عَلَلاً تعلوهم يعد نهل
وقال أياس بن زنيم يحرض مشركي قريش على قتل علي ( عليه السلام ) :
في كل مجمع غاية أخزاكم * جذعٌ أبرُّ على المذاكي القرَّح
لله دركمُ ألمَّا تنكروا * قد ينكر الحرُّ الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم * ذبحاً وقتلاً قعصةً لم يذبح
أين الكهول وأين كل دعامة * في المعضلات وأين زين الأبطح
أفناهم قعصاً وضرباً يفتري * بالسيف يعمل حده لم يصفح
أعطوه خرجاً واتقوا بمصيبة * فعل الذليل وبيعة لم تربحِ »
« الإصابة : 1 / 231 ، وأنساب الأشراف / 188 ، وتاريخ دمشق : 42 / 8 » .
10 . وشرب الشيخان القرشيان وناحا على قتلى بدر ! لأن مجالس الخمر حتى في المدينة كان يقرأ فيها شعر النياحة على قتلى بدر ! ومنها مجلسٌ ضم أحد عشرصحابياً فيهم الشيخان أبو بكر وعمر ، شربوا وغنوا بالنوح على قتلى بدر ! فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيده سعفة أو مكنسة يريد أن يضربهم ، فقالوا تُبنا تُبنا !
وتتفاجأ بأن هذا الحديث صحيح عندهم ، فقد رواه تمام الرازي المتوفى 414 ، في كتابه الفوائد : 2 / 228 ، برقم : 1593 ، وفي طبعة : 3 / 481 ، بسند صحيح عن عوف ، عن أبي القموص قال : « شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم فأخذت فيه ، فأنشأ يقول :
تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ * وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني أصطبح يا بكر أني * رأيت الموت نقَّبَ عن هشام
فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ * بألف من رجال أو سوام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من القينات والخيل الكرام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من الشيزى تُكلل بالسنام
فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه ، فلما نظر إليه قال : أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله ، والله لا يلج لي رأساً أبداً ! فذهب عن
--------------------------- 141 ---------------------------
رسول الله ما كان فيه ، وخرج ونزل عليه : فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون ؟ فقال عمر : انتهينا والله » . ورواه الثعلبي في تفسيره « 2 / 142 » دون أن يسميهما قال : « وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم ، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة ، ويشربونها في غير حين الصلاة ، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول . . . فبلغ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه ، ورفع شيئاً كان بيده « سعفة » ليضربه ، فلما عاينه الرجل قال : أعوذ بالله من غضب الله
وغضب رسول الله ، والله لا أطعمها أبداً » .
ولم يذهب غضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لكنه اضطر إلى السكوت ، حتى لا ترتد قريش !
وقد رواها ابن هشام « 2 / 549 » وفيها أبيات في إنكارالآخرة قال :
« يخبرنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ » !
ورواها ابن حجر في الإصابة « 7 / 39 » عن الفاكهي في كتاب مكة وفيه : « شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول : فذكر الأبيات . فبلغ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبي‌بكر ، فلما نظر إلى وجهه محمراً ، قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله ! والله لا يلج لنا رأسا أبداً ! فكان أول من حرمها على نفسه ! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، ورثى قتلى بدر من المشركين » !
وفي فتح الباري : 10 / 31 ، أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت أبي طلحة ، وكانوا أحد عشر صحابياً ، وكان ساقيهم أنس بن مالك ! ثم قال : « ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس : كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة . ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس ، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً ، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم ، وأبهمهم في رواية سُلَيْمان التيمي عن أنس . ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس ، أن أبا بكر وعمر كانا فيهم ! وهو منكر ، مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطاً » !
--------------------------- 142 ---------------------------
يقصد أن سنده صحيح ، لكن مكانة الشيخين كبيرة فهو مستنكر ! لكن الحديث إذا صح فلا قيمة لاستغراب معناه !
والأشد من ذلك أن القصةكانت قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشهر أو شهرين ! لأن آية : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، من سورة المائدة ، وهي آخر سورة نزلت من القرآن !
وروى البخاري في صحيحه « 4 / 263 » : « عن عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر ، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، الذي قال هذه القصيدة ، ورثى كفار قريش :
وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام
تحييْ بالسلامة أم بكر * وهل لي بعد قومي من سلام
يحدثنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام »
لكن عائشة لم تحل المشكلة ، لأنهما نفت نظم أبيها للقصيدة ولم تنف إنشاده لها ! وكأن المهم عندها نفي نظمه لها ، لأنها تثبت كفر ناظمها ، أما إنشادها فأقل مصيبةً !
وروى ابن حجر في الإصابة « 7 / 39 » أنها « كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول : والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولكن تزوج امرأة من بني كنانة ثم بني عوف فلما هاجرطلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، أبو بكر بن شعوب ، فقال هذه القصيدة يرثي كفار قريش الذين قتلوا ببدر ! راجع في الموضوع : أمالي الطوسي / 737 ، ورواها بسبعة أبيات ، وابن هشام : 2 / 549 ، رواها بتسعة أبيات ، والغدير : 6 / 251 ، و 7 / 96 و : 7 / 95 ، وفتح الباري : 10 / 30 ، وقد أطال في الموضوع ودافع بما يستطيع ، لكن كلامه فيه تعجب وحيرة ، وسيرة ابن كثير : 2 / 535 ، ومستدرك الوسائل : 17 / 83 ، والسقيفة أم الفتن / 74 ، وفيض القدير : 1 / 117 ، والإصابة : 7 / 38 ، والصحيح من السيرة : 5 / 301 و 304 ، ومجمع الزوائد : 5 / 51 ، والهداية الكبرى / 106 ، وأمالي المرتضى : 2 / 18 ، والنص والاجتهاد / 311 ، وأحاديث الشعر للمقدسي / 57 ، والنهاية : 3 / 412 ، وتفسير الثعلبي : 2 / 142 ، والإصابة : 7 / 38 .
--------------------------- 143 ---------------------------

11 . فاعجب ثم أعجب من تناقض القرشيين :

فهم يريدون خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثأراً لبدر ! ثم يطالبون بثأر بدر ! ولولا معركة بدر لما كان إسلامٌ ولا خلافةٌ يجلسون على كرسيها ! والذي يجلس على كرسي خلافة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يفترض أنه مسلم ، وأنه إلى جانب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في معركة بدر وضد من قاتله من المشركين ! لكن تعقيد الشخصية القرشية جعلتهم يتبنون نتيجة بدر التي منها الخلافة ، ويتبنون « مناحة قومهم » على قتلى بدر ، لأنها تنفعهم
ضد بني هاشم !
قال عمر لابن عباس في محاورته الشهيرة : « كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجخفوا جخفاً « تكبراً » فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت . . أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول » ! « تاريخ الطبري : 3 / 288 ، وشرح النهج : 6 / 50 ، وجمهرة الأمثال : 1 / 339 ، والعقد الفريد / 1378 » .
وقال لابن عباس مرة : « يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوماً ، فقلت : أردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة ، ثم وقف فلحقته فقال : يا ابن عباس ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه ، فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك ! فأعرض عني » ! ( التحفة العسجدية / 144 ) . فاعجب لخليفة يدين منطق الإسلام ، الذي يلبس ثوبه ، ويحكم بإسمه !
12 . وعندما تقوم « الخلافة » على الثأر من بني هاشم :
فطبيعي أن تقوم بقتل الأئمة من عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتقمع شيعتهم ، وتبيد مصادر مذهبهم ! وهذه هي سياسة الخلافة منذ تأسيسها إلى اليوم ! ولذلك قال علي ( عليه السلام ) لقريش : « لعمر أبي وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة ، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد » . « الإحتجاج : 1 / 127 » .
ولما سألت أم‌سلمة فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « المناقب : 2 / 49 » : « كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ فقالت : أصبحت بين كمد وكرب ! فُقِدَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وظُلِمَ الوصي ،
--------------------------- 144 ---------------------------
وهُتك والله حجابه ، وأصبحت إمامته مقتصة على غير ما شرع الله في التنزيل ، وسنها النبي في التأويل ! ولكنها أحقاد بدرية وتِرات أحدية ، كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة ، فلما استهدف الأمر ، أرسلت علينا شآبيب الآثارمن مخيلة الشقاق » !
وفي تاريخ الطبري : 8 / 187 : « طلب يزيد بثارات المشركين عند المسلمين ، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ، ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها ! ( أشنع منها كربلاء قبلها ) وشفى بذلك حقد نفسه وغليله ، وظن أن قد انتقم من أولياء الله وبلغ النوى لأعداء الله ، فقال مجاهراً بكفره ، ومظهراً لشركه :
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتكم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل !
هذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه » !
* *
--------------------------- 145 ---------------------------

الفصل السادس: تزويج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . كثرة المكذوبات ضد علي ( عليه السلام ) في أحاديث زواجه بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )
تبلغ روايات زواج علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مصادر الطرفين نحو مئة صفحة ، وفيها روايات ضعيفة السند ، وبعضها لغتها عامية ، وبعضها فيها حشو وأمور غير معقولة ، وبعضها مسمومة وضعها خصوم علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مثل قولهم إن علياً ( عليه السلام ) أراد البناء بها فمنعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له إنك لم تعطها شيئاً ، فقال له : ما عندي شئ فأعطيها ! فقال له : أعطها درعك الحطمية التي أعطيتك إياها في بدر ، فأعطاها إياها ، أو باعها بأربعة دراهم !
وقولهم إنها اشتكت إلى أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنك زوجتني بغير الكفؤ ، فسكَّن غضبها ! وقولهم إنه خطب بنت أبي جهل عليها فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصعد المنبر وهدده بطلاق ابنته فاطمة !
وقولهم إن علياً كان يؤذي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد رد عليهم الشريف المرتضى بقوله : « إن الله تعالى هو الذي اختار علياً لفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكيف يختار لها من يؤذيها ويغمها » ! « الشافي : 2 / 277 » . ويدل كذبهم على علي حتى في زواجه بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على شدة حساسيتهم منه وحسدهم له !
وقد كتبنا في المجلد الثاني من السيرة النبوية فصلاً بعنوان زواج علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونركز هنا على ما يتصل بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ونترك التفصيل لسيرة الصديقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .

2 . خَطَبَها كبار الصحابة فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

روى الجميع أن أبا بكر وعمر وغيرهما خطبوا الزهراء ( عليها السلام ) ، فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال ابن سعد في الطبقات : 8 / 19 : « إن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا أبا بكر
--------------------------- 146 ---------------------------
أنتظر بها القضاء ، فذكر ذلك أبو بكر لعمر فقال له عمر : ردك يا أبا بكر .
ثم إن أبا بكر قال لعمر : أخطب فاطمة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطبها فقال له مثلما قال لأبي‌بكر : أنتظر بها القضاء ، فجاء عمر إلى أبي‌بكر فأخبره فقال : له ردك يا عمر » !
وفي تذكرة الخواص / 276 ، عن أحمد في الفضائل : « فقال رسول الله : إنها صغيرة ، وإني أنتظر بها القضاء ، فلقيه عمر فأخبره ، فقال : ردك ، ثم خطبها عمر فرده » .
وفي سنن النسائي « 6 / 62 » : « فقال رسول الله : إنها صغيرة فخطبها علي فزوجها منه » .
وفي مجمع الزوائد « 9 / 204 » عن الطبراني الكبير « 22 / 408 » ووثقه : « خطب أبو بكر وعمر فاطمة فقال النبي : هي لك يا علي » .
وفي المناقب : 3 / 122 : « اشتهر في الصحاح بالأسانيد عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر الأنصاري ، وأنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وأم‌سلمة ، بألفاظ مختلفة ومعان متفقة ، أن أبا بكر وعمر خطبا إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرة بعد أخرى فردهما . وروى ابن بطة في الإبانة أنه خطبها عبد الرحمن فلم يجبه . وفي رواية غيره أنه قال : بكذا من المهر ، فغضب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومد يده إلى حصى فرفعها فسبحت في يده ، وجعلها في ذيله فصارت دراً ومرجاناً ، يعرض به جواب المهر » .
أقول : معنى قول عبد الرحمن بن عوف : بكذا من المهر أنه عرض على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مبلغاً كبيراً مهراً لفاطمة ( عليها السلام ) ، فأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لسنا من نوعكم نهتم بالمهر والمال ونزوج بناتنا بهذا المقياس ، بل قضيتنا فوق ذلك .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 203 : « عن علي ( عليه السلام ) قال : قال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لقد عاتبتني رجال قريش في أمر فاطمة ، وقالوا : خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت علياً ؟ ! فقلت لهم : والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله تعالى منعكم وزوجه ! فهبط عليَّ جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله جل جلاله يقول : لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض ، آدم فمن دونه » ! وفي كشف الغمة « 2 / 100 » : « إن الله عز وجل زوجك فاطمة ( عليها السلام ) ، وجعل صداقها الأرض ، فمن مشى عليها مبغضاً لها مشى حراماً » .
--------------------------- 147 ---------------------------

3 . أيها الرسول : زوج النور من النور

نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يأمره أن يزوج النور من النور ، أي علياً من فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يخطب فطلب منه يد فاطمة ( عليها السلام ) ، وأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالقبول ، وأخبر المسلمين باحتفال الملأ الأعلى بعرسهما .
ثم باع علي ( عليه السلام ) درعه وجاء بثمنه مهراً وأعطاه للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأعطى منه قبضة إلى أم‌سلمة وأم أيمن لشراء لوازم عرس الزهراء ( عليها السلام ) ، وقبضة لسلمان وأبي‌بكر ، لشراء لوازم المنزل . ثم أمر الصحابة والصحابيات بتهيئة المنزل .
وبقيت الزهراء بعد عقد زواجها مدة في بيت أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم أقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مراسم زفافها ، فأولم وليمة كبيرة لم يحدث التاريخ بأوسع منها في سيرة الأنبياء ( عليهم السلام ) . والأحاديث في مراسم زواج الزهراء ( عليها السلام ) عديدة ، اخترنا نماذج منها :
في المناقب « 3 / 123 » وتاريخ بغداد « 4 / 432 » : « طلع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجهه مشرق كالبدر ، فسأله ابن عوف عن ذلك فقال : بشارة أتتني من ربي لأخي وابن عمي وابنتي ، واللهُ زوج علياً بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي ، وأنشأ من تحتها ملائكة من نور ، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار ، بأخي وابن عمي وابنتي ، فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي . فدعاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما كان من همتي تزويجك ، أتاني جبرئيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها ، فتناولتهما وأخذتهما فشممتهما ، فقلت : ما سبب هذا السنبل والقرنقل ؟ قال : إن الله أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها ، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها ، وأمر ريحها فهبت بأنواع العطر والطيب ، وأمر حور عينها بالقراءة فيها طه ويس وطواسين وحم وعسق ، ثم نادى مناد من تحت العرش : ألا إن اليوم يوم وليمة علي ، ألا إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من علي ، رضاً مني ببعضهما لبعض . ثم بعث الله سبحانه سحابة بيضاء فقطرت من لؤلؤها وزبرجدها ويواقيتها ، وقامت الملائكة فنثرن من سنبلها وقرنفلها ،
--------------------------- 148 ---------------------------
وهذا مما نثرت الملائكة » .
وفي حديث خباب بن الأرت : أن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل : زوج النور من النور وكان الولي الله ، والخطيب جبرئيل ، والمنادي ميكائيل ، والداعي إسرافيل ، والناثر عزرائيل ، والشهود ملائكة السماوات والأرضين . ثم أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما عليك ، فنثرت الدر الأبيض ، والياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر ، واللؤلؤ الرطب ، فبادرن الحورالعين يلتقطن ، ويهدين بعضهن » .
وقال أنس بن مالك : « كنت قاعداً عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغشيه الوحي فلما سُرِّيَ عنه قال : أتدري يا أنس ما جاء به جبريل من عند صاحب العرش ؟ قلت : بأبي وأمي ! وما جاء به جبريل من عند صاحب العرش ؟ قال : إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي » . « تاريخ دمشق : 37 / 13 ، ونحوه كبير الطبراني : 10 / 156 ، والزوائد : 9 / 204 ، والمناقب لابن مردويه / 196 ، والجامع الصغير : 1 / 258 ، وكنز العمال : 11 / 606 ، و 13 / 671 ، والكشف الحثيث / 174 ، وجواهر المطالب : 1 / 155 ، وسبل الهدى : 11 / 38 ، والحلبية : 2 / 471 ، وغيرها ، وصححوه » .
وفي تعبير : زوج النور من النور سرٌّ لطيف ، لأن نور النبوة صار جزءين وافترق في عبد الله وأبي طالب : جزء للنبوة ، وجزء للإمامة ، ثم اجتمع في الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 1 / 442 » : « إن الله كان إذ لا كان ، فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار ، الذي نورت منه الأنوار ، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار ، وهو النور الذي خلق منه محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلياً ( عليه السلام ) ، فلم يزالا نورين أولين ، إذ لا شئ كون قبلهما ، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة ، حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب ( عليهم السلام ) » . وقال القاضي سعيد في شرح توحيد الصدوق « 2 / 79 » : « وعندها يتحد النوران اللذان اقتسما في عبد الله وأبي طالب ، رضي الله عنهما » .

4 . لماذا تولى الله أمر فاطمة ( عليها السلام ) دون أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) )

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ . والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والد الزهراء ( عليها السلام ) وولي أمرها ، فكيف لا تكون له ولاية عليها ويقول لمن يخطبها أمرها لله تعالى وليس له !
لا جواب لذلك إلا أنه كان مأموراً بذلك !
--------------------------- 149 ---------------------------
روى في الكافي : 5 / 568 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم ، إلا فاطمة ، فإن تزويجها نزل من السماء » .
وفي كشف الغمة : 1 / 363 ، من كلام أبي‌بكر قال : « قد خطبها الأشراف من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : إن أمرها إلى ربها ، إن شاء أن يزوجها زوجها » . وهذا يدل على أنها كانت منذورة لله تعالى كمريم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أو أنه أمر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يترك أمرها له ! وهذا مقام عظيم لم يبلغه قبلها رجل ولا امرأة !
وقد حاول بعضهم أن ينتقص من مقامها ( عليها السلام ) ويعمم هذه الفضيلة ، فروى الحاكم : « 4 / 49 » أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « ما أنا أزوج بناتي ولكن الله تعالى يزوجهن » . لكنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زوج زينب وأم‌كلثوم ورقية ، ولم يقل إن أمرهن لله تعالى وليس له !
ويشبه ذلك ما رواه الحاكم : 2 / 201 ، عن عروة عن خالته عائشة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال عن ابنته أو ربيبته زينب : « هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ . فبلغ ذلك علي بن الحسين ( عليه السلام ) فانطلق إلى عروة فقال : ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة ( عليها السلام ) ؟ فقال : والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها ! وأما بعد ، فلك أن لا أحدث به أبداً . قال عروة : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ . . » .
أي اعتذرعروة عن خالته عائشة بأنها قالت إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال عن زينب بنتي ، قبل نزول النهي عن نسبة الربيبة . ومعناه أن زينب ربيبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وليست بنته .
ومهما يكن ، فلم يقل عن غير فاطمة ( عليها السلام ) إن أمرها ليس بيدي !

5 . من الروايات القوية في زواج علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

تقول بعض الروايات أن علياً ( عليه السلام ) خطب فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبعضها ضعيف السند ، وبعضها لغته عامية ، ولو صح أنه بادر إلى خطبتها فذلك بأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه قال كما في الترمذي ( 4 / 361 ) : ( يا بريدة إن علياً وليكم بعدي ، فأحِبَّ علياً ، فإنما يفعل ما يؤمر ) .
ومن أصح النصوص وأجمعها ما كتبه ابن شهرآشوب ( رحمه الله ) في مناقب آل أبي طالب
--------------------------- 150 ---------------------------
( 3 / 122 ) نختار منها قوله : « أتى سلمان إليه ( إلى علي ) وقال أجب رسول الله ، فلما دخل عليه قال : أبشر يا علي فإن الله قد زوجك بها في السماء قبل أن أزوجكها في الأرض ، ولقد أتاني ملك وقال : أبشر يا محمد باجتماع الشمل وطهارة النسل ، قلت : وما اسمك ؟ قال : نسطائيل من موكلي قوائم العرش ، سألت الله هذه البشارة وجبرئيل ، على أثري .
أبو بريدة عن أبيه : إن علياً خطب فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مرحباً وأهلاً . فقيل لعلي : يكفيك من رسول الله إحداهما ، أعطاك الأهل وأعطاك الرحب .
قال الأصفهاني :
أمْ مَن بسيدة النساء قضى له * ربي فأصبح أسعد الأختان
من بعد خطاب أتوه فردهم * رداً يبين مضمر الأشجان
فأبان منعهما وقال صغيرة * تزويجها في سنها لم يان
حتى إذا خطب الوصي أجابه * من غير تورية ولا استيذان
فالله زوجه وأشهد في العلا * أملاكه وجماعة السكان
والله قدر نسله من صلبه * فلذا لأحمد لم يكن بنتان
تاريخ بغداد بالإسناد عن بلال بن حمامة : اطلع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجهه مشرق كالبدر ، فسأل ابن عوف عن ذلك ، فقال : بشارة أتتني من ربى لأخي وابن عمي وابنتي ، والله زوج علياً بفاطمة ، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى ، فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي : وأنشأ من تحتها ملائكة من نور ، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار بأخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي .
وفي رواية : في الصكوك براءة من العلي الجبار ، لشيعة علي وفاطمة من النار .
عبد الرزاق باسناده إلى أم أيمن في خبر طويل عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وعقد جبرئيل وميكائيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في السماء نكاح علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكان جبرئيل المتكلم عن علي وميكائيل الراد عني . قال الحميري :
نصب الجليل لجبرئيل منبراً * في ظل طوبى من متون زبر جد
شهد الملائكة الكرام وربهم * وكفى بهم وبربهم من شهد
--------------------------- 151 ---------------------------
وتناثرت طوبى عليهم لؤلؤاً * وزمرداً متتابعاً لم يعقد
وملاك فاطمة الذي ما مثله * في متهم شرف ولا في منجد
وله أيضاً :
والله زوجه الزكية فاطماً * في ظل طوبى مشهداً محضورا
كان الملائك ثم في عدد الحصى * جبريل يخطبهم بها مسرورا
يدعو له ولها وكان دعاؤه * لهما بخير دائماً مذكورا
حتى إذا فرغ الخطيب تتابعت * طوبى تساقط لؤلؤاً منثورا
وتهيل ياقوتاً عليهم مرة * وتهيل دراً تارة وشذورا
فترى نساء الحور ينتهبونه * حوراً بذلك يهتدين الحورا
فإلى القيامة بينهن هدية * ذاك النثار عشية وبكورا
وقال خطيب منبج :
ملاك كانت الأملاك فيه * لتزويج الزكية شاهدينا
وكان وليها جبريل منهم * وميكائيل خير الخاطبينا
وزخرفت الجنان فظل فيها * لها ولدانها متنزينينا
وكان نثارها حللاً وحلياً * وياقوتاً ومرجاناً ثمينا
وعقياناً وحور العين فيها * وولدان كرام لاقطونا
وكان من النثار كما روينا * صكاك ينتشرن وينطوينا
بها للشيعة الأبرار عتق * جرى من عند رب العالمينا
وكان بين تزويج أمير المؤمنين وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في السماء إلى تزويجها في الأرض أربعين يوماً ، زوجها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من علي أول يوم من ذي الحجة ، وروي أنه كان يوم السادس منه .
كتاب ابن مردويه ، قال ابن سيرين ، قال عبيدة : إن عمر بن الخطاب ذكر علياً فقال : ذاك صهر رسول الله ، نزل جبرئيل على رسول الله فقال : إن الله يأمرك أن تزوج فاطمة من علي .
--------------------------- 152 ---------------------------
الضحاك : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لفاطمة ( عليها السلام ) : إن علي بن أبي طالب ممن قد عرفت قرابته وفضله من الإسلام ، وإني سألت ربي أن يزوجك خيرخلقه وأحبهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين ؟ فسكتت ، فخرج رسول الله وهو يقول : الله أكبر ،
سكوتها إقرارها .
وخطب النبي على المنبر في تزويج فاطمة خطبة رواها يحيى بن معين في أماليه ، وابن بطة في الإبانة ، بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعاً ، ورويناها عن الرضا فقال : الحمد الله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع في سلطانه ، المرغوب إليه فيما عنده ، المرهوب من عذابه ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، خلق الخلق بقدرته ، وميزهم بأحكامه ، وأعزهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمد ، إن الله تعالى جعل المصاهرة نسباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً ، وشَّج بها الأرحام ، وألزمها الأنام ، قال الله تعالى : وَهُوَالَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا . ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي ، وقد زوجتها » .
وفي روضة الواعظين / 144 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أتاني رسول رسول لله فقال لي : أجب النبي وأسرع ، فما رأينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد فرحاً منه اليوم ! قال : فأتيته مسرعاً فقال : أبشر يا علي فإن الله تعالى قد كفاني ما كان من همي من أمر تزويجك . قلت : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : أتاني جبرئيل ومعه سنبل الجنة وقرنفلها فناولنيهما ، فأخذتهما فشممتهما فقلت : ما سبب هذا السنبل والقرنفل ؟ فقال : إن الله تعالى أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها ، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها ، ثم نادى مناد : ألا يا ملائكتي وسكان جنتي ، باركوا علي بن أبي طالب حبيب محمد وفاطمة بنت محمد ، فقد باركت عليهما .
قال علي فقلت : يا رسول الله بلغ من قدري حتى أني ذكرت في الجنة وزوجني الله في ملائكته . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله تعالى إذا أكرم وليه وأحبه ، أكرمه بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ، فاختار الله لك يا علي . فقلت : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ . . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : آمين » .
--------------------------- 153 ---------------------------

6 . خطبة علي ( عليه السلام ) الرسمية وجواب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال في مناقب آل أبي طالب « 3 / 126 » : « وخطب النبي على المنبر في تزويج فاطمة ( عليها السلام ) خطبة ، رواها يحيى بن معين في أماليه ، وابن بطة في الإبانة بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعاً ، ورويناها عن الرضا ( عليه السلام ) . وروى ابن مردويه قال لعلي : تكلم خطيباً لنفسك ، فقال : الحمد لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ، ووعد الجنة من يتقيه ، وأنذر بالناس من يعصيه ، نحمده على قديم إحسانه وأياديه ، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومميته ومحييه ، ومسائله عن مساويه ، ونستعينه ونستهديه ، ونؤمن به ونستكفيه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبلغه وترضيه ، وأن محمداً عبده ورسوله ، صلاة تزلفه وتخطيه ، وترفعه وتصطفيه . والنكاح ما أمر الله به ورضيه ، واجتماعنا مما قدره الله وأذن فيه ، وهذا رسول الله زوجي ابنته فاطمة على خمس مائة درهم وقد رضيت ، فاسألوه واشهدوا . وفي خبر : زوجتك ابنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن ، وقد رضيت بما رضي الله لها ، فدونك أهلك فإنك أحق بها مني . وفي خبر : فنعم الأخ أنت ، ونعم الختن أنت ، ونعم الصاحب أنت ، وكفاك برضى الله
رضاً . فخر عليٌّ ساجداً شكراً لله تعالى وهو يقول : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ .
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : آمين » .

7 . الاحتفال بعرس فاطمة ( عليها السلام ) في السماء

في تفسير العياشي : 2 / 211 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « أمر الله طوبى فنثرت عليهم من حللها وسندسها ، وإستبرقها ، ودرها ، وزمردها ، وياقوتها ، وعطرها ، فأخذوا منه حتى ما دروا مايصنعون به . ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة ( عليها السلام ) ، فهي في دار علي بن أبي طالب » .
وفي المناقب « 3 / 128 » : « قيل لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد علمنا مهر فاطمة في الأرض
--------------------------- 154 ---------------------------
فما مهرها في السماء فقال : سل ما يعنيك ودع ما لا يعنيك . قيل : هذا مما يعنينا يا رسول الله ، قال : كان مهرها في السماء خمس الأرض ، فمن مشى عليها مبغضاً لها أو لولدها ، مشى عليها حراماً إلى أن تقوم الساعة » .
وفي تاريخ دمشق « 42 / 126 » : « عن جابر بن عبد الله قال : دخلت أم أيمن على النبي وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك لا أبكى الله عينيك ؟ قالت : بكيت يا رسول الله لأني دخلت منزل رجل من الأنصار قد زوج ابنته رجلاً من الأنصار ، فنثر على رأسها اللوز والسكر ، فذكرت تزويجك فاطمة من علي بن أبي طالب ولم ينثر عليها شيئاً ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا تبكي يا أم أيمن فوالذي بعثني بالكرامة واستخصني بالرسالة ما أنا زوجته ولكن الله زوجه ، ما رضيت حتى رضي علي ، وما رضيت فاطمة حتى رضي الله رب العالمين . يا أم أيمن ، إن الله لما أن زوج فاطمة من علي أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش فيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وأمر الجنان أن تزخرف فتزخرفت ، وأمر الحور العين أن يتزينَّ فتزينَّ ، وكان الخاطب الله وكان الملائكة الشهود ! ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر فنثرت عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الياقوت الأحمر مع الزبرجد الأخضر ، فابتدر حور عين من الجنان يرفلن في الحلي والحلل يلتقطنه ، ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد ، فهن يتهادينه
بينهن إلى يوم القيامة » .
أقول : كلام أم أيمن عن المرحلة الأولى من عرس فاطمة ( عليها السلام ) ، فقد ورد أنهم نثروا في عرسها : « فخرج مولى لأم‌سلمة زوجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنثر سكراً ولوزاً ، ونثر الناس من كل جانب » . » الهداية الكبرى / 115 « .

8 . تهيئة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منزل فاطمة وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

روى الطبراني في الأوسط : 6 / 290 ، وابن ماجة : 1 / 615 : « عن عائشة وأم‌سلمة قالتا : أمرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي ، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء ، ثم حشونا مرفقتين ليفاً ، فنفشناه بأيدينا ، ثم أطعمنا
--------------------------- 155 ---------------------------
تمراً وزبيباً وسقينا ماء عذباً ، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ، ويعلق عليه السقاء . فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة » .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يسكن في بيت مع أمه فاطمة بنت أسد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعندما تزوج انتقل إلى بيته الجديد وسكنت معه والدته ( عليها السلام ) . ففي ذخائر العقبى / 51 1 : « قال علي لأمه فاطمة بنت أسد : إكف بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الخدمة خارجاً : سقاية الماء والحاجة ، وتكفيك العمل في البيت : العجن والطحن » .

9 . أثاث بيت علي وفاطمة ( عليها السلام )

في المناقب : 3 / 127 : « قال الصادق ( عليه السلام ) : وسكب الدراهم في حجره ، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين ، إلى أم أيمن لمتاع البيت ، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب ، وقبضة إلى أم‌سلمة للطعام ، وأنفذ عماراً وأبا بكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها . وكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم ، وخمار بأربعة دراهم ، وقطيفة سوداء خيبرية وسرير مزمل بشريط ، وفراشان من خيش مصر ، حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم ، وأربع مرافق من أدم الطايف ، حشوها إذخر ، وستر من صوف ، وحصير هجري ، ورحاء اليد ، وسقاء من أدم ، ومِخْضَب من نحاس ، وقَعْب للبن ، وشِنٌّ للماء ، ومطهرة مزفَّتة ، وجرة خضراء ، وكيزان خزف . . ونطع من أدم ، وعباء قطراني ، وقربة ماء » . إلى آخره .

10 . كانت وليمة الزفاف بعد شهر من العقد

أقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأمر ربه عرساً لفاطمة وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا نظير له في تاريخ الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فقد زوج بناته أو ربيباته قبل فاطمة ( عليها السلام ) وبعدها ، وتزوج هو ، وكانت احتفالاته مختصرة ، يدعو من حضر إلى طعام من تمر وسمن وما شابه . لكن عرس علي وفاطمة كان وليمة عامة مدَّ السفر للناس في المسجد !
ففي مناقب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لأبي‌بكر بن مردويه / 198 ، ومناقب ابن شهرآشوب « 3 / 129 » : « في حديث : فمكث علي تسعة وعشرين ليلة ، فقال له جعفر
--------------------------- 156 ---------------------------
وعقيل : سله أن يدخل عليك أهلك ، فعرفت أم أيمن ذلك وقالت : هذا من أمر النساء فخلت به أم‌سلمة فطالبته بذلك ، فدعاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : حباً وكرامة ، فأتى الصحابة بالهدايا ، فأمر بطحن البُر وخبزه ، وأمر علياً ( عليه السلام ) بذبح البقر والغنم ، فكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُفَصِّل « الذبيحة » ولم يُرَ على يده أثر دم ! فلما فرغوا من الطبخ أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن ينادى على رأس داره : أجيبوا رسول الله وذلك كقوله تعالى : وأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجّ « فسمع الناس دعوته » فأجابوا من النخلات والزروع ، فبسط النطوع في المسجد وصَدَر الناس ، وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وسائر نساء المدينة ، ورفعوا منها ما أرادوا ، ولم ينقص من الطعام شئ ! ثم عادوا في اليوم الثاني وأكلوا ! وفي اليوم الثالث أكلوا مبعوثة أبي أيوب ، ثم دعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالصحاف فملئت ووجه إلى منازل أزواجه ، ثم أخذ صحفة وقال : هذا لفاطمة وبعلها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ثم دعا فاطمة ، وأخذ يدها فوضعها في يد علي وقال : بارك الله لك في ابنة رسول الله يا علي نعم الزوج فاطمة ويا فاطمة نعم البعل علي ) .
وفي مناقب آل أبي طالب « 1 / 114 » : « وأتى أبو أيوب بشاة إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عرس فاطمة فنهاه جبرئيل ( عليه السلام ) عن ذبحها ، فشق ذلك عليه فأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زيد بن جبير الأنصاري فذبحها بعد يومين ، فلما طبخ أمر ألا يأكلوا إلا باسم الله وأن لا يكسروا عظامها ، ثم قال : إن أبا أيوب رجل فقير ، إلهي أنت خلقتها وأنت أفنيتها وإنك قادر على إعادتها ، فأحيها يا حي لا إله إلا أنت . فأحياها الله وجعل فيها بركة لأبي أيوب وشفاء المرضى في لبنها ، فسماها أهل المدينة المبعوثة . وفيها قال عبد الرحمن بن عوف أبياتاً منها :
ألم ينظروا شاة ابن زيد وحالها * وفي أمرها للطالبين مزيد
وقد ذبحت ثم استُجِرَّ إها بها * وفصَّلها فيما هناك يزيد
وأنضج منها اللحم والعظم والكلى * فهلهله بالنار وهو هريد
فأحيى له ذو العرش والله قادر * فعادت بحال . ما يشاء يعود
--------------------------- 157 ---------------------------

11 . زفاف علي ( عليه السلام ) بعد رجوعه من بدر

كان عقد زواجهما ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في السنة الأولى من الهجرة كما روى ابن سعد واليعقوبي ، وزفافهما في السنة الثانية في ذي الحجة ، كما نصت رواية ابن المسيب قال : « فقلت لعلي بن الحسين ( عليه السلام ) : فمتى زوج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقال : بالمدينة بعد الهجرة بسنة ، وكان لها يومئذ تسع سنين » . « الكافي : 8 / 338 » . ومعنى تسع سنين أنها دخلت في العاشرة ، لأن ولادتها في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة ، أي بعد أربع سنوات ونصف من البعثة التي كانت في رجب نصف السنة فحسبت سنة ، ويكون عمرها ( عليها السلام ) عند هجرتها في ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة من بعثته نحو ثمان سنين ، وعمرها عند زواجها في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة نحو تسع سنين ونصفاً ، وولدت الحسن ( عليه السلام ) وعمرها نحو عشر سنوات ونصفاً .
وروى ابن سعد ( 8 / 22 ) : « تزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في رجب بعد مقدم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة بخمسة أشهر ، وبنى بها مرجعه من بدر » .
ويؤيد ذلك رواية اليعقوبي « 2 / 41 » قال : « زوجها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من علي بعد قدومه بشهرين ، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما زوجها علياً قالوا في ذلك ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أنا زوجته ولكن الله زوجه » .
* *
وفي الكبير للطبراني « 22 / 408 » : « عن عبد الله بن مسعود قال : سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سمعته في غزوة تبوك يقول ونحن نسير معه : إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففعلت ، قال جبريل : إن الله بني جنة من لؤلؤة « ووصفها بتفصيل » قلت : يا جبريل لمن بنى الله هذه الجنة ؟ قال : بناها لفاطمة ابنتك وعلي بن أبي طالب ، سوى جنانها ، تحفة أتحفها وأقر عينيك يا رسول الله » .
وفي الإصابة : 8 / 265 : « وأخرج الدولابي في الذرية الطاهرة بسند جيد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة بني علي بفاطمة : لا
--------------------------- 158 ---------------------------
تحدث شيئاً حتى تلقاني فدعا بماء فتوضأ منه ثم أفرغه عليهما وقال : اللهم بارك فيهما وبارك عليهما ، وبارك لهما في نسلهما » .
وفي شرح الأخبار : 2 / 358 : « ثم قال : يا أسماء ، إملئي لي مخضب ماء وآتيني به فملأت وأتته به ، فأخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منه ومجَّه في فيه ، ثم غسل فيه وجهه وقدميه ، ودعا فاطمة ( عليها السلام ) فأخذ كفاً من ذلك الماء فنضحه على صدرها ، وأخذ كفاً ثانياً فنضحه على ظهرها ، ثم أمرها أن تشرب بقية الماء . ثم دعا بعلي ( عليه السلام ) فصنع به مثل ذلك ، ثم قال : اللهم إنهما مني وأنا منهما ، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني ، فأذهبه عنهما وطهرهما . ثم قال : قُوما إلى بيتكما جمع الله بينكما ، وبارك لكما في نسلكما ، وأصلح بالكما . قالت أسماء : إنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يزل يدعو لهما لم يشرك في دعائه أحداً حتى توارى في حجرته » . وكشف الغمة : 1 / 382 ، وكشف اليقين / 198 ، وينابيع المودة : 2 / 64 ، والمناقب : 3 / 131 .
وفي رواية أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعا لهما : « اللهم إنهما مني وأنا منهما ، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرهما . . . اللهم اجمع شملهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم . اللهم بارك فيهما وبارك عليهما ، وأنت وليهما في الدنيا والآخرة » . « مناقب أمير المؤمنين : 2 / 203 ) .
وفي الكبير للطبراني « 22 / 409 » : « فجاءت مع أم أيمن فقعدت في جانب البيت وأنا في جانب فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : هاهنا أخي ؟ فقالت : أم أيمن أخوك قد زوجته بنتك ! فدخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لفاطمة ائتيني بماء ، فقامت إلى قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به ، فمج فيه ثم قال لها : قومي فنضح بين ثدييها وعلى رأسها . ثم قال : اللهم أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، ثم قال لها أدبري فأدبرت فنضح بين كتفيها ، ثم قال : اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ثم قال ائتيني بماء فعملت الذي يريده ، فملأت القعب ماء فأتيته به فأخذ منه بفيه ثم مجه فيه ، ثم صب على رأسي وبين يدي ، ثم قال : اللهم إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم ، ثم قال : أدخل على أهلك بسم الله والبركة » .
* *
--------------------------- 159 ---------------------------

الفصل السابع: علي ( عليه السلام ) بطل معركة أحُد

1 . انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولى

في صبيحة يوم السبت تصف شوال سنة ثلاث للهجرة ، صفَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المسلمين في أحُد ، ووضع الرماة شرقي جبل عينين . « ابن إسحاق : 3 / 301 » .
وفي تفسير القمي « 1 / 112 » : « كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري فبرز ونادى : يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليَّ ! فبرز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول :
ياطلحُ إن كنت كما تقولُ * لنا خيولٌ ولكم نُصول
فاثبت لننظر أينا المقتول * وأيُّنا أولى بما تقول
فقد أتاك الأسد الصؤول * بصارم ليس به فلول
ينصره القاهر والرسولُ
فقال طلحة : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : قد علمتُ يا قُضَيْم أنه لايَجسر عليَّ أحد غيرك ! فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالجحفة ، ثم ضربه على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره وسقطت الراية ! فذهب علي ( عليه السلام ) ليجهز عليه فحلَّفه بالرحم فانصرف عنه ، فقال المسلمون : ألا أجهزت عليه ؟ قال : قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً ! وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحه فقتله علي ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية على الأرض ، فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها الحارث بن
--------------------------- 160 ---------------------------
أبي طلحة فقتله علي ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض ، وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله علي ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها عبد الله بن أبي جميلة بن زهير فقتله علي ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية إلى الأرض !
فقَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التاسع من بني عبد الدار ! وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزةً ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على يمينه فقطعها ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين على شماله فقطعها ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ، ثم قال : يا بني عبد الدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم ؟ فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فقتله ، وسقطت الراية إلى الأرض ! فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها !
وحدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي : يا قُضَيْم ؟ قال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان بمكة لم يجسرعليه أحد لموضع أبي طالب ، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرمونه بالحجارة والتراب ، فشكى ذلك إلى علي ( عليه السلام ) فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك ، فخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتعرض الصبيان لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين ، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم ، فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون قضمنا عليٌّ قضمنا عليٌّ ! فسمي لذلك : القَضِيم » !
وقال ابن هشام ( 3 / 593 ) : « وأرسل رسول الله إلى علي بن أبي طالب : أن قدم الراية فتقدم عليٌّ فقال : أنا أبو القُضَم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين : أن هل لك يا أبا القضم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم ، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه عليٌّ فصرعه ، ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟ فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتني عنه الرحم ، وعرفت أن الله عز وجل قد قتله » .
وفي الكافي « 8 / 111 » أن خالد بن عبد الله القشيري أمير مكة سأل قتادة : » من الذي
--------------------------- 161 ---------------------------
يقول : أوفي بميعادي وأحمي عن حسب ؟ فقال : أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي من يبارز ؟ فلم يخرج إليه أحد فقال : إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فليبرزن إلي رجل يجهزني بسيفه إلى النار وأجهزه بسيفي إلى الجنة ، فخرج إليه علي بن أبي طالب وهو يقول :
أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب * وهاشم المطعم في العام السغب
فقال خالد : كذب لعمري ، والله أبو تراب ما كان كذلك ! فقال الشيخ : أيها الأمير إئذن لي في الانصراف ، قال : فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول : زنديق ورب الكعبة ، زنديق ورب الكعبة » !
أقول : هذا يدل على حرص السلطة على إخفاء جهاد علي ( عليه السلام ) . وقد ارتاعت قريش بقتل طلحة وأصحاب الألوية ، وتزعزعت صفوفها ، فلم يتقدم لحمل رايتهم إلا امرأة جمعتها عن الأرض ولم ترفعها ! فأصدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره بالحملة ، فتقدم علي وحمزة وأبو دجانة وحملوا ، فكانت هزيمة المشركين :
« فانكشف الكفار حينئذ عن المسلمين هاربين على غير انتظام ، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن . فلما نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلهم الذي أمروا أن لا يفارقوه ، فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير فلم ينتهوا وقالوا : ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ! فقال عبد الله : والله لا أجاوز أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وثبت مكانه مع أقل من عشرة ، فنظر خالد بن الوليد المخزومي إلى قلة من في الجبل من الرماة ، فكرَّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم ، ومثلوا بعبد الله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه ! وهجموا على المسلمين وهم غافلون ، وتنادوا بشعارهم يا للعزى يا لهُبل ، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون فكان البلاء ، وقتل حمزة سيد الشهداء وسبعون من صناديد المهاجرين والأنصار ، وأصيب النبي بأبي هو وأمي بجروح يقرح القلوب ذكرها ويهيج
--------------------------- 162 ---------------------------
الأحزان بيانها ، فجزاه الله عنا خيراً ما جزى نبياً عن أمته . وإنما كان هذا البلاء كله لمخالفة أوامره ونواهيه » . « الفصول المهمة / 114 » .

2 . هزيمة المسلمين بعد انتصارهم !

قال القمي في تفسيره « 1 / 111 » : « فانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة ، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه ، فلما رأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إني أنا رسول الله ، إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله » !
وفي تفسير فرات / 94 : « عن حذيفة قال : » جعل ينادي : أيها الناس أنا لم أمت ولم أقتل ، وجعل الناس يركب بعضهم بعضاً لايلوون على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا يلتفتون إليه : فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة ، فلم يكتفوا بالهزيمة حتى قال أفضلهم رجلاً في أنفسهم : قتل رسول الله ، فلما آيس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من القوم رجع إلى موضعه الذي كان فيه فلم يزل علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا دجانة ذهب الناس فالحق بقومك !
فقال أبو دجانة : يا رسول الله ما على هذا بايعناك وبايعنا الله ، ولا على هذا خرجنا يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه يَدُ اللَّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا دجانة أنت في حل من بيعتك فارجع ، فقال أبو دجانة : يا رسول الله لاتحدث نساء الأنصار في الخدور أني أسلمتك ورغبت نفسي عن نفسك . يا رسول الله لا خير في العيش بعدك . قال : فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحةً فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به .
قال : وعلي ( عليه السلام ) لا يبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله على يديه حتى انقطع سيفه ، فلما انقطع سيفه جاء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله انقطع سيفي ولا سيف لي ، فخلع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفه ذا الفقار فقلد ه علياً ، ومشى إلى جمع المشركين ، فكان لايبرز إليه أحد إلا قتله ، فلم يزل على ذلك حتى وهت دراعته ، فنظر رسول الله إلى السماء وقال : اللهم إن محمداً عبدك ورسولك جعلت لكل نبي وزيراً من أهله
--------------------------- 163 ---------------------------
لتشد به عضده وتشركه في أمره ، وجعلت لي وزيراً من أهلي ، علي بن أبي طالب أخي ، فنعم الأخ ونعم الوزير ، اللهم وعدتني أن تمدني بأربعة آلاف من الملائكة مردفين ، اللهم وعدك وعدك ، إنك لا تخلف الميعاد ، وعدتني أن تظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون .
قال : فبينما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعو ربه ويتضرع إليه ، إذ سمع دوياً من السماء فرفع رأسه فإذا جبرئيل ( عليه السلام ) على كرسي من ذهب ومعه أربعة آلاف من الملائكة مردفين وهو يقول : لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار ، فهبط جبرئيل على الصخرة وحفت الملائكة برسول الله فسلموا عليه ، فقال جبرئيل : يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى لقد عجبت الملائكة المقربون لمواساة هذا الرجل لك بنفسه . فقال : يا جبرئيل ما يمنعه يواسيني بنفسه وهو مني وأنا منه . فقال جبرئيل : وأنا منكما ، حتى قالها ثلاثاً . ثم حمل علي ، وحمل جبرئيل والملائكة ، ثم إن الله تعالى هزم جمع المشركين ، وتشتت أمرهم » .
وفي إمتاع الأسماع ( 1 / 144 ) : « وتفرق المسلمون في كل وجه ! وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا . ونادى إبليس عند جبل عينين ، وقد تصور في صورة جعال بن سراقة : إن محمداً قد قتل : ثلاث صرخات » !
وفي تفسير الطبري : 4 / 194 ، عن السدي قال : « فدخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها » ! وقال ابن إسحاق : 3 / 306 :
« قال الزبير : وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل ! فانكفأنا وانكفؤوا علينا » .

3 . ثبت مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول الأمر بضعة أشخاص

روى المفيد في الإرشاد : 1 / 80 ، عن ابن مسعود قال : « وثبت علي ( عليه السلام ) وأبو دجانة الأنصاري ، وسهل بن حنيف يدفعون عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكثر عليهم المشركون ، ففتح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عينيه فنظر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد كان أغمي عليه مما ناله فقال : يا علي ما فعل الناس ؟ قال : نقضوا العهد وولوا الدبر ، فقال
--------------------------- 164 ---------------------------
له : فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي ، فحمل عليهم علي ( عليه السلام ) فكشفهم ، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية أخرى فكر عليهم فكشفهم ، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد كل واحد منهما سيفه ليذب عنه . قال زيد بن وهب : قلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف ؟ ! قال : انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده ، وثاب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نفر ، وكان أولهم عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، ولحقهم طلحة بن عبيد الله . فقلت له : فأين كان أبو بكر وعمر ؟ قال : كانا ممن تنحى . قال قلت . فأين كان عثمان ؟ قال : جاء بعد ثلاثة من الوقعة ، قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لقد ذهبت فيها عريضة ! قال فقلت له : فأين كنت أنت ؟ قال : كنت فيمن تنحى ! قال فقلت له : فمن حدثك بهذا ؟ قال : عاصم وسهل بن حنيف . قال قلت له : إن ثبوت علي في ذلك المقام لعجب ! فقال : إن تعجبت من ذلك لقد تعجبت منه الملائكة ، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ! فقلت له : فمن أين علم ذلك من جبرئيل ؟ فقال : سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه فقال : ذاك جبرئيل .
وفي حديث عمران بن حصين قال : لما تفرق الناس عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في يوم أحد ، جاء علي ( عليه السلام ) متقلداً سيفه حتى قام بين يديه ، فرفع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأسه إليه فقال له : ما لك لم تفر مع الناس ؟ فقال : يا رسول الله أأرجع كافراً بعد إسلامي ! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار له إلى قوم آخرين فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم ! فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله ، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وما يمنعه من هذا وهو مني وأنا منه ! فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : وأنا منكما » . وقالت رواية لابن سعد « 2 / 42 » : « وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبوبكرالصديق وسبعة من الأنصار » لكنهم كذَّبوها فقالوا كان أبو بكر في أوائل الراجعين !
--------------------------- 165 ---------------------------
وقال ابن سعد « 3 / 155 » : « عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد » .

4 . بقي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) وحدهما

فقد جُرح أبو دجانة ونسيبة ولم يبق مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا علي ( عليه السلام ) !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 110 ) : « انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغضب غضباً شديداً قال : وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق ، قال : فنظر فإذا علي ( عليه السلام ) إلى جنبه فقال له : إلحق ببني أبيك مع من انهزم عن رسول الله ! فقال : يا رسول الله لي بك أسوة ! قال : فاكفني هؤلاء ، فحمل فضرب أول من لقي منهم . فنظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جبرئيل على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار
ولا فتى إلا علي » .
وفي تفسير القمي : 1 / 115 : « فكلما حملت طائفة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استقبلهم فيدفعهم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويقتلهم ، حتى انقطع سيفه . . وحَمَلَ ابن قميئة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني محمداً لانجوتُ إن نجا ! فضربه على حبل عاتقه ، ونادى قتلت محمداً واللات والعزى . . ولم يكن يحمل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحد إلا يستقبله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإذا رأوه رجعوا ! فانحاز رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ناحية أحُد فوقف . فلم يزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة ، فتحاموه ! وسمعوا منادياً ينادي من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي .
وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل ، فقال أبو سفيان وهو على الجبل : أعلُ هُبل ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأمير المؤمنين قل له : الله أعلى وأجل . فقال : يا علي إنه قد أنعم علينا ! فقال علي ( عليه السلام ) : بل الله أنعم علينا . ثم قال أبو سفيان : يا علي أسألك باللات والعزى هل قتل محمد ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
--------------------------- 166 ---------------------------
لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك ! والله ما قتل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يسمع كلامك ! فقال : أنت أصدق ، لعن الله ابن قميئه زعم أنه قتل محمداً » .
أقول : وقد كذب رواة قريش فقالوا إن فلاناً أجاب أبا سفيان ، وهو من الفارين !

5 . ركز المشركون على قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أحُد

قال السيد شرف الدين في « الفصول المهمة / 118 : « لما اشتد البلاء وعظم الخطب بفرار المسلمين ، أرهف المشركون لقتل رسول الله غِرار عزمهم ، وأرصدوا لذلك جميع أهبهم ، فتعاقد خمسة من شياطينهم على ذلك ، كانوا كالفدائية في هذا السبيل وهم : عبد الله بن شهاب الزهري » والد الزهري المعروف وهو يهودي حداد حليف بني زهرة « وعتبة بن أبي وقاص ، وابن قميئة الليثي أبيُّ بن خلف ، وعبد الله بن حميد الأسدي القرشي ، لعنهم الله وأخزاهم ، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته الميمونة ، وأما عتبة تبَّت يداه فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشق شفته ، وأما ابن قميئة قاتله الله فكمَّ وجنته ودخل من خلف المغفر فيها وعلاه بالسيف ، شُلَّت يداه ، فلم يطق أن يقطع فسقط ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الأرض . وأما أبيُّ بن خلف فشد عليه بحربته فأخذها رسول الله منه وقتله بها ، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري شكر الله سعيه وأعلى في الجنان مقامه ، فإنه ممن أبلى يومئذ بلاء حسناً . ثم حمل ابن قميئة على مصعب بن عمير وهو يظنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقتله ، ورجع إلى قريش يبشرهم بقتل محمد ، فجعل الناس يقولون : قتل محمد قتل محمد ! فانخلعت قلوب المسلمين جزعاً وكادت نفوسهم أن تزهق هلعاً ، وأوغلوا في الهرب مدلهين مدهوشين ، لا يرتابون في قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد أسقط في أيديهم » .
وفي المناقب : 1 / 166 : « فرماه ابن قمئة بقذافة فأصاب كفه ، ورماه عبد الله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه ، وضربه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد على وجهه فشج رأسه فنزل عن فرسه ، ونهبه ابن قمئة ، وقد ضربه على جنبه » !
وروى ابن هشام : 3 / 597 ، نحوه ، وذكر أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى ، وأن عبد الله بن شهاب الزهري
--------------------------- 167 ---------------------------
شجه في جبهته ، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، ووقع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيده !
وفي الخرائج : / 62 ، وتفسير فرات / 93 : « إنتهى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لي صخرة فاستتر بها ، ليتقي بها من السهام سهام المشركين . . فلما انتهى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس ، فجاء به إلى رسول الله ليشرب منه فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه » .

6 . أشد الأيام على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

« رويَ عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : أنه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العباس بن علي فاستعبر ثم قال : ما من يوم أشد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من يوم أحُد ، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب . ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) : ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه ! وهو يذكرهم بالله فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً » ! « مقتل الحسين ( عليه السلام ) مخنف / 176 » .

7 . أصعب اللحظات في حياة علي ( عليه السلام )

وصف علي أصعب اللحظات عليه في حياته ، وأنها كانت في أحُد ، كما في الإرشاد : 1 / 86 ، والمناقب : 2 / 315 ، قال : « لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره ، فقلت : ما كان رسول الله ليفر ، وما رأيته في القتلى ، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء ، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي : لأقاتلن به عنه حتى أقتل ، وحملت على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد وقع على الأرض مغشياً عليه ، فقمت على رأسه فنظر إليَّ
--------------------------- 168 ---------------------------
وقال : ما صنع الناس يا علي ؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك ! فنظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي : رد عني يا علي هذه الكتيبة ، فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار . فقال لي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما تسمع يا علي مديحك في السماء ، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي . فبكيت سروراً ، وحمدت الله سبحانه على نعمته » .
ولما جرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووقع في الحفرة ، وتكاثر عليه المشركون ، جاء علي وجبرئيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخذاه إلى الصخرة .
وفي مناقب ابن سُلَيْمان ( 1 / 466 ) عن ابن أبي ليلى قال : « لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه ! جرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقتل حمزة ، وانكشف الناس عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتركوه وهو يقول : أنا النبي لا كذب . . الخ . » .

8 . نزل جبرئيل ( عليه السلام ) وبقي مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى انسحب المشركون

يفهم من حديث دعائم الإسلام : 1 / 374 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) وشرح الأخبار ( 1 / 285 ) عن أبي رافع ، أن جبرئيل ( عليه السلام ) بقي مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى انسحب المشركون ، قال :
« لما كان يوم أحد وافترق الناس عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وثبت معه علي ( عليه السلام ) وكان من أمر الناس ما كان ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : إذهب يا علي ، فقال : كيف أذهب يا رسول الله وأدعك ! بل نفسي دون نفسك ودمي دون دمك ، فأثنى عليه خيراَ . ثم نظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى كتيبة قد أقبلت فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل هشام بن أمية المخزومي ، ثم جاءت كتيبة أخرى فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل عمر بن عبد الله الجمحي ، ثم أقبلت كتيبة أخرى قال : إحمل عليها يا علي . فحمل عليها ففرقها وقتل شيبة بن مالك أخا بني عامر بن لؤي ، وجبرئيل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال جبرئيل : للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا محمد الرب يقرؤك السلام ويقول لك : إن هذه للمواساة ! فقال : يا جبرئيل ، إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما يا محمد » .
--------------------------- 169 ---------------------------
وفي الإرشاد : 1 / 89 : « فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبشر يا علي ، فإن الله منجز وعده ، ولن ينالوا منا مثلها أبداً » .

9 . أعطى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً قميصه الذي أصيب به في أحد

في الكافي : 1 / 236 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من حديث ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما حضرته الوفاة عرض على عمه العباس أن يأخذ تراثه ويقضي دينه ومواعيده ، فاعتذر بأنه لا يطيق ، فعرض ذلك على علي ( عليه السلام ) فقبله فأعطاه تراثه ، وفيه : القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي جرح فيه يوم أحد » .
وروى ابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) / 88 ، أن المهدي ( عليه السلام ) عندما يظهر : « يكون عليه قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي كان عليه يوم أحد » .

10 . لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة ؟ !

كان القرشيون يقولون : نقتل محمداً ونردف الكواعب من المدينة ، أي نأتي بالسبايا من الأنصار ! « ندموا على انصرافهم عن المسلمين ، وتلاوموا فقالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم » ! « مجمع البيان : 2 / 446 » .
وفي مناقب آل أبي طالب : 1 / 109 : « لما ارتحل أبو سفيان والمشركين يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا : ما صنعنا ! قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركناهم إذ هم !
وقالوا : إرجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا » . فقد كان قائدهم أبو سفيان مذعوراً من علي ( عليه السلام ) يرى معه جبرئيل ( عليه السلام ) راكباً فرساً أشقر ، فأمرقريشاً بالرحيل ! وأرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) خلفهم وهم ثلاثة آلاف ، فذهب غير هيَّاب وتفاجؤوا به أمامهم فقالوا : هذا الذي فعل فينا الأفاعيل ! وصاح أبو سفيان : نحن منسحبون فما تريد !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 318 » : « لما رأى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اختلاج ساقيه من كثرة القتال ، رفع رأسه إلى السماء وهو يبكي وقال : يا رب وعدتني أن تظهر
--------------------------- 170 ---------------------------
دينك وإن شئت لم يُعْيك . فأقبل علي ( عليه السلام ) إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله أسمع دوياً شديداً وأسمع أقدم حيزوم ، وما أهمُّ أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه ! فقال هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة . . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إمض بسيفك حتى تعارضهم ، فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص « الإبل » وجنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة ، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنبون القلاص فإنهم يريدون المدينة ، فأتاهم علي ( عليه السلام ) فكانوا على القلاص فقال أبو سفيان لعلي : يا علي ما تريد ! هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة ، فانصرف إلى صاحبك !
فأتبعهم جبرئيل فكلما سمعوا وقع حافر فرسه جدوا في السير ! وكان يتلوهم ، فإذا ارتحلوا قالوا : هو ذا عسكر محمد قد أقبل ! فدخل أبو سفيان مكة فأخبرهم الخبر ، وجاء الرعاة والحطابون فدخلوا مكة فقالوا : رأينا عسكر محمد كلما رحل أبو سفيان نزلوا ، يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم » !
أقول : وصف هذا النص رعب قريش من علي ( عليه السلام ) وهم ثلاثة آلاف ! وأنهم صاحوا لما رأوه : هذا الذي فعل فينا الأفاعيل ! وكانوا يرون معه فارساً على فرس أشقر . كما ذكر النص أن ساقي علي ( عليه السلام ) اختلجت يومها ، تعباً ، أو غضباً !

11 . علي ( عليه السلام ) بطل أحُد ومحقق انتصاراتها

قال ابن هشام : 3 / 655 : « أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي ، يمدح علي بن أبي طالب ، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، صاحب لواء المشركين يوم أحد :
لله أي مذبَّبٍ عن حرمة * أعني ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخْولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة * تركتْ طليحة للجبين مجدَّلا
وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم * بالسفح إذ يَهْوُون أخولَ أخولا
وعللت سيفك بالدماء ولم يكن * لتردَّه ظمآنَ حتى ينهلا »
والإرشاد : 1 / 90 ، ورسائل المرتضى : 4 / 125 ، والنهاية : 7 / 372 .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 90 : « ذكر أهل السير قتلى أحُد من المشركين ، فكان جمهورهم
--------------------------- 171 ---------------------------
قتلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فروى عبد الملك بن هشام قال . . كان صاحب لواء قريش يوم أحُد طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، قتله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وقتل ابنه أبا سعيد بن طلحة ، وقتل أخاه كلدة بن أبي طلحة ، وقتل عبد الله بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبد العزى ، وقتل أبا الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي ، وقتل الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أخاه أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أرطاة بن شرحبيل ، وقتل هشام بن أمية ، وعمرو بن عبد الله الجمحي ، وبشر بن مالك ، وقتل صوابا مولى بني عبد الدار ، فكان الفتح له ورجوع الناس من هزيمتهم والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمقامه يذب عنه دونهم ! وتوجه العتاب من الله تعالى إلى كافتهم لهزيمتهم يومئذ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار ، وكانوا ثمانية نفر وقيل : أربعة أو خمسة » .
وقال العلامة في كشف اليقين / 131 : « وكان جمهور قتلى أحُد مقتولين بسيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان الفتح ورجوع الناس إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثبات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .

12 . أصابته ثمانون جراحة ، وكسر زنده فشفاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الثاقب في المناقب / 63 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قَتَل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوم أحد أربعة عشر رجلاً ، وقتل سائر الناس سبعة ، وأصابه يومئذ ثمانون جراحة ، فمسحها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلم ينفح منها شئ » .
وفي المناقب : 3 / 85 ، عن زيد بن علي قال : « كسرت زند علي يوم أحد وفي يده لواء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فسقط اللواء من يده ، فتحاماه المسلمون أن يأخذوه ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة . وفي رواية غيره : فرفعه المقداد وأعطاه علياً » . ورواه السرخسي في المبسوط : 1 / 73 .
وفي تحفة الفقهاء للسمرقندي : 1 / 90 ، أنه كسر زنداه يومئذ ! ولم يذكر متى ، ولعله في الجولة الأولى بعد قتله أصحاب الألوية ، وقد واصل جهاده وكأنه لم يصبه شئ فقد مسح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جراحه !
--------------------------- 172 ---------------------------
وفي تفسير القمي ( 1 / 115 ) : ( فلم يزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة ، فتحاموه ) .
وفي المناقب : 1 / 385 و : 2 / 78 : « عن أبان بن عثمان ، أنه أصاب علياً يوم أحد ستون جراحة ، وأصاب علياً يوم أحد ستة عشر ضربة ، وهو بين يدي رسول الله يذب عنه في كل ضربة يسقط إلى الأرض ، فإذا سقط رفعه جبرئيل . أصابني يوم أحد ست عشرة ضربة ، سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح ، فأخذ بضبعي فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله ، وهما عنك راضيان . قال علي ( عليه السلام ) : فأتيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبرته فقال : يا علي أقر الله عينك ، ذاك جبرئيل » .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 385 ) : ( قال أنس بن مالك : إنه أُتيَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي وعليه نيف وستون جراحة . قال أبان : أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أم سليم وأم عطية أن تداوياه فقالتا قد خفنا عليه ، فدخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحده ، فجعل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يمسحه بيده ويقول : إن رجلاً لقي هذا في الله لقد أبلى وأعذر ، فكان يلتئم ، فقال علي : الحمد لله الذي لم أفر ولم أول الدبر ، فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن ، وهو قوله تعالى : وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ . وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ . . يعني بالشاكرين صاحبك علي بن أبي طالب ، والمرتدين على أعقابهم الذين ارتدوا عنه ) .
ورواه القرطبي مختصراً في تفسيره ( 4 / 219 ) والعيني في عمدة القاري ( 17 / 140 ) وهو يدل على جواز أن تضمد الرجل امرأة ، ما دامت تراعي الأحكام الشرعية .
وفي المناقب : 1 / 341 : « المعروفون بالجهاد : علي ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، وسعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب وسعد بن معاذ ، ومحمد بن مسلمة . وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلي ( عليه السلام ) في شوكته وكثرة جهاده . فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة .
وقد أجمعت الأمة على أن علياً ( عليه السلام ) كان المجاهد في سبيل الله والكاشف الكروب
--------------------------- 173 ---------------------------
عن وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، المقدم في ساير الغزوات إذا لم يحضر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً ، وما كان قط تحت لواء أحد ، ولا فر من زحف ! وإنهما فرَّا في غير موضع ، وكانا تحت لواء جماعة » .
أقول : مع كل هذا ، لم يترك رواة السلطة ذمهم لعلي ( عليه السلام ) ، فقالوا إنه أعطى سيفه لفاطمة ( عليها السلام ) لتغسله وافتخر فقال : « خذيه فلقد أحسنت به القتال » ! فوبخه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له : « إن كنت قد أحسنت القتال اليوم ، فلقد أحسن سهل بن حنيف ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصمة ، وأبو دجانة » . « الحاكم : 3 / 409 ، والحلبية : 2 / 547 » . وهذا من الحقد القرشي على علي ( عليه السلام ) !

13 . حب علي ( عليه السلام ) فريضة لا رخصة فيها

في الجواهر السنية / 301 ، عن سلمان الفارسي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « هبط جبرئيل ( عليه السلام ) يوم أحد وقد انهزم المسلمون ولم يبق غير علي ( عليه السلام ) ، وقد قتل الله على يده يومئذ من المشركين من قتل ، فقال جبرئيل : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبر علياً أني عنه راض ، وأني آليت على نفسي أن لا يحبه عبد إلا أحببته ، ومن أحببته لم أعذبه بناري ، ولا يبغضه عبد إلا أبغضته ، ومن أبغضته ما له في الجنة من نصيب ! قال : وهبط عليَّ جبرئيل ( عليه السلام ) يوم الأحزاب لما قتل علي بن أبي طالب عمرواً فارسهم فقال : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني افترضت الصلاة على عبادي فوضعتها عن العليل الذي لايستطيعها ، وافترضت الزكاة فوضعتها عن المقل ، وافترضت الصيام فوضعته عن المسافر ، وافترضت الحج فوضعته عن المعدم ومن لا يجد السبيل إليه ، وافترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات وأهل الأرض ، فلم أعذر فيه أحداً ! فمر أمتك بحبه فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه ، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه » !
--------------------------- 174 ---------------------------

14 . انْقَضَّتْ فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كالصقر إلى قلب المعركة !

في إعلام الورى : 1 / 177 : « ذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة ، فصاحت فاطمة ( عليها السلام ) ، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا وضعت يدها على رأسها ، وخرجت فاطمة ( عليها السلام ) تصرخ ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : فلما دنت فاطمة من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورأته قد شج في وجهه وأدميَ فوهُ إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ !
قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب ! قال أبان بن عثمان : حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت : كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء ؟ قال ( عليه السلام ) : لا والله ما قبضه الله إلا سَليماً ولكنه شُجَّ في وجهه . قلت : فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صار إليه ؟ قال : والله ما برح مكانه ، وقيل له ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ألا تدعو عليهم ؟ قال : اللهم اهد قومي » .
وفي المناقب : 1 / 166 : « وصاح إبليس من جبل أحد : ألا أن محمداً قد قتل ! فصاحت فاطمة ( عليها السلام ) ووضعت يدها على رأسها ، وخرجت تصرخ » !
وفي تفسير القمي : 1 / 124 : « خرجت فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقعدت بين يديه ، فكان إذا بكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكت لبكائه ، وإذا انتحب انتحبت » !
وكان بكاؤه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً وشكراً لفاطمة ( عليها السلام ) ، وبكاؤها تأثراً لوحدته وجراحه !
ومعنى ذلك أنها حضرت عندما جاء علي وجبرئيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالنبي إلى ظل الصخرة ، بعد أن جرح ووقع في حفرة ، فجاءت لتكون إلى جنبه ! وجاءت ركضاً تمشي في سفوح وادي قُبا الشرقية ، لأن الوادي كانت بيد جيش قريش ، ولو رأوها لأخذوها أسيرة ، وكان ذلك لهم نصراً عظيماً !
كما أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أرسل علياً ( عليه السلام ) خلف جيش قريش ، بقيت فاطمة ( عليها السلام ) معه ، وكانا في معرض الخطر ، لكن بكلاءة الله تعالى !
--------------------------- 175 ---------------------------
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( إعلام الورى : 1 / 179 ) : ( فلما دنت فاطمة ( عليها السلام ) من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورأته قد شُج في وجهه وأدميَ فوه إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء ، فلا يتراجع منه شئ ! قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب ) .
وقد كتم رواة السلطة دورفاطمة ( عليها السلام ) في أحُد ، ولم يشيدوا بمجيئها والناس فارُّون ! وغاية ما رووه أن علياً وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غسلا جرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال بخاري : 3 / 227 : « لما كسرت بيضة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على رأسه وأدميَ وجهه وكسرت رباعيته ، كان عليٌّ يختلف بالماء في المجن وكانت فاطمة ( عليها السلام ) تغسله ، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه ، يعني رمادها ،
فرقأ الدم » .

15 . نادى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الهاربين بأسمائهم وأرسل علياً ( عليه السلام ) يناديهم

في شرح النهج : 15 / 24 ، عن محمد بن مسلمة قال : « سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لايلوون عليه ، سمعته يقول : إليَّ يا فلان ، إليَّ يا فلان ، أنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فما عرج عليه واحد منهما ومضيا » !
وروى الطبري في تفسيره : 4 / 193 : « خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران قال : لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد » ! والأروى : العنزة الجبلية التي تجيد تسلق الصخور !
وفي سيرة ابن إسحاق : 3 / 309 ، أن أنس بن النضر انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم « انهاروا » فقال : ما يجلسكم ؟ ! قالوا : قتل رسول الله ! قال : فما تظنون بالحياة بعده ؟ ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ! ثم استقبل القوم
--------------------------- 176 ---------------------------
فقاتل حتى قتل ( رحمه الله ) » . ويدل قولهم فارجعوا إلى قومكم أو إلى دين قومكم ، على أنهم قرشيون ! وروى في الدر المنثور ( 2 / 80 ) : « عن ابن عباس . . قالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ، ولكنه قد قتل ) !
ولحقهم علي ( عليه السلام ) ووبخهم ! ففي تفسير القمي : 1 / 114 : « عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال : كنت أماشي فلاناً « عمر » إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه ، ماذا يا فلان ؟ قال ويحك أما ترى الهزير القضم ابن القضم . فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب ، فقلت له : يا هذا هو علي بن أبي طالب ! فقال : أدن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته ، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال ، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه ، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا ، فرأيت علياً كالليث يتقي الدر ، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهناثم قال : شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلى أين تفرون ، إلى النار ! فلم نرجع ، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال : بايعتم ثم نكثتم ؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل ! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً ، أو كالقدحين المملوين دماً ، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا ، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت : يا أبا الحسن الله الله ، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفي الفرة ، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني ، فما زلت أسكن روعة فؤادي ! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة » !

16 . قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده مشركين هاجماه

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس / 247 : « وقد علموا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف . وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاءً ، وأحقهم بذلك » .
أقول : الشخصان اللذان قتلهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده هما : أبي بن خلف ، وهو ابن قميئة حمل عليه في أحُد ليقتله ، فطعنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحربة في عنقه فمات منها في مكة . أما مسجع بن عوف ، فلم أجد ترجمته فيما لديَّ من مصادر .
--------------------------- 177 ---------------------------

17 . الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه

في الإختصاص / 147 ، وكشف الغمة : 1 / 189 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سئل على منبر الكوفة عن قوله تعالى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ . . فقال : اللهم غفراً ، هذه الآية نزلت فيَّ وفي عمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب . فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل فأنزل الله فينا : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ . . . وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه ، وأومأ بيده إلى لحيته ورأسه ، عهدٌ عهده إلى حبيبي أبو القاسم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » !
وفي الطرائف / 503 : « قيل لعبد الله بن يحيى : هل تصلي مع معاوية ؟ قال : لا والله لا أجد فرقاً بين الصلاة خلفه وبين الصلاة خلف امرأة يهودية حائض ، ولذا لو صليت خلفه تقية أعدتها ! وسئل شريك عن فضائل معاوية فقال : إن أباه قاتلَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهوقاتلَ وصي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأمه أكلت كبد حمزة عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وابنه قتل سبط النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وهو ابن زنا ! فهل تريد له منقبة بعد ذلك » !

18 . أنزل الله ستين آية في أحُد وتَوَّجَهَا بمدح علي ( عليه السلام )

نزلت في معركة أحُد أكثر من ستين آية ، فيها ذم للذين تباطؤوا ، أو فروا داخل المعركة إلى الصف الخلفي ، أو إلى خارج المعركة ، أو ارتدوا على أعقابهم لما سمعوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قُتل ، أو طلبوا أن يكون لهم من الأمر شئ فيشاركوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في القيادة . . . وفيها مدح لمن ثبت واستشهد في الجولة الثانية ، وأولهم حمزة . ومدحٌ لمن ثبت مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعدها وسماهم الله الرِّبِّيين فقال تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
--------------------------- 178 ---------------------------
وهذه الآيات نصٌّ في مدح علي ( عليه السلام ) خاصة ، وأبي دجانة ونسيبة رضي الله عنهما . وقد استعرضنا بقية الآيات في السيرة النبوية .

غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أحُد

1 . في تفسير القمي ( 1 / 124 ) : « فلما دخل رسول الله المدينة نزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلا من به جراحة !
فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منادياً ينادي يا معشر المهاجرين والأنصار : من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم ، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها ! فأنزل الله على نبيه : وَلاتَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لايَرْجُونَ . . فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح ، فلما بلغ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحاء ، قال عكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، وعمرو بن عاص ، وخالد بن الوليد : نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة ، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال : تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب فقال أبو سفيان : هذا النكد والبغي ، قد ظفرنا بالقوم وبغينا ! والله ما أفلح قوم قط بغوا » !

أقول : في هذا الأمر الإلهي حكمة بالغة ، حيث منع الهاربين من هذا الشرف !

2 . وفي الإختصاص المفيد / 158 : ( قال ابن دأب . . انصرف ( عليه السلام ) من أحد وبه ثمانون جراحة ، تدخل الفتائل من موضع وتخرج من موضع ، فدخل عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عائداً وهو مثل المضغة على نطع ، فلما رآه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكى فقال له : إن رجلاً يصيبه هذا في الله لحق على الله أن يفعل به ويفعل ، فقال مجيباً له وبكى : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يرني وليت عنك ولا فررت ، بأبي وأمي كيف حرمت الشهادة ؟ قال : إنها من ورائك إن شاء الله ، قال : فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن أبا سفيان قد أرسل موعدة بيننا وبينكم حمراء الأسد ، فقال : بأبي أنت وأمي ، والله لو حملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك . قال : فنزل القرآن : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا
--------------------------- 179 ---------------------------
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . ونزلت الآية فيه قبلها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ) .
2 . وفي الإختصاص المفيد / 158 : ( قال ابن دأب . . انصرف ( عليه السلام ) من أحد وبه ثمانون جراحة ، تدخل الفتائل من موضع وتخرج من موضع ، فدخل عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عائداً وهو مثل المضغة على نطع ، فلما رآه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكى فقال له : إن رجلاً يصيبه هذا في الله لحق على الله أن يفعل به ويفعل ، فقال مجيباً له وبكى : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يرني وليت عنك ولا فررت ، بأبي وأمي كيف حرمت الشهادة ؟ قال : إنها من ورائك إن شاء الله ، قال : فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن أبا سفيان قد أرسل موعدة بيننا وبينكم حمراء الأسد ، فقال : بأبي أنت وأمي ، والله لو حملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك . قال : فنزل القرآن : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . ونزلت الآية فيه قبلها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ) .
3 . وقال ابن عبد البر في الدرر / 158 : ( فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والقرح وخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو حتى بلغ موضعاً يدعى حمراء الأسد ، على رأس ثمانية أميال من المدينة ، فأقام به يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . قال ابن إسحاق : وإنما خرج بهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو وليظنوا أن بهم قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم . وكان معبد بن أبي معبدالخزاعي قد رأى خروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين إلى حمراء الأسد ، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء ، فأخبرهم بخروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في طلبهم ، ففتَّ ذلك في أعضاد قريش ، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة ، فكسرهم خروجه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتعادوا إلى مكة . وظفر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خروجه بمعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية فأمر بضرب عنقه صبراً ، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان ) .
3 . وقال ابن عبد البر في الدرر / 158 : ( فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والقرح وخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو حتى بلغ موضعاً يدعى حمراء الأسد ، على رأس ثمانية أميال من المدينة ، فأقام به يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . قال ابن إسحاق : وإنما خرج بهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرهباً للعدو وليظنوا أن بهم قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم . وكان معبد بن أبي معبدالخزاعي قد رأى خروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين إلى حمراء الأسد ، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء ، فأخبرهم بخروج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في طلبهم ، ففتَّ ذلك في أعضاد قريش ، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة ، فكسرهم خروجه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتعادوا إلى مكة . وظفر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خروجه بمعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية فأمر بضرب عنقه صبراً ، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان ) .
4 . وقال في شرح النهج ( 15 / 45 ) ملخصاً : ( قال الواقدي : أما أبو عزة واسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخذه أسيراً يوم أحد ، ولم يؤخذ يوم أحد أسير غيره فقال : يا محمد ، مُنَّ عليَّ ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن المؤمن لايلدغ من جحر مرتين ، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك ، فتقول سخرت بمحمد مرتين . ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
فأما معاوية بن المغيرة فروى البلاذري أنه هو الذي جدع أنف حمزة ومَثَّلَ به ، وأنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه ، فبات قريباً من المدينة ، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص وهو ابن عمه لِحّاً فضرب بابه ، فقالت أم‌كلثوم زوجته وهي ابنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ليس هو هاهنا ، فقال :
--------------------------- 180 ---------------------------
إبعثي إليه ، فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول ، وقد جئته به فإن لم يجئ ذهبت فأرسلت إليه ، وهو عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما جاء قال لمعاوية : أهلكتني وأهلكت نفسك ! ما جاء بك ؟ قال : يا ابن عم ، لم يكن أحد أقرب إلى ولا أمس رحماً بي منك فجئتك لتجيرني ، فأدخله عثمان داره وصيره في ناحية منها ، ثم خرج إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليأخذ له منه أماناً ، فسمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إن معاوية في المدينة ، وقد أصبح بها فاطلبوه . فقال بعضهم : ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه به ، فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم‌كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه ، فاستخرجوه من تحت حمارة لهم ، فانطلقوا به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال عثمان حين رآه : والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان ، فهبه لي فوهبه له ، وأجله ثلاثاً ، وأقسم : لئن وجده بعدها يمشى في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه .
وخرج عثمان فجهزه واشترى له بعيراً ثم قال : ارتحل . وسار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى حمراء الأسد وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويأتي بها قريشاً ، فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن معاوية أصبح قريباً لم ينفذ فاطلبوه ، فأصابوه وقد أخطأ الطريق فأدركوه ، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، فوجداه بالجماء فضربه زيد بالسيف ، وقال عمار : إن لي فيه حقاً ، فرمياه بسهم فقتلاه ثم انصرفا إلى المدينة بخبره . . ولا عقب له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان . قال : ويقال إن علياً ( عليه السلام ) هو الذي قتل معاوية بن المغيرة ) .
* *

علي ( عليه السلام ) بطل معركة بني النضير بعد أحُد

1 . كتبنا في السيرة النبوية ماخلاصته :

كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معاهدة تعايش مع فئات اليهود الثلاث الذين كانوا حول المدينة : أما بنو قينقاع الصاغة ، فنقضوا المعاهدة بعد بدر فسار إليهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحاصرهم وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، فخرجوا إلى أذرعات الشام ، وكانوا ست مئة مقاتل .
وأما بنو النضير ، فتآمروا على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليقتلوه ونزلت فيهم سورة الحشر ، فبعث
--------------------------- 181 ---------------------------
إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها فأبوا ، فأمر علياً ( عليه السلام ) بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة فرسانهم ، فقالوا : نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فخرجوا إلى وادي القرى والشام . وكان أسوأ حاخاماتهم كعب بن الأشرف ، وخليفته حي بن أخطب ، فقد أفرطا في عداء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتحريك قريش ضده !
وأما بنو قريظة ، فذهب زعماؤهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب . فلما حاصرالأحزاب المدينة مزقوا عهدهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغزاهم بعد حرب الأحزاب .

وأما يهود خيبر ، فزادت مؤامراتهم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقصدهم في السنة السابعة للهجرة وانتصر عليهم . وكان علي ( عليه السلام ) حامل راية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حربه مع فئات اليهود ، ومحقق النصر عليهم .

. قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 92 ) ونحوه المناقب ( 2 / 332 ) :

2 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 92 ) ونحوه المناقب ( 2 / 332 ) : « لما توجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بني النضير عمل على حصارهم ، فضرب قبته في أقصى بني خطمة من البطحاء فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم فأصاب القبة ، فأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن تحول قبته إلى السفح ، وأحاط به المهاجرون والأنصار . فلما اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال الناس : يا رسول الله لا نرى علياً ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أراه في بعض ما يصلح شأنكم ! فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان يقال له عزورا ، فطرحه بين يدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كيف صنعت ؟ فقال : إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً ، فكمنت له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غِرة ، فأقبل مصلتاً سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود ، فشددت عليه فقتلته ، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريباً ، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم ! فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة ،
وسهل بن حنيف ، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم
--------------------------- 182 ---------------------------
إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأمر أن تطرح في بعض آبار بني حطمة ، وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير . قال حسان :
لله أي كريهة أبليتَها * ببني [ النضير ] والنفوس تطلَّعُ
أردى رئيسهم وآبَ بتسعة * طوراً يشلهم وطوراً يدفع »

وفي تلك الليلة أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من قتل كعب بن الأشرف رئيس بني النضير ، وهو غير كعب بن الأشرف المعروف .

3 . وقد اتفق المسلمون على أن أراضي بني النضير خاصة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :

ففي سنن أبي داود ( 2 / 33 ) وتاريخ المدينة ( 1 / 173 ) وفتح الباري ( 6 / 140 ) : « فكان نخل بني النضير لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها . وبقي منها صدقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي في أيدي بني فاطمة » .
وقال البخاري في صحيحه ( 3 / 227 ) : ( عن عمر : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله خاصة ، وكان ينفق على أهله نفقة سنته ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدةً
في سبيل الله ) .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 92 : « قسمها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المهاجرين الأولين ، وأمر علياً ( عليه السلام ) فحاز ما لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منها فجعله صدقة ، فكان في يده أيام حياته ) . لكن أبا بكر وعمر صادرا نخل بني النضير وفدكاً وغيرها من علي والزهراء ( عليها السلام ) بحجة أنهما وليا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنه لا يورث ! وقالا إنهما سيعطيان عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المأكل والمشرب !
وقد جعل بخاري ( 5 / 23 ) ومسلم ( 5 / 151 ) المقصر فيها علياً ( عليه السلام ) والعباس لأنهما طالبا بها أبا بكر واتَّهَمَاهُ بأنه كاذبٌ آثمٌ غادرٌ خائن ! فلم يعطهما ، ثم طالبا عمرفأعطاهما إياها ، على أن يعملا فيها كما كان يعمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيأخذا منها نفقاتهما ويصرفا الباقي في مصالح المسلمين ، فاختلف العباس وعلي وتشاتما ! وجاءا إلى عمر يختصمان ! فقال لهما حسب رواية مسلم طالبتما أبا بكر : ( فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر وأنا وليُّ رسول الله ووليُّ أبي‌بكر ،
--------------------------- 183 ---------------------------
فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق . وقال لهما إما أن تعملا فيها كما كان يعمل النبي أو تردَّاها اليَّ لأعمل ذلك !
ثم قال بخاري : ( فكانت هذه الصدقة بيد علي ، منعها علي عباساً فغلبه عليها ! ثم كانت بيد حسن بن علي ، ثم بيد حسين بن علي ، ثم بيد علي بن حسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ) .
أقول : كتب بخاري ومسلم ذلك في عصر العباسيين ، وغرضهما أن متوليها العباس فظلمه عليٌّ وغلبه عليها وشتمه ! فيحق لأولاد العباس أخذها ! قال ابن حجر في فتح الباري ( 6 / 145 ) : ( الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يكتب في عهده فيولي عليها من قبله من يقبضها ، ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة ) .
* * ا
--------------------------- 184 ---------------------------

الفصل الثامن: أولاد علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . مولد الإمام الحسن ( عليه السلام )
اتفق جمهور المؤرخين على أن مولد الإمام الحسن ( عليه السلام ) في منتصف شهر رمضان والمرجح أنه في السنة الثالثة للهجرة : « أصح ما قيل في ولادته أنه ولد بالمدينة في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة » . ( كشف الغمة : 2 / 136 ) .
قال سعيد بن المسيب « الكافي : 8 / 338 » : « فقلت لعلي بن الحسين ( عليه السلام ) : فمتى زوج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقال : بالمدينة بعد الهجرة بسنة ، وكان لها يومئذ تسع سنين » . أي أكملت تسعاً ودخلت في العاشرة ، فكان عمرها عند زواجها في ذي الحجة السنة الثانية للهجرة نحو تسع سنين ونصفاً ، وولدت الحسن ( عليه السلام ) وعمرها نحو عشر
سنوات ونصفاً .
وفي أمالي الصدوق / 197 : « عن زيد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لما ولدت فاطمة ( عليها السلام ) الحسن ( عليه السلام ) قالت لعلي : سمه . فقال : ما كنت لأسبق باسمه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فجاء رسولُ الله فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال : ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء ! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها ، ثم قال لعلي ( عليه السلام ) : هل سميته ؟ فقال : ما كنت لأسبقك باسمه ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وما كنت لأسبق باسمه ربي عز وجل ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابنٌ فاهبط واقرئه السلام وهنئه وقل له : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمه باسم ابن هارون ، فهبط جبرئيل فهنأه من الله عز وجل ، ثم قال : إن الله عز وجل يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون . قال : وما كان اسمه ؟ قال : شُبَّر . قال : لساني عربي . قال : سمه
--------------------------- 185 ---------------------------
الحسن فسماه الحسن . فلما ولد الحسين أوحى الله عز وجل إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه وهنئه ، وقل له : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمه باسم ابن هارون ، قال : فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) فهنأه من الله تبارك وتعالى ثم قال : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم ابن هارون . قال : وما اسمه ؟ قال : شبير . قال : لساني عربي . قال : سمه الحسين ، فسماه الحسين » .
وفي المجدي في الأنساب للعمري / 12 : ( ولد الحسن ( عليه السلام ) لثلاث من الهجرة وكان بين ولادة الحسن والحمل بالحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خمسون ليلة ، كان وجهه يشبه النبي ( عليه السلام ) وتوفي سنة اثنين وخمسين وعمره ثمان وأربعون سنة ، ويكنى أبا محمد ) .
وفي الكافي ( 1 / 461 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قبض الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو ابن سبع وأربعين سنة في عام خمسين ، عاش بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربعين سنة ) .
وفي الكافي : 6 / 33 : « عن الحسين بن خالد قال : سألت أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) عن التهنية بالولد متى ؟ فقال إنه قال : لما ولد الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هبط جبرئيل بالتهنية على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في اليوم السابع ، وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه ، وكذلك حين ولد الحسين ( عليه السلام ) أتاه في اليوم السابع فأمره بمثل ذلك . قال : وكان لهما ذؤابتان في القرن الأيسر ، وكان الثقب في الأذن اليمنى في شحمة الأذن ، وفي اليسرى في أعلى الأذن ، فالقرط في اليمنى والشنف في اليسرى ، وقد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك لهما ذؤابتين في وسط الرأس . وهو أصح من القرن » .
وفي الهداية للصدوق / 70 : « وقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفاطمة ( عليها السلام ) : أنقبي على أذني ابنيَّ الحسن والحسين ، خلافاً على اليهود » .
وفي قاموس الكتاب المقدس / 316 : « وكانت عادة قومية عند الإسماعيليين أن يلبس الرجال أقراطاً . قضاة 8 : 25 و 26 » .
--------------------------- 186 ---------------------------

2 . مولد الإمام الحسين ( عليه السلام )

في الكافي ( 1 / 463 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ولد الحسين بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنة ثلاث ، وقبض في شهر المحرم من سنة إحدى وستين من الهجرة ، وله سبع وخمسون سنة وأشهر ، قتله عبيد الله بن زياد في خلافة يزيد بن معاوية ، وهو على الكوفة ، وكان على الخيل التي حاربته وقتلته عمر بن سعد ، بكربلا يوم الاثنين لعشر خلون من المحرم ، وأمه فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . إن جبرئيل ( عليه السلام ) نزل على محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : يا محمد إن الله يبشرك بمولود يولدمن فاطمة تقتله أمتك من بعدك ! فقال : يا جبرئيل وعلى ربي السلام ، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة تقتله أمتي من بعدي ، فعرج ثم هبط فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فقال : قد رضيت . ثم أرسل إلى فاطمة ( عليها السلام ) أن الله يبشرني بمولود يولد لك تقتله أمتي من بعدي ، فأرسلت إليه لا حاجة لي في مولود تقتله أمتك من بعدك ! فأرسل إليها أن الله قد جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فأرسلت إليه إن قد رضيت .
لما كان من أمر الحسين ( عليه السلام ) ما كان ، ضجت الملائكة إلى الله بالبكاء وقالت : يفعل هذا بالحسين صفيك وابن نبيك ؟ قال : فأقام الله لهم ظل القائم ( عليه السلام ) وقال :
بهذا أنتقم لهذا ) .
ومعنى قولهم في بعضي الروايات بين الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طهر أي قدر طهر ، لأنها ( عليها السلام ) لاتطمث .

3 - مولد زينب بنت علي ( عليها السلام )

قال السيوطي في رسالته الزينبية : ( ولدت زينب في حياة جدها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانت لبيبة ، جزلة ، عاقلة ، لها قوة جنان ، فإن الحسن ولد قبل وفاة جده بثمان سنين ، والحسين بسبع سنين ، وزينب الكبرى بخمس سنين ) .
وفي معاني الأخبار للصدوق / 106 : ( عن محمد بن مروان قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام )
--------------------------- 187 ---------------------------
هل قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار ؟ قال : نعم ، عنى بذلك : الحسن والحسين وزينب وأم‌كلثوم ( عليهم السلام ) ) .
وفي موسوعة كربلاء للدكتور بيضون ( 2 / 652 ) : ( ولدتها السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بعد الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهي زينب الكبرى العقيلة ، وإنما يقال لها الكبرى للتفريق بينها وبين من سميت باسمها من أخواتها . ولدت زينب الكبرى ( عليها السلام ) في 5 جمادى الأولى سنة 6 ه - . وفي منتخب التواريخ أنها ولدت في أول يوم من شعبان ، بعد ولادة أخيها الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسنتين ، وتوفيت في النصف من رجب سنة 62 ه - ، وقيل 65 ه - ، والتاريخ الأخير يوافق عام المجاعة في عهد عبد الملك ، فيكون عمرها الشريف أقل من ستين عاماً . .
ومن ألقابها : عقيلة الوحي ، وعقيلة بني هاشم ، وعقيلة الطالبيين ، والموثقة ، والعارفة ، والعالمة ، والفاضلة ، والكاملة ، وعابدة آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكانت ذات جلال وشرف وعلم ودين وصون وحجاب ، حتى قيل إن الحسين ( عليه السلام ) كان إذا زارته زينب يقوم إجلالاً لها . وروت الحديث عن جدها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعن أبيها أمير المؤمنين ، وعن أمها فاطمة الزهراء ( عليهم السلام ) .
قال ابن الأثير : زوجها أبوها من ابن عمها عبد الله بن جعفر ، فولدت له أربعة أولاد ، منهم عون ومحمد ، اللذان استشهدا بين يدي الحسين ( عليه السلام ) ، ومنهم علي وأم‌كلثوم . وكانت زينب مع أخيها الحسين ( عليه السلام ) لما قتل ، فحملت إلى دمشق وحضرت عند يزيد . وكلامها ليزيد يدل على عقل وقوة جنان . وبعد رجوع زينب ( عليها السلام ) مع السبايا إلى المدينة ، حصلت مجاعة فيها فهاجرت مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى دمشق ، وأقامت في قرية راوية التي كانت لزوجها فيها أراض وبساتين ، حيث توفيت هناك بعد موقعة الطف بعدة سنين . واختلف في مرقدها بين مصر والشام . .
وقد ألفت كتب كثيرة في سيرتها ( عليها السلام ) وآخر ما ظهر منها كتاب : بطلة كربلاء ، للفاضلة الحرة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) إذ قالت في خاتمة كتابها :
--------------------------- 188 ---------------------------
« بطلةٌ استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد العظيم ، وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني أمية ، وأن تغير مجرى التاريخ » .

4 - مولد أم‌كلثوم بنت علي ( عليها السلام )

1 . المشهورأن أولاد علي من فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خمسة : الحسنان والمحسن ، وزينب وأم‌كلثوم . وقال الباحث السيد عبد الرزاق المقرم إن أم‌كلثوم هي زينب ( عليها السلام ) ، فهما واحدة . وقال الأكثر إنهما اثنتان ، وأم‌كلثوم أصغر من زينب ، فتكون ولادتها قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسنة ، ونحوها . كما اختلف في وقت وفاتها ، فقيل إنها توفيت في المدينة في عهد معاوية ، وقيل بقيت إلى ثورة المختارالثقفي سنة 65 هجرية ، وأن المختار روى عنها .
2 . وأوسع خلاف بشأنها : هل تزوجت بعمر بن الخطاب ؟ فقد أنكر ذلك بعض علمائنا ، وأثبته بعضهم ، وقالوا إنه تم بإجبار عمر وتهديده ، وقالوا جرى عقد زواجها وتوفي عمر قبل أن يدخل بها لأنها كانت صغيرة ، قال الزرقاني وهو من فقهاء السنة ، في شرح المواهب اللدنية ( 7 / 9 ) : ( مات عنها عمر قبل بلوغها ) . وقيل تزوجها وأولد منها زيداً ورقية . وأجيب بأن زيد بن عمر أمه أم‌كلثوم بنت جرول وليس أم‌كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) ، وهو وأخوه عبيد الله شقيقان ولدا في مكة . ( شرح النهج : 15 / 92 ) .
3 . مما استدل به على نفي زواج عمر بها : ما رواه ابن عبد البر في الإستيعاب ( 4 / 1807 ) ( خطب عمر بن الخطاب أم‌كلثوم بنت أبي‌بكر إلى عائشة فأطمعته وقالت : أين المذهب بها عنك ، فلما ذهبت قالت الجارية : تزوجيني عمر وقد عرفت غيرته وخشونة عيشه ! والله لئن فعلت لأخرجن إلى قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولأصيحن به ، إنما أريد فتى من قريش يصب علي الدنيا صباً .
قال : فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته الخبر ، فقال عمرو : أنا أكفيك ، فقال : يا أمير المؤمنين لو جمعت إليك امرأة ، فقال عسى أن يكون ذلك في أيامك هذه ، قال : ومن ذكر أمير المؤمنين ؟ قال : أم‌كلثوم بنت أبي‌بكر . قال : مالك ولجارية تنعى إليك أباها بكرة وعشياً . قال عمر أعائشة أمرتك بذلك ؟ قال نعم ، فتركها ) .
--------------------------- 189 ---------------------------
ورواه الطبري ( 3 / 270 ) وأضاف فيه قول عمرو : ( وأدلك على خير منها : أم‌كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، تعلق منها بنسب من رسول الله . ولم يذكر زواج عمر بها ) .
وقال ابن قتيبة في المعارف ( 1 / 175 ) : ( وأما أم‌كلثوم بنت أبي‌بكر فخطبها عمر إلى عائشة فأنعمت له ، وكرهته أم‌كلثوم ، فاحتالت حتى أمسك عنها ) .

أقول : ما دامت بنت أبي‌بكر تعرف كيف تهدد بالتظلم والصياح عند قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتتخلص بذلك من الزواج من شخص لا تحبه ، فكيف غاب ذلك عن أم‌كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) ! . بل التي هددت بنت علي ( عليه السلام ) فتعلمت منها بنت أبي‌بكر ، أو نسب إليها !

4 . كثرت مكذوبات رواة السلطة في هذا الموضوع : وغرضهم أن يثبتوا رضا أهل‌البيت ( عليها السلام ) عن عمر وإلا لما زوجوه . قال السمعاني في الأنساب ( 1 / 345 ) : ( لو كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كافرين ، لكان علي بتزويجه ابنته أم‌كلثوم الكبرى من عمر رضي الله عنه كافراً أو فاسقاً ، معرِّضاً بنته للزنا ، لأن وطأ الكافر للمسلمة زنا محض ) .
وقد فات السمعاني أن التزاوج والتوارث مبني على ظاهر الأمور ، وليس على واقعها .
5 . ومن مكذوباتهم في هذا الموضوع : قولهم إن أم‌كلثوم وابنها زيداً ماتا في ساعة واحدة ، واستندوا إلى نص مبهم فسروه بذلك .
قال النووي في خلاصة الأحكام ( 2 / 969 ) : ( وعن عمار بن أبي عمار ، قال : شهدت جنازة أم‌كلثوم وابنها ، فجعل الغلام مما يلي الإمام ، فأنكرت ذلك وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد وأبو قتادة وأبو هريرة . فقالوا : هذه السنة . رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح ) . وفي رواية : ( حضرت جنازة صبي وامرأة ، فقدم الصبي مما يلي الإمام ) .
فجعلوا الراوي بن أبي عمار : عمار بن ياسر ، وجعلوا جنازة أم‌كلثوم وابنها :
--------------------------- 190 ---------------------------
أم‌كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر ! ورده ابن قدامة فقال في المغني ( 2 / 421 ) إن زيد بن عمر : ( كان رجلاً له أولاد ، كذلك قال الزبير بن بكار ) . والصحيح قول ابن حجر في الإصابة ( 2 / 519 ) : ( زيد بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي شقيق عبد الله بن عمر المصغر ، أمهما أم‌كلثوم بنت جرول ، كانت تحت عمر ففرق بينهما الإسلام لما نزلت : ولا تُمْسَكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِر ) . فزيد بن عمر بن أم‌كلثوم بنت جرول ولد في مكة ، واشتهر
بنو عدي على قلتهم بصراعهم الدموي مع بعضهم ، وكانت بينهم معارك في المدينة بالعصي والأحجار ، فقتل فيها زيد بن عمر !
وروى البلاذري في أنساب الأشراف ( 10 / 486 ) أن زوجة أحدهم ادعت أن جاريتها سحرتها ، ودواؤها أن تقتلها وتصبغ ساقها بدمها ، ووافقها زوجها على ذلك ، وتحازب أولاد الجارية ضد إخوتهم من أم أخرى ، أولئك يريدون ذبح الجارية لمعالجة أمهم من سحرها وأولاء يحمون أمهم الجارية ! وكان زيد بن عمر مع أحد الحزبين فضرب بحجر فقتل !
6 . روينا أن عمر غضب غضباً شديداً لما خطب من علي ( عليه السلام ) فرده :
ففي الكافي ( 5 / 346 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( لما خطب إليه قال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنها صبية . قال : فلقي العباس فقال له : مالي أبي بأس ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : خطبت إلى ابن أخيك فردني ! أما والله لأعورن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ، ولأقيمن عليه شاهدين بأنه سرق ولأقطعن يمينه ! فأتاه العباس فأخبره ، وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه ) .
كما ذكرت رواية أنه عقد زواجه عليها ولم يدخل بها وتوفي ، فأخذوها من بيت عمر . راجع : ( محاضرات في الإعتقادات للميلاني : 2 / 675 ) .

5 - المحسن بن علي ( عليه السلام )

قال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 133 ) : ( وأولادها : الحسن والحسين ، وزينب ، وأم‌كلثوم ، والمحسن سقط ، وفي معارف القتيبي أن محسناً فسد من زخم قنفذ العدوي ) .
--------------------------- 191 ---------------------------
وقال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب / 16 : ( وتزوج فاطمةَ علي بن أبي طالب ، فولدت له الحسن والحسين والمحسِّن . مات المحسن صغيراً ، وزينب ، وأم‌كلثوم رضي الله عنهم ) .
وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 356 ) : ( فأولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى : الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكناة أم‌كلثوم ، أمهم فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بنت سيد المرسلين محمد
خاتم النبيين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ومحمد المكنى أبا القاسم ، أمه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية . وعمر ورقية كانا توأمين ، وأمهما أم حبيب بنت ربيعة . والعباس وجعفر وعثمان وعبد الله الشهداء مع أخيهم الحسين بن علي صلوات الله عليه وعليهم بطف كربلاء ، أمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم . ومحمد الأصغر المكنى أبا بكر ، وعبيد الله ، الشهيدان مع أخيهما الحسين ( عليه السلام ) بالطف ، أمهما ليلى بنت مسعود الدارمية . ويحيى أمه أسماء بنت عميس الخثعمية رضي الله عنها . وأم الحسن ورملة ، أمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي . ونفيسة ، وزينب الصغرى ، ورقية الصغرى ، وأم هاني ، وأم الكرام ، وجمانة المكناة أم جعفر ، وأمامة ، وأم‌سلمة ، وميمونة ، وخديجة ، وفاطمة ، رحمة الله عليهن ، لأمهات شتى .
وفي الشيعة من يذكر أن فاطمة صلوات الله عليها أسقطت بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولداً ذكراً ، كان سماه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهوحمل محسناً . فعلى قول هذه الطائفة : أولاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثمانية وعشرون ، والله أعلم ) .
وكلامه ( رحمه الله ) مستغرب ، ولعل قصده أن في الشيعة من يذكره مع أولاد علي ( عليه السلام ) ، وإن كان سقطاً . ولعله لم يطلع على المصادر التي ذكرته في أولاد علي ( عليه السلام ) .
وأفضل الكتب المؤلفة فيه كتاب العلامة الباحث المعاصرالسيد مهدي الخرسان حفظه الله ، باسم : المحسن السبط مولودٌ أم سقط ، عقد فيه فصلاً بعنوان : فيمن ذكر المحسن من أولاد أمير المؤمنين وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 93 ، ومما أورده فيه :
--------------------------- 192 ---------------------------
( فالأول من المصادر : هو سيرة ابن إسحاق ( ت 151 ه - ) قال : أنا يونس ، عن يونس بن عمرو ، وعن أبيه عن هانئ بن هانئ ، عن علي قال : لما ولد حسن سميته حرباً قال : فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني بُني ماذا سمّيتموه ؟ فقلت : سميته حرباً ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ولكن اسمه حسن ، فلما ولدت حسيناً سميته حرباً ، فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني ابني ما سميّتموه ؟ فقلنا : سمّيناه حرباً ، فقال : لا ولكن اسمه حسين ، فلما ولدت الثالث سميته حرباً ، فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أروني ابني ماذا سميتموه ؟ فقلنا : سميناه حرباً ، فقال : لا ولكن اسمه محسن ، ثم قال : إني سميتهم ببني هارون : شُبَّر ، وشبير [ ومشبر ] يقول : حسن وحسين ومحسن .
وعقد الفصل الثاني / 105 : ( في من ذكر المحسن السبط وأنه مات صغيراً :
1 - ابن إسحاق ، قال ابن الجوزي في صفة الصفوة : وزاد ابن إسحاق في أولاد فاطمة من علي محسناً ، قال : ومات صغيراً ، ونقله عنه أيضاً غيره كالدولابي في الذرية الطاهرة .
2 - ابن قتيبة في كتابه المعارف ، قال : وأما محسن بن علي فهلك وهو صغير .
3 - البلاذري في أنساب الأشراف ، قال : ومحسِّناً درج صغيراً .
4 - الطبري قال : ويذكرأنه كان لها منه ابن آخر يسمى محسناً ، توفي صغيراً .
5 - المطهر بن طاهر المقدسي في كتاب البدء والتاريخ ، قال : فإنه هلك صغيراً .
6 - ابن الأثير في تاريخه ذكر المحسن وقال : إنه توفي صغيراً ، وقد ذكر أنه كان له لعلي من فاطمة ابن آخر يقال له محسن . . رواه أبو الخليل عن سلمان ثم قال : وتوفي المحسن صغيراً ، أخرجه أبو موسى .
وأورد المؤلف أقوال ثلاثين مؤرخاً ومحدثاً في ذلك ، وبعضهم ذكر أن محسناً مات صغيراً ودرج ، أي مشى ، كالبلاذري والتلمساني وغيرهما . ثم عقد فصلاً / 117 ، بعنوان : فيمن ذكر المحسن السبط وأنه سقط ، قال : ومنهم : أبو إسحاق إبراهيم النظام ( ت 231 ه - ) وهذا هو شيخ الجاحظ ، وهو من شيوخ المعتزلة ، قال : إن عمر ضرب بطن فاطمة ( عليها السلام ) يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها ، وكان يصيح : أحرقوها بمن فيها ، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) . هذا
--------------------------- 193 ---------------------------
ما نقله عنه الشهرستاني في كتابه الملل والنحل . وحكى ذلك عن النظام أيضاً الصفدي في الوافي بالوفيات .
2 - ابن قتيبة ( ت 276 ه - ) حكى عنه الحافظ السروي المعروف بابن شهرآشوب ( ت 588 ه - ) في كتابه مناقب آل أبي طالب قال : وأولادها : الحسن والحسين والمحسن سقط ، وفي معارف القتيبي : إن محسناً فسد من زحم
قنفذ العدوي » .
3 - النسابة الشيخ أبو الحسن العمري وكان حياً سنة 425 ه - . قال في كتابه المجدي بعد ذكر اختلاف النسابين في المحسن : ولم يحتسبوا بمحسن لأنه ولد ميتاً وقد روت الشيعة خبر المحسن والرفسة ، ووجدت بعض كتب أهل النسب يحتوي على ذكر المحسن ، ولم يذكر الرفسة من جهة أعوِّل عليها . . .
فهؤلاء هم الذين ذكروا موت المحسن ( سقطاً ) والأقل من القليل الذي ذكر موته ( إسقاطاً ) ومع ذلك ففي هؤلاء من خشي مغبة العاقبة . . وعد منهم جماعة .

ثم ختم المؤلف بقوله : وإذا أمعنا النظر في أعداد الأصناف الثلاثة نجدها جميعاً ناهزت المائة ، لأن رجال الفصل الأول كانوا أربعين ، ورجال الفصل الثاني نيفوا على الثلاثين ، ورجال الفصل الثالث كانوا خمساً وعشرين ، وكلهم من رجال السنة ، ولا يتطرق الريب إلى اتهامهم بالرفض جميعاً وممالأة الشيعة ) .

6 - تسمية أولاد أمير المؤمنين ( عليه السلام )

يشكل علينا المخالفون بأن علياً ( عليه السلام ) سمى أولاده عثمان وعمر ، وهذا يدل على أن رأيه فيهم إيجابي ، بل يدل على أنه كان يحبهم !
لكن هذا لا ينهض أمام النصوص القطعية الكثيرة المتواترة ، التي بينت رأيه ورأي الأئمة ( عليهم السلام ) في خلفاء السقيفة ، وأنهم غصبوا الخلافة وخالفوا وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتسلطوا على الأمة بدون حق ! ولو لم يكن إلا الخطبة الشقشقية ، لكفى . فلا بد من القول بوجود سبب آخر لهذه التسميات ، غيرالقبول والمحبة .
--------------------------- 194 ---------------------------
ومن هذه الأسباب أن عمر بن الخطاب طلب من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يجعل له تسمية ولده ، فجعل له ذلك : ( فقال هبه لي ، فقلت هو لك . قال قد سميته عمر ، ونحلته غلامي مورق ) . ( تاريخ دمشق : 45 / 304 وتاريخ المدينة لابن شبة : 2 / 755 ، والأغاني : 9 / 181 ، وتاريخ الذهبي : 6 / 164 ، وإكمال التهذيب لمغلطاي / 106 ) .
ونحن نرى المخالف لحاكم قد يسمي أولاده باسمه لغرض دفع شره أو جلب نفعه . وقد قامت سياسة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع عمرعلى اللين معه وتألفه ، ولذلك أخذ عمر بكثير من آرائه ، وبسط يده في إدارة الفتوحات وغيرها ، وكان عمر يقول : لولا علي لهلك عمر ، ويقول : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن .
ونلاحظ أن التسمية للتقية كانت في العهد الأموي والعباسي ، ففي الثاقب لابن حمزة / 214 : ( عن أحمد بن عمر قال : خرجت إلى الرضا صلوات الله عليه وامرأتي بها حبل فقلت له : إني خلفت أهلي وهي حامل ، فادع الله أن يجعله ذكراً ، فقال لي : وهو ذكر فسمه عمر . فقلت : نويت أن أسميه علياً وأمرت الأهل به ، قال : سمه عمر . فوردت الكوفة وقد ولد لي ابن وسُمِّيَ علياً فسميته عمر ، فقال لي جيراني : لا نصدق بعدها بشئ مما كان يحكى عنك ! فعلمت أنه كان أنظر لي من نفسي ) !
أما تسمية علي ( عليه السلام ) لابنه بعثمان ، فقد روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 55 ، أنه قال : ( إنما سميته باسم أخي عثمان بن مظعون ) .
وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد / 194 ، أن أحد أولاد الإمام الحسن ( عليه السلام ) كان اسمه عمرو ، فلعل أمه سمته عمرواً باسم أحد أقاربها ، وسكت عن ذلك الإمام ( عليه السلام ) . وكذلك نجد في أصحاب الأئمة ثقات مثل : أبي‌بكر الحضرمي ، وعمر بن أذينة ، وعمر بن أبي شعبة الحلبي ، وعمر بن أبي زياد ، وعمر بن أبان الكلبي ، وعمر بن يزيد بياع السابري ، وعثمان بن سعيد العمري ومعاوية بن عمار ، ومعاوية بن وهب ، ويزيد بن سليط ! وغالباً ما يكون ذلك اسمه قبل استبصاره .
--------------------------- 195 ---------------------------

والنتيجة :

أنه لا يصح القول إن الأئمة ( عليهم السلام ) كان موقفهم من خلفاء السقيفة إيجابي بسبب تسمية ولد باسم أحد منهم ، بل يجب النظرالى مجموع مواقفهم وكلامهم ، والثابت أن موقفهم سلبي .
ففي الكافي ( 8 / 212 و 343 ) : عن حنان بن سديرأنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) عنهما ، فقال : يا أبا الفضل ما تسألني عنهما ؟ فوالله ما مات منا ميت قط إلا ساخطاً عليهما ، وما منا اليوم إلا ساخطٌ عليهما ، يوصي بذلك الكبير منا الصغير ، إنهما ظلمانا حقنا ومنعانا فيئنا ، وكانا أول من ركب أعناقنا ، وبثقا علينا بثقاً في الإسلام لا يسكر أبداً حتى يقوم قائمنا ويتكلم متكلمنا . ثم قال : أما والله لو قد قام قائمنا وتكلم متكلمنا لأبدى من أمورهما ما كان يكتم ، ولكتم من أمورهما ما كان يظهر ! والله ما أسست من بلية ولا قضية تجري علينا أهل‌البيت إلا هما أسسا أولها . . وإن الشيخين فارقا الدنيا ولم يتوبا ، ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ) !
* *
--------------------------- 196 ---------------------------

الفصل التاسع: علي ( عليه السلام ) بطل معركة الأحزاب

اليهود جمعوا الأحزابَ لحرب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
فقد ذهب وفد من حاخامات اليهود وزعمائهم إلى مكة برئاسة الحاخام كعب بن أسد ! « فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي . . فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمداً . قال أبو سفيان : هذا الذي أقدمكم ونازعكم ؟ قالوا : نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله . قال أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد !
وفي رواية : ولكن لانأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ! قال النفر : فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثم نحلف بالله جميعاً : لايخذل بعضنا بعضاً ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل ! ففعلوا ، فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا ، فاتعدوا لوقت وقَّتوه . فقال أبو سفيان : يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم ، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد ؟ فنحن عُمار البيت وننحر الكوم « الناقة السمينة » ونسقي الحجيج ، ونعبدالأصنام ؟ قالوا : اللهم أنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه . فأنزل الله في ذلك : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) .
--------------------------- 197 ---------------------------
وفي سيرة ابن هشام ( 2 / 402 ) : « قال ابن إسحاق : وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة : حيى بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق أبو عمار ، ووحوح بن عامر ،
وهوذة بن قيس » .
وذهب وفدهم إلى قيس عيلان ، وبني سُلَيْم ، ثم إلى غطفان ، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة ، ووعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش ، فأنعمت بذلك غطفان .
وعندما وصل أبو سفيان بجيش الأحزاب إلى المدينة وحاصرها ، تحرك اليهود في حصونهم ، فقام كعب بن أسد بتمزيق عهده مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجمع رؤساء قومه وهم : الزبير بن باطا ، وشاس بن قيس ، وعزال بن ميمون ، وعقبة بن زيد ، وأعلمهم بأنه مزق العهد ، ودعاهم إلى الخروج للحرب فجبنوا ، فتصور أبو سفيان أنهم غدروا به !
وكان عدد جيش الأحزاب عشرة آلاف ، وروي بضعاً وعشرين ألفاً ، مؤلفاً من : جيش قريش ، وجيش هوازن ، وبني سُلَيْم ، وبني مرة ، وبني أشجع ، وبني أسد ، ثم يهود قريظة في شرقي المدينة . وكان هدفهم المعلن : قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستئصال بني عبد المطلب . واستمر حصارهم للمدينة نحو شهر . وكان عدد المسلمين المدافعين عن المدينة تسع مئة إلى ألف مقاتل . وكانت حرب الأحزاب في شهر شوال من السنة الرابعة ، أي بعد أحُد بسنة ، ويظهرأنها كانت في أواخر شوال ، لأن محاصرة بني قريظة كانت بعدها مباشرة لمدة أسبوعين ، وكانت في أواخر ذي القعدة وأوائل ذي الحجة .

وكان المسلمون يحفرون الخندق في شهر رمضان ، فكان خَوَات بن جبير صائماً وأغمي عليه وهو يعمل في الحفر ، فنزلت آية : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ . . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ . « الكافي : 4 / 98 » .

--------------------------- 198 ---------------------------

علي ( عليه السلام ) حامل اللواء والقائد العام لجيش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كان علي ( عليه السلام ) يصل ليله بنهاره في العمل في حفرالخندق وتهيئة أدواته ، حتى استعار أدوات من بني قريظة ولا بد أنها بأجرة ، ثم كان يعمل في حراسة الخندق ومواجهة الأحزاب من غربي المدينة ، ومن بني قريظة من شرقيها .
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا .
« سورة الأحزاب : 9 - 11 » .
وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يشارك في دفع المشركين عندما يقصدون الخندق ، ويوجه المسلمين إلى رميهم بالسهام أو الحجارة . وكان رماة المسلمين على أبواب الخندق ، وفي نقاط مناسبة ، وعمدة سلاحهم الحجارة .
وقد وقع حادثان في أيام الحصار أثَّرا على معنويات المسلمين : إصابة سعد بن معاذ بسهم من المشركين إصابة شديدة ! ونقض بني قريظة عهدهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكانوا شرقي المدينة ، فكان المسلمون في طوق شبه كامل ، وكان خطر بني قريظة يعادل خطر بقية الأحزاب !
قالت أم‌سلمة رضي الله عنها : « شهدت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، وكنا بالحديبية ، وفي الفتح ، وحنين ، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا أخوف عندنا من الخندق ! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحَرْجة « الطوق » وأن قريظة لا نأمنها على الذراري ، فالمدينة تحرس حتى الصباح ، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا » . « إمتاع الأسماع : 1 / 235 » .
وكان علي ( عليه السلام ) يقسم وقته ليلاً ونهاراً في حراسة الخندق ، ومواجهة بني قريظة . ففي تفسير القمي ( 2 / 186 ) : « وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على العسكر كله ، بالليل يحرسهم ، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم » .
وقد وبَّخَ الله المسلمين في آيات الأحزاب لأنهم تسللوا من حراسة الخندق ،
--------------------------- 199 ---------------------------
بحجة أن بيوتهم مكشوفة لبني قريظة ! قال تعالى : وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا .
وقال عبد الله بن عمر : « بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف ، فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال : من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا ، وكان ذلك في برد شديد ، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا . قال : فلا والله ما عطف عليَّ منهم اثنان أو واحد » . « رواه في الأوسط « 5 / 275 . وصححه في الزوائد : 6 / 135 » .
وقال حذيفة : « إن الناس تفرقوا عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة الأحزاب ، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً » . « الحاكم : 3 / 31 » وصححه ، ومجمع الزوائد « 6 / 136 »
وفي تفسير القمي : 2 / 186 ، قال : « فلما جاءت قريش ، وغدرت اليهود ، قال المنافقون : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ! وقال قوم : هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب ، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله » .
ونافق أكثر المسلمين أو انهاروا ، وأشاع مرضى القلوب أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيصالح قريشاً بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً ! وبلغ نفاق بعضهم أن قال : « والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك » ! « كتاب سُلَيْم / 249 » لكن ذلك لم يكن ممكناً لهم !
وأخيراً اتفق المشركون مع المنافقين أن يسهلوا عبورهم من نقطة ضعيفة من الخندق ! وقد أمر عمرو بن ود جماعته أن يتهيؤوا للقتال يوم غد ، لأنه كان واثقاً من نجاح خطة عبورهم ! « مروا بمنازل بني كنانة فقالوا : تهيؤوا يا بني كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم » . « الإرشاد : 19 / 7 ، وابن هشام : 3 / 705 » .
ولما عبرت فرسانهم أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) أن يبادر إلى الثغرة ، فإن اعترض منافق فليقتله ! قال له : « يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه ! فمضى علي في نفرمعه يريدون الثغرة ، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها » ! ( شرح الأخبار : 1 / 294 ) .
وكان عرض الخندق تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع ، والذراع أكثر من نصف
--------------------------- 200 ---------------------------
متر « الأوزان والمقادير / 56 » فيكون عرضه نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً . ومن الصعب أن يقفزه أحد ، ويبدو أن منافقين ردموا الخندق في نقطة عبور المشركين !

من جهاد علي ( عليه السلام ) في غزوة الأحزاب

قالت الزهراء ( عليها السلام ) في خطبتها بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تخاطب الصحابة : « حتى استنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُنِيَ ببُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نَجَم قرن الشيطان ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، وأنتم في رفاهية ، فكهون آمنون وادعون ، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ، أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين » ! « الطرائف / 264 » .
فقد كان علي ( عليه السلام ) عضد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الشدائد ، ومعه نفر قليل من الصحابة ، أما البقية فكانوا هانئين يحافظون على سلامتهم ، ومنهم منافقون يخفون نفاقهم ! وعند وصول جيوش الأحزاب باشرعلي ( عليه السلام ) مهمته في حراسة الأبواب الثمانية للخندق ، وفي تفقد نقاط الضعف التي يمكن أن يطمع العدو بالعبور منها ، وإعداد رماة السهام والأحجار لمواجهة من يقترب من الخندق . وكان في نفس الوقت يدير جبهة بني قريظة من الجهة الثانية للمدينة ! وكان يعيش مس الجوع في تلك الأيام ويكتمه ، كما عاشه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكتمه ثلاثة أيام ، حتى شد على بطنه حجر المجاعة !
ولابد أن علياً ( عليه السلام ) دمعت عيناه عندما عرف أن فاطمة ( عليها السلام ) جاءت للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنصف قرص شعير . قال ( عليه السلام ) : ( كنا مع النبي في حفر الخندق ، إذ جاءت فاطمة ( عليها السلام ) ومعها كسيرة من خبز ، فدفعتها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما هذه الكسيرة ؟ قالت : خبزته قرصاً للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة ، فقال النبي : يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث ) ! « عيون أخبار الرضا : 1 / 43 ، وبحار الأنوار : 16 / 225 » .
ولا نعلم هل أكل علي ( عليه السلام ) منها أم بقي طاوياً ! لكن المؤكد أن الله تعالى كان يعينه
على جوعه وجهده !
--------------------------- 201 ---------------------------

عبور عمرو بن ود ورفقائه من ثغرة في الخندق

تفاجأ المسلمون بفرسان من المشركين عبروا الخندق ، وهم : عمرو بن عبد ود العامري ، وابنه حسيل ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة وثلاثتهم من بني مخزوم ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس ،
وهما فهريان .
وكان ابن عبد ود فارس العرب ويعد بألف فارس ، ويسمى فارس يَلْيَل لأنه أقبل في ركب فعرضت لهم بنو بكر في وادي يليل ، وهو قريب من بدر ، فقال لأصحابه : إمضوا ، فقام وحده في وجههم ومنعهم من أن يصلوا إليه !
وبعد أن قَفَزَ ابن عبد ودّ ورفقاؤه بخيولهم الخندق ، أخذوا يجولون ويستعرضون قوتهم في السبخة التي تحت جبل سلع ، مقابل مركز قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهي الآن مسجد الفتح ، فلم يهتم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للعابرين بقدر ما اهتم بسد الثغرة التي عبروا منها ، فنادى علياً ( عليه السلام ) فأسرع لسدها ، وقد يكون مرَّ قريباً من ابن وُد وهو يطلب المبارزة ، فقال له إصبر حتى أستأذن النبي في مبارزتك ، أو يختار لك من يبارزك ، وعاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجده يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة ، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير ! فقال علي ( عليه السلام ) : أنا له يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، وواصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه أحد ! فقام علي ( عليه السلام ) ثانيةً وقال : أنا له يا رسول الله ، وفي رواية ابن إسحاق : يا علي إنه عمرو ، فأجابه : وأنا علي يا رسول الله ! فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أدن مني ، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه ودعا له ، وأطلق كلماته الرسولية بحقه . وتقدم علي ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابر بن عبد الله الأنصاري ، وحذيفة ، وعمر ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليتفرجوا على هذه المبارزة التاريخية . وكان ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ، ومرة يركز رمحه في الأرض ويدور حوله ، ويقول : أبرز اليًّ يا محمد ، ثم يقول : إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ؟ ألا يحب أحدكم أن يُقْدِم على الجنة ، أو يبعث عدواً له إلى النار !
--------------------------- 202 ---------------------------
ولقد بححت من الندا * ء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجا * ع موقف الخصم المناجز
إني كذلك لم أزل * متسرعاً نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى * والجود من كرم الغرائز
وكان عمرو بن عبد ود راكباً ، ومشى علي ( عليه السلام ) نحوه راجلاً ، وهو يقول :
لاتعجلنَّ فقد أتاك * مجيب صوتك غيرُ عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ * والصدق مُنجي كلِّ فائز
إني لأرجو أن تقو * م عليك نائحةُ الجنائز
من طعنة نجلاء يبقى * ذكرها بين الهزاهز
وجرى بينهما حوار ، حتى غضب عمرو ونزل عن فرسه ، وأهوى بسيفه إلى علي بضربة قوية ، فتلقاها علي ( عليه السلام ) بترسه فشقت الترس والخوذة والعمامة ووصلت إلى رأسه ( عليه السلام ) فجرحته في قرنه ، فانفجر الدم على رأسه وكتفه ، ولم يتأخر علي فضربه ضربة حيدرية على ترقوته ، كما قال البيهقي وابن إسحاق ، وعلى ساقيه كما في رواية أخرى ، فهوى عمرو صريعاً وكبَّر علي ( عليه السلام ) بصوته الجهوري ، فكبرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون ! ورويَ أنه تقدم ليحز رأسه فتفل عمرو في وجهه وشتم أمه ، فرجع عنه ، قال : خشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ! وعاد علي ( عليه السلام ) إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمسح الدم والغبار عن عينيه ، ومسح مكان الضربة في رأسه . وقال علي ( عليه السلام ) ( الإرشاد : 1 / 99 ) :
( نصرالحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب
فضربته وتركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو انني * كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب ) .
وفي كنز الفوائد / 137 : « فتقدم إليه ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : برز الإيمان كله إلى الشرك كله . فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده ، قال له عمرو : يا علي قد جلست مني مجلساً عظيماً فإذا قتلتني فلا تسلبني حلتي ! فقال له أمير المؤمنين : هي أهون عليَّ
--------------------------- 203 ---------------------------
من ذلك ! وذبحه [ وأتى برأسه ] وهو يتبختر في مشيته فقال عمر : ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنها مشية لايمقتها الله في هذا المقام ، ثم نهض فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه » .
أقول : الظاهر أنه ذبحه ولم يفصل رأسه ولم يأت به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل لم يثبت أن علياً ( عليه السلام ) أتى برأس أحد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعد أن دعا له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومسح الدم عن وجهه رجع علي ( عليه السلام ) إلى الثغرة ليقطع الطريق على جماعة عمرو ، فطلب منه حسل بن عمرو المبارزة فبرز اليه وقتله ولم يمهله ! وهرب عكرمة بن أبي جهل ، وضرار الخطاب ، ونوفل بن عبد الله المخزومي فلحقهم علي ( عليه السلام ) ، فأفلت عكرمة بعد أن ألقى درعه ، وأفلت ضرار ، وعلق نوفل في الخندق فلم تستطع فرسه الصعود من الطرف الآخر ، فأخذ المسلمون يرمونه بالحجارة ، فصاح بهم : قتلةٌ أجمل من هذه ، ينزل إليَّ بعضكم أقاتله ! فنزل إليه علي ( عليه السلام ) فقتله !
وفي الطرائف / 60 ، عن أبي هلال ، قال : « أول من قال : جُعلت فداك ، عليٌّ ، لما دعا عمرو بن عبد ود إلى البراز يوم الخندق ولم يجبه أحد ، قال علي : جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي ؟ قال : إنه عمرو بن عبد ود . قال : وأنا علي بن أبي طالب » .
وانتشر خبر قتل عمرو ، ففرح المسلمون ، ووقع على الأحزاب كالصاعقة ، وكان ذلك قبل ظهر يوم الأربعاء ، وواصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاءه بعد صلاة الظهر ، فتغير الجو وجاءت الريح وعصفت بجيش الأحزاب فاضطربوا ، وأخذوا يفكرون بالإنسحاب ، وباتوا في ليلة ليلاء من الريح ، فأرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم حذيفة ليلاً ، فوصل إلى خيمة أبي سفيان واستطلع خبرهم ، فرآهم قرروا الرحيل : وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلي ( عليه السلام ) كما كان يقرؤها ابن مسعود . « الإرشاد : 1 / 106 ، والقمي : 2 / 182 ، والحاكم : 3 / 32 ، وابن هشام : 3 / 708 » . وأكمل الله عمل علي ( عليه السلام ) بهبوب الريح ، فانسحب المشركون ، ورجع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صبيحتها إلى المدينة ، وما أن صلى الظهر ووضع لباس حربه ،
--------------------------- 204 ---------------------------
حتى جاءه جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة الذين نقضوا عهدهم ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) أمامه ثم التحق بهم !

علي ( عليه السلام ) يصف مبارزته لعمرو بن ود

قال علي ( عليه السلام ) في جوابه لسؤال رئيس أحبار اليهود ( الخصال / 369 ) : « وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب . ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار .
فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ! ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً !
وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحه مرة ، وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضني إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعممني بيده ، وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواكٍ إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ! فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لا تَعُدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة ، وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان مني فيهم من النكاية » .
وقال ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس / 247 : « وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولا يبارز الأبطال ، ولايفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شديدة قط ، ولا كربهُ أمرٌ ، ولا ضيق ومستصعب من الأمر ، إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمي عن وجهي ، فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه ، ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول ، حيث خصني بذلك ووفقني له .
--------------------------- 205 ---------------------------
وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتَغَير ( من الغيرة ) وأمر ونهى . ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما رآى به من الرعب ! وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي . والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا ، وحمل الناس على رقابنا » .
وقال ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيْم بن قيس / 247 : « وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ، وأفقههم وأقرؤهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله ، وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا غَنَاء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء ) !
* *
وذكرت رواية أن علياً ( عليه السلام ) ذهب أولاً واستطلع وضع عمرو قبل أن يذهب لمبارزته ، ولم تذكر الرواية هل تكلم معه ، أواكتفى بأن ينظر اليه ويتأمله : قال ابن منظور في لسان العرب ( 12 / 326 ) : ( وفي حديث علي كرم الله وجهه ، حين أَراد أَن يَبْرُزَ لعمرو بن وُدٍّ قال : أَخْرُج إِليه فأُشامُّه قبل اللِّقاء أَي أَخْتَبِرُه وأَنْظُرُ ما عنده . يقال : شامَمْتُ فلاناً إِذا قارَبْتَه وتَعَرَّفْتَ ما عنده بالاخْتبار والكشف ، وهي مُفاعَلة من الشَّمّ كأَنك تَشُمُّ ما عنده ) .
وكان من عادته ( عليه السلام ) أن يدقق في من يبرز اليه ، ليعرف نقاط ضعفه ويعين أين يضربه . وقد يكون ذهابه اليه في رجوعه من سد الثغرة أو بعد ذلك ، لأن مكان عمر ورفاقه كان في السبخة التي بين الخندق وبين جبل سلع ، حيث خيمة قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والتي هي الآن مسجد القبلتين أو قريبة منه . وقد يكون ذهابه بلباسه العادي ، لأنه برز إلى عمرو مقنعاً بالحديد .
--------------------------- 206 ---------------------------

حذيفة ؟ رح ؟ يصف مبارزة علي ( عليه السلام ) لعمرو

في مناقب محمد بن سليمان ( 1 / 222 ) : « قال ربيعة : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله إنا نتحدث في علي وفي مناقبه فيقول لنا أهل البصرة : إنكم لتفرطون في علي وفي مناقبه ، فهل أنت تحدثني في علي بحديث ؟ فقال حذيفة : يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد في كفة الميزان ، من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل علي يوماً واحداً في الكفة الأخرى ، لرجح عمله على جميع أعمالهم !
فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة : وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان « يا أحمق » ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادي للمبارزة ، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً ، فقتله الله على يديه ؟ والذي نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد إلى يوم القيامة » .
وفي تفسير مجمع البيان ( 8 / 131 ) : « عن حذيفة قال : فألبسه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) درعه ذات الفضول ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وعممه عمامته السحاب ، على رأسه تسعة أكوار ، ثم قال له : تقدم ، فقال لما ولى : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه . قال ابن إسحاق : فمشى إليه وهو يقول :
لاتعجلن فقد أتاك . . . مجيب صوتك غير عاجز . . الأبيات .
قال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي . فقال : غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك ، فإني أكره أن أهرق دمك ! فقال علي ( عليه السلام ) : لكني والله ما أكره أن أهرق دمك ! فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو علي مغضباً فاستقبله علي بدرقته ، فضربه عمرو بالدرقة فقدها ، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه ! وضربه علي على حبل العاتق فسقط » .
وفي شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : 2 / 10 ، عن حذيفة قال : « فجاء حتى وقف على عمرو فقال : من أنت ؟ فقال عمرو : ما ظننت أني أقف موقفا أُجهل فيه ، أنا عمرو بن
--------------------------- 207 ---------------------------
عبد ود ؟ فمن أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال : الغلام الذي كنت أراك في حجر أبي طالب ؟ قال : نعم . قال : إن أباك كان لي صديقاً وأنا أكره أن أقتلك ! فقال له علي : لكني لا أكره أن أقتلك ، [ يا عمرو ] بلغني أنك تعلقت بأستار الكعبة وعاهدت الله عز وجل أن لا يخيرك رجل بين ثلاث خلال إلا اخترت منها خلة ؟ قال : صدقوا . قال : إما أن ترجع من حيث جئت . قال : لا تحدث بها قريش . قال : أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا . قال : ولا هذه . فقال له علي : فأنت فارس وأنا راجل ! فنزل عن فرسه ، وقال : ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام ! ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت ، ثم أقبل إلى علي وكان رجلاً طويلاً يداوي دَبَر البعير وهو قائم ، وكان علي ( عليه السلام ) في تراب دقَّ لا يثبت قدماه عليه ، فجعل علي ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه ، ويعلوه عمرو بالسيف ، وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها علي بالترس فلحق ذباب السيف في رأس علي ( عليه السلام ) حتى قطعت تسعة أكوار ، حتى خط السيف في رأس علي . وتسيَّف عليٌّ رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه ، فثارت بينهما عجاجة فسمع علي ( عليه السلام ) يكبر ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قتله والذي نفسي بيده ! فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب ، فإذا علي يمسح سيفه بدرع عمرو ، فكبر عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قتله ! فحز عليٌّ رأسه ثم أقبل يخطر في مشيته ، فقال له رسول الله : يا علي إن هذه مشية يكرهها الله عز وجل إلا في هذا الموضع .
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : ما منعك من سلبه فقد كان ذا سلب ؟ فقال : يا رسول الله : إنه تلقاني بعورته . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم ، وذلك إنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو » .
وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 33 ) : ( فسمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التكبير فعرف أن علياً
--------------------------- 208 ---------------------------
قتله ، فثم يقول علي رضي الله تعالى عنه :
أَعَلَيَّ يَقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي
فصدرت حين تركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو انني * كنت المقطر بزني أثوابي
عبدالحجارة من سفاهة عقله
[ لا تحسبن الله خاذل دينه * وعبدت رب محمد بصواب
ونبيه يا معشر الأحزاب ]
ثم أقبل علي نحو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجهه يتهلل ، فقال عمر بن الخطاب : هلا سلبته درعه فليس للعرب درعاً خيراً منها ؟ فقال : ضربته فاتقاني بسوءته ، واستحييت ابن عمي أن استلبه . وخرجت خيله منهزمة حتى أقحمت من الخندق ) .
وفي عيون المعجزات / 19 : ( أيكم قاتل العمرين وآسر العمرين . والعمران اللذان قتلهما : عمرو بن عبد ود ، وعمرو بن الأشعث المخزومي ، والعمران اللذان أسرهما : فأبو ثور عمرو بن معدي كرب ، وعمرو بن سعيد الغساني ، أسره يوم بدر ) .

رواية تفسير القمي لمبارزة علي ( عليه السلام ) لعمرو

قال علي بن إبراهيم القمي ( رحمه الله ) في تفسيره ( 2 / 182 ) : « فمرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) يهرول في مشيه وهو يقول : لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز . . . الأبيات . .
فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وختنه . فقال : والله إن أباك كان لي صديقاً قديماً ، وإني أكره أن أقتلك ! ما أمن ابن عمك حين بعثك إليَّ أن أختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض ، لاحيٌّ ولا ميت ؟ ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة ! فقال عمرو : وكلتاهما لك يا علي ؟ تلك إذا قسمةٌ ضيزى ! قال علي ( عليه السلام ) : دع هذا يا عمرو ، وإني سمعت عنك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول : لايعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال ، فأجبني إلى واحدة ! قال :
--------------------------- 209 ---------------------------
هات يا علي ! قال : أحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . قال : نحِّ عني هذه ، فاسأل الثانية فقال : أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله ، فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً ، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره . فقال : إذاً تتحدث نساء قريش بذلك ، وتنشد الشعراء في أشعارها ، أني جبنت ورجعت على عقبي من الحرب ، وخذلت قوماً رأَّسُوني عليهم ! فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فالثالثة أن تنزل إليَّ ، فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك . فوثب عن فرسه وعرقبه وقال : هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومني عليها ، ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف على رأسه ، فاتقاه أمير المؤمنين بدرقته فقطعها ، وثبت السيف على رأسه . فقال له علي ( عليه السلام ) : يا عمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب ، حتى استعنت عليَّ بظهير ؟ ! فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً ، وارتفعت بينهما عجاجة ، فقال المنافقون : قُتل علي بن أبي طالب ، ثم انكشف العجاجة ، فنظروا فإذا أمير المؤمنين على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ، فذبحه ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم ، وهو يقول والرأس بيده :
أنا عليُّ وابن عبدالمطلبْ الموت خيرٌ للفتى من الهربْ
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عليُّ ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة . وبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته . وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار : ويحك يا ابن صهَّاك أترميني في مبارزة ! والله لئن رميتني لاتركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته ! فانهزم عنه عمر ومرَّ نحوه ضرار ، وضربه على رأسه بالقناة ثم قال : إحفظها يا عمر ! فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما وليَ ، فولاه » !
وقالوا إن جمجمة عمرو بن ود بلغت كيلجة ! « مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 69 » .
--------------------------- 210 ---------------------------
والكيلجة صاع إلا يسيراً . « المحلى : 5245 » .
وأراد المشركون شراء جثة عمرو بعشرة آلاف ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! « المناقب : 1 / 171 » .

أخوا عمرو بن ود واجها علياً ( عليه السلام ) في مكة

أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكرليبلغ سورة براءة إلى المشركين ، فنزل جبرئيل بأمر الله تعالى : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ! « أحمد : 1 / 151 ، والخصال / 369 » . فأرسل بها علياً ( عليه السلام ) فدخل مكة ووقف في الموسم يقرأ عليهم سورة براءة .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : لما قرأ قوله تعالى : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك ، فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك ! فقال علي ( عليه السلام ) : أجل أجل ، إن شئت ، هلموا ! ثم واصل ( عليه السلام ) تلاوته : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ » . « المناقب : 1 / 392 » .
أقول : هذا الموقف فيه ثقة وقوة أعصاب مدهشة ، خاصة أنه ( عليه السلام ) واصل تلاوة الآيات مع دعوته لهما إلى المنازلة !

ضربة علي ( عليه السلام ) غيَّرت ميزان القوى !

فرح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقتل علي عمرو بن ود ، وأخبرهم بأن ميزان القوى قد تغير ! قال جابر بن عبد الله الأنصاري : « فما شبهت قتل علي عمراً إلا بما قال الله تعالى من قصة داود وجالوت ، حيث يقول : فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ . وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد قتله : الآن نغزوهم ولا يغزوننا » . « إعلام الورى : 1 / 382 ، والإرشاد : 1 / 102 ،
وكنز الفوائد / 138 ، والحاكم : 3 / 34 ، وسبل الهدى : 4 / 379 ، والخوارزمي / 171 » .
وأدرك النفعيون أن موجة الإسلام قادمة فأخذوا يدخلون في الإسلام ليكسبوا موقعاً في دولته المتوثبة ، فقال عمرو بن العاص لخالد : « والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً » ! « تاريخ الطبري : 2 / 313 » ووافقه خالد ، وجاءا مسلميْن !
--------------------------- 211 ---------------------------

إشادات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي ( عليه السلام ) يوم الأحزاب

روى المسلمون أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الإشادة بعلي ( عليه السلام ) وشهادته بحقه ، فمنها : أنه ألبسه درعه وأعطاه ذا الفقار وعممه بعمامته . ولما برز ومشى دعا له : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه .
ومنها : أنه رفع عمامته ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين . ( كنز الفوائد / 136 ) .
ومنها : أنه علمه دعاء : اللهم بك أصول ، وبك أجول ، وبك أدرأ في نحره .
ومنها : قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما برز علي ( عليه السلام ) إلى عمرو : برز الإيمان كله إلى الشرك كله .
ومنها : قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل أمتي إلى يوم القيامة . ضربة علي تعدل عند الله عمل الثقلين . ضربة علي أفضل من عمل الثقلين . ( تاريخ بغداد : 13 / 19 ) !
وتفسير قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : برز الإسلام كله إلى الشرك كله ، أنه لو انتصر ابن ود وقتل علياً ( عليه السلام ) لاقتحم المشركون الخندق وقتلوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وزال الإسلام . وتفسير مساواة ضربة علي ( عليه السلام ) لعمل الثقلين الإنس والجن ، أو تفضيلها عليه : أن ثواب علي ( عليه السلام ) من ضربته أكثر من عملهم ، فيكون عليٌّ أفضل من الثقلين الإنس والجن ، ما عدا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وما قاله الفخر الرازي ( 32 / 31 ) في تفسير قوله تعالى : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ : ( هذه الآية فيها بشارة عظيمة ، وفيها تهديد عظيم ، أما البشارة فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير ولم يبين قدر الخيرية ، وهذا كقوله ( عليه السلام ) : لمبارزة علي مع عمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة ، فلم يقل مثل عمله بل قال : أفضل كأنه يقول : حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف ) .
أقول : شهادات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الخندق في حق علي ( عليه السلام ) أبلغ مما ذكرناه ، وأغنى .
--------------------------- 212 ---------------------------

اخترع الصوفية حديث : جذبةٌ توازي عمل الثقلين !

حاول المتصوفة أن يجدوا شيئاً لهم مقابل ضربة علي ( عليه السلام ) فوضعوا حديثاً قدسياً يقول : ( جذبةٌ من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) . ( كشف الخفاء : 1 / 332 ، وتفسير الآملي : 2 / 542 ، وطبقات الشافعية : 5 / 96 ، وإمتاع الأسماع : 9 / 224 ) !
وقد أطال صدرالمتألهين في الأسفار ( 5 / 119 ) وفي مفاتيح الغيب ( 1 / 470 ) في توجيه ذلك ! قال في الأسفار : ( ولهذا لما سئل سقراط عن سبب إعراضه عن العلوم التعليمية قال إني كنت مشتغلاً بأشرف العلوم يعنى به العلم الإلهي . وبالجملة رأس الأمر وسنامه لمن أعطاه الله فطرة صافية وطبعاً لطيفاً وذكاءً شديداً وفهماً ثاقباً واستعداداً بالغاً ، أن لا يشتغل بأمور الدنيا ، وطلب الجاه والرفعة ، بل يكون معرضاً عن الخلق طالباً للخلوة آنساً بالله آيساً عن غيره ، مع حضور القلب واجتماع الهمة ، وصرف الفكر في الأمورالإلهية بعد أن حصل له قبل ذلك شطر من العلوم الأدبية والمنطقية والطبيعية والخلقية ، مما لا بد فيه للسالكين إلى الله تعالى على طريق الإكتساب العلمي ، دون المجذوبين إليه تعالى في أول الأمر بجذبه ربانية توازي عمل الثقلين ) !
وقال في مفاتيح الغيب : ( كما قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : رأيت ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : أنا ما أعلم يا رب ، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعرفت ما بين السماء والأرض ، وذلك إنما يكون بجذبة روحانية توازي عمل الثقلين ، فطوى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بساط الكونين وبلغ قاب قوسين ) !
وذكر نحو ذلك في تفسيره ، واستشهد بحديث الجذبة المكذوب مرات !
وقال الآملي في المقدمات / 269 : ( والمجذوب هو من اصطنعه الحق تعالى لنفسه ، واصطفاه لحضرة أنسه ، وطهره بماء قدسه ، فحاز من المنح والمواهب ما فاز به بجميع المقامات والمراتب ، بلا كلفة المكاسب والمتاعب . ويدل عليه قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : جذبة من جذبات الحق توازى عمل الثقلين . وأصحاب الجذبات على ثلاثة أقسام : مجذوب غير سالك ، وسالك غير مجذوب ، ومجذوب سالك . أما الأول : فهو الذي أشرنا اليه ، لأنه مجذوب غير محتاج إلى السلوك . وأما الثاني : فهو الذي يسلك الطريق ثم تحصل
--------------------------- 213 ---------------------------
له في أثنائه جذبة ويكون بحكمها ، وذلك مستحسن . وأما الثالث : فهو الذي تحصل له الجذبة ، ثم يسلك الطريق ويصل إلى المقصود بهما . وهذا أحسن من الكل وأعظم ) !
وفي حلية البشر للبيطار ( 1 / 1212 ) : ( حضرة سيدنا ومولانا الشيخ خالد قدس الله سره العزيز ، فتشرف بأخذ الطريقة العلية النقشبندية عنه ، كما ذكر ذلك في البهجة السنية ، ودخل الرياضة حالاً في جامع العداس ، فأدركته جذبة من جذبات الحق التي توازي عمل الثقلين ، فحصل له بعد ثلاثة أيام النسبة المعبر عنها بالوصول والفناء ، وهو دوام مقام الإحسان ، ولم يزل في ذكر وفكر ، يترقى إلى أعلا المقامات ، حتى أتم الأربعينية ) !
أقول : العجب من كبار المتصوفة مثل صدر المتألهين والآلوسي والآملي أنهم أرسلوا الحديث المكذوب إرسال المسلمات ، وهذا من قلة بضاعتهم في الحديث ، وحسن ظنهم بمن افتراه وكذبه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وغرضه أن يدعي لنفسه وأمثاله مقاماً يعادل عمل الثقلين الذي رآه في حديث علي ( عليه السلام ) ، وأن هذا المقام العظيم لا يحتاج إلى عمل علي ( عليه السلام ) وجهاده وتضحيته ، بل يحصل بلقلقة اللسان وادعاء القرب من الله تعالى والفناء فيه ، وحصول صرعة لبعض الناس يسمونها جذبة إلى الله تعالى !
والأعجب من جذبتهم أنهم ينسبونها إلى الله تعالى ، ويجعلونها اختياراً منه للمجذوب ، ودليلاً على مقام أعلى من النبوة ! وهي في أحسن حالاتها استغراق وتركيز يوجب الاغماء ، وفي أسوأ حالاتها صرع يحتاج إلي معاجلة عندالطبيب .

معنى قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : وإنك لذو قرنيها

روي أن ذا القرنين : « بعثه الله إلى قومه فضُرب على قرنه الأيمن ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب » . وقال رسول الله علي ( عليه السلام ) : وإن فيكم مثله » . « الإيقاظ / 145 ،
--------------------------- 214 ---------------------------
والدر المنثور : 4 / 241 ، وفتح القدير : 3 / 309 » . وفسره في القاموس : 4 / 258 ، بأنه ( عليه السلام ) : « ذو شجتين في قرني رأسه ، إحداهما من عمرو بن ود ، والثانية من ابن ملجم » . وهذا يؤكد أن ضربة عمرو كانت على قرن رأسه ( عليه السلام ) . وفي رواية أن ضربة ابن ملجم وقعت على ضربة عمرو . « المناقب : 2 / 327 » .
وقد فسر بعضهم بذلك قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : « يا علي ، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك تعرف بحزب الله عز وجل » . « أمالي الصدوق / 656 » .
قال الراغب في المفردات / 401 : « وذو القرنين معروف ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه : إن لك بيتاً في الجنة وإنك لذو قرنيها : يعني ذو قرني الأمة ، أي أنت فيهم كذي القرنين » .
لكن ذكر الصدوق ( رحمه الله ) في معاني الأخبار / 206 ، أن معناه أنه والد الحسنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنهما قرنا الجنة ، بمعني قرطيها وزينتها . وفسره بوجه آخر : إنك صاحب الحجة على شرق الدنيا وغربها ، وآخذ بقرنيها . لكنه مشكل .
وتردد الشريف الرضي في المجازات النبوية / 87 ، بين معان ، فذكر قرني الجنة بطرفيها ، لأنه يبلغ غايات المثابين فيها ، أو بمعنى قرني الأمة بمعنى طرفيها فأنت في أولها والمهدي في آخرها ، أو بمعنى صاحب العلم الظاهر والباطن ، أورأس الأمة لأن الرأس فيه القرنان ، أو المضروب مثله على قرنيه .
وكلها لا تخلو من إشكال ، وإن كان الأخيرأقلها إشكالاً . وفسره السيد ابن طاووس في سعد السعود / 65 ، والحر العاملي في الإيقاظ / 145 ، بأنه يقصد رجعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد موته كما رجع ذو القرنين بعد موته ولا يصح ذلك ، لأنه ( عليه السلام ) لايُضرب بعد الرجعة على قرنه الآخر . فالمتعين أن يكون المقصود ضربه علي قرنه في جهاده علي التنزيل ثم ضربه علي قرنه في جهاده علي التأويل .
--------------------------- 215 ---------------------------

ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبد ود

المسألة الأولى :
نص العلامة في تذكرة الفقهاء ( 9 / 83 ) : على أن خدعة علي ( عليه السلام ) لعمرو في الحرب رواية عامية ، قال : ( روى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز علياً ( عليه السلام ) . . ثم قال : فقال علي ( عليه السلام ) : ما برزت لأقاتل اثنين ! فالتفت عمرو فوثب علي ( عليه السلام ) فضربه ، فقال عمرو : خدعتني ! فقال علي ( عليه السلام ) : الحرب خدعة ) .
لكن يظهر أن علي بن إبراهيم قبلها ، حيث قال في تفسيره ( 2 / 182 ) : ( فقال له علي : يا عمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت علي بظهير ؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً . . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عليُّ ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة ) .
كما أفتى بها آقا ضياء العراقي في شرح التبصرة ( 4 / 408 ) ، فقال : ( نعم تجوز الخدعة في الحرب لفعل علي ( عليه السلام ) بعمرو بن عبد ود ، وقال ( عليه السلام ) : الحرب خدعة » .
لكن صاحب الجواهر ( 21 / 79 ) وهو أفقه من آقا ضياء ، اكتفى بإيرادها ، واستدل هو والسيد الخوئي ( منهاج الصالحين : 1 / 373 ) على جواز الخدعة ، برواية إسحاق بن عمار المعتبرة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال يوم الخندق . .
والنتيجة : أن الخدعة في الحرب جائزة ، لكن بعض فقهائنا توقف في أن علياً ( عليه السلام ) استعملها مع عمر ، وبعضهم ثبت عنده ذلك ، لوجود قرائن على صحة رواية العامة . والتوقف أكثر انسجاماً مع صفات علي ( عليه السلام ) وأخلاقه .
المسألة الثانية :
ذكروا أنه لما برز علي ( عليه السلام ) لعمر ، ذهب معه متفرجون من المسلمين وهم خمسة كما في رواية ابن إسحاق ، قال : وتقدم علي ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابرالأنصاري ، وحذيفة ، وعمر ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليتفرجوا .
--------------------------- 216 ---------------------------
وقال القاضي المغربي في شرح الأخبار ( 1 / 294 ) : ( ووقف المشركون من وراء الخندق ينظرون ما يكون منهما . ورفع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده إلى السماء يدعو الله عز وجل لعلي بالظفر ) . ومعناه أن المتفرجين كانوا من الطرفين ، فالمشركون من وراء الخندق ، والمسلمون أمام خيمة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في منحدر جبل سلع ، عند أول السبخة التي كانت ميدان المبارزة .
المسألة الثالثة :
لم يأذن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي من أول الأمر ، رغم سكوت المسلمين وإلحاح عمرو بالنداء ، ويبدو أن ذلك لإتمام الحجة عليهم ، لكن ذكرت رواية أنه كان يريد أن يبرز له غير علي ( عليه السلام ) لأن فاطمة ( عليها السلام ) كانت تخاف عليه !
ففي المناقب : 2 / 325 : ( في كل ذلك يقوم علي ليبارزه فيأمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالجلوس لمكان بكاء فاطمة ( عليها السلام ) عليه من جراحاته في يوم أحد ، وقولها : ما أسرع أن يوتم الحسن والحسين باقتحامه الهلكات ! فنزل جبرئيل
عن الله تعالى أن يأمر علياً ( عليه السلام ) بمبارزته فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أدن مني وعممه بعمامته وأعطاه سيفه ، وقال إمض لشأنك . ثم قال : اللهم أعنه . فلما توجه إليه قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره ) .
المسألة الرابعة :
نهى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن المثلة بالمقتول حتى لو كان كلباً عقوراً ، وكانت المثلة بالأعداء من ثقافة الجاهلية وما زالت ، من قطع رؤوسهم وحملها إلى قادتهم والدوران بها في المدن والقرى ! وأشهر من حملت رؤوسهم من بلد إلى بلد الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه رضوان الله عليهم .
ورووا من غير طريق أهل‌البيت ( عليها السلام ) أنهم جاؤوا للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) برؤوس أعدائه ولم يصح عندنا ، ولا تصح روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) جاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) برأس عمرو بن ود ، وأنه في خيبر جاء له برأس مرحب . ( الكامل لابن عدي : 6 / 50 ) .
والمرجح عندنا أن معنى قولهم إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذبحه أو قطع رأسه ، أنه أجهز
--------------------------- 217 ---------------------------
عليه ، وليس فيه دلالة على أنه فصل رأسه أو حمله . ويؤيده أنهم ضعفوا رواية مجيئه برأس عمرو إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( مجمع الزوائد : 6 / 152 ) .
كما رووا أن ابن مسعود جاء برأس أبي جهل إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحمد الله ( الإستيعاب : 3 / 1410 ) وأن أبا بردة بن نيارقال : ( جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) ( نهاية ابن كثير : 3 / 343 ) وأن جابرالأنصاري قال إن محمد بن مسلمة جاء برأس كعب بن الأشرف إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( ثقات ابن حبان : 1 / 215 ) . ولوصح فهو تصرف منهم ولا بد أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرهم بدفنها . فموقفه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الترفع عن التمثيل بالجثامين ، والتنزه عن اتخاذها وسيلة للتجارة أو الضغط على العدو . ويؤيد ذلك رفضه مقابل جثة عمرو بن ود عشرة آلاف درهم ، وقوله : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! « المناقب : 1 / 171 » . ويؤيده ما رووه عن الزهري : ( لم يحمل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأس إلا يوم بدر ) . ( سير السرخسي : 1 / 111 ) .
المسألة الخامسة :
يناسب أن نذكر بعض من قتلهم الحكام وطافوا برؤوسهم ونصبوها في البلاد ليخوفوا من خالفهم ، فهي ثقافة جاهلية استمرت في الأمة ، وما نراه في عصرنا من وحشية وتمثيل في الجثث ، إرث من الجاهلية ولا صلة له بالإسلام .
قال المؤرخ ابن حبيب في كتابه المحبر / 490 : ( ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ، وكان شيعياً ، ودير به في السوق . ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبد الله ومحمد وأبا بكر بني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبد الله ابنا الحسن وعلي وعبد الله بن الحسين وعبد الله وجعفروعبدالرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ، ومسلم بن عقيل ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم ، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية ، فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين رضي الله عنه ، فنصب بالمدينة !
ونصب المختار بن عبيد رأس عبيد الله بن مرجانة ، ورأس الحصين بن نمير
--------------------------- 218 ---------------------------
السكسكي ، ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وكان إبراهيم بن الأشتر قتلهم يوم الحازر ، وبعث إليه برؤوسهم فبعث برؤوسهم إلى ابن الحنفية ، فنصبت رؤوسهم على باب المسجد الحرام ، فخرج ابن الحنفية من الطواف فرآها منصوبة ، فحمد الله
وأثنى عليه .
فلما قتل مصعب بن الزبير المختار بعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير ، فنصبه على باب المسجد الحرام وسمر في يد المختار مسماراً من حديد إلى جنب المسجد مسجد الكوفة ، فلم تزل مسمورة حتى قدم الحجاج فرآها فسأل عنها فأخبر بها فأمر بنزعها .
ونصب مصعب رأس إبراهيم بن الحر الجعفي بالكوفة . ونصب عبد الملك رأس إبراهيم بن الأشتر النخعي ، ورأس يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
ونصب عبد الملك رأس مصعب بمصر ، ثم رده فنصبه بدمشق ، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فغسلته وحنطته ودفنته .
ونصب عبد الملك بن مروان رأس عمير بن الحباب السلمي بدمشق .
ونصب الوليد بن يزيد رأس يحيى بن زيد بن علي رضي الله عنه ، وكان نصر بن سيار أنفذه إليه من خراسان .
ونصب يزيد بن عبد الملك رأس عبد الله بن موسى بن نصير ، وكان بعث بها إليه بشر بن صفوان الكلبي من إفريقية اتهمه بقتل يزيد بن أبي مسلم .
ونصب يزيد الناقص رأس الوليد بن يزيد في مسجد دمشق ، ما يلي باب الفراديس ، ونصب أيضاً رأس يوسف بن عمر الثقفي بدمشق .
ونصب أبو العباس أمير المؤمنين رأس مروان بن محمد بن مروان بالكوفة .
ونصب الهادي رأس دحية بن المعصب بن الأسبغ بن عبد العزيز بن مروان ، وكان قتل بمصر فنصب رأسه ببغداد .
وقتل موسى بن عيسى بن موسى الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بفخ في الموسم ، فنصب الهادي رأسه ببغداد على الجسر ، ثم بعث به إلى خراسان ، وأمه زينب بنت عبد الله بن حسن .
--------------------------- 219 ---------------------------
ونصب طاهر بن الحسين رأس محمد بن هارون الأمين ببغداد ، على باب بستان مؤنسة ، ثم وجه به إلى المأمون بخراسان فنصبه هناك . وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل وهو بفم الصلح من خراسان ، برأس علي بن أبي سعيد ، ورأس عبد العزيز بن عمران الطائي ، ورأس خلف المصري ورأس مؤنس التاجر ، واتهمهم بدم الفضل بن سهل فنصبها الحسن بن سهل هناك .
ونصب المأمون رأس أحمد بن نصر الخزاعي ببغداد . ونصب المتوكل رأس إسحاق بن إسماعيل التفليسي ببغداد ، وكان بغا الكبير أنفذه من أرمينية ) .
المسألة السادسة :
روى في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 381 ) : ( لما أدرك علي ( عليه السلام ) عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في علي ( عليه السلام ) فرد عنه حذيفة ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته ، ثم إنه ضربه ، فلما جاء سأله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن ذلك فقال : قد كان شتم أمي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ، ثم قتلته في الله ) .
وقد يشكل على ذلك بأن علياً ( عليه السلام ) ليس عنده ثنائية في الغضب والرضا ، فغضبه ورضاه دائماً لله تعالى حتى لو كان لشتم أمه ( عليها السلام ) .
لكن يجاب عنه بأن حالات المعصوم ( عليه السلام ) في القرب إلى الله تعالى قد تكون متفاوتة ، فأراد أن يقتله وهو في أعلاها مستوى ، كما أن عمرواً قد يكون تكلم بكلام كثير ، فتركه الإمام ( عليه السلام ) يتم كلامه ويسجل ذلك في صحيفة عمله .
المسألة السابعة :
من نبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه ترفع عن سلب عمرو ، بل لم أجد أنه سلب أحداً ممن قتلهم ! قال في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 384 ) : ( لما أردى ( عليه السلام ) عمرواً قال عمرو : يا ابن عم إن لي إليك حاجة ، لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه ، فقال : ذاك أهون علي ، وفيه يقول ( عليه السلام ) :
--------------------------- 220 ---------------------------
وعففتُ عن أثوابه ولوَ انني * كنتُ المقطر بَزَّني أثوابي
محمد بن إسحاق : قال له عمر : هلا سلبت درعه فإنها تساوي ثلاثة آلاف ، وليس للعرب مثلها ؟ قال : إني استحييت أن أكشف ابن عمي . وقال ( عليه السلام ) : يا قنبر لاتُعْرِ فرايسي ، أراد لا تسلب قتلاي من البغاة .
إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وفي تاريخ الخميس للديار بكري ( 1 / 488 ) : ( ورويَ أن علياً لما قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أخت عمرو حتى قامت عليه ، فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت : ما قتله إلا كفؤ كريم ، ثم سألت عن قاتله قالوا : علي بن أبي طالب ، فأنشأت هذين البيتين . . الآتيين )
فنلاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفى لعمرو بوعده فلم يسلبه حتى درعه ، بينما لامه عمر على ذلك ولعله أراد سلبه فمنعه علي ( عليه السلام ) . ويظهر أن أخت عمرو جاءت لتأخذ جثته فوجدته بكامل ثيابه ودرعه ، فشهدت بنبل علي ( عليه السلام ) . فسبب عدم سلبه أنه وعده كما وعد فارس قريش طلحة بن أبي طلحة في أحُد ؟ والأسباب الأخرى التي ذكرتها روايات إن صحت ، فهي أعذار مكملة .
المسألة الثامنة :
عمرو بن عبد ود قرشي من بني عامر بن لؤي ، وهم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( ابن هشام : 2 / 489 ) . وعدوه ثالث شجعان قريش ، أي بعد بني عبد الدار وعتبة بن ربيعة ، وقد شهد مع المشركين معركة بدر وقتل اثنين من المسلمين : سعد بن خيثمة الأنصاري وهو من النقباء ( الحاكم : 3 / 189 ) وعمير بن أبي وقاص . ( الإستيعاب : 3 / 1221 ) . قال الحاكم ( 3 / 32 ) : ( قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، ولم يشهد أحُداً ، فلما كان يوم الخندق خرج معلَّماً ليرى مشهده ) .
* *
--------------------------- 221 ---------------------------

من شعر معركة الأحزاب ومبارزة علي ( عليه السلام ) لعمرو

قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 105 ) : ( وفي الأحزاب أنزل الله عز وجل : إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا . إلى قوله : وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا .
توجه العتب إليهم والتوبيخ والتقريع والعتاب ، ولم ينج من ذلك أحد باتفاق إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إذ كان الفتح له وعلى يديه ، وكان قتله عمراً ونوفل بن عبد الله ، سبب هزيمة المشركين . وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد قتله هؤلاء النفر : الآن نغزوهم ولا يغزونا .
وقد روى يوسف بن كليب وغيره ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه كان يقرأ : وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلي ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا . وفي قتل عمرو يقول حسان :
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي * بجنوب يثرب غارة لم تنظر
فلقد وجدت سيوفنا مشهورة * ولقد وجدت جيادنا لم تقصر
ولقد رأيت غداة بدر عصبة * ضربوك ضرباً غير ضرب المحسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة * يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
ويقال : أنه لما بلغ شعر حسان بني عامر أجابه فتى منهم ، يرد عليه افتخاره بالأنصار :
كذبتم وبيت الله لم تقتلوننا * ولكن بسيف الهاشميين فافخروا
بسيف أبي عبد الله أحمد في الوغى * بكف علي نلتم ذاك فاقصروا
فلم تقتلوا عمرو بن عبد ببأسكم * ولكنه الكفء الهزبر الغضنفر
علي الذي في الفخر طال بناؤه * فلا تكثروا الدعوى علينا فتفخروا
ببدر خرجتم للبراز فردكم * شيوخ قريش جهرة وتأخروا
فلما أتاهم حمزة وعبيدة * وجاء علي بالمهند يخطر
--------------------------- 222 ---------------------------
فقالوا : نعم أكفاء صدق فأقبلوا * إليهم سراعاً إذ بغوا وتجبروا
فجال علي جولة هاشمية * فدمرهم لما عتوا وتكبروا
فليس لكم فخر علينا بغيرنا * وليس لكم فخر يعدُّ ويذكر
عن أبي الحسن المدائني قال : لما قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عمرو بن عبد ود نُعي إلى أخته فقالت : من ذا الذي اجترأ عليه ؟ فقالوا : ابن أبي طالب . فقالت : لم يعدُ يومه على يد كفء كريم ، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الأبطال وبارز الأقران ، وكانت منيته على يد كفء كريم قومه ، ما سمعت أفخر من هذا يا بني عامر ، ثم أنشأت تقول :
لو كان قاتلُ عمرو غير قاتِلِه * لكنت أبكي عليه آخرَ الأبد
لكنَّ قاتلَهُ من لا يُعاب به * وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وقالت أيضاً :
أسدان في ضيق المكر تصاولا * وكلاهما كفء كريم باسل
فتخالسا مهج النفوس كلاهما * وسط المذاد مخاتل ومقاتل
وكلاهما حضر القراع حفيظة * لم يثنه عن ذاك شغل شاغل
فاذهب علي فما ظفرت بمثله * قول سديد ليس فيه تحامل
فالثأر عندي يا علي فليتني * أدركته والعقل مني كامل
ذلت قريش بعد مقتل فارس * فالذل مهلكها وخزي شامل
ثم قالت : والله لا ثَئِرت قريش بأخي ما حنَّت النيب ) .
قال ابن منظور في لسان العرب ( 7 / 126 ) : ( العرب تقول للرجل الكريم : هو بَيْضة البلد يمدحونه . وأَنشد أَبو العباس لامرأَة من بني عامر بن لُؤَيّ ترثي عمرو بن عبد وُدٍّ
وتذكر قتل عليّ إِيَّاه :
لو كان قاتِلُ عَمرو غيرَ قاتله * بَكَيْتُه ما أَقام الرُّوحُ في جَسَدي
لكنَّ قاتلَه مَنْ لا يُعابُ به * وكان يُدعَى قديماً بَيْضَةَ البَلَدِ
يا أُمَّ كُلْثُومَ شُقِّي الجَيْبَ مُعْوِلَةً * على أَبيكِ فقد أَوْدَى إِلى الأَبَدِ
يا أُمَّ كُلْثُومَ ، بَكِّيه ولا تَسِمِي * بُكَاءَ مُعْوِلَةٍ حَرَّى على ولد
--------------------------- 223 ---------------------------
أقول : أصل البيت من شعرأخت عمرو :
لكن قاتله من لا يعاب به * وكان يدعى أبوه بيضة البلد
لكنهم غيروه بغضاً بأبي طالب ( عليه السلام ) وهو المقصود ببيضة البلد . وقد روته كذلك أمهات المصادر ، كشذرات الذهب للعماد ( 4 / 39 ) وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد ( 2 / 198 ) وابن الجوزي في المنتظم ( 2 / 234 ) وشرح النهج ( 1 / 31 ) وغيرهم .
* *
وكبر المسلمون لقتل عمرو ، وجاء علي إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يقول : ( شرح الأخبار : 1 / 294 ) .
نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب
فصددت حين تركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو انني * كنت المصرع بزَّني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيَّهُ يا معشر الأحزاب
* *
وروي أن جبرئيل ( عليه السلام ) نادى : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، وروى الشريف المرتضى في رسائله ( 4 / 119 ) قول الشاعر :
جبريل نادى في الوغى * والنقع ليس بمنجلي
والمسلمون بأسرهم * حول النبي المرسل
والخيل تعثر بالجماجم * والوشيج الذُّبَّل
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
وقال القاضي النعمان في شرح الأخبار ( 1 / 294 ) : ( ألقى عكرمة رمحه وهو منهزم في الخندق إذ أثقله ، وكان مع عمرو بن عبد ود . قال حسان :
ففر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرمُ لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليم * ما أن تجوز عن المعدل
ولم تلو ظهرك مستأنساً * كأن قفاك قفا فَرْعَل ( جرو الضبع )
--------------------------- 224 ---------------------------
وفي الإرشاد ( 1 / 109 ) : ( لما انهزم الأحزاب وولوا عن المسلمين الدبر ، عمل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على قصد بني قريظة ، وأنفذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إليهم في ثلاثين من الخزرج ، فقال له : أنظر بني قريظة هل تركوا حصونهم . . قال علي ( عليه السلام ) : فأشرفوا عليَّ فحين رأوني صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو ، وقال آخر : قد أقبل إليكم قاتل عمرو ، وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك ، وألقى الله في قلوبهم الرعب ، وسمعت راجزاً يرجز :
قتل عليٌّ عمرا * صاد عليٌّ صقرا
قصم علي ظهرا * أبرم عليٌّ أمرا
هتك عليٌّ سترا
فقلت : الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك ) .
* *
روى ابن إسحاق وابن هشام « 3 / 733 » قول ضرار بن الخطاب الفهري :
ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا
كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا
ترى الأبدان فيها مسبغات على * الأبطال واليلب الحصينا
وجرداً كالقداح مسوماتٍ * نؤم بها الغواة الخاطئينا
كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب الخندقين مصافحونا
أناس لا نرى فيهم رشيداً وقد * قالوا : ألسنا راشدينا
فأحجرناهم شهراً كريتاً * وكنا فوقهم كالقاهرينا
نراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا
بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق والشئونا
كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا
وميضُ عقيقة لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا
فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا
--------------------------- 225 ---------------------------
ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا
فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعداً رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحى * على سعد يرجعن الحنينا
وسوف نزوركم عما قريب * كما زرنا كم متوازرينا
بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب قد حمت العرينا
فأجابه كعب بن مالك الأنصاري :
وسائلة تسائل ما لقينا * ولو شهدت رأتنا صابرينا
صبرنا لا نرى لله عدلاً * على ما نابنا متوكلينا
وكان لنا النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا
نقاتل معشراً ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا
ترانا في فضافض سابغات * كغدران الملا متسربلينا
وفى أيماننا بيض خفاف * بها نشفي مراح الشاغبينا
بباب الخندقين كأن أسداً * شوابكهن يحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوساً معلمينا
لننصر أحمداً والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فإما تقتلوا سعداً سفاهاً * فإن الله خير القادرينا
سيدخله جناناً طيبات * تكون مقامة للصالحينا
كما قد ردكم فلا شريداً * بغيظكم خزايا خائبينا
وقال مسافع الجمحي يبكي عمرو بن عبد ود :
عمرو بن عبد كان أول فارسٍ * جزع المذاد وكان فارس يليلِ
سمحُ الخلائق ماجدٌ ذو مرة * يبغي القتال بشكة لم ينكل
ولقد علمتم حين ولوا عنكم * أن ابن عبد فيهم لم يعجل
--------------------------- 226 ---------------------------
حتى تكنفه الكماة وكلهم * يبغي مقاتله وليس بمؤتلي
ولقد تكنفت الأسنة فارساً * بجنوب سلع غير نكس أميل
سأل النزال عليُّ فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب عليُّ فما ظفرت بمثله * فخراً ولا لاقيت مثل المعضل
نفسي الفداء لفارس من غالب * لاقى حمام الموت لم يتحلحل
وقال الشيخ كاظم الأزري ( رحمه الله ) من قصيدته الأزرية / 124 :
ظهرت منه في الوغى سطواتٌ * ما أتى القوم كلهم ما أتاها
يوم غصت بجيش عمرو بن ود * لهوات الفلا وضاق فضاها
وتخطى إلى المدينة فرداً * بسرايا عزائمٍ ساراها
فدعاهم وهو ألوفٌ ولكن * ينظرون الذي يشبُّ لظاها
أين أنتم عن قَسْورٍ عامريٍّ * تتقي الأسد بأسه في شراها
فابتدى المصطفى يحدث عما * تؤجر الصابرون في أخراها
قائلاً ان للجليل جناناً * ليس غير المجاهدين يراها
أين من نفسه تتوق إلى * الجنات أو يورد الجحيم عداها
من لعمرٍو وقد ضمنت على * الله له من جنانه أعلاها
فالتووا عن جوابه كسوامٍ * لا تراها مجيبةً من دعاها
وإذا همْ بفارسٍ قرشيٍّ * ترجف الأرض خيفةً إذ يَطَاها
قائلاً مالها سواي كفيلٌ * هذه ذمةٌ عليَّ وفاها
ومشى يطلب الصفوف كما * تمشي خماص الحشا إلى مرعاها
فانتضى مشرفيه فتلقى * ساق عمرو بضربة فبراها
والى الحشر رنة السيف منه * يملأ الخافقين رجع صداها
يا لها ضربة حوت مكرمات * لم يزن ثقل أجرها ثقلاها
هذه من علاه إحدى المعالي * وعلى هذه فقس ما سواها » .
* * ا
--------------------------- 227 ---------------------------

الفصل العاشر: علي ( عليه السلام ) بطل معركة بني قريظة

علي ( عليه السلام ) بطل معركة بني قريظة
1 - جبرئيل ( عليه السلام ) يأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغزو بني قريظة
قال في إعلام الورى « 1 / 194 » : « وأصبح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « بعد الخندق » بالمسلمين حتى دخل المدينة ، فضربت له ابنته فاطمة ( عليها السلام ) غسولاًحتى تغسل رأسه ، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً بعمامة بيضاء ، عليه قطيفة من إستبرق ، معلق عليها الدر والياقوت ، عليه الغبار ، فقام رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمسح الغبار عن وجهه ، فقال له جبرئيل : رحمك ربك ، وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ! ما زلت أتبعهم حتى بلغتُ الروحاء !
ثم قال جبرئيل : إنهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب ، فوالله لأدقنهم دق البيضة على الصخرة ! فدعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) فقال : قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة ، وقال : عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة . فأقبل علي ( عليه السلام ) ومعه المهاجرون وبنو عبدالأشهل وبنو النجار كلها ، لم يتخلف عنه منهم أحد ، وجعل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُسَرِّب إليه الرجال ، فما صلى بعضهم العصر إلا بعد العشاء ، فأشرفوا عليه وسبُّوه وقالوا : فعل الله بك وبابن عمك ، وهو واقف لا يجيبهم ، فلما أقبل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون حوله تلقاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك فإن الله سيجزيهم ، فعرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنهم قد شتموه . . فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ » .
وفي الإرشاد : 1 / 109 : « قال علي ( عليه السلام ) : فاجتمع الناس إليَّ وسرت حتى دنوت من سورهم ،
--------------------------- 228 ---------------------------
فأشرفوا عليَّ فحين رأوني صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو . . وسمعت راجزاً يرجز :
قتل عليٌّ عمراً . . صاد علي صقرًا . . قصم علي ظهراً . . أبرم علي أمراً . . هتك علي ستراً !
فقلت : الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك . وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي حين توجهت إلى بني قريظة : سرعلى بركة الله ، فإن الله قد وعدك أرضهم وديارهم . فسرت مستيقناً لنصر الله عز وجل حتى ركزت الراية في أصل الحصن . وأقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( يوم السبت ) محاصراً لبني قريظة خمساً وعشرين ليلة حتى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم سعد بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وقسمة الأموال . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » . أي بقتل الرجال المحرضين على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكانت راية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سوداء تدعى العقاب . ( قرب الإسناد / 157 ) .
وقال ابن أبي يعفور : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : « إنا نقول إن علياً ( عليه السلام ) كان ينكت في قلبه أو صدره أو في أذنه . فقال : إن علياً ( عليه السلام ) كان محدَّثاً . قلت : فيكم مثله ؟ قال : إن علياً كان محدثاً ، فلما أن كررت عليه قال : إن علياً يوم بني قريظة والنضيركان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره يحدثانه » ! ( بصائر الدرجات / 342 ) .

2 - بطولة علي ( عليه السلام ) في بني قريظة ، ونص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على خلافته

قال الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمعاوية ومن حضر في مجلس المناظرة : ( أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة ، فنزلوا من حصنهم ، فهُزموا ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وفعل في خيبر مثلها ) ! ( شرح النهج : 6 / 289 ) .
وفي الإحتجاج « 1 / 97 » : احتج خالد بن سعيد بن العاص على أبي‌بكر أيام السقيفة : « قال : إتق الله يا أبا بكر ، فقد علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ونحن محتوشوه يوم بني قريظة حين فتح الله له باب النصر ، وقد قتل علي بن أبي طالب يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم : يا معاشرالمهاجرين والأنصار إني موصيكم
--------------------------- 229 ---------------------------
بوصية فاحفظوها ، ومودعكم أمراً فاحفظوه : ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي ، وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربي . ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ، ووليكم شراركم ! ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري ، والعالمون لأمر أمتي من بعدي . اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي ، فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي ، يدركون به نور الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي ، فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض » !
أقول : لاحظ أن فرسان قريظة خرجوا من حصنهم بعد اليوم الثالث ، فبرز إليهم علي ( عليه السلام ) وقتلهم ! لكن رواة السلطة لم يذكروا ذلك ، وأخفوا ما رواه أتباع أهل‌البيت ( عليهم السلام ) ! كما أخفوا نص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يومها علي خلافة علي ( عليه السلام ) .

3 - قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ

قال ابن هشام « 3 / 720 » : « إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصروا بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ! وتقدم هو والزبير بن العوام وقال : والله لأذوقن ما ذاق حمزة ، أو لأفتحن حصنهم ، فقالوا : يا محمد ننزل على حكم سعد » .
« فقال كعب بن أسد : يا معشر بني قريظة : والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي الله ، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب ، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل فهو حيث جعله الله ! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد ، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعني حي بن أخطب علينا وعلى قومه ، وقومه كانوا أسوأ منا ! لايستبقي محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه ، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال : تركت الخمر والخمير والتأمير ، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير ! قالوا : وما ذلك ؟ قال : يخرج من هذه القرية نبي ، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته ، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه ، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر .
قال كعب : فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به ، فنأمن على دمائنا ونسائنا
--------------------------- 230 ---------------------------
وأموالنا ، فنكون بمنزلة من معه . قالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا ، نحن أهل الكتاب والنبوة ، ونكون تبعاً لغيرنا » ! « الواقدي : 2 / 501 » .
وفي المناقب : 1 / 172 : « فحاصرهم النبي خمساً وعشرين ليلة فقال كعب بن أسد : يا معشر اليهود نبايع هذا الرجل وقد تبين أنه نبي مرسل ، قالوا : لا ، قال : فنقتل أبناءنا ونساءنا وتخرج إليه مُصْلِتين ، قالوا : لا . قال : فنثب عليه وهو يأمن علينا لأنها ليلة السبت ، قالوا : لا . فاتفقوا على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ . فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً ، وقسم الأموال واسترق الذراري » .
أقول : روى ابن هشام « 3 / 725 » والبيهقي « 9 / 139 » : « أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث بسبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بهن خيلاً وسلاحاً » !
وكأن الله أراد أن يجعل النجديين أبناء يهوديات ، بلاءً لأجيال المسلمين !
وقال اليعقوبي ( 2 / 52 ) : « فانصرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء بني هاشم ، وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة . وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهماً وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس ، وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً » .
4 - حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية
حاول اليهود ومن تبعهم من الغربيين أن يجعلوا من بني قريظة ظلامةً لليهود ، وتناسوا أنهم كانوا معاهدين للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنقضوا عهدهم ومزقوه وانضموا إلى الأحزاب ، وذلك بعد نشاطهم وتجوال حاخاماتهم على قبائل العرب يجمعونهم لقتال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويعطونهم المال ويعدونهم الوعود ! وكان أبرز الناشطين الحاخام حي بن أخطب . ففي تفسير القمي « 2 / 191 » والواقدي « 1 / 514 » : « ثم قدم حي بن أخطب فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك ؟ فقال : والله يا محمد ! ما ألوم نفسي في عداوتك ، ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل الجهد ، ولكن من يخذل الله يُخذل ! ثم قال حين قدم للقتل :
لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يُخذلُ »
--------------------------- 231 ---------------------------
وفي الإمتاع « 4 / 206 » : « فإنهم نقضوا العهد وحزبوا الأحزاب ، وجمعوا وحشدوا ، وأظهروا له العداوة ، بعد ما هموا بإلقاء الرحي عليه ، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه » . وإنما قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من نقض العهد منهم وساعد الأحزاب .
* *
--------------------------- 232 ---------------------------

الفصل الحادي عشر: علي ( عليه السلام ) بطل غزوة بني المصطلق - المريسيع

1 . خلاصة الغزوة

كانت خزاعة حليفة لعبدالمطلب وبني هاشم ، وكان بنو المصطلق وبنو الهون من خزاعة حلفاء بني أمية . « معجم البلدان : 6 / 278 » . وقد شاركوا في حرب الأحزاب بقيادة يزيد بن الحليس . « تفسير مقاتل : 3 / 41 » . ولا يبعد أن يكون أبو سفيان حرَّكهم بعد ذلك لغزو المدينة فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فغزاهم قبل أن يكملوا استعدادهم لحربه ! وهي غزوة بني المصطلق ، أوغزوة المريسيع وهو ماء ، وكانت في شعبان سنة خمس . ( إعلام الورى : 1 / 196 ) .

2 . علي ( عليه السلام ) صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح

قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 118 ) : « ثم كان من بلائه ( عليه السلام ) ببني المصطلق ما اشتهر عند العلماء ، وكان الفتح له ( عليه السلام ) في هذه الغزاة ، بعد أن أصيب يومئذ ناس من بني عبدالمصطلق ، فقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رجلين من القوم وهما مالك وابنه وأصاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين . وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار . . وكان الذي سبا جويرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فجاء بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاصطفاها ، فجاء أبوها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد إسلام بقية القوم فقال : يا رسول الله إن ابنتي لاتسبى ، إنها امرأة كريمة . قال : إذهب فخيرها ، قال : أحسنت وأجملت ، وجاء إليها أبوها فقال : يا بنية لاتفضحي قومك ! فقالت له : قد اخترت الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال لها أبوها : فعل الله بك وفعل ، فأعتقها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعلها في جملة أزواجه » . « فلما سمع
--------------------------- 233 ---------------------------
القوم ذلك ، أرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق ، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها » . « المناقب : 1 / 173 ، وابن هشام : 3 / 761 » .
وفي دعائم الإسلام ( 1 / 370 ) عن علي ( عليه السلام ) أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « لايغزى قوم حتى يُدْعَوْا ، وإن أكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن ، وإن قوتلوا قبل أن يُدْعَوْا إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فلا حرج . وقد أغار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على بني المصطلق وهم غارُّون ، يعني غافلون ، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ولم يدعهم في الوقت . قال علي صلوات الله عليه : قد علم الناس اليوم ما يُدْعَوْنَ إليه » .
أقول : لم تفصل رواياتهم معركة غزوة المراسيع ومن برزفيها وعدد من قتل : واكتفت بذكر اثنين قتلهما علي ( عليه السلام ) ثم ذكرت الحملة والنصر .
وبعض الروايات قالت : طالت معركتها ثلاثة أيام ! والمظنون أنهم كتموا بطولة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) علي عادتهم .

3 . أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) لقتال الجن

في منهاج الكرامة / 171 : « ما رواه الجمهور من أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما خرج إلى بني المصطلق جَنَبَ عن الطريق وأدركه الليل ، فنزل بقرب واد وعر ، فهبط جبرئيل آخر الليل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه ، فدعا بعلي ( عليه السلام ) وعوذه ، وأمره بنزول الوادي فقتلهم ( عليه السلام ) » .
وفي الإرشاد ( 1 / 339 ) : « فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقال له : إذهب إلى هذا الوادي ، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك ، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عز وجل ، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها . وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم : كونوا معه وامتثلوا أمره . فتوجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الوادي فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ، ولا يحدثوا شيئاً حتى يأذن لهم . ثم تقدم فوقف على شفير الوادي ، وتعوذ بالله من أعدائه ، وسمى الله عز وجل وأومأ إلى القوم الذين
--------------------------- 234 ---------------------------
تبعوه أن يقربوا منه فقربوا ، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة ، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها ، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول ما لحقهم ! فصاح أمير المؤمنين : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب وصيُّ رسول الله وابن عمه ، أثبتوا إن شئتم ! فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط ، تخيل في أيديهم شعل النار قد اطمأنوا بجنبات الوادي ، فتوغل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً ، فما لبثت الأشخاص حتى صارت كالدخان الأسود ، وكبَّر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم صعد من حيث انهبط ، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه . فقال له أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما لقيت يا أبا الحسن ؟ فلقد كدنا أن نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك أكثر مما لحقنا . فقال لهم : إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عز وجل فتضاءلوا ، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم ، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم وقد كفى الله كيدهم ، وكفى المسلمين شرهم ، وسبقني بقيتهم إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤمنون به .
وانصرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بمن تبعه إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره الخبر ، فسري عنه ودعا له بخير ، وقال له : قد سبقك يا علي إلي من أخافه الله بك ، فأسلم وقبلت إسلامه . ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين !
ثم قال المفيد : « وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة ولم يتناكروا شيئاً منه . . ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر العجب من الخبر بملاقاة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الجن وكفه شرهم عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأصحابه ويتضاحك لذلك ، وينسب الرواية له إلى الخرافات الباطلة ، ويصنع مثل ذلك في الأخبار الواردة بسوى ذلك من معجزاته ( عليه السلام ) ويقول : إنها من موضوعات الشيعة ، وتخرص من افتراه منهم للتكسب بذلك أو التعصب . وهذا بعينه مقال الزنادقة وكافة أعداء الإسلام فيما نطق به القرآن من خبر الجن وإسلامهم . . فلينظر القوم ما جنوه على الإسلام بعداوتهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واعتمادهم في دفع فضائله ومناقبه وآياته ، على ما ضاهوا به أصناف
--------------------------- 235 ---------------------------
الزنادقة والكفار ، مما يخرج عن طريق الحجاج إلى أبواب الشغب والمسافهات » . ورواه في المناقب ( 1 / 358 ) ثم قال : ( وهذا كما رويتم عن ابن مسعود قصة ليلة الجن ، وتصح محاربة الجن بأسماء الله تعالى . قال أبو الفتح محمد السابوري :
وفي الجن فضل وفي حرفهم * أعاجيب علم لمستعلم
وقال أبو الحسن البياضي :
من قاتل الجن غير حيدرة * وصاح فيهم بصوته الجَهْوَرْ
فصوته قد علا غريفهم * إذ قال هات الحسام يا قنبر
فانهزموا ثم مزقت شيعاً * منه العفاريت خيفة تذعر
ثم روى خبر بئر ذات العلم عن محمد بن إسحاق ، فقال : محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عبد الله بن الحارث ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وأبو عمر وعثمان بن أحمد عن محمد بن هارون ، باسناده عن ابن عباس ، في خبر طويل انه أصاب الناس عطش شديد في الحديبية فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : هل من رجل يمضي مع السقاة إلى بئر ذات العلم فيأتينا بالماء ، وأضمن له على الله الجنة فذهب جماعة فيهم سلمة بن الأكوع ، فلما دنوا من الشجرة والبئر سمعوا حساً وحركة شديدة ، وقرع طبول ، ورأوا نيراناً تتقد بغيرحطب ، فرجعوا خائفين ، في خبر طويل إلى أن قال : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث سعد بن مالك بالروايا يوم الحديبية فرجع رعباً من القوم ، ثم بعث علياً ( عليه السلام ) فاستسقى ثم أقبل بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكبر ودعا له بخير ) .

3 - تنظيم الخمس لبني هاشم ، والصدقات والفئ للمسلمين

في الإستيعاب ( 4 / 1462 ) : « أخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الخمس من جميع المغنم ، وجعل عليه محمية بن جزء الزبيدي وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها ، وأمره أن يصدق عن قوم بني هاشم في مهور نسائهم ، منهم الفضل بن العباس . وقسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الغنائم وأخذ صفيةً قبل القسم ، ثم جزأ الغنائم خمسة أجزاء ثم أقرع عليها ، ولم يتخير فأخرج الخمس ، وأخذ سهمه
مع المسلمين » .
--------------------------- 236 ---------------------------

4 . شبَّه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً بعيسى بن مريم ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في شرح الأخبار : 2 / 466 : « عن سلمان الفارسي : لما انصرف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من غزوة بني المصطلق تقدم في مقدمة الناس ، وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يكون في ساقتهم يحفظهم ، فلما وصل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة أتى إلى باب المسجد جلس ينتظر علياً ( عليه السلام )
لم يدخل منزله ، فرأيته يمسح العرق من وجهه ، ثم قال : يأتيكم الساعة من هذه الشعبة ، وأشار بيده إلى بعض الشعاب رجل أشبه الناس بالمسيح ( عليه السلام ) ، وهو أفضل الناس بعدي يوم القيامة ، وأول من يدخل الجنة ! فجعلنا ننظر إلى الشعب فكان أول من طلع منه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ! فلما انتهى إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام إليه فاعتنقه وقبل بين عينيه ودخلا ، فقال قوم من المنافقين : يشبِّه ابن عمه بالمسيح ويمثله به ، أفآلهتنا التي كنا نعبدها خيرأم علي ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ . وَقَالُوا ءَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » .
أقول : روت هذا الحديث مصادرنا مستفيضاً ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاله في أكثر من مناسبة « الكافي : 8 / 57 » وروته بعض مصادرهم . ولا بد أن يكون نزول هذه الآيات ثانية بعد نزولها في مكة ، وبعض الآيات نزلت مرات . وفي رواية أن جبرئيل قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا محمد إقرأ قول الله تعالى كذا . . لآيةٍ نزلت سابقاً ، هي :
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع ٍ .

5 - الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن !

دخل بنو المصطلق في الإسلام ، وعند موسم زكاتهم أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبضها ، فخرجوا لاستقباله ، فخاف منهم ورجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له : رفضوا أداء زكاتهم !
وفي سيرة ابن هشام : 3 / 763 : « فأخبره أن القوم قد هموا بقتله . . . فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالوا يا رسول الله ، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً ! فبلغنا أنه زعم
--------------------------- 237 ---------------------------
لرسول الله أنا خرجنا إليه لنقتله ، ووالله ما جئنا لذلك . فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » . تفسير الطبري : 26 / 160 ، وشرح الأخبار : 2 / 120 ، والبيهقي : 9 / 55 ، والاستيعاب : 4 / 1553 ، والسقيفة للجوهري / 128 ، وأسباب النزول / 261 ، واليعقوبي : 2 / 53 .

6 - أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالداً فأفسد ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) فأصلح

في أمالي الصدوق / 237 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بني جذيمة ، وكان بينهم وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية ، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخذوا منه كتاباً ، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادي بالصلاة فصلى وصلوا ، فلما كانت صلاة الفجرأمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه ، فأتوا به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تِبْرٌ ومتاع فقال لعلي ( عليه السلام ) : يا علي ، إئت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قدمه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك . فأتاهم علي ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ، فلما رجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : يا علي ، أخبرني بما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله ، عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، أعطيتهم ليرضوا عني رضي الله عنك يا علي ، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي » .
وفي أمالي الطوسي : 498 : « أرضيتني رضي الله عنك ، يا علي أنت هادي أمتي ،
--------------------------- 238 ---------------------------
ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .
أقول : كان ذلك بعد مدة من غزوة بني المصطلق ، ولا بد أنهم ماطلوا في أداء زكاتهم ، لأن إسلام خالد بن الوليد كان بعد غزوة بني المصطلق والحديبية . وروي أن بعث خالد إلى بني جذيمة كان بعد فتح مكة ، وهو المرجح .

7 - سرية علي ( عليه السلام ) لملاحقة اللصوص العرنيين

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 7 / 245 » : « قدم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قوم من بني ضبة مرضى ، فقال لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية ، فقالوا : أخرجنا من المدينة ، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها ، فلما برئوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل ، فبلغ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فبعث إليهم علياً ( عليه السلام ) فهم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه ، قريباً من أرض اليمن ، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنزلت هذه الآية عليه : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض . فاختار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف » .
أقول : غيبت رواية الحكومة اسم علي ( عليه السلام ) من هذه السرية وسمتها : سرية كرز بن جابر إلى العرنيين ! وحرفت روايتها للطعن بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإثبات قسوته ، فزعمت أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قتل العرنيين وسمل عيونهم وتركهم عطاشى حتى ماتوا ، ثم أحرقهم ! وذلك ليبرروا للحكام ما يرتكبونه ، ويجعلوهم أرحم من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « لا والله ، ما سمل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عيناً ، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم » . « مسند الشافعي / 351 » . وقد استوفينا بحثها في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 2 / 435 ، المسألة : 164 .
* *
--------------------------- 239 ---------------------------

الفصل الثاني عشر: علي ( عليه السلام ) بطل غزوة الحديبية

1 . خلاصة غزوة الحديبية

خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الحديبية يريد مكة لأجاء العمرة ، فاستنفرت قريش وبعثت طليعةً لصده . ( تفسير القمي : 1 / 150 ) فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأداء ( ابن هشام : 3 / 775 ) : « يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ! ثم قال : مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غيرطريقهم التي هم بها » .
وعسكرت قريش في بلدح ، وهو واد قرب مكة عند التنعيم وفخ « البكري : 1 / 273 » وكانوا يرسلون دورياتهم إلى مداخل مكة والمناطق القريبة من الحديبية ، وكان قادة الخيل أبان بن سعيد ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وخالد بن الوليد .
وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وعمير بن وهب الجمحي ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . فعلمت بهم قريش فأخذتهم . « سبل الهدى : 5 / 48 » . وهم مكيون كانوا مقطوعين عن أسرهم . وبعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص ، واستمرت مفاوضات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معهم يومين ، وكانت في بعض مراحلها متوترة وفيها تهديد !
--------------------------- 240 ---------------------------
قال الطبري ( 2 / 280 ) : « فلما انتهى سهيل إلى رسول الله تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا » .
وفي اليوم الثاني بقي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصراً على شرط حرية المسلمين في مكة ، فرجع سهيل إلى مكة للتشاور مع زعماء قريش بشأنه ، ثم عاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وأخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحضور سهيل بيعة الرضوان من أصحابه على القتال وعدم الفرار ، وعلى أن لاينازعوا الأمر أهله .
قال مسلم في صحيحه ( 13 / 2 ) : « في حديث ابن عمر وعبادة : بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله » . ومعناه : لا ننازع الوصي على الخلافة .

2 . إشتباكات علي ( عليه السلام ) مع قريش في الحديبية

نقرأ في سورة الفتح وصف مواجهة بين المسلمين وقريش في الحديبية ، في قوله تعالى : وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . « الفتح : 24 - 25 » .
فترى ظفراً عسكرياً للمسلمين ، حتى عدَّ الفقهاء مكة مفتوحة عنوة : قال في الخلاف ( 5 / 528 ) عن الآية : « وهذا صريح في الفتح » .
لكن السلطة القرشية أخفت الظفرالعسكري لأن بطله علي ( عليه السلام ) ، أو نسبته إلى محمد بن مسلمة أو ابن الأكوع ، وحتى إلى خالد ، الذي كان يومها قائداً في جيش المشركين !
وغرضهم أيضاً أن يخفوا مقاومة قريش للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصدها له عن العمرة ، وأن يخفوا بطولة علي ( عليه السلام ) في مواجهتها ، ويمدحوا أشخاصاً آخرين يحبونهم !
قال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد ( 1 / 119 ) : « ثم تلا بني المصطلق الحديبية ، وكان اللواء يومئذ إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما كان إليه في المشاهد قبلها ، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صف القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبره واستفاض ذكره » .
ورحم الله المفيد وليته بينه ، فقد ظهر ذلك واستفاض إلى عصره في القرن الرابع ، ثم
--------------------------- 241 ---------------------------
طُمس وأخفي ، ولم يصلنا إلا محرفاً مبتوراً !
وقال رواة السلطة كالطبري « 2 / 278 » : « إن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لهم من أصحابه ، فأخذوا أخذاً فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالحجارة والنبل » .
وفي رواية ابن عبد البر : كانوا ثمانين . فمن الذي قاد هذه العملية النظيفة ، وهاجم هؤلاء الفرسان ، وأسرهم جميعاً بدون سفك دم ؟
لقد نسبوه إلى محمد بن مسلمة ، وكأن علياً ( عليه السلام ) كان نائماً وهو قائد الجيش ، وهو الذي يُعَيَّن الحراسات ويسيرالدوريات ويسهر على سيرالأمور ! لكنهم يحبون ابن مسلمة لأنه شارك في تأسيس النظام القرشي ، وكان من المهاجمين لبيت فاطمة وعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
2 - ثم رووا أن سهيل بن عمرو قال في مفاوضته للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « يا محمد ! إن هذا الذي كان من حبس أصحابك ، وما كان من قتال من قاتلك ، لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا ، ولم نعلم به وكان من سفهائنا ، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة ، والذين أسرت آخر مرة !
قال : إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي . قال : أنصفتنا . فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشتيم بن عبد مناف التيمي ، فبعثوا بمن كان عندهم ، وهم : عثمان وعشرة من المهاجرين وأرسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصحابهم الذين أسروا » . « الإمتاع : 1 / 289 » .
فقد أسَرَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذن مجموعة من المشركين وأطلقهم ، ثم أسر مجموعتين واحتفظ بهم ! فمن قام بذلك غير علي ( عليه السلام ) قائد الجيش ؟ !
ثم رووا أن خيل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانوا مئتي فارس ، قاتلوا فرسان قريش وهم خيل عكرمة ، وهزموهم حتى أدخلوهم حيطان مكة !
قال الزمخشري : 3 / 547 ، في تفسير قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ : « لما روي
--------------------------- 242 ---------------------------
أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مائة ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من هزمه وأدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله : وهُوَ الَّذي كفَّ أيديهم » . فمن الذي بعثه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقاد هذه العملية النظيفة ، وهزم قوة المشركين بدون سفك دم ، إلا علي ( عليه السلام ) ؟ !
3 - ويأخذك العجب من وقاحة رواة قريش ونسبتهم البطولة في ذلك إلى خالد بن الوليد ، مع أنه كان قائد خيل المشركين ، وأراد أن يهاجم المسلمين وهم في صلاتهم ، لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحاشى القتال ! لاحظ ما رواه الطبري في تفسيره ( 26 / 123 ) والسيوطي في الدر المنثور ( 6 / 78 ) عن عدة مصادر في تفسير قوله تعالى : وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ، قال : « لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر : يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ! قال فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله ، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى فنزل بمنى ، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مائة فقال لخالد بن الوليد : يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل ، فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمي سيف الله ، يا رسول الله إرم بي حيث شئت ، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب ، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة ! فأنزل الله : وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . إلى قوله : عذاباً أليماً » .
فاعجب لهذه الرواية المكذوبة لأجل مدح عمر بأنه أفقه من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقد نبهه إلى لزوم السلاح في سفره ، ومدح خالد وجعله سيف الله !
لكن ابن كثير اضطر للاعتراف بكذبها ! قال في تفسيره « 4 / 207 » : « لأن خالداً لم يكن أسلم ، بل كان حينئذ طليعة للمشركين ، كما ورد في الصحيح » !
4 - واجه القرشيون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشراسة وبغضاء ، مع أنه جاء معتمراً غير مقاتل ! وأرسلوا
--------------------------- 243 ---------------------------
خيلهم بقيادة خالد لإرجاعه أو قتاله فتجنبها ونزل في الحديبية ، فأرسلوا خيلهم بقيادة أبان بن سعيد إلى قربه ، واستفردوا رجلاً مسلماً فقتلوه ! وأرسل إليهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رسولاً فعقروا بعيره وأهانوه ! ثم قاموا بأسر مسلمين عُزَّل ذهبوا
إلى مكة . ثم أرسل إليهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عثمان بأمان ابن عمه أبان بن سعيد ، وهو قائد عندهم ، فحبسوه !
مقابل ذلك قام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأسرمجموعة من اثني عشر فارساً ، رداً على قتلهم المسلم : « يقال له رهم : اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله خيلاً فأتوه باثني عشر فارساً من الكفار ، فقال لهم نبي الله : هل لكم علي عهد هل لكم علي ذمة ، قالوا : لا . فأرسلهم » . « تفسير الطبري : 26 / 122 » .
ثم أسر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مجموعة جاؤوا ليلاً للغارة على معسكره ، ولم يطلقهم .
ثم أسر أربعين أو خمسين فارساً ، وروي سبعين أو ثمانين . « الدرر لابن عبد البر / 194 » .
ثم رد هجوم خيلهم بقيادة عكرمة مرات ، حتى أوصلهم إلى حيطان مكة . وكان الذي يقوم بالعمليات علي ( عليه السلام ) ، وجاءت نظيفة بدون سفك دم في الحرم ! لكنهم نسبوها إلى أحبائهم ، وفيهم من قادة المشركين !
وقد أنتجت هذه العمليات والبيعة التي أخذها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنهم رأوا أن ميزان القوة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقبلوا بالمعاهدة ، خاصة بند حرية المسلمين في مكة !
قال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 166 : « صده المشركون عن مكة صداً شكساً شرساً لئيماً ، فما استخفه بذلك غضب ولا روع حلمه رائع ، كان يأخذ الأمور مع أولئك الجفاة بالملاينة والإغماض ، وله في شأنهم كلمات متواضعة ، على أن فيها من الرفعة والعلاء ما يريهم إياه فوق الثرى ويريهم أنفسهم تحت الثرى ! وفيها من النصح لهم والإشفاق عليهم ما لم يكن فيه ريب لأحد منهم ، ومن الحكمة الإلهية ما يأخذ بمجامع قلوبهم على قسوتها وغلظتها ، ومن الوعيد والتهديد باستئصال جذرتهم وبذرتهم ، ما يقطع نياط قلوبهم » .
--------------------------- 244 ---------------------------

3 . أخفى رواة السلطة مناقب علي ( عليه السلام ) في الحديبية

لكن أفلتت منهم أحاديث :
الأول : رواه الحافظ في ثلاثة مواضع من تاريخه « 2 / 377 ، و : 3 / 181 ، و : 4 / 441 » عن جابرقال : « سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو آخذ بضبع عليٍّ يوم الحديبية وهو يقول : هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله . مد بها صوته » . فما هي المناسبة لهذه الإشادة من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليأخذ بعضد علي ( عليه السلام ) ، ويمد صوته في مدحه ؟ وهل كان إلا بعد تحقيقه انتصاراً بأسرمجموعة من المشركين ، أو رد هجوم فرسانهم وفرارهم أمامه مسافة طويلة ، حتى أدخلهم حيطان مكة ؟ أو بعد تفاقم حسد الحاسدين وكلامهم على علي ( عليه السلام ) ؟
وقد تضمنت بعض روايات الحافظ قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد البيت فليأت الباب » ! وتاريخ دمشق : 42 / 226 ، و 282 ، وفتح الملك العلي / 57 ، والحاكم : 3 / 129 ، لكن الأخير لم يذكر أن مناسبته في الحديبية .
وقال الخطيب التبريزي في الإكمال / 111 : « هذا حديث حسن صحيح فقد حسنه ابن حجر ، والعلائي ، وجماعة ، وصححه ابن معين ، وابن جرير ، والحاكم ، والسيوطي ، والعلامة الهندي ، وجماعة من السلف . وله شاهد من حديث ابن عباس عنه الطبري ، والطبراني ، والحاكم ، والخطيب ، ومن حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، عنه الترمذي ، وابن جرير ، وقد تكلم فيه جماعة من المتعنتين والمتعصبين في الجرح ، فلا يلتفت إليهم » ! ومن مصادرنا : الطوسي في الأمالي / 483 والطبري الشيعي في المسترشد / 622 ، عن محمد بن المنكدر ، وفيه أنه يوم الحديبية .
والحديث الثاني : في المناقب ( 2 / 244 ) عن الترمذي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال يوم الحديبية لسهيل بن عمرو وقد سأله رد جماعة : « يا معشر قريش لتنتهوا ، أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم على الدين ، امتحن الله قلبه بالإيمان ! قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها » .
وقد أوردنا مصادره في آيات الغدير / 144 ، وأثبتنا أنه صدر أيضاً عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في
--------------------------- 245 ---------------------------
المدينة بعد فتح مكة ، وأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبرهم بأنهم لن ينتهوا عن معاداة الإسلام حتى يقاتلهم علي ( عليه السلام ) ! وقد طمع سهيل بن عمرولما قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شرطهم في الحديبية بإرجاع من يأتيه منهم !
والحديث الثالث رواه الجميع : لما رفض سهيل أن يكتبوا كلمة « رسول الله » . ففي إعلام الورى : 1 / 371 : « فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو : هذا كتاب بيننا وبينك يا محمد ، فافتتحه بما نعرفه واكتب باسمك اللهم .
فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أكتب باسمك اللهم ، وامح ما كتبت . فقال ( عليه السلام ) : لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو . فقال سهيل : لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوة ، فامح هذا الاسم واكتب : محمد بن عبد الله .
فقال له علي ( عليه السلام ) : إنه والله لرسول الله على رغم أنفك . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمحها يا علي . فقال له : يا رسول الله إن يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوة ! قال : فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده ، وقال لعلي : ستدعى إلى مثلها فتجيب ، وأنت على مضض » .
وفي تفسير القمي ( 2 / 313 ) : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة ، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد !
فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : صدق الله وصدق رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك » !
وهذا الحديث دليل من عشرات الأدلة ، على خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالنص .
والحديث الرابع : روته مصادرنا ، قال العلامة في كشف اليقين / 136 : « وله في هذه
--------------------------- 246 ---------------------------
الغزاة فضيلتان ، إحداهما : إنه لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزاة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك بالروايا فغاب قريباً وعاد وقال : لم أقدر على المضي خوفاً من القوم ! فبعث آخر ففعل كذلك . فبعث علياً ( عليه السلام ) بالروايا فورد واستسقى ، وجاء بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعا له بخير .
والثانية ، وذكر حديث تهديد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقريش بعلي ( عليه السلام ) وفيه : « وأومأ إلى علي فإنه يقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونبذت وحرف كتاب الله ، وتكلم في الدين من ليس له ذلك ، فيقاتلهم على إحياء دين الله » . ونحوه الإرشاد : 1 / 121 .

4 . حاول النواصب أن يبرروا معصية عمر

حاول النواصب أن يجعلوا قول علي ( عليه السلام ) في الحديبية : يا رسول الله إن يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوة ! قال : فضع يدي عليها ، فمحاها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده وقال : إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة ، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها ، وأنت مضيض مضطهد ) . ( تفسير القمي ( 2 / 313 )
فقالوا إن علياً عصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهي كمعصية عمر ومنعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب الكتاب في مرض وفاته ، عندما قال : ( هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ، قال عمر إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب الله . واختلف أهل‌البيت واختصموا ، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال : قوموا عني . قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ) . ( البخاري : 8 / 161 ) .
قالوا إن معصية عمر كمعصية علي ( عليه السلام ) : واحدةٌ بواحدة ! وهي مغالطة واضحة لأنها هنا أدب ، وهناك مواجهة كاملة ! وقد فصلناها في أحداث مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومنعهم كتابة عهده وانقلابهم عليه !
--------------------------- 247 ---------------------------

5 . مكانة الصحابة في سورة الفتح وبيعة الرضوان

رفعت السلطة القرشية آية : لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . وجعلتها شعاراً لمدح الصحابة مقابل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) ،
ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لأهل الحديبية : أنتم خير أهل الأرض . قال في فتح الباري : 7 / 341 : « هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة . وعند مسلم من حديث جابر مرفوعاً : لا يدخل النار من شهد بدراً والحديبية . وروى مسلم أيضاً من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة » .
أقول : وهذا قولٌ لا يصح ، لأنهم بايعوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن لايفروا ، ثم نكثوا بيعتهم بعد شهر وفروا في خيبر ، ثم نكثوها بعد سنة في حنين وفروا .
ولا يصح ثانياً ، لأن من أهل بيعة الرضوان أبا الغادية قاتل عمار بن ياسر ( رحمه الله ) الذي شهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه من أهل النار . ومنهم عبد الرحمن بن عديس البلوي الذي قاد حصار عثمان وقتله ، وقالوا هم إنه من أهل النار !
ولا يصح لأن رئيس المنافقين المدنيين ابن سلول كان في الحديبية ، وبايع تحت الشجرة !
ولا يصح رابعاً ، لأن رضا الله عن المبايعين في الآية محدود بظرف ، ومشروط بالإيمان ، فمعنى : لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ : رضي عن المؤمنين منهم في ظرف البيعة ، ولو كان الرضا أوسع من ظرف البيعة لما استعمل « إذ » ولو شملهم جميعاً لقال : عنهم ، ولم يقل عن المؤمنين منهم !
ولا يصح خامساً ، لأنه بايعهم على أن لا ينازعوا الأمر أهله ، وقد نازعوهم واضطهدوهم وقتلوهم !
فقد انتقضت بيعتهم والرضا عنهم ، من وجوه عديدة !
فالمؤكد أن الرضا في الآية عن علي ( عليه السلام ) وعن الصحابة الذين لم يفروا في خيبر وحنين . وإن أبيت فهم رضا آني نقضه الصحابة الناكثون بشرط البيعة .
--------------------------- 248 ---------------------------

الفصل الثالث عشر: علي ( عليه السلام ) فاتح حصون خيبر

1 - خلاصة غزوة خيبر

خيبر الآن محافظة مركزها مدينة خيبر ، وتقع شمال شرق المدينة المنورة ، وتبعد عنها 179 كيلومتراً ، وتشمل 189 قرية ، ومساحتها 260 كيلو متراً .
وفي معجم البلدان ( 2 / 409 ) ملخصاً : « تشتمل هذه الولاية سبعة حصون ومزارع ونخل كثير ، وأسماء حصونها : حصن ناعم ، والقموص حصن أبي الحقيق ، وحصن الشق ، وحصن النطاة ، وحصن السلالم ، وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة . وأما لفظ خيبر فهو بلسان اليهود : الحصن ، وسميت خيابر » .
أقول : كلمة كيبوتس ، بمعنى مستوطنة أو قرية . وعندهم عيد الغفران باسم خيبر ، لأن الله انتقم منهم في خيبر بسبب معاصيهم ، ثم تاب عليهم بزعمهم .
وقد نزل اليهود لما هاجروا بعد المسيح ( عليه السلام ) إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود في مواضع منها تيماء ووادي القرى ، وخيبر ، وحول المدينة ، وكانت في أودية خيبرعيون ، فزرعوها ونجحت فيها زراعة النخيل ، واشتهرتمرها بعد هجر .
وكان يهود خيبر عند بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو عشرة آلاف نسمة ، ومقاتلوهم نحو ثلاثة آلاف ، وانضم إليهم عدد أجلاهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المدينة من بني قينقاع والنضير وقريظة ، وفيهم حاخامات وزعماء كبار رأَّسَهم أهل خيبرعليهم ، مثل حي بن أخطب الذي كان يتجول ويستنفر قريشاً والقبائل لحرب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ووعد قبائل نجد بموسم تمر خيبر !
--------------------------- 249 ---------------------------

2 - توجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى خيبر بعد عودته من الحديبية بعشرين يوماً

استعد اليهود للحرب فرمموا حصونهم ، واشتروا السلاح ، ووسعوا تحالفهم مع القبائل ، خاصة مع قبيلة غطفان وزعيمها عيينة بن حصن ، ويقال إنهم جندوا عشرة آلاف مقاتل ، وكانوا يستعرضونهم يومياً .
وقد توجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجيشه البالغ نحو ألف وخمس مئة ، في صفر من السنة السابعة للهجرة ، بعد الحديبية . وفي سيرة ابن هشام ( 3 / 791 ) : « خرج في بقية المحرم إلى خيبر . ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب ، وكانت بيضاء » .
ودخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خيبرعن طريق مرحب ، وأمر المسلمين أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم ، ودعا ربه عز وجل : « اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنَّا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها . أقدموا باسم الله » . « المناقب : 1 / 176 » .
وسمع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعض المزارعين يقولون : محمد والخميس ، وأدبروا هرباً ! فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورفع يديه : الله أكبر ، خربت خيبر ! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين . كما قالها عند محاصرة بني قريظة . « الإرشاد : 1 / 110 ، وتفسير القمي : 2 / 189 » .
وعسكر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قرب حصن ناعم ، وكان فيه قوات غطفان النجدية ، بزعامة رئيس فزارة عيينة بن حصن ، جاؤوا لنصرة اليهود قبل قدوم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثلاثة أيام ، وروي أنهم كانوا أربعة آلاف ، فأرسل سعد بن عبادة لينصح عيينة بالإنسحاب بقبيلته : « فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم : إني أريد أكلِّم عيينة بن حصن ، فأراد عيينة أن يُدخله الحصن فقال مرحب : لاتُدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها ، ولكن تخرج إليه .
فقال عيينة : لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً ، فأبى مرحب أن يدخله ، فخرج عيينة إلى باب الحصن ، فقال له سعد : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسلني إليك يقول : إن الله قد وعدني خيبر ، فارجعوا وكفوا ،
--------------------------- 250 ---------------------------
فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة . فقال عيينة : إنَّا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشئ وإنَّا لنعلم ما لك وما معك مما هاهنا طاقة ، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة ، ورجال عددهم كثير وسلاح ! إن أقمت هلكت ومن معك ، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح . ولا والله ما هؤلاء كقريش ، هؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم .
فقال سعد بن عبادة : أشهد ليحصرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك فلا نعطيك إلا السيف ! وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب ، كيف مُزقوا كل ممزق !
فنادى منادي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان ، فسمع جنود عيينة صائحاً يصيح لا يدرون من السماء أو الأرض : يا معشر غطفان أهلكم أهلكم ! الغوث الغوث ! فخرجت غطفان في الليل على الصعب والذلول ، وكان أمراً صنعه الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فلما أصبحوا أُخبر كِنانة بن أبي الحُقيق بانصرافهم ، فسقط في يديه » . « الصحيح من السيرة : 17 / 110 » .

3 - ضحك جبرئيل لعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال إني أحبه

3 - ضحك جبرئيل لعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال إني أحبه
رووا : « عن الضحاك الأنصاري قال : لما سار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى خيبر جعل علياً ( عليه السلام ) على مقدمته فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من دخل النخل فهو آمن ، فلما تكلم النبي نادى بها علي فنظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جبرائيل يضحك فقال : مايضحكك ؟ ! قال : إني أحبه ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : إن جبرائيل يقول إنه يحبك ! قال ( عليه السلام ) : بَلَغْتُ أن يحبني جبرائيل ؟ قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم ، ومن هو خير من جبرائيل الله عزَّ وجل » . « الطبراني الكبير : 8 / 301 ، ومجمع الزوائد : 9 / 126 ، وأسد الغابة : 3 / 34 » .

4 - فتح علي ( عليه السلام ) كل حصون خيبر

4 - فتح علي ( عليه السلام ) كل حصون خيبر
كانت خيبر ثلاث مناطق : النَّطَاهْ بفتح النون المشددة وسكون الهاء ، وفيها ثلاثة حصون : حصن ناعم ، وحصن الصعب ، وحصن قلة . وتتصل بها منطقة الشق وفيها
--------------------------- 251 ---------------------------
حصن أبيّ ، وحصن البرئ . وعلى بعد كيلو مترات منها تقع منطقة الكتيبة ، وفيها واد فيه أربعون ألف نخلة وعلى جبلها ثلاثة حصون : حصن القموص ، والسلالم ، والوطيح . وقد استغرق فتح خيبر كلها وترتيب أمرها نحو شهرين . وبدأ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحصن ناعم في النطاة ، ففتحه بعد بضعة أيام . ثم حاصر حصن الصعب أياماً ، ثم فتح بقية حصون النطاة في مدة قليلة .
ثم ترك علياً ( عليه السلام ) في منطقة النطاة والشق يرتب أمرها ، واتجه إلى الكتيبة فحاصر حصنها الأكبر « القموص » وطالت محاصرته له بضعة وعشرين يوماً ! وكان يرسل جيشه كل يوم بقيادة صحابي ، فيصلون إلى خندق الحصن فيرميهم اليهود من أبراجه بالسهام والأحجار ، فيرجعون هاربين !
وكان مرحب وفرسانه يخرجون من الحصن ويطلبون من المسلمين أن يعبروا إليهم فلا يجرؤون وينهزمون ، ولما رأي المسلمون عجزهم طلبوا من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحُضر علياً ( عليه السلام ) !

5 - دحا علي ( عليه السلام ) باب حصن ناعم

اتفقت المصادر على أن علياً ( عليه السلام ) فتح حصون خيبركلها . ( السيرة الحلبية : 2 / 737 ) . وقال في عون المعبود بشرح سنن أبي داود ( 8 / 172 ) : « وقصة فتح هذه الحصون : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألبس علياً رضي الله عنه درعه الحديد وأعطاه الراية ، ووجهه إلى الحصن ، فلما انتهى علي إلى باب الحصن ، اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض ! ففتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم ، وهو أول حصن فتح من حصون النطاة على يده ) .
ولم تذكر الرواية حجم الباب ، ولا بد أنه كان أصغر من باب حصن القموص ، وقد قتل في هذا الحصن ياسر أخ مرحب .
وقال اليعقوبي ( 2 / 56 ) : « فقتل مرحباً اليهودي واقتلع باب الحصن ، وكان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع ، فرمى به علي بن أبي طالب
--------------------------- 252 ---------------------------
خلفه ، ودخل الحصن ودخله المسلمون » . ولعل أصل عبارة اليعقوبي أخا مرحب .
وقد تفرد اليعقوبي في أن باب خيبر كان من حجر ، فالمعروف أن باب حصن القموص من حديد ، ولعل باب حصن ناعم كان من حجر ، فقد دحاه علي ( عليه السلام ) أيضاً كما نص عليه في عون المعبود !
ولجأ اليهود بعد فتح حصن ناعم إلى حصن الصعب من حصون النطاة ، ففتح الله هذا الحصن على يد علي ( عليه السلام ) أيضاً قبل أن تغيب الشمس من ذلك اليوم ، فلجأ أهله إلى حصن قلة ، وهو حصن بقُلة جبل ، ويعبر عن هذا بقلعة الزبير ، وهو الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك ، وهو آخر حصون النطاة .
فحصون النطاة ثلاثة ، حصن ناعم ، وحصن الصعب ، وحصن قُلة ، وقد فتحها المسلمون ثم صاروا إلى حصار حصون الشق ، فكان أول حصن بدؤوا به حصن أبيّ ، فقاتلوا أهله قتالاً شديداً وهرب من كان فيه ، ولحقوا بحصن يقال له حصن البرئ ، وهو الحصن الثاني من حصني الشق .
ثم انهزم اليهود إلى حصون الكتيبة ، وهي ثلاثة حصون : القموص والوطيح وسلالم ،
وكان أعظمها القموص ، فحاصره المسلمون ، فلم يخرج منه أحد .
وكان اليهود يخططون لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال الواقدي : 2 / 670 : « إن كنانة ابن أبي الحقيق كان رامياً يرمي بثلاثة أسهم في ثلاث مائة ذراع ، فيُدخلها في هدف شبراً في شبر ! فما هو إلا أن قيل له : هذا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أقبل من الشق في أصحابه ، وقد تهيأ أهل القموص وقاموا على باب الحصن بالنبل . فنهض كنانة إلى قوسه فلم يستطع أن يوترها لشدة الرعدة التي انتابته » !
وكان بعض فرسان اليهود يخرجون من حصونهم ويقاتلون المسلمين أمام مداخلها ، فكان على المسلمين أن يغلبوهم ، ثم يدخلوا الحصن قبل أن يسدوا بابه .
وكان مرحب بطل حصن ناعم ، ثم جاء إلى القموص وهو أهم حصونهم .
وروى ابن إسحاق عن معتب الأسلمي قال : أصابتنا معشر أسلم مجاعة حين قدمنا
--------------------------- 253 ---------------------------
خيبر ، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام ، فأجمعت أسلم أن أرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا : إئت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقل له : إن أسلم يقرؤونك السلام ويقولون : إنَّا قد جَهِدنا من الجوع والضعف ، ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه ، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه ، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم وجعلنا ندعهم يهربون . وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً ، ووجدوا فيه من البز والآنية ، ووجدوا خوابي السّكَر فأمروا فكسروها ، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن ، وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً ، وأخرجنا منه آلة كثيرة للحرب ، ومنجنيقاً ودبابات وعُدَّة ، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً ، فعجل الله خزيهم .
وفي سبل الهدى ( 5 / 125 ) : « قتل علي رضي الله عنه الحارث وأخاه مرحباً وعامراً وياسراً ، فرسان يهود وسبعانها . روى محمد بن عمر عن جابر قال : أول من خرج من حصون خيبر مبارزاً الحارث أخو مرحب في عاديته فقتله علي ، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن ، وبرز عامر وكان رجلاً جسيماً طويلاً ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين برز وطلع عامر : أترونه خمسة أذرع ، وهو يدعو إلى البراز ؟ فخرج إليه علي بن أبي طالب فضرب ساقيه فبرك ، ثم ذفف عليه
وأخذ سلاحه » .
أقول : كان قتلهم في حصن ناعم ، وليس في القموص كما قيل ، وكان مرحب معهم ، لكنه لم يبرز إلا في حصن القموص . « معجم البكري : 2 / 523 » .

6 - طالت محاصرة حصن القموص وظهر عجز المسلمين !

يبعد حصن القموص عن حصون النطاة بضعة كيلو مترات ، ويقع في الجهة المقابلة للمسجد الفعلي الذي كان مركز قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد رأيته في سنة 1973 ميلادية ، والى يسارك في أعلى الجبل حصن السلالم وحصن الوطيح ، ويفصل هذه الحصون عن مركز قيادة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تلالٌ ووادٍ صغير عند الحصن
--------------------------- 254 ---------------------------
فيه عين ماء جارية ، وفيها محراب ، فسألت البدو عنه فقالوا هذه عين سيدنا علي ، وهذا مسجد سيدنا علي . وبعد الوادي تصل إلى الجبل الذي عليه الحصون ، وقد نظرنا من أعلي الحصن إلى الغرب ، فرأينا وادياً عميقاً هو وادي الكتيبة المشهور بالنخيل .
ولما فتح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حصون النطاة والشق انهزم اليهود إلى حصون الكتيبة :
« وكان أعظم حصون خيبر : القموص » . « عون المعبود : 8 / 172 » .
« فتحصنوا معهم في القموص أشد التحصين مغلقين عليهم لايبرزون ، حتى همَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يرميهم بالمنجنيق » . « الواقدي : 2 / 670 » .
وحاصرهم بضعاً وعشرين يوماً « تاريخ خليفة / 49 » وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يصلي بالمسلمين كل يوم صلاة الفجر ، ثم يصطفُّون ثم يذهبون لمهاجمة الحصن ، فيقطعون التلال حتى يصلوا إلى قرب الخندق في مواجهة الحصن ، فكان اليهود يرمونهم من أبراج الحصن وسطوحه بالسهام والأحجار ، فلا يستطيعون أن يتقدموا ، فيرجعون خائبين !
ومع الأيام ضعفت معنويات المسلمين وقويت معنويات اليهود ، فصار فرسانهم يخرجون من الحصن ويتحدَّوْن المسلمين أن يعبروا إليهم فلا يعبرون !
وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبقى علياً ( عليه السلام ) في المنطقة التي فتحها : النطاة والشق ، وكان يعطي الراية لوجهاء أصحابه ، فيوماً لسعد بن عبادة ، ويوماً للزبير ، ويوماً لطلحة ، ويوماً لسعد بن أبي وقاص ، ويوماً لأبي‌بكر ، ويوماً لعمر بن الخطاب . وقد أخذ بعضهم الراية أكثر من يوم كما روي في عمر ، وكان الجميع يرجعون منهزمين ! لم يجرؤوا على العبور إلى مرحب لمبارزته !
وقد ورد أن سعد بن عبادة رجع مجروحاً « الواقدي : 2 / 653 » وفي رواية رجع محمولاً « الإحتجاج : 1 / 406 » وروي أن عمر رجع مجروحاً في رجله وهو يجبن المسلمين وهم يجبنونه ! » رسائل المرتضى : 4 / 103 » .
وفي رواية مجمع الزوائد ( 6 / 151 ) أن هزيمة عمر كانت سريعة لما أصابه حجر في رجله قال : « بعث عمر ومعه الناس ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه » !
--------------------------- 255 ---------------------------

7 - دَخَّنَ اليهود على علي ( عليه السلام ) فمَرِضَ بالرَّمَد

طلب المسلمون من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحضرعلياً ( عليه السلام ) ، لأنهم عجزوا عن فتح حصن القموص ، فأرسل سلمان وأبا ذر كما قال المرتضى ، والأكوع بن سلمة كما روت السلطة ، فجاؤوا به راكباً على بعير له ، وكان معصوب العينين بشق برد قِطْري ، ولما سأله عن حاله قال له : « رمدتُ بعدك » أي بعد فراقي لك !
كما ذكرت الرواية أن سبب وجع عينيه دخان أصابه في حصن هناك ، ففي مجمع الزوائد ( 9 / 123 ) : « قلت لعبد الله بن عمر حدثني عن علي ؟ قال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فكأني أنظر إليها مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يحتضنها وكان علي بن أبي طالب أرمد من دخان الحصن فدفعها إليه ، فلا والله ما تتامت الخيل حتى فتحها الله عليه » ! وقد أراد اليهود أن يعموه أو يقتلوه بذلك الدخان فشفاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بريقه ! فقال ( عليه السلام ) كما في دلائل النبوة ( 4 / 213 ) : ( لا رمدت ولا صدعت مذ دفع إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الراية يوم خيبر ) .

8 - ومرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بصداع الشقيقة !

ولعل الحكمة في عدم ذهاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحملات على القموص أن يعرف الصحابة أنهم بدونه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبدون علي ( عليه السلام ) لايحققون نصراً ، فعليهم أن يعرفوا حدودهم ! ولعله أبقى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في المنطقة المفتوحة البعيدة نسبياً عن حصن القموص ، ليفهمهم ذلك ، وهي حكمة تشير إلى مستقبل الأمة ، وأن اليهود لا يكسر غطرستهم إلا علي وشيعة علي ( عليه السلام ) .
وقال الطبري عن صداع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « 2 / 300 » : « كان رسول الله ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج ، فلما نزل رسول الله خيبر أخذته الشقيقة ، فلم يخرج إلى الناس ، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع ، فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول
--------------------------- 256 ---------------------------
ثم رجع ، فأخبر بذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة . قال وليس ثَمَّ علي ، فتطاولت لها قريش ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك ، فأصبح فجاء علي على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أرمد ، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مالك ؟ قال : رمدت بعدك ! فقال رسول الله : أدن مني » .
ويدل ذلك على أن عمر قاد الحملة يومين ، ومقصودهم من قتاله في المرة الثانية أشد من الأولى أنه لم ينهزم بسرعة من سهام اليهود ، بل تأخر قليلاً حتى انهزم !

9 - غَضِبَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من فرار الصحابة وبشرهم بالفتح غداً !

غضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما رأى هزيمتهم اليومية ، أمام غطرسة مرحب وفرسانه ، وأن أحداً من المسلمين لم يجرؤ على اقتحام الخندق فضلاً عن الحصن فأحضر علياً ( عليه السلام ) وقال له : « يا علي إكفني مرحباً » . « أمالي الطوسي / 4 ، والخرائج : 1 / 217 » .
وفي رسائل المرتضى ( 4 / 103 ) : « روى أبو سعيد الخدري ( رحمه الله ) أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل عمر إلى خيبر فانهزم هو ومن معه ، حتى جاء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجبن أصحابه ويجبنونه ، فبلغ ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل مبلغ ، فبات ليلته مهموماً فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال : لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار ! فتعرض لها المهاجرون والأنصار ، ثم قال : أين علي ؟ فقالوا : يا رسول الله هو أرمد ، فبعث إليه سلمان وأبا ذر ، فجاءا به وهو يقاد لا يقدر على فتح عينيه فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اللهم أذهب عنه الرمد والحر والبرد وانصره على عدوه ، فإنه عبدك يحبك ويحب رسولك ، ثم دفع إليه الراية فقال حسان : يا رسول الله أتأذن لي أن أقول فيه شعراً ؟ فأذن له فقال :
وكان علي أرمدَ العين يبتغي * دواءً فلما لم يحسَّ مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلةٍ * فبورك مرقياً وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم ماضياً * كَمِيّاً محباً للرسول مواليا
--------------------------- 257 ---------------------------
يحب إلهي والرسول يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البرية كلها * علياً وسماه الوزير المؤاخيا
وفي سيرة ابن هشام ( 3 / 797 ) : « بعث أبا بكر الصديق برايته وكانت بيضاء فيما قال ابن هشام إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل فرجع ولم يك فتح ، وقد جَهِد !
ثم بعث في الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل ثم رجع ولم يك فتح ، وقد جَهِد !
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرار ! قال : يقول سلمة : فدعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً رضوان الله عليه وهو أرمد فتفل في عينه ، ثم قال : خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك . قال : يقول سلمة : فخرج والله بها يأنح ، يهرول هرولة ، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : يقول اليهودي : علوتم وما أنزل على موسى ! أو كما قال . قال : فما رجع حتى فتح الله على يديه » .

10 - قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأصحابه الفارين : أميطوا عني !

لما وعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالفتح تطاولت أعناق الصحابة لأخذ الراية ، لاعتقادهم بأن الذي يعطيه الراية سيفتح حصن القموص المستعصي ! فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فقد روى أحمد « الزوائد : 6 / 151 ، و : 9 / 124 ، ووثقه » : « عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله أخذ الراية فهزها ثم قال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال : أمِطْ « إذهب عني ! » ثم جاء رجل آخر فقال : أمط ! ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلاً لا يفر ، هاك يا علي ! فانطلق حتى فتح الله عليه » وشرح الأخبار : 1 / 321 والعمدة / 139 ، وأبو يعلى : 2 / 499 ، وأحمد : 3 / 16 ، وتاريخ دمشق : 1 / 194 ،
ونهاية ابن الأثير : 4 / 381 .
وفي تاريخ دمشق « 42 / 104 » وغيره : « قال من يأخذها بحقها ؟ فجاء الزبير فقال : أنا . فقال : أمط ! ثم قام آخر . . . » . وهو يدل على فراره أيضاً .
وفي الروضة لشاذان بن جبرئيل / 139 : « انهزم جيش أبي‌بكر وعمر ، فغضب
--------------------------- 258 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : ما بال أقوام يلقون المشركين ثم يفرون ! لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ويحب رسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، يفتح الله على يديه بالنصر ، فلما كان من الغد قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أين ابن عمي علي ؟ فجاءه وهو أرمد » .

11 - أعطى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الراية لعلي ( عليه السلام ) ودعا له

في إعلام الورى : 1 / 207 : « فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أما علي فقد كفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه . . قال سعد : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ، ثم قمت على رجلي قائماً ، رجاء أن يدعوني ، فقال : أدعو لي علياً ، فصاح الناس من كل جانب : إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه ! فقال : أرسلوا إليه وادعوه ، فأتيَ به يقاد فوضع رأسه على فخذه ، ثم تفل في عينيه ، فقام وكأن عينيه جزعتان « عقيقتان » ثم أعطاه الراية ودعا له ، فخرج يهرول هرولة ، فوالله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن .
قال جابر : فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا ، وصاح سعد : يا أبا الحسن إربع يلحق بك الناس ، فأقبل حتى ركزها قريباً من الحصن فخرج إليه مرحب في عادية اليهود » .
وفي الكافي : 5 / 47 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « شعارنا : يا محمد يا محمد وشعارنا يوم بدر : يانصر الله اقترب اقترب . . ويوم خيبر يوم القموص : يا عليُّ آتهم من عل » .
وفي الخصال / 554 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احتجَّ على أهل الشورى بوصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وبجهاده بين يديه ، ومما قال لهم : « استخلف الناس أبا بكر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه ، واستخلف أبو بكر عمر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه إلا أن عمر جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم ، لا يعرف لهم عليَّ فضل !
نشدتكم بالله أيها النفر هل فيكم أحد وحَّدَ الله قبلي ؟ قالوا : اللهم لا . . . قال : نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين رجع عمر يجبن أصحابه ويجبنونه قد رد راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهزماً ، فقال له رسول الله : لأعطين الراية غداً رجلاً ليس بفرار ، يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله عليه ، فلما أصبح قال : ادعوا لي علياً فقالوا : يا رسول الله هو رمدٌ ما يطرف ! فقال : جيئوني به ، فلما قمت بين يديه تفل في عيني وقال : اللهم أذهب عنه الحر والبرد ، فأذهب الله
--------------------------- 259 ---------------------------
عني الحر والبرد إلى ساعتي هذه ، وأخذت الراية فهزم الله المشركين وأظفرني بهم ، غيري ؟ قالوا : اللهم لا » .
وفي شرح الأخبار ( 1 / 302 ) : « فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم . ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله . فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) .
وعن حذيفة : لما تهيأ علي ( عليه السلام ) للحملة قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبريل ( عليه السلام ) عن يمينك ، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي : إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم » !
وفي رواية : أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألبسه درعه الحديد وشد ذا الفقار في وسطه ، وأعطاه الراية ووجهه إلى الحصن ، فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ الخ . . فخرج علي بها وهو يهرول .
وفي رواية : أركبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم خيبر وعممه بيده وألبسه ثيابه ، وأركبه بغلته ثم قال له : إمض يا علي وجبرئيل عن يمينك ، وميكائيل عن يسارك ، وعزرائيل أمامك ، وإسرافيل وراءك ، ونصر الله فوقك ، ودعائي خلفك » !
وفي صحيح مسلم ( 7 / 121 : « قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ! قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها ! قال : فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها ، فقال : إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ! قال : فسار عليٌّ شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ ، قال : يا رسول الله على ماذا أقاتل ؟ قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » .
--------------------------- 260 ---------------------------

12 - وصل علي ( عليه السلام ) إلى الحصن قبل الجيش !

في مناقب آل أبي طالب : 2 / 320 : « الواقدي : فوالله ما بلغ عسكر النبي أُخَيْرَاه حتى دخل عليٌّ حصون اليهود كلهاوهي قموص وناعم وسلالم ووطيح وحصن المصعب بن معاد ، وغنم . وكانت الغنيمة نصفها لعلي ونصفها لسائر الصحابة .
شعبة وقتادة والحسن وابن عباس : أنه نزل جبرئيل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك : إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره ، وعزتي وجلالي ما رمى علي حجراً إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً ، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر ، سهماً له ، وسهم جبرئيل معه » .
أقول : هذا يدل على أن نصرة الملائكة تكون جزاءً للمؤمنين على بذل جهدهم بإخلاص ، فهي كفائض القيمة يستحق امتيازها صاحب الجهد الذي سبب نزولهم . ولذا كان سهم جبرئيل ( عليه السلام ) لمن سبب نزوله وهو علي ( عليه السلام ) .
كما أن إعطاء علي ( عليه السلام ) نصف الغنيمة يدل على أن جهده القتالي يوازي جهد البقية كلهم ! ثم قال في المناقب قال ابن حماد :
وفي خيبر في يوم لاقاه مرحبٌ * وقد فر منه معشر فتصدعوا
فقال رسول الله أحبو برايتي * فتى غير فرار ولا يتزعزع
تقياً يحب الله والله ربه * أشد له حباً وبالشكر يوزع
وكان علي أرمداً فدعا له * فأذهب عنه الحر والبرد أجمع
فناداه بالسيف الحسام ولم يزل * يقاتل أهل الشرك قدماً ويقلع
وآب بنصر الله والفتح غانماً * وقد حاز ما قد كان في الحصن يجمع

13 - كان اليهود يعرفون أن نهايتهم على يد حيدرة

روى في الإحتجاج : 1 / 307 ، أن راهباً جاء إلى المدينة إلى أبي‌بكر ، فدخل علي ( عليه السلام ) فقال له أبو بكر : « أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك ، فأقبل الراهب بوجهه إلى علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا فتى ما اسمك ؟ قال : اسمي عند اليهود إليا ، وعند النصارى إيليا ،
--------------------------- 261 ---------------------------
وعند والديَّ علي ، وعند أمي حيدرة ، قال : ما محلك من نبيكم ؟ قال : أخي وصهري وابن عمي لِحّاً . قال : الراهب : أنت صاحبي ورب عيسى » .
وفي مدينة المعاجز : 1 / 173 : « إن اليهود من خيبر يجدون في كتابهم أن الذي يدمرهم إليا »
وروى في الإرشاد : 1 / 126 ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعطى الراية لعلي ( عليه السلام ) وقال له : « خذ الراية وامض بها ، فجبرئيل معك ، والنصر أمامك ، والرعب مبثوث في صدور القوم ، واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم أن الذي يدمر عليهم اسمه إيليا . فإذا لقيتهم فقل أنا علي ، فإنهم يخذلون إن شاء الله » .

14 - عَبَر علي ( عليه السلام ) الخندق وقصد مرحباً وفرسانه !

في الخرائج ( 1 / 217 ) : « روى مكحول أن مرحباً اليهودي قدمته اليهود لشجاعته ويساره ، وكان طويل القامة عظيم الهامة ، وما وافقه قرن لعظم خلقه ! وكانت له ظئر « مرضعة » قرأت الكتب وكانت تقول له : قاتل كل من قاتلك إلا من يسمى بحيدرة ، فإنك إن وقفت له هلكت ! فلما كثرت مناوشته « غطرسته » وبَعُلَ الناس بمكانه » تحيروا فيه « شكوا إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسألوه أن يخرج إليه علياً ( عليه السلام ) وكان أرمد ، فتفل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عينه فصحَّت ، ثم قال له : يا علي إكفني مرحباً ! فخرج إليه فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به فتحير ، ثم قال : أنا الذي سمتني أمي مرحبا . فقال علي : أنا الذي سمتني أمي حيدرة . فلما سمعها هرب ولم يقف مما حذرته ظئره ، فتمثل له إبليس وقال : إلى أين ؟ قال : حذرت ممن اسمه حيدرة . قال : أولم يكن حيدرة إلا هذا ؟ حيدرة في الدنيا كثير ، فارجع فلعلك تقتله ، فإن قتلته سدت قومك وأنا في ظهرك . فما كان إلا كفواق ناقة حتى قتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » ! وفي مسند أحمد : 4 / 52 : « فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال :
قد علمت خيبر أني مرحبُ * شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهَّب
--------------------------- 262 ---------------------------
فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره
أوفيهمُ بالصاع كَيْلَ السنَّدرة
ففلق رأس مرحب بالسيف ، وكان الفتح على يديه » .
« فضربه علي على هامته حتى عض السيف منها بأضراسه ! وسمع أهل العسكر صوت ضربته ! فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم » « الطبري : 2 / 300 » .
وعن أم‌سلمة : « سمعتُ وقْع السيف في أسنان مرحب » ! « الزوائد : 6 / 152 ، ووثقه » . وفي رواية : شق رأسه وجسده نصفين حتى بلغ السرج ! « معارج النبوة / 323 » .
والمسافة من الحصن إلي مكان أم سلمة نحو ألفي متر ، ويظهر أن الإمام ( عليه السلام ) ، اختار أن يضربه علي الثقب الذي في أعلي خوذته لأنها كانت من المرمر ! وكان مرحب أطول منه ، فلابد أن جبرئيل رفعه حتى ضربه علي قمة رأسه !

15 - قتل مرحباً خارج الحصن ثم دحا بابه ودخله !

كانت حملات المسلمين على حصن القموص تتوقف عند الخندق قبل الحصن ولا تتجاوزه ! ولذلك كان مرحب يخرج من الحصن هو وعاديته أي نخبة فرسانه ، ويتبختر أمام المسلمين ويتحداهم أن يعبروا فلا يجرؤ منهم أحد على العبور !
إلى أن كان يومٌ رأى مرحب وفرسانه شخصاً وصل بمفرده قبل جيش المسلمين وعبر الخندق ، ووقف في مواجهتهم ، فكان ذلك علياً ( عليه السلام ) !
وأجاب علي ( عليه السلام ) على شعر مرحب ثم كلمه ودعاه إلى الإسلام ، فاستشاط غضباً وحمل عليه وضربه ، فتلقى علي ( عليه السلام ) الضربة ، ووجه اليه ضربته التاريخية فقدَّت خوذته الصخرية ، ومغفره ، ورأسه ، حتى وصلت إلى فرسه !
وقال في تاريخ الخميس ( 2 / 51 ) : « قتل علي يومئذٍ ثمانية من رؤسائهم ، وفر الباقون إلى الحصن » . ولم أجد أسماء من قتلهم قبل دخول الحصن مع مرحب ، وقد اندهشوا بمصرع مرحب ففروا إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه فلحقهم علي ( عليه السلام ) ولا بد أن سهام
--------------------------- 263 ---------------------------
اليهود وأحجارهم انهالت عليه من أبراج الحصن وسطوحه ، وكان يردها بترسه حتى تكسر ، فوجد باب حديد صغير ملقى فاتخذه ترساً !
في ذلك الوقت تمكن بعض المسلمين من عبور الخندق ، ووصل إلى علي ( عليه السلام ) لكن الأكثر كانوا وراء الخندق يحاولون العبور ، فأخذ علي ( عليه السلام ) باب الحصن وجعله لهم جسراً حتى عبروا ، ودخل أمامهم !
وقد عدَّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جهاده في خيبرأحد الإمتحانات السبع التي امتحنها الله بها في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال في جواب رئيس أحبار اليهود ، كما في الخصال / 369 : « وأما السادسة يا أخا اليهود ، فإنا وردنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه ! حتى إذا احمرت الحدق ، ودعيت إلى النزال ، وأهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن إنهض ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا ثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي ، حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهرفيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها ، حتى افتتحتها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين » !
أقول : هذا يدل على أن رجالاً من فرسان قريش كانوا في خيبر لنصرة اليهود ، فلا بد أن تكون قريش بعثت بهم سراً ، أو يكونوا أفراداً لهم علاقات مع اليهود .
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 127 : « ولما قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مرحباً رجع من كان معه وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه ، فصار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إليه فعالجه حتى فتحه ، وأكثر الناس من جانب الخندق لم يعبروا معه ، فأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب
--------------------------- 264 ---------------------------
الحصن فجعله على الخندق جسراً لهم حتى عبروا ، وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم ، فلما انصرفوا من الحصن أخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيمناه ، فدحا به أذرعاً من الأرض ، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً منهم » ! وأضاف العلامة في كشف اليقين / 141 : « قال ( عليه السلام ) : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ، ولكن بقوة ربانية » .
وفي إعلام الورى : 1 / 207 : « قال الباقر ( عليه السلام ) : انتهى إلى باب الحصن وقد أغلق في وجهه ، فاجتذبه اجتذاباً وتترس به ثم حمله على ظهره . واقتحم الحصن اقتحاماً . واقتحم المسلمون والباب على ظهره ، قال : فوالله ما لقي علي ( عليه السلام ) من الناس تحت الباب أشد مما لقي من الباب ، ثم رمى بالباب رمياً » .
أقول : أظن أن في هذا الحديث سقطاً ، فقد ذكرت النصوص أنه ( عليه السلام ) دحا الباب ودخل ، وكان فقد ترسه فوجد باب حديد ملقى فأخذه ترساً ، وقتل من برز له ، ثم حمل الباب ونزل به إلى الخندق فجعله جسراً ، وعبر عليه المسلمون .
وفي المناقب ( 2 / 125 ) : « روى أحمد بن حنبل عن مشيخته عن جابرالأنصاري أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفع الراية إلى علي ( عليه السلام ) في يوم خيبر بعد أن دعا له فجعل يسرع السير وأصحابه يقولون له إرفق ، حتى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الأرض ثم اجتمع منا سبعون رجلاً ، وكان جهدهم أن أعادوا الباب . قال الحميري :
وألقى باب حصنهم بعيداً * ولم يكُ يستقلُّ بأربعينا
وفي مجمع الزوائد : 6 / 151 ، قال ( عليه السلام ) : « فانطلقت حتى أتيتهم ، فإذا فيهم مرحب يرتجز حتى التقينا ، فهزمه الله وانهزم أصحابه وتحصنوا ، وأغلقوا الباب فأتيت الباب ، فلم أزل أعالجه حتى فتحه الله » .
وقد روت عامة المصادر حديث عبد الله بن عمر ، كما في أمالي الصدوق / 604 ، وروضة الواعظين / 126 ، قال : « إن رسول الله دفع الراية يوم خيبر إلى رجل من أصحابه فرجع منهزماً ، فدفعها إلى آخر فرجع يجبن أصحابه ويجبنوه . . فلما أصبح قال : ادعوا لي علياً . . . قال : لما دنا من القموص ، أقبل أعداء الله من اليهود يرمونه بالنبل والحجارة ، فحمل عليهم علي ( عليه السلام ) حتى دنا من الباب فثنى رجله ، ثم نزل مغضباً إلى أصل عتبة
--------------------------- 265 ---------------------------
الباب فاقتلعه ، ثم رمى به خلف ظهره أربعين ذراعاً .
قال ابن عمر : وما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي علي ، ولكنا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً ، ولقد تكلف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه ، فأخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك فقال : والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً !
وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال في رسالته إلى سهل بن حنيف : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية ، ولا بحركة غذائية ، لكني أيدت بقوة ملكوتية ، ونفس بنور ربها مضية ، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء ! والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت ، ولو أمكنتني الفرصة من رقابها لما بغيت » .
وقال ابن حجر المتعصب ( الإصابة : 4 / 466 ) : « ومن خصائص علي قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم خيبر : لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، فلما أصبح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غدوا كلهم يرجو أن يعطاها . .
وروى في آخره قصة مرحب وقال : « فضربه على هامته ضربة حتى عض السيف منه بيضة رأسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته ، فما قام آخر الناس حتى فتح الله لهم . وفي المسند لعبد الله بن أحمد بن حنبل من حديث جابر : فاجتذب بابه فألقاه على الأرض ، ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً حتى أعادوه » .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 125 ) : ( قال ديك الجن :
سطا يوم بدر بأبطاله * وفي أحد لم يزل يحمل
ومن بأسه فتحت خيبر * ولم ينجها بابها المقفل
دحا أربعين ذراعاً به * هزبر به دانت الأشبل
تاريخ الطبري قال أبو رافع : سقط من شماله ترسه ، فقلع بعض أبوابه وتترس بها ، فلما فرغ عجز خلق كثير عن تحريكها !
روض الجنان قال بعض الصحابة : ما عجبنا يا رسول الله من قوته في حمله ورميه واتراسه وإنما عجبنا من إجساره وإحدى طرفيه على يده فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلاماً معناه يا هذا نظرت إلى يده فانظر إلى رجليه ، قال : فنظرت إلى رجليه فوجدتهما
--------------------------- 266 ---------------------------
معلقتين ! فقلت هذا أعجب رجلاه على الهواء ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ليستا على الهواء وإنهما على جناحي جبرئيل ، فأنشأ بعض الأنصار يقول :
إن امرءً حمل الرتاج بخيبر * يوم اليهود بقدرةٍ لمؤيدُ
حمل الرتاج رتاج باب قموصها * والمسلمون وأهل خيبر شهد
فرمى به ولقد تكلف رده * سبعون كلهم له متسدد
ردوه بعد تكلف ومشقة * ومقال بعضهم لبعض ازرد
وقال الحميري :
واذكر تحمله الديار ولا تكن * ليهود خيبر لا تكون نسيا
حمل الرتاج رتاج باب قموصها * فحسبته يمشي بها بختيا
ما رده سبعون حتى ألهثوا * سبعون موتنف الشباب قويا
وقال ابن رُزَيْك :
والباب لما دحاه وهو في سغب * من الصيام وما يخفى تعبده
وقلقل الحصن فارتاع اليهود له * وكان أكثرهم عمداً يفنده
نادى بأعلى العلى جبريل ممتدحاً * هذا الوصي وهذا الطهر أحمده
وهذا كله خرق العادة ، ولا يتيسر إلا لنبي أو وصي نبي ، وإذا لم يجز أن يكون نبياً ، لا بد أن يكون وصياً ) .
وفي كمال الدين / 542 : ( قال علي ( عليه السلام ) : جرحت في وقعة خيبر خمساً وعشرين جراحة ، فجئت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما رأى ما بي بكى ، وأخذ من دموع عينيه ، فجعلها
على الجراحات ، فاسترحت من ساعتي ) .

16 - الباب الذي تترس به ( عليه السلام ) غير الباب الذي قلعه

قال المقريزي في الإمتاع : 1 / 310 : « وزعم بعضهم أن حمل علي باب خيبر لا أصل له وإنما يروى عن رعاع الناس ، وليس كذلك ، فقد أخرجه ابن إسحاق في سيرته عن أبي رافع ، وأن سبعة لم يقلبوه ، وأخرجه الحاكم من طرق منها عن أبي علي الحافظ ، حدثنا الهيثم بن خلف الدوري عن جابرأن علياً حمل الباب يوم خيبر ، وأنه جُرَّب بعد ذلك
--------------------------- 267 ---------------------------
فلم يحمله أربعون رجلاً » .
وفي سيرة ابن هشام : 3 / 798 : « عن أبي رافع ، مولى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله برايته ، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطاح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه » ! « وتاريخ الطبري : 2 / 301 » . وفي أعيان الشيعة ( 1 / 405 ) : « وهذا الباب غير باب الحصن ، بل هو باب أصغر منه كان ملقى عند الحصن ، أخذه علي فتترس به » .

17 - وتلقاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبشره بنزول الوحي فيه !

في إعلام الورى ( 1 / 207 ) : « خرج البشير إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن علياً دخل الحصن ، فأقبل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج علي ( عليه السلام ) يتلقاه فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد بلغني نبأك المشكور وصنيعك المذكور ، قد رضي الله عنك ورضيت أنا عنك . فبكى علي ( عليه السلام ) فقال له : ما يبكيك يا علي ؟ فقال : فرحاً بأن الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عني راضيان » .
أقول : معناه أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء إلى حصن خيبر لأول مرة فخرج علي ( عليه السلام ) يتلقاه ! ولما أخبره برضا الله ورضاه عليه ، بكى ! فاعجب لهذه الرقة الإنسانية والعبودية المرهفة لله تعالى ، من شخص دوَّى صوت ضربته قبل ساعتين ، وقدَّ خوذة بطل اليهود وهامته نصفين ، ثم انقضَّ على الحصن كأنه كاسحة ألغام ، فقلع بابه ودحاه ، وطحن أبطال اليهود وأخضعهم ! وإذا به أمام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبكي بكاء الطفل ، فرحاً برضا الله تعالى ، ورضا رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليه !
وقد تكرر هذا المشهد منه ( عليه السلام ) لما نزل جبرئيل برضا الله تبارك وتعالى عليه ومديحه . ففي أحُد قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « المناقب : 1 / 385 » : أصابني ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح ، فأخذ بضبعي فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة
--------------------------- 268 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهما عنك راضيان ، فقال : يا علي أقر الله عينك ذاك جبرئيل » .
وعندما أرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى وادي الرمل « الإرشاد : 1 / 116 » وكانت بعض فاتكي العرب جاؤوا ليقتلوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدفعهم علي ( عليه السلام ) فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأصحابه : « هذا جبرئيل يخبرني أن علياً قادم ، ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا علياً وقام المسلمون له صفين مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما بصر بالنبي ترجل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبلهما ، فقال له : إركب فإن الله تعالى ورسوله عنك راضيان . فبكى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرحاً » .

18 - أوسمة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) في خيبر

أ . روى الجميع قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . وهو حديث متواتر ، وفي رواية : « ليس بفرار » . وفي رواية الحاكم : « لأبعثن رجلاً لا يخزيه الله أبداً » .
وفي رواية : « ويحبه الله ورسوله ، في ثناء كثير » .
وفي رواية سليم : « ليس بجبان ولا فرار » .
وفي رواية شرح الأخبار : « يفتح خيبر عنوة » .
وفي رواية الإرشاد : « أرونيه تروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يأخذها بحقها ، ليس بفرار » .
وفي رواية مجمع الزوائد : « يقاتلهم حتى يفتح الله له » .
وفي سنن النسائي : 5 / 112 : « يقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله » .
ب . تقدم عن حذيفة ( رحمه الله ) قوله : « لما تهيأ علي ( عليه السلام ) للحملة قال رسول الله : يا علي والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبريل عن يمينك ، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي ، إنك سيد العرب ، وأنا سيد ولد آدم » ! « السيرة الحلبية : 2 / 736 » .
أقول : تعمد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يعلن هذا الوسام لعلي ( عليه السلام ) في خيبرثم يؤكده ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفاطمة ( عليها السلام ) : « ثم إن الله تعالى اختارني من أهل بيتي ، واختار علياً والحسن
--------------------------- 269 ---------------------------
والحسين واختارك . فأنا سيد ولد آدم ، وعلي سيد العرب ، وأنت سيدة النساء ، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة . ومن ذريتكما المهدي يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت من قبله جوراً » . ( أمالي الطوسي / 608 ) .
ورواه الحاكم ( 3 / 124 ) عن عائشة قالت : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ادعوا لي سيد العرب ، فقلت : يا رسول الله ألست سيد العرب ؟ فقال : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب » . وابن أبي شيبة : 7 / 474 ، وبغية الباحث / 283 ، وأوسط الطبراني : 2 / 127 ، والرازي في تفسيره : 6 / 212 ، وتاريخ بغداد : 11 / 90 . وغيرها .
ج . في المناقب للخوارزمي / 129 ، قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند فتح خيبر : « لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالاً ، لا تمرُّ على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك ، وفضل طهورك ، يستشفون به ! ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ، ترثني وأرثك ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . أنت تؤدي ديني وتقاتل على سنتي ، وأنت في الآخرة أقرب الناس مني ، وأنت غداً على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين ، وأنت أول من يرد عليَّ الحوض ، وأنت أول داخل الجنة من أمتي ، وإن شيعتك على منابر من نور رواء مرويين ، مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني . وإن عدوك غداً ظِمَاء مُظمَئين ، مسودة وجوههم مقمحين . حربك حربي وسلمك سلمي ، وسرك سري وعلانيتك علانيتي ، وسريرة صدرك كسريرة صدري ، وأنت باب علمي ، وان ولدك ولدي ، ولحمك لحمي ودمك دمي ، وإن الحق معك والحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك ، والإيمان مخالط لحمك ودمك ، كما خالط لحمي ودمي ، وإن الله عز وجل أمرني أن أبشرك أنك وعترتك في الجنة ، وأن عدوك في النار . يا علي ، لا يرد علي الحوض مبغض لك ، ولا يغيب عنه محب لك .
قال قال علي : فخررت له سبحانه وتعالى ساجداً ، وحمدته على ما أنعم به علي من الإسلام والقرآن ، وحببني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
--------------------------- 270 ---------------------------
ومناقب ابن سليمان : 1 / 249 ، وشرح الأخبار : 2 / 381 ، وكنز الفوائد / 281 ، وفي آخره :
« فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي » . وروته مصادر السنة كالطبراني في الكبير : 1 / 320 ، والزوائد : 9 / 131 .

19 - أفٍّ وتُفّ لمن ينكر فضائل علي ( عليه السلام ) !

روى الجميع هذا الموقف لابن عباس ، كالنسائي في خصائص علي ( عليه السلام ) / 62 ، عن عمرو بن ميمونة قال : « إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا : يا ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو بنا بين هؤلاء . فقال ابن عباس : بل أنا أقوم معكم . قال : وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى ، قال : فابتدؤوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا ، قال : فجاء وهو ينفض ثوبه وهو يقول : أفٍّ وتُفّ ، وقعوا في رجل له بضع عشر ! وقعوا في رجل قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأبعثن رجلاً يحب الله ورسوله لا يخزيه الله أبداً ، قال : فاستشرف لها من استشرف فقال : أين ابن أبي طالب ؟ قيل : هو في الرحى يطحن ، قال : وما كان أحدكم ليطحن ، قال : فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر ، فتفل في عينيه ثم هز الراية ثلاثاً فدفعها إليه . . الخ .
ثم ذكر ابن عباس عدة مناقب لعلي ( عليه السلام ) منها أن الله أمر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يأخذ سورة براءة من أبي‌بكر ويدفعها اليه ، لأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ، وأن علياً أول من أسلم ، ونزول آية التطهير فيه وفي زوجته وولديه ( عليهم السلام ) ، ومبيته على فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة الهجرة ، وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . . الخ . ورواه النسائي في سننه : 5 / 113 ، وأحمد : 1 / 330 ، والحاكم : 3 / 132 ، والسنة لابن أبي عاصم / 588 ، وتاريخ دمشق : 42 / 101 ، ونهاية ابن كثير : 7 / 374 ، والخوارزمي / 125 ، وفرات / 341 ، وكشف اليقين / 27 ، وينابيع المودة : 1 / 110 ، وشرح الأخبار : 2 / 299 ، والمراجعات / 195 ،
وقال : صححه الذهبي .
--------------------------- 271 ---------------------------

20 - حصنا السلالم والوطيح وفدك خالصة لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

في معجم البلدان ( 5 / 379 ) : « سمي بالوطيح بن مازن رجل من ثمود ، وكان الوطيح أعظمها ، وآخر حصون خيبر فتحاً ، هو السلالم » .
قال ابن هشام ( 3 / 801 و 814 ) : ( وحاصر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم ، حتى إذا أيقنوا بالهلكة ، سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ، ففعل . وكان رسول الله قد حاز الأموال كلها : الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم ، إلا ما كان من ذينك الحصنين . فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا ، بعثوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يسألونه أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ويخلوا له الأموال ، ففعل .
وكان فيمن مشى بين رسول الله وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود ، أخو
بني حارثة . فما نزل أهل خيبر على ذلك ، سألوا رسول الله أن يعاملهم في الأموال على النصف ، وقالوا : نحن أعلم بها منكم وأعمر لها ، فصالحهم رسول الله على النصف ، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب .
قال ابن إسحاق : فلما فرغ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من خيبر ، قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع الله بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يصالحونه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطائف ، أو بعد ما قدم المدينة ، فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول الله خالصة ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ) .
وهذا النص يدل على أن أهل حصن الوطيح وحصن السلالم استسلموا للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدون قتال ، فكتب معهم صلحاً على الجلاء وأبقاهم في الأرض يعملون فيها بسهم لهم ، وله إخراجهم متى شاء . وسمع بهم أهل فدك ، فطلبوا أن يصالحهم مثلهم ، فأرسل من استلمها وكتب
--------------------------- 272 ---------------------------
معهم عهداً كأهل الوطيح والسلالم ، فهذه الثلاثة حكمها واحد ينطبق قوله تعالى : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ . فهذه الثلاثة ملك خاص لرسول الله ( عليه السلام ) يتصرف فيها ما يشاء ، حتى لو قسم الوطيح والسلالم بين المسلمين كما رووا .
ولذلك وهب فدكاً لفاطمة ( عليها السلام ) بأمر الله تعالى ، فقد روى السيوطي في الدر المنثور ( 4 / 178 ) قال : ( وأخرج البزار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، دعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاطمة فأعطاها فدكاً ) .
وليس في سند الحديث من يتكلم فيه سوى عطية العوفي ، وقد قال عنه يحيى بن معين : صالح . فوهبها لها ، وبعثت وكيلها إليها من السنة السابعة ، وبقيت بيدها حتى صادرها أبو بكر . وذكر في السيرة الحلبية ( 2 / 745 ) فتح هذين الحصنين وأنهما لم يحتاجا إلى قتال علي ( عليه السلام ) أو غيره . وأنهم وجدوا فيهما مائة درع وأربع مائة سيف ، وألف رمح ، وخمس مائة قوس عربية بجعابها ، وصحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها ، فأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدفعها إليهم ، ثم قال الحلبي : وهو يخالف ما قاله أئمتنا أن كتبهم التي يحرم الانتفاع بها لكونها مبدلة تمحى إن أمكن ، أو تمزق ) .

21 - ما أدري بأيها أنا أسَرّ : بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟

أبقى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعفر بن أبي طالب رضي الله في الحبشة نحو خمس عشرة سنة ، من الخامسة للبعثة إلى السابعة للهجرة ، حتى أمره بالعودة بمن بقي من المهاجرين وكان عددهم ستة عشر « ابن هشام : 3 / 818 » فوصلوا والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خيبرفقام النبي لجعفر ومشى اليه والتزمه وقبله بين عينيه ، وقال كلمته المشهورة : « ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر » ! « الطبقات : 2 / 108 ، وابن هشام : 3 / 818 ، والخصال / 77 ، ومقاتل الطالبيين / 6 ، والحدائق : 10 / 498 » .
وهي كلمة بليغة تعني أن ما أنجزه جعفر رضي الله عنه من إزالة عقبة المسيحية الرومية من طريق الإسلام نعمة عظيمة ، يوازي إزالة عقبة اليهود من طريق الإسلام
--------------------------- 273 ---------------------------
بفتح خيبر على يد أخيه علي ( عليه السلام ) ! ففي الخصال / 484 : « قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة وعانقه وقبَّل ما بين عينيه وبكى ، وقال : لا أدري بأيهما أنا أشد سروراً : بقدومك يا جعفر ، أم بفتح الله على أخيك خيبر ؟ ! وبكى فرحاً برؤيتة » .
وفي تهذيب الأحكام : 3 / 186 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال له : يا جعفر ألا أعطيك ؟ ألا أمنحك ؟ ألا أحبوك ؟ قال فتشوف الناس ورأوا أنه يعطيه ذهباً أو فضة ! قال : بلى يا رسول الله . قال : صل أربع ركعات متى ما صليتهن غفر لك ما بينهن ، إن استطعت كل يوم وإلا فكل يومين أو كل جمعة أو كل شهر ، أو كل سنة ، فإنه يغفر لك ما بينهما ! قال : كيف أصليها ؟ قال : تفتتح الصلاة ، ثم تقرأ ثم تقول خمس عشرة مرة وأنت قائم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر . فإذا ركعت قلت ذلك عشراً ، وإذا رفعت رأسك فعشراً ، وإذا سجدت فعشراً ، فإذا رفعت رأسك فعشراً ، وإذا سجدت الثانية عشراً ، وإذا رفعت رأسك عشراً . فذلك خمس وسبعون ، تكون ثلاث مائة في أربع ركعات فهن ألف ومئتان . وتقرأ في كل ركعة بقل هو الله أحد ، وقل يا أيها الكافرون » .
أقول : عُرفت هذه الصلاة بصلاة جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، كما عُرف التسبيح مائة مرة بتسبيح فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) . وهو أمر مقصود قصداً لله تعالى ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يربط عبادة مميزة باسم الزهراء ( عليها السلام ) لتكون حاضرة في عبادة المسلمين لربهم ، وكذلك جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وليتخذهم المسلمون قدوات في الذكر الكثير والعبادة .
* *
--------------------------- 274 ---------------------------

الفصل الرابع عشر: علي ( عليه السلام ) في فتح مكة

1 . عليٌّ ( عليه السلام ) يستخرج رسالة حاطب ابن بلتعة

قرر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غزو مكة وفتحها ، وأراد أن يكون ذلك مفاجأةً لقريش ، فدعا الله تعالى : « اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش ، حتى نَبْغَتَهَا في بلادها » . ( مناقب آل أبي طالب : 1 / 177 ، وابن هشام : 4 / 857 ) .
واتخذ الإحتياطات اللازمة لإخفاء حركته إلى مكة ، وأصدر أمره بالتجهز للغزو ولم يفصح إلى أين : « وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أي بنية أأمركم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تجهزوه ؟ قالت : نعم فتجهز ، قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : لا والله ما أدري » . ( ابن هشام : 4 / 857 ) .
وأرسل إلى القبائل أن يوافوه إلى المدينة في أول شهر رمضان للذهاب معه في غزوة ، ولم يخبرهم إلى أين . ( إعلام الورى : 1 / 219 ) . وأمر بضبط المدينة : « وضع حرساً على المدينة ، وكان على الحرس حارثة بن النعمان » . ( إعلام الورى : 1 / 216 ) .
ومع كل الإحتياطات احتاج الأمر إلى تدخل الوَحْي ، فكشف خيانة بعض الصحابة ، وأن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة إلى قريش يخبرهم ! ففي تفسير القمي ( 2 / 361 ) : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ الآية عام ومعناها خاص ، وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة ، وكان عياله بمكة ، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصاروا إلى عيال خاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهل
--------------------------- 275 ---------------------------
يريد أن يغزو مكة ؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك ، فكتب إليهم حاطب إن رسول الله يريد ذلك ، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية ، فوضعته في قرنها ومرَّت ، فنزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره بذلك ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها ، فقال لها أمير المؤمنين : أين الكتاب ؟ فقالت : ما معي ! ففتشوها فلم يجدوا معها شيئاً ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئاً ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله ما كذَبَنَا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا كذَبَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على جبرئيل ، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه ! والله لتظهرن لي الكتاب أو لأوردن رأسك إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقالت : تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها ، فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وجاء به إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وفي الإرشاد ( 1 / 56 ) : « فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وصار به إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمر أن ينادي بالصلاة جامعة فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم ، ثم صعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المنبر وأخذ الكتاب بيده وقال : أيها الناس ، إني كنت سألت الله عز وجل أن يخفي أخبارنا عن قريش ، وإن رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا ، فليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فلم يقم أحد فأعاد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مقالته ثانية وقال : ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فقام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف ، فقال : يا رسول الله أنا صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكاً بعد يقيني . فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب ؟ فقال : يا رسول الله إن لي أهلاً بمكة وليس لي بها عشيرة ، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشك في الدين . قال : فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليرق عليه ، فأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) برده وقال له : قد عفوت عنك وعن جرمك ، فاستغفر ربك ولا تعد لمثل ما جنيت » !
--------------------------- 276 ---------------------------
وفي تفسير القمي ( 2 / 361 ) : فأنزل الله جل ثناؤه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . إلى آخر السورة .
وفي المسترشد للطبري الشيعي / 540 ، أن عمر قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « إئذن لي أضرب عنقه فإنه قد نافق ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتريد يا عمر أن تقول العرب إن محمداً يقتل أصحابه » ! ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعمر : « وما يدرك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم » ! ( ابن هشام : 4 / 858 ) .
لكنهم رووا في أصح كتبهم أن الصحابة يدخلون النار ، ولا ينجو منهم إلا مثل هَمَل النَّعَم ! ( البخاري : 7 / 209 ) كما روت مصادرنا عن علي ( عليه السلام ) ذماً لابن بلتعة . ( تأويل الآيات : 2 / 465 ، والجمل / 208 ) .

2 . فاجأ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قريشاً بجيش لا قبل لها به

ذكر بعض الرواة أن عدد جيش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فتح مكة عشرة آلاف ، ويظهر من القرائن المختلفة أن عدده كان بين خمسة وستة آلاف . وقد عسكرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مَرّ الظهران قرب عرفات ، وكان ذلك مفاجأة لقريش فأسقط في يد زعمائها لأنهم لا يريدون الخضوع له ، ولا طاقة لهم بحربه ! فسارع أبو سفيان بالذهاب إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليتفاوض معه .
قال في إعلام الورى ( 1 / 218 ) : « فخرج في تلك الليالي أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً ، وقد كان العباس بن عبد المطلب خرج يتلقى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه أبو سفيان بن الحارث ابن عم النبي وعبد الله بن أبي أمية ، أخ أم‌سلمة ، وقد تلقاه بنيق العقاب ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قبته وعلى حرسه يومئذ زياد بن أسيد ، فاستقبلهم زياد فقال : أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبة ، وأما أنتما فارجعا ، فمضى العباس حتى دخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فسلم عليه وقال : بأبي أنت وأمي هذا ابن عمك قد جاء تائباً وابن عمتك . قال : لا حاجة لي فيهما إن ابن عمي انتهك عرضي ، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة : وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا .
--------------------------- 277 ---------------------------
فلما خرج العباس كلمته أم‌سلمة وقالت : بأبي أنت وأمي ابن عمك قد جاء تائباً ، لا يكون أشقى الناس بك ، وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكونن شقياً بك ! ونادى أبو سفيان بن الحارث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كن لنا كما قال العبدالصالح : لا تَثْرِيب عَلَيْكم ، فدعاه وقبل منه ، ودعا عبد الله بن أبي أمية ، فقبل منه .
وقال العباس : هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله عنوة قال : فركبت بغلة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) البيضاء وخرجت أطلب الحطَّابة أو صاحب لبَن لعلي آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يستأمنون إليه ، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام ، وأبو سفيان يقول لبديل : ما هذه النيران ؟ قال : هذه خزاعة . قال : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم ! ولكن لعل هذه تميم أو ربيعة ! قال العباس : فعرف صوت أبي سفيان ، فقلت : أبا حنظلة ؟ قال : لبيك فمن أنت ؟ قلت : أنا العباس ، قال : فما هذه النيران فداك أبي وأمي ؟ قلت : هذا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عشرة آلاف من المسلمين قال : فما الحيلة ؟ قال : تركب في عجز هذه البغلة ، فأستأمن لك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال : فأردفته خلفي ثم جئت به ، فكلما انتهيت إلى نار قاموا إليَّ فإذا رأوني قالوا : هذا عم رسول الله خلوا سبيله ، حتى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال : عدو الله ، الحمد الله الذي أمكن منك ، فركضت البغلة حتى اجتمعنا على باب القبة ، ودخل عمر على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : هذا أبو سفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه ! قال : العباس : فجلست عند رأس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقلت : بأبي أنت وأمي أبو سفيان قد أجرته . قال : أدخله فدخل فقام بين يديه فقال : ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأوصلك وأحلمك ، أما الله لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد ، وأما أنك رسول الله فوالله إن في نفسي منها لشيئاً ! قال العباس : يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ! قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، تلجلج بها فوه !
--------------------------- 278 ---------------------------
فقال أبو سفيان للعباس : فما نصنع باللات والعزى ؟ فقال له عمر : إسلح عليهما . فقال أبو سفيان : أفٍّ لك ما أفحشك ، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : عند من تكون الليلة ؟ قال : عند أبي الفضل .
قال : فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة ، واغد به عليَّ . فلما أصبح سمع بلالاً يؤذن قال : ما هذا المنادي يا أبا الفضل ؟ قال : هذا مؤذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قم فتوضأ وصل ، قال : كيف أتوضأ ؟ فعلمه . قال : ونظر أبو سفيان إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يتوضأ وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه فقال : بالله إن رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر !
فلما صلى غدا به إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي بالذهاب إلى قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله ، فأذن له ، فقال العباس : كيف أقول لهم بين لي من ذلك أمراً يطمئنون إليه ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : تقول لهم : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله وكف يده ، فهو آمن ، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن . فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فلو خصصته بمعروف ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قال أبو سفيان : داري ! قال : دارك ! ثم قال : من أغلق بابه فهو آمن .
ولما مضى أبو سفيان قال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل من شأنه الغدر وقد رأى من المسلمين تفرقاً . قال : فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتى يمر به جنود الله . قال : فلحقه العباس فقال : أبا حنظلة ! قال : أغدراً يا بني هاشم ؟ قال : ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ، ولكن اصبر حتى تنظر إلى جنود الله » .

3 . علي ( عليه السلام ) يدخل مكة بالرحمة الرسولية

في الإرشاد ( 1 / 134 ) : ( لما أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية ، غلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم ، ودخل وهو يقول :
اليوم يوم الملحمه * اليوم تسبى الحرمة
فسمعها العباس رضي الله عنه فقال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن
--------------------------- 279 ---------------------------
عبادة ! إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أدرك يا علي سعداً فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي يدخل بها مكة فأدركه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخذها منه ، ولم يمتنع عليه سعد من دفعها . فكان تلافي الفارط من سعد في هذا الأمر بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم ير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحداً من المهاجرين والأنصار يصلح لأخذ الراية من سيد الأنصار سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعلم أنه لو رام ذلك غيره لامتنع سعد عليه ، فكان في امتناعه فساد التدبير واختلاف الكلمة بين الأنصار والمهاجرين ، ولما لم يكن سعد يخفض جناحه لأحد من المسلمين وكافة الناس سوى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يكن وجه الرأي تولي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخذ الراية منه بنفسه ، ولى ذلك من يقوم مقامه ولا يتميز عنه ، ولا يعظم أحد من المقرين بالملة عن الطاعة له ، ولا يراه دونه في الرتبة . وفي هذا من الفضل الذي تخصص به أمير المؤمنين ( عليه السلام )
ما لم يشركه فيه أحد ) .
وفي الإمتاع ( 8 / 386 ) فقال له : « يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة ، اليوم يعز الله قريشاً ، وأرسل إلى سعد ، فأخذ الراية منه » .
وفي رواية ( موسوعة أمير المؤمنين : 2 / 54 ) : أخذ الراية علي ( عليه السلام ) ودخل مكة
وهو يقول : اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة

4 . علي ( عليه السلام ) ينفذ أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المهدور دمهم

قال البلاذري في أنساب الأشراف ( 1 / 357 ) : ( أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقتل ستة نفر ، وأربع نسوة . فأما النفر فعكرمة بن أبي جهل ، وهبار بن الأسود ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ومقيس بن صبابة ، والحويرث بن نقيذ ، وابن خطل .
وأما الأربع النسوة فهند بنت عتبة ، وسارة مولاة عمرو بن هاشم بن المطلب ، وقينتا هلال بن عبد الله بن خطل الأدرمى . . فرتنا وأرنب ) .
وأوصل صاحب الصحيح ( 23 / 9 ) المهدور دمهم في فتح مكة إلى اثنين وعشرين شخصاً ، وخلاصة كلامه : « أن الأمر بقتل هؤلاء الناس هو من مفردات تعظيم الكعبة وحفظ حرمة الحرم ، لأنهم بشركهم وبصدهم عن سبيل الله وسعيهم
--------------------------- 280 ---------------------------
في الأرض فساداً يمثلون الرجس والإثم والقاذورات التي لا بد من تطهير بيت الله وحرمه منها ، فقتلهم حتى لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة ، تكريم للكعبة وتكريس لمعنى الطهر والقداسة فيها :
1 - عكرمة بن أبي جهل : كان هو وأبوه أشد الناس أذية للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
2 - صفوان بن أمية : هرب مع عبده يسار إلى جدة ليذهب إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومي ، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمنه صلى الله عليك . قال : هو آمن .
3 - عبد العزى بن خطل : أهدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دمه وكان اسمه عبد العزى ، وكان أسلم فسماه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عبد الله وهاجر إلى المدينة ، وبعثه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ساعياً وبعث معه رجلاً ، وكان يصنع له طعامه ويخدمه ، فأمره أن يصنع له طعاماً ونام نصف النهار واستيقظ والخزاعي نائم ولم يصنع له شيئاً ، فعدى عليه فضربه فقتله وارتد عن الإسلام ، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة ، وقال : لم أجد ديناً خيراً من دينكم ! وكان يقول الشعر يهجو به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكانت له قينتان فاسقتان ، يأمرهما أن تغنيا بهجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وأتى البيت فدخل تحت أستاره ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أقتلوه ، إن الكعبة لا تعيذ عاصياً ، ولا تمنع من إقامة حد واجب ، فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة .
4 - عبد الله بن سعد بن أبي سرح : وإنما أمر بقتله لأنه كان أسلم قبل الفتح ، وكان يكتب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوحي وكان إذا أملى عليه : سميعاً بصيراً ، كتب : عليماً حكيماً ! وإذا أملى عليه : عليماً حكيماً كتب : غفوراً رحيماً ! وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال : إن محمداً لا يعلم ما يقول . فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة ، فارتدّ وهرب إلى مكة وقال : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ ! وقال لقريش : إني كنت أصرف محمداً كيف شئت ، كان يملي عليّ : عزيز حكيم فأقول : أو عليم حكيم ، فيقول : نعم كل صواب ! وعندما دخل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مكة لجأ ابن سرح إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فقال له : يا أخي استأمن لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل
--------------------------- 281 ---------------------------
أن يضرب عنقي ! فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا ، فاستأمن له وأتى به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعرض عنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصار عثمان يقول : يا رسول الله أمنته والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرض عنه !
ثم قال : نعم ، فبسط يده فبايعه ، فلما خرج عثمان وعبد الله قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لمن حوله : أعرضت عنه مراراً ، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه !
فقال عباد بن بشر : يا رسول الله خفتك ، أفلا أومضتَ إليّ ، أي أومأت ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنه ليس لنبي أن يومض ، إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين .
5 - عبد الله بن الزبعرى : كان شاعراً يهجو النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين ويحرض عليهم كفار قريش ، وهو الذي تمثَّل يزيد بأبياته عندما جئ له برأس الحسين ( عليه السلام ) ، فأخذ ينكت ثنايا الإمام ( عليه السلام ) بقضيب في يده . وهو الذي ألقى الفرث والدم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يصلي ثم جاء أبو طالب وسل سيفه ، فأمرَّ ذلك الفرث على لحاهم وشواربهم !
6 - الحويرث بن نقيدر : كان يؤذي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونخس بزينب بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما هاجرت إلى المدينة فرمى بها عن بعيرها ، فأهدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دمه فخرج في مكة يوم الفتح يريد أن يهرب فتلقاه علي ( عليه السلام ) فضرب عنقه .
7 - هبار بن الأسود : كان شديد الأذى للمسلمين ، وتعرض لزينب بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما هاجرت ، فنخس بها أو ضربها بالرمح ، فسقطت عن راحلتها فأسقطت ، ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت !
فلما كان يوم الفتح وبلغه أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أهدر دمه أعلن بالإسلام فقبله منه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعفا عنه . وزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن لقيتم هباراً هذا فأحرقوه ، ولا يصح قولهم لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يتردد في أحكامه .
ونقول : إذا كان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أهدر دم هبار بن الأسود والحويرث بن نقيدر ، لأنهما روَّعا زينب وأوقعاها عن الراحلة إلى الأرض ، فماذا سيكون موقفه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن ضرب فاطمة ( عليها السلام ) وأسقط جنينها وكسر ضلعها ، وتسبب لها بعلَّتها التي ماتت
--------------------------- 282 ---------------------------
منها ، فكانت صدِّيقة شهيدة كما قال الإمام صادق ( عليه السلام ) !
8 - الحارث بن هشام : أخو أبي جهل لأبويه . وقد أسلم بعد ذلك .
9 - زهير بن أمية : وكان قد استجار بأم هاني وأراد علي ( عليه السلام ) قتله فأمضى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جوارها ، وأسلم بعد ذلك .
10 - عبد الله بن ربيعة : ذكره الأزرقي بدل زهير بن أمية .
11 - زهير بن أبي سلمى الشاعر .
2 - مقيس بن صبابة : كان أسلم ثم أتى على رجل من الأنصار فقتله ، وارتد ، فقتله نميلة بن عبد الله بحكم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الفتح .
13 - الحويرث بن الطلاطل الخزاعي : كان يؤذي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قتله علي ( عليه السلام ) .
14 - كعب بن زهير : وهو الشاعر الذي كان يهجو رسول الله وجاء بعد ذلك فأسلم ، ومدحه بقصيدة : بانت سعاد .
15 - وحشي بن حرب : قاتل حمزة ، وقد هرب في فتح مكة إلى الطائف ، فلما أسلم أهلها جاء مع وفدهم فأسلم ، فقال له ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : غيب عني وجهك !
16 - هبيرة بن أبي وهب : زوج أم هاني يقال : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أهدر أيضاً دمه .
17 - سارة : مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وكانت مغنية نواحة بمكة تغني بهجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقالوا : عفا عنها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب .
18 - أرنب ، مولاة ابن خطل .
19 - فرتنى : أو قرينا .
20 - قريبة ويقال : هي أرنب السابقة . وهما قينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخرى .
21 - أم سعد : قتلت فيما ذكره ابن إسحاق . ويحتمل أن تكون هي أرنب .
22 - هند بنت عتبة : وهي التي شقت عن كبد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاكت قلبه . أتت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو بالأبطح فأسلمت وقالت :
--------------------------- 283 ---------------------------
الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، لتمسني رحمتك يا محمد ، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به . ثم كشفت عن نقابها فقالت : أنا هند بنت عتبة . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مرحباً بك . وقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح فهل عليَّ حرج أن أطعم من ماله عيالنا ؟ فقال : لاحرج عليك أن تطعميهم بالمعروف .

5 . رحم الله عمي أبا طالب لو ولد الناس كلهم لكانوا شجعاناً

في الكافي ( 5 / 33 ) عن أبي حمزة الثمالي قال : « قلت لعلي بن الحسين : إن علياً سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أهل الشرك . قال : فغضب ثم جلس ثم قال : سار والله فيهم بسيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الفتح ، إن علياً كتب إلى مالك وهو على مقدمته يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل ، ولا يقتل مدبراً ، ولا يجيز على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن » .
وقال في إعلام الورى ( 1 / 223 ) : « كان قد عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم : مقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن خطل ، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة . فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله . وقتل مقيس بن صبابة في السوق . وقتل علي ( عليه السلام ) إحدى القينتين وأفلتت الأخرى ، وقتل ( عليه السلام ) أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب . وبلغه أن أم هانئ بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بني مخزوم ، منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب ، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد ، فنادى : أخرجوا من آويتم ! فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه ! فخرجت إليه أم هاني وهي لا تعرفه فقالت : يا عبد الله ، أنا أم هاني بنت عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخت علي بن أبي طالب ، انصرف عن داري . فقال علي ( عليه السلام ) : أخرجوهم ! فقالت : والله لأشكونك إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت : فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال لها :
--------------------------- 284 ---------------------------
فاذهبي فبري قسمك فإنه بأعلى الوادي . قالت أم هاني : فجئت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في قبة يغتسل وفاطمة ( عليها السلام ) تستره ، فلما سمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلامي قال : مرحباً بك يا أم هاني . قلت : بأبي وأمي ما لقيت من علي اليوم ! فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد أجرتُ من أجرت ! فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : إنما جئت يا أم هانئ تشكين علياً في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله ! فقلت : إحتمليني فديتك ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد شكر الله لعلي سعيه ، وأجرت من أجارت أم هانئ ، لمكانها من علي بن أبي طالب » .
وروت مصادرهم مجئ أم هاني إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعفوه عن المخزوميين الذين أجارتهم ، واتفقوا على أن علياً ( عليه السلام ) لم يدخل البيت ، مع أنه يحمل أمراً قضائياً من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن أم هاني لم تخرجهم ، بل أغلقت الغرفة عليهم ، وذهبت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تشتكي علياً ( عليه السلام ) ! وروي أن أم هاني أمسكت بساعد علي ( عليه السلام ) لتمنعه من دخول دارها ، فكشف قناعه فعرفته ، وأن ذلك أعجب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : لله در أبي طالب ! لو ولد الناس كلهم كانوا شجعاناً » . ( كشف الغمة : 2 / 235 ) .
وقد يشكل على أم هاني رضي الله عنها لعملها هذا ، لكن تلبية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لطلبها يرفع الإشكال لو كان .

6 . علي يصلح ما أفسده خالد بن الوليد

في إعلام الورى ( 1 / 228 ) : « بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر ، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة وقتلوا عم خالد ، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا : يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ، ونحن مسلمون ، فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها ، فقال : ضعوا السلاح ، قالوا : إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله . فانصرف عنهم بمن معه فنزلوا قريباً ، ثم شن عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً ثم قال : ليقتل كل رجل منكم أسيره ، فقتلوا الأسرى !
وجاء رسولهم إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره بما فعل خالد بهم فرفع ( عليه السلام ) يده إلى السماء وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد وبكى ! ثم دعا علياً ( عليه السلام ) فقال : أخرج إليهم
--------------------------- 285 ---------------------------
وانظر في أمرهم وأعطاه سفطاً من ذهب ، ففعل ما أمره وأرضاهم » .
وفي أمالي الصدوق / 237 : « عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادي بالصلاة فصلى وصلوا ، فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم ( مع النبي )
فوجدوه فأتوا به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تبر ومتاع ، فقال لعلي ( عليه السلام ) : يا علي إئت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إحدى قدميه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك ! فأتاهم علي ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ،
فلما رجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : يا علي أخبرني بما صنعت ، فقال : يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أعطيتهم ليرضوا عني ، رضي الله عنك يا علي ، إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي » .
وفي أمالي الطوسي / 498 : « فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أرضيتني رضي الله عنك يا علي ، أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .
ورواه في شرح الأخبار ( 1 / 309 ) وفيه : وإنما فعل ذلك بهم خالد ، لأنهم كانوا قتلوا عمه الفاكهة بن المغيرة في الجاهلية !
وقال عباس العقاد في كتابه عبقرية عمر : « بعث رسول الله خالداً إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه للقتال وأمره ألا يقاتل أحداً إن رأى مسجداً أو سمع أذاناً . ثم وضع بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم السلاح واستسلموا
--------------------------- 286 ---------------------------
فأمر بهم خالد فكتفوا ! ثم عرضهم السيف فقتل منهم وأفلت من القوم غلام يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله ، وأخبره وشكاه إليه » . ( النص والاجتهاد / 460 ) .
أقول : روته مصادرهم لكنهم حذفوا منه مدح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) ! وتجاهلوا براءة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من فعل خالد ، وأضافوا في روايتهم ما يبرر فعل خالد بأنه لم يفهم كلام بني جذيمة ، فأسرهم وقتلهم ! ويدل قول علي ( عليه السلام ) : ( وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ) . على أن روعة النساء وفزع الصبيان تقدر أيضاً بجزاء مالي ، وهي قاعدة فقهية في الحقوق والقانون الجزائي . كما تدل على أن الحاكم مسؤول عن تصرفات عماله ، مسؤولية جزائية .

7 . وبَّخ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المسلمين لأنهم لم يمنعوا خالداً من قتل عاشق !

روى ابن حجر في فتح الباري ( 8 / 46 ) قصة مؤثرة من مجزرة خالد عن : « ابن أبي حدرد الأسلمي قال : كنت في خيل خالد ، فقال لي فتى من بني جذيمة : قد جمعت يداه في عنقه برمَّة ( حبل ) : يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة ، فقائدي إلى هؤلاء النسوة ؟ فقلت : نعم ، فقدته بها فقال : إسلمي حبيش قبل نفاد العيش .
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم * بحلية أو أدركتكم بالخوانق
الأبيات . . قال فقالت له امرأة منهن : وأنت نجيت عشراً . وتسعاً ووتراً . وثمانياً تترى . قال : ثم ضربت عنق الفتى ، فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت .
ورواه النسائي بإسناد صحيح ، من حديث ابن عباس وفيه : فقال إني لست منهم ، إني عشقت امرأة منهم فدعوني أنظر إليها نظرة ، وقال فيه : فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت !
فذكروا ذلك للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أما كان فيكم رجل رحيم ! وروى الطبري ( 2 / 342 ) قصة العاشقيْن وحوارهما شعراً .
ونقل ابن هشام ( 4 / 883 ) قول عبد الرحمن بن عوف لخالد : كذبت ! ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة !
كما غدرخالد بمالك بن نويرة وبني يربوع بعد أن أمَّنهم واحتال عليهم حتى ألقوا
--------------------------- 287 ---------------------------
سلاحهم فكتفهم وقتلهم !
واستنكر عليه عبد الله بن عمر وأبو قتادة وغيرهما ، وفارقوه ، لكنه لم يسمع منهم ونام مع زوجة مالك تلك الليلة ! فحكم عليه عمر بأنه قاتل زان ! ودافع عنه أبو بكر !
كما غدر بسبعة آلاف من بني حنيفة قتلهم جميعاً ، بعد أن وقع معهم الصلح ، ولم يكن فيهم من قتل أحداً من المسلمين !
أما في بُزَّاخَة فبقي شهراً يرسل خيله فتأتيه بأشخاص فيتفنن في قتلهم !
« فمنهم من أحرقه ، ومنهم من قَمَّطَه ورضخه بالحجارة ، ومنهم من رمى به من رؤس الجبال » . ( الطبري : 2 / 491 ) .
وفي التمهيد لابن عبد البر ( 5 / 315 ) : « وأسروا منهم أسارى فأمر خالد بالحظيرة أن تبنى ، ثم أوقد تحتها ناراً عظيمة فألقى الأسارى فيها » .
* *
--------------------------- 288 ---------------------------

الفصل الخامس عشر: علي ( عليه السلام ) وحده حقق النصر في معرة حنين

1 - خلاصة عن حرب حنين

بعد فتح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حصون خيبرخافت هوازن فحشدت لقتاله ، وعندما تحرك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى فتح مكة أرسلت هوازن عيوناً ليتعرفوا على هدف مسيره ، فأمسك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الجواسيس وحبسهم معه ، لأن أفضل طريقة في التعامل مع الجاسوس أن تحبسه عندك وتأخذه معك . في المقابل أرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ابن أبي حدرد عيناً عليهم إلى مالك بن عوف فسمعه يقول : ( يا معشرهوازن إنكم أحدُّ العرب وأعدُّها ، وإن هذا الرجل لم يلق قوماً يصدقونه القتال ، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد . فأتى ابن أبي حدرد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره » . ( إعلام الورى : 1 / 228 ) .
وتوجهت هوازن بجيشها البالغ عشرين ألف مقاتل إلى مكة ، وعسكروا في حنين بين مكة والطائف ، ومنعوا الحجاج من الحج ، فدعا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قريشاً لقتالهم ، فاستجابت
على مضض .
قال ابن هشام ( 4 / 892 ) ملخصاً : ( أن الحارث بن مالك ، قال : خرجنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية ، قال : فسرنا معه إلى حنين ، قال : وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء ، يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوماً ، قال : فرأينا ونحن نسيرمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سدرة خضراء عظيمة ، قال : فتنادينا من جنبات الطريق : يا رسول الله ،
--------------------------- 289 ---------------------------
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الله أكبر ، قلتم ، والذي نفس محمد بيده ، كما قال قوم موسى لموسى : قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إنها السنن ، لتركبن سنن من كان قبلكم !
قال ابن إسحاق : عن جابر بن عبد الله قال : لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حَطُوط ، إنما ننحدر فيه انحداراً ، قال : وفي عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا في شعابه وأحنائه ومضايقه ، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا ، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ! وانحاز رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذات اليمين ثم قال : أين الناس ! هلموا إليَّ أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله . قال : فلا شئ ! حملت الإبل بعضها على بعض فانطلق الناس .
قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل أمام هوازن وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه .
قال ابن إسحاق : فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان : لاتنتهى هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لمعه في كنانته . وصرخ جبلة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم ! فقال له صفوان : أسكت فضَّ الله فاك ، فوالله لأن يَرُبَّني رجل من قريش ، أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن ) .

2 - فرَّ الجميع وثبت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبنو هاشم فقط !

وصف القرآن فرار المسلمين في حنين فقال تعالى : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ . فالفرار عام والسكينة بعده خاصة .
وفي صحيح بخاري ( 4 / 57 ) : قال أبو قتادة : « فلحقت عمر بن الخطاب فقلت :
--------------------------- 290 ---------------------------
ما بال الناس ؟ قال : أمر الله » ! فنسب عمر الفرار إلى الله تعالى وهذه قدرية عمر التي الشتهربها !
وفي صحيح بخاري ( 5 / 98 و : 4 / 28 ) : « يا أبا عمارة أتوليت يوم حنين ! فقال : أما أنا فأشهد على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لم يولِّ .
فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول : أنا النبي لاكذب . أنا ابن عبد المطلب . فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه » !
وقال ابن هشام ( 4 / 893 ) : « وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال : أين الناس هلموا إليَّ أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله ! قال : فلا شئ » . أي لم يستجيبوا لنداء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقال المفيد في الإرشاد « 1 / 141 » : « لم يبق منهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلاعشرة أنفس : تسعة من بني هاشم خاصة ، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن ( رحمه الله ) وثبتت التسعة الهاشميون . . العباس عن يمينه والفضل عن يساره ، وأبو سفيان ممسك بسرجه عند ثفر بغلته ، وسائرهم حوله ، وعلي ( عليه السلام ) يضرب بالسيف بين يديه » .
وقال المأمون لفقهاء عصره : « إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا سبعة من بني هاشم : علي يضرب بسيفه ، والعباس آخذ بلجام بغلة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والخمسة محدقون بالنبي خوفاً من أن يناله سلاح الكفار ، حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله ( عليه السلام ) الظفر . عنى في هذا الموضع علياً ومن حضر من بني هاشم . فمن كان أفضل ؟ أمَن كان مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونزلت السكينة على النبي وعليه ؟ أم من كان في الغار مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يكن أهلاً لنزولها عليه » ! ( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 207 ) .

3 - نزلت الملائكة والسكينة على الثابتين خاصة !

قال تعالى : وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فالمخاطب بالآية المسلمون الذين نصرهم الله سابقاً ، وقد وبخهم وأخبرهم أنه عوض عن فرارهم بإنزال سكينته على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
--------------------------- 291 ---------------------------
وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه ، وهم بنو هاشم ومولاهم أيمن ، ومعهم نسيبة ، وقيل معهم ابن أم مسعود . وعذب الذين كفروا بيد علي والملائكة ( عليهم السلام ) وليس
بيد المنهزمين !

4 - قَاَتلَ علي ( عليه السلام ) وَحْدَهُ وساعدته الملائكة !

معركة حنين من المعارك الفريدة في التاريخ ، لأن شخصاً واحداً هزم جيشاً من عشرين ألفاً ! فقد رتب علي ( عليه السلام ) حراسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم غاص في أوساط هوازن ، يقصد حامل راية الكتيبة وقائدها فيقتله ، ثم يقصد الآخر !
وبذلك أبعد المعركة عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونشر الذعر في صفوف العدو ، وكان يرجع كل فترة ليطمئن على سلامة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد يأتي معه بأسير أو أكثر !
وفي المناقب ( 1 / 355 ) : « وقف ( عليه السلام ) يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف إلى أن ظهر المدد من السماء . وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أبا جرول ، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس » .
وفي أمالي الطوسي / 575 : « قال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب : فرَّ الناس جميعاً وأعْرَوْا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم يبق معه إلا سبعة نفر من بني عبد المطلب : العباس ، وابنه الفضل ، وعلي ، وأخوه عقيل ، وأبو سفيان ، وربيعة ، ونوفل بنو الحارث بن عبد المطلب ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصلت سيفه في المجتلد ، وهو على بغلته الدلدل ، وهو يقول :
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
قال الحارث بن نوفل : فحدثني الفضل بن العباس قال : التفتَ العباس يومئذ وقد أقشع الناس عن بكرة أبيهم فلم ير علياً في من ثبت ، فقال : شوهةٌ بَوْهَةٌ ، أفي مثل هذا الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو صاحب ما هو صاحبه ، يعني المواطن المشهورة له ! فقلت : نَقِّصْ قولك لابن أخيك يا أبَهْ ! قال : ما ذاك يا فضل ؟ قلت : أما تراه في الرعيل الأول أما تراه في الرهج ! قال : أَشْعِرْهُ لي يا بني . قلت : ذو كذا ، ذو كذا ، ذو البرقة . قال : فما تلك البرقة ؟ قلت سيفه يزيل به بين الأقران . فقال : بَرٌّ بن بَر ، فداهُ عمٌّ وخال . قال : فضرب
--------------------------- 292 ---------------------------
علي ( عليه السلام ) يومئذ أربعين مبارزاً ، كلهم يقدُّه حتى أنفه ، قال : وكانت ضرباته مبتكرة » . أي واحدةً ، لا تحتاج إلى ثانية ! وقد أخفت السلطة بطولات علي ( عليه السلام ) عند فرارالمسلمين ! لكن بعضهم اعترف بأنه قتل ( عليه السلام ) أربعين قائداً ! وقتل القائد العام لجيش هوازن وفارسهم أبا جرول « ذا الخمار » ، فوقع فيهم الرعب والهزيمة !
ولعل حملات علي ( عليه السلام ) استمرت أربع ساعات ، فلم يحن الظهرحتى تم النصر للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانهزم أعداؤه شذر مذر !
« وكان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين قارب بن الأسود ، فلما رأى الهزيمة ، أسند رايته إلى شجرة وهرب » ! ( ابن حبان : 2 / 73 ، وابن خلدون : 2 ق 2 / 47 ) .
أما قائدهم مالك بن عوف الذي كان يهدر ويصيح : أروني محمداً حتى أقتله ! وقصد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليقتله ، فتصدى له أيمن ( رحمه الله ) فقتله مالك ، ولعل علياً ( عليه السلام ) قصده فهرب ،
أو سمع تكبيرات علي ( عليه السلام ) وهويجندل حملة راياتهم ومنهم ذو الخمار وأخا عثمان ، وأبا جرول وغيرهم ، فهرب مالك إلى الطائف !
في إعلام الورى ( 1 / 232 ) والدرر / 227 : « فرَّ مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومهم ، وأسلم عند ذلك كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله وإعزاز دينه » .
واعترف خصوم علي ( عليه السلام ) من حيث لا يريدون بتفرد علي ( عليه السلام ) بالقتال !
ففي سيرة ابن هشام : 4 / 896 : « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » ! والدرر لابن عبد البر / 227 ،
فمن الذي أسرهم وكتَّفهم قبل رجوع الفارِّين ، ولم يبق إلا علي وحده ، فقد كان بقية بني هاشم يحرسون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وادعوا أن ثمانين أو مئة رجعوا قبل غيرهم ، ونسبوا بطولات علي ( عليه السلام ) إليهم !
لكنهم لم يسموا منهم أحداً إلا عبد الله بن مسعود ، وهو ضعيف البنية صغير الجثة ، معروف بأنه أضعف أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ثم نسبوا النصر إلى دعاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإلقائه حفنة الحصى والتراب على جيش هوازن وهو صحيح ، لكنه لا يلغي دور علي ( عليه السلام ) ! ونسبوه إلى الملائكة والملائكة لا تنزل إلا بعد أن يبذل أحد جهده ويستنزلها !
--------------------------- 293 ---------------------------
وقد نسب علي ( عليه السلام ) النصرالى النبي لجهاده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واحتماء علي ( عليه السلام ) به ، فقال فيه :
ألم تر أن الله أبلى رسوله * بلاء عزيزاً ذا اقتدار وذا فضل
بما أنزل الكفار دار مذلة * فذاقوا هواناً من إسار ومن قتل
« مناقب آل أبي طالب : 2 / 331 » .
قال في الإرشاد ( 1 / 142 ) : « وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم ، إذا أدرك نفراً من المسلمين أكب عليهم وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتبعوه وهو يرتجز ويقول :
أنا أبو جرولٍ لا براح * حتى نبيحَ القومَ أو نباح
فصمد له أمير المؤمنين فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره ثم قال :
قد علم القوم لدى الصباح * أني في الهيجاء ذو نصاح
فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله » .
ومما يدل على أنه لم يقاتل أحدٌ في حنين إلا علي ( عليه السلام ) عدم وجود شهداء إلا أيمن بن أم أيمن ( رحمه الله ) الذي استشهد دفاعاً عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عندما قصده مالك بن عوف !
وقالوا استشهد غيره ثلاثة ، وذكروا أن أحدهم أباعامرالأشعري وهو جد الأشعريين القميين ، لكنه قتل بعد المعركة في أوطاس في تعقب الفارين ، ويزيد بن زمعة بن الأسود ، جمح به فرسه فمات » ! « الصحيح من السيرة : 24 / 338 » .
وفي مجمع البيان : 5 / 32 : « قال سعيد بن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يقفوا لنا حلب شاة ، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم ، حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، يعني رسول الله ، فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا : شاهت الوجوه إرجعوا ! فرجعنا ، وركبوا أكتافنا ، فكانوا إياها يعني الملائكة » !
وينبغي الالتفات إلى أن رواة قريش أرادوا أن يسلبوا علياً بطولاته ، ويغطوا فرار رجال السلطة ، فنسبوا النصر إلى قتال الملائكة ، وإنما دور الملائكة المساعدة لعلي ( عليه السلام ) بعد قتاله ، وبعد نزول السكينة على المؤمنين الثابتين .
--------------------------- 294 ---------------------------

5 - الغنيمة لمن قاتل وجبرئيل ( عليه السلام ) له سهم

إذا أخذنا بقاعدة : الغنيمة لمن قاتل عليها ، فكل غنائم حنين لعلي ( عليه السلام ) . وإذا أخذنا بقاعدة أن سهم جبرئيل ( عليه السلام ) من الغنيمة لعلي ( عليه السلام ) لأنه مبعوث لمساعدته ، فإن غنائم حنين كلها لعلي ( عليه السلام ) !
روى في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 220 ) : ( عن الواقدي : أنه نزل جبرئيل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك : إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره ، وعزتي وجلالي ما رمى علي حجر إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً ، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر ، سهماً له وسهم جبرئيل معه ) .
ومن عجيب ما قاله رواة السلطة أن غنيمة خيبر خاصة بالذين بايعوا تحت الشجرة ، مع أنهم بايعوا على أن لا يفروا ، وقد فروا في خيبر فاستحقوا الغنيمة !
وكذلك فروا في حنين فاستحقوا الغنيمة ! فصار سهم الفارين كسهم الثابتين الذين مدحهم الله وأنزل عليهم السكينة !
فاعجب لما قاله الطبري في تفسيره ( 26 / 106 ) : ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِنْ قَبْلُ : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قل لهؤلاء المخلفين عن المسيرمعك يا محمد : لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم لقتالهم ، كذلكم قال الله من قبل يقول : هكذا قال الله لنا من قبل مرجعنا إليكم ، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر ، لأن غنيمتها لغيركم . . أثابهم من مسيرهم الذي ساروه مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مكة ، ولما علم من صحة نيتهم في قتال أهلها ، إذ بايعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن لا يفروا عنه ) .
فكيف يكون الذي عاهد الله وبايع رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن لا يفر ثم نكث بيعته وفر ، صاحب حق في الغنيمة كالثابت الذي مدحه الله تعالى !
بل الغنيمة كلها لعلي ( عليه السلام ) ومن ثبت ، وقد أعطاها للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فتصرف فيها بما يراه مصلحة .
--------------------------- 295 ---------------------------

حاصرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الطائف وأرسل عليا ( عليه السلام ) لإزالة الأصنام

لما وقعت الهزيمة بالمشركين انهزمت ثقيف إلى الطائف ، وهي تبعد تسعين كيلومتراً عن مكة ، وترتفع عن سطح البحر نحو 1300 متراً . وانهزمت هوازن إلى أوطاس القريبة . فذهب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الطائف وحاصرها ، وأرسل أمامه أبا سفيان إلى الطائف ، وأرسل أبا عامر الأشعري إلى أوطاس ، وأرسل علياً ( عليه السلام ) إلى بني خثعم وأصنام العرب التي حول الطائف ليهدمها ويزيلها .
قال ابن حاتم في الدر النظيم / 184 : ( ولما فض الله تعالى جمع المشركين بحنين وتفرقوا فرقتين ، فأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس ، وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف . فبعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا سفيان إلى الطائف فلقيته ثقيف فضربوه على وجهه فانهزم ، ورجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : بعثتني مع قوم لا يرفع بهم البلاء من هذيل والأعراب ، فما أغنوا عني شيئاً . فسكت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه .
ثم صار بنفسه إلى الطائف ، فحاصرهم أياماً . وأنفذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خيل وأمره أن يطأ ما وجده ، ويكسر كل صنم وجده ، فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير ، فبرز لهم رجل من القوم يقال له شهاب في غبش الصبح فقال : هل من مبارز ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من له ؟ فلم يقم أحد فقام إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فوثب أبو العاص بن الربيع زوج ابنة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : تكفاه أيها الأمير . فقال : لا ، ولكن إن قتلت فأنت على الناس . فبرز إليه وهو يقول :
إن على كل رئيس حقا * أن يروي الصعدة أو تندقا
( يروي الرمح المستقيم من دم العدو ) ثم ضربه فقتله ، ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو محاصر أهل الطائف ، فلما رآه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كبر للفتح ، وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) فخلا به وناجاه طويلاً . . .
ثم خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف ، فلقيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ببطن وج فقتله وانهزم المشركون ولحق القوم الرعب ، فنزل منهم جماعة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأسلموا ، وكان حصار النبي للطائف بضعة عشر يوماً ) .
--------------------------- 296 ---------------------------
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 148 : « فبعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا عامرالأشعري إلى أوطاس في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري . وبعث أبا سفيان صخر بن حرب إلى الطائف . فأما أبو عامر فإنه تقدم بالراية وقاتل حتى قتل فقال المسلمون لأبي موسى : أنت ابن عم الأمير وقد قتل ، فخذ الراية حتى نقاتل دونها ، فأخذها أبو موسى فقاتل المسلمون حتى فتح الله عليهم » !

مناجاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) أثارت حسد الصحابة واعتراضهم !

لما رجع علي ( عليه السلام ) من مهمته إلى قبيلة خثعم وإزالة الأصنام ، استقبله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأخذ بيده وناجاه ، أي حدثه سراً ، وطالت مناجاته له ساعة أو أكثر ، فأثارت حسد بعض الصحابة ، فاعترضوا بعنف وسوء خلق !
قال ابن حاتم في الدر النظيم / 185 : ( وعاد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهومحاصرأهل الطائف ، فلما رآه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كبرللفتح وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) فخلا به وناجاه طويلاً . فروى عبد الرحمن بن سيابة . . عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما خلا بعلي يوم الطائف أتاه عمر بن الخطاب فقال : أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا ! فقال : يا عمر أنا ما انتجيته بل الله انتجاه . قال : فأعرض عمر [ وخرج ] وهو يقول : هذا كما قلت لنا يوم الحديبية : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ ، فلم ندخله وصددنا عنه ! فناداه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لم أقل لكم إنكم تدخلونه في ذلك العام ) !
يقصد أنك في الحديبية قلت لنا إن الأمر بالصلح من الله وليس مني ، وأنكم ستدخلون المسجد الحرام ، فلم ندخل ! والآن تقول إن الله انتجاه وما أنا انتيجيته ، وهذا كقولك يوم الحديبية !
فأجابه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أني يومها وعدتكم بدخول المسجد آمنين ، ولم أقل لكم في ذلك العام ، وقد دخلتموه في العام التالي ! وهذا يدل علي أن عمر ما زال غاضباً لصلح الحديبية ومخطئاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . والآن يخطؤه في مناجاته المطولة لعلي ( عليه السلام ) ولا يقبل أنها بأمر الله تعالى !
وفي رواية الإختصاص للمفيد / 200 : ( فقال الناس وأبو بكر وعمر : انتجاه دوننا ،
--------------------------- 297 ---------------------------
فقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس أنتم تقولون إني انتجيت علياً ، وإني والله ما انتجيته ، ولكن الله انتجاه ) !
فقد جعلوا مناجاته إدانة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فاحتاج لأن يخطب فيهم ويقول لهم إنه فعل ما أمره به ربه . ولم يحاب ابن عمه عليهم كما زعموا !
وفي مناقب ابن سليمان ( 1 / 205 ) : ( ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه . يا علي : إن الله أمرني أن أدنيك فلا أقصيك ، وأعلمك فلا أجفوك ، وحق علي أن أطيع ربي ، وحق
عليك أن تعي ) . ومعناه أني أنفذ أمر ربي وأصر على موقفي ، وقد أمرني أن أقرب علياً وأعلمه ، وإنه وليكم بعدي ، فمن شاء فليرض أو فليغضب !
وفي مناقب ابن المغازلي / 124 : ( فقال ناس من أصحابه : قد طالت مناجاتُه منذ اليوم ! فسمع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما أنا انتجيتُه . . ) . وفي رواية : رأي الكراهة في وجوه رجال !
فقد ظهرت كراهتهم وارتفعت أصواتهم ! كل ذلك لأنه جلس مع ابن عمه وقائد جيشه وبطل انتصاراته وحدهما وأطال جلسته ! فغضب الصحابة القرشيون واضطهدوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما لا مثيل له في تاريخ الرسل ! فهم يرون أن لهم الولاية عليه ، وأن عليه الامتناع عن الجلسات الخاصة مع من لا يعجبهم ! ومعناه أن حقهم هذا لا ينقص إن هربوا كما فعلوا بالأمس في حنين وتركوا الرسول لسيوف المشركين ، وثبت معه بنو هاشم وكان بطلهم علياً ( عليه السلام ) ودحر جيشاً من عشرين ألف مقاتل ، فلما رجع الصحابة من فرارهم وجدوا الأسرى مكتفين عند أقدام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما روى ابن هشام ، ووجدوا جيش العدو مخلخلاً من قتل أربعين من قادته !
فلا فرار هؤلاء ( الصحابة الكرام ) جعلهم يستحون ويصمتون ، ولا بطولة علي تعطيه عندهم الحق في أن يجلس معه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جلسة خاصة .
وفي رواية الترمذي ( 2 / 300 ) : ( فقال الناس : لقد طالت نجواه مع ابن عمه ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما انتجيته ولكن الله انتجاه . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الأجلح ، وقد رواه غير ابن فضيل أيضاً عن الأجلح ، ومعنى قوله : ولكن الله انتجاه ، يقول : الله أمرني أن أنتجي معه ) .
--------------------------- 298 ---------------------------
وفي رواية الخطيب البغدادي ( 7 / 402 ) : ( فقالوا : لقد طالت مناجاتك مع علىّ هذا اليوم ، فقال : ما أنا انتجيته . . )
وفي أسد الغابة ( 4 / 27 ) والنهاية ( 5 / 25 ) : أي : إن الله أمرني أن أناجيه ) .
وفي رواية كنز العمال ( 6 / 399 ) ( فقال له أبو بكر : يا رسول الله لقد طالت مناجاتك علياً منذ اليوم ، فقال : ما أنا انتجيته . . ) .
وفي المعجم الكبير ( 2 / 186 ) : ( لما كان يوم غزوة الطائف قام النبي مع علي ملياً من النهار ، فقال له أبو بكر : يا رسول الله لقد طالت مناجاتك علياً منذ اليوم ! فقال رسول الله : ما أنا انتجيته ، ولكن الله انتجاه ) .
وفي الرياض النضرة ( 3 / 170 ) ( فقال الناس : لقد طال نجواه مع ابن عمه ) .
وفي تاريخ ابن عساكر ( 42 / 315 و 316 ) : ( فناجاه طويلاً فقال بعض أصحابه : ما أكثر ما يناجيه ) ! وفي رواية له : لما أن كان يوم الطائف خلا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي فناجاه طويلاً وأبو بكر وعمر ينظران والناس . قال : ثم انصرف إلينا فقال الناس : قد طالت مناجاتك اليوم يا رسول الله ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما أنا انتجيته ، ولكن الله انتجاه . ثم روى عن أنس : أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : صاحب سري علي بن أبي طالب ) .
وفي رواية له : وأطال مناجاته فرأى الكراهية في وجوه رجال ، فقالوا قد أطال مناجاته منذ اليوم فقال ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه )
وفي رواية له : لما كان يوم الطائف ناجى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً طويلا ، فلحق أبا بكر وعمر ، فقالا : طالت مناجاتك علياً يا رسول الله ! قال : ما أنا أناجيه ، ولكن الله انتجاه »
وفي ذكر أخبار إصبهان ( 1 / 141 ) : ( فقال أحد الرجلين للآخر : لقد طالت نجواه لابن عمه ، فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه ) .
وفي شرح النهج ( 9 / 173 ) : ( رواه أحمد في المسند ) . وقد حذفوه فيما حذفوا من مسند أحمد !
* *
وتدل الأحاديث على أن أبا بكر وعمر لم يقتنعا بكلام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن مناجاة علي ( عليه السلام ) ، فعندما توجه إلى تبوك وترك علياً والي المدينة ، ودعه وناجاه طويلاً فجاء أبو بكر وعمر
--------------------------- 299 ---------------------------
واعترضا عليه وجاءا معهما بعائشة أيضاً !
قال الشريف الرضي في خصائص الأئمة / 66 : « وروي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأطال ، فقال أبو بكر لعمر : لقد أطال مناجاته لابن عمه ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أنا ناجيته ولكن الله ناجاه ، وفي ذلك يقول حسان :
ويوم الثنية عند الوداع * وأجمع نحو تبوك المضيا
تنحى يودعه خالياً * وقد وقف المسلمون المطيا
فقالوا يناجيه دون الأنام * بل الله أدناه منه نجيا
عليٌّ فمُ أحمدٍ يوحي إليه * كلاماً بليغاً ووحياً خفيا » .
وفي مناقب ابن سليمان : 1 / 333 ، عن أبي رافع قال : « لما خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزوة تبوك خلف علياً ( عليه السلام ) وكثرت فيه الأقاويل من الناس فقالوا : لم يخلفه إلا بغضاً له وكراهية أن يتبعه ! فبلغ ذلك علياً فلحقه على مرحلة أو مرحلتين فسارمحادثه وهما على بعيرين لهما والناس ينظرون إليهما وأنا قريب منهما ، فجاءت عائشة لما رأت حالهما ومناجاة كل واحد منهما لصاحبه فأدخلت بعيرها بينهما ، فالتفت إليها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أما والله ما يومه منك بواحد !
ثم قال : أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة ، وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة في الدنيا والآخرة ، وأنك أخي ووزيري ووارثي . انصرف فلا يُصلح ما هناك إلا أنا أوأنت » .
وسيأتي أن المنافقين أشاعوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خلفه في المدينة ولم يأخذه معه استثقالاً له ! فلحق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد أن تحرك فشكى له ، فقال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وقال فيه كلمات أخرى عظيمة ، ووقف على بعيره يناجيه فلم يملك هؤلاء أنفسهم ، وقد ذكرت أم‌سلمة عائشة بفعلة لها مثل فعلتها يومها ، حيث أدخلت جملها بينه وبين علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكلام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القاصم معها يومها أيضاً !
--------------------------- 300 ---------------------------

وأهم ملاحظة على مناجاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) في الطائف :

أنها عدوان على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واضطهاد له ! فقد تحول الصحابي الذي يجب أن يكون تابعاً مطيعاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى معترض عليه وصاحب حق بأن يطيعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقد أعطاه شيطانه حق المحاسبة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن يكون الآمر الزاجر فيقول له : لماذا ناجيته دوننا ، ولماذا أطلت في مناجاته ، ونحن لا نصدق أن فعلك بأمر الله ، بل هو محاباة منك لابن عمك !

وبحديث مناجاة علي في الطائف ، تفهم ما حدث في مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حديث رزية يوم الخميس ، حيث قال له أصحاب هذا المنطق أنفسهم : حسبنا كتاب الله ، ولا نسمح لك أن نكتب لنا كتاباً لن نضل إذا عملنا به حسب قولك ! وإن أصريت أن تكتبه نقول إنك خرفان تهجر ، وتريد لبني هاشم ملكاً كملك كسرى ، وحينئذ ترتد قريش وليكن ما يكون !

وكان جبرئيل عنده فقال له ما أنت فيه من قبولهم نبوتك ولو ظاهرياً ، خير من مما يدعونك اليه ، فاطردهم ، ولا تصر أن تكتب لهم عهدك ووصيتك !

فطردهم وقال : قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعونني اليه ! كما في البخاري .

ماذا حدث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في مناجاته ؟

يأخذك العجب عندما يخبرك رواة قريش بما حدث به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في جلسته السرية الطويلة في الطائف ، بل في جلساته الكثيرة المشابهة لها ، فيقولون لك : لا تقل كما يقول شيعة علي : إن النبي خص علياً بشئ من العلم لم يخص به غيره ! فقد حدثه بأحاديث عادية عن أمور الدنيا ! قال المباركفوري في تحفة الأحوذي في شرح الترمذي ( 10 / 159 ) : ( ولكن الله انتجاه : أي أني بلغته عن الله ما أمرني أن أبلغه إياه على سبيل النجوى ، فحينئذ انتجاه الله لا انتجيته ، فهو نظير قوله تعالى : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّه رَمَى .
قال الطيبي : كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية ، جعله من خزانها . قال القاري : الظاهر أن الأمر المتناجي به من الأسرار الدنيوية المتعلقة بالأخبار الدينية من أمر الغزو ونحوه ، إذ ثبت في صحيح البخاري أنه سئل علي كرم الله وجهه : هل عندكم
--------------------------- 301 ---------------------------
شئ ليس في القرآن فقال : والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن ، إلا فهماً يعطاه رجل في كتابه ، وما في الصحيفة . وقيل : ما في الصحيفة ؟ فقال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ) .
أقول : كان الطيبي طبيعاً ، فقال : ( كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية جعله من خزانها ) ، ففسر جلسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذه وجلساته الطويلة مع علي ( عليه السلام ) وقوله له : إن الله أمرني أن أقربك وأن أعلمك ، وقال للمسلمين هو وليكم بعدي بأنها حديث أسرار إلهية . ولم يكترث لتأكيد رواة السلطة بأن علياً ( عليه السلام ) ليس عنده شئ من العلم إلا ما عند غيره ، ولا أخذ برواية النواصب مثل أبي جحيفة الذي روى عنه البخاري ( 8 / 45 و 47 ) أنه سأل علياً : ( هل عندكم شئ ما ليس في القرآن ، وقال مرة : ما ليس عند الناس ؟ فقال : والذي فلق الحب وبرأ النسمة ، ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطى رجل في كتابه ، وما في الصحيفة . قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ) .
يقول أبو الجحيفة وصاحبه مطرف إن علياً أقسم بقسمه المعروف : والذي برأ النسمة ، أن عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما عندهم إلا ما عند المسلمين ، فكيف يقول الناس لقد خصهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالعلم ؟ !
قال في تحفة الأحوذي ( 5 / 289 ) : ( وفي الحديث رد بليغ على الشيعة حيث زعموا أن النبي اختص أهل‌البيت بعلوم مخصوصة ) !
وقال العيني في عمدة القاري ( 2 / 161 ) : ( قال ابن بطال : فيه ما يقطع بدعة الشيعة والمدعين على علي رضي الله عنه ، أنه الوصي وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله ، عليه الصلاة والسلام ، لم يعرفه غيره حيث قال : ما عنده إلاَّ ما عند الناس من كتاب الله ، ثم أحال على الفهم الذي الناس فيه على درجاتهم ،
ولم يخص نفسه بشئ غير ما هو في غيره ) . وقال ابن حجر في فتح الباري ( 1 / 182 ) : ( وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل‌البيت ، لا سيما علياً ، أشياء من الوحي خصهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بها لم يطلع غيرهم
--------------------------- 302 ---------------------------
عليها . وقد سأل علياً عن هذه المسألة أيضاً قيس بن عبادة والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي ) !
فالصحيح عند علماء السلطة أن علياً والعترة ( عليهم السلام ) في العلم كبقية الناس ، فليسوا أحق من غيرهم بالخلافة ولا بتلقي الدين منهم . وقد رتبوا الرواية عن لسان علي ( عليه السلام ) وخواص أصحابه ، بأن علياً ( عليه السلام ) حلف أنه ليس عنده علم ، إلا مثل عثمان وعمر وأبي‌بكر !
وتسألهم : لماذا أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالثقلين كتاب الله وعترته ، وقرنهم بالقرآن ، وأمر الأمة أن تتمسك بهم حتى لا تضل ، فيقولون إنه أوصى بالقرآن ، وقرن به أهل بيته ، لكي تكرمهم الأمة وتتصدق عليهم ! هذا هو منطق السلطة !
أما منطق علي ( عليه السلام ) فيقول : ( ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضُلالها وقادتها وساقتها إلى النار ، لأنهم سمعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول عوداً وبدءً : ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ، ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه . وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله وأقضاهم بحكم الله . وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا غناء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولاضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء ) . ( كتاب سُليم بن قيس الهلالي / 249 ) .
( أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أنْ رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ! بنا يُستعطى الهدى ، ويستجلى العمى . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولاتصلح الولاة من غيرهم . آثروا عاجلاً ، وأخروا آجلاً ، وتركوا صافياً ، وشربوا آجناً » .
« والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
« نهج البلاغة : 1 / 82 ، و : 2 / 27 »
--------------------------- 303 ---------------------------

احتجوا بإزالة الأصنام لإزالة معالم الإسلام !

روى الجميع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل علياً ( عليه السلام ) إلى قبيلة خثعم وإزالة الأصنام العديدة التي حول الطائف . وقد استغرقت المهمة بضع عشرة يوماً ، لأنه لما رجع اتفق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع أهل الطائف وأنهى حصارهم ، وكان الحصار بضعة عشر يوماً .
وقد عقد الكليني في الكافي ( 6 / 526 ) باباً بعنوان : باب تزويق البيوت ، روى فيه أربعة عشرحديثاً ، منها : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن جبرئيل ( عليه السلام ) أتاني فقال : إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب ، ولا تمثال جسد ، ولا إناء يبال فيه . ومنها : من مثل تمثالاً كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح .
ومنها : أن أبا بصير سأل الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن الوسادة والبساط يكون فيه التماثيل ؟ فقال : لا بأس به ، يكون في البيت ، قلت : التماثيل ؟ فقال : كل شئ يوطأ فلا بأس به .
ومنها : في قول الله عز وجل : يَعْمَلُونَ لَه ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وتَماثِيلَ ، فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها الشجر وشبهه .
ومنها : عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في هدم القبور وكسر الصور . . بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة فقال : لا تدع صورة إلا محوتها ، ولا قبراً إلا سويته ، ولا كلباً إلا قتلته ) .
وروى البرقي في كتاب المحاسن ( 2 / 614 ) : أرسلني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هدم القبور وكسر الصور . وفي رواية : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتاني جبرئيل فقال :
يا محمد إن ربك ينهى عن التماثيل ) .
وقال المجلسي في روضةالمتقين ( 7 / 667 ) : ( وفي الصحيح ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
إن جبرئيل أتاني فقال : إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا تمثال جسد ، ولا إناء يبال فيه . . وفي القوي كالصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إن جبرئيل قال : إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ، يعني صورة إنسان ولا بيتاً فيه تماثيل . . وفي الحسن كالصحيح ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : من مثل تمثالاً كلف
--------------------------- 304 ---------------------------
يوم القيمة أن ينفخ فيه الروح . وفي الموثق كالصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال سألته عن الوسادة والبساط يكون فيه التماثيل ؟ قال : لا بأس به . قلت التماثيل ؟ فقال : كل شئ يوطأ فلا بأس به . وفي الموثق كالصحيح في قول الله عز وجل : يَعْمَلُونَ لَه ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وتَماثِيلَ : فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها الشجر وشبهه ) .
وفي المستجاد من الإرشاد / 92 : ( وأنفذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خيل ، وأمره أن يطأ ما يجد ويكسر كل صنم وجده ، فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير ، فبرز له رجل يقال له شهاب في غبش الصبح فبرز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يقول :
ان على كل رئيس حقا * أن يروى الصعدة أو تندقا
ثم ضربه فقتله ومضى في تلك الخيل ، حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو محاصر أهل الطائف ) .
* *
وروى المخالفون شبيهاً بما روينا . قال الألباني في أحكام الجنائز / 207 : ( عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن لا تدع تمثالاً [ رواية : صورة ] [ في بيت ] إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ) . أخرجه مسلم ( 3 / 61 ) وأبو داود ( 2 / 70 ) والنسائي ( 51 / 28 ) والترمذي ( 2 / 153 - 154 ) حسنه ، والحاكم ( 1 / 369 ) والبيهقي ( 4 / 3 ) والطيالسي في ( رقم 155 ) وأحمد ( رقم 741 ، 1064 ) من طريق أبي وائل عنه ، والطبراني في ( المعجم الصغير ) ( ص 29 ) من طريق أبي إسحاق عنه . وله في مسند الطيالسي ( رقم 96 ) وأحمد ( رقم 657 ، 658 ، 683 ، 689 ) طريقان آخر ان عن علي رضي الله عنه ) .
* *
أقول : ومع تشابه المروي بيننا وبينهم ، لكن فقهاءنا اقتصروا في التحريم على المتيقن من الأمر النبوي ، وهو إزالة الأصنام التي كان يعبدها العرب ، وكان عدد منها حول الطائف ، قال الكلبي في كتاب الأصنام ( 1 / 16 ) : ( واللات بالطائف وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة ، وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك ، وكانوا قد بنوا عليها بناء . وكانت قريش وجميع العرب تعظمها )
--------------------------- 305 ---------------------------
وفي التحرير والتنوير لابن عاشور ( 27 / 11 ) : ( فاللات في أعلى تهامة بالطائف ، والعزى في وسطها بنخلة بين مكة والطائف ، ومناة بالمشلل بين مكة والمدينة ) .
وفي كتاب : العرب في العصور القديمة ( 1 / 382 ) : ( اللات : وهي القوة الإلهية بالدرجة الأولى ، ويمثلها في الطائف حجر مربع . والعزى : الزهرة التي تقابل فينوس عند الرومان . وهي الآلهة التي يشير اسمها إلى القوة ، وكانت تمثل عند قريش أقدس القوى الإلهية كانت تمثلها شجرة في منطقة نخلة الواقعة إلى شرقي مكة ، وكان محرابها يتكون من ثلاث شجرات ، بينما كان القرشيون يقدمون إليها القرابين من الضحايا البشرية ، في كهف مقدس بالمنطقة يدعى كهف غبغب . ومناة : الآلهة التي كانت تمثل القدر كان محرابها أو رمزها الأساسي حجراً أسود في موقع القديد على الطريق بين مكة ويثرب ) .
* *
وأما فقهاء الوهابية ، فقد أفرطوا وحملوا النهي النبوي ما لا يحتمل ، فقالوا يجب طمس كل ما يخشى منه أن يقدسه العوام ! وقد وجه أحدهم سؤالاً إلى هيئة الفتوى السعودية ، هذا نصه :
ما حكم الشرع في هدم الآثار الإسلامية الذي حصل في السعودية ، وهل من مبرر شرعي لذلك ؟ أفيدونا أفادكم الله . الأمر محير جداً !
فأجابوا : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فإن الآثار التي يخشى منها على عقائد العامة وغلوهم فيها يجب على ولي أمر المسلمين أن يزيلها سداً للذريعة ، كما فعل عمر عندما بلغه أن بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بايع تحتها الصحابة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيعة الرضوان فأمر بقطعها ، كما في عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني وغيره . وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج أن علياً رضي الله عنه أمره أن يهدم القبور المرتفعة وقال له : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته . والمسوغ الشرعي لذلك واضح ، وهو الحفاظ على
--------------------------- 306 ---------------------------
عقائد الناس من الغلو والبدع والخرافات وهذا واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وأما الآثار التي لا يخشى منها ضرر على عقائد المسلمين فلا تنبغي إزالتها ،
بل الأولى تركها للاعتبار وتذكر أخبار السلف الصالح ، وهذا ما لم يدع سبب إلى إزالتها ، كتوسعة الطريق أو المسجد مثلاً . ولا نعلم أن هناك أثراً أزيل لغير واحد من الأسباب المذكورة ، وانظر الفتاوى رقم : 14693 ، 63839 ، 37982 . والله أعلم ) . ( لجنة الفتوى بالشبكة الإسلامية : 1 / 3322 ) .
فقد توسع هؤلاء في مفهوم الشرك والعبادة ، كما توسعوا في هدم الآثار ، بحجة سد الذرائع حتى لا تعبد كالأصنام ! وخسر المسلمون بسبب إفراطهم معالم عظيمة للإسلام في مكة والمدينة وغيرهما ، مضافاً إلى القبور المشرفة للعترة والصحابة .
* *
ولا يصح استدلالهم بقطع عمر شجرة الحديبية التي بايع المسلمون تحتها ، لأن أحداً من المسلمين لم يعبدها ، ولا يخاف عليهم أن يعبدوها ، غاية الأمر أنهم يتبركون بها وبمكانها ويصلون عنده . وقد قطعها عمر لأن عنده عقدة من الحديبية ومن صلحها وشجرتها وبيعتها ، فقد خالف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورفض الصلح واعتزل ، وحاول أن يجد معه أنصاراً ليقوموا ضد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كما صرح هو بلسانه !
* *
--------------------------- 307 ---------------------------

الفصل السادس عشر: استكمل علي ( عليه السلام ) فتح اليمن

1 - بعثه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفتح اليمن

صعدنا درج صنعاء فدخلنا ساحة قالوا اسمها « الحلقة » ومعناها : هنا تحلق اليمانيون حول علي ( عليه السلام ) لما وقف يقرأ عليهم كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وزرنا بعد الساحة مسجد علي ( عليه السلام ) فقالوا هو البيت الذي كان لامرأة فاستأجره علي ( عليه السلام ) وسكن فيه مدة عمله في اليمن ، فحولته صاحبته إلى مسجد .
في الكافي ( 5 / 28 ) : « بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى اليمن وقال لي : يا علي لاتقاتلن أحداً حتى تدعوه ، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه » .
وفي العدد القوية للحلي / 251 : « عن البراء بن عازب قال : بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام ، فكنت فيمن سار معه ، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شئ ! فبعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي بن أبي طالب وأمره أن يُقفل « يُرْجِع » خالداً ومن اتبعه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه ، فكنت ممن عقب مع علي ، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن وبلغ القوم الخبر فجمعوا له ، فصلى بنا علي صلاة الفجر فلما فرغ صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثم ، قرأ عليهم كتاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأسلمت همدان كلها في يوم واحد ، وكتب بذلك علي إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما قرأ كتابه خر ساجداً ثم جلس فقال : السلام على همدان ، وتتابع أهل اليمن الإسلام » .
--------------------------- 308 ---------------------------
وروته مصادر السلطة ، وسماها ابن هشام « 4 / 1028 و 1056 » : غزوة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى اليمن ، غزاها مرتين ، وتوغل في مناطقها .
ورواه الصالحي في سبل الهدى : 6 / 235 : عن البيهقي في السنن والدلائل والمعرفة . وروى عن بريدة قال : ( فافتتح عليُّ حصناً فغنمت أواقي ذوات عدد وأخذ علي منه جارية ، قال : فكتب معي خالد إلى رسول الله يخبره ! قال الترمذي : يعني النميمة ! قال : فلما قدمت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرأ الكتاب رأيته يتغير لونه فقال : ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله تعالى ورسوله ؟ فقلت : أعوذ بالله من غضب الله تعالى وغضب رسوله ، إنما أنا رسول . فسكت .
وفي رواية : فكتب خالد إلى رسول الله فقلت : ابعثني فبعثني ، فجعل يقرأ الكتاب وأقول صدق ، فإذا النبي قد احمر وجهه فقال : من كنت وليه فعلي وليه ! ثم قال : يا بريدة أتبغض علياً ؟ فقلت : نعم . قال : لاتبغضه فإن له من الخمس أكثر من ذلك .
وفي رواية : والذي نفسي بيده لنصيب علي في الخمس أفضل من وصيفة ، وإن كنت تحبه فازدد له حباً .
وفي رواية : لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي . قال بريدة : فما كان في الناس أحد أحب إلي من علي ! قال الحافظ : كان بعث علي بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة . وهو وليكم بعدي : أي يلي أمركم .
الباب الثاني والسبعون في سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن المرة الثانية : قال محمد بن عمر « الواقدي » وابن سعد ، واللفظ للأول : قالوا بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
علياً إلى اليمن في رمضان وأمره أن يعسكر بقناة ، فعسكر بها حتى تتامَّ أصحابه فعقد له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لواء وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة ، فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه ، وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار ، وجعل له ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه وقال له : إمض ولا تلتفت . فقال علي : يا رسول الله ما أصنع ؟ قال : إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك ، وادعهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة ، فإن أجابوا فمرهم بالزكاة ، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك .
--------------------------- 309 ---------------------------
والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت . فخرج علي في ثلاث مائة فارس فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد . فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج ، فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبايا نساء وأطفالاً ونعماً وشاءً وغير ذلك ، فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي ، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً .
ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة ، فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال ، صف أصحابه ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي فتقدم به ، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز ، فبرز إليه الأسود بن خزاعي فقتله الأسود وأخذ سلبه . ثم حمل عليهم علي وأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً ، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً ، وكف علي عن طلبهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا ، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام وقالوا : نحن على من وراءنا من قومنا ، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله
تعالى . وجمع عليٌّ ما أصاب من تلك الغنائم ، فجزأها خمسة أجزاء ، فكتب في سهم منها لله ثم أقرع عليها ، فخرج أول السُّهمان سهم الخمس . وقسم عليٌّ على أصحابه بقية المغنم ، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً ، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس ، ثم يخبرون رسول الله بذلك فلا يرده عليهم ، فطلبوا ذلك من علي فأبى وقال : الخمس أحمله إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
يرى فيه رأيه . وأقام فيهم يقرؤهم القرآن ، ويعلمهم الشرائع .
وكتب إلى رسول الله كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر ، فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يوافيه الموسم ، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى علي بذلك فانصرف علي راجعاً ، فلما كان بالفتق « مكان » تعجل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخبره الخبر ، وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع ، فوافى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكة قد قدمها للحج ، وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة ونَعَمٌ وشاءٌ مما غنموا ونعمٌ من صدقة أموالهم ، فسأل أصحاب
--------------------------- 310 ---------------------------
علي أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها ، فكساهم منها ثوبين ثوبين فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي ليتلقاهم ليقدم بهم ، فرأى على أصحابه الثياب فقال لأبي رافع : ما هذا ؟ فقال : كلموني ففرقت من شكايتهم وظننت أن هذا ليسهل عليك ، وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم .
فقال : قد رأيت امتناعي من ذلك ثم أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم ! فنزع علي الحلل منهم ! فلما قدموا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شكوه ، فدعا علياً فقال : ما لأصحابك يشكونك ؟ قال : ما أشكيتهم ، قسمت عليهم ماغنموا ، وحبست الخمس حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك . فسكت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
أقول : يظهرأن خالداً لم يطع أمرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد أمره أن يرجع ، وخيَّر جنوده بين البقاء مع علي ( عليه السلام ) أو الرجوع ! لكنه بقي يتتبع عمل علي ( عليه السلام ) ويرسل إلى النبي يشكوه وأطاعه بعض جيشه وهم عصاة مثله !
كما يتضح من روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) أعطى جنوده أربعة أخماس الغنيمة فطمعوا في خمس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واستغلوا مسارعة علي ( عليه السلام ) قبلهم إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأصروا على أبي رافع وأخذوا من الخمس الذي للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغير حق ، فلما رجع علي ( عليه السلام ) نزعه منهم ! فظلم رواة الحكومة علياً ( عليه السلام ) فصوروا أنه أخطأ مع جنوده !
ثم تابع الصالحي : « الباب الرابع والتسعون في وفود همدان إليه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قالوا قدم وفد همدان على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعليهم مقطعات الحبرات مكففة بالديباج ، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نِعْمَ الحيُّ همدان ما أسرعها إلى النصروأصبرها على الجهد ، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام . فأسلموا وكتب لهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاباً بمخلاف خارف ، ويام ، وشاكر ، وأهل الهضب ، وحقاف الرمل من همدان ، لمن أسلم منهم . . .
وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن البراء : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام . قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد ، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام ، فلم يجيبوه . .
إلى آخر ما تقدم .
--------------------------- 311 ---------------------------
وقال ابن إسحاق : فقام مالك بن نمط بين يديه فقال : يا رسول الله نُصَيَّةٌ من همدان من كل حاضر وباد ، أتوك على قُلَّصٍ نواح ، متصلة بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام وشاكر ، أهل السواد والقود أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الإلاهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض عن سِنَة ماحل ، ولا سوداء عنقفير ، ما أقام لعلع ، وما جرى اليعفور بصيلع .
فكتب لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاباً فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه ، أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون ظلافها ، ويرعون عفاءها ، ولنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة ، ولهم من الصدقة الثلب والتاب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري ، وعليهم فيها الصالغ والقارح . لكم بذلك عهد الله ، وذمام رسوله ، وشاهدكم المهاجرون والأنصار . فقال في ذلك مالك بن نمط :
ذكرت رسول الله في فحمة الدجى * ونحن بأعلى رحرحان وصلدد
وهن بنا خوص طلائحُ تغتلي * بركبانها في لاحبٍ متمدد
على كل فتلاء الذراعين جسرة * تمر بنا مر الهجف الخفيدد
حلفت برب الراقصات إلى منى * صوادر بالركبان من هضب قردد
بأن رسول الله فينا مصدق * رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حملت من ناقة فوق رحلها * أشد على أعدائه من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه * وأمضى بحد المشرفي المهند »
وفي رواية عن أبي رافع : « بعث رسول الله علياً أميراً على اليمن ، وبعث خالد بن الوليد على الجبل فقال : إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس ، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله وأخذ علي جارية من الخمس ، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال : إغتنمها فأخبر النبي ما صنع ! فقدمت المدينة ودخلت المسجد
--------------------------- 312 ---------------------------
ورسول الله في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا : ما الخبر يا بريدة ؟ فقلت : خيراً فتح الله على المسلمين ، فقالوا : ما أقدمك ؟ قلت : جارية أخذها علي من الخمس فجئت لأخبر النبي ! فقالوا : فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي ! ورسول الله يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال : ما بال أقوام ينتقصون علياً ! من تَنَقَّصَ علياً فقد تنقصني ومن فارق علياً فقد فارقني ! إن علياً مني وأنا منه خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .
يا بريدة : أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ ، وأنه وليكم بعدي ؟ فقلت : يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً ! قال : فما فارقته حتى بايعته على الإسلام « ! » أوسط الطبراني : 6 / 163 « .
أقول : بحثنا شكاية خالد وجواب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العقائد الإسلامية « 4 / 91 » .

2 - ثم أرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاضياً إلى اليمن

في بصائر الدرجات / 472 ، عن عبد العزيز القراطيسي : « قلت لأبي عبد الله : جعلت فداك إن الناس يزعمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجه علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن ليقضى بينهم فقال علي : فما وردت عليَّ قضية إلا حكمت فيها بحكم الله وحكم رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال صدقوا . قلت : وكيف ذاك ولم يكن أنزل القرآن كله ، وقد كان رسول الله غائباً عنه ؟ فقال : يتلقاه به روح القدس » .
وفي بصائر الدرجات / 521 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « دعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجهني إلى اليمن لأصلح بينهم ، فقلت له : يا رسول الله ( عليه السلام ) إنهم قوم كثير وأنا شاب حدث . فقال لي : يا علي ( عليه السلام ) إذا صرت بأعلى عقبة فيق ، فناد بأعلى صوتك : يا شجر يا مدر يا ثرى ، محمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقرؤكم السلام ! قال : فذهبت فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن ، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوي مشرعون أسنتهم ، متنكبون قسيهم ، شاهرون سلاحهم ، فناديت بأعلى صوتي : يا شجر يا مدر يا ثرى محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقرؤكم السلام ، قال : فلم يبق شجرة ولا مدرة ولا ثرى إلا ارتجت بصوت واحد : وعلى محمد رسول الله وعليك السلام ! فاضطربت قوائم القوم ،
--------------------------- 313 ---------------------------
وارتعدت ركبهم ، ووقع السلاح من أيديهم ، وأقبلوا مسرعين ، فأصلحت بينهم وانصرفت » .

3 - ثم أرسله إلى اليمن عندما ارتد ابن معديكرب

في البحار : 21 / 356 ، والإرشاد ( 1 / 145 ) : « لما عاد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر ، قال : يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع ! فقال يا عمرو : إنه ليس كما تظن وتحسب ! إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة ، فلا يبقى ميت إلا نشر ولا حي إلا مات ، إلا ما شاء الله ، ثم يصاح بهم صيحة أخرى ، فينشر من مات ، ويُصَفُّونَ جميعاً وتنشق السماء ، وتهد الأرض ، وتخر الجبال هداً ، وترمي النار بمثل الجبال شرراً ، فلا يبقي ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه ، إلا من شاء الله ! فأين أنت يا عمرو من هذا ؟
قال : ألا إني أسمع أمراً عظيماً ، فآمن بالله ورسوله ، وآمن معه من قومه ناس ، ورجعوا إلى قومهم .
ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبيّ بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته ثم جاء به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أُعْدُني على هذا الفاجر الذي قتل والدي ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية ، فانصرف عمرو مرتداً ، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ، ومضى إلى قومه !
فاستدعى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي بن أبي طالب وأمره على المهاجرين ، وأنفذه إلى بني زبيد ، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمره أن يعمد لجعفى ، فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين . فسار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص ، واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري ، فأما جعفى فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين : فذهبت فرقة إلى اليمن وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكتب إلى خالد بن الوليد : أن قف حيث أدركك رسولي فلم يقف !
--------------------------- 314 ---------------------------
فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص : تعرض له حتى تحبسه ، فاعترض له خالد حتى حبسه ، وأدركه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فعنفه على خلافه !
ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له كثير ، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا با ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة ؟ قال : سيعلم إن لقيني ! قال : وخرج عمرو فقال : من يبارز ؟ فنهض إليه أمير المؤمنين وقام إليه خالد بن سعيد وقال له : دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك ، فوقف ثم برز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فصاح به صيحة فانهزم عمرو ! وقتل أخاه وابن أخيه ، وأُخِذَت امرأته ركانة بنت سلامة ، وسبي منهم نسوان ، وانصرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم ، ويؤمِّن من عاد إليه من هرابهم مسلماً ، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له ، فعاد إلى الإسلام ، فكلمه في امرأته وولده فوهبهم له !
وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزوراً قد نحرت فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعاً ، وكان يسمى سيفه الصمصامة ، فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده ، وهب له عمرو الصمصامة .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد اصطفى من السبي جارية ، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له : تقدم الجيش إليه فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه ، وقَعْ فيه !
فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه ، فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه ، فقال له عمر : إمض لما جئت له ، فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي ! فدخل بريدة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة ، فجعل يقرأه ووجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتغير فقال بريدة : يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً ؟ إن علي بن أبي طالب يحل له من الفئ ما يحل لي ، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك
--------------------------- 315 ---------------------------
ولقومك ، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي !
يا بريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله ! قال بريدة : فتمنيت أن الأرض انشقت لي فسخت فيها وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله . يا رسول الله استغفر لي ، فلن أبغضن علياً أبداً ، ولا أقول فيه إلا خيراً ،
فاستغفر له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
أقول : نلاحظ أن خالد بن الوليد كان مأموراً من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بطاعة علي ( عليه السلام ) ، ولكنه كان يتصرف كأنه مستقل ، وقد تركه علي ( عليه السلام ) حتى إذا خشي الضرر على مهمته من تصرفه ، أمر خالداً بن سعيد أن يمنعه من مواصلة مسيره ، فمنعه ! وهذا يثبت شجاعة خالد بن سعيد وخوف خالد بن الوليد منه ومن علي ( عليه السلام ) ، لأنهما أشجع منه ، ومكانتهما في قريش ومكة أعلى من مكانته ! وقد يكون علي ( عليه السلام ) منعه من التقدم إلى زبيد لخوفه عليه من الهزيمة أمام ابن معديكرب فيسبب هزيمة المسلمين ثم ظهر أن علياً ( عليه السلام ) كان أعد خطة لهزيمة ابن معديكرب بدون أن يقتله ! ولا بد أن ابن الوليد بهت لفزع عمرو من صرخة علي ( عليه السلام ) ! ويبدو أن تلك الصرخة الحيدرية بأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفيها سرٌّ من أسراره ! لأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أنذر عمرواً من فزع الآخرة قال له عمرو : « يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع » ! وعندما ارتد عمرو أراه الله الفزع في الدنيا ، وأبقاه حياً .
وقد ورد في بعض الروايات أن علياً ( عليه السلام ) أسر عمرواً فقد يكون في تلك السفرة ، أو بعدها ، ففي عيون المعجزات / 19 : ( أيكم قاتل العَمرين وآسر العمرين . والعمران اللذان قتلهما : عمرو بن عبد ود ، وعمرو بن الأشعث المخزومي ، والعمران اللذان أسرهما : فأبو ثور عمرو بن معدي كرب ، وعمرو بن سعيد الغساني ، أسره في بدر ) .
ومن ذلك اليوم صار عمرو بن معدي كرب صديقاً محباً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فعندما استغاث خالد بن الوليد بأبي‌بكر ثم أبو عبيدة بعمر ، ليرسل له مدداً لليرموك ، لجأ إلى علي ( عليه السلام ) ، فكتب إلى مالك الأشتر وعمرو بن معديكرب وجاءا بفرسانهم ، وكانوا أبطال اليرموك ، وقطفوا النصر للمسلمين .
--------------------------- 316 ---------------------------

4 - وأرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى همدان فأسلمت على يده

اتفق المؤرخون على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل علياً ( عليه السلام ) إلى قبائل همدان فأسلمت على يده كلها ، وسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شكراً لله على إسلامها وقال : السلام على همدان ، وكان ذلك في السنة الثامنة بعد حنين ، وقيل في العاشرة ، ثم أسلم قبائل مذحج . وهمدان ومذحج هما الشطر الأعظم من اليمن .
وقد بعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن ثلاث مرات ، في السنة الثامنة إلى قبائل همدان ، وفي العاشرة إلى قبائل مذحج ، وأرسله بينهما قاضياً على اليمن .
قال في أعيان الشيعة : 1 / 410 : « قال دحلان في سيرته . . . بَعْثُ عليٍّ إلى همدان لم يكن سنة عشر إنما كان سنة عشر بعثه إلى بني مذحج ، وأما بعثه إلى همدان فكان سنة ثمان بعد فتح مكة ، فيكون بعث علي إلى اليمن حصل مرتين » .
وفي المستجاد من الإرشاد / 111 : « لما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقليده قضاء اليمن وإنفاذه إليهم ليعلمهم الأحكام ، ويبين لهم الحلال من الحرام ، ويحكم فيهم بأحكام القرآن قال له : تندبني يا رسول الله للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء . فقال له : أدنُ مني فدنا منه ، فضرب على صدره وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه . قال أمير المؤمنين : فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام » .

5 - زعم كعب أنه لقي علياً ( عليه السلام ) في اليمن

ادعى كعب الأحبار أنه لقي علياً ( عليه السلام ) باليمن وأسلم ! ففي مغازي الواقدي : 1 / 668 : « لما قدم علي بن أبي طالب اليمن خطب به ، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته ، فأقبل على راحلته في حلة ، معه حبر من أحبار اليهود حتى استمعا له . . قال كعب الأحبار : لما قدم علي اليمن لقيته فقلت : أخبرني عن صفة محمد ، فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم ، فقال : مم تتبسم ؟ فقلت : مما يوافق ما عندنا من صفته . . قال : فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله وتوفي أبو بكر فقدمت في خلافه عمر ، ويا ليت أني كنت تقدمت في الهجرة » !
أقول : كذب كعب في ادعائه ، لأنه إنما أسلم في أواسط خلافة عمر !
--------------------------- 317 ---------------------------

6 - أهدى علي ( عليه السلام ) إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أفراساً من اليمن

في الكافي : 6 / 535 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : « أهدى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربعة أفراس من اليمن ، فقال : سمها لي ، فقال : هي ألوان مختلفة قال : ففيها وضح ؟ فقال : نعم فيها أشقر به وضح ، قال : فأمسكه عليَّ ، قال : وفيها كميتان أوضحان ، فقال : أعطهما ابنيك ، قال : والرابع أدهم بهيم . قال : بعه واستخلف به نفقة لعيالك ، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح » .
* *
--------------------------- 318 ---------------------------

الفصل السابع عشر: استخلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المدينة في غزوة تبوك

استخلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المدينة في غزوة تبوك
1 - قبيل تبوك أرسله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى طيئ
بعد انتصار الروم على الفرس ومقتل كسرى ، دخل النظام الفارسي في صراع داخلي على منصب » الشاهنشاه « فارتفع خطرهم الفعلي عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين . لكن زاد خطر الروم ، وأخذ قيصر يحضِّرلغزو المدينة والجزيرة ، وكان اعتماده على ملك الشام ، وعلى الأكيدر ملك دومة الجندل ، كما عمل على تحويل قبيلة طئ إلى قاعدة مساندة ، وقد استجاب له عدي بن حاتم واعتنق المسيحية وكان يقضي وقتاً من سنته في الشام .
« قدم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الشام ودعاه إلى الإسلام فقال : إني نصراني ركوسي . فقال إنك لا دين لك ، إنك تصنع ما لا يصلح لك في ركوسيتك ، فأبصر وأسلم » . « تاريخ دمشق : 40 / 78 » .
وفي فايق الزمخشري ( 2 / 6 ) : « إنك تأكل المرباع وهو لا يحل لك . . المرباع الربع ومثله المعشار ، وكان يأخذه الرئيس مع المغنم في الجاهلية . الركوسية قوم بين النصارى والصابئين » . « والرِّكس بالكسر : الجسر » . « لسان العرب : 6 / 101 » .
فقد اختارعدي بن حاتم المسيحية الشرقية التي فيها أفكار من الصابئة ، ولا بد أن مذهبه أخذ ينتشر في قبيلته ، الذين كانوا وثنيين يعبدون صنمهم الفُلس ، وله معبد مشهور ، وقد أهدى الحارث بن شمر ملك الغساسنة هدية لصنم طئ فيها سيوف ، مع أنه مسيحي على دين قيصر ! لذلك رأى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقلم أظافر هرقل من الجزيرة قبل غزوة تبوك ! فأرسل علياً ( عليه السلام )
في سرية إلى قبيلة طيئ .
قال في الصحيح من السيرة : 26 / 335 ، ملخصاً : « في شهر ربيع الآخر من سنة تسع بعث
--------------------------- 319 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في خمسين ومائة رجل أو مائتين من الأنصار كما ذكره ابن سعد ، على مائة بعير وخمسين فرساً ، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفُلْس وهو صنم لطئ ليهدمه ، فوجدوا عيناً لطئ على بعد ليلة فأخذوه معهم ، وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر ، فهدموا الفلس وخربوه ووجد في خزانته ثلاثة أسياف : رسوب والمخذم وكان الحارث بن أبي شمر ملك الشام قلده إياهما ، وسيف يقال له اليماني ، وثلاثة أدرع . وأخذوا من نعمهم وسبوا منهم ، وكان في السبي سفانة أخت عدي بن حاتم ، وهرب عدي إلى الشام ، فلما نزلوا رَكَك اقتسموا الغنائم ، وعزلوا للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) السيوف والخُمس ، ولم يقسم آل حاتم حتى قدم بهم المدينة .
وكانت أخت عدي إذا مرَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقول : يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن علينا من الله عليك ، فسألها : من وافدك ؟ فتقول : عدي بن حاتم . فيقول : الفار من الله ورسوله ؟ فلما كان يوم الرابع مرَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم تتكلم فأشار إليها رجل قومي فكلميه فكلمته أن يمن عليها فمنَّ عليها فأسلمت . وسألت عن الرجل الذي أشار إليها فقيل : علي وهو الذي سباكم أمَاتعرفينه ؟ فقالت : لا والله ما زلت مُدْنِيَةً طرف ثوبي على وجهي ، وطرف ردائي على بُرقعي من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار ، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه .
وفي نص آخر قالت : يا محمد أرأيت أن تخلي عنا ولاتشمت بنا أحياء العرب ؟ فإني ابنة سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ، ويفك العاني ، ويشبع الجائع ، ويكسو العاري ، ويقري الضيف ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ولم يرد طالب حاجة قط ! أنا ابنة حاتم طئ . فقال لها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا جارية ، هذه صفة المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق . قالت : وكساني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحملني وأعطاني نفقة ، فخرجت حتى قدمت على أخي .
قال عدي : « فوالله إني لقاعد في أهلي ، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إليَّ تَؤُمُّنا .
--------------------------- 320 ---------------------------
قال فقلت : ابنة حاتم ، فإذا هي هي ! فلما وقفت عليَّ قالت : أنت القاطع الظالم ، ارتحلت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك : أختك وعورتك ! قال قلت : يا خية لاتقولي إلا خيراً ، فوالله ما لي من عذر ، ولقد صنعتُ ما ذكرتِ ! قال : ثم نزلت فأقامت عندي . قال : فقلت لها وكانت امرأة حازمة : ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟ قالت : أرى والله أن نلحق به سريعاً ، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكاً فلن نذل في عز اليمن ، وأنت أنت .
قال قلت : والله إن هذا الرأي ، فخرجت حتى قدمت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده وعنده امرأة وصبيان ، فعرفت أنه ليس بمُلك كسرى ولا قيصر ، فسلمت عليه فقال : مَن الرجل ؟ قال قلتُ : عدي بن حاتم . فرحب به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقربه وأخذه إلى بيته فلقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها . قال عدي : قلت في نفسي والله ما هذا بمَلِك . قال : ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقدمها إلي ، فقال : أجلس على هذه . قلت : بل أنت فاجلس . فقال : بل أنت فاجلس عليها . فجلست عليها وجلس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على الأرض . فقلت في نفسي : ما هذا بأمر ملك ! فدخل الإسلام في قلبي وأحببت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حباً لم أحبه شيئاً قط !
قال : ثم أقبل عليَّ فقال : هيه يا عدي بن حاتم ، أفررت أن توحد الله وهل من أحدٌ غيرالله ؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تكبر الله ومن أكبر من الله ؟ هيه يا عدي بن حاتم ، أفررت أن تعظم الله ومن أعظم من الله ؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن لا إله إلا الله وهل من إلهٌ غير الله ؟ هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن محمداً رسول الله ؟ ! قال : فجعل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول نحو هذا وأنا أبكي . قال :
ثم أسلمت .
قال : فلعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم ، والله لتفتحن عليهم كنوز كسرى بن هرمز . قلت : كنوز كسرى بن هرمز ؟ ! قال : كنوز كسرى بن هرمز . قال عدي : فأسلمت فرأيت وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد استبشر ! قال
--------------------------- 321 ---------------------------
عدي : وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

2 - واستخلف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المدينة فلغط المنافقون !

في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 443 : « وكان سبب تخلف علي ( عليه السلام ) عنه أن تبوك بعيدة عن المدينة فلم يأمن الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العرب أن يصيروا إليها ، إذ كان قد وترهم وسفك دماءهم . وأخرى أنه علم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لا يكون هناك قتال .
وخرج في جيش يُروى أنهم كانوا أكثر من أربعين ألف رجل ، وخلَّف بالمدينة جيشاً وهو علي ( عليه السلام ) وحده . فحصن الله عز وجل به المدينة وعفف به حرمهم ، فتكلم فيه المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالاً له ! فلحق علي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالاً لي ؟ فتضاحك رسول الله ثم أمر فنودي في الناس كلهم فاعصوصبوا وتجمعوا ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أيها الناس ما فيكم من أحد إلا وله خاصة من أهله ، ألا إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي !
فصار علي من النبي ( عليه السلام ) بذلك المكان الذي أردوا أن يضعوا منه ، بمنزلة هارون من موسى في أسبابه كلها ، إلا ما استثناه من النبوة . ولا أحسبهم يأتون بمثلها في أحد من العالمين » .
وفي المناقب لمحمد بن سليمان : 1 / 523 : « عن الحارث بن ثعلبة قال : قلت لسعد بن أبي وقاص : هل شهدت لعلي منقبة ؟ قال : شهدت لعلي أربع مناقب ، لأن يكون لي إحداهن أحب إلي من الدنيا وما فيها . . والخامسة خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غزوة تبوك فخلف علياً في أهله فقالت قريش استثقله ! فجاء علي فأخذ بغرز الناقة وقال : يا رسول الله إني لخارج معك وتابعك ، زعمت قريش أنك استثقلتني ! فقال : هل منكم إلا وله خاصة من أهله ؟ أنت مني بمنزلة هارون من موسى » .
--------------------------- 322 ---------------------------
وقال المفيد ( رحمه الله ) في الإرشاد : 1 / 154 : « فاستخلفه ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلك فيما تظافرت به الرواية أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) على المدينة حسدوه لذلك ، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه ، وعلموا أنها تُحرس به ولا يكون للعدو فيها مطمع ، فساءهم ذلك ! وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها ! وغبطوه ( عليه السلام ) على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله ، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر . فأرجفوا به وقالوا : لم يستخلفه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إكراماً له وإجلالاً ومودة ، وإنما خلفه استثقالاً له . فلما بلغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إرجاف المنافقين به ، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم فلحق بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إرجع يا أخي إلى مكانك فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . .
ألا ترى أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعل له كافة منازل هارون من موسى ، إلا المستثنى منها لفظاً أو عقلاً . . وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته ، وأنه كان أحب قومه إليه وأفضلهم لديه . قال الله عز وجل حاكياً عن موسى ( عليه السلام ) : قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي .
فأجاب الله تعالى مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وأمنيته حيث يقول : قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى . . ولو علم الله تعالى أن نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والأنصار لما أذن له في تخليف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .

3 - ناجاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يومها فاعترض أبو بكر وعمر وعائشة !

في خصائص الأئمة / 66 : « وروي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأطال فقال أبو بكر لعمر : لقد أطال مناجاته لابن عمه !
--------------------------- 323 ---------------------------
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما أنا ناجيته ولكن الله ناجاه ، وفي ذلك يقول حسان :
ويوم الثنية عند الوداع * وأجمع نحو تبوك المضيا
تنحى يودعه خالياً * وقد وقف المسلمون المطيا
فقالوا يناجيه دون الأنام * بل الله أدناه منه نجيا
عليٌّ فمُ أحمدٍ يوحي إليه * كلاماً بليغاً ووحياً خفيا » .
وفي مناقب ابن سليمان : 1 / 333 ، عن أبي رافع أن عائشة جاءت لمساعدة أبيها وعمر ، قال : « لما خرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزوة تبوك خلف علياً ( عليه السلام ) وكثرت فيه الأقاويل من الناس فقالوا : لم يخلفه إلا بغضاً له وكراهية أن يتبعه ! فبلغ ذلك علياً فلحقه على مرحلة أو مرحلتين فسارمحادثه وهما على بعيرين لهما والناس ينظرون إليهما وأنا قريب منهما ، فجاءت عائشة لما رأت حالهما ومناجاة كل واحد منهما لصاحبه فأدخلت بعيرها بينهما ، فالتفت إليها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ثم قال : أما والله ما يومه منك بواحد ! ثم قال : أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة ، وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة في الدنيا والآخرة ، وأنك أخي ووزيري ووارثي . انصرف فلا يُصلح ما هناك إلا أنا أوأنت » .
هذا ، وتقدم الكلام في مناجاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) في حرب حنين .

4 - رد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على حُسَّاد علي ( عليه السلام ) في طريق عودته من تبوك

ظهر حسدهم لعلي ( عليه السلام ) بعد معركة بدر خاصة ، لأن اسمه سطع في المعارك بطلاً وعضداً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووزيراً مقرباً منه . وصار حسدهم له بغضاً لما قتل صناديد المشركين ، ثم صار اتجاهاً ، ثم صار حزباً ، ثم صار ديناً !
قال بريدة : « لم أجد من الناس أبغض عليَّ من علي بن أبي طالب ، حتى أحببت رجلاً من قريش ولا أحبه إلا على بغض علي » ! « خصائص علي ( عليه السلام ) للنسائي / 102 » .
--------------------------- 324 ---------------------------
ثم زاد بغضهم لعلي ( عليه السلام ) حتى تركوا من أجله السنة ! قال ابن عباس : « اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي » . « سنن البيهقي : 5 / 113 » .
ثم زاد بغضهم لعلي ( عليه السلام ) حتى بنوا مساجد خاصة بسبه ! « بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب ، والوقيعة فيه : مسجد بني عدي ، ومسجد بني مجاشع ، ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة ، ومسجد في الأزد » ! « شرح النهج : 4 / 94 » .
وكان الله تعالى يعلم نشاط المبغضين لعلي ( عليه السلام ) ، فاعتبره خروجاً عن الإسلام ! وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « لا يبغض علياً مؤمن ولا يحبه منافق » . « ابن شيبة : 7 / 503 » .
وفي طريق عودة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تبوك وبعد فشل مؤامرتهم لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفشل مؤامرتهم لقتل علي ( عليه السلام ) في المدينة ، بلغه أن جماعة يتكلمون على علي والعترة ( عليهم السلام )
فأمر أن يُعمل له منبرٌ ، وخطب وبلغ رسالة ربه في عترته ( عليهم السلام ) ، وأتم لهم الحجة !
قال أنس بن مالك : « رجعنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قافلين من تبوك ، فقال لي في بعض الطريق : ألقوا لي الأحلاس والأقتاب ، ففعلوا فصعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : معاشر الناس ، مالي إذا ذكر آل إبراهيم تهللت وجوهكم ، وإذا ذكر آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كأنما يفقأ في وجوهكم حب الرمان ! فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ، ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب ، لأكبه الله في النار » ! « أمالي الطوسي / 308 » .
وفي نوادر المعجزات لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 98 : « روى عبد الله بن مسعود عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : كنا في غزاة تبوك ونحن نسير معه فقال : يا ابن مسعود إن الله عز وجل أمرني أن أزوج فاطمة من علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففعلت . وقال لي جبرئيل : إن الله عز وجل قد بنى جنة من قصب اللؤلؤ ، بين كل قصبة إلى قصبة لؤلؤة من ياقوتة مشذرة بالذهب ، وجعل سقوفها زبرجداً أخضر ، فيها طاقات من اللؤلؤ مكللة بالياقوت ، وجعل عليها غرفاً ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من در ، ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد ، وقباباً من در قد شعبت بسلاسل الذهب ، وحفت بأنواع الشجر ، وبنى في كل قصر قبة ، وجعل في كل قبة أريكة من درة بيضاء ، فرشها السندس والإستبرق ، وفرش أرضها بالزعفران والمسك والعنبر ، وجعل في كل قبة مائة باب ، وفي كل باب
--------------------------- 325 ---------------------------
جاريتان وشجرتان ، وفي كل قبة فرش وكتاب مكتوب حول القبة آية الكرسي .
فقلت : يا جبرئيل لمن بنى الله عز وجل هذه الجنة ؟ فقال : هذه جنة بناها الله تعالى لعلي بن أبي طالب وفاطمة ابنتك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحفة أتحفها الله بها وأقربها عينيك يا محمد » . ودلائل الإمامة / 142 .
وعندما رجع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة رأى أن المنافقين ما زالوا ناشطين في معاداة علي ( عليه السلام ) ، فغضب وأوضح لهم مقامه عند الله تعالى ، وأتم الحجة عليهم : ففي الروضة في فضائل أمير المؤمنين / 169 ، والمسترشد / 615 ، قال : « مرعليٌّ بنفر من قريش في المسجد فتغامزوا ، فدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشكا له ، فخرج وهو مغضب فقال : أيها الناس مالكم إذا ذكرت إبراهيم وآل إبراهيم أشرقت وجوهكم ، وإذا ذكر محمد وآل محمد قست قلوبكم وعبست وجوهكم !
والذي نفسي بيده لو عمل أحدكم عمل سبعين نبياً ، لم يدخل عليَّ حتى يحب هذا أخي علياً وولده ! والذي نفس بيده لو أن أحدهم وافى بعمل سبعين نبياً ، ما قبل الله منه حتى يوافي بولايتي وولاية أهل بيتي » .

5 - في تلك الفترة حاول المنافقون قتل علي ( عليه السلام ) في المدينة !

في الإحتجاج : 1 / 59 : « قال أبو محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على العقبة ، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فما قدروا على مغالبة ربهم !
حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ( عليه السلام ) لما فخَّمَ من أمره وعظَّمَ من شأنه .
من ذلك أنه لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له : إن جبرئيل أتاني وقال لي : يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي ، أو تقيم أنت ويخرج علي ، لا بد من ذلك ، فإن علياً قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما ، وعظيم ثوابه غيري .
--------------------------- 326 ---------------------------
فلما خلفه أكثرَ المنافقون الطعن فيه فقالوا : ملَّه وسئمه وكره صحبته ! فتبعه علي ( عليه السلام ) حتى لحقه وقد وجد غماً شديداً مما قالوا فيه ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أشخصك يا علي عن مركزك ؟ فقال : بلغني عن الناس كذا وكذا . فقال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟
فانصرف علي ( عليه السلام ) إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه ، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعاً ، ثم غطوها بخص رقاق ، ونثروا فوقها يسيراً من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص ، وكان ذلك على طريق علي ( عليه السلام ) الذي لا بد له من سلوكه ، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها ، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ، ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه ! فلما بلغ علي ( عليه السلام ) قُرب المكان لوى فرسه عنقه . فقال علي ( عليه السلام ) : سر بإذن الله سالماً سوياً ، عجيباً شأنك ، بديعاً أمرك ، فتبادرت الدابة فإذ الله عز وجل قد متن الأرض وصلَّبها ولأَّم حفرها ، كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض ، فلما جاوزها علي ( عليه السلام ) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال : ما أكرمك على رب العالمين ، أجازك على هذا المكان الخاوي . فلما قرب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من العقبة التي بإزائها فضائح المنافقين والكافرين ، نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم : هذا جبرئيل الروح الأمين ( عليه السلام ) يخبرني أن علياً ( عليه السلام ) دُبِّرَ عليه كذا وكذا ، فدفع الله عز وجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا » .
وفي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 560 : « فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ! تقيم يا علي فإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولك مثل أجور كل من خرج مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) موقناً طائعاً ، وإن لك عليَّ يا علي أن أسأل الله بمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله ، إن الله يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأرض التي نسير عليها والأرض التي تكون أنت عليها ويقوي بصرك حتى تشاهد محمداً وأصحابه ، في سائر أحوالك وأحوالهم ، فلا يفوتك الأنس
--------------------------- 327 ---------------------------
من رؤيته ورؤية أصحابه ، ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة .
فقام رجل من مجلس زين العابدين ( عليه السلام ) لما ذكر هذا وقال له : يا ابن رسول الله كيف يكون هذا لعلي ، إنما يكون هذا للأنبياء لا لغيرهم !
فقال زين العابدين : هذا هو معجزة لمحمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا لغيره ، لأن الله تعالى لما رفعه بدعاء محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زاد في نوره أيضاً بدعاء محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حتى شاهد ما شاهد ، وأدرك ما أدرك .
ثم قال الباقر ( عليه السلام ) : ما أكثر ظلم هذه الأمة لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأقل إنصافهم له ! يمنعون علياً ما يعطونه سائر الصحابة وعلي ( عليه السلام ) أفضلهم ! فكيف يمنعون منزلة يعطونها غيره ! قيل : وكيف ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : لأنكم تتولون محبي أبي‌بكر بن أبي قحافة وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان ، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان ، وتتولون عثمان بن عفان وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان . حتى إذا صار إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قالوا : نتولى محبيه ، ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم ! وكيف يجوز هذا لهم ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول في علي : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ! فتراهم لا يعادون من عاداه وخذله ، ليس هذا بإنصاف !
ثم أخرى : أنهم إذا ذكر لهم ما اختص الله به علياً ( عليه السلام ) بدعاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكرامته على ربه تعالى جحدوه ، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة ! فما الذي منع علياً ( عليه السلام ) ما جعله لسائر أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟
هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم : انه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته : يا سارية الجبل ، وعجبت الصحابة وقالوا : ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة ! فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا : ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل ؟ فقال : إعلموا أني وأنا أخطب رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزو الكافرين بنهاوند وعليهم سعد بن أبي وقاص ، ففتح الله
--------------------------- 328 ---------------------------
لي الأستار والحجب ، وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك ، وقد جاء بعض الكفار ليدوروا خلف سارية وسائر من معه من المسلمين فيحيطوا بهم فيقتلوهم ، فقلت يا سارية الجبل ليلتجئ إليه فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به ثم يقاتلوا . .
قال الباقر ( عليه السلام ) : فإذا كان هذا لعمر ! فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؟ ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون !
ثم عاد الباقر إلى حديثه عن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : فكان الله تعالى يرفع البقاع التي عليها محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويسير فيها لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حتى يشاهدهم على أحوالهم » .

6 - بعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر بسورة براءة ثم سحبها منه

في تفسير القمي : 1 / 281 : « بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . عن الصادق ( عليه السلام ) قال : نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة ، قال : وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكان سنة في العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، وكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده ، ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً ! فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده ، فقالوا لها إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها ! فقالت وكيف أتصدق بها وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة ! وأشرف عليها الناس . . فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت إن لي زوجاً !
وكانت سيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله ، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده ، وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عز وجل : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً . فكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يقاتل أحداً قد تنحى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة ، وأمره الله بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله ، إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم فتح مكة إلى مدة ، منهم صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، فقال
--------------------------- 329 ---------------------------
الله عز وجل : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، ثم يقتلون حيثما وجدوا .
فهذه أشهر السياحة : عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرة من شهر ربيع الآخر ، فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أبي‌بكر وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في طلبه فلحقه بالروحاء فأخذ منه الآيات ، فرجع أبو بكر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله أأنزل الله فيَّ شئ ؟ قال لا ، إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا
أو رجل مني .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن أبلغ عن الله أن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام ، وأقرأ عليهم : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فأحل الله للمشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر ، حتى يرجعوا إلى مأمنهم ، ثم يقتلون حيث وجدوا » !
وفي الإرشاد ( 1 / 65 ) : « فركب أمير المؤمنين ناقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العضباء وسار حتى لحق أبا بكر ، فلما رآه فزع من لحوقه به واستقبله وقال : فيم جئت يا أبا الحسن أسائر معي أنت أم لغير ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن ألحقك فاقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه . فقال : بل أرجع إليه . وعاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما دخل عليه قال يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليَّ ، فلما توجهت له رددتني عنه ، ما لي أنزل في قرآن ؟ فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ، ولكن الأمين هبط إليَّ عن الله جل جلاله بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعلي مني » .
--------------------------- 330 ---------------------------
وفي الخصال / 369 : قال علي ( عليه السلام ) « فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ، ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ، ويبدي لي البغضاء ويظهرالشحناء ، من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم » .
وفي تفسير العياشي : 2 / 74 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فوافى الموسم فبلغ عن‌الله وعن رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار ، وفي أيام التشريق كلها ، ينادي : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . . خطب علي بالناس واخترط سيفه وقال : لايطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن بالبيت مشرك ولا مشركة . . » .
وفي الإقبال : 2 / 39 : « وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب ، فأذن ثلاث مرات : ألا تسمعون يا أيها الناس : إني رسول رسول الله إليكم ، ثم قال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . تسع آيات من أولها ، ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكررها ، فقال الناس : من هذا الذي ينادى في الناس ؟ فقالوا : علي بن أبي طالب ، وقال من عرفه من الناس : هذا ابن عم محمد ، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد . فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ، ويقرأ على الناس غدوةً وعشية ، فناداه الناس من المشركين : أبلغ ابن عمك ، أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف ، وطعناً بالرماح » !
وفي المناقب : 1 / 392 ، والإقبال : 2 / 41 : عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنه عندما تلا عليهم : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . « قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك ، فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح وإن شئت بدأنا بك ! فقال علي ( عليه السلام ) : أجل أجل إن شئت هلموا ! ثم قال : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ » .
أقول : غضب جماعة أبي‌بكر من أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سحب منه سورة براءة ، فقالوا إنه بعثه أميراً على الحج وذهب علي بالسورة معه !
--------------------------- 331 ---------------------------
فقد روى ابن كثير في سيرته : 4 / 72 ، عن أحمد بن حنبل : « لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال : لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . وهذا ضعيف الإسناد ومتنه فيه نكارة والله أعلم » .
وعدَّ صاحب الغدير ( رحمه الله ) « 6 / 338 » أكثر من ستين من علمائهم ، أوردوا الحديث ولم يطعنوا فيه كما فعل ابن كثير ! وينبغي التذكير بأن قريشاً حجوا في السنة الثامنة وحدهم ، وحج بالمسلمين أمير مكة من قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عتاب بن أسيد ، وفي السنة التاسعة لم يُرو أي توثيق لحج أبي‌بكر بالمسلمين ، ولكنهم جعلوه أميراً على الحج وعلى علي ( عليه السلام ) ! وطبيعي أن يكون علي ( عليه السلام ) أميراً للحج ، لأنه مبعوث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يؤمِّر عليه أحداً أبداً ، بينما أمَّر على أبي‌بكر وعمر ، عمرو بن العاص وغيره .
ويظهر أن كذبتهم ظهرت في زمن الإمام الباقر ( عليه السلام ) فقال : « إنكم لتجعلون لآل أبي‌بكر شيئاً ما كان ! تقولون : إن أبا بكر أمَّ الناس عام براءة ، وما أمَّهم إلا علي » . « مناقب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمحمد بن سليمان : 1 / 474 » .
هذا ، وقد روينا بسند صحيح « أمالي الطوسي / 343 » ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « لما أسري بي إلى السماء ، ثم من سماء إلى سماء ثم إلى سدرة المنتهى ، أوقفت بين يدي ربي عز وجل فقال لي : يا محمد . فقلت : لبيك ربي وسعديك . قال : قد بلوتَ خلقي فأيهم وجدت أطوع لك ؟ قال قلت : ربِّ ، علياً . قال : صدقت يا محمد ، فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدي عنك ويعلم عبادي من كتابي ما لا يعلمون ؟ قال قلت : إختر لي ، فإن خيرتك خير لي . قال : قد اخترت لك علياً ، فاتخذه لنفسك خليفةً ووصياً فإني قد نحلته علمي وحلمي ، وهو أمير المؤمنين حقاً ، لم يقلها أحد قبله ولا أحد بعده . يا محمد ، علي راية الهدى وإمام من أطاعني ، ونور أوليائي ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين . من أحبه فقد أحبني ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، فبشره بذلك يا محمد » . وكشف اليقين / 278 .
--------------------------- 332 ---------------------------

7 - لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك

قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 172 : « كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعث أبا بكر ببراءة إلى مكة : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدة فأجله مدته ، والله برئ من المشركين ورسولُه . فسار بها ثلاثة أيام فنزل جبريل ( عليه السلام ) وقال : إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فاستدعى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر ، فخذ براءة من يده ، وامض بها إلى مكة ، فانبذ عهد المشركين إليهم ، وَخَيِّرْ أبا بكر بين أن يسير مع ركابك أو يرجع . فركب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ناقة رسول الله العضباء وسار حتى لحق أبا بكر ، فلما رآه جزع من لحوقه واستقبله وقال : فيمَ جئت يا أبا الحسن ؟ أسائرأنت معي أو لغير ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن ألحقك وأقبض منك الآيات من براءة ، وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه ، فقال : بل أرجع إليه . وعاد إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلما دخل عليه قال : يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إلي ، فلما توجهت إليه رددتني عنه ، أنَزَلَ فيَّ القرآن ؟ فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ، ولكن الأمين هبط إلي عن الله عز وجل بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعلي مني ولا يؤدي عني إلا علي ) .
وروى الجميع بأسانيد صحيحة قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « علي مني وأنا منه ، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي » . ( مسند أحمد : 4 / 165 ، وابن ماجة : 1 / 44 ، والترمذي : 5 / 300 ، وفضائل الصحابة / 15 ، ومجمع الزوائد : 7 / 29 . ونحوه سنة ابن أبي عاصم / 552 ، والجامع الصغير : 2 / 177 ) .
راجع : علل الشرائع : 1 / 189 ، والإرشاد : 1 / 65 ، والعياشي : 2 / 74 ، وإعلام الورى : 1 / 248 ، وفتح الباري : 8 / 40 و 66 ، وعمدة القاري : 4 / 78 ، و : 18 / 17 و 260 ) ، وتحفة الأحوذي : 8 / 386 و : 10 / 152 ، وخصائص النسائي / 90 ، وتخريج الأحاديث : 2 / 49 ، وكشف الخفاء : 1 / 204 ) .
وفي سنن النسائي ( 5 / 129 ) عن سعد بن وقاص قال : « بعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر
--------------------------- 333 ---------------------------
ببراءة حتى إذا كان ببعض الطريق ، أرسل علياً فأخذها منه ثم سار بها ، فوجد أبو بكر في نفسه فقال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني » .
وفي مسند أحمد ( 1 / 151 ) قال ( عليه السلام ) : « فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال : لا ، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك » .
أقول : هذا نص في أن أبا بكر رجع وذهب علي ( عليه السلام ) وأبلغ الرسالة وقرأ الآيات مرات في الموسم . قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لما قرأ قوله تعالى : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك ! فقال علي ( عليه السلام ) : أجل أجل ، إن شئتَ ، هلموا ! ثم واصل ( عليه السلام ) تلاوته : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ » . ( المناقب : 1 / 392 ) .
وقد استعظم المتعصبون أن يعزل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر فزعموا أنه بقي أميرالحاج ، وأن مهمة علي ( عليه السلام ) كانت تبليغ براءة فقط !
قال ابن هشام ( 4 / 972 ) : « ثم دعا علي بن أبي طالب فقال له : أخرج بهذه القَصَّة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد فهو له إلى مدته . فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العضباء ، حتى أدرك أبا بكر بالطريق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أأمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذا ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله » !
--------------------------- 334 ---------------------------
ثم زعموا أن أبا بكر أرسل مؤذنين في الحج بلغوا سورة براءة ، أي خالف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال أبو هريرة : « بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر ، نؤذن بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان » ! ( بخاري : 1 / 97 ) .
قال الشيخ محمود أبو رية في كتابه : شيخ المضيرة أبو هريرة / 109 : « ومن ذلك أنه زعم أنه كان مع أبي‌بكر في حجته ، وأورد في ذلك أحاديث ملفقة متعارضة ، وللأسف أوردها البخاري في كتابه ، وكلها قد جاءت من قبل أبي هريرة وابنه المحرر ، فمرة يقول : إن أبا بكر قد بعثه في مؤذنين في تلك الحجة ليؤذن في الناس ، ثم أردف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي فأمره أن يؤذن ببراءة ! أي أنه كان مع أبي‌بكر وأن علياً قدم عليهم .
وتارة أخرى يقول : كنت في البعث الذين بعثهم رسول الله مع علي ببراءة وكنا نقول : لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر » !

8 - كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يهدد من يخاف عصيانهم بعلي ( عليه السلام )

في أمالي الطوسي / 579 : « عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد قدم عليه وفد أهل الطائف : يا أهل الطائف ، والله لتقيمن الصلاة ، ولتؤتن الزكاة ، أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يقصعكم بالسيف !
فتطاول لها أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأخذ بيد عليٍّ فأشالها ، ثم قال : هو هذا . فقال أبو بكر وعمر : ما رأينا كاليوم في الفضل قط » .
« عن عبد الله بن شداد قال : قدم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفد آل تنوخ من اليمن ، قال فقال لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة ولتسمعن ولتطيعن ، أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي يقاتل مقاتليكم ويسبي ذراريكم ، اللهم أنا أو كنفسي ، ثم أخذ بيد علي ( عليه السلام ) » . « مناقب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمحمد بن سليمان : 1 / 468 » .
« وفي حديث جابر أنه قال لوفد هوازن : أما والذي نفسي بيده ليقيمن الصلاة وليؤتن الزكاة أو لأبعثن إليهم رجلاً وهو مني كنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم
--------------------------- 335 ---------------------------
وليسبين ذراريهم ، هو هذا وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) .
فلما أقروا بما شرط عليهم قال : ما استعصى عليَّ أهل مملكة ولا أمةٌ إلا رميتهم بسهم الله علي بن أبي طالب ! ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وملكاً أمامه ، وسحابة تظله حتى يعطي الله حبيبي النصر والظفر ! وروى الخطيب في الأربعين نحواً من ذلك ، عن مصعب بن عبد الرحمن أنه قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لوفد ثقيف . . الخبر ، وفي رواية أنه قال مثل ذلك لبني وليعة » . « المناقب : 2 / 67 » .
وحديث تهديد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قريشاً بعلي ( عليه السلام ) ، متواتر مشهور .
* *
--------------------------- 336 ---------------------------

الفصل الثامن عشر: باهل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نصارى نجران بعلي ( عليه السلام ) والعترة

1 . نجران العاصمة الدينية للمسيحية في الجزيرة

كانت نجران ولاية تابعة للدولة الرومانية ، يحكمها أسقف من قِبل هرقل مع رؤساء قبائلها ، والمشهور فيهم بنو عبد المدان . وكان ارتباطهم بهرقل وثيقاً وكان ينفق عليهم ، وقد بعث لهم بصليب كبير من ذهب . وفي نجران كانت قصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله تعالى في سورة البروج ، فقال : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ . وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ . وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ . قُتِلَ أَصْحَابُ الآخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ .

2 . أمهل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفدهم ثلاثة أيام

في الإختصاص للمفيد ( رحمه الله ) / 112 : » لما قدم السيد والعاقب أسقفا نجران في سبعين راكباً وافداً على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كنت معهم ، فبينا كرزٌ يسير ، وكرز صاحب نفقاتهم ، إذ عثرت بغلته فقال : تعس من نأتيه الأبعد ، يعني النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال له صاحبه وهو العاقب : بل تعست وانتكست ! فقال : ولم ذلك ؟ قال : لأنك أتعست النبي الأمي أحمد ، قال : وما علمك بذلك ؟ قال : أما تقرأ من المفتاح الرابع من الوحي إلى المسيح : أن قل لبني إسرائيل : ما أجهلكم تتطيبون بالطيب لتطيبوا به في الدنيا عند أهلها وأهلكم ، وأجوافكم عندي كالجيفة المنتنة !
يا بني إسرائيل ، آمنوا برسولي النبي الأمي الذي يكون في آخر الزمان ، صاحب الوجه الأقمر ، والجمل الأحمر ، المشرب بالنور ، ذي الجناب الحسن ، والثياب الخشن ، سيد الماضين عندي ، وأكرم الباقين عليَّ ، المستن بسنتي ، والصائر في ذات جنبي ، والمجاهد بيده المشركين من أجلي ،
--------------------------- 337 ---------------------------
فبشر به بني إسرائيل ، ومر بني إسرائيل أن يعزروه وأن ينصروه .
قال عيسى صلى الله عليه : قدوس قدوس ، من هذا العبدالصالح الذي قد أحبه قلبي ولم تره عيني ؟ قال : هو منك وأنت منه ، وهو صهرك على أمك ، قليل الأولاد كثيرالأزواج . يسكن مكة من موضع أساس وطي إبراهيم .
نسله من مباركة ، وهي ضرة أمك في الجنة ، له شأن من الشأن ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يأكل الهدية ، ولا يقبل الصدقة ، له حوض من شفير زمزم إلى مغيب الشمس حيث يغرب ، فيه شرابان من الرحيق والتسنيم ، فيه أكاويب عدد نجوم السماء ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ، وذلك بتفضيلي إياه على سائر المرسلين ، يوافق قوله فعله وسريرته علانيته ، فطوبى له وطوبى لأمته ، الذين على ملته يحيون وعلى سنته يموتون ، ومع أهل بيته يميلون ، آمنين مؤمنين ، مطمئنين مباركين ، ويظهر في زمن قحط وجدب فيدعوني ، فترخى السماء عزاليها ، حتى يرى أثر بركاتها في أكنافها ، وأبارك فيما يضع فيه يده .
قال : إلهي سمه ، قال : نعم هو أحمد ، وهو محمد رسولي إلى الخلق كافة ، وأقربهم مني منزلة ، وأحضرهم عندي شفاعة ، لا يأمر إلا بما أحب وينهى لما أكره .
قال له صاحبه : فأنى تقدم بنا على من هذه صفته ؟ قال : نشهد أحواله وننظر آياته ، فإن يكن هو هو ساعدناه بالمسالمة ، ونكفه بأموالنا عن أهل ديننا من حيث لا يشعر بنا ، وإن يكن كاذباً كفيناه بكذبه على الله عز وجل !
قال : ولم إذا رأيت العلامة لا تتبعه ؟ قال : أما رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم : أكرمونا ، ومولونا ، ونصبوا لنا الكنائس ، وأعلوا فيه ذكرنا ، فكيف تطيب النفس بالدخول في دين يستوي فيه الشريف والوضيع !
فلما قدموا المدينة قال من رآهم من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما رأينا وفداً من وفود العرب كانوا أجمل منهم ، لهم شعور وعليهم ثياب الحبر ، وكان رسول الله متناء عن المسجد ، فحضرت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تلقاء المشرق ، فهمَّ بهم رجال من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمنعهم ، فأقبل رسول الله
--------------------------- 338 ---------------------------
فقال : دعوهم . فلما قضوا صلاتهم جلسوا إليه وناظروه فقالوا : يا أبا القاسم حاجنا في عيسى ، قال : هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، فقال أحدهما : بل هو ولده وثاني اثنين . وقال آخر : بل هو ثالث ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، وقد سمعناه في قرآن نزل عليك يقول : فعلنا وجعلنا وخلقنا ، ولو كان واحداً لقال : خلقت وجعلت وفعلت !
فتغشى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوحي فنزل عليه صدر سورة آل عمران إلى قوله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . فقص عليهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القصة وتلا عليهم القرآن ، فقال بعضهم لبعض : قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم . فقال لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله عز وجل قد أمرني بمباهلتكم ، فقالوا : إذا كان غداً باهلناك .
فقال القوم بعضهم لبعض : حتى ننظر بما يباهلنا غداً ، بكثرة أتباعه من أوباش الناس ، أم بأهله ، من أهل الصفوة والطهارة ، فإنهم وشيج الأنبياء وموضع نهلهم .
فلما كان من غدٍ غدا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيمينه علي وبيساره الحسن والحسين ( عليهم السلام ) ومن ورائهم فاطمة صلى الله عليها ، عليهم النمار النجرانية ، وعلى كتف رسول الله كساء قطواني رقيق ، خشن ليس بكثيف ولا لين ، فأمر بشجرتين فكسح ما بينهما ونشر الكساء عليهما ، وأدخلهم تحت الكساء ، وأدخل منكبه الأيسر معهم تحت الكساء ، معتمداً على قوسه النبع ، ورفع يده اليمنى إلى السماء للمباهلة ، واشرأب الناس ينظرون ، واصفرَّ لون السيد والعاقب ، وكرَّا حتى كادت أن تطيش عقولهما ، فقال أحدهما لصاحبه : أنباهله ؟ قال : أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبياً فنشأ صغيرهم وبقي كبيرهم ؟ ! ولكن أره أنك غيرمكترث ، وأعطه من المال والسلاح ما أراد ، فإن الرجل محارب ، وقل له : أبهؤلاء تباهلنا لئلا يرى أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بيته ( عليهم السلام ) .
فلما رفع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده إلى السماء للمباهلة قال أحدهما لصاحبه : وأي رهبانية ! دارِكِ الرجل فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلى أهلٍ ولا مال ! فقالا : يا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا ؟ قال : نعم ، هؤلاء أوجه من على وجه الأرض بعدي إلى الله عز وجل ، وأقربهم إليه وسيلة ،
--------------------------- 339 ---------------------------
قال : فبصبصا يعني ارتعدا ، وكرَّا وقالا له : يا أبا القاسم نعطيك ألف سيف وألف درع وألف حجفة وألف دينار كل عام ، على أن الدرع والسيف والحجفة عندك إعارة حتى يأتي من وراءنا من قومنا ، فنعلمهم بالذي رأينا وشاهدنا ، فيكون الأمر على ملأ منهم ، فإما الإسلام وإما الجزية وإما المقاطعة في كل عام .
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد قبلت ذلك منكما . أما والذي بعثني بالكرامة ، لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عز وجل عليكم الوادي ناراً تأجج ، حتى يساقها إلى من وراءكم في أسرع من طرفة العين ، فأحرقتم تأججاً !
فهبط عليه جبرئيل الروح الأمين ( عليه السلام ) فقال : يا محمد الله يقرؤك السلام ويقول لك : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لو باهلت بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض ، لساقطت السماء كسفاً متهافتة ، ولتقطعت الأرضون زبراً سائحة ، فلم تستقر عليها بعد ذلك ! فرفع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يديه حتى رئي بياض إبطيه ، ثم قال : وعلى من ظلمكم حقكم ، وبخسني الأجر الذي افترضه الله فيكم ، عليهم بهلة الله ، تتابع إلى يوم القيامة « .
أقول : توجد روايات أخرى لكيفية المباهلة ، لكن هذه الرواية من أقواها .
وفي الإرشاد ( 1 / 168 ) : « فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ، ولكنا نصالحك فصالحنا على ما ننهض به . فصالحهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قيمة كل حلة أربعون درهماً جياداً ، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاباً بما صالحهم عليه وكان الكتاب :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد النبي رسول الله ، لنجران وحاشيتها في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق ، لا يؤخذ منهم شئ غيرألفي حلة من حلل الأواقي ، ثمن كل حلة أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك ، يؤدون ألفاً منها في صفر ، وألفاً منها في رجب ، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك ، وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن عارية مضمونة ، ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة ، لهم بذلك جوار
--------------------------- 340 ---------------------------
الله وذمة محمد بن عبد الله ، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا ، فذمتي منه بريئة » .
« مكاتيب الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : 2 / 489 ، و 494 » .
وفي رواية الإقبال / 343 : « أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً ، فلم يدعهم ولم يسألوه ، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته . فلما كان بعد ثالثة دعاهم إلى الإسلام فقالوا : يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عز وجل بشئ من صفة النبي المبعوث بعد الروح عيسى ( عليه السلام ) ، إلا وقد تعرفناه فيك ، إلا خلة هي أعظم الخلال آية ومنزلة ، وأجلاها أمارة ودلالة . قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وما هي ؟ قالوا : إنا نجد في الإنجيل من صفة النبي الغابر من بعد المسيح ، أنه يصدق به ويؤمن به وأنت تسبه وتكذب به وتزعم أنه عبد ! قال : فلم تكن خصومتهم ولامنازعتهم للنبي إلا في عيسى ( عليه السلام ) . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا ، بل أصدقه وأصدق به وأؤمن به ، وأشهد أنه النبي المرسل من ربه عز وجل وأقول : إنه عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً . قالوا : وهل يستطيع العبد أن يفعل ما كان يفعل ؟ وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة ؟ ألم يكن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، وينبئهم بما يكنون في صدورهم وما يدخرون في بيوتهم ؟ فهل يستطيع هذا إلا الله عزو جل أو ابن الله ؟ وقالوا في الغلو فيه وأكثروا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً !
فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد كان عيسى أخي كما قلتم ، يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخبر قومه بما في نفوسهم ، وبما يدخرون في بيوتهم ، وكل ذلك بإذن الله عز وجل ، وهو لله عز وجل عبد ، وذلك عليه غير عار ، وهو منه غير مستنكف ، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً ، يأكل الطعام ويظمأ وينصب ، بارؤه وربه الأحد الحق ، الذي ليس كمثله شئ وليس له ند .
قالوا : فأرنا مثله من جاء من غير فحل ولا أب ؟ قال : هذا آدم ( عليه السلام ) أعجب منه خلقاً ، جاء من غير أب ولا أم ! وتلا عليهم : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . « آل عمران : 59 » .
وقال الفخر الرازي ( 8 / 85 ) : ( وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج وعليه مرط من شعر
--------------------------- 341 ---------------------------
أسود ، وكان قد احتضن الحسين ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي رضي الله عنه خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمِّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ، فقال : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا ، فقال : فإني أناجزكم القتال ، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة . . فصالحهم على ذلك ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 83 ) : ( فرضوا بالمباهلة ، فلما أصبحوا قال أبو حارثة : أنظروا من جاء معه . وغدا رسول الله آخذاً بيد الحسن والحسين ، تتبعه فاطمة ، وعلي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) بين يديه ، وغدا العاقب والسيد بابنين لهما عليهما الدر والحلي ، وقد حفوا بأبي حارثة . فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه ؟ قالوا : هذا ابن عمه ، وهذه ابنته وهذان ابناها .
فجثى رسول الله على ركبتيه ثم ركع . فقال أبو حارثة : جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة . فقال له السيد : أدن يا أبا حارثة للمباهلة . فقال : إني أرى رجلاً حرياً على المباهلة ، وإني أخاف أن يكون صادقاً ، فإن كان صادقاً لم يحل الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام . قال أبو حارثة : يا أبا القاسم لانباهلك ، ولكنا نعطيك الجزية . فصالحهم رسول الله على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قيمة كل حلة أربعون درهماً ) .
--------------------------- 342 ---------------------------

3 . مسائل في المباهلة

المسألة الأولى :

المباهلة ابتكار إسلامي ، معناها أن الله تعالى تكفل بنصرة صاحب الحق وخذلان صاحب الباطل ، فهي ميزان مهم إذا أحسن الناس استعماله . وآيتها نزلت في محاجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلماء النصارى : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . ( آل عمران : 59 - 61 ) . لكنها لا تختص بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولابألوهية المسيح ( عليه السلام ) ، بل تصح من كل الناس في مسائل العقيدة .
وقد أفتى الفقهاء بجواز مباهلة المعاند ، وعقد في الكافي ( 2 / 513 ) باباً بعنوان : باب المباهلة ، روى فيه خمسة أحاديث ، منها بسند صحيح عن أبي مسروق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قلت : إنا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول الله عز وجل : أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم ، فيقولون : نزلت في أمراء السرايا ، فنحتج عليهم بقوله عز وجل : إنما وليكم الله ورسوله إلى آخر ، الآية فيقولون : نزلت في المؤمنين ، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ، فيقولون نزلت في قربى المسلمين ! قال : فلم أدع شيئاً مما حضرني ذكره من هذه وشبهه إلا ذكرته .
فقال لي : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : وكيف أصنع ؟ قال : أصلح نفسك ثلاثاً ، وأظنه قال وصم واغتسل ، وابرز أنت وهو إلى الجبان ، فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ، ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل : اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، إن كان أبو مسروق جحد حقاً وادعى باطلاً ، فأنزل عليه حسباناً من السماء ، أو عذاباً أليماً . ثم رد الدعوة عليه فقل : وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلاً ، فأنزل عليه حسباناً من السماء ،
أو عذاباً أليماً . ثم قال لي : فإنك لاتلبث أن ترى ذلك فيه ! فوالله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه ) !
--------------------------- 343 ---------------------------
وقال المفيد في تصحيح اعتقادات الإمامية / 71 : ( وقال ( عليه السلام ) لطائفة من أصحابه : بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه ، وبينوا لهم ضلالهم الذي هم عليه ، وباهلوهم في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه ) .
وقال الحر العاملي في هداية الأمة ( 3 / 121 ) : ( تستحب مباهلة العدو والخصم . . يستحب غسل المباهلة . . يستحب الصوم قبلها والخروج إلى الجبان . . دعاء كل منهما على نفسه سبعين مرة ثم على خصمه سبعين مرة . . أن يشبك كل منهما أصابعه في أصابع الآخر ويدعو بالمأثور . . يستحب كونها بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ) .
وقال السيد السبزواري في تفسيره : مواهب الرحمن ( 6 / 31 ) : ( المباهلة نوع من الدعاء والابتهال والتضرع والتبتل إلى الله تعالى لإثبات حق عَلم به . وهي عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ، ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي ، فتكون نظير صلاة الاستسقاء ، أو الاستخارة ونحوهما . والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنة المقدسة ، أنها تتقوم بأمرين :
الأول : ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجة والبيان ، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما ، يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمر الغيبي الذي يعترف به الخصمان ، وهذا يدل عليه قوله تعالى : فَمَنْ حَاجَّكَ فيه ،
أي في الحق المعلوم .
الثاني : وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة ، إما في شخص الرسول ،
أو من يقوم مقامه علماً وعملاً ، أو حالة الإنكسار والخضوع والتضرع التي تكون رابطة حالية ، فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب ، فلا تختص المباهلة بمورد خاص . . .
وللمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء ، ولا ريب في تقومها بمن يقوم به الإحتجاج وإظهار الحق وهو في المقام نفس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 344 ---------------------------
وحيث أنها تدل على الملاعنة والهلاك ، يكون إحضار من يريده صاحب الحق أولى في الإحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم ، ولأن الاجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب اليه كثيراً في السنة المقدسة ) .

المسألة الثانية :

قوله تعالى : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ . أي جاءك العلم من الله بأمرعيسى ( عليه السلام ) ، فصار عندك حجة من الله بينتها للناس فتمت عليهم الحجة ، فمن جادلك ليبطل حجتك بزعمه فهو مكابر ، فلا تجادله بل ادعه إلى المباهلة . فطالب الحق يُبين له وتُقام عليه الحجة ، لكن المُحَاجّ مجادل ، يُعرض عنه ، أو يدعى إلى المباهلة .

المسألة الثالثة :

المباهلة دعاء ، وهي بنفس الوقت منازلة وتوسل . والمنازلة تقتضي أن تضرب الخصم بأقوى أسلحتك . والتوسل إلى الله تعالى في المنازلة ، يقتضي أن تتقرب إلى الله بأقوى الناس وسيلة عنده ، ليستجيب دعاءك على خصمك .
ولما قال الله لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . واختار ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للمباهلة بأمر ربه خاصة عترته ، فمعناه أنهم أقوى سلاح رباني ، لا يخطئ ولا ينهزم ، وأنهم أقرب الناس وسيلة إلى الله تعالى ، فلا يخيب من توسل بهم ، ولا يرد دعاءه .

المسألة الرابعة :

تدل المباهلة على أن الذين باهل الله بهم أفضل أهل الأرض ، وكل كلام في تفضيل غيرهم عليهم ، أو مساواته بهم ، ردٌّ عمليٌّ على الله تعالى وعلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وصاحبه ذو غرض وذو مرض ، وانقطع الخطاب .

المسألة الخامسة :

يمثل المباهَل بهم الأمة كلها : المباهِل ونفسُه والأبناء والنساء . فهم القيادة النبوية وورثتها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهم البنت والأم والزوجة والأبناء ، وهم مكونات المجتمع الإنساني ،
--------------------------- 345 ---------------------------
يباهل بهم قيادة المسيحيين وأبناءهم ونساءهم ، ويباهل من ادعى للأم مريم وابنها عيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألوهيةً ومقاماً غير صحيح .

المسألة السادسة :

قوله : تعَالوا نَدْعُ . معناه : أُحضروا أنتم إلى مكان المنازلة والمباهلة ، وأَحضروا مكونات دينكم ومجتمعكم . وروي أن كبيرهم ومعاونه أحضرا ولديهما : ( وغدا العاقب والسيد بابنين لهما ، عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة ) ( اليعقوبي : 2 / 82 ) . ولم يقل تعالوا نحضرهم ، بل قال أدعوهم للحضور ، لأنهم حسب المفروض شخصيات مستقلة يُدعون .

المسألة السابعة :

تعالوا ندعوهم الحضور في المكان المحدد للمباهلة ، وقبلها كانت المناظرة في المسجد ، لكن المباهلة ينبغي أن تكون تحت السماء ، في مكان اختاره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
يقع اليوم في شارع الستين ، ومشى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمام المسلمين مسافة ، حتى وصلوا إلى قرب المكان ، فقال لهم : قفوا أنتم هنا ، وتقدم المباهلون معه فقط !

المسألة الثامنة :

قال بعضهم إن المباهلة الملاعنة ، فجعل الدعاء على الخصم بمعنى ملاعنته ، تشبيهاً بملاعنة الزوج إذا تبرأ من ولده ولاعنَ زوجته . ويصح ذلك مجازاً لأنها دعاء يترتب عليه جعل اللعنة على المبطل . لكن الآية قالت : فنبتهل ولم تقل فنتباهل ، أي تعالوا لندعو ، وينتج عنه أن تكون اللعنة على الكاذب .
قال ابن فارس ( 1 / 311 ) : ( بَهَلَ : أصول ثلاثة : أحدها التخلية ، والثاني جنس من الدعاء ، والثالث قلة في الماء . . وأما الآخر فالإبتهال والتضرع في الدعاء . والمباهلة ترجع إلى هذا ، فإن المتباهلين يدعو كل واحد منهما على صاحبه ) .
فمعنى تعالوا نبتهل : تعالوا ندعو أن يظهرالله الحق وينتقم من المبطل . وجزم فنبتهل لأنه جواب تعالوا مثل ندعو ، وجزم فنجعل لأنه جواب نبتهل ،
--------------------------- 346 ---------------------------
وهو يدل على أن الله تعالى جعل اللعنة مترتبة على المباهلة ومحققة بها .

المسألة التاسعة :

ندع أبناءنا بصيغة الجمع ، والمقصود بهم الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقط ، وهما مثنى ، وذكرت نساءنا بالجمع والمقصود فاطمة ( عليها السلام ) فقط ، وهي مفرد . ومثله كثير في القرآن ولغة العرب ، حيث يذكرالجمع ويقصد به المفرد أوالمثنى .
وذكرت الآية أنفسنا بالجمع ، والمقصود بها شخص واحد هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولا يصح أن تكون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه الداعي ولا يدعو نفسه .
قال الشيخ المفيد ( قدس سره ) في الفصول المختارة / 38 : ( قال المأمون يوماً للرضا ( عليه السلام ) : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يدل عليها القرآن . قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : فضيلته في المباهلة ، قال الله جل جلاله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . فدعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكانا ابنيه ودعا فاطمة ( عليها السلام ) فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكان نفسه بحكم الله عز وجل ، وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأفضل ، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحكم الله عز وجل .
قال فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنيه خاصة ، وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنته وحدها ، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره ، فلا يكون لأمير المؤمنين ما ذكرت من الفضل ؟
قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين وذلك أن الداعي إنا يكون داعياً لغيره ، كما يكون الآمر آمراً لغيره ، ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدع رسول الله رجلاً في المباهلة إلا أمير المؤمنين فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه ، وجعل حكمه ذلك في تنزيله . قال فقال المأمون : إذا ورد الجواب ، سقط السؤال ) .
--------------------------- 347 ---------------------------
فمعنى أنفسنا في الآية ، أن علياً ( عليه السلام ) نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا ما اختص به من نبوة ، وهو يشرح المقصود من أقوال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : علي مني وأنا منه . ومَن أطاعه أطاعني ومن عصاه عصاني ، ومَن سبه سبني . ومَن كنت مولاه فعلي مولاه ، وأنا وعلي من شجرة واحدة والناس من شجر شتى . وأنا وعلي كالضوء من الضوء . وكنت وعلياً نوراً قبل أن يخلق الله الخلق . وأنت مني بمنزلة هارون من موسى . . إلى آخر كلماته المضيئة التي تبين مكانة علي ( عليه السلام ) ، وأنه بحكم نفسه إلا ما استثني . فلا يبقى مجال لتفضيل غيره عليه ، لا في الفضائل ، ولا في قيادة الأمة وإمامتها ، ولا في الموالاة والمودة ، ولا في تلقي علم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منه ؟ !

المسألة العاشرة :

الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبناء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحكم الآية ، ولقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ، ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه ، وجعل ذريتي من صلبك ، ولولاك ما كانت لي ذرية » . ( الفقيه : 4 / 365 ) . وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 318 ) في قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ . . وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ . فسلهم يا أبا الجارود : هل كان يحل لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نكاح حليلتيهما ؟ فإن قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا ، فهما إبناه لصلبه ) .
وروى مخالفونا قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » . ( كبير الطبراني : 3 / 44 ، والزوائد : 4 / 224 ، و : 6 / 301 ) .
وقال علماؤهم : « وأولاد بناته ينسبون إليه لحديث : إن ابني هذا سيد مشيراً إلى الحسن . وفي حديث : إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري ، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي . دون أولاد بنات غيره فينسبون إلى آبائهم . قال تعالى : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ » . ( كشاف القناع : 5 / 31 ) .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 6 / 139 ) : « قال السخاوي : وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه ، وبينت أنه صالح للحجة » .
--------------------------- 348 ---------------------------

المسألة الحادية عشرة :

آية الابتهال نص في التوسل ، حتى بالأقل درجة من المتوسِّل : ( ثم جثى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بركبتيه وجعل علياً أمامه بين يديه وفاطمة بين كتفيه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره ، وهو يقول لهم : إذا دعوت فأمِّنوا ، فقال الأسقف : جثى والله محمد كما يجثو الأنبياء للمباهلة ) . ( مناقب آل أبي طالب : 3 / 144 ) .
ومعنى : إذا دعوت فأمنوا : أن تأمينهم جزء من الابتهال ، وهو توسل بهم .
هذا ، وفي الآية مسائل أخرى مهمة .
* *
--------------------------- 349 ---------------------------

الفصل التاسع عشر: 1 - تعليم الناس الحج ، وإعلان خلافة علي والعترة ( عليهم السلام )

كان هدف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حجة الوداع : أن يُعَلِّمَ الأمة أداء فريضة الحج ، وأن يُعلن لها إمامة عترته ( عليهم السلام ) من بعده ويركز فيها مكانتهم .
روى الطبرسي في الإحتجاج ( 1 / 68 ) عن علقمة بن محمد الحضرمي عن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) قال : ( حج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المدينة وقد بلَّغ جميع الشرايع قومه غير الحج والولاية ، فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال له : يا محمد إن الله جل اسمه يقرؤك السلام ويقول لك : إني لم أقبض نبياً من أنبيائي ولارسولاً من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي ، وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج أن تبلغهما قومك : فريضة الحج ، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك ، فإني لم أخل أرضي من حجة ولن أخليها أبداً ، فإن الله جل ثناؤه يأمرك أن تبلغ قومك الحج ، وتحج ويحج معك من استطاع إليه سبيلاً من أهل الحضر والأطراف والأعراب . وتعلمهم من معالم حجهم ، مثلما علمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ، وتوقفهم من ذلك علي مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرائع .
فنادي منادي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الناس : ألا إن رسول الله يريد الحج ، وأن يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرائع دينكم ، ويوقفكم من ذاك على ما أوقفكم عليه من غيره ، فخرج ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخرج معه الناس ، وأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله ، فحج بهم وبلغ من حج مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف
--------------------------- 350 ---------------------------
إنسان أو يزيدون ، على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألفاً الذين أخذ عليهم بيعة هارون ، فنكثوا واتبعوا العجل والسامري ، وكذلك أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) البيعة لعلي ( عليه السلام ) بالخلافة على عدد أصحاب موسى ، فنكثوا البيعة واتبعوا العجل والسامري ، سنةً بسنة ، ومَثَلاً بمثل !
واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة ، فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل ( عليه السلام ) عن الله عز وجل فقال : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك : إنه قد دنا أجلك ومدتك ، وأنا مستقدمك على ما لابد منه ولا عنه محيص ، فاعهد عهدك وقدم وصيتك ، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك ، والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء ، فسلمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك ، حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب ، فأقمه للناس علماً وجدد عهده وميثاقه وبيعته . . الخ . ) .
أقول : خطب فيهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع خمس خطب : لما وصل إلى مكة ، وفي عرفة ، ويومي العيد في جمرة العقبة ، وفي اليوم الثالث في مسجد الخيف .
وأكد فيها كلها على وصيته بالقرآن والعترة ، وبشرهم فيها بالأئمة الاثني عشر من عترته بعده ( عليه السلام ) ، وأكد على وجوب اتباعهم ، وإلا وقعوا في الضلال !
أما في خطبته السادسة في غدير خم ، فأخذ بيد علي ( عليه السلام ) وأصعده المنبر وأعلنه خليفته ، وأمر أن تنصب له خيمة ، وأن يهنئوه ويبايعوه ففعلوا !
وكان عمر أول المهنئين فقال كما في حديثهم الصحيح : بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم !

2 - بشارة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) في حجة الوداع

سنة الله تعالى في أنبيائه أن يورَّث عترتهم الكتاب : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَالْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا . .
--------------------------- 351 ---------------------------
والذين اصطفاهم الله هم علي وأبناؤه من فاطمة ( عليهم السلام ) . والسابقون بالخيرات الأئمة المعصومون ( عليهم السلام ) منهم . والمقتصد المؤمن بهم منهم . والظالم لنفسه من حسدهم وأنكرهم ! ولا يستقيم معنى الآية إلا بهذا التفسير .
وقد بَلَّغَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاية عترته بالتدريج والحكمة ، بالتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لهم ، وبشر بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) منهم في حجة الوداع ، لكن رواة قريش أبهموا كلامه وحذفوا منه !
ففي صحيح بخاري : 8 / 127 : « يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش » !
وفي مسلم : 6 / 3 : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش » !
ثم روى ثانية وفيها : « ثم تكلم بشئ لم أفهمه » .
وروى ثالثة فيها : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيَها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش » .
مسكين هذا الراوي القرشي أصمه الناس ! أي جعلوه أصم لا يسمع ، بصراخهم وضجيجهم ، وهم الصحابة المحرمون لربهم المنصتون لخطبة نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ولم يقل بخاري إن هذا الحديث من خطب حجة الوداع ! لكن عدداً من المصادر قالته ، كمسند أحمد : 5 / 93 و 96 و 99 : « عن جابر بن سمرة قال : خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعرفات » .
وفي / 87 : « يقول في حجة الوداع » . وفي / 99 : « سمعت رسول الله يخطب بمنى » .
وهذا يعني أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كرره في عرفات ومنى ، ثم أعلنه صريحاً في غدير خم !
وأصل الحديث الذي لم يسمعه الراوي القرشي الأصم : اثنا عشر إماماً كلهم من أهل بيتي ، لكن الراوي قال : « قال كلمة لم أفهمها ، قلت لأبي : ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش » . ( مسند أحمد : 5 / 100 و 107 ) .
وروى أحمد : 5 / 90 و 98 ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخفاها وخفض بها صوته ، وهمس بها
--------------------------- 352 ---------------------------
همساً ! وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 617 ) : « قال كلمة خفيت عليَّ ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً مني فقلت : ما قال ؟ فقال كلهم من قريش » .
وفي الحاكم : 3 / 618 : « فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش » .
وفي الطبراني الكبير : 2 / 213 و 214 : « قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً لا يضرهم من خذلهم ، ثم همس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبي : ما الكلمة التي همس بها النبي ؟ قال أبي : كلهم من قريش » .
ويريدونك أن تصدق أن الذي ضيع الكلمة التي تحدد هوية الاثني عشر هم الناس ، وليس ري قريش ! فالناس المُحرمون المصغون لكل كلمة ، صاروا مشاغبين : يلغطون ، ويضجون ، ويكبرون ، ويتكلمون ، ويقومون ويقعدون ! وضيعوا الكلمة الحساسة التي تعين هوية هؤلاء الأئمة الربانيين !
ففي سنن أبي داود ( 2 / 309 ) : « قال : فكبر الناس وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي : يا أبة ما قال ؟ قال : كلهم من قريش » . ومثله أحمد : 5 / 98 . وفيه : « أصَمَّنِيها الناس » . وفي رواية مسلم : « صَمَّنيها الناس » .
وفي رواية أحمد : 5 / 93 : « وضجَّ الناس . . ثم لغط القوم وتكلموا ، فلم أفهم قوله بعد كلهم . . . لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة . قال : فجعل الناس يقومون ويقعدون » !
فهل سمعت بأمة يودعها نبيها ويبشرها بأئمة ربانيين بعده ، وعندما يصل إلى تعيينهم ، تلغط في خطبته وتقوم وتقعد وتضج ، حتى تضيع هوية هؤلاء الربانيين ، في عشرين قبيلة !
وهل سمعت بأمة يبشرها نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن الله عز وجل حلَّ مشكلة القيادة فيها ، وعين لها اثني عشر إماماً ربانياً ، ثم تقول إنه لم يحدد هويتهم لا بأسمائهم ولا بأسرتهم ، بل ضيعهم في قبائل قريش ، ثم لم يسأله أحد من أمته من هم ؟ !
ألا ترى في هذا الأمر كيد قريش ، وطمعها في خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ !
--------------------------- 353 ---------------------------
لقد اتهموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه ضيع هويتهم ، بل نسبوا لربهم سبحانه وتعالى أنه جعل في الأمة بعد نبيها أئمةً مجهولين ! وأشعل النار بين هذه القبائل على خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهو يراهم يتحاربون سنين على بعير وشاة !
حاشا لله ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يشعل صراعاً بين أمته على السلطة ! فالصحيح أنه حدد الأئمة ( عليهم السلام ) وسماهم : علياً والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين ( عليهم السلام ) ، لكن القرشيين تعمدوا كتمان هويتهم !
وقد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ! بنا يُستعطى الهدى ، ويستجلى العمى .
إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم » . « نهج البلاغة : 1 / 82 ، و : 2 / 27 » .
وقال ( عليه السلام ) أيضاً : « والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
هذا ، وقد تحيَّر علماء السلطة في الأئمة الاثني عشر ، وحاولوا تطبيقهم على خلفائهم فلم يستطيعوا ! وقد اعترف ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 في عارضة الأحوذي بشرح الترمذي ( 6 / 391 ) بأن تطبيق الحديث على خلفائهم غير ممكن !
لذلك لا تنتظر من مصدر قرشي أن يروي تحديد هوية هؤلاء الأئمة الربانيين ! ولا ترجو من عالم من أتباع السلطة أن يستطيع تفسيرحديث البشارة النبوية ! لأنه يأبى أن يقول كما قال علي ( عليه السلام ) : من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم !
وقد أدركت ابن مسعود الشجاعة فقال : « سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين ، والتاسع مهديهم » . « كفاية الأثر / 33 » .
وقد كتبنا رسالة خاصة في : « بشارة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) » .
--------------------------- 354 ---------------------------

3 - تأكيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على مكانة علي والعترة ( عليهم السلام ) في حجة الوداع

روى الصدوق في أماليه / 248 ، عن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) قالت : ( خرج علينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عشية عرفة فقال : إن الله تبارك وتعالى باهى بكم وغفر لكم عامة ، ولعلي خاصة ، وإني رسول الله إليكم غير محابٍ لقرابتي ، هذا جبرئيل يخبرني أن السعيد كل السعيد حق السعيد ، من أحب علياً في حياته وبعد موته ، وأن الشقي كل الشقي حق الشقي من أبغض علياً في حياته وبعد وفاته ) .
ورواه محمد بن سليمان في مناقبه ( 1 / 207 ) : ( عن أبي أيوب الأنصاري قال : خرج علينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم عرفة فقال : يا أيها الناس إن الله باهى بكم الملائكة في هذا اليوم فغفر لكم عامة وغفر لعلي خاصة ، فأما العامة منكم فمن لم يحدث بعدي أحداثاً وهو قول الله : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه . وأما الخاصة فطاعته طاعتي يعني علياً ومن عصاه فقد عصاني ثم قال له : قم يا علي فقام حتى وضع كفه في كف رسول الله فقال رسول الله : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم عامة وطاعتي عليكم مفروضة . ألا وإني غير محابٍ لقومي ولا محابٍ لقرابتي وإنما أنا رسول الله ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، ألا وإن هذا جبرئيل يخبرني عن ربي أن السعيد كل السعيد من أحب علياً في حياتي وبعد مماتي . ألا وإن الشقي حق الشقي من أبغض علياً في حياتي وبعد وفاتي ) .
أقول : وضعوا مقابله حديث : إن الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة . وحديث : إن الله يتجلى لأبي‌بكر !
لكن بعض عقلائهم قال إنه موضوع كالعجلوني في كشف الخفاء ( 2 / 419 ) قال : « وباب فضائل أبي‌بكر الصديق رضي الله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات كحديث : إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي‌بكر خاصة ! وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبو بكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي‌بكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي‌بكر » .
وسيأتي جواب المأمون عن هذه الأحاديث .
--------------------------- 355 ---------------------------

4 - تحذيرات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للصحابة في حجة الوداع

فقد أنذرهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحذرهم ، وأخبرهم بأنهم سيتقاتلون من أجل السلطة ويستحلون دماء بعضهم ، ويخرجون بعضهم من ديارهم !
وهذا ما وقع يوم وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مباشرةً فجاؤوا إلى بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهددوهم بالقتل وإحراق دارهم عليهم إن لم يبايعوا ! كما هددوا سعد بن عبادة بالقتل ، ونفوه من المدينة إلى حوران ، ثم قتلوه هناك !
والعجيب أن كل أحاديث : لا ترجعوا بعدي كفاراً ، قالها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع ! قال البخاري ( 1 / 38 ) : ( عن جرير أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال له في حجة الوداع : إستنصت الناس ، فقال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
وروى البخاري أيضاً ( 7 / 112 ) : ( قال : ويلكم ، أو ويحكم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
وقال أيضاً ( 2 / 191 ) : ( خطب الناس يوم النحر فقال : يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام . قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام . قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . فأعادها مراراً ، ثم رفع رأسه فقال : اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ) !
وقال ابن حجر في شرحه ( 1 / 104 ) : ( ونظيره قوله تعالى : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، بعد قوله : ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَمُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْىٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ) .
وسبب التحذير النبوي لقريش خاصة أن لها موقع القيادة في العرب ، والخطر على
أهل بيته ( عليهم السلام ) ، وخطر تحريف الإسلام ، إنما يكون من قريش وحدها ! وبالتحديد من الصحابة القرشيين ، لا من اليهود ، ولا الروم ، ولا القبائل العربية ، فهي لاتطمح إلى
--------------------------- 356 ---------------------------
قيادة دولته إلا بواسطة شركاء من صحابته ! كما لا يطمع زعماء قريش المشركون بذلك إلا بشركاء من صحابة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ومكائد اليهود وعملهم للانتقام لاتنجح إلا بواسطة الصحابة الذين تعاهدوا معهم سراً ، وقالوا لهم : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . « محمّد : 26 » .
لهذا كان تحذير النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) محصوراً بهؤلاء الصحابة القرشيين ! فقال لهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي أصحابي ! فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) ! ( بخاري : 4 / 101 ) .
وقال لهم : « يا معشر قريش لاتجيؤوا بالدنيا تحملونها على رقابكم ، وتجئ الناس بالآخرة فإني لاأغني عنكم من الله شيئاً » ( الزوائد : 3 / 272 ، وصححه ) .
وقال لهم : « لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك وَلَتَفْعَلُنَّ » . « تفسير القمي : 1 / 1717 » .
فأخبرهم أنهم سيفعلون ! واستعمل بلاغته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليتم عليهم الحجة كما أمره ربه . لكنك تقرأ في مصادر السلطة عشرات الأحاديث في مدح قريش ، وأن القيادة حقٌّ لهم دون غيرهم ! وتقرأ أن التحذير النبوي لم يكن للصحابة القرشيين ، بل لبني هاشم بأن لا يطمعوا في الدنيا ! « البخاري : 6 / 17 » . أوكان لبني عبد المطلب أو لفاطمة ( عليها السلام ) بأنها لو سرقت لقطع يدها ! « البخاري : 4 / 151 و : 5 / 97 و : 8 / 16 » .
وقد أفلتت من كتمانهم حجة دامغة لهم : وهي تحذير رسمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بلوحة نبوية أظهرت المصير الجهنمي الذي يمشي إليه هؤلاء الصحابة ! وصورت مجيئهم إلى حوض الكوثر ليلاقوه ، فيمنعهم الله تعالى ويأمر بهم إلى جهنم !
إنها صورة رهيبة بلغها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الأمة في حجة الوداع ! وهي تعني وقوع كارثة محققة على صحابته جزاءً لهم على الكارثة التي سينزلونها في أمته بعده ! ولا ينجو منهم إلا مثل « هَمَل النَّعم » كما في رواية بخاري ، أي الغنم المنفردة عن القطيع ! فجمهور الصحابة في النار ، لا يفلت منه إلا قلة يخالفونهم !
( قلت أين ؟ قال : إلى النار والله . قلت ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم
--------------------------- 357 ---------------------------
القهقرى ! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم ) . ( البخاري : 7 / 309 ) .
وهي حقيقةٌ مذهلةٌ ، صعبة القبول على المسلم السني المسكين ، الذي ربوه على حب كل الصحابة ، وخير القرون ، والجيل الفريد ، والصحابة العدول ، وأصحابي كالنجوم . وحببوه بصورهم المثالية التي رسموها لهم في ذهنه من طفولته ، فإذا به يفاجأ بصورة مرعبة لهم ، بلسان نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفي البخاري ! فلو كان المتكلم غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما تردد السني في الحكم عليه بأنه عدو للإسلام ، يريد أن يكيد للإسلام بالطعن في صحابة رسول الإسلام ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ولو كان الراوي غير البخاري ، لما ترددوا في تضعيف حديثه واتهامه !
لكن المتكلم هو الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخبر بوحيٍ ربه عن كارثة تحدث لا محالة !
وراوي الكارثة البخاري الذي أعطوا كتابه العصمة من الجلد إلى الجلد !
لقد علموا هذا الطفل السني المسكين ، أن الحقيقة دائماً حلوة ، وأن الحق دائماً مفصلٌ على قامة بضعة أنفار من الصحابة ، خاصة أبي‌بكر وعمر !
ثم ، لم يكتف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بهذا المديح لعلي ( عليه السلام ) في حجة الوداع ، ولا بتحذيراته المشددة للصحابة ، حتى أوقفهم في الطريق وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) وأعلنه إماماً بعده ، ونصب له خيمة وأمرهم أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ويباركوا له ولايته عليهم ، فهنؤوه وباركوا له وبخبخوا له ، وأمر نساءه أن يهنئنه فجئن إلى باب خيمته وهنأنه وباركن له !
ثم ، أراد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبيل وفاته ، أن يبعد هؤلاء الصحابة عن المدينة ، فأرسلهم جميعاً في جيش أسامة إلى مؤتة قرب القدس ، وكان الجيش ثلاثة آلاف ، فيهم سبع مئة من قريش الطلقاء والمهاجرين . لكنهم اعترضوا على قيادة أسامة ابن السبع عشرة سنة ، وسوَّفوا وتعللوا ، لمدة أسبوعين حتى توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ثم ، أراد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبيل وفاته ، أن يؤكد عليهم الحجة بوثيقة مكتوبة ، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً . فرفضوا ذلك
--------------------------- 358 ---------------------------
بشدة وسوء أدب ، ورفعوا في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القرآن فقالوا له : حسبنا كتاب الله !
ومعناه : أيها الرسول لا نريد أن تكتب لنا أطيعوا علياً بعدي ، وبعده أولاد ابنتي فاطمة حسناً ثم حسيناً ، ثم تسعة من ذرية ولدي الحسين ( عليهم السلام ) !
لقد غضبوا وصاحوا : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له دواة ولا قرطاساً !
فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطردهم ! فقال لهم كما في البخاري : قوموا عني فما أنا فيه خيرمما تدعونني اليه : ما أنا فيه من اعترافكم بنبوتي خيرمن أن أصرَّعليكم فتعلنوا الردة !
فاعجب لأمة تواجه نبيها وتنزع منه القيادة ، وتعطيها لشخص مقابله ! عامي من الذين طردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يطرد صحابياً قبلها !

5 - في حجة الوداع كتبوا الصحيفة الملعونة لعزل العترة ( عليهم السلام ) !

بعد فتح مكة نشط رؤساء الحزب القرشي ضد بني هاشم ، وزاد نشاطهم في حجة الوداع ، وكتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا ( الصحيفة الملعونة الثانية ) تعاهدوا فيها على أن يبعدوا بني هاشم عن الخلافة ، وأشاعوا حديثاً مكذوباً أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : أبى الله أن تجتمع لنا النبوة والخلافة ، أي لبني هاشم !
وقد ذكرت الصحاح أن الصحابة الجالسين تحت منبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عرفات وغيرها ، لغطوا وصرخوا وكبروا وضجوا وقاموا وقعدوا في وسط خطبه ، عندما كان يصل إلى هوية الأئمة الربانيين الاثني عشر ( عليهم السلام ) ! ولا تفسير لذلك إلا أنه من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم !
ومن عجيب حلم الله تعالى أنه أخبر نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالصحيفة ، وأمره أن يكتفي بإتمام الحجة عليهم ، وأن يقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ، ويترك لهم حرية العمل ! قال في إرشاد القلوب ( 2 / 336 ) : ( وهي الصحيفة التي تمنى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما توفي عمر ، فقال : ما أحب إليَّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى . ثم ذكرأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التفت إلى أبي عبيدة بن الجراح بعد صلاة الصبح وقال له : بخٍ بخٍ ، مَن مثلك ! لقد أصبحت أمين هذه الأمة ) ! لأن أبا عبيدة كان مؤتمناً على نسختها !
--------------------------- 359 ---------------------------
وقد كشف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمر الصحيفة في مناظرته مع أبي‌بكر وعمر يوم أجبروه على بيعتهم ، فاحتج عليهم بنصوص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليه ، وقال كما روى سليم بن قيس / 153 : ( يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار ، أنشدكم الله ، أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم غدير خم كذا وكذا ، وفي غزوة تبوك كذا وكذا ؟ فلم يدع شيئاً قاله فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علانية للعامة ، إلا ذكرهم إياه . قالوا :
اللهم نعم .
فلما تخوف أبو بكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه ، بادرهم فقال له : كل ما قلت حق قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا ، ولكن قد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد هذا : إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل‌البيت النبوة والخلافة !
فقال علي ( عليه السلام ) : هل أحد من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شهد هذا معك ؟ فقال عمر : صدق خليفة رسول الله ، قد سمعته منه كما قال . وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل : صدق قد سمعنا ذلك من رسول الله !
فقال لهم علي ( عليه السلام ) : لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة : إن قتل الله محمداً أو مات لَتَزْوُنَّ هذا الأمر عنا أهل‌البيت !
فقال أبو بكر : فما علمك بذلك ! فقال ( عليه السلام ) : أنت يا زبير وأنت يا سلمان وأنت يا أبا ذر وأنت يا مقداد ، أسألكم بالله أما سمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك وأنتم تسمعون : إن فلاناً وفلاناً حتى عد هؤلاء الخمسة ، قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا فيه وتعاقدوا أيماناً على ما صنعوا إن قتلتُ أو متُّ أن يتظاهروا عليك ، وأن يزووا عنك هذا يا علي !
فقالوا : اللهم نعم ، قد سمعنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك لك ، فقلتَ : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل ؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم ، وإن أنت لم تجد أعواناً فبايع واحقن دمك !
فقال علي ( عليه السلام ) : أما والله ، لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي
--------------------------- 360 ---------------------------
لجاهدتكم في الله ، ولكن أما والله لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة ! وفيما يكذب قولكم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قوله تعالى : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ، فالكتاب النبوة ، والحكمة السنة ، والملك الخلافة ، ونحن آل إبراهيم ) .
ويحدثنا التاريخ أن أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أرادوا أن يبقى خبر هذه الصحيفة في ذاكرة الأمة ، فأخبر الإمام زين العابدين ولده الإمام الباقر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمكان جلسة أصحاب السقيفة .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( دخلت مع أبي الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين فقال : في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو قتل ، ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً ) ! ( الكافي : 4 / 545 ) .
وفي معاني الأخبار / 413 : ( عن مفضل بن عمر قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن معنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه لما نظر إلى الثاني وهو مسجى بثوبه : ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفة من هذا المسجى ، فقال : عنى بها الصحيفة التي كتبت
في الكعبة ) .
وقال المفيد في الفصول المختارة / 90 : ( سئل هشام بن الحكم عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما قبض عمر ، وقد دخل عليه وهو مسجى : لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى ، وفي حديث آخر لهم : إني لأرجو أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى ؟ فقال هشام : هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد وإنما حصل من جهة القصاص وأصحاب الطرقات ، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفاً ، وذلك أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولم يولوهم مقامه من بعده ، فكانت الصحيفة لعمر ، إذ كان عماد القوم ، والصحيفة التي ود أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورجا أن يلقى الله بها هي هذه الصحيفة ، فيخاصمه بها ، ويحتج عليه بمتضمنها .
والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبيّ بن كعب أنه كان يقول في مسجد
--------------------------- 361 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد أن أفضى الأمر إلى أبي‌بكر بصوت يسمعه أهل المسجد : ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس ، فقيل له : يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة ، وما عقدتهم ؟ فقال : قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولا يولوهم مقامه ، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاماً أبين به للناس أمرهم ، قال : فما أتت عليه الجمعة ) .
يقصد أنهم قتلوه بالسم يوم الأربعاء رضي الله عنه .
ورواه عبد الرزاق : 11 / 322 و : 8 / 620 ، الحاكم : 2 / 226 ، و : 4 / 527 ، وأحمد : 5 / 140 .
ورواه مفصلاً ابن سعد في الطبقات : 3 / 501 و 503 ، وجاء فيه قوله في آخر عمره : والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولن فيهم قولاً لا أبالي أستحييتموني عليه ، أو قتلتموني ، فمات يوم الأربعاء !
وروى في الإحتجاج ( 1 / 113 ) أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سمى لعلي ( عليه السلام ) الخمسة أصحاب الصحيفة . وذكر في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 14 ) عقوبتهم في الآخرة .
وتفرد القاضي نور الله التستري في الصوارم المهرقة / 76 ، برواية عن حذيفة ، عن أسماء بنت عميس ، أن القوم اجتمعوا في دار أبي‌بكر ، فأمروا سعيد بن العاص أن يكتب بينهم كتاباً وأرسله أبو عبيدة إلى مكة ، وجاء فيه : ( فإن ادعى أحد أن رسول الله استخلف رجلاً بعينه كان كاذباً في دعواه . . وإن ادعى مدع أن خلافة رسول الله وراثة لأهل بيته فقد أبطل وأحال وخالف قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نحن معاشر الأنبياء لا نورث فما تركناه صدقة ، ومن كره ذلك وخالف أمرهم فقد عاند جماعة المسلمين ، فليقاتلوه فإن في ذلك صلاح الأمة ، فإن رسول الله قد قال : اجتماع أمتي رحمة ولا تجتمع أمتي على ضلال أبداً ، وإنه لا يخرج من جماعة المسلمين إلا مفارق معاند لهم مظاهرعليهم ، فقد أباح الله ورسوله دمه وأحل قتله !
وكتب سعيد بن العاص ، باتفاق من أثبت اسمه وشهادته آخر هذه الصحيفة في المحرم سنة عشر من الهجرة .
--------------------------- 362 ---------------------------
ثم دفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح فوجه بها إلى مكة . .
قال حذيفة : فلما فرغوا من ذلك أتوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في المسجد فجلسوا معه ، فالتفت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أبي عبيدة وقال : بخٍ بخٍ لك يا با عبيدة ، مَن مثلك وقد أصبحت أمين قوم من هذه الأمة . . ولقد أصبح نفر من أصحابي ما هم في فعلهم دون مشركي قريش ، لما كتبوا صحيفتهم وعلقوها في الكعبة . ولولا أن الله أمرني بالإعراض عنهم لأمر هو بالغه ، لقدمتهم وضربت أعناقهم ! قال حذيفة : فوالله لقد رأيت هؤلاء النفر قد استقبلتهم الرعدة ، فلم يملك أحد منهم نفسه ) !
أقول : إن صحت هذه الرواية فهي صحيفة أخرى كتبوها في المدينة وأرسلوها إلى مكة ، وقد تكون بطلب من شركائهم زعماء مكة ، فأرسلوها لهم ، ثم أودعوها مع الصحيفة السابقة ، تحت الرخامة في الكعبة .

6 - المأمون يكشف بعض مكذوبات السلطة في فضائل أبي‌بكر وعمر

روى الصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 199 ) : ( عن يحيى بن أكثم القاضي قال : أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث ، وجماعة من أهل الكلام والنظر ، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلاً ثم مضيت بهم ، فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لأُعلمه بمكانهم ، ففعلوا فأعلمته ، فأمرني بإدخالهم فدخلوا فسلموا فحدثهم ساعة وآنسهم ، ثم قال : إني أُريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي هذا حجة ، فمن كان حاقناً أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته ، وانبسِطوا وسُلوا أخفافكم وضعوا أرديتكم ، ففعلوا ما أُمروا به ، فقال :
يا أيها القوم ! إنما استحضرتكم لاحتج بكم عند الله تعالى ، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم ، ولاتمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ، ورد الباطل على من أتى به ، وأشفِقوا على أنفسكم من النار ، وتقربوا إلى الله تعالى برضوانه وإيثار طاعته ، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه الله عليه ، فناظروني بجميع عقولكم .
--------------------------- 363 ---------------------------
إني رجل أزعم أن علياً خير البشر بعد رسول الله فإن كنت مصيباً فصوبوا قولي وإن كنت مخطئاً فردوا عليَّ ، وهلموا ، فإن شئتم سألتكم ، وإن شئتم سألتموني .
فقال له الذين يقولون بالحديث : بل نسألك . فقال : هاتوا ، وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم ، فإذا تكلم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزِد ، وإن أتى
بخلل فسددوه .
فقال قائل منهم : إنما نحن نزعم أن خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ، من قِبَل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبي‌بكر وعمر ، فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما ، علمنا أنه لم يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس .
فقال المأمون : الروايات كثيرة ، ولابد من أن تكون كلها حقاً أو كلها باطلاً ، أو بعضها حقاً وبعضها باطلاً ، فلو كانت كلها حقّاً كانت كلّها باطلاً ، من قِبَل أن بعضها ينقض بعضاً ، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين ، ودروس الشريعة ، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار ؛ وهو أن بعضها حق وبعضها باطل ؛ فإذا كان كذلك فلابد من دليل على ما يحق منها ليُعتقد ويُنفى خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقّاً كان أولى ما أعتقده وآخذ به .
وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها ، وذلك أن رسول الله أحكم الحكماء ، وأولى الخلق بالصدق ، وأبعد الناس من الأمر بالمحال ، وحمل الناس على التدين بالخلاف ، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلُوَان من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مختلفين ؛ فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم ، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنىً واحد من كل جهة ، وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما ؟ وهذا تكليف ما لا يطاق لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر . والدليل على اختلافهما أن أبا بكر سبا أهل الردة وردهم عمر أحراراً ، وأشار عمر إلى أبي‌بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة ، فأبى أبو بكر عليه ، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر ، ووضع
--------------------------- 364 ---------------------------
عمر ديوان العطية ولم يفعله أبو بكر ، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر ، ولهذا نظائر كثيرة . .
فقال آخر : فإن النبي قال : لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكرخليلاً .
فقال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن رواياتكم أنه آخى بين أصحابه وأخر علياً فقال : ما أخرتك إلاّ لنفسي . فأي الروايتين ثبتت بطلت الأُخرى .
قال الآخر : إن علياً قال على المنبر : خير هذه الأُمة بعد نبيها أبو بكر وعمر .
قال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن النبي لو علم أنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ، ومرّة أُسامة بن زيد . ومما يكذب هذه الرواية قول علي : قبض النبي وأنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفاراً . وقوله : أنى يكونان خيراً مني وقد عبدت الله تعالى قبلهما وعبدته بعدهما !
قال آخر : فإن أبا بكر أغلق بابه ، وقال : هل من مستقيل فأُقيله ، فقال علي : قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك ؟
فقال المأمون : هذا باطل من قِبَل أن علياً قعد عن بيعة أبي‌بكر ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة ( عليها السلام ) وأنها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها .
ووجه آخر : وهو أنه إن كان النبي استخلفه ، فكيف كان له أن يستقيل ويقول للأنصار : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر ؟
قال آخر : إن عمرو بن العاص قال : يا نبي الله من أحب الناس إليك من النساء ؟ قال : عائشة . فقال : من الرجال ؟ فقال : أبوها . فقال المأمون : هذا باطل من قِبَل أنكم رويتم أن النبي وُضع بين يديه طائر مشوي فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، فكان عليّاً . فأيّ روايتكم تُقبل ؟
فقال آخر : فإن علياً قال : من فضلني على أبي‌بكر وعمر جلدته حد المفتري . قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي أجلد الحد على من لا يجب حد عليه فيكون متعدياً لحدود الله عز وجل ، عاملاً بخلاف أمره ، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية ، وقد رويتم عن إمامكم أنه قال : وليتكم ولست بخيركم . فأي الرجلين أصدق عندكم ،
--------------------------- 365 ---------------------------
أبو بكر على نفسه ، أو علي على أبي‌بكر ؟
مع تناقض الحديث في نفسه ، ولابد له في قوله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فإن كان صادقاً فأنى عرف ذلك ؟ بوَحي ؟ فالوحي منقطع ، أو بالتظنّي ؟ فالمتظني متحيّر ، أو بالنظر ؟ فالنظر مبحث ، وإن كان غير صادق ، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ، ويقوم بأحكامهم ، ويقيم حدودهم كذابٌ .
قال آخر : فقد جاء أن النبي قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة .
قال المأمون : هذا الحديث محال ، لأنه لا يكون في الجنة كهل ، ويروى أن أشجعيَّةً كانت عند النبي فقال : لا يدخل الجنة عجوز ، فبكت ، فقال لها النبي : إن الله تعالى يقول : إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا . فإن زعمتم أن أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة ، فقد رويتم أن النبي قال للحسن والحسين إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين ، وأبوهما خير منهما .
قال آخر : فقد جاء أن النبي قال : لو لم أكن أُبعث فيكم لبعث عمر . قال المأمون : هذا محالٌ ، لأن الله تعالى يقول : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ . وقال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوح وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثاً ، ومن أخذ ميثاقاً على النبوة مؤخراً ؟ !
قال آخر : إن النبي نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم فقال : إن الله تبارك تعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة . فقال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه ، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة !
وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أن النبي قال : دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي‌بكر سبقني إلى الجنة ! وإنما قالت الشيعة : علي خير من أبي‌بكر ، فقلتم : عبدُ أبي‌بكر خير من الرسول ، لأن السابق أفضل من المسبوق . وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر وألقى على لسان نبي الله : وأنهن الغرانيق العُلى ! ففر من عمر وألقى على لسان النبي بزعمكم الكفر !
--------------------------- 366 ---------------------------
قال آخر : قد قال النبي : لو نزل العذاب ما نجا إلا عمر بن الخطاب .
قال المأمون : هذا خلاف الكتاب أيضاً ، لأن الله تعالى يقول لنبيه : وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ، فجعلتم عمر مثل الرسول !
قال آخر : فقد شهد النبي لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة .
فقال المأمون : لو كان هذا كما زعمتم ، لكان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك بالله أمِنَ المنافقين أنا ؟ فإن كان قد قال له النبي : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة فصدق حذيفةَ ولم يصدق النبيَّ ، فهذا على غير الإسلام ، وإن كان قد صدق النبي فلِمَ سأل حذيفة ؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما .
قال الآخر : قال النبي : وُضعتُ في كفة الميزان ووُضعتْ أُمتي في كفة أُخرى فرجحت بهم ، ثم وُضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ثم عمر فرجح ثم رُفع الميزان .
فقال المأمون : هذا محال ، من قبل أنه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما ، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنه محال لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأُمة ، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد ، فكيف ترجح بما ليس ؟
فأخبروني بمَ يتفاضل الناس ؟ فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة . قال : فأخبروني فمن فضل صاحبه على عهد النبي ، ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي أيلحق به ؟ فإن قلتم : نعم ، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً وحجّاً وصوماً وصلاة وصدقة من أحدهم . قالوا : صدقت ، لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي .
قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل علي ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم ، وإن كانوا قد روَوا في فضائل علي أكثر ، فخذوا عن أئمتكم ما روَوا ولا تعدُوه .
قال : فأطرق القوم جميعاً ! فقال المأمون : ما لكم سكتُّم ؟ قالوا : قد استُقصينا .
قال المأمون : فإني أسألكم : خبّروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيه ؟
--------------------------- 367 ---------------------------
قالوا : السبق إلى الإسلام لأن الله تعالى يقول : السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . قال : فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام ؟ قالوا : إنه سبق حدثاً لم يجرِ عليه حكم ، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم وبين هاتين الحالتين فرق .
قال المأمون : فخبروني عن إسلام علي أبإلهامٍ من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي ؟ فإن قلتم : بإلهام فقد فضلتموه على النبي لأن النبي لم يُلهَم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً ومعرّفاً . فإن قلتم : بدعاء النبي فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى ؟ فإن قلتم : من قِبَل نفسه ، فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيه في قوله تعالى : وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ، وفي قوله تعالى : وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى . وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم ، فدعاه ثقة به وعلماً بتأييد الله تعالى .
وخلّةٌ أُخرى : خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلف خلقه ما لا يطيقون ؟ فإن قلتم : نعم فقد كفرتم ، وإن قلتم : لا ، فكيف يجوز أن يأمر نبيه بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره ، وحداثة سنه ، وضعفه عن القبول ؟
وخلّةٌ أُخرى : هل رأيتم النبي دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أُسوة علي ؟ فإن زعمتم أنه لم يدعُ غيره ، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس .
ثمّ قال : أي الأعمال أفضل بعد السبق إلى الإيمان ؟ قالوا : الجهاد في سبيل الله . قال : فهل تجدون لأحد من العَشَرة في الجهاد ما لعلي في جميع مواقف النبي من الأثر ؟ هذه بدرقُتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً ، قتل علي منهم نيفاً وعشرين ، وأربعون لسائر الناس .
فقال قائل : كان أبو بكر مع النبي في عَرِيشة يدبرها . فقال المأمون : لقد جئت بها عجيبة ! أكان يدبر دون النبي أو معه فيشركه ، أو لحاجة النبي إلى رأي أبي‌بكر ؟ أي الثلاث أحب إليك أن تقول ؟ فقال : أعوذ بالله من أن أزعم أنه يدبردون النبيّ أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه ! قال : فما الفضيلة في العريش ؟ فإن كانت فضيلة أبي‌بكر بتخلفه عن الحرب ، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلاً
--------------------------- 368 ---------------------------
أفضل من المجاهدين ، والله عز وجل يقول : لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا .
قال إسحاق بن حماد بن زيد : ثمّ قال لي : إقرأ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ فقرأت حتى بلغت : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ، إلى قوله : وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ، فقال : فيمن نزلت هذه الآيات ؟ فقلت : في علي . قال : فهل بلغك أن عليّاً قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا ، على ما وصف الله عز وجل في كتابه ؟ فقلت : لا . قال : فإن الله تعالى عرف سريرة عليّ ونيته ، فأظهر ذلك في كتابه تعريفاً لخلقه أمرَه . .
ثمّ قال : يا إسحاق ، ألستَ ممن يشهد أن العشرة في الجنة ؟ فقلت : بلى . قال : أرأيت لو أن رجلاً قال : ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا ، أكان عندك كافراً ؟
قلت : لا . قال : أفرأيت لو قال : ما أدري هذه السورة قرآن أم لا ، أكان عندك كافراً ؟ قلت : بلى . قال : أرى فضل الرجل يتأكد ، خبرني يا إسحاق عن حديث الطائر المشوي ، أصحيح عندك ؟ قلت : بلى . قال : بانَ والله عنادك ، لا يخلو هذا من أن يكون كما دعاه النبي أو يكون مردوداً ، أو عرف الله الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه ، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من المفضول ، فأي الثلاث أحب إليك أن تقول به ؟
قال إسحاق : فأطرقت ساعة ثمّ قلت : يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى يقول في أبي‌بكر : ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ، فنسبه الله عز وجل إلى صحبة نبيه .
فقال المأمون : سبحان الله ! ما أقل علمك باللغة والكتاب أما يكون الكافر صاحباً للمؤمن ، فأي فضيلة في هذه ! أما سمعت قول الله تعالى : قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ، فقد جعله له صاحباً . . وأمّا قوله : إِنَّ اللهَ مَعَنَا ، فإن الله تبارك وتعالى مع البَر والفاجر ، أما سمعت قوله تعالى : مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ .
--------------------------- 369 ---------------------------
وأمّا قوله : لاَ تَحْزَنْ ، فأخبرني عن حزن أبي‌بكر أكان طاعة أو معصية ؟ فإن زعمت أنّه طاعة فقد جعلت النبي ينهى عن الطاعة ، وهذا خلاف صفة الحكيم ، وإن زعمت أنّه معصية ، فأي فضيلة للعاصي ؟
وخبرني عن قوله تعالى : فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، على من ؟ قال إسحاق : فقلت على أبي‌بكر ، لأن النبي كان مستغنياً عن السكينة .
قال : فخبّرني عن قوله عز وجل : وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . أتدري مَن المؤمنون الذين أراد الله تعالى في هذا الموضع . . .
ثمّ أقبل على أصحاب النظر والكلام فقال : أسألكم أو تسألوني ؟ فقالوا : بل نسألك . فقال : قولوا . فقال قائل منهم : أليست إمامة علي من قبل الله عز وجل نُقلَ ذلك عن رسول الله من نقل الفرض مثل الظهر أربع ركعات ، وفي مائتي درهم خمسة دراهم ، والحج إلى مكة ؟ فقال : بلى . قال : فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفرض واختلفوا في خلافة علي وحدها ؟
قال المأمون : لأن جميع الفرض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ، ما يقع في الخلافة .
فقال آخر : ما أنكرت أن يكون النبي أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه ، رأفة بهم ورقة عليهم ، من غير أن يستخلف هو بنفسه فيُعصى خليفته ؟ فقال : أنكرت ذلك من قِبَل أن الله تعالى أرأف بخلقه من النبي ، وقد بعث نبيه إليهم وهو يعلم أن فيهم العاصي والمطيع ، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله . وعلّة أُخرى : لو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم فلو أمر الكل من المختار ؟ ولو أمر بعضنا دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة ، فإن قلت الفقهاء فلابد من تحديد الفقيه وسِمته .
قال آخر : فقد روي أن النبي قال : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله تعالى حسن ، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح .
فقال : هذا القول لابد من أن يكون يريد كل المؤمنين أو البعض ، فإن أراد
--------------------------- 370 ---------------------------
الكل فهذا مفقود ؛ لأن الكل لا يمكن اجتماعهم ، وإن كان البعض فقد روى كل في صاحبه حسناً مثل رواية الشيعة في علي ، ورواية الحشوية في غيره ، فمتى يثبت ما تريدون من الإمامة ؟ قال آخر : فيجوز أن تزعم أن أصحاب محمد أخطأوا ؟
قال : كيف نزعم أنهم أخطأوا واجتمعوا على ضلالة ، وهم لم يعلموا فرضاً ولا سنة ، لأنك تزعم أن الإمامة لا فرضٌ من الله تعالى ولا سنة من الرسول ، فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ .
قال آخر : إن كنت تدعي لعلي من الإمامة دون غيره ، فهات بينتك على ما تدعي . فقال : ما أنا بمدع ولكني مقر ، ولا بينة على مقر ، والمدعي من يزعم أن إليه التولية والعزل ، وأن إليه الاختيار ، والبينة لا تعرى من أن تكون من شركائه فهم خصماء ، أو تكون من غيرهم والغير معدوم ، فكيف يؤتى بالبينة على هذا ؟
قال آخر : فما كان الواجب على عليّ بعد مضيّ رسول الله ؟ قال : ما فَعَلَه . قال : أفما وجب أن يُعلم الناس أنه إمام ؟ فقال : إن الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ، ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، إنما تكون بفعل من الله تعالى فيه ، كما قال لإبراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وكما قال عز وجل لداود : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ، وكما قال عز وجل للملائكة في آدم : إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، فالإمام إنما يكون إماماً من قبل الله تعالى ، وباختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل ، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقّاً للإمامة ، وإذا عمل خلافها اعتزل ، فيكون خليفة قبل أفعاله . . .
قال آخر : فلِمَ لم يقاتل علي أبا بكر وعمر كما قاتل معاوية ؟
فقال : المسألة محال ، لأن لِمَ اقتضاء ولم يفعل نفي ، والنفي لا يكون له علة ، إنما العلة للإثبات ، وإنما يجب أن يُنظر في أمر عليّ أمن قبل الله أم من قبل غيره ؟ فإن صح أنه من قبل الله تعالى فالشك في تدبيره كفر ، لقوله تعالى : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ، فأفعال الفاعل تبع لأصله فإن كان قيامه عن الله تعالى فأفعاله عنه وعلى الناس الرضا والتسليم .
--------------------------- 371 ---------------------------
وقد ترك رسول الله القتال يوم الحديبية يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقوي حارب ، كما قال تعالى في الأوّل : فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ، ثم قال عز وجل : فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ . .
فقال المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي أفأسألكم ؟ قالوا : نعم .
قال : أليس قد روت الأُمّة بإجماع منها أن النبي قال : من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ؟ قالوا : بلى . قال : فخبروني عن رجل تختاره الأُمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له : خليفة رسول الله ، ومن قِبَل الله عز وجل ولم يستخلفه الرسول ؟ فإن قلتم نعم فقد كابرتم ، وإن قلتم : لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله ، ولا كان من قبل الله عز وجل ، وأنكم تكذبون على
نبي الله ، فإنّكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي بدخول النار .
وخبّروني في أي قوليكم صدقتم ؟ أفي قولكم : مضى ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي‌بكر : يا خليفة رسول الله ؟ فإن كنتم صدقتم في القولين ، فهذا ما لا يمكن كونه إذ كان متناقضاً ، وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الآخر .
فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم ودعوا التقليد وتجنبوا الشبهات ، فوَالله ما يقبل الله تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ، ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حقّ ، والريب شكٌّ ، وإدمان الشك كفر بالله تعالى ، وصاحبه في النار .
ثم قال : خبروني عن النبي هل استخلف حين مضى أم لا ؟ فقالوا : لم يستخلف . قال : فترْكه ذلك هُدَىً أم ضلال ؟ قالوا : هدى . قال : فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال .
قالوا : قد فعلوا ذلك . قال : فلِمَ استخلف الناسُ بعده وقد تركه هو ؟ فترْك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى ، فلِمَ استَخلف أبو بكر ولم يفعله النبي ؟ ولِمَ جعل عمرالأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً على صاحبه ؟ لأنكم زعمتم أن النبي لم يستخلف ، وأن أبا بكر استخلف ، وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي بزعمكم ، ولم
--------------------------- 372 ---------------------------
يستخلف كما فعل أبو بكر ، وجاء بمعنى ثالث ، فخبروني أي ذلك ترونه صواباً ؟ فإن رأيتم فعل النبي صواباً فقد خطّأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل ! وخبروني أيهما أفضل ، ما فعله النبي بزعمكم من ترك الاستخلاف ، أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف ؟ وخبَّروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول هدى ، وفعله من غيره هدى ، فيكون هدى ضد هدى ، فأين الضلال حينئذ ؟
وخبّروني هل ولي أحد بعد النبي باختيار الصحابة منذ قبض النبي إلى اليوم ؟ فإن قلتم : لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي ، وإن قلتم نعم ، كذبتم الأُمة ، وأبطل قولَكم الوجودُ الذي لا يُدفع .
وخبروني عن قول الله عز وجل : قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للهِ ، أصدق هذا أم كذب ؟ قالوا : صدق . قال : أفلَيس ما سوى الله لله ، إذ كان محدثه ومالكه ؟ قالوا : نعم . قال : ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة تفترضون طاعته ، وتسمونه خليفة رسول الله ، وأنتم استخلفتموه ، وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه ، وعمل بخلاف محبتكم ، ومقتولٌ إذا أبى الاعتزال .
ويلكم ! لا تفتروا على الله كذباً ، فتلقوا وبال ذلك غداً إذا قمتم بين يَدي الله تعالى ، وإذا وردتم على رسول الله وقد كذبتم عليه متعمدين . ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم إني قد أرشدتهم ، اللهم إني قد أخرجت ما وجب عليَّ إخراجه من عنقي ، اللهمّ إني لم أدَعهم في ريب ولا في شك ، اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم عليٍّ على الخلق بعد نبيك محمد . كما أمرنا به رسولك !
قال : ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون .
قال محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري : وفي حديث آخر : قال فسكت القوم ، فقال لهم : لِمَ سكتم ؟ قالوا : لا ندري ما تقول . قال : تكفيني هذه الحجة عليكم . قال : فخرجنا متحيرين خجلين . ثم نظرالمأمون إلى الفضل بن سهل فقال : هذا أقصى ما عند القوم ، فلايظن ظانٌّ أن جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ) !
* *
--------------------------- 373 ---------------------------

الفصل العشرون: أعلن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) خليفته يوم الغدير

1 - مراسم إعلان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خلافة علي ( عليه السلام ) يوم الغدير

« عن عطية السعدي قال : سألت حذيفة بن اليمان عن إقامة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) يوم الغديرغديرخم ، كيف كان ؟ فقال : إن الله تعالى أنزل على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ . فقالوا : يا رسول الله ما هذه الولاية التي أنتم بها أحق منا بأنفسنا ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : السمع والطاعة فيما أحببتم وكرهتم . فقلنا : سمعنا وأطعنا . فأنزل الله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . فخرجنا إلى مكة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع ، فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : أنصب علياً عَلَماً للناس ! فبكى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى اخضلت لحيته وقال : يا جبرئيل إن قومي حديثوا عهد بالجاهلية ، ضربتهم على الدين طوعاً وكرهاً حتى انقادوا لي ، فكيف إذا حملت على رقابهم غيري ! قال : فصعد جبرئيل » . ( إقبال الأعمال : 2 / 241 ، وإثبات الهداة : 3 / 245 ) .
وفي تفسير العياشي ( 1 / 331 ) عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله الأنصاري قالا : « أمر الله تعالى نبيه محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن ينصب علياً ( عليه السلام ) علماً للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ! فأوحى الله إليه : يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . . فقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بولايته يوم غدير خم » .
أقول : تنفيذاً لأمر ربه ، ركز النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع في خطبه وكلامه على مقام أهل بيته
--------------------------- 374 ---------------------------
الطاهرين ( عليهم السلام ) ، وأنهم مع القرآن وصيته في أمته ، حتى حفظ المسلمون حديث : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي . وبشرالأمة بالأئمة الاثني عشر منهم ، وبلغها أن الله تعالى فرض طاعتهم ، وكرمهم ، فحرم عليهم الصدقات ، وجعل لهم مالية خاصة هي الخمس . . إلخ .
أنظر ما رووه فقالوا : ( خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته ، فقال : ولا ما يساوي هذه ، أو ما يزن هذه ) . رواه أحمد بن حنبل ( 4 / 186 ) وسعيد بن منصور ( 1 / 150 ) وعبد الرزاق ( 9 / 48 ) وفيه : ( شهدت مع رسول الله حجته فكنت تحت جران ناقته . . فسمعته يقول وهو يخطب بمنى ) .
وكانت خطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحج ، وأقواله في حق علي وفاطمة والحسنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم ، فلا ننس أن عدداً من زعماء الذين وقعوا صحيفة مقاطعة بني هاشم ومحاصرتهم في الشعب ، ثم عملوا لقتل محمد سنين طويلة ، ثم حاربوه عدة حروب ، كانوا في حجة الوداع تحت منبره ، ومنهم سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبا الأعور السلمي . وغيرهم ، وغيرهم !
وكانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لبني هاشم ، وقد نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين ، لمعالجة هذا الاتجاه الخطير ! و ( حرمان ) بقية قبائل قريش من القيادة ، حسب زعمهم ! فهم الذين كانوا يقولون في غيابه ، إنه يحابي ابن عمه ، ولم ينزل عليه شئ في علي ، بل يريد أن يؤسس ملكاً لبني هاشم كملك كسرى وقيصر ، ويحرم قبائل قريش ، يريد أن يجعلنا عبيداً طلقاء محكومين لبني هاشم !
وزاد نشاطهم في حجة الوداع ، وكتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا ( الصحيفة الملعونة ) لأنهم تعاهدوا فيها أن يعزلوا بني هاشم ولا يسمحوا لهم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة ! وأودعوها داخل الكعبة كصحيفة قريش الأولى ، لكنها هذه المرة باسم الإسلام ! وقد أطلع الله تعالى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليها فأخبرأصحابها بفعلتهم ، فارتعدت فرائصهم ! ونظر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغضب إلى أبي عبيدة وقال له : ( أصبحت أمين هذه الأمة ؟ ! )
--------------------------- 375 ---------------------------
لأنه كان مؤتمناً على نسخة الصحيفة ! لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اكتفى بإتمام الحجة عليهم ، وترك لهم حرية العمل !

2 - نزل جبرئيل بآية التبليغ وأوقف قافلة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كان جبرئيل ( عليه السلام ) ينزل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طوال حجة الوداع ، وقد يملي عليه عبارات من خطبه . وكان قال له في المدينة : إن الله عز وجل يأمرك أن تدل أمتك على وليهم ، فاعهد عهدك ، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث الأنبياء ، فورثه علياً وأقمه عَلَماً للناس ، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني ، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي . . الخ .
روى الكليني في الكافي ( 1 / 289 ) والقاضي المغربي في دعائم الإسلام ( 1 / 14 ، و : 2 / 276 ) أن رجلاً قال للإمام الباقر ( عليه السلام ) : « يا ابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري ، وخشيت أن يكذبني الناس ، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ؟
قال له أبو جعفر : فهل حدثكم بالرسالة ؟ قال : لا ، قال : أما والله إنه ليعلم ما هي ، ولكنه كتمها متعمداً ! قال الرجل : يا ابن رسول الله جعلني الله فداك ، وما هي ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه ، فلم يدروا ما الصلاة ، ولا كيف يصلون ، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يبين لهم كيف يصلون ، فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسَّراً . وفرض الصلاة في القرآن جملة ، ففسرها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنته ، وأعلمهم بالذي أمرهم به من الصلاة التي فرض الله عليهم .
وأمر بالزكاة فلم يدروا ما هي ففسرها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع ، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته وبينه لهم .
وفرض عليهم الصوم فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون ، ففسره لهم
--------------------------- 376 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبين لهم ما يتقون في الصوم وكيف يصومون .
وأمر بالحج فأمرالله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يفسر لهم كيف يحجون ، حتى أوضح لهم ذلك في سنته .
وأمر الله عز وجل بالولاية فقال : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . ففرض الله ولاية ولاة الأمر فلم يدروا ما هي ، فأمر الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يفسرلهم ما الولاية مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذرعاً ، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه : يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، يوم غدير خم ونادى لذلك : الصلاة جامعة ، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب .
وكانت الفرائض ينزل منها شئ بعد شئ ، تنزل الفريضة ، ثم تنزل الفريضة الأخرى . وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا .
قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة ، قد أكملت لكم هذه الفرائض » .
« فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية ، وأخاف عليهم أن يرتدوا ، فأنزل الله عز وجل : يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، في علي ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . فلم يجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بداً من أن جمع الناس بغدير خم فقال : أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ، أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي ، وأني مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، فأخذ بيد علي ( عليه السلام ) فأقامه ورفع يده بيده وقال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، ومن كنت وليه فهذا علي وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار . ثم قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فوجبت ولاية علي ( عليه السلام ) على كل مسلم ومسلمة » .
--------------------------- 377 ---------------------------
وفي تفسير العياشي : ( 1 / 333 ) أن الذي سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) « رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعشى ، كان يروي عن الحسن البصري . . إلى آخر ما تقدم » .
وفي شرح الأخبار ( 1 / 104 ) : « قال جعفر بن محمد ( عليه السلام ) عن أبيه عن آبائه صلوات الله عليهم أجمعين : إن آخرما أنزل الله عز وجل من الفرائض ولاية علي ( عليه السلام ) ، فخاف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن بلغها الناس أن يكذبوه ويرتد أكثرهم حسداً له ، لما علمه في صدور كثير منهم له ! فلما حج حجة الوداع وخطب بالناس بعرفة ، وقد اجتمعوا من كل أفق لشهود الحج معه ، علمهم في خطبته معالم دينهم ، وأوصاهم وقال في خطبته : إني خشيت ألا أراكم ولا تروني بعد يومي هذا ، في مقامي هذا ، وقد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، حبل ممدود من السماء إليكم طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، وأجمل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذكر الولاية في أهل بيته ، إذ علم أن ليس فيهم أحد ينازع فيها علياً ( عليه السلام ) وأن الناس إن سلموها لهم سلموها لعلي ( عليه السلام ) ، واتقى عليه وعليهم أن يقيمه هو بنفسه .
فلما قضى حجه وانصرف وصار إلى غدير خم ، أنزل الله عز وجل عليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فقام بولاية علي ونص عليه كما أمرالله تعالى ، فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً » .

3 - خطبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الغدير

جاءه جبرئيل ( عليه السلام ) بآية التبليغ وهو في كراع الغميم ، لخمس ساعات مضت من النهار ، فخشع لربه وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره إلى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم وصل إلى مشارف الجحفة ، وهي بلدةٌ عامرة على بعد ميلين أو أقل ، لكنه أراد تنفيذ الأمر الإلهي فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي ، ونادى مناديه : أيها الناس أجيبوا داعي الله ، وأمرهم أن يوقفوا من تأخر من المسلمين ، ويردوا
--------------------------- 378 ---------------------------
من تقدم منهم .
وتقدم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو دوحة غدير خم ، وأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبته وللصلاة في ذلك الهجير ، فنصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر ، ووضعوا عليها حدائج الإبل فصارت أكثر ارتفاعاً ، ووردوا ماء الغديرفشربوا منه وتوضؤوا .
ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير ، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة ، فجلس بعضهم في الشمس واستظل بثوبه ، أو استظل بظل ناقته .
عرفوا أن أمراً حدث وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيخطب ، فقد نزل عليه وحيٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير ، قبل محطة الجحفة القريبة !
وصعد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منبر الأحجار والأحداج ، وبدأ باسم الله تعالى ، وأخذ يحمده ويثني عليه ، ويُشهد الله تعالى والناس على عبوديته المطلقة لربه العظيم عز وجل . ثم قدم لهم عذره لأنه اضطرأن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر ، ولم يمهلهم إلى الجحفة المناسبة لنزول قافلة كبيرة ، وكلفهم الاستماع إليه في حرالظهيرة !
أخبرهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( الكافي : 1 / 290 ) أن جبرئيل ( عليه السلام ) أمره أن يفسرللمسلمين فريضة الولاية ، ويقيم علياً ( عليه السلام ) إماماً بعده للناس ، فقال لهم : ( إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وخفت الناس أن يكذبوني ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي ، يقول قائل ويقول قائل ! فأتتني عزيمة من الله بَتْلة « قاطعة » في هذا المكان ، وتوعدني إن لم أبلِّغها ليعذبني ! وقد ضمن لي العصمة من الناس ، وهو الكافي الكريم ، فأوحى إلي : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .
ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا إله إلا هو ، لا يؤمن مكره ، ولا يخاف جوره ، أقرُّ له على نفسي بالعبودية ، وأشهد له بالربوبية ، وأؤدي ما أوحى إليَّ ، حذراً من أن لا أفعل ، فتحل بي منه قارعةٌ ، لايدفعها عني أحدٌ ، وإن عظمت حيلته .
أيها الناس : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت . فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن
--------------------------- 379 ---------------------------
الجنة حقٌ ، وأن النار حقٌ ، وأن البعث حق ؟
قالوا : بلى يا رسول الله . فأومأ رسول الله إلى صدره وقال : وأنا معكم .
قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا لكم فرط وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وسعته ما بين صنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب قِدْحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين . فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان ؟
قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الأكبر كتاب الله ، طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا . والأصغر : عترتي أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي « ثلاثاً » وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، سألت ربي ذلك لهما ، فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : قم يا علي ، فقام علي عن يمين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار .
فاعلموا معاشرالناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً ، مفترضةً طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادي والحاضر ، وعلى الأعجمي والعربي ، والحر والمملوك ، والصغير والكبير .
فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه » !
ثم أفاض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيان مكانة علي والعترة والأئمة الاثني عشر من بعده : علي والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين ( عليهم السلام ) واحدٌ بعد واحد مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا عليَّ حوضي .
ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه فشهدوا له ، وأمرهم أن يبلغ
--------------------------- 380 ---------------------------
الشاهد الغائب فوعدوه . وقام إليه آخرون فسألوه ، فأجابهم .
وما أن أتم خطبته حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا ، فكبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي وولاية علي بعدي .
وجاء حسان بن ثابت وقال : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً :
يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُمْ * بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليُّكُمْ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليُّ فإنني * رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى علياًً معاديا
وأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن تنصب لعلي ( عليه السلام ) خيمة ويهنئه المسلمون بولايته عليهم ، ويبايعوه على الولاية ، وأمر نساءه فجئن إلى باب الخيمة ، وهنأنه وبايعنه ، فأمر علي ( عليه السلام ) أن يوضع لهن تِبُّ ماء ، أي سطل فيه ماء ، فغمسن أيديهن فيه علامة البيعة ، ثم غمس يده بعدهن علامة قبولها !
وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ! « راجع : كمال الدين / 276 ، وأمالي الصدوق / 50 ، والاحتجاج : 1 / 70 ، وروضة الواعظين / 89 ، والمسترشد / 117 والكافي : 4 / 148 ، والفقيه : 2 / 90 ، وتهذيب الأحكام : 4 / 305 ، وثواب الأعمال / 74 . وغيرها » .
وفي الغيبة للنعماني / 74 ، في جواب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمعاوية : « فنصبني رسول الله بغديرخم وقال : إن الله عز وجل أرسلني برسالة ضاق بها صدري ، وظننت أن الناس يكذبوني ، فأوعدني لأبلغنها أو ليعذبني ! قم يا علي ، ثم نادى بأعلى صوته بعد أن أمر أن ينادي بالصلاة جامعة ، فصلى بهم الظهر ، ثم قال :
أيها الناس ، إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم منهم بأنفسهم ، من
--------------------------- 381 ---------------------------
كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
فقام إليه سلمان الفارسي فقال : يا رسول الله ، ولاءُ ماذا ؟ فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ، فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا .
فقال له سلمان : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآيات في علي ؟ قال : بل فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة . فقال : يا رسول الله بيِّنهم لي .
قال : عليٌّ أخي ووصيي وصهري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي ، وأحد عشر إماماً من ولدي ، أولهم ابني حسن ، ثم ابني حسين ، ثم تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد ، هم مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض . . .
يا أيها الناس ، إني قد أعلمتكم مفزعكم بعدي ، وإمامكم ووليكم وهاديكم بعدي ، وهو علي بن أبي طالب أخي ، وهو فيكم بمنزلتي ، فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم ، فإن عنده جميع ما علمني الله عز وجل ، أمرني الله عز وجل أن أعلمه إياه ، وأن أعلمكم أنه عنده ، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه ، ولا تعلموهم ولا تتقدموا عليهم ، ولا تتخلفوا عنهم ، فإنهم مع الحق والحق معهم ، لا يزايلهم ولا يزايلونه » .
أقول : روت مصادرنا خطبة الغدير بروايات يصل بعضها إلى صفحات ، وروتها مصادر السلطة بصفحة أو بسطور ، والمطلب الأساس فيها ولاية علي ( عليه السلام ) ، وبخبخة عمر بن الخطاب ، وحديث الثقلين ! راجع : كمال الدين / 276 ، والاحتجاج : 1 / 70 ، والمسترشد / 117 ، وغيرها .

4 - أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنصب خيمة لعلي ( عليه السلام ) وتهنئته ومبايعته

عصم الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الناس يوم الغدير ! فكمَّمَ أفواه قريش عن المعارضة وفتحها للموافقة ، فقالوا جميعاً : نشهد أنك بلغت عن ربك ، وأنك نعم الرسول ، سمعنا لك
--------------------------- 382 ---------------------------
وأطعنا ! وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي !
ثم أصغوا إلى قصيدة حسان في وصف إبلاغ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاية علي ( عليه السلام ) بأمر ربه .
ثم تقاطروا مع المهنئين إلى خيمة علي ( عليه السلام ) ، واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر ، ثم من بعد صلاة المغرب والعشاء ليلة التاسع عشر من ذي الحجة ، فقد بات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غدير خم ، وقيل بقي فيه يومان !
قال المفيد في مسارِّ الشيعة / 38 : « وفي اليوم الثامن عشر منه ، سنة عشر من الهجرة عقد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لمولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب العهد بالإمامة في رقاب الأمة كافة ، وذلك بغديرخم عند مرجعه من حجة الوداع ، حين جمع الناس فخطبهم ووعظهم ونعى إليهم نفسه ، ثم قررهم على فرض طاعته حسب ما نزل به القرآن وقال لهم . . . ثم نزل فأمر الكافة بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين ، تهنئة له بالمقام ، وكان أول من هنأه بذلك عمر بن الخطاب » !
وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 176 ) : « ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض ، فصلى بهم الظهر ، وجلس ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في خيمته وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنؤوه بالمقام ، ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك كلهم ، ثم أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن .
وكان ممن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب ، فأظهر له المسرة به ، وقال فيما قال : بخٍ بخٍ يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » !
وفي كتاب سُلَيم بن قيس / 356 : « وأمر بنصب خيمة وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يدخل فيها ، وأول من أمرهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هما أبو بكر وعمر ، فلم يقوما إلا بعد ما سألا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : هل من أمر الله هذه البيعة ؟ فأجابهما : نعم من أمرالله جل وعلا واعلما أن من نقض هذه البيعة كافر ، ومن لم يطع علياً كافر ، فإن قول علي قولي ، وأمره أمري ، فمن خالف قول علي وأمره فقد خالفني » !
--------------------------- 383 ---------------------------
وفي مناقب آل أبي طالب « 2 / 237 » عن أبي سعيد الخدري قال : « ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا قوم هنئوني هنئوني ، إن الله خصني بالنبوة ، وخص أهل بيتي بالإمامة » .

5 - حديث بيعة علي ( عليه السلام ) في الغدير صحيح متواتر عندهم

سمعت أحد علماء السلطة في عصرنا يقول متعجباً : لم يكن للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أي شغل ولا أي هدف آخر في نزوله وخطبته في غدير خم ، إلا إعلان ولاية علي ! فقد أوقف المسلمين في الهجير ، قبل منزل الجحفة الواسع ، لغرض واحد فقط !
كان يقول ذلك متعجباً متحيراً ! ومن هنا كان حديث الغدير يُحيرالمنكرين لأنه عندهم صحيحٌ متواترٌ ، ومن أصح رواياته عندهم على شرط الشيخين حديث أبي هريرة في فضل صوم يوم الغدير شكراً لله تعالى ونصه : « من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم ، لما أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه . فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ! فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا » . « تاريخ دمشق : 42 / 233 ، وتاريخ بغداد : 8 / 248 ، والمنتظم : 5 / 233 »
وقد شهد نقادهم بأن كل رواته ثقات ، واستقصى السيد الميلاني مصادره ، وكلماتهم فيه ، في نفحات الأزهار : 8 / 262 » .
وقال الأميني في الغدير « 1 / 236 » : « رواية أبي هريرة صحيحة الإسناد عند أساتذة الفن ، منصوص على رجالها بالتوثيق . . لكن مع صحتها على شرط البخاري ومسلم ، حاول الذهبي الطعن فيها بدون دليل ، إلا التعصب !
وأما ابن كثير فزوَّر الحديث وكَذَبَ جهاراً نهاراً ! فزعم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيَّن في خطبته يوم الغدير أشياء ، ثم عالج مشكلة كانت بين علي وكثير من الناس ! وكلاهما كذب ، فلم يبين فيها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أي شئ إلا ما يتصل بولاية علي ( عليه السلام ) ،
--------------------------- 384 ---------------------------
ولم يكن فيها أي معالجة لمشكلة مزعومة بين علي ( عليه السلام ) وأحد من الصحابة !
قال ابن كثير الناصبي في النهاية « 5 / 4089 : « لما تفرغ النبي من بيان المناسك ورجع إلى المدينة ، خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغديرخم ، تحت شجرة هناك ، فبين فيها أشياء ، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه ، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه . وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري ، فجمع فيه مجلدين ، وأورد فيها طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر ، أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة » .
يزعم ابن كثير أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين على علي ( عليه السلام ) متحاملين عليه ، فأوقفهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غدير خم ليرضِّيهم عنه و ( يزيح ما في نفوس كثير من الناس منه ) ! و « أشياء » من هذا القبيل !
وقلَّد العجلوني ابن كثير في التزوير « كشف الخفاء : 2 / 258 » لكنه نقل تكذيب الذهبي للحديث بدليل واهٍ ، ولم يؤيده ! وارتكب التحريف قبلهم الحسن البصري ، وهو من رواة السلطة القدماء ، لكن ابن كثير فاق الجميع ! ولهذا يحبه الوهابية !
ومن روايات الغدير الصحيحة عندهم ، رواية مسلم في صحيحه « 7 / 122 » : « عن يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة ، وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلفونيه . ثم قال : قام رسول الله يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في
--------------------------- 385 ---------------------------
أهل بيتي ثلاثاً !
فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ؟ ! ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم » . ورواه أحمد ( 2 / 366 ) والحاكم ( 2 / 148 ) وفيهما : لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض . وهذا إخبارٌ من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الصادق المصدوق بوجود إمام من أهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى يوم القيامة .

6 - لماذا غدير خم قبل منزل الجحفة ؟

لماذا أنزل الله تعالى على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية التبليغ في الطريق والصحراء والظهيرة ؟ كأنه يقول بذلك لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : المدينة أيها الرسول مثل مكة ، فإن بلَّغت ولاية عترتك فيها ، فقد تعلن قريش رِدًّتها ! فموقفها من عترتك جازم مستميت .
وبما أن واجبك مجرد التبليغ ، فهو ممكنٌ هنا ، فبلغ ولا تؤخر ، وسوف أعصمك من قريش ، وأقبض على قلوبها ، وألجم شياطينها الحاضرين ، وأعالج آثار إعلانك ولاية علي ، وأحفظ نبوتك فيها .
ثم أُمْلِي لها بعدك فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك ، حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد ! ثم أبعث المهدي من ولدك ، فيملأ الأرض عدلاً ، كما ملأها أئمة الضلال جوراً ! ولا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون .
يريد سبحانه للرسالة أن تصل وللحجة أن تقام ، وأن تبقى نبوة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) محفوظة ، فأسكت قريشاً في غدير خم ، وكمَّمَ أفواهها .
ويظهرأن قريشاً تفاجأت يوم الغدير ، ثم أقنعت نفسها بأن المسألة إعلانٌ كإعلانات حجة الوداع ، والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما زال حياًّ ، فإن مات حان وقت العمل . وقد أكد لها صحة سكوتها أن النضر بن الحارث اعترض فأرسل الله عليه حجراً من سجيل فأهلكه ، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته !
--------------------------- 386 ---------------------------
أما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكان تفكيره رسولياً ، وليس قرشياً ، فقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره ، واتقى غضبه وعذابه ، واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع ، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي ، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة ، فأخبره بأن مهمته وصلت إلى ختامها .
كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عيد ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه ، فرضي عنه ، وقد تكون أصعب رسالة عليه في عمره النبوي على الإطلاق !
وهي الرسالة التي قال الحسن البصري إن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها ، فخاف ربه وصدع بها .
ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راغَ عنها ولم يخبرهم ما هي ! فصار إخوة الحسن البصري يروغون عنها ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
كان فكر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ربانياً على مستوى الخطة الإلهية ، فهذا هو منطق التبليغ وحسب ! ولذلك لم يشاورهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيعة علي ، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج إلى مشورتهم ، ولا بيعتهم ، ولا رضاهم . فالمشورة فيما جعله الله لهم ولم يقض فيه أمراً ، أما إذا قضى الأمر فلا خيرة : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا .
وإذا قضى الله الأمر فلابيعة ، إلا بيعة الإقرار بما قضاه ، والتهنئة كذلك إقراراً بالاختيار الإلهي ، وإعلان الرضاً به ، ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم ، فإنما على الرسول أن يبلغهم ، وحسابهم على من يملك الدنيا والآخرة ويفعل ما يريد !
فتبليغ ولاية علي ( عليه السلام ) اصطفاء ، وتهنئته اعتراف . والبيعة تعهد بالالتزام .

7 - حجر من سجيل للمعترضين من قريش !

معنى قوله تعالى : « وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » أنه تعالى تكفل بحفظ نبوة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن لا تقوم ضده حركة ردة إذا بلغ رسالة ربه في علي والعترة ( عليهم السلام ) .
فهو ضمان لأن تسكت قريش على تبليغ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولاية علي ( عليه السلام ) فعلاً ، وليس
--------------------------- 387 ---------------------------
ضمان طاعتها وعدم اعتراضها ، ولا عدم محاولتها قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مجدداً !
لذلك وقعت محاولة قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في طريق عودته من حجة الوداع وبعد وصوله إلى المدينة ، لكن لم تحدث حركة ردة علنية عن نبوته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقد روت مصادرنا وبعض مصادرهم ما قاله المعترضون القرشيون ! وكيف نزل العذاب على المعترض ! وقد بحثنا ذلك في كتابنا آيات الغدير .
ونكتفي هنا بما رواه في الكافي « 1 / 422 ، و : 8 / 57 » وتفسير فرات / 504 : « طُرحت الأقتاب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم غدير خم ، قال : فعلا عليها فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فاستلها فرفعها ، ثم قال : اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله . فقام إليه أعرابي من أوسط الناس فقال : يا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا ، وأنك رسول الله فصدقنا ، وأمرتنا بالصلاة فصلينا ، وبالصيام فصمنا ، وبالجهاد فجاهدنا ، وبالزكاة فأدينا ، قال : ولم يقنعك إلا أن أخذت بيد هذا الغلام على رؤوس الأشهاد فقلت : اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ! فهذا من الله أم منك ؟ !
قال : هذا من الله لامني ! قال : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا من الله لاعنك ! قال : آلله الذي لا إله إلاهو لهذا من الله لامني . ثم قال ثالثة : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا من ربك لا منك ؟ قال : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا من ربي لا مني .
قال : فقام الأعرابي مسرعاً إلى بعيره وهو يقول : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . قال : فما استتم الأعرابي الكلمات حتى نزلت عليه نار من السماء فأحرقته ، وأنزل الله في عقب ذلك : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع ٍ . لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ » .
وأقدم من روى ذلك من أئمة السنيين أبو عبيد الهروي ( ت 223 ) في : غريب القرآن ، قال : « لما بَلَّغَ رسول بغدير خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد أتى جابر بن
--------------------------- 388 ---------------------------
النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ، فقال : يا محمد ! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك . ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شئ منك أم من الله ؟ ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : والذي لا إله إلا هو إن هذا
إلا من الله .
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره ، وقتله ، وأنزل الله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . . الآية » .

8 - نزلت ثلاث آيات في بيعة الغدير

أولها قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . « » المائدة : 67 » .
والثانية : قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا . « المائدة : 3 » نزلت بعد أن خطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونصب علياً ( عليه السلام ) خليفته .
والثالثة : قوله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . « المعارج : 1 - 2 » عندما اعترض على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معترض من قريش . وفي كل منها حديث صحيح عندهم ، وقد فصلناها في رسالة : تفسير آيات الغدير .

9 - المنطق النبوي حقق هدفه وفضح قريشاً

بعد بيعة السقيفة ، قرر علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة ، التي شرط فيها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحموه وأهله وذريته مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ! وكانت فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها ، فأركبها علي ( عليه السلام ) على دابة ، وأخذ بيد الحسن والحسين ، وجال على بيوت رؤساء الأنصار في ليلتين ،
وكانت أكثرما تكلمهم فاطمة ( عليها السلام ) فقال لها بعضهم : يا بنت رسول الله ، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي‌بكر ، ما عدلنا بعلي أحداً ! فقالت ( عليها السلام ) : وهل ترك أبي يوم غدير
--------------------------- 389 ---------------------------
خمٍّ لأحد عذراً ! ( الخصال 1 / 173 ) .
إن منطق الزهراء ( عليها السلام ) منطق أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولذلك قالت لهم : إن الله يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم ، وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة ، ومنها حق زوجها علي وولديها في الولاية على الأمة بعد نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قالت لهم ، لاعذر لكم ، فلا تخدعوا أنفسكم ! فقد بلَّغ أبي عن ربه ، وأخبركم أن المالك لكم سبحانه قضى الأمر ، وجعل لأمته ولياً ، فمتى كان لكم الخيرة أن تختاروا زيداً أو عمرواً ، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً !
فالحجة عليكم تامةٌ من أبي ومني ، ونعم الموعدُ القيامة ، والزعيم محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعند الساعة يخسرالمبطلون !
إن إعلان غدير خم عملٌ ربانيٌّ بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية . والأعمال المقابلة له قوية بمنطق العمل السياسي وفرض الأمر الواقع . والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي ، لكنها غلبةٌ آنية بلا حجة ولا عقل ، ولو استمرت سنين أو قروناً ، أو إلى ظهور المهدي الموعود ( عليه السلام ) . ( راجع ما كتبناه في بيعة الغدير في السيرة النبوية ) .
* *
--------------------------- 390 ---------------------------

الفصل الحادي والعشرون: محاولة اغتيال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد تبوك والغدير

1 - محاولة الصحابة ( العدول ) اغتيال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قام القرشيون بمحاولتين لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واستعملوا نفس الخطة والأدوات .
ففي رجوعه من تبوك صعدت مجموعة في الليل إلى أعلى الجبل ، ولما وصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مضيق العقبة دحرجوا عليه الصخور ليقتلوه ، فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) وضرب بجناحه فأضاء الجبل وكشفهم ، فهربوا ونزلوا من الجبل واختفوا في الجيش !
وكانت خطتهم أن يقتلوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم يبكون عليه مع المسلمين ، ويقدموا أحدهم ويصفقوا على يده ليكون خليفة ! قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ . ( التوبة : 73 - 75 )
وهؤلاء الكفار في الآية صحابة ، لأن الذين أغناهم الله ورسوله من فضله هم الصحابة فقط . وقد جعلت الكافرين والمنافقين جبهة واحدة وأمرت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بخطاب واحد معهم ، لأنهم مجموعة واحدة تتصف بالنفاق وبالكفر معاً . فقد قالوا كلمة الكفر ، وأرادوا قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وهو أشد من كلمة الكفر !
وقد وقعت محاولتهم في رجوعه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تبوك لما وصل إلى طريقين أحدهما عقبة في جبل عالٍ ، والآخر طريق سهل يدورحول الجبل ، فكان لا بد للجيش بعدده البالغ ثلاثين ألفاً وأثقاله أن يدور حول الجبل . أما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقررأن يسلك العقبة ، ونادى مناديه أن لا يأخذ العقبة أحد ، وكان هذا الاحتياط الأمني ضرورياً لحفظ حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 391 ---------------------------
وهنا تسلل القتلة خمسة عشر صحابياً أو تسعة عشر ، وصعدوا الجبل وكمنوا في نقطة مناسبة حتى تصل ناقة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المضيق فيرمون عليه الصخور ويقتلونه ، ثم يبكون عليه مع المسلمين ، ويصفقون على يد أحدهم ويبايعونه بالخلافة !
فأرسل الله جبرئيل ( عليه السلام ) وكشفهم وناداهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأسمائهم ولعنهم بأسمائهم واحداً واحداً ! فانسلوا في الظلام وعادوا إلى الجيش ! وأمر الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتم أسماءهم ولا يعاقبهم لئلا تعلن قريش ردتها فترتد العرب !
والعجب هنا أن القرآن تحدث عن المحاولة باختصار ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يعاقبهم وأخفى أسماءهم بأمر ربه ! وأن قريشاً أخفت المحاولة وأبطالها ، وإذا فسرت الآية تقول : حاول المنافقون قتله وكفي ! وما ذلك إلا لأن المتآمرين من شخصياتها ! لكن الأئمة ( عليهم السلام ) ، وحذيفة وعماراً ، اللذين كانا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حدثا بذلك وكانا يقولان الأسماء سراً ! وكان بعضهم يسألهم هل اسمي فيهم !
وأوضح ما وصل الينا ما رواه ابن عساكر من عتب أبي موسى على عمار وجوابه له ، فقد روى في تاريخ دمشق ( 32 / 93 ) عن حكيم قال : « كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال : مالي ولك ، ألست أخاك ؟ قال : ما أدري ، إلا أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يلعنك ليلة الجبل ! قال : إنه قد استغفر لي ! قال عمار : قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار ) ! وليلة الجبل ليلة مؤامرة العقبة !
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة عليَّ . اللهم احفظ حسناً وحسيناً ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حياً ، فإذا توفيتني فأنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شئ شهيد .
قال له قائل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت لو كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم ، وآنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ؟
قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلتُ ! إن العرب كرهت أمر محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفَّرت
--------------------------- 392 ---------------------------
به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته .
ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً .
ثم فتح الله عليها الفتوح ، فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا إنه حق لما كان كذا ، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف .
وما عسى أن يكون الولد لو كان ! إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يقربني بما تعلمونه من القرب للنسب واللحمة ، بل للجهاد والنصيحة ، أفتراه لو كان له ولد هل كان يفعل ما فعلت ! وكذاك لم يكن يُقرب ما قُربت ، ثم لم يكن عند قريش والعرب سبباً للحظوة والمنزلة ، بل للحرمان والجفوة .
اللهم إنك تعلم إني لم أرد الإمرة ، ولاعلو الملك والرياسة ، وإنما أردت القيام بحدودك ، والأداء لشرعك ، ووضع الأمور في مواضعها ، وتوفير الحقوق على أهلها ، والمضي على منهاج نبيك ، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك ) . ( شرح النهج : 20 / 298 ) .
* *
أقول : فسرعلماؤنا قوله تعالى : وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا . بأنهم قالوا لا نطيعه في عترته ، بل نعزلهم ونأخذ خلافته ، وأن القائلين كلمة الكفر هم الذين أرادوا قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وهذا هو الأنسب بالآية وبمنطق الأمور . لكنك إذا راجعت مصادر علماء السلطة ترى التخبط والتحير ، في كلمة الكفر ومن قالها ! فبعضهم تجرأ وقال إنهم من قريش . قال الثعلبي ( 5 / 70 ) ( وقيل إنهم من قريش ، هموا في قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمنعه الله عز وجل ) .
--------------------------- 393 ---------------------------
وغضب نافع بن جبير القرشي فنفى أن يكونوا من قريش : ( قال : لم يُخبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأسماء المنافقين الذين تحسسوه ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة . وهم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي ، وكلهم من الأنصار ومن حلفائهم ) . ( الدر المنثور : 2 / 259 ) !
وتفاوتت كلماتهم في تفسير كلمة الكفر فقال بعضهم إنها كلمة الإكراه على الكفر ، ولو كانت إكراهاً لما قال بعدها وكفروا . وبعضهم كمجاهد ومقاتل قال إنها كلمة قالها أنصاري مغمور هو الجلاس بن سويد الصامت ، قال : إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن أشر من الحمير ! وقال النسفي : فتاب الجلاس وحسنت توبته !
وروى الطبري أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : والذي نفسي بيده لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله . فقال أحدهم : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .
وقال الباقلاني : كلمة الكفر شتم رب العالمين . وقال إن الله تعبدنا بلعن من ظهر منه كلمة الكفر . وقال عبد الرزاق وابن عطية وابن كثير : هي قول ابن أبي سلول : سمن كلبك يأكلك .
وقال الواحدي والسمعاني والبغوي : هي سب الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطعنهم في الدين . وقال الزمخشري : هي قول بعضهم لاتنفروا مع رسول الله في الحر . وقال ابن العربي : وجملة ذلك اعتقادهم وقولهم إنه ليس بنبي .
وقال العز بن عبد السلام : هي قولهم محمد ليس بنبي . وقال الفخر الرازي : والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة ، وذلك هو قول كلمة الكفر ، وهذا القول اختيار الزجاج .
وتلاحظ فيها محاولة تضييع معنى الآية ، وإبعادها عن قريش ، وعن الصحابة العدول ، الذين لم ينجحوا بالتقرب إلى الله بقتل نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

2 - أكثر قريش لم يؤمنوا بل نافقوا !

فقد نص على ذلك قوله تعالى في سورة ياسين : لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ . لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . أي سيبقى أكثر العرب الذين أرسلت إليهم كفاراً ، ولن يؤمنوا لأنهم حق عليهم قول ربهم إنهم أهل النار !
--------------------------- 394 ---------------------------
وإن أعلنوا إسلامهم فهو نفاق : إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ . وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ انْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . وستؤمن منهم أقلية فقط : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ .
وهذه حقيقة مهمة : لكن عُبَّاد زعماء قريش إلى يومنا هذا ، كذَّبوا القرآن وقالوا لم يحقَّ القول على أكثرهم ، بل أسلموا وحسن إسلامهم ، وصار منهم خلفاء وأئمة أبرار يقتدون بهم ويمجدونهم ليل نهار ، ويكفرون من ينتقدهم !
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروا ما كانوا أبطنوا ) . ( نهج البلاغة : 3 / 16 ) .
لقد حاربت قريش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سنين طويلة فانتصر عليها ، فدخلت في الإسلام مرغمة ، ثم ثأرت منه فأخذت خلافته ، وعزلت عترته واضطهدتهم إلى يومنا هذا !
ثم صنعت تاريخ الإسلام الرسمي وأسست مذاهبه ودوَّنت فقهه ، وجعلت ولاية زعمائها جزءً من الدين بل كل الدين ، وربَّتْ عليه أجيال المسلمين إلى يومنا هذا !
ورغم الرقابة القرشية أفلتت روايات تؤيد ما قلناه في تفسير الآيات وأنهم لا يؤمنون ! قال الطبري في تفسيره ( 22 / 180 ) : ( يقول تعالى ذكره : لقد وجب العقاب على أكثرهم ، لأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون رسوله ) .
وقال ابن الجوزي في تفسيره ( 6 / 263 ) : ( قوله تعالى : على أكثرهم : يعني أهل مكة ، وهذه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة لكفرهم ) .
وقال الشوكاني ( 4 / 360 ) : ( ومعنى حَقَّ : ثبت ووجب القول ، أي العذاب على أكثرهم أي أكثر أهل مكة ، أو أكثر الكفار على الإطلاق ، أو أكثر كفار العرب ) .
وهؤلاء هم الأكثرية الذين قال الله عنهم : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً .
وقال عنهم تعالى : وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . أي في المستقبل .
--------------------------- 395 ---------------------------
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) إن سبب عدم إيمانهم رفضهم لعترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( الكافي ( 1 / 431 ) ( لقد حق القول على أكثرهم : ممن لا يقرون بولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والأئمة من بعده . فلما لم يقروا كانت عقوبتهم ما ذكر الله : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ) .
( راجع السيرة النبوية : مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .

3 - مؤامرة الصحابة ( العدول ) لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد الغدير

في بحار الأنوار : 2 / 97 : « فأقبل بعضهم على بعض وقالوا : إن محمداً يريد أن يجعل هذا الأمر في أهل بيته ، كسنة كسرى وقيصر ، إلى آخر الدهر ! لا والله مالكم في الحياة من حظ إن أفضى هذا الأمر إلى علي بن أبي طالب ! وإن محمداً عاملكم على ظاهركم وإن علياً يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم ! فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدموا رأيكم فيه . ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي ، فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ناقته على عقبة هرشى ، وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك ، فصرف الله الشر عن نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
وفي كتاب سُلَيم / 271 ، عن أبي ذر ( رحمه الله ) أن بعض الصحابة تعاقدوا في الكعبة في حجة الوداع وقالوا : « ما بال هذا الرجل ما زال يرفع خسيسة ابن عمه ! وقال أحدهما : إنه ليحسن أمر ابن عمه ! وقال الجميع : ما لنا عنده خير ما بقي عليٌّ » .
وفي الإقبال : 2 / 249 : « فلما كان في تلك الليلة قعد له ( عليه السلام ) أربعة عشر رجلاً في العقبة ليقتلوه ، وهي عقبة بين الجحفة والأبواء ، فقعد سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها لينفروا ناقته ، فلما أمسى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلى وارتحل ، وتقدم أصحابه وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ناقة ناجية ، فلما صعد العقبة ناداه جبرئيل : يا محمد إن فلاناً وفلاناً ، وسماهم كلهم » !
وفي تفسير القمي ( 1 / 174 ) : « فقال أصحابه الذين ارتدوا بعده : قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال ، وقال هاهنا ما قال ، وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له ! فاجتمعوا أربعة عشر نفراً وتآمروا على قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقعدوا في العقبة وهي عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء ، فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن
--------------------------- 396 ---------------------------
يسارها ، لينفروا ناقة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فلما جن الليل تقدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في تلك الليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته ، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل : يا محمد إن فلاناً وفلاناً وفلاناً قد قعدوا لك ، فنظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : من هذا خلفي ؟ فقال حذيفة اليماني : أنا يا رسول الله حذيفة بن اليمان ، قال : سمعت ما سمعت ؟ قال : بلى . قال : فاكتم ، ثم دنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم فناداهم بأسمائهم ، فلما سمعوا نداء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فروا ودخلوا في غمار الناس ، وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها ! ولحق الناس برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطلبوهم وانتهى رسول الله إلى رواحلهم فعرفهم ، فلما نزل قال : ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألايردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ! فجاؤوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحلفوا أنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً ولم يريدوه ولم يكتموا شيئاً عن رسول الله ، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا : أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا : من قتل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ . . .
فرجع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة وبقي بها محرم والنصف من صفرلايشتكي شيئاً ، ثم ابتدأ به الوجع الذي توفى فيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
أقول : لا بد أن تكون الآية نزلت مرة ثانية في محاولة الإغتيال الثانية في عودته من حجة الوداع ، وهو متعارف في آيات القرآن .
* *
--------------------------- 397 ---------------------------

الفصل الثاني والعشرون: حملة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لمصلحة علي ( عليه السلام ) بعد حجة الوداع

1 - تحذيره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الأئمة المضلين الذين يسفكون دماء عترته ( عليهم السلام ) !

كل من يقرأ خطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأحاديثه في حجة الوداع ، يجد أن أغلبها لغرض تركيز عترته وأهل بيته من بعده ( عليهم السلام ) . وقد رافق مديحه لهم وبيانه لمكانتهم : تحذيره الأمة من مخالفتهم والابتعاد عنهم . ورافق ذلك : الحكم بضلال من خالفهم ، وانحرافه ، ولعنه والبراءة منه ! وقد كتبنا في السيرة النبوية عدة مفردات من خطب حجة الوداع وأحاديثها .
ولما عاد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة في أواخر ذي الحجة ، أمضى بقية أيامه الشريفة فيها وهي نحو شهرين حسب روايتنا لوفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، تابعَ تأكيداته على خلافة علي والعترة ( عليهم السلام ) وقام بعدة أعمال مباشرة وغير مباشرة لمساندتهم ، في أقواله وخطبه ووصاياه ، ومنها طلبه من الصحابة أن يتعهدوا بتنفيذ ما يكتبه لهم حتى لا يضلوا أبداً ، ومنها إبعاده كل المخالفين لعلي ( عليه السلام ) في جيش أسامة إلى مؤتة .
ولما نزلت سورة النصر وهي من أواخر ما نزل من القرآن ، بعد سورة المائدة ، أو في أثنائها ، حذر النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الأئمة المضلين الذين يسفكون دماء عترته ( عليهم السلام ) فقال : ( يا عليُّ لقد جاء نصرالله والفتح ، فإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً . يا علي ، إن الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي ، كما كتب عليهم جهاد المشركين معي . فقلت : يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد ؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني ! فقلت : فعلى مَ نقاتلهم يا رسول الله ، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟
--------------------------- 398 ---------------------------
فقال : على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري واستحلالهم دماء عترتي .
قال : فقلت : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فسلِ الله تعجيلها لي . فقال : أجل قد كنت وعدتك الشهادة ، فكيف صبرك إذا خُضبت هذه من هذا وأومى إلى رأسي ولحيتي ؟ فقلت : يا رسول الله أمَّا إذا بَيَّنْتَ لي ما بينت فليس هذا بموطن صبر ، لكنه موطن بشرى وشكر !
فقال : أجل فأعدَّ للخصومة فإنك تخاصم أمتي . قلت : يا رسول الله أرشدني إلى الفَلَج . قال : إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان .
ياعليُّ إن الهدى هو اتَّباع أمر الله دون الهوى والرأي . وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن وأخذوا بالشبهات ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ، والبخس بالزكاة ، والسحت بالهدية !
قلت : يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك ، أهم أهل ردة أم أهل فتنة ؟ قال : هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل ! فقلت : يا رسول الله ، العدل منا أم من غيرنا ؟ فقال : بل منا ، بنا يفتح الله وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله » . ( أمالي الطوسي / 65 ) .
لكن أتباع الحكام حذفوا كلامه حول ظلم أهل بيته ( عليهم السلام ) ! فقد روت مصادرهم جزءً من هذا الحديث ، وحذفوا منه ذكر الأئمة المضلين ، على عادتهم في تغييب ذم النبي ( صلى الله عليه وآله ) للحكام بعده !
وفي أمالي الطوسي : 2 / 126 ، و 512 ، عن الحضرمي قال : « سمعت علياً ( عليه السلام ) يقول : كنا جلوساً عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو نائم ورأسه في حجري ، فتذاكرنا الدجال ، فاستيقظ النبي مُحْمَرّاً وجهه فقال : غيرالدجال أخوف عليكم من الدجال : الأئمة المضلون وسفك دماء عترتي من بعدي ، أنا حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم » .
وروى الحاكم ( 3 / 149 ) عن أبي هريرة قال : « نظرالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال : أنا حربٌ لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » . وصححه ، واستشهد له
--------------------------- 399 ---------------------------
بحديث مشابه عن زيد بن أرقم ، وفيه : « أنا حربٌ لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم » .
ورووه عن زيد بن أرقم ، والخدري ، وأم‌سلمة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بدأ بإطلاقه لما نزلت آية التطهير ، فكان أربعين صباحاً يذهب إلى باب دار علي ويقرأ الآية ويقول . . كما رووا أنه ( صلى الله عليه وآله ) قاله في مناسبات في المدينة ، وأكده في مرض وفاته . ثم قاله لعلي ( عليه السلام ) لما نزلت سورة النصر . راجع : مسند أحمد : 2 / 442 ، وابن ماجة : 1 / 52 ، والترمذي : 5 / 360 ، والزوائد : 9 / 169 ، وابن أبي شيبة : 7 / 512 ، وأمالي المحاملي / 447 ، وابن حبان : 15 / 434 ، وأوسط الطبراني : 3 / 179 ، و : 5 / 182 ، و : 7 / 197 ، والأصغر : 2 / 3 ، والأكبر : 3 / 40 ، و : 5 / 184 ، وفضائل فاطمة لابن شاهين / 29 ، وتفسير الثعلبي : 8 / 311 ، وشواهد التنزيل : 2 / 44 ، وتاريخ بغداد : 7 / 144 ، وتاريخ دمشق : 13 / 218 ، و : 14 / 144 ، وسير الذهبي : 2 / 122 .

2 - أطلق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعنته في حجة الوداع وتابع تأكيدها

من الأساليب النبوية المبتكرة ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد حديثه عن أهل بيته ( عليهم السلام ) ، أعلن مبدأ : « لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه أو منع أجيراً أجره » !
وقد رووا هذه اللعنة المشددة بعد حديث تشريع الخُمس لأهل‌البيت ( عليهم السلام ) .
ففي مسند أحمد ( 4 / 186 ) : « خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته ، فقال : ولاما يساوي هذه أو ما يزن هذه . لعن الله من ادعى إلى غيرأبيه ، أو تولى غير مواليه » !
وروى هذه اللعنة أيضاً ، الترمذي : 2 / 293 ، وأحمد : 4 / 239 ، والدارمي : 2 / 244 و 344 ، والبخاري : 2 / 221 ، و : 4 / 67 ، وابن ماجة ( 2 / 905 ) في خطبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع وهو على راحلته فقال : « ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل » .
وقد استعمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذا الأسلوب لكي تنقله الأجيال فتفهم الحقيقة ، ولا تطمسه قريش ! لأنه كلام مبطن . وروت مصادرهم أنه كتبه في صحيفة معلقة في ذؤابة سيفه الذي ورَّثه لعلي ( عليه السلام ) . رواه البخاري : 4 / 67 ، ومسلم : 4 / 115 ، بروايات ، وروى الترمذي : ( 3 / 297 ) أن في تلك الصحيفة : لعن من تولى غير مواليه ! أي
--------------------------- 400 ---------------------------
تولى غيره وغيرعلي ( عليه السلام ) لأنهما أبوا هذه الأمة بعد أبوة إبراهيم ( عليه السلام ) : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ . وهي أبوةٌ أعلى رتبةً من الأبوة الحقيقية .
ويدل على مقصوده ذلك : أن الولد الذي يهرب وينتسب إلى غير أبيه ثم يتوب ، تقبل توبته ، بينما لا يقبل توبة هذا الملعون هنا !
صرفٌ : أي توبة ، ولا عدلٌ : أي فدية ، فهي عقوبة الردة والخروج من الملة ، لا عقوبة ولد ينسب نفسه إلى غير أبيه !
وقد روت مصادرنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاله لما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وأظهروا عداوتهم لأهل بيته ( عليهم السلام ) وقالوا : إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا ، أي مزبلة ! فبلغ ذلك النبي فغضب وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يصعد المنبر ويجيبهم وقال له : « يا علي انطلق حتى تأتي مسجدي ثم تصعد منبري ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاة كثيرة ، ثم تقول : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : إن لعنة الله ، ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ، ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره !
فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي ، فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلاة كثيرة ، ثم قلت : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره .
قال : فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ، ولكنك جئت بكلام غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فرجعت إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبرته الخبر فقال : إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري فاحمد الله وأثن عليه وصل عليَّ ، ثم قل : أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ، ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم » !
( أمالي المفيد / 353 ، والطوسي / 123 ) .
--------------------------- 401 ---------------------------
وفي الكافي ( 1 / 293 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فلما قدم المدينة « من حجة الوداع » أتته الأنصارفقالوا : يا رسول الله إن الله جل ذكره قد أحسن إلينا ، وشرفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا ، فقد فرح الله صديقنا وكبت عدونا . وقد يأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم ، فيشمت بك العدو ، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا ، حتى إذا قدم عليك وفد وجدت ما تعطيهم . فلم يردَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليهم شيئاً ، وكان ينتظر مايأتيه من ربه ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) وقال : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ، ولم يقبل أموالهم ، فقال المنافقون : ما أنزل الله هذا على محمد ، وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه ويحمل علينا أهل بيته ! يقول أمس : من كنت مولاه فعلي مولاه واليوم : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . ثم [ لما ] نزل عليه آية الخمس فقالوا يريد أن يعطيهم أموالنا وفيأنا !
ثم أتاه جبرئيل فقال : يا محمد إنك قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك ، فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة عند علي ، فإني لم أترك الأرض إلا ولي فيها عَلَمٌ تُعرف به طاعتي ، وتعرف به ولايتي ، ويكون حجة لمن يولد بين قبض النبي إلى خروج النبي الآخر . قال : فأوصى إليه بالاسم الأكبر ، وميراث العلم ، وآثار علم النبوة . وأوصى إليه بألف كلمة ، وألف باب ، يفتح كل كلمة وكل باب ، ألف كلمة وألف باب » .
وفي الإرشاد : 1 / 179 ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « أيها الناس ، إني فرطكم وأنتم واردون عليَّ الحوض ، ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني ، وسألت ربي ذلك فأعطانيه . ألا وإني قد تركتهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس ، لا ألفينكم بعدي ترجعون كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار ! ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي ، يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . فكان يقوم مجلساً
--------------------------- 402 ---------------------------
بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه . ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة » .
أقول : أكد القرآن على أن الأنبياء ( عليهم السلام ) كانوا يقولون لأممهم إنهم لا يطلبون منهم أجراً على تبليغ الرسالة ، وكذلك نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال تعالى : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَإِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ . وقال تعالى : وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَإِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ .
لكنه خص هذه الأمة بأن جعل أجر نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مودتها وطاعتها لعترته ( عليهم السلام ) فقال : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ . « الشورى : 23 » . ثم بين لهم أن هذا الأجر هو السبيل فقط إلى رضاه تعالى وثوابه فقال : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً .
ثم قال لهم إن هذا الأجر الذي فرضه عليهم ليس غرماً بل غنمٌ لهم ، فقال : قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ . أي أنتم المنتفعون به لأنكم بمودتهم وطاعتهم لا تضلون .
وفي تفسير فرات / 392 ، عن عطاء بن أبي رباح قال : « قلت لفاطمة بنت الحسين : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث ، واحتج به على الناس . قالت : نعم ، أخبرني أبي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان نازلاً بالمدينة وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فريضة يستعين بها على من أتاه ، فأتوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقالوا : قد رأينا ما ينوبك من النوائب ، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك . قال : فأطرق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طويلاً ثم رفع رأسه فقال : إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً ، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ ، وإن أمرت به أعلمتكم . قال : فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك ، وقد أنزل الله عليهم فريضة : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . . قال فخرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد المطلب .
قال : فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى علي بن أبي طالب أن إصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ! ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ! ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار !
قال : فقام رجل وقال : يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم .
--------------------------- 403 ---------------------------
فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره ، فقال رسول الله : ويل لقريش من تأويلهن ، ثلاث مرات ! ثم قال : يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبوا المؤمنين » !
أقول : يظهر أنهم قرشيون جاؤوا إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد مجئ الأنصار ، وطلبوا أن يفرضوا له فريضة في أموالهم ، فأجابهم بآية المودة في القربى ، فنكصوا !
وروى ابن طاووس في الطرف ( 1 / 187 ) عن الإمام الكاظم عن آبائه ( عليهم السلام ) والبياضي في الصراط المستقيم ( 2 / 94 ) : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أمرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أخرج فأنادي في الناس : ألا من ظلم أجيراً أجرته فعليه لعنة الله ، ألا من تولى غير مواليه فعليه لعنة الله . ألا من سب أبويه فعليه لعنة الله ! فنادى بذلك ، فدخل عمر وجماعة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقالوا : هل من تفسير لما نادى به ؟ قال : نعم ، إن الله يقول : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . فمن ظلمنا فعليه لعنة الله .
فلما خرجوا قال عمر : يا أصحاب محمد ، ما أكد النبي عليكم الولاية لعلي بغدير خم ولا غيره ، بأشد من تأكيده في يومنا هذا ! قال خباب بن الأرت : كان ذلك قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعة عشر يوماً ) .
وفي الكافي ( 1 / 293 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أوصى موسى ( عليه السلام ) إلى يوشع بن نون ، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون ، ولم يوص إلى ولده ولا إلى ولد موسى ، إن الله تعالى له الخيرة ، يختار من يشاء ممن يشاء .
وبشرموسى ويوشع بالمسيح ، فلما أن بعث الله عز وجل المسيح قال المسيح لهم : إنه سوف يأتي من بعدي نبي اسمه أحمد ، من ولد إسماعيل ، يجئ بتصديقي وتصديقكم ، وعذري وعذركم . وجرت من بعده في الحواريين في المستحفظين ، وإنما سماهم الله تعالى المستحفظين ، لأنهم استحفظوا الاسم الأكبر وهو الكتاب الذي يعلم به علم كل شئ ، الذي كان مع الأنبياء صلوات الله عليهم . يقول الله تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ . الكتاب الاسم الأكبر . فلم تزل الوصية في عالم بعد عالم حتى دفعوها إلى محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكان رسول الله
--------------------------- 404 ---------------------------
يتألفهم ويستعين ببعضهم على بعض ، ولا يزال يخرج لهم شيئاً في فضل وصيه . وقال : إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله عز وجل أهل بيتي عترتي . فلا تسبقوهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم . فوقعت الحجة بقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبالكتاب الذي يقرأه الناس . فلم يزل يلقي فضل أهل بيته بالكلام ويبين لهم القرآن . فلما رجع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل فقال : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ . . فنادى الناس ، فوقعت حسيكة النفاق في قلوب القوم ، وقالوا : ما أنزل الله جل ذكره هذا على محمد قط ، وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه » !

3 - جيش أسامة لإفراغ المدينة من خصوم علي ( عليه السلام )

في الإرشاد : 1 / 179 : « ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه ( عليه السلام ) على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره ، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من يختلف في الرئاسة ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة ، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ، ولا ينازعه في حقه منازع .
فعقد له الأمرة على من ذكرناه وجدَّ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في إخراجهم ، فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف ، وحث الناس على الخروج إليه والمسير معه ، وحذرهم من التلوُّم والإبطاء عنه . فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها ، فلما أحس بالمرض الذي عراه ، أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع ، فقال لمن تبعه : إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع ، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم فقال ( عليه السلام ) : السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ! ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً ، وأقبل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : إن جبرئيل ( عليه السلام ) كان يعرض عليَّ القرآن كل سنة مرة ، وقد عرضه عليَّ العام مرتين ، ولا أراه إلا لحضور أجلي » .
وفي إعلام الورى : 1 / 263 : « ولما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المدينة من حج الوداع بعث بعده
--------------------------- 405 ---------------------------
أسامة بن زيد ، وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه ، وقال له : أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم . وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان المهاجرين ووجوه الأنصار ، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
وعسكر أسامة بالجرف فاشتكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شكواه التي توفي فيها ، وكان يقول في مرضه : نفذوا جيش أسامة ويكرر ذلك ، وإنما فعل ذلك لئلا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة ويطمع في الإمارة ، ويستوسق الأمر لأهله » .
وفي كتاب سليم بن قيس ( رحمه الله ) / 424 : « وفي ذلك الجيش أبو بكر وعمر ، فقال كل واحد منهما : لا ينتهي يستعمل علينا هذا الصبي العبد » !
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 8 / 115 ) وهو من كبار أئمة السلطة : « وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهرأن يكون أبو بكر وعمر في بعث أسامة ، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي ، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد ، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ، ولفظه : بدأ برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال : أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك ، فقد وليتك هذا الجيش . فذكر القصة وفيها : لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر . وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش ثلاثة آلاف ، فيهم سبع مائة من قريش » .
أقول : أوردنا كلام ابن حجر لإثبات أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تعمد أن يُفرغ المدينة من القرشيين ، ومن كل من يمكن أن يعارض استخلاف علي ( عليه السلام ) . وتعمد أن يؤمِّر عليهم أسامة الشاب الأسود ابن السبع عشرة سنة ، حتى لايعترض أحد على سن علي ( عليه السلام ) الذي كان في الثالثة وثلاثين من عمره . كما نلاحظ أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبرعن النتائج السيئة لما يجري حوله ، وأطلق تحذيره لأجيال الأمة من الفتن التي سيسببها طمع قريش في خلافته !
وروى ابن هشام « 4 / 1057 » قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعائشة لما رجع من البقيع وتحدث عن
--------------------------- 406 ---------------------------
الفتن : « ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك ؟ قالت قلت : والله لكأني بك لو قد فعلتُ ذلك ، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك » !
وهذا يدل على أفقه العالي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنه يفكر بنجاة عائشة في الآخرة ، بينما هي تعيش قبل كل شئ وبعد كل شئ الغيرة من ضرتها !

4 - وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عملهم لإفشال جيش أسامة

في الخصال / 371 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في جوابه للحبر اليهودي ، قال ( عليه السلام ) : « وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته . . ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد ، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده . ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد !
فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به ، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم ، فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ! فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول ، وبتجهيزه عن
--------------------------- 407 ---------------------------
سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها » .
وفي المراجعات / 365 : « سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو الروم ، وهي آخر السرايا على عهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد اهتم فيها بأبي وأمي اهتماماً عظيماً ، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها وحضهم على ذلك ، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهافاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم ، فلم يُبق أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار ، كأبي‌بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم ، إلا وقد عبأه بالجيش . . فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف ، ثم تثاقلوا هناك فلم يبرحوا ، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم . . .
وطعن قوم منهم في تأمير أسامة كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه ، وقالوا في ذلك فأكثروا مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة . . حتى غضب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من طعنهم غضباً شديداً ، فخرج بأبي وأمي معصب الرأس مدثراً بقطيفته محموماً ألماً . . فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال فيما أجمع أهل الأخبار على نقله واتفق أولوا العلم على صدوره : أيها الناس ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ! وأيم الله إنه كان لخليقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق بها ! وحضهم على المبادرة إلى السير فجعلوا يودعونه ويخرجون إلى العسكر بالجرف ، وهو يحضهم على التعجيل .
ثم ثقل في مرضه فجعل يقول : جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة ، أرسلوا بعث أسامة . . لعن الله من تخلف عنه . . وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السير أولاً ، وتخلفوا عن الجيش أخيراً ، ليحكموا قواعد سياستهم ويقيموا عمدها ، ترجيحاً منهم لذلك على التعبد بالنص .
وإنما أمَّر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة ، ليّاً لأعنِة البعض ، ورداً لجِمَاح أهل الجماح منهم ، واحتياطاً على الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس . . لكنهم فطنوا إلى ما دبر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فطعنوا في تأمير أسامة وتثاقلوا عن السير معه ، فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بربه . . .
--------------------------- 408 ---------------------------
فهذه خمسة أمور في هذه السرية لم يتعبدوا فيها بالنصوص الجلية ، إيثاراً لرأيهم في الأمور السياسية ، وترجيحاً لاجتهادهم فيها على التعبد بنصوصه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
وفي منهاج الكرامة / 100 : « وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرض موته مرة بعد أخرى مكرراً لذلك : أنفذوا جيش أسامة ! لعن الله المتخلف عن جيش أسامة ! وكان الثلاثة معه » .
وفي تقريب المعارف / 314 : « ولافرق بين خلافه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أمر به من المسير مع أسامة ، وبين خلافه فيما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة ، وذلك فسق لا شبهة فيه ، ودعوى خروج أبي‌بكر من البعث لا يفي شيئاً ، لثبوت الرواية به » .
وفي الإرشاد : 1 / 182 : « واستمر به المرض أياماً وثقل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمور بالمرض فنادى : الصلاة يرحمكم الله ، فأوذن رسول الله بندائه فقال : يصلي بالناس بعضهم فإنني مشغول بنفسي . فقالت عائشة : مروا أبا بكر ! وقالت حفصة : مروا عمر ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين سمع كلامهما ، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حيٌّ : أكففن فإنكن صويحبات يوسف ! ثم قام ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مبادراً خوفاً من تقدم أحد الرجلين وقد كان أمرهما بالخروج إلى أسامة ، ولم يكن عنده أنهما قد تخلفا ، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره ، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة ، فقام وإنه لا يستقل على الأرض من الضعف ، فأخذ بيده علي بن أبي طالب والفضل بن عباس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف !
فلما خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده أن تأخر عنه ، فتأخر أبو بكر وقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مقامه ، فكبر فابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأ بها أبو بكر ، ولم يبن على ما مضى من فعاله . ف
لما سلَّم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الصلاة انصرف إلى منزله ، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد من المسلمين ، ثم قال : ألم آمر أن تنفذوا جيش أسامة ! قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فلم تأخرتم عن أمري ؟ فقال أبو بكر : إنني كنت خرجت ثم عدت لأجدد بك عهداً . وقال عمر : يا رسول الله ، لم أخرج لأنني لم أحب أن أسأل عنك
--------------------------- 409 ---------------------------
الركب ! فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فأنفذوا جيش أسامة ، فأنفذوا جيش أسامة يكررها ثلاث مرات ، ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف ، فمكث هنيهة مغمى عليه ، وبكى المسلمون ، وارتفع النحيب من أزواجه وولده ، والنساء المسلمات ومن حضر من المسلمين » .

5 - وقد وصف حذيفة تسلل أبي‌بكر وعمر ليلاً إلى المدينة

روى في إرشاد القلوب : 2 / 237 ، والدرجات الرفيعة / 290 ، أن حذيفة صاحب سر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان حاكم المدائن فلما جاءه خبر بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرح بذلك ، وصعد المنبر ودعا الناس إلى بيعته وخطب خطبة طويلة ، بيَّن فيها فضائل علي ( عليه السلام ) وكشف مؤامرة قريش على عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومما قاله ( رحمه الله ) : « وأمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة ، فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منتظراً القوم أن يرافقوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم ، وإنما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما صنع من ذلك أن تخلو المدينة منهم ولا يبقى بها أحد من المنافقين . قال : فهم على ذلك من شأنهم ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دائب يحثهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه ، إذ مرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرضه الذي توفي فيه ، فلما رأوا ذلك تباطؤوا عما أمرهم رسول الله من الخروج ، فأمر قيس بن سعد بن عبادة وكان سياف رسول الله والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم ، فأخرجهم قيس بن سعد والحباب بن المنذر حتى ألحقاهم بمعسكرهم ، وقالا لأسامة : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يرخص لك في التخلف فسر من وقتك هذا ليعلم رسول الله ذلك . فارتحل بهم أسامة وانصرف قيس بن سعد والحباب بن المنذر إلى رسول الله فأعلماه برحلة القوم ، فقال لهم : إن القوم غير سائرين من مكانهم !
قال : فخلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بأسامة وجماعة من أصحابه فقالوا : إلى أين ننطلق ونخلي المدينة ، ونحن أحوج ما كنا إليها وإلى المقام بها ! قالوا : إن رسول الله قد نزل به الموت ، ووالله لئن خلينا المدينة ليحدثن بها أمور لا يمكن
--------------------------- 410 ---------------------------
إصلاحها ! ننظر ما يكون من أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم المسير بين أيدينا !
قال : فرجع القوم إلى المعسكر الأول فأقاموا به ، فبعثوا رسولاً يتعرف لهم بالخبر من أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأتى الرسول عائشة فسألها عن ذلك سراً فقالت : إمض إلى أبي‌بكروعمر ومن معهما فقل لهما : إن رسول الله قد ثقل ولايبرحن أحد منكم ! وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت !
واشتدت علة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعت عائشة صهيباً فقالت : إمض إلى أبي‌بكر وأعلمه أن محمداً في حال لاترجى ، فهلموا إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم ، وليكن دخولكم المدينة بالليل سراً !
قال : فأتاهم بالخبر فأخذوا بيد صهيب فأدخلوه إلى أسامة بن زيد فأخبروه الخبر ، وقالوا له كيف ينبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله ، واستأذنوه للدخول فأذن لهم بالدخول ، وأمرهم أن لا يعلم أحد بدخولهم ، وقال : إن عوفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رجعتم إلى عسكركم ، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك لنكون في جماعة الناس ، فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد ثقل .
قال : فأفاق بعض الإفاقة فقال : لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم ! فقيل له وما هو يا رسول الله ؟ قال فقال : إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون أمري ، ألا إني إلى الله منهم برئ ! ويحكم نفذوا جيش أسامة ! فلم يزل يقول ذلك حتى قالها مرات كثيرة .
قال : وكان بلال مؤذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة ، فإن قدر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على الخروج تحامل وخرج وصلى بالناس ، وإن هو لم يقدر على الخروج أمر علي بن أبي طالب فصلى بالناس ، وكان علي ( عليه السلام ) والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك . فلما أصبح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يدي أسامة ، أذن بلال ثم أتاه يخبره كعادته فوجده قد ثقل فمنع من الدخول إليه ، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه أن رسول الله قد ثقل ، وليس يطيق النهوض إلى المسجد وعلي بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس ،
--------------------------- 411 ---------------------------
فأخرج أنت إلى المسجد وصل بالناس فإنها حالة تهيئك وحجة لك بعد اليوم .
قال : ولم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو علياً ( عليه السلام ) يصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه ، إذ دخل أبو بكر المسجد وقال : إن رسول الله قد ثقل وقد أمرني أن أصلي بالناس ! فقال له رجل من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وأنى لك ذلك وأنت في جيش أسامة ! لا والله ما أعلم أحداً بعث إليك ، ولا أمرك بالصلاة !
ثم نادى الناس بلالاً فقال : على رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ذلك ، ثم أسرع حتى أتى الباب فدقه دقاً شديداً ، فسمعه رسول الله فقال : ما هذا الدق العنيف فانظروا ما هو ؟ قال فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا بلال فقال : ما وراءك يا بلال ؟ فقال : إن أبا بكر دخل المسجد وتقدم حتى وقف في مقام رسول الله ، وزعم أن رسول الله أمره بذلك ! فقال أوليس أبو بكر مع أسامة في الجيش ! هذا والله هو الشر العظيم الذي طرق البارحة المدينة ! لقد أخبرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك ! ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما وراءك يا بلال ؟ فأخبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الخبر فقال : أقيموني أخرجوني إلى المسجد ، والذي نفسي بيده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن !
ثم خرج ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معصوب الرأس يتهادى بين علي والفضل بن عباس ، ورجلاه تجران في الأرض ، حتى دخل المسجد وأبو بكر قائم في مقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد طاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب ، والنفر الذين دخلوا ، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال ، فلما رأى الناس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك ، وتقدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجذب أبا بكر من ردائه فنحاه عن المحراب ، وأقبل أبو بكر والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وأقبل الناس فصلوا خلف رسول الله وهو جالس وبلال يُسمع الناس التكبير حتى قضى صلاته ،
ثم التفت فلم ير أبا بكر ! فقال : أيها الناس لا تعجبون من ابن أبي قحافة وأصحابه
--------------------------- 412 ---------------------------
الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت يدي أسامة ، وأمرتهم بالمسير إلى الوجه الذي وجهوا إليه ، فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة ، ألا وإن الله قد أركسهم فيها ! أعرجوا بي إلى المنبر فقام وهو مربوط حتى قعد على أدنى مرقاة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس : إنني قد جاءني من أمر ربي ما الناس صائرون إليه ، وإني قد تركتكم على المحجة الواضحة ليلها كنهارها ، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائيل !
أيها الناس : لا أحِلُّ لكم إلا ما أحله القرآن ولا أحَرِّم عليكم إلا ما حرَّمه القرآن ، وإني مخلِّف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي هما الخليفتان ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فأسألكم ماذا خلفتموني فيهما . وليذادن يومئذ رجال عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل ، فيقول أنا فلان وأنا فلان ، فأقول أما الأسماء فقد عرفت ولكنكم ارتددتم من بعدي فسحقاً لكم سحقاً ! ثم نزل عن المنبر وعاد إلى حجرته . ولم يظهر أبو بكر وأصحابه حتى قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وكان من الأنصار سعد وغيرهم من السقيفة ما كان ، فمنعوا أهل بيت نبيهم حقوقهم التي جعلها الله عز وجل لهم » . انتهى كلام حذيفة رضي الله عنه .

6 - أبو بكر وعمر يظهران الندم على تركهما جيش أسامة !

في الخصال / 171 : « عن جابر بن عبد الله قال : شهدت عمر عند موته يقول : أتوب إلى الله من ثلاث : من ردي رقيق اليمن ، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد أن أمَّره رسول الله علينا ، ومن تعاقدنا على أهل هذا البيت إن قبض الله رسوله لا نولي منهم أحداً » . وروى نحوه عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) .
وفي الإيضاح / 159 ، عن إياس بن قبيصة الأسدي ، من حديث قال : « سمعت أبا بكر يقول . . وأما الثلاث اللاتي لم أفعلهن وليتني كنت فعلتهن ، فوددت أني كنت أقدت من خالد بن الوليد بمالك بن نويرة ، ووددت أني لم أتخلف عن بعث أسامة ، ووددت أني كنت قتلت عيينة بن حصين وطلحة بن خويلد » .
--------------------------- 413 ---------------------------

7 - الرواية الرسمية لجيش أسامة

في سيرة ابن هشام : « 4 / 1025 ، و 1064 » : « ثم قفل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفراً ، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون . . .
استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة : أمَّر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار ! فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ! وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقاً لها !
قال : ثم نزل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانكمش الناس في جهازهم ، واستعز برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه ، فخرج أسامة وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ « نحو 6 كيلومتر » فضرب به عسكره ، وتتامَّ إليه الناس وثقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض في رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
وفي صحيح بخاري : 1 / 175 ، عن عائشة : « لما ثقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال : مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ، فقلت : يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى ما يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر . فقال : مروا أبا بكر يصلي ، فقلت لحفصة ، قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر . قال : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ! فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في نفسه خفة فقام يهادي بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض ، حتى دخل المسجد ، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر فأومأ إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبى بكر ، فكان أبو بكر يصلي قائماً ، وكان رسول الله يصلي قاعداً يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والناس مقتدون بصلاة أبي‌بكر » !
--------------------------- 414 ---------------------------
ومن الواضح أن عائشة تريد أن تثبت أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أباها بالصلاة وليس هي ، وقد ناقضت نفسها بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجد في نفسه خفة أي راحة ، وأنه جاء معتمداً على كتفي شخصين ورجلاه تخطان الأرض ، وهذا يدل على أنه مضطر للمجيئ ليمنع أبا بكر من الصلاة ، ثم اخترعت عائشة صلاة بإمامين ، لا وجود لها في فقه أي مذهب !

8 - رد قولهم إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نصب أبا بكر للصلاة

وقد رد أئمتنا ( عليهم السلام ) وعلماؤنا روايتهم بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أن يصلي أبو بكر بالناس ، وقال السيد الميلاني في إبطال ما استدل به لإمامة أبي‌بكر / 33 : « أما أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يؤكد على بعث أسامة ، وإلى آخر لحظة من حياته ، فلم يخالف فيه أحد ولا خلاف فيه أبداً ، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم . . وأما أن كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث ، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ، فكيف يأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بخروج أبي‌بكر في بعث أسامة ويؤكد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته ، ومع ذلك يأمر أبا بكر أن يصلي في مكانه ؟ وهنا يضطر مثل ابن تيمية لأن ينكر وجود أبي‌بكر في بعث أسامة ، ويقول هذا كذب ، لأنه يعلم بأن وجود أبي‌بكر في بعث أسامة يعني كذب خبر إرسال أبي‌بكر إلى الصلاة !
ولذا لما ولي أبو بكر اعترض أسامة ولم يبايع أبا بكر قال : أنا أمير على أبي‌بكر وكيف أبايعه ؟ ولذا لما سيَّر أبو بكر أسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة . فالقرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل أبا بكر إلى الصلاة » .
وقال السيد الميلاني في رسالته في صلاة أبي‌بكر / 76 : « خرج معتمداً على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورجل آخر وهو في آخر رمق من حياته ليصرفه عن المحراب . . ويعلن بأن صلاته لم تكن بأمر منه بل من غيره » !
وقال الهادي يحيى بن الحسين في تثبيت الإمامة / 18 : « وكيف تنعقد بيعة لمن هو في بيعة غيره ؟ ألم يكن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجه أبا بكر وعمر وغيرهما في جيش أسامة بن زيد قبل وفاته صلوات الله عليه ، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا ويصلوا بصلاته ويأتمروا بأمره ؟
--------------------------- 415 ---------------------------
وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنفذوا جيش أسامة ولا يتخلف إلا من كان عاصياً لله ولرسوله .
فلما صار أسامة بعسكره على أميال من المدينة بلغهم مرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فرجع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فلما دخلوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تغير لونه وقال : اللهم إني لا آذن لأحد أن يتخلف عن جيش أسامة ! وهمَّ أبو بكر بالرجوع إلى أسامة واللحوق به فمنعه عمر !
ثم قال : وقال عمر لأبي‌بكر : أكتب إلى أسامة بن زيد يقدم عليك ، فإن في قدومه عليك قطع الشنعة عنا ! فكتب إليه أبو بكر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله أبي‌بكر خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أسامة بن زيد : أما بعد ، فانظر إذا أتاك كتابي هذا فأقبل إلي أنت ومن معك ، فإن المسلمين قد اجتمعوا علي وولوني أمرهم ، فلا تتخلفن فتعصيني ويأتيك ما تكره ، والسلام .
فأجابه أسامة بن زيد ، وكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أسامة بن زيد عامل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على غزوة الشام إلى أبي‌بكر بن أبي قحافة ، أما بعد فقد أتاني كتابك ينقض أوله آخره ! ذكرت في أوله : أنك خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكرت في آخره أن الناس قد اجتمعوا عليك ، وولوك أمرهم ورضوا بك ! واعلم أني ومن معي من المهاجرين والأنصار وجميع المسلمين ما رضيناك ولا وليناك أمرنا ، فاتق الله ربك ، وإذا قرأت كتابي هذا فأقدم إلى ديوانك الذي بعثك فيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا تعصه ، وأن تدفع الحق إلى أهله فإنهم أحق به منك ، وقد علمت ما قال رسول الله في علي يوم الغديروما طال العهد فتنسى ؟ ! فانظر أن تلحق بمركزك ولا تتخلف فتعصي الله سبحانه وتعالى ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعصي من استخلفه رسول الله عليك وعلى صاحبك ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استخلفني عليكم ولم يعزلني ، وقد علمت كراهة رسول الله لرجوعكم مني إلى المدينة ، وقال : لا يتخلفن أحد عن جيش أسامة إلا كان عاصياً لله ولرسوله ! فيالك الويل يا ابن أبي قحافة ! تعدل نفسك بعلي بن أبي طالب وهو وارث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه وابن عمه وأبو ولديه ؟ ! فاتق الله أنت وصاحبك فإنه
--------------------------- 416 ---------------------------
لكما بالمرصاد ، وأنتما منه في غرور ! والذي بعث محمداً بالحق نبياً ما تركت أمة وصي رسولها ولا نقضوا عهده إلا استوجبوا من الله اللعنة والسخط !
فلما وصل الكتاب إلى أبي‌بكر هم أن يخلعها من عنقه فقال عمر : لا تفعل ، قميص قمصك الله تعالى لا تخلعه فتندم ! فقال له : يا عمر أكفرٌ بعد إسلام ؟ فألح عليه عمر وقال : أكتب إليه وإلى فلان وأمر فلاناً وفلاناً وفلاناً جماعة من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، يكتبوا إليه أن أقدم ، ولا تفرق جماعة المسلمين !
فلما وصلت كتبهم قدم المدينة ودخل إلى علي ( عليه السلام ) فعزاه عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى بكاءً شديداً وضم الحسن والحسين إلى صدره وقال : يا علي ما هذا ؟ ! قال : هو ما أنت ترى ! قال : فما تأمرني ؟ فأخبره بما عهد إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تركهم حتى يجد أعواناً ! ثم أتى أبو بكر إلى أسامة وسأله البيعة ؟ فقال له أسامة : إن رسول الله أمَّرني عليك فمن أمَّرك علي ؟ والله لا أبايعك أبداً ولاحللت لك عهدي فلا صلاة لك إلا بصلاتي ! أفلا يرى من عَقِلَ أن أسامة أميرعلى أبي‌بكر وهو أحق بهذا الأمر وأولى منه ، لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات وهو عليه أمير ، ولم يعزله عن إمرته . فأين الإجماع والرضا مع هذه الأخبار ؟ ! » .
وقال في تثبيت الإمامة / 22 : « فسألناهم البينة من غير أهل مقالتهم على أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أبا بكر بالصلاة بالناس ؟ فلم يأتوا بالبينة على ذلك ! وأجمعت الثلاث الفرق التي خالفتهم أن عائشة هي التي أمرت بلالاً عندما آذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالت : مر أبا بكر أن يصلي بالناس ! فبطلت حجة من زعم أن رسول الله أمر أبا بكر بالصلاة ، ولم نجد أحداً يشهد لها على هذا الادعاء ! ثم أجمع جميع أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أنه لما أفاق من غشيته سأل : من المتولي للصلاة ؟ فقالوا : أبو بكر . فنهض ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متوكئاً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تخط الأرض قدماه ، حتى جر أبا بكر من المحراب فأخره ، وتقدم فصلى بالناس » .
* *
--------------------------- 417 ---------------------------

الفصل الثالث والعشرون: علي ( عليه السلام ) في مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشهادته

1 - أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي ( عليه السلام ) وزار البقيع وَحَذَّرَ صحابته !

تقدم أنه لمَّا أحس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالمرض أخذ بيد علي ( عليه السلام ) واتبعه جماعة من الناس ، وذهب إلى البقيع فاستغفر لأهله ، وقال : « السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم . . » ! « الإرشاد : 1 / 179 » .
وروت ذلك مصادر السلطة ، ففي مسند أحمد « 3 / 489 » عن أبي مويهبة مولى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من جوف الليل « يقصد أيقظني » فقال : يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي ، فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليُهْنِ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس ! لو تعلمون ما نجاكم الله منه ! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ، الآخرة شر من الأولى ! قال : ثم أقبل عليَّ فقال : يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة ، قال قلت : بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة . قال : لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي والجنة . ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف ، فبدأ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في وجعه الذي قبضه الله عز وجل فيه » .
وتفاوتت روايتهم له عن أبي مويهبة ، ففي بعضها أن ذلك كان في محرم ، وفي بعضها أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ركب دابته ، وفي بعضها أن مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدأ بعد رجوعه من البقيع . لاحظ :
ابن هشام : 4 / 1056 ، والدارمي : 1 / 36 ، والحاكم : 3 / 55 ، والطبراني الكبير : 22 / 347 ، وابن سعد : 2 / 204 .
وقد أبعدوا علياً ( عليه السلام ) عن رواية هذه الحادثة ، لكن المقصود أنهم رووا تأكيده ( ( صلى الله عليه وآله ) )
--------------------------- 418 ---------------------------
بأن الفتنة تنتظر وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن الأمة ستنحرف من بعده !
لكن السلطة القرشية تصرُّ على دفن رأسها في الرمال وتقول : إن الأمور سارت بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأفضل ما يكون ، وإن خير القرون قرن صحابته !

2 - واجهت الأمة رسولها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالانقلاب عليه !

وقد روت كل المصادر حديث الانقلاب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قريش ، فقد وقف في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه وردَّ عليه ، ومنعه أن يكتب لأمته عهداً يُؤمِّنُها من الضلال ، ويجعلها سيدة العالم !
فبمجرد أن طلب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب صاح عمر : حسبنا كتاب الله . وصاح خلفه القرشيون الطلقاء : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له شيئاً !
قال البخاري ( 1 / 36 ) : « عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا : وكثر اللغط ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع . فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين كتابه »
« فلما أكثروا اللغو والاختلاف ، قال رسول الله : قوموا » . « بخاري : 5 / 137 » .
وفي مسلم : 5 / 75 : « عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ! قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فقالوا : إن رسول الله يهجر ! وفي رواية أخرى : فقال عمر : إن رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله » .
وفي مسند أحمد : 3 / 346 : « دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده . قال ، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها » !
وفي مجمع الزوائد ( 9 / 33 ) : « عن عمر بن الخطاب قال : لما مرض النبي
--------------------------- 419 ---------------------------
قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لا تضلون بعدي أبداً ، فكرهنا ذلك أشد الكراهة ! ثم قال : ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً ! فقال النسوة من وراء الستر : ألاتسمعون ما يقول رسول الله ؟ فقلت : إنكن صويحبات يوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن ، وإذا صح ركبتن رقبته . فقال رسول الله : دعوهن فإنهن خير منكم » !

وقد وصف المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب / 182 ، هذه المواجهة في كتابه القيِّم : عدالة الصحابة ، فكتب بعنوان : المواجهة الصاخبة :

« النبي على فراش الموت ، وجبريل الأمين لا ينقطع عن زيارته ، وأكثر ما كان يأتيه جبريل في مرضه . النبي على علم بمستقبل هذه الأمة ، وقد أدى دوره كاملاً وبلغ رسالات ربه ، وبين لهم كل شئ على الإطلاق ، وهو على علم تام بما يجري حوله ، ومدركٌ أنه السكون الذي يسبق الانفجار ، فينسف الشرعية السياسية والمرجعية ! وبنسف الشرعية السياسية والمرجعية يتجرد الإسلام من سلاحه الجبار ، ويتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة .
ولكن مِثل النبي لاينحني أمام العاصفة ، ولا يقعده شئ عن متابعة إحساسه العميق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة ! وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة الإلهية ، والبيان الإلهي الشامل لكل شئ تحتاجه الأمة ، بما فيه كيف يتبول وكيف يتغوط أفرادها ، إلا أنه أراد أن يلخص الموقف لأمته حتى تهتدي وحتى لاتضل ، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها ، وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها ، فتعكر صفو الإسلام ، وتعيق حركته ، وتغير مساره !
النبي على فراش المرض ، وبيته المبارك يغص بأكابر الصحابة ، وقد أصرالنبي على تلخيص الموقف والتذكير بالخط المستقبلي لمسيرة الإسلام ، فقال : قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً .
ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي ؟ من يرفض التأمين ضد الضلالة ؟ ولماذا ؟ ولمصلحة من ؟
ثم ، إن من حق أي مسلم أن يوصي ، ومن حق أي مسلم أن يقول ما يشاء
--------------------------- 420 ---------------------------
قبل موته ، والذين يسمعون قوله أحرار فيما بعد بإعمال هذا القول أو إبطاله ! هذا إذا افترضنا أن محمداً مجرد مسلم عادي ، وليس نبياً وقائداً للأمة .
فتصدى الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال : إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ! فاختلف أهل‌البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، ومنهم من يقول : القول ما قاله عمر ! فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله : قوموا عني !
وفي رواية ثانية أن الرسول عندما قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، تنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا هجر رسول الله ! قال النبي : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ! .
وفي رواية ثالثة ، قال النبي : إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقالوا : إن رسول الله يهجر .
وفي رواية رابعة للبخاري : إن النبي قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، قال عمر بن الخطاب : إن النبي غلبة الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وأكثروا اللغط ! قال النبي : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع .
رواية بلفظ خامس للبخاري : قال النبي : إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما شأنه أهجر ؟ استفهموه . فذهبوا يرددون عليه فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .
رواية بلفظ سادس للبخاري : قال النبي : إئتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما له أهجر ، استفهموه ، فقال النبي : ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .
رواية بلفظ سابع للبخاري : قال النبي : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ! واختلف أهل‌البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال : قوموا
--------------------------- 421 ---------------------------
عني . وفي رواية أن عمر بن الخطاب قال : إن النبي يهجر . وقد اعترف الفاروق أنه صد النبي عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الأمر لعلي !
تحليل المواجهة :
أطراف المواجهة : الطرف الأول ، محمد رسول الله ، وخاتم النبيين ، وإمام الدولة الإسلامية « رئيسها » .
الطرف الثاني ، عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة ، ووزير من أبرز وزراء دولة النبي ، والخليفة الثاني من خلفاء النبي فيما بعد .
مكان المواجهة : بيت النبي .
شهود المواجهة : كبار الصحابة رضوان الله عليهم .
النتائج الأولية للمواجهة :
1 - الانقسام :
إن الحاضرين قد انقسموا إلى قسمين : القسم الأول : يؤيد الفاروق فيما ذهب إليه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد . وحجة هذا الفريق أن الفاروق من كبار الصحابة ، وأحد وزراء النبي ، ومشفق على الإسلام ، وأن النبي مريض ، وبالتالي فلا داعي لإزعاجه بكتابة هذا الكتاب . ثم إن القرآن وحده يكفي ، فهو التأمين ضد الضلالة ، ولا داعي لأي كتاب آخر يكتبه النبي !
القسم الثاني : يرفض المواجهة أصلاً بين التابع والمتبوع ، وبين نبي ومصدق به ، وبين رسول يتلقى تعليماته من الله ، وبين مجتهد يعمل بما يوحيه له اجتهاده ، وبين رئيس دولة ونبي بنفس الوقت ، وبين واحد من وزرائه .
ويرى هذا القسم أن تتاح الفرصة للنبي ليقول ما يريد ، ولكتابة ما يريد لأنه نبي وما زال نبياً حتى يتوفاه الله ، ولأنه رئيس الدولة وما زال رئيساً للدولة حتى يتوفاه الله ، ويحل رئيس آخر محله .
ثم على الأقل ، لأنه مسلم يتمتع بالحرية كما يتمتع بها غيره ، ومن حقه أن يقول
--------------------------- 422 ---------------------------
ما يشاء وأن يكتب ما يشاء . ثم إن الأحداث والمواجهة تجري في بيته فهو صاحب البيت ومن حق أي إنسان أن يقول ما يشاء في بيته .
2 - بروز قوة هائلة جديدة :
برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت أن تحول بين النبي وبين كتابة ما يريد ، واستطاعت أن تستقطب لرأيها عدداً كبيراً من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه ، وبحضور النبي نفسه » ! انتهى كلام المحامي الأردني .
أقول : جاء انقلاب يوم الخميس نتيجة صراع قريش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي أخذ منحى جديداً بعد فتح مكة ، فقد قرر زعماء قريش أن يخوضوا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المواجهة حول خلافته وأن تكون بزعامة عمر ! وكثفوا وجود الطلقاء في المدينة لشد ظهر عمر فبلغوا ألوفاً ! لأن الذين كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسماءهم في جيش أسامة من الطلقاء كانوا سبع مئة ! « فتح الباري : 8 / 116 » .
وقد أخبر الله تعالى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أمته ستختلف بعده كالأمم السابقة : « وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » .
فكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤكد على مكانة أهل بيته ( عليهم السلام ) ويحذر أمته أن يرتدوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض لأجل الحكم والخلافة ! وخطب فيهم في حجة الوداع خمس خطب بيَّنَ فيها كل ما ينبغي بيانه وبشرهم بالأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) من عترته بعده ، وأكد على وجوب اتباعهم وإلا وقعوا في الضلال والانهيار !
وفي خطبته السادسة بغديرخم أخذ بيد علي ( عليه السلام ) وأصعده المنبر وأعلنه خليفته ، وأمرهم أن يهنئوه ويبايعوه ، ففعلوا وكان عمر أول المهنئين ! فقال كما في حديثهم الصحيح : بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » .
وفي مرض وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره ربه عز وجل أن يدعو أصحابه وأهل الحل والعقد من أمته ويتم عليهم الحجة ، فعرض عليهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته ! أن يضمن لهم أن يكونوا سادة العالم إلى يوم القيامة ، بشرط أن يقبلوا حكم الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ،
--------------------------- 423 ---------------------------
ويلتزموا بتنفيذ عهد يكتبه لهم !
فانبرى له عمر بالنيابة عن قريش فرد عليه ، وأعلن رفضهم لعرضه ! فشد ظهر عمر أكثر الحاضرين وصاحوا في وجه نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : القول ما قاله عمر ،
لا تقربوا له شيئاً ! أي لا نريد أن تكتب لنا كتاباً ، ولا نريد أمانك من الضلال ! فقد غلب عليك الوجع وفقدت الصلاحية العقلية فأنت تهذي !
فأهانوه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحكموا عليه بأنه فقد عقله فهو يهذي !
واختاروا الضلال عن عمد وإصرار ، وأن يصادروا من نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قيادة الأمة ويعطوها إلى عمر ، زعيم قريش الجديد ! واضطر النبي المظلوم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى السكوت ، لأنهم خيروه بين الكف عن كتابة عهده وبين أن يعلنوا الردة ، وأنه ليس نبياً بل أراد تأسيس ملك لأسرته كملك كسرى وقيصر ! فاليوم ابن عمه علي ابن الثلاث وثلاثين سنة ، ثم من بعده أولاد ابنته الذين هم دون العاشرة ، وإن دخلت الخلافة فيهم فلن تخرج منهم ، ولن يصل إلى بطون قبائل قريش شئ ، وهذا ظلم للبطون ما بعده ظلم !
لهذا ، تقدم عمر بتخويل زعماء قريش وواجهه بالقول إن بني هاشم تكفيهم النبوة ، والخلافة يجب أن تكون لبقية البطون !
قال عمر ( شرح النهج : 12 / 21 ) لعبد الله بن عباس : ( يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ! هل بقي في نفسه ( علي ) شئ من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم ، قال : أيزعم أن رسول الله نص عليه ؟ قلت : نعم ، وأزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ ( طرف ) من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام !
لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه ، فأمسك ) !
ثم قال ابن أبي الحديد : ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ
--------------------------- 424 ---------------------------
بغداد في كتابه مسنداً .
لكنهم حذفوه من تاريخ بغداد ! لأن عمر صرح فيه بأنه منع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب الكتاب لعلي ( عليه السلام ) بالخلافة ، وزعم أن دافعه لمواجهة النبي الإشفاق على الإسلام ، لأن قريشاً والعرب لا يطيعون علياً ( عليه السلام ) !
وهكذا اعتبرت قريش أنها انتصرت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرض وفاته ، فمنعته من كتابة عهده لعترته ! وما أن أغمض عينيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى سارعت بالصفق على يد خليفتها ، وأسست نظام الخلافة القرشي على قانون الغلبة والتسلط ! وفتحت بذلك صراعاً على السلطة ، لم تعرف أمة بعد رسولها أكثر منه سفكاً لدماء مئات الألوف المؤلفة !
وكان نتيجة هذا النظام بعض فتوحات على غير منهج ، ثم غلبة غلمان بني أمية على الخلافة ، ثم غلمان بني العباس ، ثم غلمان الشراكسة والعثمانيين ، حتى انهارت خلافة قريش ، ودفنها الغربيون في استانبول بلا مراسم ولا توديع !
كانت المدة بين يوم الغدير يوم الخميس 18 ذي الحجة ، وبين يوم الخميس يوم الرزية 24 صفر ستاً وستين يوماً فقط ! نشط فيها القرشيون ضد خلافة عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووقعت أحداث ونزلت آيات ، وصدرت من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خطب وأحاديث ! ومن أبرزها دعوته إلى كتابة عهده ، فأفشلوها كما رأيت ! وقبلها إرساله في جيش أسامة ليخلو الجو منهم في المدينة ، فيرتب الخلافة قبل وفاته ! فأفشلوا جيش أسامة أيضاً ، وكان لحفصة وعائشة دور خطير كما قال الله تعالى : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ .
وتدل رواية سُليم بن قيس / 324 ، على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حاول في آخر يوم من حياته الشريفة ، أن يكتب عهده ، فوقف عمر نفس الموقف ! قال سُليم : « كنت عند عبد الله بن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة ، قال فذكروا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وموته فبكى ابن عباس وقال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الاثنين وهو اليوم الذي قبض فيه وحوله أهل بيته وثلاثون رجلاً من أصحابه : إيتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلوا بعدي ولن تختلفوا بعدي ! فمنعهم رجل فقال : إن رسول الله يهجر ! فغضب
--------------------------- 425 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : إني أراكم تخالفوني وأنا حيٌّ فكيف بعد موتي !
قال سُليم : ثم أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم ، لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضل أحد ولا يختلف ! فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل ؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل . فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم فقال : هو عمر . فقلت : صدقت قد سمعت علياً وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون إنه عمر . فقال : يا سُليم أكتم إلا ممن تثق بهم من إخوانك فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذين الرجلين ، كما أشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل » !
كما يدل قول الطبري الشيعي في المسترشد / 680 ، على غضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحزنه عندما أمرهم بالقبول بعهده فعصوه ! قال : « أليس قال الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد تغرغر « شرق بكلماته حزناً » إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم ما لا تضلون معه بعدي . فقال الثاني : هجر رسول الله ، ثم قال : حسبنا كتاب الله » !
أقول : عملت السلطة بكل حيلة لإخفاء هذه القضية وتغييبها ، وتفسير ما أفلت منها لمصلحتها ، ثم دافعوا عن قادة الانقلاب وجعلوا فعلهم صواباً ، وجعلوا أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالكتابة خطأ ! راجع كتابنا : ألف سؤال وإشكال : 2 / 369 .

3 - من تأكيدات النبي ؟ ص ؟ الأخيرة على علي والعترة ؟ عهم ؟

مع أن زعماء قريش منعوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كتابة عهده لأمته ، فقد صدرت منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عدة وصايا : منها للمسلمين ، ومنها لعلي وفاطمة والحسنين ( عليهم السلام ) . ومنها وصيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي نزل بها جبرئيل ، وشهد عليها هو والملائكة ( عليهم السلام ) . ومنها عهد الله الذي جاء به جبرئيل ( عليه السلام ) في صحف مختومة لكل إمام باسمه .
هذا مضافاً إلى تأكيداته المتواصلة على الثقلين والخليفتين بعده : كتاب الله وعترته أهل بيته ( عليهم السلام ) ، وعلى علي ( عليه السلام ) بصفته أول العترة . وقد أخفى رواة السلطة هذه الوصايا النبوية ، لكن بقي منها ما فيه بلاغ : لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .
فمن وصاياه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما رواه المفيد في أماليه / 134 ، عن أبي سعيد الخدري قال : « آخر
--------------------------- 426 ---------------------------
خطبة خطبنا بها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لخطبة خطبنا في مرضه الذي توفي فيه ، خرج متوكياً على علي بن أبي طالب [ وميمونة مولاته ) فجلس على المنبرثم قال : يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ، وسكت . فقام رجل فقال : يا رسول الله ما هذان الثقلان ؟ فغضب حتى احمر وجهه ثم سكن وقال : ما ذكرتهما إلا وأنا أريد أن أخبركم بهما ولكن رَبَوْتُ فلم أستطع : سببٌ طرفه بيد الله وطرفٌ بأيديكم تعملون فيه كذا ، ألا وهو القرآن ، والثقل الأصغر أهل بيتي . ثم قال : وأيم الله إني لأقول لكم هذا ، ورجال في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم !
ثم قال : والله لا يحبهم عبد إلا أعطاه الله نوراً يوم القيامة حتى يرد عليَّ الحوض ، ولا يبغضهم عبد إلا احتجب الله عنه يوم القيامة » !
أي : أعرف أنكم سوف لا تطيعوني في وصيتي بالقرآن وعترتي ، لكني أرجو أن تصل وصيتي هذه لأجيال تأتي ، من أصلاب المشركين يعرفون قدرها ، هم أرجى عندي من كثير منكم . فأنا أتكلم من أجل هؤلاء الذين هم أرجى عندي وأفضل !
وما ذكرت الرواية من اعتماده على علي ( عليه السلام ) وزوجته ميمونة ، غريب ، ولعل فيه خطأ .
وقال في مناقب آل أبي طالب : 2 / 217 : « حلية الأولياء ، وفضايل السمعاني ، وكتاب الطبراني ، والنطنزي ، بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الحسن بن علي ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ادعوا لي سيد العرب يعني علياً ، فقالت عايشة : ألست سيد العرب ؟ قال : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب . فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال : معاشر الأنصار عليَّ ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده . قالوا : بلى يا رسول الله . قال : هذا عليٌّ فأحبوه لحبي وأكرموه لكرامتي ، فإن جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل . . وفي رواية : فقالت عايشة : وما السيد ؟ قال : من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي » .
وفي كفاية الأثر / 41 : عن سلمان الفارسي قال : « خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب ، أوصيكم في عترتي خيراً ، وإياكم والبدع ، فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار .
--------------------------- 427 ---------------------------
معاشر الناس : من افتقد الشمس فليتمسك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسك بالفرقدين ، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة بعدي ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . قال : فلما نزل عن المنبر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تبعته حتى دخل بيت عائشة فدخلت إليه وقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله سمعتك تقول : إذا افتقدتم الشمس فتمسكوا بالقمر ، وإذا افتقدتم القمر فتمسكوا بالفرقدين ، وإذا افتقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة . قيل : فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة ؟ فقال : أنا الشمس وعلي القمر والحسن والحسين الفرقدان ، فإذا افتقدتمونى فتمسكوا بعلي بعدي ، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسين . وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين تاسعهم مهديهم .
ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي ، أئمة أبرار ، عدد أسباط يعقوب ، وحواري عيسى . قلت : فسمهم لي يا رسول الله . قال : أولهم علي بن أبي طالب ، وبعده سبطاي ، وبعدهما علي زين العابدين ، وبعده محمد بن علي الباقر علم النبيين ، والصادق جعفر بن محمد ، وابنه كاظم سمي موسى بن عمران والذي يقتل بأرض الغربة ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه محمد ، والصادقان علي والحسن ، والحجة القائم المنتظر في غيبته ، فإنهم عترتي من دمي ولحمي ، علمهم علمي وحكمهم حكمي ، من آذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي » . ومناقب آل أبي طالب : 1 / 242 .
وفي كتاب سليم / 300 و 414 ، أن أمير المؤمنين ناشد الصحابة ، فكان مما قاله : « أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام خطيباً ولم يخطب بعدها . .
ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضه الله إليه ، وقال : يا أيها الناس ، إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد عهد إلي اللطيف الخيبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ؟ فقالوا : اللهم نعم قد شهدنا ذلك . . فقال ( عليه السلام ) : حسبي الله » .
وفي تفسير العياشي ( 1 / 5 ) : « عن مسعدة بن صدقة قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
--------------------------- 428 ---------------------------
إن الله جعل ولايتنا أهل‌البيت قطب القرآن ، وقطب جميع الكتب ، عليها يستديرمحكم القرآن ، وبها نوهت الكتب ، ويستبين الإيمان . وقد أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقتدى بالقرآن وآل محمد ، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها : إني تارك فيكم الثقلين : الثقل الأكبر والثقل الأصغر ، فأما الأكبر فكتاب ربي ، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي ، فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما » .
وفي الكافي ( 2 / 414 ) : « عن سُليم بن قيس قال : سمعت علياً صلوات الله عليه يقول وأتاه رجل فقال له : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ، وأدنى ما يكون به العبد كافراً ، وأدنى ما يكون به العبد ضالاً ؟
فقال له : قد سألت فافهم الجواب : أما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيقر له بالطاعة ، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة . قلت له : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت ؟ قال : نعم إذا أُمِرَ أطاع ، وإذا نُهِيَ انتهى .
وأدنى ما يكون به العبد كافراً : من زعم أن شيئاً نهى الله عنه أن الله أمر به ، ونصبه ديناً يتولى عليه ويزعم أنه يعبدالذي أمره به ، وإنما يعبدالشيطان .
وأدنى ما يكون به العبد ضالاً أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده ، الذي أمر الله عز وجل بطاعته وفرض ولايته . قلت : يا أمير المؤمنين صفهم لي . فقال : الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه ونبيه ، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ . قلت : يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أوضح لي ، فقال : الذين قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه : إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإن اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين ، وجمع بين مسبحتيه ، ولا أقول كهاتين ، وجمع بين المسبحة والوسطى ، فتسبق إحداهما الأخرى ، فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا » .
وفي المراجعات / 279 : « وحسبك في وجوب اتباع الأئمة من العترة الطاهرة ، اقترانهم
--------------------------- 429 ---------------------------
بكتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكما لا يجوز الرجوع إلى كتاب يخالف في حكمه كتاب الله سبحانه وتعالى ، لا يجوز الرجوع إلى إمام يخالف في حكمه أئمة العترة » .
أقول : ورد في أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصف القرآن بالثقل الأكبر ، والأئمة العترة بالثقل الأصغر . ثم نص ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أنهما ليسا متفاوتين كالإصبع الوسطى والسبابة بل متساويان كالسبابتين . وهذا يعني أن الصغر والكبر لا يرجع إلى ذاتهما فهما متساويان ، بل إلى شئ يتعلق بهما وبنوع علاقة الأمة بهما ، أو التكليف والمسؤولية عنهما وما شابه . وعندنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكذا عترته ( عليهم السلام ) أعظم شأناً وأفضل من القرآن ، على عظمته وعلو شأنه . فلو كان المقصود بالثقل الأكبر المكانة ، لكان العترة الثقل الأكبر .
ولا تفسير لهذا الحديث النبوي إلا بأن الله علم مدى بغض الأمة لعترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ومدى حبها لمخالفيهم ، فقال لهم لا بأس : تمسكوا القرآن أولاً ، وسيوصلكم مع الزمن إلى العترة المطهرين ( عليهم السلام ) ! .

4 - نزلت الوصية من الله تعالى لعلي والأئمة ( عليهم السلام )

نصت أحاديثنا على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أملى وصيته على علي ( عليه السلام ) فكتبها وأخذ تعهده بها ، ثم طلب من جبرئيل ( عليه السلام ) أن يشهد عليها ، فعرج بها ، ثم جاء بصحيفة مختومة ومعه الملائكة ، ليشهدوا على تبليغ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إياها لعلي ( عليه السلام ) ، وتعهده بتنفيذها ! ففي الكافي ( 1 / 281 ) عن الإمام الكاظم أنه سأل أباه الصادق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) أليس كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كاتب الوصية ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقربون ( عليه السلام ) شهود ؟ قال : فأطرق طويلاً ، ثم قال : يا أبا الحسن قد كان ما قلت ، ولكن حين نزل برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الأمر نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجلاً ، نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة فقال جبرئيل : يا محمد ، مُرْ بإخراج من عندك إلا وصيك ليقبضها منا ، وتشهدنا
--------------------------- 430 ---------------------------
بدفعك إياها إليه ، ضامناً لها ، يعني علياً ( عليه السلام ) .
فأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بإخراج من كان في البيت ما خلا علياً ، وفاطمة فيما بين الستر والباب ، فقال جبرئيل : يا محمد ربك يقرؤك السلام ويقول : هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك ، وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي يا محمد شهيداً . قال : فارتعدت مفاصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا جبرئيل ، ربي هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه يعود السلام ، صدق عز وجل وبر ، هات الكتاب ، فدفعه إليه ، وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : إقرأه ، فقرأه حرفاً حرفاً ، فقال : يا علي هذا عهد ربي تبارك وتعالى إليَّ وشرطه عليَّ وأمانته ، وقد بلغت ونصحت وأديت . فقال علي : وأنا أشهد لك بأبي وأمي أنت بالبلاغ والنصيحة ، والتصديق على ما قلت ، ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي . فقال جبرئيل : وأنا لكما على ذلك من الشاهدين . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أخذت وصيتي وعرفتها ، وضمنت لله ولي الوفاء بما فيها ؟ فقال علي : نعم بأبي أنت وأمي عليَّ ضمانها ، وعلى الله عوني وتوفيقي على أدائها . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إني أريد أن أشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة !
فقال علي ( عليه السلام ) : نعم إشهد . فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن ، وهما حاضران معهما الملائكة المقربون ، لأشهدهم عليك . فقال : نعم ليشهدوا وأنا بأبي أنت وأمي أشهدهم . فأشهدهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكان فيما اشترط عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأمر جبرئيل ( عليه السلام ) فيما أمر الله عز وجل أن قال له : يا علي تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله ، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله والبراءة منهم ، على الصبر منك ، وعلى كظم الغيظ ، وعلى ذهاب حقك ، وغصب خمسك ، وانتهاك حرمتك ؟ فقال : نعم يا رسول الله .
فقال أمير المؤمنين : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل ( عليه السلام ) يقول للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا محمد عَرِّفْه أنه تُنتهك الحرمة ، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله ، وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط ! قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل ، حتى سقطت على وجهي ، وقلت : نعم قبلت ورضيت ،
--------------------------- 431 ---------------------------
وإن انتهكت الحرمة ، وعطلت السنن ، ومزق الكتاب ، وهدمت الكعبة ، وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط ، صابراً محتسباً أبداً ، حتى أقدم عليك !
ثم دعا رسول الله فاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقالوا مثل قوله ! فختمت الوصية بخواتيم من ذهب ، لم تمسه النار ، ودفعت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
قال الراوي : فقلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : بأبي أنت وأمي ، ألا تذكر ما كان في الوصية ؟ فقال : سنن الله وسنن رسوله . فقلت : أكان في الوصية توثبهم وخلافهم على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟ فقال : نعم والله شيئاً شيئاً ، وحرفاً حرفاً ، أما سمعت قول الله عز وجل : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَئٍْ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ . والله لقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأمير المؤمنين وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أليس قد فهمتما ما تقدمت به إليكما وقبلتماه ؟ فقالا : بلى وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا » ! !
أقول : نقل صاحب البحار ( رحمه الله ) أحاديث هذه الوصية « 22 / 476 » من كتاب الطُّرف لابن طاووس ( رحمه الله ) عن كتاب عيسى بن المستفاد ، وهو الراوي الأخير في سند حديث الكليني ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : دعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنده موته وأخرج من كان عنده في البيت غيري ، والبيت فيه جبرئيل والملائكة أسمع الحس ولا أرى شيئاً ، فأخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتاب الوصية من يد جبرئيل مختومة فدفعها إليَّ وأمرني أن أفضها ففعلت ، وأمرني أن أقرأها فقرأتها فقال : إن جبرئيل عندي ، أتاني بها الساعة من عند ربي فقرأتها ، فإذا فيها كل ما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوصي به شيئاً شيئاً ما تغادر حرفاً !
وبالإسناد المتقدم عنه عن أبيه عن جده الباقر ( عليهم السلام ) قال : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : كنت مسند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى صدري ليلة من الليالي في مرضه ، وقد فرغ من وصيته وعنده فاطمة ابنته ، وقد أمر أزواجه والنساء أن يخرجن من عنده ففعلن ، فقال : يا أبا الحسن تحول من موضعك وكن أمامي ، قال ففعلت ، وأسنده جبرئيل ( عليه السلام )
--------------------------- 432 ---------------------------
إلى صدره ، وجلس ميكائيل ( عليه السلام ) على يمينه فقال : يا علي ضم كفيك بعضها إلى بعض ففعلت ، فقال لي : قد عهدت إليك أحدث العهد لك بمحضر أمينيْ رب العالمين : جبرئيل وميكائيل ، يا علي بحقهما عليك إلا أنفذت وصيتي على ما فيها ، وعلى قبولك إياها بالصبر والورع على منهاجي وطريقي ، لا طريق فلان وفلان ، وخذ ما آتاك الله بقوة . وأدخل يده فيما بين كفيَّ وكفاي مضمومتان ، فكأنه أفرغ بينهما شيئاً فقال : يا علي قد أفرغت بين يديك الحكمة وقضاء ما يرد عليك ، وما هو وارد لا يعزب عنك من أمرك شئ ، وإذا حضرتك الوفاة ، فأوص وصيتك إلى من بعدك على ما أوصيك ، واصنع هكذا بلا كتاب ولا صحيفة .
وفيه عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : كان في وصية
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أولها : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد محمد بن عبد الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وأوصى به ، وأسنده بأمر الله إلى وصيه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين . وكان في آخر الوصية : شهد جبرئيل وميكائيل وإسرافيل على ما أوصى به محمد إلى علي بن أبي طالب ، وقبضه وصيه ، وضمانه على ما فيها على ما ضمن يوشع بن نون لموسى بن عمران ، وعلى ما ضمن وأدى وصي عيسى بن مريم ، وعلى ما ضمن الأوصياء قبلهم ، على أن محمد أفضل النبيين وعلياً أفضل الوصيين ( عليهم السلام ) .
وأوصى محمد وسلم إلى علي وأقر علي ، وقبض الوصية على ما أوصى به الأنبياء ، وسلم محمد الأمر إلى علي بن أبي طالب ، وولاه الأمر على أن لا نبوة لعلي ولا لغيره بعد محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكفى بالله شهيداً » .
وفيه أيضاً : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) حين دفع إليه الوصية : إتخذْ لها جواباً غداً بين يدي الله تبارك وتعالى رب العرش ، فإني محاجك يوم القيامة بكتاب الله ، حلاله وحرامه ومحكمه ومتشابهه على ما أنزل الله ، وعلى ما أمرتك ، وعلى فرائض الله كما أنزلت ، وعلى الأحكام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتنابه ، مع إقامة حدود الله وشروطه ، والأمور كلها ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة لأهلها ، وحج البيت ، والجهاد في سبيل الله ، فما أنت قائل يا علي ؟
--------------------------- 433 ---------------------------
فقال علي : بأبي أنت وأمي ، أرجو بكرامة الله لك ومنزلتك عنده ونعمته عليك ، أن يعينني ربي ويثبتني ، فلا ألقاك بين يدي الله مقصراً ولا متوانياً ولا مفرطاً ، ولا أمغر وجهك ، وِقَاهُ وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي ، بل تجدني بأبي أنت وأمي مشمراً متبعاً لوصيتك ومنهاجك وطريقك ، ما دمت حياً حتى أقدم بها عليك ، ثم الأول فالأول من ولدي ، لا مقصرين ولا مفرطين .
قال علي ( عليه السلام ) : ثم انكببت على وجهه وعلى صدره وأنا أقول : واوحشتاه بعدك بأبي أنت وأمي ، ووحشة ابنتك وبنيك ، بل واطول غمي بعدك يا أخي ، انقطعت من منزلي أخبار السماء ، وفقدت بعدك جبرئيل وميكائيل ، فلا أحس أثراً ولا أسمع حساً ، فأغمي عليه طويلاً ، ثم أفاق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال أبو الحسن : فقلت لأبي : فما كان بعد إفاقته ؟ قال : دخل عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات ، وضج الناس بالباب من المهاجرين والأنصار ، فبيناهم كذلك إذ نودي : أين علي ؟ فأقبل حتى دخل عليه ، قال علي ( عليه السلام ) : فانكببت عليه فقال : يا أخي إفهم فَهَّمَك الله وسددك وأرشدك ووفقك وأعانك ، وغفر ذنبك ورفع ذكرك ، إعلم يا أخي أن القوم سيشغلهم عني ما يشغلهم ، فإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله للناس علماً ، وإنما تؤتى من كل فج عميق ونأيٍ سحيق ، ولا تأتي . وإنما أنت علم الهدى ونور الدين ، وهو نور الله .
يا أخي ، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد بعد أن أخبرتهم ، رجلاً رجلاً ، ما افترض الله عليهم من حقك ، وألزمهم من طاعتك ، وكل أجاب وسلم إليك الأمر ، وإني لأعلم خلاف قولهم ! فإذا قبضت وفرغت من جميع ما أوصيك به ، وغيبتني في قبري فالزم بيتك ، واجمع القرآن على تأليفه ، والفرائض والأحكام على تنزيله ، ثم امض على غير لائمة على ما أمرتك به ، وعليك بالصبر على ما ينزل بك وبها حتى تقدموا عليَّ » .
وفيه عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قلت لأبي : فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال فقال : ثم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين وقال لمن في
--------------------------- 434 ---------------------------
بيته : أخرجوا عني ، وقال لأم‌سلمة : كوني على الباب فلا يقربه أحد ففعلت ، ثم قال : يا علي أدن مني فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً ، وأخذ بيد علي بيده الأخرى ، فلما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الكلام غلبته عبرته فلم يقدر على الكلام ، فبكت فاطمة ( عليها السلام ) بكاء شديداً وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) لبكاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقالت فاطمة : يا رسول الله قد قطعت قلبي وأحرقت كبدي لبكائك ، يا سيد النبيين من الأولين والآخرين ، ويا أمين ربه ورسوله ، ويا حبيبه ونبيه ، من لولدي بعدك ؟ ولذل ينزل بي بعدك ! من لعلي أخيك وناصر الدين ، من لوحي الله وأمره ؟ ثم بكت وأكبت على وجهه فقبلته ، وأكب عليه علي والحسن والحسين ، فرفع رأسه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم ويدها في يده فوضعها في يد علي وقال له : يا أبا الحسن هذه وديعة الله ووديعة رسوله محمد عندك ، فاحفظ الله واحفظني فيها وإنك لفاعله . يا علي هذه والله سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين ، هذه والله مريم الكبرى . أما والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم ، فأعطاني ما سألته .
يا علي ، أنفذ لما أمرتك به فاطمة ، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل ( عليه السلام ) ، واعلم يا علي أني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة ، وكذلك ربي وملائكته . يا علي ، ويل لمن ظلمها وويل لمن ابتزها حقها ، وويل لمن هتك حرمتها ، وويل لمن أحرق بابها ، وويل لمن آذى خليلها ، وويل لمن شاقها وبارزها . اللهم إني منهم برئ ، وهم مني برآء ، ثم سماهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضم فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وقال : اللهم إني لهم ولمن شايعهم سلم ، وزعيم بأنهم يدخلون الجنة ، وعدو وحرب لمن عاداهم وظلمهم ، وتقدمهم أو تأخر عنهم وعن شيعتهم ، زعيم بأنهم يدخلون النار . ثم والله يا فاطمة لا أرضى حتى ترضيْ ، ثم لا والله لا أرض حتى ترضيْ ، ثم لا والله لا أرضى حتى ترضيْ .
قال عيسى : فسألت موسى ( عليه السلام ) وقلت : إن الناس قد أكثروا في أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ثم عمر ، فأطرق عني طويلاً ثم قال : ليس كما ذكروا ، ولكنك يا عيسى كثيرالبحث عن الأمور ، ولا ترضى عنها إلا بكشفها . فقلت : بأبي أنت وأمي إنما أسال عما أنتفع به في ديني وأتفقه مخافة أن أضل وأنا لا أدري ولكن متى أجد
--------------------------- 435 ---------------------------
مثلك يكشفها لي . فقال : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما ثقل في مرضه دعا علياً فوضع رأسه في حجره ، وأغمي عليه وحضرت الصلاة فأوذن بها فخرجت عائشة فقالت : يا عمرأخرج فصل بالناس فقال : أبوك أولى بها ، فقالت : صدقت ولكنه رجل لين وأكره أن يواثبه القوم فصلِّ أنت ، فقال لها عمر : بل يصلي هو وأنا أكفيه إن وثب واثب أو تحرك متحرك ، مع أن محمداً مغمى عليه لا أراه يفيق منها ، والرجل مشغول به لا يقدر أن يفارقه ، يريد علياً ( عليه السلام ) ، فبادره بالصلاة قبل أن يفيق ، فإنه إن أفاق خفت أن يأمرعلياً بالصلاة ، فقد سمعت مناجاته منذ الليلة ، وفي آخر كلامه : الصلاة الصلاة !
قال : فخرج أبو بكر ليصلي بالناس فأنكر القوم ذلك ، ثم ظنوا أنه بأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فلم يُكبِّر حتى أفاق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : ادعوا لي العباس فدعي فحمله هو وعلي فأخرجاه حتى صلى بالناس وإنه لقاعد ، ثم حمل فوضع على منبره فلم يجلس بعد ذلك على المنبر ، واجتمع له جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار حتى برزت العواتق من خدورهن ، فبين باك وصائح وصارخ ومسترجع ، والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخطب ساعة ويسكت ساعة ، وكان مما ذكر في خطبته أن قال : يا معشرالمهاجرين والأنصار ومن حضرني في يومي هذا وفي ساعتي هذه من الجن والإنس : فليبلغ شاهدكم الغائب ، ألا قد خلفت فيكم كتاب الله ، فيه النور والهدى والبيان ، ما فرط الله فيه من شئ ، حجة الله لي عليكم ، وخلفت فيكم العلم الأكبرعلم الدين ونور الهدى ، وصيي علي بن أبي طالب ، ألا هو حبل الله فاعتصموا به جميعاً ولا تفرقوا عنه . أيها الناس : ومن كانت له قبلي تبعة فها أنا ، ومن كانت له عدة فليأت فيها علي بن أبي طالب ، فإنه ضامن لذلك كله ، حتى لا يبقى لأحد عليَّ تباعة » .
أقول : تدل أحاديث وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن الإمامة مهمة هداية البشرية بعد النبوة ، ولها مسؤوليتها الثقيلة وعهدها ميثاقها ، وعلومها وأسرارها الربانية .
لكن زعماء قريش جعلوها رئاسة دولة محمد والتمتع بسلطانه ، وقالوا ليس من
--------------------------- 436 ---------------------------
العدل أن يجمع بنو هاشم النبوة والخلافة ! فالنبوة لبني هاشم والخلافة لبقية البطون !
فقد أعطوا لنفسهم الحق أن يقسموا عطاء الله لعباده ، ونسوا قول الله تعالى : أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ .

5 - أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نساءه بطاعة علي ( عليه السلام )

في إرشاد القلوب / 337 ، والبحار : 28 / 107 ، عن حذيفة بن اليمان قال : « أمر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خادمةً لأم‌سلمة فقال : إجمعي لي هؤلاء يعني نساءه ، فجمعتهن له في منزل أم‌سلمة ، فقال لهن : إسمعن ما أقول لكن ، وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب فقال لهن : هذا أخي ووصيي ووارثي والقائم فيكن وفي الأمة من بعدي ، فأطعنه فيما يأمركن به ، ولا تعصينه فتهلكن لمعصيته .
ثم قال : يا علي أوصيك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك ، وأنفق عليهن من مالك وأمرهن بأمرك وانههن عما يريبك ، وخل سبيلهن إن عصينك . فقال علي ( عليه السلام ) :
يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إرفق بهن ما كان الرفق أمثل ، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها .
قال : كل نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد صمتن فما يقلن شيئاً ، فتكلمت عائشة فقالت : يا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه إلى ما سواه ! فقال لها : بلى قد خالفت أمري أشد خلاف ! وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصينه بعدي ، ولتخرجين من البيت الذي خلفتك فيه متبرجة ، قد حف بك فئات من الناس فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك ، ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب ، ألا أن ذلك كائن !
ثم قال : قمن فانصرفن إلى منازلكن . فقمن فانصرفن » .

6 - أخرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمه العباس من وصيته وحصرها بعلي ( عليه السلام )

في الإرشاد ( 1 / 184 ) : قال العباس للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « يا رسول الله إن يكن هذا الأمر فينا مستقراً بعدك فبشرنا ، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي ، وأصمت ! فنهض القوم وهم يبكون قد أيسوا من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
--------------------------- 437 ---------------------------
فلما خرجوا من عنده قال : أرددوا عليَّ أخي علي بن أبي طالب وعمي ، فأنفذوا من دعاهما فحضرا ، فلما استقر بهما المجلس قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عباس يا عم رسول الله ، تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي عني ديني ؟ فقال العباس : يا رسول الله ، عمك شيخ كبير ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سخاء وكرماً ، وعليك وعد لا ينهض به عمك . . الخ . » .
وفي الكافي ( 1 / 236 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تباري الريح !
قال : فأطرق هنيئة ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد ، وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثم قال : يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم ، بأبي أنت وأمي ذاك عليَّ ولي . قال : فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من إصبعه فقال : تختَّم بهذا في حياتي ! قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعه في إصبعه ، فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم . ثم صاح : يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك يعني الأبرقة ، فجئ بشقة كادت تخطف الأبصار فإذا هي من أبرق الجنة ، فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال : يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة ، ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر ، وقلنسوة العيدين والجمع ، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه . ثم قال : يا بلال علي بالبغلتين الشهباء والدلدل ، والناقتين العضباء والقصوى ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب
--------------------------- 438 ---------------------------
المسجد لحوائج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحيزوم وهو الذي كان يقول : أقدم حيزوم ، والحمار عفير فقال : إقبضها في حياتي . فذكرأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أول شئ من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء ، فرمى بنفسه فيها فكانت قبره » . وعلل الشرائع : 1 / 166 ، والمناقب : 2 / 248 .
وفي مناقب محمد بن سليمان ( 1 / 432 ) : « فمكث علي تسع سنين ينشد الناس في كل موسم : هل يطلب أحد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدين أو بموعد ، حتى أنجز عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عداته وقضاء دينه ؟ قال : ثم قام بذلك الحسن من بعد علي ( عليه السلام ) » .

7 - عَلَّمَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) ألف باب من العلم

في الكافي ( 1 / 297 ) : « عن يونس بن رباط قال : دخلت أنا وكامل التمار على أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال له كامل : جعلت فداك حديث رواه فلان ؟ فقال : أذكره ، فقال : حدثني أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حدث علياً ( عليه السلام ) بألف باب يوم توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كل باب يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب ؟ فقال : لقد كان ذلك . قلت : جعلت فداك فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم ؟ فقال : يا كامل باب أو بابان . فقلت : جعلت فداك ، فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان ؟ قال : وما عسيتم أن ترووا من فضلنا ، ما تروون من فضلنا إلا ألفاً غير معطوفة » ! أي ألفاً بدون العطفة التي تكون في رأسه !
وفي أمالي الطوسي / 600 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) عن أبيه عن جده علي ( عليه السلام ) قال : « لما ثقل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه الذي قبض فيه كان رأسه في حجري فقال : يا علي أجلسني فأجلسته وأسندته إلى صدري . قال علي ( عليه السلام ) : فلقد رأيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن رأسه ليثقل ضعفاً ، وهو يقول يسمع أقصى أهل‌البيت وأدناهم : إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضي ديني وينجز موعدي .
يا بني هاشم يا بني عبد المطلب : لاتبغضوا علياً ولاتخالفوا أمره فتضلوا ، ولا تحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا ، أضجعني يا علي ، فأضجعته . فقال : يا بلال إئتني بولديَّ
--------------------------- 439 ---------------------------
الحسن والحسين ، فانطلق فجاء بهما فأسندهما إلى صدره فجعل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يشمهما ، قال علي : فظننت أنهما قد غمَّاه فذهبت لآخذهما عنه فقال : دعهما يا علي يشماني وأشمهما ويتزودا مني وأتزود منهما ، فسيلقيان من بعدي أمراً عضالاً ، فلعن الله من يخيفهما . اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين »
وفي الإرشاد : 1 / 184 : « وكان أمير المؤمنين لا يفارقه إلا لضرورة ، فقام في بعض شؤونه ، فأفاق ( عليه السلام ) إفاقة فافتقد علياً ( عليه السلام ) فقال وأزواجه حوله : ادعوا لي أخي وصاحبي ، وعاوده الضعف فأصمت ، فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر ، فدعي فدخل عليه فقعد عند رأسه ، فلما فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر وقال : لو كان له إلي حاجة لأفضى بها إلي . فلما خرج أعاد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القول ثانية وقال : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت حفصة : ادعوا له عمر ، فدعي فلما حضر رآه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعرض عنه فانصرف . ثم قال ( عليه السلام ) : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت أم‌سلمة : ادعوا له علياً فإنه لا يريد غيره ، فدعي أمير المؤمنين فلما دنا منه أومأ إليه ، فأكب عليه فناجاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طويلاً ، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له الناس : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال : علمني ألف باب يفتح لي كل باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله . ثم ثقل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحضره الموت وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) حاضر عنده . فلما قرب خروج نفسه قال له : ضع رأسي يا علي في حجرك ، فقد جاء أمر الله عز وجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري ، وصل عليَّ أول الناس ، ولاتفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى . فأخذ علي ( عليه السلام ) رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأكبت فاطمة ( عليها السلام ) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :
وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عينيه وقال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمك أبي طالب ( رحمه الله ) لا تقوليه ، ولكن قولي : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
--------------------------- 440 ---------------------------
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . . فبكت طويلاً ، فأومأ إليها بالدنو منه ، فدنت فأسرَّ إليها شيئاً تهلل له وجهها .
ثم قضى ( عليه السلام ) ويد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه ( عليه السلام ) فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره » .

8 - قال علي ( عليه السلام ) إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات شهيداً بالسُّمّ !

قال الله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًاوَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ . فأخبر عز وجل بأن وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ستكون بالموت الطبيعي أو بالقتل ، وهذا الترديد من الله العليم بكل شئ ، يعني أنه قتل بالسُّم . وقد زعموا أنه أكل من لحم شاة مسمومة أهدتها له يهودية في فتح خيبر ، وزعموا أن ذلك السم كان يعاوده سنوياً . « أبو داود : 2 / 370 ، وابن ماجة : 2 / 1174 » لكن أحاديثنا نفت أن يكون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكل من تلك الشاة ، ففي الثاقب لابن حمزة / 81 : « فلما وضعت الشاه بين يديه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، تكلمت كتفها فقال : مه يا محمد لا تأكلني ، فإني مسمومة » .
فالصحيح أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يأكل منها . وروينا أنه مات مسموماً من غير لحم الشاة ، بالدواء الذي لُدَّ به في مرضه ! والُّلدود دواء كالمرهم يوضع في الفم ، وقد روته عامة مصادرهم . وخلاصة القصة برواية البخاري : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يغشى عليه من شدة الحمى لدقائق ويفيق ، فأحس بأن بعض من حوله يريدون أن يسقوه دواء عندما يغمى عليه ، فنهاهم وشدد نهيه عليهم ، ومع ذلك عصوه ووضعوا في فمه دواء كالمرهم لما أغمي عليه فرفضه فوضعوه في فمه بالقوة ! فأفاق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووبخهم على عملهم ، وأمركل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء ، ما عدا بني هاشم !
قال البخاري : 7 / 17 : « قالت عائشة : لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء . فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ ! قلنا : كراهية المريض للدواء . فقال : لا يبقى في البيت أحد إلا لد وأنا أنظر ، إلا العباس فإنه لم يشهدكم » !
--------------------------- 441 ---------------------------
ورواه في ( 8 / 40 و 42 ) وفيه : أنه أحس باللد فنهاهم ، فلم يمتنعوا ، فعاقبهم !
وفي رواية الحاكم ( 4 / 202 ) : ( والذي نفسي بيده لا يبقى في البيت أحد إلا لُدَّ ، إلا عمِّي . قال فرأيتهم يلدونهم رجلاً رجلاً ! قالت عائشة : ومن في البيت يومئذ فيذكر فضلهم ، فلُدَّ الرجال أجمعون وبلغ اللدود أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلُددن ، امرأة امرأة » !
ويظهرأنهم لدوه مرتين ! أولاهما في أول مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كما فيمسند أحمد : 6 / 438 : عن أسماء بنت عميس قالت : أول ما اشتكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيت ميمونة فاشتد مرضه حتى أغمي عليه ، فتشاور نساؤه في لده فلدوه ! فلما أفاق قال : ما هذا ؟ ! فقلنا : هذا فعل نساء جئن من ههنا ، وأشرن إلى أرض الحبشة وكانت أسماء بنت عميس فيهن . قالوا : كنا نتهم فيك ذات الجنب يا رسول الله ! قال : إن ذلك لداء ما كان الله عز وجل ليقرفني به ! لا يبقين في هذا البيت أحد إلا التدَّ إلا عمُّ رسول الله يعني العباس ! فلقد التدت ميمونة وإنها لصائمة ، لعزمة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
والمرة الثانية التي رواها بخاري ومسلم : في آخر مرضه يوم الأحد ، قالوا : « ونزل أسامة يوم الأحد ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثقيل مغمور وهو اليوم الذي لدُّوه فيه ، فدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعيناه تهملان » . « الطبقات : 2 / 190 ، وتاريخ دمشق : 2 / 56 ، وعيون الأثر : 2 / 352 ، والإمتاع : 14 / 520 »
وقد اضطربت روايتهم فيمن وضع الدواء في فم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالقوة ، وسألهم هو فأشاروا في المرة الأولى إلى أسماء بنت عميس ، وقالوا له في الثانية إنه العباس ، والصحيح أنهما عائشة وحفصة .
كما تحير الفقهاء في يمينه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمعاقبة جميع من حضر وغرضه من ذلك ! لكن لا تفسير له إلا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد أن يفهم أجيال الأمة أنه مات مسموماً ، وأن الحاضرين غير بني هاشم ، متهمون بدمه !
ومما يدل على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات مسموماً قول الإمام الحسن ( عليه السلام ) بسند صحيح : « إني أموت بالسم كما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقالوا : ومن يفعل ذلك ؟ !
--------------------------- 442 ---------------------------
قال : امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس ، فإن معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك . قالوا : أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك ! قال : كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً ، ولو أخرجتها ما قتلني غيرها وكان لها عذر عند الناس » !
وروى سُليم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 363 ، قال : « فقام إليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهو يبكي فقال : بأبي أنت وأمي يا نبي الله أتُقتل ؟ قال : نعم أهلكُ شهيداً بالسم ! وتُقتل أنت بالسيف وتُخضب لحيتك من دم رأسك ، ويُقتل ابني الحسن بالسم ، ويُقتل ابني الحسين بالسيف ، يقتله طاغٍ ابن طاغ ، دعيُّ ابن دعي » !
وروى العياشي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « تدرون مات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو قتل ؟
إن الله يقول : أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ، فسُمَّ قبل الموت ، إنهما سقتاه » !
وما رواه وصححه مجمع الزوائد ( 8 / 34 ) عن ابن مسعود قال : « لأن أحلف تسعاً أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قتل قتلاً ، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل ، وذلك بأن الله عز وجل جعله نبياً واتخذه شهيداً !
قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : كانوا يرون أن اليهود سموه » ! ومما يؤيد موته بالسم ، أنه سقي ذلك الدواء يوم الأحد ، وتقيأ دماً يوم الاثنين ! قال ابن أبي الحديد في شرح النهج « 10 / 266 » : « يروى أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قذف دماً يسيراً وقت موته ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب ، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال وكانت فيها نفسه » .
لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نفى أن يكون مرضه ذات الرئة ، فلا بد أنه قذف دماً يوم الاثنين ، مما سقوه يوم الأحد ! ولم تذكر الروايات أين كان علي غائباً عن لدّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .

9 - مدة مرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونوع مرضه

تفاوتت الرواية في مدة مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين ثلاثة عشر وثمانية عشر يوماً ، والأخير أرجح ، لأن وفاته كانت يوم الاثنين ، وبدأ مرضه يوم السبت . والمشهورعندنا أن وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت في الثامن والعشرين من صفر ، وعند أتباع المذاهب أنها في الثاني عشرمن ربيع الأول .
--------------------------- 443 ---------------------------
وكان مرضه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الحمى والصداع ، وقد نفى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) أن يكون مرضه ذات الجنب ، أي التهاب الرئة ، أو السحايا .
ففي الكافي ( 8 / 193 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اشتكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالت له عائشة : بك ذات الجنب ؟ فقال : أنا أكرم على الله عز وجل من أن يبتليني بذات الجنب » .
لكنها أصرَّت على قولها : « ما مات رسول الله إلا من ذات الجنب » ! « الزوائد : 9 / 34 » .
ولم يستطع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) النوم من الألم ، وسهر معه علي ( عليه السلام ) ففي شرح النهج ( 10 / 267 ) : ( قال سلمان الفارسي : دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه ، فقال لي : يا سلمان ، ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلي ! فقلت : يا رسول الله ألا أسهر الليلة معك بدله ؟ فقال : لا هو أحق بذلك منك ) .

10 - أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في البحار ( 22 / 490 ) عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عن أبيه ( عليه السلام ) قال : « لما كانت الليلة التي قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في صبيحتها دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وأغلق عليه الباب وعليهم ، وقال لفاطمة ( عليها السلام ) وأدناها منه ، فناجى من الليل طويلاً ، فلما طال ذلك خرج علي ومعه الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأقاموا بالباب والناس خلف ذلك ، ونساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينظرن إلى علي ( عليه السلام ) ومعه ابناه ، فقالت عائشة : لأمر ما أخرجك عنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخلا بابنته دونك في هذه الساعة ؟ فقال لها علي : قد عرفت الذي خلا بها وأرادها له ، وهو بعض ما كنت فيه ، وأبوك وصاحباه قد سماه ! فوجمت أن ترد عليه كلمة !
قال علي ( عليه السلام ) : فما لبثت أن نادتني فاطمة فدخلت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو يجود بنفسه ، فبكيت ولم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال يجود بنفسه ، فقال لي : ما يبكيك يا علي ؟ ليس هذا أوان البكاء فقد حان الفراق بيني وبينك ، فأستودعك الله يا أخي فقد اختار لي ربى ما عنده ، وإنما بكائي وغمى وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي ، فقد أجمع القوم على ظلمكم ، وقد استودعتكم الله وقبلكم مني وديعة .
--------------------------- 444 ---------------------------
يا علي إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك ، فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة ، ثم ضمها إليه وقبل رأسها وقال : فداك أبوك يا فاطمة ! فعلا صوتها بالبكاء ، ثم ضمها إليه وقبل رأسها وقال : أما والله لينتقمن الله ربي وليغضبن لغضبك ! فالويل ثم الويل ثم الويل للظالمين ، ثم بكى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال علي ( عليه السلام ) : فوالله لقد حسست بضعة مني ذهبت لبكائه حتى هملت عيناه كمثل المطر ، حتى بلت دموعه لحيته وملأة كانت عليه ، وهو ملتزم فاطمة ( عليها السلام ) ورأسه على صدري وأنا مسنده ، والحسن والحسين يقبلان قدميه ، وهما يبكيان بأعلى أصواتهما .
قال علي ( عليه السلام ) : فلو قلت إن جبرئيل لم يكن في مثل تلك الليلة يفارق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقد رأيت من بكائها ما أحسست أن السماوات والأرضين قد بكت لها ، ثم قال لها : يا بنية خليفتي عليكم الله وهو خير خليفة ، والذي بعثني بالحق لقد بكى لبكائك عرش الله ، وماحوله من الملائكة ، والسماوات والأرضون وما فيها ، يا فاطمة والذي بعثني بالحق نبياً ، لقد حُرمت الجنة على الخلائق حتى أدخلها ، وإنك لأول خلق الله كاسية حالية ناعمة ، يا فاطمة فهنيئاً لك . والذي بعثني بالحق إن الحور العين ليفخرن بك وبقربك منهن ، ويتزين لزينتك ، والذي بعثني بالحق إنك لسيدة من يدخلها من النساء .
والذي بعثني بالحق إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا صعق ، فينادي بها إليك أن يا جهنم يقول لك الجبار : أسكتي واستقري بعزتي حتى تجوز فاطمة بنت محمد إلى الجنان ، ولا يشغلهم قتر ولا ذلة .
والذي بعثني بالحق ليدخل حسن عن يمينك ، وحسين عن يسارك ، والحور العين يتشرفن من أعلى الجنان فينظرن إليك بين يدي الله في المقام الشريف . ولواء الحمد مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أمامي ، يكسى إذا كسيت ، ويُحَلَّى إذا حُلِّيت .
والذي بعثني بالحق لأقومن بالخصومة لأعدائك ، وليندمن قوم ابتزوا حقك ، وقطعوا مودتك ، وكذبوا عليَّ ! وليختلجن دوني فأقول : أمتي ! فيقال : إنهم بدلوا بعدك ، وصاروا إلى السعير » .
وفي كمال الدين / 262 : « عن سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت سلمان الفارسي رضي
--------------------------- 445 ---------------------------
الله عنه يقول : كنت جالساً بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضته التي قبض فيها ، فدخلت فاطمة ( عليها السلام ) فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها ، فقال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما يبكيك يا فاطمة ؟ قالت : يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك ! فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء ، ثم قال : يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا ، وإنه حتم الفناء على جميع خلقه ، وإن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارني من خلقه فجعلني نبياً ، ثم اطلع إلى الأرض اطلاعة ثانية فاختار منها زوجك وأوحى إلي أن أزوجك إياه ، وأتخذه ولياً ووزيراً ، وأن أجعله خليفتي في أمتي .
فأبوك خير أنبياء الله ورسله ، وبعلك خير الأوصياء ، وأنت أول من يلحق بي من أهلي . ثم اطلع إلى الأرض اطلاعة ثالثة فاختارك وولديك ، فأنت سيدة نساء أهل الجنة ، وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة ، كلهم هادون مهديون ، وأول الأوصياء بعدي أخي علي ، ثم حسن ثم حسين ، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي ، وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله من درجتي ودرجة أبي إبراهيم . أما تعلمين يا بنية إن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي ، وخير أهل بيتي أقدمهم سلماً ، وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً ؟ !
فاستبشرت فاطمة وفرحت بما قال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم قال : يا بنية إن لبعلك مناقب : إيمانه بالله ورسوله قبل كل أحد ، فلم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي ، وعلمه بكتاب الله عز وجل وسنتي وليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي غيرعلي ( عليه السلام ) ، وإن الله جل وعز علمني علماً لا يعلمه غيري ، وعلم ملائكته ورسله علماً ، فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه ، وأمرني الله أن أعلمه إياه ففعلت ، فليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي وفهمي وحكمتي غيره . وإنك يا بنية زوجته ، وابناه سبطاي حسن وحسين ، وهما سبطا أمتي ، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فإن الله عز وجل آتاه الحكمة وفصل الخطاب .
--------------------------- 446 ---------------------------
ويا بنية : إنا أهل بيت أعطانا الله عز وجل ست خصال لم يعطها أحداً من الأولين كان قبلكم ، ولم يعطها أحداً من الآخرين غيرنا : نبينا سيد الأنبياء والمرسلين ، وهو أبوك ، ووصينا سيد الأوصياء وهو بعلك ، وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك ، قالت : يا رسول الله هو سيد الشهداء الذين قتلوا معه ؟ قال : لا بل سيد شهداء الأولين والآخرين ما خلا الأنبياء والأوصياء ، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة مع الملائكة ، وإبناك حسن وحسين سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة ، ومنا والذي نفسي بيده مهدي هذه الأمة ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً .
قالت وأي هؤلاء الذين سميتم أفضل ؟ قال : علي بعدي أفضل أمتي ، وحمزة وجعفر أفضل أهل بيتي ، بعد علي وبعدك وبعد ابني وسبطي حسن وحسين ، وبعد الأوصياء من ولد ابني هذا وأشار إلى الحسين ، منهم المهدي .
إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، ثم نظر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليها وإلى بعلها وإلى ابنيها فقال : يا سلمان أشهد الله أني سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم ، أما إنهم معي في الجنة .
ثم أقبل على علي ( عليه السلام ) فقال : يا أخي أنت ستبقى بعدي ، وستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك ، فإن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك ، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفَّ يدك ، ولا تلق بها إلى التهلكة ، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ! فاصبر لظلم قريش إياك ، وتظاهرهم عليك ، فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه ، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه .
يا علي : إن الله تبارك وتعالى قد قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ، لا يختلف فيه اثنان من هذه الأمة ، ولا ينازع في شئ من أمره ، ولايجحد المفضول لذي الفضل فضله .
ولو شاء لعجل النقمة وكان منه التغييرحتى يُكَذَّبَ الظالم ويُعلم الحق أين مصيره ،
--------------------------- 447 ---------------------------
ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار القرار : لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .
فقال علي ( عليه السلام ) : الحمد لله شكراً على نعمائه ، وصبراً على بلائه » .
أقول : رووا هذا الحديث وحذفوا بعضه ، لكن ما بقي منه حجة كافية لمن أراد الحق !
ففي الطبراني الكبير : 3 / 57 : « عن علي بن علي المكي الهلالي عن أبيه قال : دخلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في شكاته التي قبض فيها ، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه ، قال : فبكت حتى ارتفع صوتها فرفع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طرفه إليها فقال : حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك ؟ فقالت : أخشى الضيعة من بعدك ! فقال : يا حبيبتي أما علمت أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعث برسالته ، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك وأوحى إلي أن أنكحك إياه .
يا فاطمة ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم يعط أحد قبلنا ولا يعطى أحد بعدنا : أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله وأحب المخلوقين إلى الله عزو جل وأنا أبوك . ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء وأحبهم إلى الله ، وهو عمك حمزة بن عبد المطلب وهو عم أبيك وعم بعلك .
ومنا من له جناحان أخضران يطير في الجنة مع الملائكة حيث يشاء ، وهو ابن عم أبيك وأخو بعلك .
ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما والذي بعثني بالحق خير منهما .
يا فاطمة : والذي بعثني بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة ، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً ، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ، ولا صغير يوقر كبيراً ، فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً ! يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً .
--------------------------- 448 ---------------------------
يا فاطمة : لا تحزني ولا تبكي ، فإن الله عز وجل أرحم بك وأرأف عليك مني وذلك لمكانك من قلبي ، وزوَّجك الله زوجاً هو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعية وأعدلهم بالسوية وأبصرهم بالقضية . وقد سألت ربي عز وجل أن تكوني أول من يلحقني من أهل بيتي !
قال علي رضي الله عنه : فلما قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم تبق فاطمة رضي الله عنها بعده إلا خمسة وسبعين يوماً ، حتى ألحقها الله عز وجل به » .
أقول : يظهر أن الفقرة الأخيرة من كلام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، لكن يحتمل أن تكون من كلام الراوي علي بن هلال الأب ، أو الابن .
ومعنى أخشى الضيعة من بعدك : أي ظلم الأمة . والهرج والمرج : القتل والفوضى . تظاهرت الفتن : توالت وتعاونت في تأثيرها . تقطعت السبل : بمعنى فقد الأمن . حصون الضلالة : مراكزها . قلوباً غلفاً : عليها غشاء عن سماع الحق واتباعه .

11 - أوصى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) بتجهيزه

في روضة الواعظين / 71 : « قال ابن عباس : لما مرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعنده أصحابه قام إليه عمار بن ياسر وقال له : فداك أبي وأمي يا رسول الله من يغسلك منا إذا كان ذلك منك ؟ قال : ذاك علي بن أبي طالب ، إنه لا يهم بعضو من أعضائي ، إلا أعانته الملائكة على ذلك » .
وفي كفاية الأثر / 124 ، عن عمار بن ياسر : « لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا بعلي فسارَّه طويلاً ، ثم قال : يا علي أنت وصيي ووارثي ، قد أعطاك الله علمي وفهمي ، فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم ، وغصب على حقد .
فبكت فاطمة وبكى الحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، فقال لفاطمة : يا سيدة النسوان ممَّ بكاؤك ؟ قالت : يا أبة أخشى الضيعة بعدك ! قال : أبشري يا فاطمة فإنك أول من يلحقني من أهل بيتي ، ولا تبكي ولا تحزني ، فإنك سيدة نساء أهل الجنة ، وأباك سيد الأنبياء ، وابن عمك خير الأوصياء ، وابناك سيدا شباب أهل الجنة ، ومن صلب الحسين يخرج الله الأئمة التسعة مطهرون معصومون ، ومنا مهدي هذه الأمة .
--------------------------- 449 ---------------------------
ثم التفت إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا علي لايلي غسلي وتكفيني غيرك . فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله من يناولني الماء فإنك رجل ثقيل لا أستطيع أن أقلبك . فقال : إن جبرئيل معك والفضل يناولك الماء وليغطي عينيه ، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا انفقأت عينيه » .
أي لا يرى أحد غير علي ( عليه السلام ) بدن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا عميَ ، وهي خصوصية لبدنه بعد وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولعلي ( عليه السلام ) . والمقصود كل بدنه الشريف : لأن علياً ( عليه السلام ) لا يمكن أن ينظر إلى عورته ، والفضل معصوب العينين ، فيتعين أن يكون المقصود بعورته بدنه .
ويؤيده رواية ابن المغازلي / 99 ، أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « لا يحلُّ لرجل يَرَى مَجْردي إلاّ عليّ » . والمَجْرد ما تحت القميص ، وهو غير العورة ، وقد عبر عنه بالعورة .
وفي رواية دعائم الإسلام ( 228 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( وكان الفضل بن العباس يناوله الماء وقد عصب عينيه ، وعليٌّ وجبرئيل يغسلانه ) .
وفي رواية علل الشرائع ( 1 / 188 ) : ( فكنت أغسله والملائكة تقلبه ، والفضل بن العباس يناولني الماء ، وهو مربوط العينين بالخرقة ، ولقد أردت أنزع القميص فصاح بي صايح من البيت سمعت الصوت ولم أر الصورة : لاتنزع قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولقد سمعت الصوت يكرره عليَّ ، فأدخلت يدي من بين القميص فغسلته ، ثم قدم إلى الكفن فكفنته ثم نزعت القميص بعد ما كفنته ) .

12 - جاء الأنصار يبكون ، فخطب فيهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في أمالي المفيد / 46 : « عن عبد الله بن عباس قال : إن علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، دخلوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه الذي قبض فيه فقالوا : يا رسول الله هذه الأنصار في المسجد تبكي رجالها ونساؤها عليك . فقال : وما يبكيهم ؟ قالوا : يخافون أن تموت ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أعطوني أيديكم فخرج في ملحفة وعصابة حتى جلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فما تنكرون من موت نبيكم ؟ ألم أُنْعَ إليكم وتُنْع إليكم أنفسكم ؟ لو خُلِّدَ أحد قبلي ثم بعث إليه لخلدت فيكم . ألا إني لاحق بربي ،
--------------------------- 450 ---------------------------
وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله تعالى بين أظهركم ، تقرؤونه صباحاً ومساءً ، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، وكونوا إخواناً كما أمركم الله ، وقد خلفت فيكم عترتي أهل بيتي ، وأنا أوصيكم بهم ، ثم أوصيكم بهذا الحي من الأنصار ، فقد عرفتم بلاهم عند الله عز وجل وعند رسوله وعند المؤمنين ، ألم يوسعوا في الديار ، ويشاطروا الثمار ، ويؤثروا وبهم الخصاصة ؟ فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه ، فليقبل من محسن الأنصار ، وليتجاوز عن مسيئهم . وكان آخر مجلس جلسه حتى لقي الله عز وجل » .

13 - فاضت نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في يد علي ( عليه السلام )

في الفقيه : 4 / 163 ، عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما حضرت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة نزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله هل لك في الرجوع إلى الدنيا ؟ فقال : لا ، قد بلغت رسالات ربي . فأعادها عليه فقال : لا ، بل الرفيق الأعلى .
ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمون حوله مجتمعون : أيها الناس إنه لا نبي بعدي ، ولا سنة بعد سنتي ، فمن ادعى بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ، ومن اتبعه فإنه في النار . أيها الناس : أحيوا القصاص ، وأحيوا الحق لصاحب الحق ، ولا تفرقوا ، أسلموا وسلموا تسلموا : كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ » .
وفي أمالي الصدوق / 384 ، أنه دخل على الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) رجلان من قريش فقال : « ألا أحدثكما عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقالا : بلى حدثنا عن أبي القاسم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال : سمعت أبي ( عليه السلام ) يقول : لما كان قبل وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاثة أيام هبط عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك وخاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك يقول : كيف تجدك يا محمد ؟ قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أجدني يا جبرئيل مغموماً ، وأجدني يا جبرئيل مكروباً !
فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل وملك الموت ، ومعهما ملك يقال له إسماعيل في الهواء على سبعين ألف ملك ، فسبقهم جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا أحمد ، إن الله عز وجل أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك خاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك ، فقال :
--------------------------- 451 ---------------------------
كيف تجدك يا محمد ؟ قال : أجدني يا جبرئيل مغموماً ، وأجدني يا جبرئيل مكروباً ! فاستأذن ملك الموت فقال جبرئيل : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك لم يستأذن على أحد قبلك ، ولايستأذن على أحد بعدك . قال : إئذن له ، فأذن له جبرئيل فأقبل حتى وقف بين يديه فقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك فيما تأمرني ، إن أمرتني بقبض نفسك قبضتها ،
وإن كرهت تركتها .
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتفعل ذلك يا ملك الموت ؟ قال : نعم ، بذلك أمرت أن أطيعك فيما تأمرني . فقال له جبرئيل ( عليه السلام ) : يا أحمد ، إن الله تبارك وتعالى قد اشتاق إلى لقائك . فقال رسول الله لملك الموت : إمض لما أمرت به ، فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : هذا آخر وطئي الأرض ، إنما كنت حاجتي من الدنيا » .
وفي الإرشاد / 187 : « ثم قضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجَّهَه وغمضه ، ومد عليه إزاره ، واشتغل بالنظر في أمره » .
أقول : قول جبرئيل ( عليه السلام ) : هذا آخر وطئي الأرض ، لا يمنع أن ينزل بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مهام مختلفة لغير النبوة ، لكن لا يطأ الأرض ، أو يرسل جنوده .
والذي نفهمه من أن نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاضت في يد علي ( عليه السلام ) ومسح بها وجهه ، أنه مقام عظيم لعلي ( عليه السلام ) ، وكأن نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تبرك بها علي ( عليه السلام ) ، لأنه وصيه ووارثه .
وقال علي ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 182 ) : « فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين سحري وصدري نفسك ، إنا لله وإنا إليه راجعون » .
وروي عن علي ( عليه السلام ) قال : ( غسلت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا وحدي وهو في قميصه ، فذهبت أنزع عنه القميص ، فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : يا علي ، لا تجرد أخاك من قميصه ، فإن الله لم يجرده ، فغسله في قميصه . وفي نص آخر : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي ( عليه السلام ) : « جبرئيل معك يعاونك ، ويناولك الفضل الماء . وقل له : فليغطِّ عينيه ، فإنه لا يرى أحد عورتي غيرك إلا انفقأت عيناه . فكان العباس وأسامة يناولان
--------------------------- 452 ---------------------------
الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين ، قال علي : فما تناولت عضواً إلا كأنما يقلِبّه معي ثلاثون رجلاً ، حتى فرغت من غسله ) . ( دعائم الإسلام : 1 / 228 ) .

14 - عَلَّم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) كيفية تغسيله وتكفينه ودفنه

في الإرشاد / 187 : « استدعى الفضل بن عباس فأمره أن يناوله الماء لغسله بعد أن عصب عينيه ، ثم شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ به إلى سرته ، وتولى غسله وتحنيطه وتكفينه ، والفضل يعاطيه الماء ويعينه عليه ، فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلى عليه وحده ، لم يشركه معه أحد في الصلاة عليه » . ثم صلى عليه المسلمون .
وفي البحار : 22 / 492 ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : كان في الوصية أن يدفع إليَّ الحنوط ، فدعاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل وفاته بقليل فقال : يا علي ويا فاطمة هذا حنوطي من الجنة ، دفعه إليَّ جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما : إقسماه واعزلا منه لي ولكما . قالت : لك ثلثه ، وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فبكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضمها إليه . وقال : موفقة رشيدة مهدية ملهمة .
يا علي قل في الباقي ، قال : نصف ما بقي لها ، ونصف لمن ترى يا رسول الله ، قال : هو لك فاقبضه .
قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي أضمنت ديني تقضيه عني ؟ قال : نعم ، قال : اللهم فاشهد . ثم قال : يا علي تغسلني ولايغسلني غيرك فيعمى بصره ، قال علي : ولمَ يا رسول الله ؟ قال : كذلك قال جبرئيل ( عليه السلام ) عن ربي ، إنه لا يرى عورتي « أي بدني بعد موتي » غيرك إلا عمي بصره ! قال علي : فكيف أقوى عليك وحدي ؟ قال : يعينك جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وإسماعيل صاحب السماء الدنيا . قلت : فمن يناولني الماء ؟ قال : الفضل بن العباس من غير أن ينظر إلى شئ مني ، فإنه لا يحل له ولا لغيره من الرجال والنساء النظر إلى عورتي وهي حرام عليهم .
فإذا فرغت من غسلي فضعني على لوح ، وافرغ علي من بئري بئر غَرْس » قرب مسجد قباء « أربعين دلواً مفتحة الأفواه . قال عيسى : أو قال أربعين قربة شككت أنا في ذلك ، قال : ثم ضع يدك يا علي على صدري ، وأحضر معك فاطمة والحسن والحسين من غير
--------------------------- 453 ---------------------------
أن ينظروا إلى شئ من عورتي ، ثم تفهم عند ذلك مني تفهم ما كان وما هو كائن ، إن شاء الله تعالى ! أقبلتَ يا علي ؟ قال : نعم . قال : اللهم فاشهد .
قال : وكان فيما أوصى به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يدفن في بيته الذي قبض فيه ، ويكفن بثلاثة أثواب : أحدها يمان ، ولا يدخل قبره غير علي ( عليه السلام ) .
ثم قال : يا علي كن أنت وابنتي فاطمة والحسن والحسين وكبروا خمساً وسبعين تكبيرة ، وكبر خمساً وانصرف ، وذلك بعد أن يؤذن لك في الصلاة . قال علي ( عليه السلام ) : بأبي أنت وأمي من يؤذنني ؟ قال : جبرئيل ( عليه السلام ) يؤذنك . قال : ثم من جاء من أهل بيتي يصلون علي فوجاً فوجاً ثم نساؤهم ، ثم الناس بعد ذلك » .
وفي الطبقات : 2 / 280 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « غسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاث غسلات بماء وسدر ، وغسل في قميص ، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء وكان يشرب منها ، وولي علي غسله والعباس يصب الماء ، والفضل محتضنه يقول : أرحني أرحني قُطعت وتيني ! إني أجد شيئاً يتنزل علي مرتين » .
أقول : قالت رواية أهل‌البيت ( عليهم السلام ) إن العباس لم يشارك ، بل ابنه الفضل .
وفي دعائم الإسلام : 1 / 227 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أوصاه بأن يتولى غسله فكان هو الذي وليه ، قال : فلما أخذت في غسله سمعت قائلاً من جانب البيت وهو يقول : لاتنزع القميص عنه فغسلته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قميصه ، وإني لأغسله وأحس يداً مع يدي تتردد عليه ، وإذا قلبته أعنت على تقليبه ، وقد أردت أن أكبه لوجهه فأغسل ظهره فنوديت لاتُكبه ، فقلبته لجنبه وغسلت ظهره » .
وفي تهذيب الأحكام : 1 / 296 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « كفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ثلاثة أثواب : برد أحمر حبرة ، وثوبين أبيضين صحاريين . قلت له وكيف صليَ عليه ؟ قال سجيَ بثوب وجعل وسط البيت ، فإذا دخل عليه قوم داروا به وصلوا عليه ودعوا له ، ثم يخرجون ويدخل آخرون ، ثم دخل علي ( عليه السلام ) القبر فوضعه على يديه وأدخل معه الفضل بن عباس ، فقال رجل من الأنصار من بني الخيلاء يقال له أوس بن خولى : أنشدكم الله أن تقطعوا حقنا ! فقال له علي ( عليه السلام ) : أدخل
--------------------------- 454 ---------------------------
فدخل معهما . فسألته : أين وضع السرير ؟ فقال : عند رجل القبر وسُلَّ سلاً » .
وفي الإرشاد ( 1 / 187 ) : « ولما صلى المسلمون عليه أنفذ العباس بن عبد المطلب برجل إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح ، وكان ذلك عادة أهل مكة ، وأنفذ إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، واستدعاهما وقال . اللهم خر لنبيك . فوجد أبو طلحة زيد بن سهل فقيل له : إحتفر لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فحفر له لحداً .
ودخل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد ، ليتولوا دفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي ، إنا نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يذهب أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال : ليدخل أوس بن خولي ، وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف من الخزرج ، فلما دخل قال له علي ( عليه السلام ) : إنزل القبر فنزل ، ووضع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على يديه ودلاه في حفرته ، فلما حصل في الأرض قال له : أخرج فخرج ، ونزل علي بن أبي طالب القبر ، فكشف عن وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن ، وهال عليه التراب » .
أقول : لا يصح أن يكون العباس أرسل إلى أبي عبيدة بن الجراح ليحفر للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأن أبا عبيدة كان ثالث أهل السقيفة مع أبي‌بكر وعمر ، وكان مشغولاً معهم !
وفي أمالي المفيد / 102 ، عن ابن عباس قال : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تولى غسله علي بن أبي طالب ، والعباس معه والفضل بن العباس ، فلما فرغ علي ( عليه السلام ) من غسله كشف الإزار عن وجهه ثم قال : بأبي أنت وأمي طبت حياً وطبت ميتاً ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء .
خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء . ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشؤون . ولكن ما لا يرفع كمد وغصص محالفان وهما داء الأجل ، وقلَّا لك .
بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك . ثم أكب عليه فقبل وجهه ومد
--------------------------- 455 ---------------------------
الإزار عليه » .
أقول : معنى قوله ( عليه السلام ) : « انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك : انقطاع وحي النبوة إذ لا نبي بعده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . أما وحي الإمامة والإلهام ، وحتى نزول جبرئيل ( عليه السلام ) فمستمر . وقد ذكر القرآن الوحي لأم موسى ( عليه السلام ) وللنحل .

15 - علمهم علي ( عليه السلام ) كيفية الصلاة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الكافي : 1 / 450 ، عن أبي مريم الأنصاري أنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « كيف كانت الصلاة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال : لما غسله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكفنه سجَّاه ، ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ، ثم وقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وسطهم فقال : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، فيقول القوم كما يقول ، حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي .
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : أتى العباسُ أميرَالمؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا علي إن الناس قد اجتمعوا أن يدفنوا رسول الله في بقيع المصلى وأن يؤمهم رجل منهم ، فخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الناس فقال : يا أيها الناس إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إمام حياً وميتاً ، وقال : إني أدفن في البقعة التي أقبض فيها ، ثم قام على الباب فصلى عليه ، ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ، ثم يخرجون .
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : لما قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجاً فوجاً . وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول في صحته وسلامته : إنما أنزلت هذه الآية في الصلاة عليَّ بعد قبض الله لي : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا » .
أقول : صلى عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحده صلاة الجنازة ، ثم كانت صلاة المسلمين عليه دعاء ، فكانوا يتحلقون حوله وعلي ( عليه السلام ) معهم يقرأ الآية : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي . . ويرددونها معه . « راجع الحدائق : 10 / 451 » .
وفي دعائم الإسلام ( 1 / 234 ) : « فخرج علي صلوات الله عليه عليهم فقال : أيها
--------------------------- 456 ---------------------------
الناس ، إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان إماماً حياً وميتاً ، وإنه لم يقبض نبي إلا دفن في البقعة التي مات فيها . قالوا : إصنع ما رأيت . فقام علي على باب البيت فصلى على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقدم الناس عشرة عشرة ، يصلون عليه وينصرفون » .
وفي نهج البلاغة ( 2 / 172 ) قال ( عليه السلام ) : « ولقد قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن رأسه لعلى صدري ، لقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي ، ولقد وُليت غسله والملائكة أعواني ، فضجت الدار والأفنية ، ملأٌ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم يصلون عليه ، حتى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً » !
وفي روضة الواعظين / 17 ، أن عمار بن ياسر قال للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « فداك أبي وأمي يا رسول الله فمن يصلي عليك منا ، إذا كان ذلك منك ؟ قال : مه رحمك الله ، ثم قال لعلي ( عليه السلام ) يا ابن أبي طالب : إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وأنِقْ غسلي ، وكفِّني في طمريَّ هذين ، أو في بياض مصر وبرد يماني ، فلا تغال في كفني ، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري فأول من يصلى عليَّ الجبار جل جلاله من فوق عرشه ، ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصى عددهم إلا الله جل وعز ، ثم الحافُّون بالعرش ، ثم سكان أهل سماء سماء » .

16 - حديث علي ( عليه السلام ) عن خصائص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد موته !

1 . ثقل بدنه الشريف ثقلاً غيرعادي ، ففي المناقب ( 1 / 205 ) قال علي ( عليه السلام ) : « فما تناولت عضواً إلا كأنما كان يقلبه معي ثلاثون رجلاً ، حتى فرغت من غسله » .
وفي طبقات ابن سعد ( 1 / 280 ) عن الباقر ( عليه السلام ) قال : « وولي علي غسله والعباس يصب الماء والفضل محتضنه يقول : أرحني أرحني قُطعت وتيني ! إني أجد شيئاً يتنزل علي مرتين » ! وشاهدنا منه ثقل بدنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والعباس لم يشترك في تغسيله .
2 . أن كل بدنه عورة ، لا يجوز لأحد أن ينظر اليه لئلا يعمى ! فكأن فيه نوعاً من الأشعة تسبب فقدان البصر ، ولا يتحملها إلا وصيه علي ( عليه السلام ) . « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لا يلي غسلي غيرك ، ولا يواري عورتي غيرك ، فإنه إن رأى أحد عورتي غيرك
--------------------------- 457 ---------------------------
تفقأت عيناه ، فقلت له : كيف لي بتقليبك يا رسول الله ؟ فقال : إنك ستعان ، فوالله ما أردت أن اقلب عضوا من أعضائه إلا قلب لي ) . ( الخصال / 572 ) .
يا علي غسلني ، ولايغسلني غيرك فيعمى بصره . قال علي ( عليه السلام ) : ولمَ يا رسول الله ؟ قال : كذلك قال لي جبرئيل عن ربي ، إنه لا يرى عورتي أحد غيرك إلا عمي بصره » !
« جامع أحاديث الشيعة : 3 / 154 » .
« فإنه لا يرى أحد عورتي غيرك إلا طمست عيناه . . قلت : فمن يناولني الماء ؟ قال : الفضل بن العباس من غير أن ينظر إلى شئ مني ، فإنه لا يحل له ولا لغيره من الرجال والنساء النظر إلى عورتي . . وأحضر معك فاطمة والحسن والحسين من غير أن ينظروا إلى شئ من عورتي » . « المناقب : 1 / 205 ، والبحار : 22 / 493 » .
3 . أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تكلم بعد موته ! وقد عقد في بصائر الدرجات / 203 ، باباً روى فيه عشرة أحاديث ، ونحوها الكافي ( 1 / 296 ، و : 3 / 150 ) .
منها : عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : إذا أنا مِتُّ فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرس فغسلني وكفني ، وخذ بمجامع كفني وأجلسني ، ثم سلني ما شئت ، فوالله لا تسألني عن شئ إلا أجبتك » !
وفي رواية : « وكفِّني ثم أقعدني واسألني ، واكتب » .
وفي رواية : « فخذني وأجلسني ، وضع يدك على صدري ، وسلني عما بدا لك » .
وفي رواية : « وكفني وأقعدني وما أملي عليك فاكتب . قال قلت : ففعل ؟ قال : نعم » وفي رواية : « فأدرجني في أكفاني ، ثم ضع فاك على فمي . قال : ففعلت وأنبأئي بما هو كائن إلى يوم القيمة » .
وفي الخرائج ( 2 / 800 ، و : 2 / 827 ) : « أمرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا توفي أن أستقي سبع قرب من بئر غرس فاغسله بها ، فإذا غسلته وفرغت من غسله أخرجت من في البيت ، فإذا أخرجتهم قال : فضع فاك على في ثم سلني أخبرك عما هو كائن إلى يوم الساعة من أمر الفتن . قال علي ( عليه السلام ) : ففعلت ذلك ، فأنبأني بما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وما من فتنة تكون إلا وأنا أعرف أهل ضلالتها من أهل حقها » .
--------------------------- 458 ---------------------------
ومنها : « فغسلني بسبع قرب من بئر غرس ، غسلني بثلاث قرب غسلاً ، وسُنَّ عليَّ أربعاً سَنّاً ، فإذا غسلتني وحنطتني فأقعدني ، وضعْ يدك على فؤادي ثم سلني أخبرك بما هو كائن إلى يوم القيامة ! قال : ففعلت . وكان علي ( عليه السلام ) إذا أخبرنا بشئ يكون قال : هذا مما أخبرني به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد موته » ! والمناقب : 1 / 316 .

17 - أرسل علي ( عليه السلام ) إلى أهل السقيفة ليحضروا جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

لما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لبس عمر لباس حربه وخرج شاهراً سيفه يجول أمام بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يهدد من يقول إنه مات حتى أزبد شدقاه !
ففي سنن الدارمي ( 1 / 39 ) : « فقام عمر فقال : إن رسول الله لم يمت ، ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسى ، والله لا يموت رسول الله حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم ! فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما يتوعد ويقول ! فقام العباس فقال : إن رسول الله قد مات ، وإنه لبشر » . ومسند أحمد : 3 / 196 . .
وفي شرح النهج : 1 / 178 : « لما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشاع بين الناس موته طاف عمر على الناس قائلاً إنه لم يمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه ! وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات ! فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده ، حتى جاء أبو بكر فقال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت » !
وسبب فعل عمر أنه خاف أن يبادر بنو هاشم لبيعة علي ( عليه السلام ) حيث دعا العباس إلى ذلك وقال لعلي ( عليه السلام ) : « أبسط يدك أبايعك فيقال : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله » « الإمامة لابن قتيبة : 1 / 12 » . فأراد عمر أن يكسب الوقت حتى يحضر أبو بكر من بيته في السنح خارج المدينة ! فلما اطمأن إلى أن علياً ( عليه السلام ) لم يقبل البيعة ، وجاء أبو بكر وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات ، قبل عمر ذلك ، وسكت ! وبقي عندهما الخوف من الأنصار أن يبادروا إلى بيعة سعد بن عبادة ، وكان مريضاً في سقيفته التي تسمى سقيفة بني ساعدة ، فسارعا ليصفقا على يد أبي‌بكر في بيت سعد ، بمساعدة اثنين من خصومه الأوس وجمهور الطلقاء !
--------------------------- 459 ---------------------------
قال ابن كثير في سيرته : 4 / 491 : « توفي رسول الله وأبو بكر في صائفة من المدينة ، قال فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال : فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً ، مات محمد ورب الكعبة . فذكر الحديث قال : فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان حتى أتوهم ،
فتكلم أبو بكر . . . » .
وفي رواية النسائي في الوفاة / 75 : « ثم قال أبو بكر عندكم صاحبكم ، وخرج » !
وفي سنن البيهقي : 8 / 145 : « دونكم صاحبكم ، لبني عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعني في غسله وما يكون من أمره ، ثم خرج » !
وفي مصنف ابن أبي شيبة : 8 / 572 ، عن عروة : « إن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي ، وكانا في الأنصار ، فدفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل أن يرجعا » .
وقد سأل بعضهم عمر عن مراسم جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فحوله على علي ( عليه السلام ) ، ففي الطبقات : 2 / 262 : « عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين : ما كان آخر ما تكلم به رسول الله ؟ فقال عمر : سل علياً . قال : أين هو ؟ قال هو هنا فسأله فقال علي : أسندته إلى صدري ، فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة . فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون . قال : فمن غسله يا أمير المؤمنين ؟ قال : سل علياً . قال فسأله فقال : كنت أغسله وكان العباس جالساً وكان أسامة وشقران يختلفان إليَّ بالماء » .
وفي غيبة النعماني / 100 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن سكك المدينة يومها كانت خالية قال : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دخل المدينة رجل من ولد داود على دين اليهودية فرأى السكك خالية ، فقال لبعض أهل المدينة : ما حالكم ؟ فقيل له : توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال الداودي : أما إنه توفي اليوم الذي هو في كتابنا » !
وفي الإرشاد : 1 / 187 : « ولم يحضردفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر الناس ، لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك ! وأصبحت فاطمة ( عليها السلام ) تنادي : واسوء صباحاه ! فسمعها أبو بكر فقال لها :
--------------------------- 460 ---------------------------
إن صباحك لصباح سوء ! واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب برسول الله وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فتبادروا إلى ولاية الأمر واتفق لأبي‌بكر ما اتفق لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتى يفرغ بنو هاشم فيستقر الأمر مقره ، فبايعوا أبا بكر لحضوره المكان ، وكانت أسباب معروفة تيسر منها للقوم ما راموه » .
وفي المناقب ( 1 / 206 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « فصلوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء ، حتى صلى عليه الأقرباء والخواص ، ولم يحضرأهل السقيفة . وكان عليٌّ ( عليه السلام ) أنفذ إليهم بريدة ، وإنما تمت بيعتهم بعد دفنه » .
أي انشغلوا بسقيفتهم ولم يحضروا جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم تكتمل لهم البيعة إلا بعد دفنه . وتدل هذه الرواية على أن دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان ليلة الأربعاء ، وهو الأقوى والمشهور عند الشيعة والسنة ، ويوجد قول بأنه دفن ليلة الثلاثاء ، لكنه غير قوي .
كما تركت عائشة وحفصة جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حين وفاته ، وخالفتا الحداد الواجب عليهما ، وانشغلتا مع أبويهما بالذهاب إلى بيوت الأنصار لإقناعهم ببيعة أبي‌بكر !
قالت عائشة : « ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل » .
« الإستيعاب : 1 / 47 ، وابن هشام : 4 / 321 ، والطبري : 3 / 213 ، ودلائل النبوة : 7 / 256 » . وكانت عائشة تتحسر لتجهيز علي ( عليه السلام ) للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغيابها فقالت : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه » . « أحكام الجنائز للألباني / 49 وصححه » .

18 - لماذا أرسل لهم بريدة بن الحصيب ؟

أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي ليقول لهم : إن كنتم تآمرتم لتأخذوا خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خلسة بدون مشورتنا وإعلامنا ، فنحن لا ندفنه خلسة عنكم ، ولانحرمكم من التشرف بالمشاركة بجنازته ، فتفضلوا وشاركوا !
لكنهم خافوا أن يحضروا جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيواجههم عليٌّ ( عليه السلام ) والمسلمون ويبطلوا مشروعهم ! وقد اختار أن يكون رسوله إليهم بريدة الذي كان من حزبهم في بغض
--------------------------- 461 ---------------------------
علي ( عليه السلام ) وتاب على يد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فهوخبير بهم ، وهم خبيرون بما قاله له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ( عليه السلام ) . ولا بد أنه كلمهم بالحجة ، ولم يستطيعوا رده .
وقد اعترض عليهم بريدة لما هاجموا بيت الزهراء ( عليها السلام ) فضربوه وأخرجوه
من المسجد !

19 - كانت تصل اليه أخبار أهل السقيفة

روى المحدثون والمؤرخون أن علياً ( عليه السلام ) أدان عمل أهل السقيفة وفند حجتهم ، وأعلن أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره بأن الأمة ستغدر به من بعده ، وأوصاه أن يطلب النصرة من الصحابة ، فإن وجد أربعين رجلاً قاتل الطلقاء وخليفتهم ، وإلا حفظ نفسه لأن حربه معهم ستكون حرباً بين بني هاشم وقريش ، ويكون ضررها على الإسلام أكبر من نفعها ، لأن قريشاً ستعلن كفرها بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتزعم أنه ادعى النبوة ليؤسس ملكاً لبني هاشم ، وتؤلب العرب على الردة ، وهم مهيؤون لها !
روى المفيد في الإرشاد ( 1 / 189 ) : « لما تم لأبي‌بكر ما تم وبايعه من بايع ، جاء رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يسوي قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمسحاة في يده ، فقال له : إن القوم قد بايعوا أبا بكر ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم ، وبَدَرَ الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر ! فوضع طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ، ثم قال : بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . اَلَم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .
وفي شرح نهج البلاغة ( 1 / 116 ) : « لما انتهت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ( عليه السلام ) : ما قالت الأنصار ؟ قالوا قالت : منا أمير ومنكم أمير قال ( عليه السلام ) : فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ! قالوا وما في هذا من الحجة عليهم ؟ فقال ( عليه السلام ) : لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم .
--------------------------- 462 ---------------------------
ثم قال ( عليه السلام ) : فما ذا قالت قريش ؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول . فقال ( عليه السلام ) : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » !
وهذا غيضٌ من فيض من احتجاجه ( عليه السلام ) عليهم ، ببيعتهِم له يوم الغدير ، وبنصوص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العديدة القاطعة في خلافته له .

20 - دُفِنَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيته وليس في غرفة عائشة

كتبنا في جواهر التاريخ ( 3 / 303 ) بحثاً مستوفياً تحت عنوان : أين دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ وأثبتنا فيه أنه دفن في بيته وفي حجرته الكبيرة التي كان يستقبل فيها الناس ، وكان لها بابان باب إلى المسجد وباب إلى داخل داره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقد صلى المسلمون على جثمانه الشريف ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكانوا يدخلون من باب ويخرجون من آخر .
أما غرفة عائشة فقد نصوا على أنه كان لها باب واحد ! وقالت عائشة إنها كانت فارغة عندما انشغلوا بمرض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغسله ، قالت عن آيات رضاعة الكبير : كما في ابن ماجة ( 1 / 625 ) : ( ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها ) .
والداجن : حيوان أهلي يربى في المنزل كالماعز ، ومعنى كلامها أن غرفتها كانت فارغة فدخلت السخلة وأكلت الآيات !
وفي الفصول للجصاص ( 2 / 264 ) : ( اشتغلنا بدفنه فدخلت داجن فأكلتها ) .
وفي محاضرات الأدباء ( 2 / 420 ، وطبعة / 448 ) : ( وشغلنا بشكاة رسول الله فدخلت داجن فأكلته ) .
وفي أصول السرخسي ( 2 / 78 ) : ( فاشتغلنا بدفن رسول الله فدخل داجن البيت فأكله ) .
وفي طبقات الحنفية للقرشي / 259 : ( تشاغلنا بغسله فدخل داجن الحي فأكلها ) .
وفي لجواهر المضية لابن أبي الوفا ( 1 / 359 ) : ( تشاغلنا بغسله فدخل داجن الحي فأكلها ) . . إلى آخرالأدلة على أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يدفن في بيتها ولا تمرض فيه كما زعمت . لكن السلطة سيطرت على بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فادعت عائشة أنها حجرتها ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفن فيها !
--------------------------- 463 ---------------------------

21 - حُزن أهل‌البيت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعزية جبرئيل والخضر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهم

في الكافي ( 1 / 445 ) عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بات آل محمد بأطول ليلة ، حتى ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم ! لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وترالأقربين والأبعدين في الله !
فبيناهم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه فقال : السلام عليكم أهل‌البيت ورحمة الله وبركاته ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، ونجاة من كل هلكة ، ودرَكاً لما فات : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ .
إن الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه ، واستودعكم علمه ، وأورثكم كتابه ، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزه ، وضرب لكم مثلاً من نوره ، وعصمكم من الزلل ، وآمنكم من الفتن ، فتعزوا بعزاء الله ، فإن الله لم ينزع منكم رحمته ، ولن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمت النعمة ، واجتمعت الفرقة ، وائتلفت الكلمة ، وأنتم أولياؤه ، فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق . مودتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ، ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير ، فاصبروا لعواقب الأمور ، فإنها إلى الله تصير .
قد قبلكم الله من نبيه وديعة ، واستودعكم أولياء المؤمنين في الأرض ، فمن أدى أمانته أتاه الله صدقه ، فأنتم الأمانة المستودعة ، ولكم المودة الواجبة ، والطاعة المفروضة ، وقد قبض رسول الله وقد أكمل لكم الدين ، وبين لكم سبيل المخرج ، فلم يترك لجاهل حجة ، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر ، أو نسي أو تناسى ، فعلى الله حسابه ، والله من وراء حوائجكم . وأستودعكم الله ، والسلام عليكم .
فسألت أبا جعفر ( عليه السلام ) : ممن أتاهم التعزية ؟ فقال : من الله تبارك وتعالى على لسان جبريل ( عليه السلام ) » . ونحوه : 3 / 221 ، والمناقب : 2 / 83 . .
وفي شرح الأخبار : 2 / 419 ، أن سفيان بن عيينة قال : « أتينا جعفر بن محمد ( عليه السلام ) نعزيه بابنه إسماعيل ، فتحدث معنا فذكر وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال في الحديث : فلما
--------------------------- 464 ---------------------------
قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتاهم آت يعني أهل بيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يسمعون كلامه ولا يرون شخصه ، فقال : السلام عليكم أهل‌البيت ورحمة الله وبركاته : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ . إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، فالله فارجوه ، وإياه فاعبدوه ، واعلموا أن المصاب من حرم الثواب ، والسلام علكيم ورحمة الله وبركاته . قال سفيان بن عيينة : فقلت لجعفر بن محمد : من كنتم ترون المتكلم ؟ قال : كنا نراه جبرائيل ( عليه السلام ) » .
وفي الأصول الستة عشر / 122 : « فسأله يحيى بن أبي القاسم : جعلت فداك ممن آتاهم التعزية ؟ قال : من الله عز وجل » .
وفي أمالي الصدوق / 349 : « فلما توفي رسول الله صلى الله على روحه الطيب ، جاءت التعزية ، جاءهم آتٍ يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة . إن في الله عز وجل عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، ودركاً من كل ما فات ، فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : هل تدرون من هذا ؟ هذا الخضر ( عليه السلام ) » .
ورواه في كمال الدين / 392 ، وقال : « قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : إن أكثر المخالفين يسلمون لنا حديث الخضر ( عليه السلام ) ويعتقدون فيه أنه حيٌّ غائب عن الأبصار ، وأنه حيث ذكر حضر ، ولا ينكرون طول حياته ، ولا يحملون حديثه على عقولهم . ويدفعون كون القائم ( عليه السلام ) وطول حياته في غيبته ، وعندهم أن قدرة الله عز وجل تتناول إبقاءه إلى يوم النفخ في الصور ، وإبقاء إبليس مع لعنته إلى يوم الوقت المعلوم في غيبته ، وأنها لا تتناول إبقاء حجة الله على عباده مدة طويلة في غيبته ، مع ورود الأخبار الصحيحة بالنص عليه بعينه واسمه ونسبه ، عن الله تبارك وتعالى ، وعن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعن الأئمة ( عليهم السلام ) » .
ورواه الحاكم وصححه « 3 / 57 » قال : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عزتهم‌الملائكة ،
--------------------------- 465 ---------------------------
يسمعون الحس ولا يرون الشخص فقالت : السلام عليكم أهل‌البيت ورحمة الله وبركاته . إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل فائت ، فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإنما المحروم من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » .
وفي كفاية الأثر / 198 ، عن محمود بن لبيد قال : « لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء وتأتي قبر حمزة وتبكي هناك ، فلما كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة فوجدتها تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكتت فأتيتها وسلمت عليها وقلت : يا سيدة النسوان قد والله قطعت أنياط قلبي من بكائك . فقالت : يا با عمرو يحق لي البكاء ، ولقد أصبت بخير الآباء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واشوقاه لي رسول الله ، ثم أنشأت عليها السلام تقول :
إذا مات يوماً ميتٌ قلَّ ذكره * وذكر أبي إذ مات والله أكثر
قلت : يا سيدتي إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري ؟ قالت : سل . قلت : هل نص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل وفاته على علي بالإمامة ؟ قالت : واعجباه أنسيتم يوم غدير خم ؟ ! قلت : قد كان ذلك ، ولكن أخبريني بما أسرَّ إليك . قالت : أشهد الله تعالى لقد سمعته يقول : عليٌّ خير من أخلفه فيكم ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار ، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين ، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة » .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « إن أصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك ، فاذكر مصابك برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط » . « الكافي : 3 / 220 » .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قال لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( يا علي غسلني ولايغسلني غيرك . ولقد قبض ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن رأسه لعلى صدري ، ولقد وليت غسله بيدي وحدي ، غسلته بالروح والريحان . وما تناولت عضواً إلا كأنه يقلبه معي ثلاثون رجلاً ) .
( ومن كلام له ( عليه السلام ) قاله وهو يلي غسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتجهيزه : ( بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء . خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس
--------------------------- 466 ---------------------------
فيك سواء . ولولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلاً ، والكمد محالفاً وقلَّا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه . بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك ) . ( نهج البلاغة : 2 / 228 ) .
وتقدم وصف حزنه على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جوابه للحبر اليهودي ( الخصال / 365 ) : ومما قال ( عليه السلام ) : ( فنزل بي من وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ، ولا يقوي على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم ، جازع لجزعهم . وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولا جزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليَّ ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً ) .
* *
--------------------------- 467 ---------------------------

الفصل الرابع والعشرون: أصعب أيام علي ( عليه السلام ) بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . الشهران الأشد إيلاماً لعلي ( عليه السلام )

عاش أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصعب أيام حياته بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الشهرين الأولين ، فقد كانت أياماً مليئة بالآلام والأخطار ، وكان أشدها عليه ظلامة الزهراء ( عليها السلام ) بمحضره ، لأنه لم يستطع نصرتها ، وهي العزيزة كزوجته وأم أولاده ، والغالية عليه لأنها وديعة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمانته عنده ! ويليها ظلامته هو ( عليه السلام ) في أحداث إجباره على بيعة
أهل السقيفة .
ثم جاءت موجة المتنبئ طليحة وخطره على الدولة الإسلامية وأصل الإسلام .

2 . مدة انشغاله بمراسم وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

المشهور عند الجميع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) توفي يوم الاثنين بعد الزوال ، ودفن ليلة الأربعاء أواخر الليل . ففي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 206 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( قال الناس : كيف الصلاة عليه ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : إن رسول الله إمام حياً وميتاً ، فدخل عليه عشرة فصلوا عليه يوم الاثنين ، وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء ، حتى صلى عليه الأقرباء والخواص ،
ولم يحضر أهل السقيفة ) .
وقبلَ صاحب الجواهر ذلك ، فقال ( 12 / 102 ) : ( فدخل عليه عشرة عشرة ، وصلوا عليه يوم الاثنين ، وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء ، حتى صلى عليه كبيرهم وصغيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وضواحي المدينة ، بغير إمام ) .
--------------------------- 468 ---------------------------
وفي رواية أخرى ارتضاها في الجواهر ( 12 / 105 ) : ( حتى صلى عليه أهل المدينة والعوالي ) .
وروى الطوسي في أماليه / 266 ، عن ابن حزم ، أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) توفي يوم الاثنين ، ودفن ليلة الأربعاء . وكأنه ارتضاه حيث لم يرده ولم يعقب عليه . لكن الشيخ المفيد ( رحمه الله ) اختار أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفن في يوم الاثنين ، وتبعه صاحب الصحيح من السيرة ( 22 / 337 ) واستدل بأنه يستحب تعجيل دفن الميت ، وأنه لم يكن موجب لتأخير دفنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لكن تعجيل الدفن يستثنى منه أهل الشرف ، وحالات عديدة . فهو رأي ضعيف أمام الشهرة القوية والنصوص المتقدمة ، ويكفي موجباً للتأخيرأن يصلي عليه
أهل المدينة وضواحيها ، كما نصت روايتنا : ( حتى صلى عليه كبيرهم وصغيرهم ، وذكرهم وأنثاهم وضواحي المدينة ) .
وروت مصادر السنيين مثله ، وأنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفن ليلة الأربعاء ، ففي مسند أحمد ( 6 / 62 ) والبيهقي ( 3 / 409 ) : ( عن عائشة قالت : ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء ) . ورواه ابن هشام ( 4 / 1077 ) ودلائل النبوة للبيهقي : 7 / 256 ، والاكتفاء للكلاعي : 2 / 60 ، وسيرة ابن كثير : 4 / 505 ، والشمائل المحمدية للترمذي / 204 ، وغيرها .
وفي السيرة الحلبية ( 3 / 493 ) عن أم‌سلمة قالت : ( كنا مجتمعين نبكي تلك الليلة ( ليلة الأربعاء ) لم ننم ، فسمعنا صوت المساحي ، فصحنا وصاح أهل المسجد ، فارتجت المدينة صيحة واحدة ) . وقد أخذت عائشة هذا الكلام من أم‌سلمة ، لأن عائشة كانت مشغولة في السقيفة ، ولم تحضرجنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وخالفت ذلك روايات في مصادر السنة بأنه دفن يوم الاثنين ، وفي بعضها : يوم الثلاثاء ، وروى ابن سعد في الطبقات ( 2 / 305 ) : ( قال شيوخ من الأنصار في بني غنم : سمعنا صوت المساحي آخر الليل ليلة الثلاثاء . ورويَ : ودفن يوم الثلاثاء حين
زاغت الشمس ) .
وقال ابن عبد البر في الدرر / 271 : ( ودفن يوم الثلاثاء ، وقيل بل دفن ليلة الأربعاء ولم يحضرغسله ولا تكفينه إلا أهل بيته ) !
وقد عرفت أن المشهور عند الجميع أن دفنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان ليلة الأربعاء ، وهو الأقوى .
--------------------------- 469 ---------------------------

3 . خطة أبي سفيان لإشعال حرب بين بني هاشم وقريش

اعتبر قادة قريش أن أبا سفيان خضع في فتح مكة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمر قريشاً أن تستسلم لأنه لا طاقة لها بحربه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولما رأوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عين على مكة والياً أموياً ، قالوا إن أبا سفيان أخذته المنافية ، أي تواطأ مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على قريش ، لأن جدهما عبد مناف ! لذلك عزل زعماء قريش أبا سفيان ورأسوا بدله سهيل بن عمرو ، ولم يشركوه في خطتهم وفعالياتهم لأخذ خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فتفاجأ أبو سفيان بالسقيفة فأظهر غضبه ، وتحرك ليكسب سهماً من المتغلبين على الحكم ، فكان يفاوض أبا بكر وعمر من جهة ، ويحاول تحريك علي ( عليه السلام ) وبني هاشم ضد أهل السقيفة من جهة أخرى !
وجاء أبو سفيان إلى علي ( عليه السلام ) مرتين ، مرة وهو مشغول بتجهيز النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومرةً بعد دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ففي الإرشاد ( 1 / 189 ) : « وقد كان أبو سفيان جاء إلى باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي والعباس متوفران على النظر في أمره ، فنادى :
بني هاشم لاتُطمعوا الناس فيكمُ * ولاسيَّما تَيْمُ بن مرةَ أو عَدِي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسنٍ علي
أبا حسن فاشدد بها كف حازمٍ * فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي
ثم نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم يا بني عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل « بكر » الرذل بن الرذل ! أما والله لئن شئتم لأملأنها خيلاً ورجلاً !
فناداه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إرجع يا أبا سفيان ، فوالله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعلى كل امرئ ما اكتسب ، وهو ولي ما احتقب !
فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فوجد بني أمية مجتمعين فيه ، فحرضهم على الأمر فلم ينهضوا له » . وذلك لأنهم أطمعوهم بسهم فسكتوا .
--------------------------- 470 ---------------------------

4 . أحبط علي ( عليه السلام ) خطة أبي سفيان

لكن أبا سفيان تابع سعيه لإقناع العباس عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجماعة بأن يبايعوا علياً ( عليه السلام ) ويقاوموا أهل السقيفة ، فأجابه علي ( عليه السلام ) أيضاً بالرد كما أجابه في الأولى !
ففي نهج البلاغة ( 1 / 40 ) : « ومن خطبة له ( عليه السلام ) لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب ، في أن يبايعا له بالخلافة : أيها الناس : شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا عن تيجان المفاخرة . أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح . هذا ماء آجن ، ولقمة يغص بها آكلها ! ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه ! فإن أقل يقولوا حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت ! هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه .
بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة » . أي اضطراب حبل الدلو في البئر العميقة . وبذلك رفض عليٌّ ( عليه السلام ) عرض أبي سفيان والعباس بالبيعة له ، وإعلان الحرب على أهل السقيفة ، ونصحهم بالسكوت .
وفي شرح النهج ( 1 / 219 ) : ( لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واشتغل علي ( عليه السلام ) بغسله ودفنه ، وبويع أبو بكر ، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي ( عليه السلام ) لإجالة الرأي ، وتكلموا بكلام يقتضى الإستنهاض والتهييج ، فقال العباس : قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم ، ولا لظنة نترك آراءكم ، فأمهلونا نراجع الفكر ، فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد ، ونبسط إلى المجد أكفاً لانقبضها أو نبلغ المدى . وإن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ، ولا لوهنٍ في الأيْد ، والله لولا أن الإسلام قيد الفتك ، لتدكدكت جنادل صخر يُسمع اصطكاكها من المحل العلى .
فحلَّ علي ( عليه السلام ) حبوته وقال : الصبر حلم ، والتقوى دين ، والحجة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والطريق الصراط .
أيها الناس : شقوا أمواج الفتن . . . الخطبة ، ثم نهض فدخل إلى منزله ، وافترق القوم ) .
نلاحظ أن العباس تكلم بكلام مبهم ، وكان يميل إلى أن تتم بيعة علي ( عليه السلام ) وأن يقاتلوا
--------------------------- 471 ---------------------------
أهل السقيفة لكن علياً ( عليه السلام ) خالفه ، فحلَّ حبوته وقال . . أي أعلن عدم استجابته لدعوة أبي سفيان ، وأنه لا يشد لها حيازيمه ، بل يحلها ويقعد .
وقول الراوي : من خطبة له ( عليه السلام ) : يقصد به كلامه في عدة من الناس ، وسماه خطبة لبلاغته وفصاحته ، والكلام البليغ يسمى خطبة .
ونلاحظ هنا أن بني أمية لم يقبلوا مواجهة أهل السقيفة لمصلحة بني هاشم ، فهم أقرب إلى أهل السقيفة من جهة ، وهم يريدون الثمن لتأييدهم لأي طرف ! وهذا هو موقف أبي سفيان الحقيقي ، ولهذا الغرض كان تحريكه للعباس وعلي ( عليه السلام ) وبني هاشم ، وإظهاره أنه متضامنٌ معهم ، واستنكاره بيعة رجل من بني تيم ، ووصفه بأنه نذل ابن نذل ! ورفعه شعار أن الملك في قريش لبني عبد مناف !
فما هذا التجييش والتهويش إلا ليعطيه أهل السقيفة سهماً ! وقد فهموا عليه ، فقال عمر لأبي‌بكر لقد جاء أبو سفيان من نجران ومعه مال الجزية والصدقات فأعطه له ، وأعط ابنه يزيداً منصباً ، فأعطوه فانتهت ثورته وصار شتمه مدحاً وقال : وَصَلَتْهُم رحِمٌ وشكرهم !
أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقضيته تختلف ، لأنها غصب الخلافة والانحراف بالإسلام والأمة عن مسارها الذي رتبه الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . لكنه مأمور من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن لا يواجههم إلا إذا وجد أربعين يبايعونه على الموت .
قال ابن الجوزي في تذكرة الخواص ( 1 / 121 ) : ( عن ابن عباس قال : لما دفن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاء العباس وأبو سفيان بن حرب وجماعة من بني هاشم إلى علي ( عليه السلام ) فقالوا : مد يدك نبايعك وحرضوه ، فامتنع ، وقال له العباس : أنت والله بعد أيام عبدالعصا ، فخطب وقال : أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة . . الخ . ) .

5 . ذهول الصحابي البراء بن عازب من بيعة الخلسة !

قال الجوهري في كتابه السقيفة / 48 ، وهو من أقدم الكتب في هذا الموضوع : « سمعت البراء بن عازب ، يقول : لم أزل لبني هاشم محباً ، فلما قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذني ما يأخذ
--------------------------- 472 ---------------------------
الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي في الحجرة وأتفقد وجوه قريش . فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وعثمان وإذ قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ، وإذ قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ! فلم ألبث وإذا أنا بأبي‌بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي‌بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى !
فأنكرت عقلي ! وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً وقلت : قد بايع الناس لأبي‌بكر بن أبي قحافة ، فقال العباس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني !
فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعماراً ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ! فلما كان بليل خرجت إلى المسجد فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالقرآن ، فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء فضاء بني قضاعة ، وأجد نفراً يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم ، فعرفوني وما أعرفهم ، فأتيتهم فأجد المقداد بن الأسود ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي ، وأبا ذر ، وحذيفة ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وإذا حذيفة يقول لهم : والله ليكونن ما أخبرتكم به ، والله ما كذبت ولا كذبت ! وإذ القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ! ثم قال : إئتوا أبي بن كعب فقد علم كما علمت ، قال فانطلقنا إلى أبي فضربنا عليه بابه حتى صار خلف الباب فقال : من أنتم ؟ فكلمه المقداد فقال : ماحاجتكم ؟ فقال له : ما أنا بفاتح بابي وقد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد ؟ فقلنا : نعم ، فقال : أفيكم حذيفة ؟ فقلنا : نعم ، قال : فالقول ما قال ! وبالله ما أفتح عني بابي حتى تجرى على ما هي جارية ، ولمَا يكون بعدها شرٌّ منها ،
والى الله المشتكى !
وبلغ الخبر أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة ، فسألاهما عن
--------------------------- 473 ---------------------------
الرأي ؟ فقال المغيرة : الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له هذا الأمر نصيباً فيكون له ولعقبه ، فتقطعوا به من ناحية علي ، ويكون لكم حجة عند الناس على علي ، إذا مال معكم العباس .
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة ، حتى دخلوا على العباس ، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال : إن الله ابتعث لكم محمداً نبياً وللمؤمنين ولياً ، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم ، متفقين غير مختلفين فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرةً ولا جبناً ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب ، وما انفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتخذ لكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع وخطبه البديع ، فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عم رسول الله ، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك ، ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم ! وعلى رسلكم بني هاشم فإن
رسول الله منا ومنكم !
فاعترض كلامه عمر ، وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته ، فقال : إي والله وأخرى أنا لم نأتكم عن حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم وعامتهم ، ثم سكت » !
أقول : البراء بن عازب صحابي كبير ، وبطولاته في معارك الإسلام مشهورة .
قال الذهبي في سيره ( 3 / 194 ) : « البراء بن عازب بن الحارث ، الفقيه الكبير ، أبو عمارة الأنصاري الحارثي المدني ، نزيل الكوفة ، من أعيان الصحابة . روى حديثاً كثيراً وشهد غزوات كثيرة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » .
--------------------------- 474 ---------------------------
وتدل شهادته على أن خلافة أبي‌بكر كانت خلسة وفلتةً بعيدة عن النص النبوي ومشورة الأمة ! وكانت إجباراً وإرهاباً بالطلقاء الذين خرجوا مسلحين يخبطون من رأوه ويجبرونه على البيعة !
وتدل على أنها كانت بيعة متزلزلة أياماً ، حتى غلبت فيها قريش والطلقاء ، وانقسم الأنصار وتحاسدوا وتخاذلوا !

6 . جمع علي ( عليه السلام ) القرآن فأبوا أن يأخذوه !

في الإحتجاج ( 1 / 280 ) قال له الأشعث : ( ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله ما منعني من ذلك إلا عهد أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبرني وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك بعدي ، وتنقض فيك عهدي ، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى . فقلت : يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان ذلك كذلك ، فقال : إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً . فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ، ثم آليت يميناً أني لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت ، ثم أخذته وجئت به فعرضته عليهم قالوا : لا حاجة لنا به !
ثم أخذت بيد فاطمة وابنيَّ الحسن والحسين ، ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة ، فأنشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط : سلمان ، وعمار ، والمقداد ، وأبو ذر ، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي ) .

7 . مدة انشغاله ( عليه السلام ) بجمع القرآن

تدل الروايات على أنه بدأ بجمع القرآن في اليوم الثالث لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أي يوم الأربعاء ، واستغرق عمله ثلاثة أيام ، كما قال ابن النديم ، أي الخميس والجمعة والسبت ، وأخذه لهم مباشرة فنبذوه ، ثم خطب خطبة الوسيلة بعد سبعة أيام من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أي يوم الثلاثاء .
ففي الكافي ( 8 / 18 ) : ( إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من
--------------------------- 475 ---------------------------
وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه ) .
وفي تفسير فرات / 399 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي لا تخرج ثلاثة أيام حتى تؤلف كتاب الله ، كي لا يزيد فيه الشيطان شيئاً ولا ينقص منه شيئاً ، فإنك في ضد سنِّه وصي سليمان . فلم يضع علي ( عليه السلام ) رداءه على ظهره حتى جمع القرآن ، فلم يزد فيه الشيطان شيئاً ، ولم ينقص منه شيئاً ) .
قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ضد سنة وصي سليمان ( عليه السلام ) : إشارة إلى قوله تعالى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا . وقد ورد أنهم وضعوا كتاب سحر بعد سليمان وقالوا : بهذا كان يتم له ملكه ! ( التبيان : 1 / 372 )
فالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لعلي ( عليه السلام ) : إحفظ القرآن وانشره ، لئلا يضعوا كتاب سحر وينسبوه لي ، كما فعلوا بعد سليمان ( عليه السلام ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 95 ) : ( فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثم آليت على نفسي يميناً ، أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت ) .
وفي المناقب ( 1 / 319 ) : ( في أخبار ابن أبي رافع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال في مرضه الذي توفي فيه لعلي ( عليه السلام ) : يا علي هذا كتاب الله خذه إليك ، فجمعه على في ثوب ، فمضى إلى منزله ، فلما قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جلس علي ( عليه السلام ) فألفه كما أنزله الله وكان به عالماً .
أبو العلاء العطار والموفق خطيب خوارزم في كتابيهما : بالإسناد عن علي بن رباح أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرعلياً بتأليف القرآن ، فألفه وكتبه .
عن سحيم ، عن أمير المؤمنين قال : لو ثنيت لي الوسادة وعرف لي حقي لأخرجت مصحفاً كتبته ، وأملاه عليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي أخبار أهل‌البيت ( عليهم السلام ) أنه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه ، فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه ثم خرج إليهم به في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فأنكروا مصيره بعد انقطاع مع الإلية ( اليمين )
--------------------------- 476 ---------------------------
فقالوا : لأمرٍ ما جاء به أبو الحسن ! فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم ثم قال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة ! فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله ، فلا حاجة لنا فيكما ، فحمل ( عليه السلام ) الكتاب وعاد بعد أن ألزمهم الحجة .
وفي خبر طويل عن الصادق ( عليه السلام ) أنه حمله وولى راجعاً نحو حجرته ، وهو يقول : فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَايَشْتَرُونَ ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 107 ) : ( قال سلمان : فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت بيمين أن لا أرتدي برداء إلا للصلوات ، حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فجمعه في ثوب وختمه ، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي‌بكر في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنادى بأعلى صوته : أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغولاً بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب ، فلم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها كلها في هذا الثوب ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلمني تأويلها . فقالوا : لا حاجة لنا به ، عندنا مثله ) .
وفي كتاب سليم / 146 : ( فلما رآى غدرهم وقلة وفائهم له ، لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج من بيته حتى جمعه [ وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع ] فلما جمعه كله وكتبه بيده تنزيله وتأويله ، والناسخ منه والمنسوخ ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت على نفسي يميناً ألا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فسكتوا عنه أياماً ، فجمعه في ثوب واحد وختمه ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي‌بكر في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنادى علي ( عليه السلام ) بأعلى صوته : أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغولاً بغسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد ، فلم ينزل الله على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية من القرآن إلا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلمني تأويلها ثم قال علي ( عليه السلام ) : لا تقولوا غداً : إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ .
--------------------------- 477 ---------------------------
ثم قال لهم علي ( عليه السلام ) : لا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته .
فقال له عمر : ما أغنانا بما معنا من القرآن ، عما تدعونا إليه ! ثم دخل علي ( عليه السلام ) بيته ) .
وقد وضعنا فقرة : [ وكان في الصحف والشظاظ ] بين معقوفين ، لأنها لا توجد في نسخة المناقب ، وهو الصحيح لأنه كان مكتوباً عنده ( عليه السلام ) ، لكن رتبه كما أمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي فهرست ابن النديم / 30 : ( عن عبد خير عن علي ( عليه السلام ) أنه رأى من الناس طَيَرة عند وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأقسم أنه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن ، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن ، جمعه من قلبه ، وكان المصحف عند أهل جعفر . ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني ( رحمه الله ) مصحفاً قد سقط منه أوراق بخط علي بن أبي طالب ، يتوارثه بنو حسن على مر الزمان ، وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف . . وسقط ذكر ترتيب السور من أصل النسخة المطبوعة في ليبسك - leipzig سنة 1871 ) .
وفي تاريخ دمشق ( 42 / 398 ) : ( عن ابن سيرين : لما توفي النبي أقسم علي ألا يرتدي برداء إلا بجمعة ، حتى يجمع القرآن في مصحف ، ففعل ) . ونحوه المصاحف لابن أبي داود ( 1 / 59 ) وشواهد التنزيل ( 1 / 37 ) وغيره .
أقول : ذكرت رواية اليعقوبي ( 2 / 152 ) أسماء السور حسب ترتيبها . ووصفت الروايات نسخة قرآن علي ( عليه السلام ) بأنها بإملاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنها مرتبة حسب نزول القرآن ، كما قال ابن سيرين ، وأنها بينت سبب النزول ، والناسخ والمنسوخ . . الخ . لكن شيئاً من هذه الصفات التي ذكرتها الروايات لم يثبت بشكل قطعي ، والثابت أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره أن يجمعه على تنزيله ، ولا نعرف المقصود بتنزيله بالضبط . فتبقى صفات ظنية ، لأن علياً ( عليه السلام ) لم ينشر نسخته ، بل ورثها لأبنائه ( عليهم السلام ) حتى يخرجها المهدي الموعود ( عليه السلام ) .
وقال السيد شرف الدين في المراجعات / 411 : ( أما علي وشيعته ، فقد تصدوا
--------------------------- 478 ---------------------------
لذلك في العصرالأول ، وأول شئ دونه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كتاب الله عز وجل ، فإنه بعد فراغه من تجهيز النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آلى على نفسه أن لا يرتدي إلا للصلاة ، أن يجمع القرآن ، فجمعه مرتباً على حسب النزول ، وأشار إلى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وسننه وآدابه ، ونبه على أسباب النزول في آياته البينات ، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات .
وكان ابن سيرين يقول : لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم .
وقد عني غير واحد من قراء الصحابة بجمع القرآن ، غير أنه لم يتسن لهم أن يجمعوه على تنزيله ، ولم يودعوه شيئاً من الرموز التي سمعتها ، فإذن كان جمعه ( عليه السلام ) بالتفسير أشبه ) .

8 . ذهب إلى بيوت الصحابة لطلب النصرة

استنهض الإمام ( عليه السلام ) الأنصار وغيرهم من شخصيات المدينة ، فبعد أن جمع القرآن ، أخذ زوجته وأولاده ودار ليلاً على بيوت النقباء والوجهاء . ويعتبرأخذ زوجته وأولاده معه في عرف العرب جاهة كبيرة ، وأن صاحبها يطلب مطلباً مؤكداً ، فهو يطالب بحق وينادي بذلك !
وكان ( عليه السلام ) يكلم من يذهب اليه في مدخل داره ، ولم يجلس في بيوتهم ، وكان ذلك بعد أن طلبوا منه بيعة أبي‌بكر ، فقال لهم إنه مشغول بجمع القرآن ، أو ناظرهم فسكتوا عنه موقتاً .
وروى في الإحتجاج ( 1 / 107 ) عن سلمان رضي الله عنه قال : ( فلما كان الليل حمل علي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على حمار وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين ، فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ، ولا من الأنصار إلا أتى منزله ، وذكر حقه ودعاه إلى نصرته ، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعةٌ وأربعون رجلاً ، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم ، معهم سلاحهم وقد بايعوه على الموت ، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة ! قلت لسلمان : من الأربعة ؟ قال : أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام . ثم أتاهم من الليلة الثانية فناشدهم الله فقالوا : نصحبك بكرة ، فما منهم أحد وفى غيرنا ، ثم الليلة الثالثة فما وفى أحد غيرنا !
--------------------------- 479 ---------------------------
فلما رأى علي ( عليه السلام ) غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج حتى جمعه كله ، فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت بيمين أن لا أرتدي برداء إلا للصلوات حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فجمعه في ثوب وختمه ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي‌بكر في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنادى بأعلى صوته : أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغولاً بغُسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب ، فلم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها كلها في هذا الثواب ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلمني تأويلها . فقالوا : لا حاجة لنا به ، عندنا مثله . ثم دخل بيته ) .
أقول : يفهم من هذا الحديث أن طلبه النصرة كان قبل جمع القرآن ، لكن المرجح أن جمع القرآن كان أول عمل له بعد دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فالظاهرأن التقديم والتأخير من الراوي .
وفي كتاب سُليم / 216 ، من جواب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للأشعث بن قيس ، قال : ( ثم حملتُ فاطمة وأخذت بيد ابني الحسن والحسين فلم أدَع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ، ودعوتهم إلى نصرتي ، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير ، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به ، فقلت كما قال هارون لأخيه : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ! فلي بهارون أسوة حسنة ، ولي بعهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حجة قوية . . . الخ . ) .
وفي الإختصاص / 183 ، من حديث فدك : ( ثم خرجَتْ وحَمَلها عليٌّ ( عليه السلام ) على أتان عليه كساء له خمل ، فدار بها في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معها وهي تقول : يا معشر المهاجرين والأنصار أنصروا الله فإني ابنة نبيكم ، وقد بايعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول الله ببيعتكم ! قال : فما أعانها أحد ، ولا
--------------------------- 480 ---------------------------
أجابها ولا نصرها ! قال : فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت : يا معاذ بن جبل إني قد جئتك مستنصرة وقد بايعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أن تنصره وذريته وتمنعه مما تمنع منه نفسك وذريتك ، وأن أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها ! قال : فمعي غيري ؟ قالت : لا ، ما أجابني أحدٌ . قال : فأين أبلغ أنا من نصرتك ؟ قال : فخرجت من عنده ودخل ابنه فقال : ما جاء بابنة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليك ؟ قال : جاءت تطلب نصرتي على أبي‌بكر فإنه أخذ منها فدكاً ، قال : فما أجبتها به ؟ قال قلت : وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي ؟ قال : فأبيتَ أن تنصرها ! قال : نعم . قال : فأيُّ شئ قالت لك ؟ قال : قالت لي : والله لأنازعنك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال فقال : أنا والله لانازعتك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إذ لم تجب ابنة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال : وخرجت فاطمة من عنده وهي تقول : والله لا أكلمك كلمة حتى أجتمع أنا وأنت عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم انصرفت ) !
ومعنى قولها ( عليها السلام ) : لا نازعتك الفصيح من رأسي : لا كلمتك كل عمري . ويظهر أن ابنه هو عبد الرحمن بن معاذ ، وذكروا أنه مات في طاعون عمواس بالشام ، وانقطع به نسل معاذ .
وتدل الرواية التالية على أن معاذاً كان يعيش تأنيب الضمير لشراكته مع القوم وخذلانه فاطمة ( عليها السلام ) ، وقد روتها مصادرهم وصححوها ، أن عمر رآه عند قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبكي فقال له : ( ما يبكيك يا معاذ ؟ قال : يبكيني شئ سمعته من صاحب هذا القبر ! قال : وما سمعته ؟ قال : سمعته يقول : إن اليسير من الرياء شرك ، وإن من عادى ولي الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة ، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا ، وإن حضروا لم يعدوا ولم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة ) . ( الحاكم : 4 / 328 ، وصححه ، ومسند الشهاب : 2 / 148 ، و 252 ) .
وفي الهداية للحضيني / 409 : ( حمل أمير المؤمنين لها في سواد الليل والحسن والحسين وزينب وأم‌كلثوم إلى دور المهاجرين والأنصار ، يذكرهم بالله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعهده الذي بايعوا الله ورسوله عليه في أربع مواطن في حياة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتسليمهم عليه بإمرة المؤمنين جميعهم ، فكلٌّ يعده النصرة ليومه المقبل ، فلما أصبح قعد جمعهم عنه ) .
--------------------------- 481 ---------------------------
وفي الخصال للصدوق / 173 : ( قالت سيدة النسوان فاطمة ( عليها السلام ) لما مُنِعَتْ فدك وخاطبت الأنصار فقالوا : يا بنت محمد لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي‌بكر ماعدلنا بعلي أحداً ، فقالت : وهل ترك أبي يوم غدير خم لأحد عذراً ) !
فمنطق الزهراء سلام الله عليها هو منطق الإسلام ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقام الحجة على الأمة كاملةً غير منقوصة ، وصدع بالحق الذي فرضه الله لعترته الطاهرين ( عليهم السلام ) فاختارهم لإمامة هذه الأمة .
وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين / 162 ، أنه ( عليه السلام ) قال : ( لو استمكنت من أربعين رجلاً ، فذكر أمراً ، يعني لو أن معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت ، يعني بيت فاطمة ( عليها السلام ) ) .
وفي كتاب سُليم / 217 و 218 : ( ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم تتمة أربعين رجلاً مطيعين لي لجاهدتهم ، وأما يوم بويع عمر وعثمان فلا ، لأني قد كنت بايعت ، ومثلي لا ينكث بيعته . يا ابن قيس ، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إني لو وجدت يوم بويع أخو تيم الذي عيرتني بدخولي في بيعته ، أربعين رجلاً كلهم على مثل بصيرة الأربعة الذين قد وجدت ، لما كففت يدي ولناهضت القوم ، ولكن لم أجد خامساً فأمسكت ) .
وقد عَيَّرَ معاوية علياً ( عليه السلام ) بأنه طلب نصرة الأنصار والصحابة ولم يستجيبوا له ، ففي شرح النهج ( 2 / 48 ) : ( من كتاب معاوية المشهور إلى علي ( عليه السلام ) : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين ، يوم بويع أبو بكر الصديق ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، واستنصرتهم على صاحب رسول الله ، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ، ولعمري لو كنت محقاً لأجابوك ، ولكنك ادعيت باطلاً ، وقلت ما لا يعرف ، ورمت ما لا يدرك . ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم
--------------------------- 482 ---------------------------
لناهضت القوم ، فما يوم المسلمين منك بواحد ، ولابغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع ) .
وقال ابن أبي الحديد ( 11 / 14 ) : ( أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت ، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة : الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان ، ثم أتاهم من الليل فناشدهم ، فقالوا : نصبحك غدوة فما جاءه منهم إلا أربعة ، وكذلك في الليلة الثالثة ) .
ويحتمل أن يكون كتابه التالي ( عليه السلام ) جواباً لمعاوية ( شرح النهج : 3 / 31 ) : ( أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لدينه وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه ، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا ونعمته علينا في نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدده إلى النضال . وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم تلحقك ثلمته . وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس ؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء ، والتمييز بين المهاجرين الأولين ، وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم . هيهات لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها . ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ؟ وتتأخر حيث أخرك القدر ، فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر ، وإنك لذهَّابٌ في التيه ، روَّاغٌ عن القصد .
ألا ترى غيرمخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث ، أن قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل ، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء ، وخصه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه .
أولا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل ، حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين .
ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجها آذان السامعين . فدع عنك من مالت به الرمية ، فإنا صنائع ربنا ، والناس بعد صنائع لنا . لم يمنعنا قديم عزنا ، ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ولستم هناك . وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ،
--------------------------- 483 ---------------------------
ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنا سيد شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ، ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ! في كثير مما لنا وعليكم . فإسلامنا قد سمع ، وجاهليتنا لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله : وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وقوله تعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِي الْمُؤْمِنِينَ . فنحن مرة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة .
ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم .
وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها !
وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت . وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه . وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها ) .

9 . وجه أصحابه أن يقيموا الحجة على أبي‌بكر !

في الإحتجاج ( 1 / 97 ) : في جواب الصحابة الذين أرادوا إنزال أبي‌بكر عن منبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال لهم ( عليه السلام ) : ( وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً ، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال ، وإذاً لأتوني فقالوا لي بايع وإلا قتلناك ، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي ، وذلك أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي ، وتنقض فيك عهدي ، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه ، والسامري ومن اتبعه . فقلت : يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان كذلك ؟ فقال : إذا وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً .
--------------------------- 484 ---------------------------
فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثم آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت . ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط : سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد ، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي ، فأبوا عليَّ إلا السكوت ، لما علموا من وغارة صدورالقوم وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم ، ليكون ذلك أوكد للحجة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله إذا وردوا عليه ) .
وفي الخصال / 371 ، في جوابه لرئيس اليهود عن امتحان الله لوصي النبي ، قال ( عليه السلام ) : « وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته ، وأخذ على من حضره منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب في ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إذا حضرته ، والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمور ، في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا بعد وفاته .
ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد ، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده . ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد !
فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ،
--------------------------- 485 ---------------------------
قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به ، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي !
فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول ، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها !
فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي ، مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها » .
وفي البحار ( 22 / 492 ) عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي ما أنت صانع لو قد تآمرالقوم عليك بعدي ، وتقدموا عليك ، وبعث إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة ، ثم لُبِّبْتَ بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل ، مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً ، وبعد ذلك ينزل بهذه الذل ! قال : فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صرخت وبكت ، فبكى رسول الله لبكائها وقال : يا بنية لا تبكي ولا تؤذي جلساءك من الملائكة ، هذا جبرئيل بكى لبكائك وميكائيل وصاحب سرالله إسرافيل !
فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله أنْقَادُ للقوم وأصبر على ما أصابني ، من غير بيعة لهم ، وما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اللهم اشهد . فقال : يا علي ما أنت صانع بالقرآن والعزائم والفرائض ؟ فقال : يا رسول الله أجمعه ، ثم آتيهم به ، فإن قبلوه وإلا أشهدت الله عز وجل وأشهدتك عليهم . قال : اللهم اشهد » .
--------------------------- 486 ---------------------------

10 . خطبة سلمان في اليوم الثالث لدفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الإحتجاج ( 1 / 151 ) عن الإمام الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : « خطب الناس سلمان الفارسي ( رحمه الله ) بعد أن دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بثلاثة أيام فقال فيها :
ألا يا أيها الناس : إسمعوا عني حديثي ثم اعقلوه عني ، ألا وإني أوتيت علماً كثيراً ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لقالت طائفة منكم هو مجنون ، وقالت طائفة أخرى اللهم اغفر لقاتل سلمان !
ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا ، ألا وإن عند علي ( عليه السلام ) علم المنايا والبلايا وميراث الوصايا ، وفصل الخطاب ، وأصل الأنساب ، على منهاج هارون بن عمران من موسى إذ يقول له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت وصيي في أهل بيتي ، وخليفتي في أمتي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى !
ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل فأخطأتم الحق ، فأنتم تعلمون ولا تعلمون ! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق ، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة !
أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم ، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي الله ، ولاطاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله .
ولكن أبيتم فوليتموها غيره فأبشروا بالبلايا ، واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء !
عليكم بآل محمد ، فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة . عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا ! فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه وقد حسد هابيل قابيل فقتله ، وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران ، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل ، فأين يذهب بكم !
أيها الناس : ويحكم ما لنا وأبو فلان وفلان ! أجهلتم أم تجاهلتم ؟ أم حسدتم أم تحاسدتم ؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد
--------------------------- 487 ---------------------------
على الناجي بالهلكة ، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة !
ألا وإني أظهرت أمري وسلمت لنبيي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام الصديقين ، والشهداء والصالحين » .
ورواها الكشي ( 1 / 75 ) بصيغة أطول ، وفيها :
الحمد لله الذي هداني لدينه بعد جحودي له : إذ أنا مذكٍ لنار الكفرأهلُّ لها نصيباً وأثبت لها رزقاً ، حتى ألقى الله عز وجل في قلبي حب تهامة فخرجت جائعاً ظمآن ، قد طردني قومي وأخرجت من مالي ، ولا حمولة تحملني ، ولا متاع يجهزني ، ولا مال يقويني ، وكان من شأني ما قد كان ، حتى أتيت محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه ، ورأيت من العلامة ما أخبرت بها ، فأنقذني به من النار ، فبنت من الدنيا على المعرفة التي دخلت عليها في الإسلام .
ألا أيها الناس : إسمعوا من حديثي ثم اعقلوا عني ، فقد أوتيت من العلم كثيراً ، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة : مجنون ، وقالت طائفة أخرى : اللهم اغفر لقاتل سلمان . ألا أن لكم منايا تتبعها بلايا ، فإن عند علي علم المنايا وعلم الوصايا وفصل الخطاب ، على منهاج هارون بن عمران .
قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت وصيتي وخلفيتي في أهلي ، بمنزلة هارون من موسي ، ولكنكم أصبتم سنة الأُول وأخطأتم سبيلكم ، والذي نفس سلمان بيده لتركبن طبقاً عن طبق ، سنة بني إسرائيل القذة بالقذة .
أما والله لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم ، فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء . وقد نابذتكم على سواء وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء .
أما والله لوأني أدفع ضيماً أو أعز لله ديناً لو ضعت سيفي على عاتقي ، ثم لضربت به قدماً قدماً .
ألا إني أحدثكم بما تعلمون ومالا تعلمون ، فخذوها من سنة السبعين بما فيها ،
--------------------------- 488 ---------------------------
ألا إن لبني أمية في بني هاشم نطحات . ألا إن بني أمية كالناقة الضروس ، تعض بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجلها وتمنع درها . فعليكم بآل محمد فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها إلى يوم القيامة ، وعليكم بعلي فوالله لقد سلمنا عليه بالولاة مع نبينا ، فما بال القوم حسدوه ! قد حسد قابيل هابيل ، أو كفروا فقد ارتد قوم موسى عن الأسباط ويوشع وشمعون وابني هارون شبر وشبير ، فأين يذهب بكم .
ما أنا وأبو فلان وفلان ! ويحكم والله ما أدري أتجهلون أم تتجاهلون أم نسيتم أم تتناسون ! أنزلوا آل محمد منكم منزلة الرأس من الجسد بل منزلة العينين من الرأس ، والله لترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ، ويشهد الناجي على الكافر بالنجاة ) .

11 . احتجاج شخصيات المهاجرين والأنصار على أبي‌بكر

كان كبار الصحابة مذهولين ، غاضبين ، لعمل أهل السقيفة وأسلوبهم في الخلسة والعنف ! والجو الإرهابي القمعي الذي أوجدوه بالطلقاء لفرض خليفتهم !
ولما صعد أبو بكر منبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الجمعة قام اثنا عشر صحابياً ، وتكلموا بقوة فأفحموه ، فسكت وانسحب مع أصحابه من المسجد ، وظلوا ثلاثة أيام ، يحشدون مناصريهم ، ثم عادوا بقوة وتهديد وشراسة !
روى في الإحتجاج ( 1 / 97 ) : « عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنكر على أبي‌بكر فعله وجلوسه مجلس رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال : نعم كان الذي أنكر على أبي‌بكر اثنا عشر رجلاً . من المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص ، وكان من بني أمية ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي . ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبي بن كعب ، وأبو أيوب الأنصاري . قال : فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم فقال بعضهم لبعض : والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
--------------------------- 489 ---------------------------
وقال آخرون منهم : والله لئن فعلتم ذلك إذا أعنتم على أنفسكم فقد قال الله عز وجل : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فانطلقوا بنا إلى أمير المؤمنين لنستشيره ونستطلع رأيه ، فانطلق القوم إلى أمير المؤمنين بأجمعهم فقالوا : يا أمير المؤمنين تركت حقاً أنت أحق به وأولى به من غيرك ، لأنا سمعنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : علي مع الحق والحق مع علي يميل مع الحق كيف ما مال . ولقد هممنا أن نصير إليه فننزله عن منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فجئناك لنستشيرك ونستطلع رأيك فما تأمرنا ؟
فقال أمير المؤمنين : وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً ، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال وإذا لأتوني فقالوا لي بايع وإلا قتلناك ، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي ، وذلك أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أوعز إلي قبل وفاته وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي ، وتنقض فيك عهدي وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه . فقلت : يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان كذلك ؟ فقال : إذا وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً . فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثم آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت . ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد ، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي ، فأبوا علي إلا السكوت لما علموا من وغارة صدور القوم ، وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه .
فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل ، فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم ، ليكون ذلك أوكد للحجة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا وردوا عليه .
فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان يوم الجمعة ، فلما صعد
--------------------------- 490 ---------------------------
أبو بكر المنبرقال المهاجرون للأنصار : تقدموا وتكلموا ، فقال الأنصار للمهاجرين : بل تكلموا وتقدموا أنتم ، فإن الله عز وجل بدأ بكم في الكتاب إذ قال الله عز وجل : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ .
فأول من تكلم به خالد بن سعيد بن العاص : ثم باقي المهاجرين ثم بعدهم الأنصار . وروى أنهم كانوا غُيَّبَاً عن وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقدموا وقد تولى أبو بكر ، وهم يومئذ أعلام مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال :
إتق الله يا أبا بكر فقد علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ونحن محتوشوه يوم بني قريظة حين فتح الله له باب النصر وقد قتل علي بن أبي طالب يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم : يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ، وموعدكم أمراً فاحفظوه ، ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربي ، ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ، ووليكم أشراركم .
ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي .
اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي يدركون به نور الآخرة ، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض .
فقال له عمر بن الخطاب : أسكت يا خالد فلست من أهل المشورة ولا ممن يقتدى برأيه . فقال له خالد : بل أسكت أنت يا ابن الخطاب ، فإنك تنطق على لسان غيرك ، وأيم الله لقد علمت قريش أنك من ألأمها حسباً وأدناها منصباً وأخسها قدراً وأخملها ذكراً ، وأقلهم عناءً عن الله ورسوله ، وإنك لجبان في الحروب ، بخيل بالمال لئيم العنصر ، مالك في قريش من فخر ، ولا في الحروب من ذكر ، وإنك في هذا الأمر بمنزلة الشيطان : إِذْ قَالَ للَّإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . فأبلس عمر ، وجلس خالد بن سعيد .
ثم قام سلمان الفارسي وقال : كرديد ونكرديد ، أي فعلتم ولم تفعلوا ، وقد كان امتنع
--------------------------- 491 ---------------------------
من البيعة قبل ذلك حتى وجئ عنقه ، فقال : يا أبا بكر إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه ، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه ، وما عذرك في تقدمك على من هو أعلم منك وأقرب إلى رسول الله وأعلم بتأويل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ، ومن قدمه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حياته وأوصاكم به عند وفاته ، فنبذتم قوله وتناسيتم وصيته وأخلفتم الوعد ونقضتم العهد ، وحللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد حذراً من مثل ما أتيتموه وتنبيهاً للأمة على عظيم ما احترمتموه ، ومن مخالفة أمره .
فعن قليل يصفو لك الأمر وقد أثقلك الوزر ونقلت إلى قبرك وحملت معك ما كسبت يداك ، فلو راجعت الحق من قريب وتلافيت نفسك وتبت إلى الله من عظيم ما اجترمت كان ذلك أقرب إلى نجاتك يوم تفرد في حفرتك ويسلمك ذوو نصرتك ، فقد سمعت كما سمعنا ورأيت كما رأينا ، فلم يردعك ذلك عما أنت متشبث به من هذا الأمر الذي لا عذر لك في تقلده ولاحظ للدين ولا المسلمين في قيامك به ، فالله الله في نفسك ، فقد أعذر من أنذر ولا تكن كمن أدبر واستكبر .
ثم قام أبو ذر الغفاري فقال : يا معشر قريش أصبتم قباحة وتركتم قرابة ، والله ليرتدن جماعة من العرب ولتشكن في هذا الدين ، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان ، والله لقد صارت لمن غلب ، ولتطمحن إليها عين من ليس من أهلها ، وليسفكن في طلبها دماء كثيرة - فكان كما قال أبو ذر - ثم قال : لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : الأمر بعدي لعلي ثم لابني الحسن والحسين ثم للطاهرين من ذريتي . فاطرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما عهد به إليكم ، فأطعتم الدنيا الفانية ، ونسيتم الآخرة الباقية ، التي لا يهرم شابها ولا يزول نعيمها ولا يحزن أهلها ولا يموت سكانها ، بالحقير التافه الفاني الزائل ، فكذلك الأمم من قبلكم كفرت بعد أنبيائها ، ونكصت على أعقابها ، وغيرت وبدلت واختلفت ، فساويتموهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ،
--------------------------- 492 ---------------------------
وعما قليل تذوقون وبال أمركم ، وتجزون بما قدمت أيديكم . وما الله بظلام للعبيد .
ثم قام المقداد بن الأسود فقال : يا أبا بكر إرجع عن ظلمك ، وتب إلى ربك والزم بيتك ، وابك على خطيئتك ، وسلم الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك ، فقد علمت ما عقده رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في عنقك من بيعته ، وألزمك من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد وهو مولاه ، ونبه على بطلان وجوب هذا الأمر لك ولمن عضدك عليه بضمه لكما إلى عَلَم النفاق ومعدن الشنآن والشقاق عمرو بن العاص ، الذي أنزل الله فيه على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن شانئك هو الأبتر ، وهو كان أميراً عليكما وعلى سائر المنافقين في الوقت الذي أنفذه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غزاة ذات السلاسل ، وأن عمراً قلدكما حرس عسكره ، فأين الحرس إلى الخلافة .
إتق الله وبادر بالإستقالة قبل فوتها ، فإن ذلك أسلم لك في حياتك وبعد وفاتك ، ولا تركن إلى دنياك ولا تغرنك قريش وغيرها ، فعن قليل تضمحل عنك دنياك ، ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك ، وقد علمت وتيقنت أن علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) هو صاحب الأمر بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فسلمه إليه بما جعله الله له ، فإنه أتمُّ لسترك وأخفُّ لوزرك ، فقد والله نصحت لك إن قبلت نصحي ، وإلى الله ترجع الأمور .
ثم قام إليه بريدة الأسلمي فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا لقي الحق من الباطل ، يا أبا بكر أنسيت أم تناسيت وخدعت أم خدعتك نفسك ، أم سولت لك الأباطيل ، أو لم تذكر ما أمرنا به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من تسمية علي ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين ، والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين أظهرنا ، وقوله له في عدة أوقات : هذا علي أمير المؤمنين وقاتل القاسطين ، إتق الله وتدارك نفسك قبل أن لا تدركها ، وانقذها مما يهلكها واردد الأمر إلى من هو أحق به منك ، ولا تتماد في اغتصابه ، وراجع وأنت تستطيع أن تراجع ، فقد محضتك النصح ، ودللتك على طريق النجاة ، فلا تكونن ظهيراً للمجرين .
ثم قام عمار بن ياسر فقال : يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين ، إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه ، وأقوم بأمور الدين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملته ، وأنصح لأمته ، فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل
--------------------------- 493 ---------------------------
أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ، ويظهر شتاتكم ، وتعظم الفتنة بكم وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم .
فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم ، وعلي أقرب منكم إلى نبيكم ، وهو من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلها غير بابه ، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة دون سائر من خطبها إليه منكم ، وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها .
وإنكم جميعاً مضطرون فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه ، وهو مستغن عن كل أحد منكم ، إلى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه وتبتزون علياً حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، بئس للظالمين بدلاً ، أعطوه ما جعله الله له ، ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين .
ثم قام أبي بن كعب فقال : يا أبا بكر لا تجحد حقاً جعله الله لغيرك ، ولا تكن أول من عصى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في وصيه وصفيه وصدف عن أمره ، أردد الحق إلى أهله تسلم ، ولا تتماد في غيك فتندم ، وبادر الإنابة يخف وزرك ، ولا تخصص بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك ، فعن قليل تفارق ما أنت فيه وتصير إلى ربك ، فيسألك عما جنيت وما ربك بظلام للعبيد .
ثم قام خزيمة بن ثابت فقال : أيها الناس ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري ؟ قالوا : بلى . قال : فأشهد أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل وهم الأئمة الذين يقتدى بهم . وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين .
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال : وأنا أشهد على نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه أقام علياً يعني في يوم غدير خم ، فقالت الأنصار : ما أقامه للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مولاه ، وكثر الخوض في ذلك
--------------------------- 494 ---------------------------
فبعثنا رجالاً منا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فسألوه عن ذلك فقال : قولوا لهم علي ولي المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي ، وقد شهدت بما حضرني ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، إن يوم الفصل كان ميقاتاً .
ثم قام سهل بن حنيف : فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد وآله ، ثم قال : يا معاشر قريش اشهدوا عليَّ أني أشهد على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد رأيته في هذا المكان يعني الروضة وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهو يقول : أيها الناس هذا عليٌّ إمامكم من بعدي ووصيي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأول من يصافحني على حوضي ، فطوبى لمن اتبعه ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله .
وقام معه أخوه عثمان بن حنيف وقال : سمعنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم ، وقدموهم فهم الولاة من بعدي ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله وأي أهل بيتك ؟ فقال ، علي والطاهرون من ولده . وقد بين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلا تكن يا أبا بكر أول كافر به ، ولا تخونوا الله والرسول ، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال : اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم ، وارددوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم ، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومجلس بعد مجلس يقول : أهل بيتي أئمتكم بعدي ، ويؤمى إلى علي ويقول : هذا أمير البررة وقاتل الكفرة ، مخذول من خذله منصور من نصره . فتوبوا إلى الله من ظلمكم إياه إن الله تواب رحيم ، ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولاتتولوا عنه معرضين .
قال الصادق ( عليه السلام ) : فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يَحر جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني ، فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ، إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك واجعلها في سالم مولي أبي حذيفة .
قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل
--------------------------- 495 ---------------------------
فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم ؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل .
فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقال عمر : والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه .
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال ، يا بن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا أم بجمعكم تفزعوننا ، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم ، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين لأن حجة الله فينا ، والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله وطاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله ، إلى أن أبلي عذري .
فقام أمير المؤمنين : أجلس يا خالد فقد عرف الله لك مقامك ، وشكر لك سعيك ، فجلس .
وقام إليه سلمان الفارسي فقال : الله أكبر الله أكبر ، سمعت رسول الله بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتَا يقول : بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه ، فلست أشك إلا وأنكم هم . فهم به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ، ثم قال : يا ابن صهاك الحبشية لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ . والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو لقضية أقضيها فإنه لا يجوز بحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يترك الناس في حيرة ) .
--------------------------- 496 ---------------------------

12 . ملاحظات على احتجاج الاثني عشر صحابياً

1 . لعل وقت احتجاج الصحابة الاثني عشر رضي الله عنهم على أبي‌بكر ، في أول جمعة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لكن المرجح عندي أنه كان في الجمعة الثانية ، لأنهم تركوا المسجد يومها ثم استعدوا وعادوا اليه بعد أيام ، فكان الصدام ، وأعلن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ختم المناقشات . .
2 . لخالد بن سعيد بن العاص هيبة خاصة بين الصحابة ، بسبب شخصيته المميزة ، وموقع أبيه العاص بن سعيد المعروف بأبي أحيحة ، وهو من رؤساء بني أمية وأثريائهم . وقد أسلم خالد في شبابه وتحمل غضب أبيه وهاجر إلى الحبشة ، وكانت له مكانة عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كما كان من خاصة شيعة علي ( عليه السلام ) .
وهوقائد شجاع شارك في حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفي فتح اليمن ، وقاد فتح فلسطين في معركة أجنادين وما بعدها إلى اليرموك . وهذا سرُّ خوف عمر منه وسكوته أمام توبيخه .
وقد ترجمنا له في كتابنا : قراءة جديدة في الفتوحات الإسلامية ( 2 / 389 ) .
3 . لا يتسع المجال لشرح حججهم على أبي‌بكر ، لكنها جميعاً قوية بليغة مفحمة ، والواحدة منها تكفي لإثبات خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأن بيعة غيره كانت خلسة وفلتة ، كما وصفها عمر برواية البخاري ، ولا حجة لهم فيها إلا جبروت قريش وقوة الطلقاء .
4 . يدل قولهم : ( ولقد هممنا أن نصير إليه فننزله عن منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجئناك لنستشيرك ونستطلع رأيك فما تأمرنا ؟ فقال أمير المؤمنين : وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً ، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال ، وإذا لأتوني فقالوا لي : بايع وإلا قتلناك ، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي ) .
على أهل السقيفة جمعوا قوة من الطلقاء وأعراب بني سُلَيم للقتال ، وأنهم قرروا إجبار علي ( عليه السلام ) على البيعة ، فكان عمر يكرر قوله : لسنا على شئ حتى يبايع علي ! وكان علي ( عليه السلام ) يرى أن حربهم بعدد قليل له أضرار ، وقد ينجر إلى إبادة العترة ( عليهم السلام )
--------------------------- 497 ---------------------------
أو إعلان قريش والعرب الردة ، فيكون الخاسرالإسلام !
لذلك كان موقفه ( عليه السلام ) مقاومتهم بالحجة ، إلا إذا توفر له أربعون نفراً فإنهم يستطيعون تحقيق نصر واسع ، وتكون أن المعركة بين الصحابة وبني هاشم من جهة ، مقابل الطلقاء ومن نصبوه خليفة .

13 . خطبة أبيّ بن كعب ؟ رح ؟ في إدانة السقيفة

في الإحتجاج : 1 / 153 : « لما خطب أبو بكر قام إليه أبي بن كعب وكان يوم الجمعة أول يوم من شهر رمضان ، وقال : يا معشر المهاجرين الذين اتبعوا مرضات الله وأثنى الله عليهم في القرآن . ويا معشرالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان ، وأثنى الله عليهم في القرآن ، تناسيتم أم نسيتم أم بدلتم أم غيرتم أم خذلتم أم عجزتم ؟ ! ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام فينا مقاماً أقام فيه علياً فقال : من كنت مولاه فهذا مولاه يعني علياً ، ومن كنت نبيه فهذا أميره ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، طاعتك واجبة على من بعدي كطاعتي في حياتي ، غير أنه لا نبي بعدي ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : أوصيكم بأهل بيتي خيراً ، فقدموهم ولا تقدموهم ، وأمِّروهم ولا تأمروا عليهم ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله قال : أهل بيتي منار الهدى ، والدالون على الله ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي ( عليه السلام ) : أنت الهادي لمن ضل ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله قال : عليٌّ المحيي لسنتي ومعلم أمتي ، والقائم بحجتي ، وخير من أخلف من بعدي ، وسيد أهل بيتي ، وأحب الناس إلي ، طاعته كطاعتي على أمتي ؟
ألستم تعلمون أنه لم يول على علي أحداً منكم ، وولاه في كل غيبته عليكم ؟
ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحداً ، وارتحالهما واحداً ؟
ألستم تعلمون أنه قال : إذا غبت فخلفت عليكم علياً ، فقد خلفت فيكم رجلاً كنفسي ؟
--------------------------- 498 ---------------------------
ألستم تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل موته قد جمعنا في بيت ابنته فاطمة ( عليها السلام )
فقال لنا : إن الله أوحى إلى موسى بن عمران أن اتخذ أخاً من أهلك فأجعله نبياً ، واجعل أهله لك ولداً ، أطهرهم من الآفات ، وأخلصهم من الريب ، فاتخذ موسى هارون أخاً ، وولده أئمة لبني إسرائيل من بعده ، الذين يحل لهم في مساجدهم ما يحل لموسى . وأن الله تعالى أوحي إليَّ أن أتخذ علياً أخاً كما أن موسى اتخذ هارون أخاً ، واتخذ ولده ولداً ، فقد طهرتهم كما طهرت ولد هارون ، إلا أني قد ختمت بك النبيين ، فلا نبي بعدك ، فهم الأئمة الهادية !
أفما تبصرون ، أفما تفهمون ، أفما تسمعون !
ضربت عليكم الشبهات ، فكان مثلكم كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شديد ، حتى خشي أن يهلك ، فلقي رجلاً هادياً في الطريق فسأله عن الماء ، فقال له أمامك عينان : إحداهما مالحة والأخرى عذبة ، فإن أصبت المالحة ضللت ، وإن أصبت العذبة هديت ورويت ! فهذا مثلكم أيتها الأمة المهملة كما زعمتم !
وأيم الله ما أهملتم ، لقد نصب لكم علمٌ يحل لكم الحلال ويحرم عليكم الحرام ، ولو أطعتموه ما اختلفتم ، ولا تدابرتم ولا تقاتلتم ولا برئ بعضكم من بعض .
فوالله إنكم بعده لناقضون عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإنكم على عترته لمختلفون ، وإن سئل هذا عن غير ما يعلم أفتى برأيه فقد أبعدتم ، وتخارستم وزعمتم أن الخلاف رحمة !
هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم يقول الله تعالى جَده : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . ثم أخبرنا باختلافكم فقال سبحانه : وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ، أي للرحمة ،
وهي آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : يا علي أنت وشيعتك على الفطرة ، والناس منها براء ، فهلا قبلتم من نبيكم ! كيف وهو خبركم بانتكاصتكم عن وصيه علي بن أبي طالب ، وأمينه ووزيره وأخيه ووليه دونكم أجمعين ، وأطهركم قلباً ، وأقدمكم سلماً ، وأعظمكم وعياً من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أعطاه تراثه ، وأوصاه بعداته ، فاستخلفه على
--------------------------- 499 ---------------------------
أمته ، ووضع عنده سره ، فهو وليه دونكم أجمعين ، وأحق به منكم أكتعين ، سيد الوصيين ، ووصي خاتم المرسلين ، أفضل المتقين ، وأطوع الأمة لرب العالمين ، سلمتم عليه بإمرة المؤمنين في حياة سيد النبيين ، وخاتم المرسلين ، فقد أعذر من أنذر وأدى النصيحة من وعظ وبصَّر من عمى ! فقد سمعتم كما سمعنا ، ورأيتم كما رأينا ، وشهدتم كما شهدنا !
فقام إليه عبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل فقالوا :
يا أبيُّ أصابك خبل أم بك جنة ؟ !
فقال : بل الخبل فيكم ، والله كنت عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوماً فألفيته يكلم رجلاً أسمع كلامه ولا أرى شخصه ، فقال فيما يخاطبه : ما أنصحه لك ولأمتك وأعلمه بسنتك ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أفترى أمتي تنقاد له من بعدي ؟ قال : يا محمد يتبعه من أمتك أبرارها ، ويخالف عليهم من أمتك فجارها ، وكذلك أوصياء النبيين من قبلك . يا محمد إن موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله وأطوعهم له ، فأمره الله عز وجل أن يتخذه وصياً كما اتخذت علياً وصياً ، وكما أمرت بذلك ، فحسده بنو إسرائيل ، سبط موسى خاصة ، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا له ! فإن أخذت أمتك سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك ، وجحدوا إمرته ، وابتزوا خلافته ، وغالطوه في علمه ! فقلت : يا رسول الله من هذا ؟ فقال رسول لله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : هذا ملك من ملائكة ربي عز وجل ، ينبئني أن أمتي تختلف على وصيي علي بن أبي طالب وإني أوصيك يا أبيُّ بوصية إن حفظتها لم تزل بخير : يا أبيُّ عليك بعليٍّ فإنه الهادي المهدي ، الناصح لأمتي ، المحيي لسنتي ، وهو إمامكم بعدي ، فمن رضي بذلك لقيني على ما فارقته عليه . يا أبيُّ ، ومن غيَّر أو بدل لقيني ناكثاً لبيعتي ، عاصياً أمري ، جاحداً لنبوتي ، لا أشفع له عند ربي ، ولا أسقيه من حوضي ! فقامت إليه رجال من الأنصار فقالوا : أقعد رحمك الله يا أبي ، فقد أديت ما سمعت الذي معك ووفيت بعهدك » .
--------------------------- 500 ---------------------------
أقول : روينا عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأهل‌البيت ( عليهم السلام ) توثيق أبيّ بن كعب الأنصاري ( رحمه الله ) ، وروى البخاري في صحيحه « 6 / 102 » وروى غيره أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرالأمة فقال : « خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب » .
لكنهم لم يأخذوا منه القرآن فكيف يأخذون برأيه في الخلافة ؟ !
وكان ( رحمه الله ) يسمي أصحاب السقيفة : أهل العقدة ويقول : « هلك أصحاب العقدة ورب الكعبة ! يقولها ثلاثاً ثم قال : والله ما عليهم آسى ولكن آسى على من أضلوا ! قال قلت من تعني بهذا ؟ قال : الأمراء » . « الحاكم : 2 / 226 ، وأحمد : 5 / 140 ، وتدوين القرآن للمؤلف / 254 » .
وفي آخر عمره قرر أُبيٌّ أن يخطب مرة أخرى ويفضحهم فقال : « والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولن فيهم قولاً ، لا أبالي أستحييتموني عليه أو قتلتموني » ! « الطبقات : 3 / 500 » . فمات ( رحمه الله ) يوم الأربعاء ( رحمه الله ) ! راجع : ألف سؤال وإشكال : 1 / 341 .

14 . خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في اليوم السابع من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في اليوم السابع لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خطبة بليغة تسمى خطبة الوسيلة . وسنوردها في فصل : حجج علي ( عليه السلام ) على خصومه .

15 . أرسلوا اليه أن يحضر ويبايع !

جمع علي ( عليه السلام ) القرآن وجاءهم به إلى المسجد فردوه فعاد إلى بيته ، قال سلمان ( الإحتجاج : 1 / 107 ) : ( فقال عمر لأبي‌بكر : أرسل إلى علي فليبايع ، فإنا لسنا في شئ حتى يبايع ، ولو قد بايع أمنا غائلته . فأرسل أبو بكر رسولاً أن أجب خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأتاه الرسول فأخبره بذلك ، فقال علي ( عليه السلام ) : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري ، فذهب الرسول فأخبره بما قاله فقال : إذهب فقل أجب أمير المؤمنين أبا بكر ، فأتاه فأخبره بذلك فقال علي ( عليه السلام ) : سبحان الله ، والله ما طال العهد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي ، وقد أمره رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سابع سبعة فسلموا عليَّ بإمرة المؤمنين ، فاستفهمَهُ هو وصاحبه عمر من بين السبعة فقالا : أمرٌ من الله ورسوله ؟ فقال لهما
--------------------------- 501 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم حقاً من الله ورسوله ، إنه أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وصاحب لواء الغر المحجلين ، يقعده الله يوم القيامة على الصراط ، فيدخل أولياءه الجنة ، وأعداءه النار .
قال : فانطلق الرسول إلى أبي‌بكر فأخبره بما قال ، فكفوا عنه يومئذ .
فلما كان الليل حمل فاطمة ( عليها السلام ) على حمار ، وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين ، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إلا أتاه في منزله ، فناشدهم الله حقه ، ودعاهم إلى نصرته . . الخ ) .

16 . هاجموا بيته ( عليه السلام ) مرات لإجباره على البيعة !

كان أهل السقيفة يتابعون ذهاب علي ( عليه السلام ) إلى بيوت النقباء وكبار الصحابة ، وطلبه النصرة منهم ، وعرفوا أن بعضهم استجاب له فطلب منهم أن يأتوه في الصباح محلقين رؤوسهم ويبايعوه على الموت ، فلم يجبه إلا أربعة أشخاص !
هنا قرر أهل السقيفة أن يضغطوا عليه ، ويجبروه على بيعة أبي‌بكر ، فهددوه بحرق بيته عليه وعلى زوجته وأولاده والمعتصمين معه إن لم يبايع ، بل هددوه بالقتل !
وقد وصف سلمان الفارسي رضي الله عنه هجومهم على بيت فاطمة ( عليها السلام ) ، فقال ( الإحتجاج : 1 / 108 ) : ( وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته ، واجتماع كلمة الناس مع أبي‌بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له ، جلس في بيته ، فقال عمر لأبي‌بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع ، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة معه .
وكان أبوبكرأرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غوراً ، والآخرأفظهما وأغلظهما وأخشنهما وأجفاهما ، فقال : مَن نرسل إليه ؟ فقال عمر : أرسل إليه قنفذاً ، وكان رجلاً فظاً غليظاً جافياً من الطلقاء ، أحد بني تيم ، فأرسله وأرسل معه أعواناً فانطلق فاستأذن فأبي علي ( عليه السلام ) أن يأذن له ، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي‌بكر وعمر وهما في المسجد والناس حولهما فقالوا : لم يأذن لنا . فقال عمر : إن
--------------------------- 502 ---------------------------
أذن لكم ، وإلا فأدخلوا عليه بغير إذنه ، فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : أُحَرِّجُ عليكم أن تدخلوا بيتي بغير إذن ! فرجعوا وثبت قنفذ فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا ، فحرجتنا أن ندخل عليها البيت بغير إذن منها ، فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء !
ثم أمر أناساً حوله فحملوا حطباً وحمل معهم ، فجعلوه حول منزله ، وفيه علي وفاطمة وابناهما ( عليهم السلام ) ، ثم نادى عمر حتى أسمع علياً ( عليه السلام ) : والله لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول الله أو لأضرمن عليك بيتك ناراً ، ثم رجع فقعد إلى أبي‌بكر ، وهو يخاف أن يخرج علي بسيفه ، لما قد عرف من بأسه وشدته .
ثم قال لقنفذ : إن خرج ، وإلا فاقتحم عليه ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم ناراً . فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر علي ( عليه السلام ) إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه ، فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه ، وألقوا في عنقه حبلاً أسود ، وحالت فاطمة ( عليها السلام ) بين زوجها وبينهم عند باب البيت ، فضربها قنقذ بالسوط على عضدها ، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج ( ورم متحجر ) من ضرب قنفذ إياها ، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ إضربها ! فالجأها إلى عضادة باب بيتها ، فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها ، وألقت جنيناً من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة ، صلوات الله عليها .
ثم انطلقوا بعلي ( عليه السلام ) ملبباً بحبل حتى انتهوا به إلى أبي‌بكر ، وعمر قائم بالسيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حصين وبشير بن سعد ، وسائر الناس قعود حول أبي‌بكر عليهم السلاح ، وهو ( عليه السلام ) يقول : أما والله لو وقع سيفي بيدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا مني ، وبالله لا ألوم نفسي في جهادكم ، ولو استمكنت من أربعين رجلاً لفرقت جماعتكم ، فلعن الله أقواماً بايعوني ثم خذلوني ، فانتهره عمر فقال : بايع . فقال : وإن لم أفعل ؟ قال : إذاً نقتلك ذلاً وضعاراً . قال : إذن تقتلون عبداً لله وأخاً لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال أبو بكر : أما عبد الله فنعم ، كلنا عبيد الله ، وأما أخو رسوله فلا نقر لك به ! قال ( عليه السلام ) : أتجحدون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آخى بين نفسه وبيني ، فأعادوا عليه ذلك ثلاث مرات ،
--------------------------- 503 ---------------------------
ثم أقبل علي ( عليه السلام ) فقال : يا معاشر المهاجرين والأنصار ، أنشدكم بالله أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم غدير خم كذا وكذا ، وفي غزاة تبوك كذا وكذا ، فلم يدع شيئاً قاله فيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علانية للعامة إلا ذكره ؟ فقالوا : اللهم نعم .
فلما خاف أبو بكر أن ينصروه ويمنعوه بادرهم فقال : كل ما قلته قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا ، ولكني سمعت رسول الله يقول بعد هذا : إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا ، واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل‌البيت النبوة والخلافة .
فقال علي ( عليه السلام ) : أمَا أحد من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شهد هذا معك ؟ قال عمر : صدق خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد سمعنا منه هذا كما قال ، وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل : صدق قد سمعنا ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال لهم : لشد ما وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة : إن قتل الله محمداً أو أماته ، أن تزووا هذا الأمر عنا أهل‌البيت !
فقال أبو بكر : وما علمك بذلك أطلعناك عليها ؟ قال علي يا زبير ويا سلمان وأنت يا مقداد أذكركم بالله وبالإسلام أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك : إن فلاناً وفلاناً حتى عد هؤلاء الخمسة ، قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا ؟
قالوا : اللهم نعم ، قد سمعناه يقول ذلك لك ، فقلت له بأبي أنت وأمي يا نبي الله فما تأمرني أن أفعل إذا كان ذلك ؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم ، وإن لم تجد أعواناً فبايعهم واحقن دمك .
فقال علي ( عليه السلام ) : أما والله لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا ، لجاهدتكم في الله ولله ، أما والله لا ينالها أحد من عقبكم إلى يوم القيامة !
ثم نادى قبل أن يبايع : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي . ثم تناول يد أبي‌بكر فبايعه ، فقيل للزبير بايع الآن ، فأبى فوثب عليه عمر وخالد ابن الوليد والمغيرة بن شعبة في أناس فانتزعوا سيفه من يده ، فضربوا به الأرض حتى كسر ، فقال
--------------------------- 504 ---------------------------
الزبير وعمر على صدوه : يا ابن صهاك أما والله لو أن سيفي في يدي لحدت عني ، ثم بايع .
قال : سلمان : ثم أخذوني فوجؤوا عنقي حتى تركوها مثل السلعة ( ضربوني على عنقي فورمت وصارت غدة ) ثم فتلوا يدي ، فبايعت مكرهاً ، ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين . ولم يكن أحد منا أشد قولاً من الزبير ، فلما بايع قال : يا بن صهاك أما والله لولا هؤلاء الطلقاء الذين أعانوك ما كنت لتقدم علي ومعي السيف ، لما قد علمت من جبنك ولؤمك ، ولكنك وجدت من تقوى بهم وتصول بهم .
فغضب عمر فقال : أتذكر صهاك ؟ فقال الزبير : ومن صهاك وما يمنعني من ذلك ، وإنما كانت صهاك أمة حبشية لجدي عبد المطلب ، فزنا بها نفيل فولدت أباك الخطاب ، فإنه لعبد جدي ولد زنا ! فأصلح بينهما أبو بكر ، وكفَّ كل منهما عن صاحبه .
فقال سليم : فقلت يا سلمان بايعت أبا بكر ولم تقل شيئاً ؟ قال : قد قلت بعد ما بايعت : تباً لكم سائر الدهر ، أو تدرون ماذا صنعتم بأناسكم ، أصبتم وأخطأتم : أصبتم سنة الأولين ، وأخطأتم سنة نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها .
فقال لي عمر : أما إذا بايع صاحبك وبايعت فقل ما بدا لك وليقل ما بدا له .
قال : قلت فإني أشهد أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إن عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم . وقال : قل ما شئت أليس قد بايع ولم يقر الله عينك بأن يليها صاحبك .
قال ، قلت : فإني أشهد أني قرأت في بعض كتب الله المنزلة آية باسمك ونسبك وصفتك ، بابٌ من أبواب جهنم . قال : قل ما شئت ، أليس قد عزلها الله عن أهل‌البيت الذين قد اتخذتموهم أرباباً .
قال قلت : فأشهد أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول وقد سألته عن هذه الآية : فَيَوْمَئِذٍ لايُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ؟ فقال : إنك أنت هو .
فقال عمر : أسكت . قال قلت : أسكتَ الله نأمتك أيها العبد يا ابن اللخناء ! فقال لي علي ( عليه السلام ) : أسكت يا سلمان ، فسكتُّ . فوالله لولا أنه أمرني بالسكوت لأخبرته بكل شئ نزل فيه وفي صاحبه !
--------------------------- 505 ---------------------------
فلما رأى ذلك عمر أنه قد سكت قال : إنك له مطيع مسلِّم ! وإذ لم يقل أبو ذروالمقداد شيئاً كما قال سلما ن ، قال عمر : يا سلمان ألا تكفُّ عنا كما كفَّ صاحباك ، فوالله ما أنت بأشد حباً لأهل هذا البيت منهما ، ولا أشد تعظيماً لهم ولحقهم ، فقد كفَّا ، كما ترى وبايعا .
فقال أبو ذر : أفتعيرنا يا عمر بحب آل محمد وتعظيمهم ، لعن الله من أبغضهم وابتز عليهم ، وظلمهم حقهم ، وحمل الناس على رقابهم ، ورد الناس على أدبارهم القهقري ، وقد فعل ذلك بهم !
فقال عمر : آمين ، فلعن الله من ظلمهم حقهم ، لا والله ما لهم فيها حق ، وما هم وعرض الناس في هذا الأمر إلا سواء . قال أبو ذر : فلم خاصمتم بحقهم وحجتهم ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : يا ابن صهاك فليس لنا حق ، وهو لك ولابن آكلة الذبان !
فقال عمر : كفَّ الآن يا أبا الحسن إذا بايعت ، فإن العامة رضوا بصاحبي ولم يرضوا بك فما ذنبي . قال علي ( عليه السلام ) لكن الله ورسوله لم يرضيا إلا بي ، فأبشر أنت وصاحبك ومن اتبعكما وآزركما بسخط من الله وعذابه وخزيه !
ويلك يا ابن الخطاب أو تدري مما خرجت وفيم دخلت ؟ وماذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك ! فقال أبو بكر : يا عمرأما إذا بايع وأمنا شره وفتكه وغائلته ، فدعه يقول ما شاء ) . ( الإحتجاج : 1 / 108 ) .
وفي الشافي ( 3 / 244 ) عن عدي بن حاتم قال : ( ما رحمت أحداً رحمتي علياً حين أتي به ملبباً ، فقيل له : بايع ، قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : إذاً نقتلك ، قال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، ثم بايع كذا ، وضم يده اليمنى ) .

17 . الهجوم على بيت علي ( عليه السلام ) برواية سُليم عن سلمان

في كتاب سُلَيم / 285 ، ملخصاً : ( فبعث إليه ابن عم لعمر يقال له قنفذ ، فأقبل قنفذ فقال : يا علي ، أجب أبا بكر . فقال علي ( عليه السلام ) : إني لفي شغل عنه ، وما كنت بالذي أترك وصية خليلي وأخي ، وأنطلق إلى أبي‌بكر ، وما اجتمعتم عليه من الجور . فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر ، فوثب عمر غضبان ،
--------------------------- 506 ---------------------------
فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً ، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب علي ( عليه السلام ) وفاطمة ( عليها السلام ) قاعدة خلف الباب ، قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأقبل عمر حتى ضرب الباب ثم نادى : يا ابن أبي طالب إفتح الباب . فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : يا عمر ما لنا ولك لا تدعنا وما نحن فيه ! قال : إفتحي الباب وإلا أحرقناه عليكم ! فقالت : يا عمر أما تتقي الله عز وجل ، تدخل عليَّ بيتي وتهجم عليَّ داري ! فأبى أن ينصرف ، ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب ثم دفعه عمر فاستقبلته فاطمة ( عليها السلام ) وصاحت : يا أبتاه يا رسول الله ! فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت ، فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت : يا أبتاه ! فوثب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأخذ بتلابيب عمر ثم هزه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله ، فذكر قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما أوصى به من الصبر والطاعة ، فقال : والذي كرم محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالنبوة يا ابن صهَّاك ، لولا كتاب من الله سبق ، لعلمت أنك لا تدخل بيتي ! فأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وسلَّ خالد بن الوليد السيف ليضرب فاطمة ( عليها السلام ) ، فحمل عليه علي بسيفه فأقسم على علي ( عليه السلام ) فكف .
وأقبل المقداد وسلمان وأبو ذر وعمار وبريدة الأسلمي ، حتى دخلوا الدار أعواناً لعلي ( عليه السلام ) حتى كادت تقع فتنة ، فأُخْرِجَ علي ( عليه السلام ) ، وتبعه الناس ، وتبعه سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمار ، وبريدة الأسلمي وهم يقولون : ما أسرع ما خنتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأخرجتم الضغائن التي في صدوركم .
وقال بريدة بن الخصيب الأسلمي : يا عمر أتثب على أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه وعلى ابنته فتضربها ، وأنت الذي تعرفك قريش بما تعرفك به ! فرفع خالد بن الوليد السيف ليضرب به بريدة ، وهو في غمده ، فتعلق به عمر ومنعه من ذلك .
وفي رواية : قال عمر لأبي‌بكر وهو جالس فوق المنبر : ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك ؟ ألا تأمر به فتضرب عنقه ! والحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قائمان على رأس علي ( عليه السلام ) فلما سمعا مقالة عمر بكيا ورفعا أصواتهما : يا جداه يا رسول الله ، فضمهما علي ( عليه السلام ) إلى صدره وقال : لا تبكيا فوالله لا يقدران على قتل أبيكما ، هما أقل
--------------------------- 507 ---------------------------
وأذل وأدخر من ذلك .
وأقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأم‌سلمة فقالتا : يا عتيق ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد ! فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد ، وقال : ما لنا وللنساء ! ثم قال : يا علي قم بايع ، فقال : إن لم أفعل ؟ قال : إذاً والله نضرب عنقك ! قال ( عليه السلام ) : كذبت والله يا ابن صهَّاك لا تقدر على ذلك ، أنت ألأم وأضعف من ذلك .
فوثب خالد بن الوليد واخترط سيفه وقال : والله إن لم تفعل لأقتلنك . فقام إليه علي ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم دفعه حتى ألقاه على قفاه ووقع السيف من يده . فقال عمر : قم يا علي فبايع ، قال ( عليه السلام ) : فإن لم أفعل ؟ قال : إذاً والله نقتلك ! واحتج عليهم علي ( عليه السلام ) ثلاث مرات ، ثم مد يده من غير أن يفتح كفه ، فضرب عليها أبو بكر ورضي منه بذلك . ثم توجه إلى منزله وتبعه الناس ) !
وفي رواية سليم / 147 : ( فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت : يا رسول الله ، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر . . قال قلت لسلمان : أدَخلوا على فاطمة بغير إذن ؟ قال : إي والله وما عليها من خمار فنادت : وا أبتاه ، وا رسول الله ، يا أبتاه ، فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر ! ولما أن بصر به أبو بكر صاح : خلوا سبيله ! فقال علي : يا أبا بكر ما أسرع ما توثبتم على رسول الله ! بأي حق وبأي منزلة دعوت الناس إلى بيعتك ؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ !
وقد كان قنفذ ضرب فاطمة ( عليها السلام ) بالسوط حين حالت بينه وبين زوجها ، وأرسل إليه عمر : إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها ، فألجأها قنفذ إلى عضادة باب بيتها ودفعها فكسر ضلعها من جنبها ، فألقت جنيناً من بطنها ! فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت ، صلى الله عليها ، من ذلك شهيدة !
قال : ولما انتهى بعلي إلى أبي‌بكر انتهره عمر وقال له : بايع ودع عنك هذه الأباطيل ، فقال له : فإن لم أفعل فما أنتم صانعون ؟ قالوا : نقتلك ذُلاً وصغاراً ! فقال : إذاً تقتلون عبد الله وأخَ رسوله إلي آخر ما تقدم وفيه :
--------------------------- 508 ---------------------------
فقام المقداد فقال : يا عليُّ بمَ تأمرني ؟ والله إن أمرتني لأضربن بسيفي وإن أمرتني كففتُ . فقال عليٌّ : كفَّ يا مقداد واذكر عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وما أوصاك به .
فقمت ( سلمان ) وقلت : والذي نفسي بيده ، لو أني أعلم أني أدفع ضيماً وأ
عزلله ديناً لوضعت سيفي على عنقي ثم ضربت به قدماً قدماً ! أتثبون على أخي رسول الله ووصيه وخليفته في أمته وأبي ولده ! فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء !
وقام أبو ذر فقال : أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها المخذولة بعصيانها ، إن الله يقول : إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . وآل محمد الأخلاف من نوح وآل إبراهيم من إبراهيم والصفوة والسلالة من إسماعيل . وعترة محمد أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة ، والكعبة المستورة ، والعين الصافية ، والنجوم الهادية ، والشجرة المباركة ، أضاء نورها وبورك زيتها . محمد خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم ، وعلي وصي الأوصياء وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، وهو الصديق الأكبر ، والفاروق الأعظم ، ووصي محمد ووارث علمه ، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ . فقدِّموا من قدم الله ، وأخِّروا من أخر الله ، واجعلوا الولاية والوراثة لمن جعل الله . الخ ) .
وفي الكافي ( 8 / 237 ) : ( عن أبي هاشم قال : لما أُخرج بعلي ( عليه السلام ) خرجت فاطمة ( عليها السلام ) واضعة قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على رأسها آخذة بيدي إبنيها فقالت : مالي ومالك يا أبا بكر ، تريد أن تؤتم ابنيَّ وتُرملني من زوجي ! والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي ! فقال رجل من القوم : ما نريد إلى هذا ، ثم أخذت بيده فانطلقت به ) !
أقول : هذا يدل على تكرر الهجوم أيضاً ، لأنهم حسب هذه الرواية تركوه .
وفي رواية ابن جرير الطبري الشيعي في المسترشد / 377 : ( قال : إذاً تقتلون عبداً لله وأخاً لرسول الله . قالا : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسول الله فلا ! قال : فرجع يومئذ ولم يبايع ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 113 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( لما استُخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام )
--------------------------- 509 ---------------------------
من منزله خرجت فاطمة صلوات الله عليها خلفه ، فما بقيت امرأة هاشمية إلا خرجت معها ، حتى انتهت قريباً من القبر فقالت لهم : خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمداً أبي بالحق إن لم تخلوا عنه لأنشرنَّ شعري ولأضعن قميص رسول الله على رأسي ، ولأصرخن إلى الله تبارك وتعالى ، فما صالحٌ بأكرمَ على الله من أبي ، ولا الناقةُ بأكرم مني ، ولا الفصيلُ بأكرم على الله من ولديَّ !
قال سلمان رضي الله عنه : كنت قريباً منها ، فرأيت والله آساس حيطان مسجد رسول الله تقلعت من أسفلها ، حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ ، فدنوت منها فقلت : يا سيدتي ومولاتي إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمةً فلا تكوني نقمة ، فرجعت ورجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها ، فدخلت في خياشيمنا ) !
وفي الإختصاص / 186 : ( فخرجت فاطمة ( عليها السلام ) فقالت : يا أبا بكر وعمر تريدان أن ترمِّلاني من زوجي ! والله لئن لم تكفَّا عنه لأنشرن شعري ولأشقَّن جيبي ، ولآتين قبر أبي ولأصيحن إلى ربي ! فخرجت وأخذت بيد الحسن والحسين متوجهة إلى القبر ! فقال علي لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمد . . الخ . )
ومعناه : أن علياً ( عليه السلام ) أمر سلمان أن يبلغها أن لا تدعو عليهم .
وفي رواية العياشي ( 2 / 66 ) والمفيد في الإختصاص / 185 : ( عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه ، عن جده قال : ما أتى على علي ( عليه السلام ) يوم قط أعظم من يومين أتياه ، فأما أول يوم فاليوم الذي قبض فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأما اليوم الثاني فوالله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي‌بكر والناس يبايعونه إذ قال له عمر : يا هذا ليس في يديك شئ ما لم يبايعك علي ! فابعث إليه حتى يأتيك يبايعك فإنما هؤلاء رعاع . فبعث إليه قنفذ . . .
ثم دخلوا فأخرجوا علياً ملبباً ! فخرجت فاطمة فقالت : يا أبا بكر أتريد أن ترمِّلني من زوجي ، والله لئن لم تكفَّ عنه لأنشرن شعري ولأشقنَّ جيبي ولآتين قبر أبي ولأصيحنَّ إلى ربي ، فأخذت بيد الحسن والحسين وخرجت تريد قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال علي لسلمان : أدرك ابنة محمد فإني أرى جنبتي المدينة تكفيان ،
--------------------------- 510 ---------------------------
والله إن نشرت شعرها وشقت جيبها وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربها ، لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها !
فأدركها سلمان فقال : يا بنت محمد إن الله إنما بعث أباك رحمة فارجعي ، فقالت : يا سلمان يريدون قتل علي ! ما على عليٍّ صبر فدعني حتى آتى قبر أبي فأنشر شعري وأشق جيبي وأصيح إلى ربي ! فقال سلمان : إني أخاف أن يخسف بالمدينة ، وعليٌّ بعثني إليك ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك وتنصرفي ، فقالت : إذاً أرجع وأصبر وأسمع له وأطيع .
قال : فأخرجوه من منزله ملبباً ومروا به على قبر النبي عليه وآله السلام قال : فسمعته يقول : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي . . .
فبلغ ذلك العباس بن عبد المطلب فأقبل مسرعاً يهرول فسمعته يقول : إرفقوا بابن أخي ولكم عليَّ أن يبايعكم ، فأقبل العباس وأخذ بيد علي فمسحها على يد أبي‌بكر ، ثم خلوه مغضباً فسمعته يقول : ورفع رأسه إلى السماء : اللهم إنك تعلم أن النبي قد قال لي : إن تموا عشرين فجاهدهم ، وهو قولك في كتابك : إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ . قال : وسمعته يقول : اللهم وإنهم لم يتموا عشرين ، حتى قالها ثلاثاً ، ثم انصرف ) .
ويدل مجموع الروايات دلالة قطعية على أنهم هاجموا بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بوحشية وقسوة ، وكانوا حاضرين أن يقتلوا علياً وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن معهما ، وهذا وحده كاف لمن كان له عقل ، في إثبات الجريمة والانحراف الخطير عن الإسلام !

18 . خافوا أن يستجير علي ( عليه السلام ) بقبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوضعوا الأحاديث !

بعد الهجوم على بيت علي ( عليه السلام ) وإجباره على البيعة ، اتخذوا إجراءات مشددة حول قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومنعوا إقامة مجالس العزاء والنوح على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومطلق التجمع عند قبره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! لأنهم خافوا من مجالس الندب والنوح على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي كانت تقيمها فاطمة ( عليها السلام ) ، أن توظفها لتأليب الأنصار وبعض المهاجرين ضد أهل السقيفة . كما خافوا أن يستجير علي ( عليه السلام ) بقبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما هي عادة العرب ، ويطلب تطبيق وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حقه !
--------------------------- 511 ---------------------------
فكان الحل عندهم أن يقولوا إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نهى عن التجمع عند قبره حتى للصلاة ! وإنه لعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، أي صلوا عندها !
قال السرخسي في المبسوط ( 1 / 206 ) : ( رأى عمر رجلاً يصلي بالليل إلى القبر فناداه : القبرالقبر ، فظن الرجل أنه يقول القمر ، فجعل ينظر إلى السماء ، فما زال به حتى بيَّنه ) . أي أبعده عن قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقالت عائشة إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في آخر لحظاته قال : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا ) . ( البخاري : 1 / 422 ، 6 / 386 ، 8 / 116 ،
ومسلم : 2 / 67 ، والنسائي : 1 / 115 ) . لكن حديثها لا يصح لأن اليهود والنصارى لم يتخذوا أي قبر نبي مسجداً ! اللهم إلا المؤمنون الذين مدحهم الله بأنهم اتخذوا مسجداً على قبور أهل الكهف ، فقال تعالى : وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) .
فقد غفل واضعوا الحديث عن هذه الآية ، وكذبوا على تاريخ اليهود والنصارى !
وكذا حديثهم المزعوم بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نهى أن يجعل قبره مجمعاً للعبادة ، فقال : ( لا تتخذوا قبري عيداً أو وثناً ) !
فهو حديث موظف لمنع استجارة بني هاشم به . وفسروه بالنهي عن قصد قبره للتعبد عنده ! ( أحكام الجنائز للألباني / 219 ) ! وهدفهم أن يمنعوا علياً ( عليه السلام ) أن يستجير بقبرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! لأن العرب يوجبون الاستجابة للمستجير ، وإلا لحق العار بمن يعز عليه القبر !
وقد روى المؤرخون أخبارالإستجارة بالقبورومنها الإستجارة بقبرغالب جد الفرزذق ( أنساب الأشراف : 2 / 3037 ) . واستجارة الكميت بقبر معاوية بن هشام ( الغدير : 2 / 207 ) واستجارة عجرد الشاعر بقبر سليمان بن علي العباسي ( أشعار أولاد الخلفاء / 2 ) .
وقد غفلوا عن أن حرمة قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعظم من الخلافة ، وأنهما لا يكسران حرمته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأي ثمن !
--------------------------- 512 ---------------------------

19 . منعوا مجلس فاطمة ( عليها السلام ) فاتخذت مجلساً في البقيع

بمجرد أن توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) توافدت نساء الأنصار والمهاجرين على منزله ومسجده ، يعزين عزيزته الزهراء ( عليها السلام ) ، وأقمن مجالس النوح واللدم على عادتهن من يوم شهادة حمزة . واستمر المجلس صباحاً وعصراً ، تندب فيه النائحات ، وقد نقلت المصادر فقرات وأبياتاً بليغة كانت تندب بها الزهراء أباها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل كان منظر فاطمة الحزينة ( عليها السلام ) يجعلهن ينفجرن بالبكاء !
قال البخاري ( 5 / 144 ) : ( عن أنس قال لما ثقل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعل يتغشاه فقالت فاطمة : واكرب أباه ! فقال لها : ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم ! فلما مات قالت : يا أبتاه أجاب رباً دعاه . يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه . يا أبتاه إلى جبريل ننعاه .
فلما دفن قالت فاطمة ( عليها السلام ) : يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب ! ) . ( وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينيها ، وقالت :
ماذا على من شمَّ تربة أحمدٍ * أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا
صُبَّتْ عَليَّ مصائبٌ لو أنها * صُبَّتْ على الأيام عُدْنَ لياليا
( مسند أحمد : 2 / 489 ) .
وكان مجلسها للنوح على أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صباحاً وعصراً كما هو عادة نساء المدينة ، وكنَّ يبدأن بحمزة ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ولكن حمزة لا بواكي له ! فهنَّ اليوم إذا يبكين يندبن بحمزة ) . ( مسند أحمد : 2 / 40 ) .
ورووا أن فاطمة ( عليها السلام ) نظرت إلى الحجرة يوماً فأغمي عليها ، فتبادرت النساء فنضحن الماء على وجهها حتى أفاقت من غشيتها ، فقامت وهي تقول : يا أبتاه ، بقيت والهة وحيدة ، وحيرانة فريدة ، فقد خمد صوتي ، وانقطع ظهري ، وتنغص عيشي ، وتكدر دهري ، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا راداً لدمعتي ، فأنا للدنيا بعدك قالية ، وعليك ما ترددت أنفاسي باكية ، لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك . يا أبتاه ، من للأرامل والمساكين ، ومن للأمة إلى يوم الدين .
يا أبتاه ، أمسينا بعدك من المستضعفين . يا أبتاه ، أصبحت الناس عنا معرضين ،
--------------------------- 513 ---------------------------
ولقد كنا بك معظمين .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس فتقول : هاهنا كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هاهنا كان المشركون . وفي رواية : كانت تصلي هناك وتدعو ،
حتى ماتت ( عليها السلام ) ) . ( الكافي : 3 / 228 ) .
تقول بذلك : بهذه الدماء الطاهرة ، وأغلاها دماء بني هاشم ، وبهذه الجهود المتواصلة وأعلاها جهود بني هاشم ، جاء هذا الفتح ، وبُنِيَ هذا المجد ، الذي صادرته قريش ، واستحلت حرق بيوتنا علينا ، طمعاً في سلطان أبي !
فهذا أبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المؤسس لهذه الأمة ، والشاهد على أعمالها . وهذا حمزة عمي ، وزير النبي وناصره ، يثوي هنا شاهداً . وذاك أخوه جعفرعمي يثوي شهيداً وشاهداً في مؤتة ، على مشارف القدس ! فأين كانت قريش وطلقاؤها ؟ ! وذاك هو عليٌّ زوجي ( عليه السلام ) الذي قام الإسلام بسيفه ، يتجرع الغصص من قريش إلى اليوم ، يقولون له بايع وإلا قتلناك !
ولذا خافت السلطة من تجمهر نساء المسلمين في مجلس فاطمة ( عليها السلام ) ، وفقالوا إن المجلس يعطل أعمال الناس ، وقد وضعوا أحاديث لإبعاد الناس عن قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كحديث أن البكاء على الميت حرام ! قال البخاري ( 2 / 85 ) : ( وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . وكان عمر يضرب فيه بالعصا ، ويرمي بالحجارة ، ويحثي بالتراب ) !
وذكرت مصادرنا أن ( بعض أهل المدينة ) شَكوْا من استمرار مجالس فاطمة ( عليها السلام ) ليلاً ونهاراً ! وطلبوا من علي أن تقلل مجالسها ! فقالت : يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم ، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً ، أو ألحق بأبي رسول الله ! فقال لها علي : إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك ، وبني لها بيتاً في البقيع . ( بحار الأنوار : 43 / 177 ) . وعرف ذلك المكان ببيت الأحزان ، ويقع قرب قبور الأئمة ( عليهم السلام ) .
--------------------------- 514 ---------------------------
قال ابن جبير المتوفى سنة 614 هجرية ، في رحلته / 174 : ( ويلي القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه الذي أوت إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها المصطفى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وقال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 301 : ( وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحي الزهراء ( عليها السلام ) عن البلد في نياحتها على أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخروجها بولديها في لُمّة من نسائها إلى البقيع يندبن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، في ظل أراكة كانت هناك ، فلما قطعت بني لها علي ( عليه السلام ) بيتاً في البقيع كانت تأوى إليه للنياحة يدعى بيت الأحزان ، وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة كما تزار المشاهد المقدسة ، حتى هدم في هذه الأيام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود النجدي ، لما استولى على الحجاز وهدم المقدسات في البقيع ، عملاً بما يقتضيه مذهبه الوهابي ، وذلك سنة 1344 للهجرة . وكنا سنة 1339 تشرفنا بزيارة هذا البيت بيت الأحزان ، إذ منَّ الله علينا في تلك السنة بحج بيته وزيارة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومشاهد أهل بيته الطيبين الطاهرين ( عليهم السلام ) في البقيع ) .
ورحم الله الشاعر الحلي الكَوَّاز حيث قال ، كما في بيت الأحزان للقمي / 128 :
الواثبين لظلم آل محمد * ومحمد ملقىً بلا تكفينِ
والقائلين لفاطم آذيتنا * في طول نوح دائمٍ وحنينِ
والقاطعين أراكةً كيما تقيلَ * بظلِّ أوراقٍ لها وغصون
ومُجمِّعي حطبٍ على البيت الذي * لم يجتمع لولاه شملُ الدين
والهاجمين على البتولة ببيتها * والمسقطين لها أعزَّ جنين
والقائدين إمامهم بنجاده * والطهر تدعو خلفه برنين
خلوا ابن عمي أولأكشف للدعا * رأسي وأشكو للإله شجوني
ما كان ناقة صالح وفصيلها * بالفضل عند الله إلا دوني
ورنَت إلى القبر الشريف بمقلة * عبرى وقلبٍ مُكمَد محزون
قالت وأظفار المصاب بقلبها * غوثاه قلَّ على العداة معيني
أبتاه هذا السامري وعجله * تُبعا ومال الناس عن هارون
--------------------------- 515 ---------------------------
أيَّ الرزايا أتقي بتجلدي * هو في النوائب مُذْ حييت قريني
فقدي أبي أم غصب بعلي حقه * أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني
أم أخذهم إرثي وفاضل نحلتي * أم جهلهم حقي وقد عرفوني
قهروا يتيميك الحسين وصنوه * وسألتهم حقي وقد نهروني ) !

20 . أنهى علي ( عليه السلام ) المناقشات وأعلن فصل الدين عن الدولة !

روى في الإحتجاج ( 1 / 104 ) اعتراض الصحابة الاثني عشر على أبي‌بكر وخطبهم في المسجد ، وجاء فيه : « قال الصادق ( عليه السلام ) : فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم ، أقيلوني أقيلوني ! فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ! قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل ( أي هيأ ألفاً من بني سليم ) فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم ؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل ( بعضهم حاضر وبعضهم مستعد للحضور ) فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب ، حتى وقفوا بمسجد رسول الله ، فقال عمر : والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه !
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال : يا ابن صهَّاك الحبشية ، أبأسيافكم تهددوننا ، أم بجمعكم تفزعوننا ، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم ، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين ، لأن حجة الله فينا .
والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطاعة إمامي أولى بي ، لشهرت
--------------------------- 516 ---------------------------
سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري !
فقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : أجلس يا خالد ، فقد عرف الله لك مقامك ، وشكر لك سعيك . فجلس .
وقام إليه سلمان الفارسي فقال : الله أكبر ، الله أكبر ! سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتَا ، يقول : بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه ، إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار ، يريدون قتله وقتل من معه ، فلست أشك إلا وإنكم هم !
فهمَّ به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ثم قال : يا ابن صهَّاك الحبشية ! لولا كتاب من الله سبق ، وعهدٌ من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقدم ، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً ! ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو لقضية أقضيها ، فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أن يترك الناس في حيرة » !
* *
أقول : كانت هذه آخر مواجهة حادة لعلي ( عليه السلام ) مع عَرَّاب السقيفة ، وقد وصلت إلى حافة القتال ، وأظهر فيها علي ( عليه السلام ) قوته ، ثم أسكت أنصاره ، وأعلن إنهاء المناقشة ، وترك أهل السقيفة ومشروعهم ، لكنه أعلن فصل دولتهم عن الدين !
والفقرة الأخيرة تحدد موقف علي ( عليه السلام ) من نظام الخلافة القرشية بدقة :
فقد قرر أولاً ، أن لايقاومهم بالقوة ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إن لم يجد ناصراً أن يحقن دمه . قال ( عليه السلام ) : « أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما الأمة صانعة بي بعده فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت ! فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إلي إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن
--------------------------- 517 ---------------------------
دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً » . ( كتاب سليم / 215 )
وأعلن ( عليه السلام ) ثانياً ، أنه لن يعترف بشرعية نظامهم ، إلا اعتراف المُكره المُجبر المقهور . ولذلك قال المفيد ( قدس سره ) إنه ( عليه السلام ) لم يبايع ولا ساعة ! أي مختاراً ، وبيعة المُكره لا شرعية لها ! قال في المقنعة / 612 : « ولا يصح بيع بإكراه ، ولا يثبت إلا بإيثار واختيار » . وفي صحيح بخاري ( 8 / 57 ) : « باب إذا أكره حتى وهب عبداً أو باعه ، لم يجز » .
راجع : فتح الباري : 12 / 280 ، وتحرير المجلة : 3 / 156 ، مادة : 948 . وكافة مصادر الفقه .
وأعلن ثالثاً ، فصل الدين عن دولتهم ، وأنهم إن أخذوا منه الخلافة والحكم ، فعنده مقام من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يستطيعون أخذه ، فقد نصبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حجة لأمته ليبين لها ويقضي بينها ، لذلك سيحضر في المسجد ليزور قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويقوم بهذه المسؤولية ، فيبين للأمة العقيدة والشريعة ويقضي بينهم ( فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أن يترك الناس في حيرة » !
ومعناه أنه أعلن فصل الدين عن الدولة ، فهو مسؤول عن الدين وسيقوم بمسؤوليته ، وهو مبدأ موجودٌ في القرآن ، فالنبوة والملك ، والإمامة والملك ، قد تجتمعان وقد تفترقان ، وافتراقهما قد يكون مع إدانة الدولة كما في السقيفة ، أو مع شرعيتها كما في قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فقال لهم الإمام ( عليه السلام ) إن الحجة على الأمة والقضاء بينها ، انفصل عن الحكم الذي أسسوه لقبائل قريش . وهذا يتفق مع ما بيناه في الجهاز القضائي ، وأن القضاء لا يكون إلا لنبي أو وصي .
وقد فرح أهل السقيفة بموقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأنه ترك لهم الحكم ، فهم مستعدون للسماح له بأن يجلس في المسجد ويبين للناس ويقضي بينهم ، ولا يصلي خلفهم . فالمهم عندهم أنه مسح بيده على يد خليفتهم ، وترك قتالهم .
وقد أعلن ( عليه السلام ) أنه سيعتزلهم ولايعترف بنظامهم ، ولا يكون جزء من جهازهم ولا يقبل مناصبهم ، لأن الله أمَّرَه على الأمة فلا يجوز له أن يكون مأموراً لأحد إلا مكرهاً ! ولهذا لم يؤمِّر عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحداً أبداً ، بينما أمَّره على جميع الصحابة ،
--------------------------- 518 ---------------------------
ونهاه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يتقدم عليه أحد من الصحابة حتى في مجلس أو طريق !
ففي حديث أحمد بن همام ، قال ( الإحتجاج : 1 / 291 ) : « أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي‌بكر فقلت : يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي‌بكر قبل أن يستخلف ؟ فقال : يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثونا ! فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي‌بكر ، كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحق بالنبوة من أبي جهل ! قال : وأزيدكم : إنا كنا ذات يوم عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء علي وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل عليٌّ على أثرهما ، فكأنما سُفِيَ على وجه رسول الله الرماد ! ثم قال : يا عليُّ أيتقدمانك هذان ، وقد أمَّرك الله عليهما ؟
فقال أبو بكر : نسيت يا رسول الله ، وقال عمر : سهوت يا رسول الله !
فقال رسول الله : ما نسيتما ولا سهوتما ! وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحازبتما عليه ، وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله !
وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا !
ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها ، وذلك لأمر قد قضي ! ثم بكى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى سالت دموعه ، ثم قال : يا عليُّ الصبرَ الصبرَ حتى ينزل الأمر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك . فإذا أمكنك الأمر فالسيفَ السيفَ ، القتلَ القتلَ ، حتى يفيئوا إلى أمر الله وأمر رسوله ، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل ، وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة » .
انتهى كلام عُبادة بن الصامت رضي الله عنه . ولهذا لم يقبل أمير المؤمنين ولا الحسنان ( عليهم السلام ) أي منصب من أبي‌بكر وعمر وعثمان .
قال ابن أعثم في الفتوح ( 1 / 57 ) قال أبو بكر لعمر : « إني عزمت على أن أوجه إلى هؤلاء القوم علي بن أبي طالب ، فإنه عدل رضا عند أكثر الناس لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه وفهمه ، ورفقه بما يحاول من الأمور ، قال : فقال له عمر بن الخطاب : صدقت
--------------------------- 519 ---------------------------
يا خليفة رسول الله ، إن علياً كما ذكرت وفوق ما وصفت ، ولكني أخاف عليك خصلة منه واحدة ، قال له أبو بكر : وما هذه الخصلة التي تخاف علي منها منه ؟ فقال عمر : أخاف أن يأبى لقتال القوم فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك فلم تجد أحداً يسير إليهم إلا على المكروه منه ، ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة ، فإنك لا تستغني عنه وعن مشورته ، واكتب إلى عكرمة بن أبي جهل فمره بالمسير إلى الأشعث وأصحابه ، فإنه رجل حرب وأهلٌ لما أهل له ، فقال أبو بكر : هذا هو الرأي » .
وروى المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 309 ) أن عثمان أشار على عمر بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر فقال له : « ابعث رجلاً له تجربة بالحرب وبَصَر بها . قال عمر : ومن هو ؟ قال : علي بن أبي طالب ، قال : فالقه وكلمه وذاكره ذلك ، فهل تراه مسرعاً إليه أو لا ؟ فخرج عثمان فلقي علياً فذاكره ذلك فأبى علي ذلك وكرهه ، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره ، فقال له عمر : ومن ترى ؟ قال : سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، قال : ليس بصاحب ذلك » .
وروى في شرح النهج ( 9 / 174 ) : « قيل لعمر : ولِّ علياً أمر الجيش والحرب ، فقال : هو أتْيَهُ من ذلك » ! والتحفة العسجدية ليحيى بن الحسين بن القاسم / 142 .
أي أكبر من أن يقبل به . وفي نسخة : أنبهُ من ذلك ، وهو بمعناه .
وفي فتوح البلاذري ( 2 / 313 ) : « كتب المسلمون إلى عمر يعلمونه كثرة من تجمع لهم من أهل فارس ويسألونه المدد . . . وعرض على عليٍّ الشخوص فأباه » .
بل امتنع علي ( عليه السلام ) حتى من مرافقة عمر عندما ذهب إلى الشام ، فقد روى في شرح النهج ( 12 / 78 ) والتحفة العسجدية / 146 ، عن ابن عباس أن عمر قال له : « يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً ، فيمَ تظن موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنك لتعلم ! قال : أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة . قلت : هو ذاك ، إنه يزعم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد الأمر له . فقال : يا ابن عباس ، وأراد رسول الله الأمر له ، فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد
--------------------------- 520 ---------------------------
رسوله ! أوَكلما أراد رسول الله كان » ! !
فعمر يقول : أراد رسول الله أمراً وأردنا غيره ، ونسب عمر معصية الرسول إلى الله تعالى ، ولا يصح ذلك ، فكان يجب أن يقول : أراد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأردنا ، وسمح الله تعالى بوقوع ما أردنا !
* *
وقد نهض علي ( عليه السلام ) من نفسه ودفع جيش طليحة عن المدينة ، ولم يكن مأموراً لأبي‌بكر ولا عمر ولا عثمان ، نعم قد يرسل بعض تلاميذه إذا لزم الأمر ، لأن قبوله بنفسه قيادة جيش اعترافٌ بأن الخليفة قائده ، وهذامخالفةٌ للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فبماذا يجيبه لو قال له : لقد حفظتُ مقامك الرباني فلم أؤمر عليك أحداً ، فلماذا أمَّرتهم على نفسك اختياراً ! وبماذا يجيبه الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا سألهما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لقد جعلكما الله إمامين ، ولم أؤمر عليكما أحداً ، فلماذا أمَّرتما على نفسيكما وكنتما مختارين ؟ !
وقد فسر الإمام الباقر ( عليه السلام ) حيثيات هذا الموقف فقال : « إن الناس لما صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر لم يمنع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أن يدعو إلى نفسه إلا نظراً للناس وتخوفاً عليهم أن يرتدوا عن الإسلام فيعبدوا الأوثان ، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكان الأحب إليه أن يقرهم على ما صنعوا من أن يرتدوا عن جميع الإسلام ، وإنما هلك الذين ركبوا ما ركبوا ، فأما من لم يصنع ذلك ودخل فيما دخل فيه الناس على غير علم ولا عداوة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فإن ذلك لا يكفره ولا يخرجه من الإسلام . ولذلك كتم علي ( عليه السلام ) أمره وبايع مكرهاً حيث لم يجد أعواناً » . ( الكافي : 8 / 295 ) .
وقد فرح أبو بكر وعمر بإعلان علي ( عليه السلام ) هذا الموقف رغم بعض عناصره ، فلا مانع عندهما أن لا يعترف بشرعية نظامهما ، ولا يصلي خلف الحاكم ، ويجلس في زاويته في المسجد ويبين الشريعة ، ما دام يسكت عنهم .
بل قالوا له : « إن بايعت كففنا عنك ، وأكرمناك وقربناك وفضلناك . وإن لم تفعل قتلناك » . ( كتاب سليم / 216 ) .
وروى المؤرخون أن أبا بكر وعمر لما رأيا آراء علي ( عليه السلام ) الصائبة ، ونصحه لهم في تدبير
--------------------------- 521 ---------------------------
حرب المرتدين والفتوحات ، طمعا بأن يقبل منهما قيادة جيش لكنه لم يقبل ، وكان يقترح عليهم قائداً كفوءاً ، ويأخذان برأيه غالباً !
لهذا لا يصح القول إنه ( عليه السلام ) اعتزل الشؤون العامة بنحو مطلق ، فقد كان يزور قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويصلي عنده منفرداً ، ويجلس لمراجعات الناس وبيان الشريعة والقضاء بين الناس فيما رجعوا اليه فيه ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نصبه حجة للأمة وقاضياً بينها .
نعم يصح القول إنه اعتزل ( عليه السلام ) نسبياً ، وكان أوج اعتزاله في الشهرين الأولين حتى تفاقمت حركة طليحة الأسدي المتنبئ ، واستجابت له قبائل كثيرة ، وبلغ عدد قواته في حائل وسميراء وبزاخة عشرين ألفاً وأكثر . ثم اتخذ معسكراً في ذي القَصَّة قرب المدينة فيه عشرة آلاف مقاتل ، بقيادة ابن أخ طليحة حِبَال بن سلمة بن خويلد الأسدي ، وكان فارساً مشهوراً . فتهض علي ( عليه السلام ) .
أما الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فروى بعضهم أنهما شاركا في الفتوحات في عهد عثمان ، رواه البلاذري ( 2 / 411 ) بصيغة تضعيف ، قال : « فغزا سعيد طبرستان ، ومعه في غزاته فيما يقال الحسن والحسين أبناء علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) » .
لكن لا يصح ذلك لأنهما لو شاركا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لاشتهر ذلك ، ويكفي لرده أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان شديد المحافظة على حياتهما ( عليهم السلام ) والخوف عليهما من منافقي قريش ، وليس من المعارك !
قال ( عليه السلام ) كما في نهج البلاغة ( 2 / 298 ) : « اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة عليَّ . اللهم احفظ حسناً وحسيناً ، ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حياً ) ( شرح النهج : 2 / 298 ) .

21 . أمروا خالداً بأن يقتل علياً ( عليه السلام ) ففشل !

قال السمعاني في الأنساب ( 3 / 95 ) : « عباد بن يعقوب الرواجني . . روى عنه جماعة من مشاهيرالأئمة ، مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، روى عنه حديث أبي‌بكر أنه قال : لا يفعل خالد ما أمر به . سألت الشريف عمر بن
--------------------------- 522 ---------------------------
إبراهيم الحسيني بالكوفة عن معنى هذا الأثر فقال : كان أمر خالد بن الوليد أن يقتل علياً ( عليه السلام ) ، ثم ندم بعد ذلك فنهى عن ذلك » .
وفي شرح النهج ( 13 / 301 ) قال ابن أبي الحديد : ( سألت النقيب أبا جعفر فقلت له : أحق ما يقال في حديث خالد ؟ فقال : إن قوماً من العلوية يذكرون ذلك ، ثم قال : وقد روي أن رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة ، فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث ، فقال : إنه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال ، فقال الرجل : وما الذي قاله أبو بكر ؟ قال : لا عليك ، فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة ، فقال : أخرجوه ، قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي خطاب ) .
فالقضية مشهورة عندهم ، يرويها أحد رواة البخاري ، ويفتي بها أبو حنيفة !
وقد تفاوتت الرواية في وقت هذه الحادثة ، وفيما فعله ( عليه السلام ) بخالد ، وفي بعضها أنه طوق عنقه بعمود حديد ، فلم يستطيعوا فكه حتى توسط العباس عند علي ( عليه السلام ) بطلب أبي‌بكرففكه . وليس بأعجب من قوته الخارقة ( عليه السلام ) في دحو باب خيبر ثم حمله !
وروى الصدوق في علل الشرائع ( 1 / 191 ) بسند صحيح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لما منع أبو بكر فاطمة ( عليها السلام ) فدكاً وأخرج وكيلها جاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى المسجد وأبو بكر جالس وحوله المهاجرون والأنصار فقال : يا أبا بكر لم منعت فاطمة ما جعله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لها ووكيلها فيه منذ سنين ؟
فقال أبو بكر : هذا فئ للمسلمين فإن أتت بشهود عدول ، وإلا فلا حق لها فيه .
قال : يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف ما تحكم في المسلمين ؟ قال ، لا . قال : أخبرني لو كان في يد المسلمين شئ فادعيت أنا فيه ممن كنت تسأل البينة ؟ قال إياك كنت أسأل . قال : فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون تسألني فيه البينة ؟ قال فسكت أبو بكر .
فقال عمر هذا فئ للمسلمين ولسنا من خصومتك في شئ ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأبي‌بكر يا : أبا بكر تقر بالقرآن ؟ قال بلى ، قال فأخبرني عن قول الله عز وجل : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً . أفينا أو في
--------------------------- 523 ---------------------------
غيرنا نزلت ؟ قال : فيكم ، قال فأخبرني لو أن شاهدين من المسلمين شهدا على فاطمة بفاحشة ما كنت صانعاً ؟ قال كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على نساء المسلمين ، قال كنت إذن عند الله من الكافرين ! قال ولمَ ؟ قال لأنك كنت ترد
شهادة الله وتقبل شهادة غيره ، لأن الله عز وجل قد شهد لها بالطهارة ، فإذا رددت
شهادة الله وقبلت شهادة غيره كنت عند الله من الكافرين !
قال فبكى الناس وتفرقوا ودمدموا ، فلما رجع أبو بكر إلى منزله بعث إلى عمر فقال : ويحك يا ابن الخطاب ، أما رأيت علياً وما فعل بنا ، والله لئن قعد مقعداً آخر ليفسدن هذا الأمر علينا ، ولا نتهنأ بشئ ما دام حياً .
قال عمر : ماله إلا خالد بن الوليد ، فبعثوا إليه فقال له أبو بكر : نريد أن نحملك على أمر عظيم . قال : إحملني على ما شئت ، ولو على قتل علي . قال : فهو قتل علي ، قال فصر بجنبه فإذا أنا سلمت فاضرب عنقه ، فبعثت أسماء بنت عميس وهي أم محمد بن أبي‌بكر خادمتها فقالت اذهبي إلى فاطمة فاقرئيها السلام ، فإذا دخلت من الباب فقولي : إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ . فإن فهمتها وإلا فأعيديها مرة أخرى ، فجاءت فدخلت وقالت : إن مولاتي تقول : يا بنت رسول الله كيف أنتم ، ثم قرأت هذه الآية ، فلما أرادت أن تخرج قرأتها فقال لها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إقرأي مولاتك مني السلام وقولي لها إن الله عز وجل يحول بينهم وبين ما يريدون إن شاء الله ، فوقف خالد بن الوليد بجنبه ، فلما أراد أن يسلم لم يسلم وقال : يا خالد لا تفعل ما أمرتك . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ما هذا الأمر الذي أمرك به ثم نهاك قبل أن يسلم ؟ قال : أمرني بضرب عنقك وإنما أمرني بعد التسليم ، فقال : أوَكنت فاعلاً ؟ فقال إي والله لو لم ينهني لفعلت !
قال : فقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخذ بمجامع ثوب خالد ثم ضرب به الحائط ، وقال لعمر : يا ابن صهَّاك ، والله لولا عهد من رسول الله وكتاب من الله سبق ، لعلمت أينا أضعف جنداً وأقل عدداً ) .
--------------------------- 524 ---------------------------
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 122 ) أن ذلك كان وعلي ( عليه السلام ) في أرض له خارج المدينة ، قال خالد : ( وهو في أرض له ، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد وقعقعة الرعد ، فقال لي : ويلك أكنت فاعلاً ؟ فقلت أجل ، فاحمرت عيناه وقال : ياا بن اللخناء أمثلك يقدم على مثلي أو يجسر أن يدير اسمي في لهواته ، في كلام له ، ثم قال : فنكسني والله عن فرسي ولا يمكنني الامتناع منه فجعل يسوقني إلى رحى للحارث بن كلدة ، ثم عمد إلى قطب الرحى الحديد الغليظ الذي عليه مدار الرحى ، فمده بكلتا يديه ولواه في عنقي كما يتفتل الأديم ، وأصحابي كأنهم نظروا إلى ملك الموت ، فأقسمت عليه بحق الله ورسوله فاستحيا وخلى سبيلي ، قالوا : فدعا أبو بكر جماعة من الحدادين فقالوا : إن فتح هذا القطب لا يمكننا إلا أن نحميه بالنار ، فبقي في ذلك أياماً والناس يضحكون منه ، فقيل إن علياً جاء من سفره ، فأتى به أبو بكر إلى علي يشفع إليه في فكه فقال علي : إنه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جموعه : أراد أن يضع مني في موضعي فوضعت منه عندما خطر بباله وهمت به نفسه . ثم قال : وأما الحديد الذي في عنقه فلعله لا يمكنني في هذا الوقت فكه ، فنهضوا بأجمعهم ، فأقسموا عليه فقبض على رأس الحديد من القطب فجعل يفتل منه يمينه شبراً شبراً فيرمي به ) .
وفي رواية الإحتجاج ( 1 / 124 ) : ( فأخذه علي ( عليه السلام ) فجلد به الأرض ، فاجتمع الناس عليه ، فقال عمر يقتله ورب الكعبة ، فقال الناس ، يا أبا الحسن الله الله بحق صاحب القبر . فخلى عنه ثم التفت إلى عمر فأخذ بتلابيبه وقال : يا ابن صهاك والله لولا عهد من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكتاب من الله سبق ، لعلمت أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً . ودخل منزله ) .
وفي رواية أخرى لأبي ذر ( رحمه الله ) ( الإحتجاج : 1 / 117 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخذ خالداً بأصبعيه فعصره عصراً ، فصاح خالد صيحة منكرة ، ففزع الناس وهمتهم أنفسهم ، وأحدث خالد في ثيابه ، وجعل يضرب برجليه الأرض ولا يتكلم ! فقال أبو بكر لعمر : هذه مشورتك المنكوسة ، كأني كنت أنظر إلى هذا وأحمد الله على سلامتنا ، وكلما دنى أحد ليخلصه من يده لحظة تنحى عنه رعباً ، فبعث أبو بكر وعمر إلى العباس فجاء وتشفع
--------------------------- 525 ---------------------------
إليه وأقسم عليه فقال : بحق هذا القبر ومن فيه وبحق ولديه وأمهما ، إلا تركته ، ففعل ذلك وقبَّل العباس بين عينيه ) .

22 . أرسل علي فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لتطالب أبا بكر بفدك

إن هدف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من إرسالها للمطالبة بفدك ، أن تسجل موقفاً للتاريخ ، وتكشف التأثير السلبي لعمرعلى أبي‌بكر . ومن جهة أخرى أن تفتح ملف فدك وتحضرالشهود ، وقد شهد الشهود وثبت أن الخليفة صادر أرضاً من بنت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بغير حق ، وهذا يطعن في عدالته وخلافته ، ويكشف أن حديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، موضوع .
روى المفيد في الإختصاص / 185 : « قال لها عليٌّ : إئت أبا بكر وحده فإنه أرقٌّ من الآخر ، وقولي له : إدعيت مجلس أبي وأنك خليفته وجلست مجلسه ، ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك ، لوجب ردها عليَّ . فلما أتته وقالت له ذلك قال : صدقت . قال : فدعا بكتاب فكتبه لها برد فدك .
فقال : فخرجت والكتاب معها ، فلقيها عمر فقال : يا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك ؟ فقالت : كتاب كتب لي أبو بكر برد فدك ، فقال : هلميه إلي ، فأبت أن تدفعه إليه ، فرفسها برجله وكانت حاملة بابن اسمه المحسن ، فأسقطت المحسن من بطنها ، ثم لطمها فكأني أنظر إلى قرط في أذنها . .
ثم أخذ الكتاب فخرقه ، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة مما ضربها عمر » .
أقول : يظهر أن ضرب عمر لها كان في آخرمجيئها إلى أبي‌بكر ، ويفهم من نصوص القضية أنها ذهبت أولاً واعترضت ، فطلب أبو بكر منها الشهود ، فجاءت بأم أيمن وشقران ، فكتب لها عدم تعرض ، فخطف الكتاب عمر ومزقه ، ثم جاء علي ( عليه السلام ) واعترض .
وعادت إلى أبي‌بكر فكتب لها مرة ثانية فلحقها عمر وأخذ الكتاب بالقوة ومزقه ،
--------------------------- 526 ---------------------------
ثم عقد أبو بكر جلسة أخرى كان فيها علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتصدى عمر للرد والجواب ، وسكت أبو بكر .
ففي الكافي ( 1 / 543 ) : « فقال لها : إئتني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأم أيمن فشهدا لها ، فكتب لها بترك التعرض ، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال : ما هذا معك يا بنت محمد ؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة ، قال : أرينيه فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه ، فقال لها : هذا ( وأشار إلى رقبته ) لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ، فضعي الحبال في رقابنا » !
أقول : لاحظ هذالجواب الفج المواجه لكتاب الله تعالى وحقوق رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ثم تابعت الزهراء ( عليها السلام ) مطالبتها لأبي‌بكر فطلب الشهود مجدداً فجاء علي ( عليه السلام ) : « شهد لفاطمة عند أبي‌بكر الصديق ومعه أم أيمن ، فقال له أبو بكر : لو شهد معك رجل أو امرأة أخرى لقضيت لها بذلك » . ( المحلى : 9 / 415 ) .
وفي شرح الأخبار ( 3 / 32 ) : « فشهد علي ( عليه السلام ) وأم أيمن وهي ممن شهد له رسول الله بالجنة أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقطع ذلك فاطمة ( عليها السلام ) ، فرد أبو بكر شهادتها وقال : عليٌّ جارٌّ إلى نفسه ، وشهادة أم أيمن وحدها لا تجوز » !
وفي كتاب سُليم / 391 : « فقال عمر : لا تقبل شهادة امرأة عجمية لا تفصح ، وأما علي فيحوز النار إلى قرصه » !
وفي رواية المفيد ( الإختصاص / 183 ) أن عمر كان حاضراً وأن أم أيمن استشهدته على قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « فاطمة سيدة نساء أهل الجنة » فشهد ! فقالت : « فمن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدعي ما ليس لها ؟ وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد إلا بما سمعت من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال عمر : دعينا يا أم أيمن من هذه القصص ، بأي شئ تشهدان ؟ فقال عمر : أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها ، وأما علي فيجر إلى نفسه ! قال : فقامت مغضبة وقالت : اللهم إنهما ظلما ابنة محمد نبيك حقها ، فاشدد وطأتك عليهما » !
وفي رواية أنها جاءت بشاهد حسب طلب أبي‌بكر فرده : « فجاءت بأم أيمن وأسماء
--------------------------- 527 ---------------------------
بنت عميس وعلي ( عليه السلام ) » . ( أصول الأخبار / 71 ) .
وفي رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن فاطمة ( عليها السلام ) جاءت برجل آخر فشهد ، وقد يكون أبا واقد أو شقران : « فشهد على ذلك علي بن أبي طالب ، ومولى لرسول الله وأم أيمن ) . ( الخرائج : 1 / 114 ) .
وروى الطبري في دلائل الإمامة / 119 ، حوار الزهراء ( عليها السلام ) مع أبي‌بكر ، وفيه : « زعمتَ أن النبوة لا تورث وإنما يورث ما دونها ، فما لي أمنع إرث أبي ؟ أأنزل الله في كتابه : إلا فاطمة بنت محمد ، فدلني عليه أقنع به . .
قال : ولم يكن عمر حاضراً ، فكتب لها أبو بكر إلى عامله برد فدك كتاباً فأخرجته في يدها ، فاستقبلها عمر ، فأخذه منها وتفل فيه ومزقه ، وقال : لقد خرف ابن أبي قحافة وظلم ! فقالت له : مالك لا أمهلك الله وقتلك » .
وفي كتاب سُليم / 390 : ( قال : ثم إن فاطمة ( عليها السلام ) بلغها أن أبا بكر قبض فدك . فخرجت في نساء بني هاشم حتى دخلت على أبي‌بكر فقالت : يا أبا بكر ، تريد أن تأخذ مني أرضاً جعلها لي رسول الله ، وتصدق بها عليَّ ، من الوجيف الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ؟ أما كان قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : المرء يحفظ في ولده بعده ؟ وقد علمت أنه لم يترك لولده شيئاً غيرها .
فلما سمع أبوبكرمقالتها والنسوة معها دعا بدواة ليكتب لها . فدخل عمر فقال : يا خليفة رسول الله لا تكتب لها حتى تقيم البينة بما تدعي . فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : نعم ، أقيم البينة . قال : من ؟ قالت : علي وأم أيمن . فقال عمر : لا تقبل شهادة امرأة عجمية لا تفصح ، وأما علي فيحوز النار إلى قرصه ! فرجعت فاطمة ( عليها السلام ) وقد جرعها من الغيظ ما لا يوصف ، فمرضت ) .
وروى في الإحتجاج ( 1 / 127 ) : ( رسالة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى أبي‌بكر لما بلغه عنه كلام بعد منع الزهراء ( عليها السلام ) فدك : شقوا متلاطمات أمواج الفتن بحيازيم سفن النجاة ، وحطوا تيجان أهل الفخر بجميع أهل الغدر ، واستضيئوا بنور الأنوار . اقتسموا مواريث الطاهرات الأبرار ، واحتقبوا ثقل الأوزار ، بغصبهم
--------------------------- 528 ---------------------------
نحلة النبي المختار ، فكأني بكم تترددون في العمى ، كما يتردد البعير في الطاحونة . أما والله لوأذن لي بما ليس لكم به علم ، لحُصِدت رؤسكم عن أجسادكم كحب الحصيد ، بقواضب من حديد ، ولقلعت من جماجم شجعانكم ما أقرح به آماقكم ، وأوحش به محالكم ، فإني مذ عرفت مردي العساكر ، ومفني الجحافل ، ومبيد خضرائكم ، ومخمل ضوضائكم ، وجرار الدوارين ، إذ أنتم في بيوتكم معتكفون ، وإني لصاحبكم بالأمس ، لعمر أبي وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة ، وأنتم تذكرون أحقاد بدر ، وثارات أحد !
أما والله لو قلت ما سبق الله فيكم ، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم ، كتداخل أسنان دوارة الرحى ! فإن نطقتُ يقولون حسداً ، وإن سكتُّ فيقال ابن أبي طالب جزع من الموت ، هيهات هيهات ! الساعة يقال لي هذا وأنا المميت المائت ، وخواض المنايا في جوف ليل حالك ، حامل السيفين الثقيلين ، والرمحين الطويلين ، ومنكس الرايات في غطامط الغمرات ، ومفرج الكربات عن وجه خير البريات ، أيهنوا فوالله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بمحالب أمه .
هبلتكم الهوابل ، لو بحت بما أنزل الله سبحانه في كتابه فيكم ، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة ، ولخرجتم من بيوتكم هاربين ، وعلى وجوهكم هائمين ، ولكني أهون وجدي حتى ألقى ربي ، بيد جذاء صفراء من لذاتكم ، خلو من طحناتكم ، فما مثل دنياكم عندي إلا كمثل غيم علا فاستعلى ثم استغلظ فاستوى ، ثم تمزق فانجلى .
رويداً فعن قليل ينجلي لكم القسطل ، وتجنون ثمر فعلكم مراً ، وتحصدون غرس أيديكم ذعافاً ممقراً ، وسماً قاتلاً ، وكفى بالله حكيماً وبرسول الله خصيماً ، وبالقيامة موقفاً ، فلا أبعد الله فيها سواكم ، ولا أتعس فيها غيركم ، والسلام على من اتبع الهدى ) .
فلما أن قرأ أبو بكر الكتاب رعب من ذلك رعباً شديداً وقال : يا
سبحان الله ما أجرأه عليَّ وأنكله عن غيري . معاشر المهاجرين والأنصار تعلمون أني شاورتكم في ضياع فدك بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقلتم : إن الأنبياء لا يورثون ، وإن
--------------------------- 529 ---------------------------
هذه أموال يجب أن تضاف إلى مال الفيئ ، وتصرف في ثمن الكراع والسلاح ، وأبواب الجهاد ، ومصالح الثغور ، فأمضينا رأيكم ، ولم يمضه من يدعيه ، وهو ذا يبرق وعيداً ، ويرعد تهديداً ، إيلاء بحق محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يمضحها دماً زعافاً !
والله لقد استقلت منها فلم أُقل ، واستعزلتها عن نفسي فلم أُعزل ، كل ذلك كراهية مني لابن أبي طالب وهرباً من نزاعه ! ما لي ولابن أبي طالب أهل نازعه أحد ففلج عليه ؟ !
فقال : له عمر : أبيت أن تقول إلا هكذا ؟ فأنت ابن من لم يكن مقداماً في الحروب ، ولا سخياً في الجدوب . سبحان الله ما أهلع فؤادك ، وأصغر نفسك ، قد صفيت لك سجالاً لتشربها فأبيت إلا أن تظمأ كظمائك ، وأنخت لك رقاب العرب ، وثبت لك الإشارة والتدبير ، ولولا ذلك لكان ابن أبي طالب قد صير عظامك رميماً ، فأحمد الله على ما قد وهب لك مني ، واشكره على ذلك ، فإنه من رقى منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان حقيقاً عليه أن يحدث لله شكراً ، وهذا علي بن أبي طالب الصخرة الصماء ، التي لا ينفجر ماءها إلا بعد كسرها ، والحية الرقشاء التي لا تجيب إلا بالرقى ، والشجرة المرة التي لو طليت بالعسل لم تنبت إلا مراً .
قتل سادات قريش فأبادهم ، وألزم آخرهم العار ففضحهم ، فطب عن نفسك نفساً ، ولا تغرنك صواعقه ، ولا يهولنك رواعده وبوارقه ، فإني أسد بابه قبل أن يسد بابك .
فقال له أبو بكر : ناشدتك الله يا عمر لما أن تركتني من أغاليطك وتربيدك ، فوالله لو هم ابن أبي طالب بقتلي وقتلك لقتلنا بشماله دون يمينه ، وما ينجينا منه إلا إحدى ثلاث خصال : إحداها : أنه وحيد ولا ناصر له ، والثانية : إنه ينتهج فينا وصية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والثالثة : إنه ما من هذه القبائل أحد إلا وهو يتخضمه كتخضم الثنية الإبل أوان الربيع ، فتعلم لولا ذلك لرجع الأمر إليه وإن كنا له كارهين ، أما إن هذه الدنيا أهون إليه من لقاء أحدنا للموت .
أنسيت له يوم أحد ؟ وقد فررنا بأجمعنا ، وصعدنا الجبل ، وقد أحاطت به ملوك
--------------------------- 530 ---------------------------
القوم ، وصناديدهم موقنين بقتله ، لا يجد محيصاً للخروج من أوساطهم ، فلما أن سدد عليه القوم رماحهم نكس نفسه عن دابته حتى جاوزه طعان القوم ، ثم قام قائماً في ركابيه وقد طرق عن سرجه وهو يقول : يا الله يا الله يا جبرئيل يا جبرئيل يا محمد يا محمد النجاة النجاة ، ثم عمد إلى رئيس القوم فضربه ضربة على أم رأسه ، فبقي على فك واحد ولسان ، ثم عمد إلى صاحب الراية العظمى فضربه ضربة على جمجمته ففلقها ، ومرالسيف يهوي في جسده فبراه ودابته بنصفين : ولما أن نظر القوم إلى ذلك انجفلوا من بين يديه ، فجعل يمسحهم بسيفه مسحاً حتى تركهم جراثيم جموداً على تلعة من الأرض ، يتمرغون في حسرات المنايا ، يتجرعون كؤوس الموت ، قد اختطف أرواحهم بسيفه ، ونحن نتوقع منه أكثر من ذلك ، ولم نكن نضبط من أنفسنا من مخافته حتى ابتدئت منك إليه التفاتة ، وكان منه إليك ما تعلم ، ولولا أنه نزلت آية من كتاب الله لكنا من الهالكين ، وهو قوله تعالى : وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُم ، فاترك هذا الرجل ما تركك ولا يغرنك قول خالد أنه يقتله ، فإنه لا يجسر على ذلك ، ولو رام لكان أول مقتول بيده ، فإنه من ولد عبد مناف ، إذا هاجوا هيبوا ، وإذا غضبوا أدموا ، ولا سيما علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) نابها الأكبر ، وسنامها الأطول ، وهامتها الأعظم ، والسلام على من اتبع الهدى ) .
أقول : لا يبعد أن تكون هذه الرسالة من علي ( عليه السلام ) إلى أبي‌بكر ، وجوابها ، وحوار أبي‌بكر مع عمر ، موضوعة . لكنها تدل على ما يعتقده الناس ويتداولونه عن شجاعة علي ( عليه السلام ) ، وجو الرعب من علي ( عليه السلام ) حتى عند الحاكم .

23 . دفاع فاطمة عن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كانت فاطمة الزهرا ( عليها السلام ) تعرف أن أهل السقيفة مصرون على إجبار علي ( عليه السلام ) على بيعتهم ، وأن علياً ( عليه السلام ) مأمور بعدم مقاومتهم بالسيف .
لذلك كان همها عندما هاجموا بيتها أن تمنعهم من أخذه بالقوة ، وإذا غلبوها وأخذوه أن تمنعهم من قتله . وفي مرة حالت بينهم وبينه عند الباب ومنعتهم من أخذه ، وفي مرة أخذوه وذهبت خلفه إلى المسجد تصيح ، واستطاعت أن تخلصه من أيديهم وعادت
--------------------------- 531 ---------------------------
به إلى البيت . وفي المرة الأخيرة أرادت منعهم من أخذه فضربها عمر ، فلم يصبر علي ( عليه السلام ) فأمسك بتلابيب عمر ورفعه وجلد به الأرض : ( فوثب علي ( عليه السلام ) فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله ، فذكر قول رسول الله وما أوصاه به فقال : والذي كرم محمداً بالنبوة يا ابن صهَّاك ، لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلمت أنك لا تدخل بيتي ) . ( كتاب سليم / 150 ) .
وفي مرة : ( ثار علي ( عليه السلام ) إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه ، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه وضبطوه ، فألقوا في عنقه حبلاً وحالت بينهم وبينه فاطمة ( عليها السلام ) عند باب البيت ، فضربها قنفذ الملعون بالسوط ! فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدُّمْلُج من ضربته ) : أي ورمٌ جامد .
وفي الإختصاص / 186 : ( فخرجت فاطمة ( عليها السلام ) فقالت : يا أبا بكر وعمر تريدان أن ترمِّلاني من زوجي ! والله لئن لم تكفَّا عنه لأنشرن شعري ولأشقَّن جيبي ، ولآتين قبر أبي ولأصيحن إلى ربي ! فخرجت وأخذت بيد الحسن والحسين متوجهة إلى القبر ! فقال علي لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمد . الخ . ) .
وفي الكافي ( 8 / 237 ) : ( عن أبي هاشم قال : لما أُخرج بعلي ( عليه السلام ) خرجت فاطمة ( عليها السلام ) واضعة قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على رأسها ، آخذة بيدي إبنيها فقالت : مالي ومالك يا أبا بكر ، تريد أن تؤتم ابني وترملني من زوجي ، والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي ! فقال رجل من القوم : ما نريد إلى هذا ! ثم أخذت بيده فانطلقت به ) !
وفي الإحتجاج ( 1 / 113 ) : عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( لما استُخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من منزله خرجت فاطمة صلوات الله عليها خلفه ، فما بقيت امرأة هاشمية إلا خرجت معها ، حتى انتهت قريباً من القبر فقالت لهم : خلوا عن ابن عمي ، فوالذي بعث محمداً أبي بالحق إن لم تخلوا عنه لأنشرنَّ شعري ولأضعن قميص رسول الله على رأسي ، ولأصرخن إلى الله تبارك وتعالى ، فما
--------------------------- 532 ---------------------------
صالحٌ بأكرمَ على الله من أبي ، ولا الناقةُ بأكرم مني ، ولا الفصيلُ بأكرم على الله من ولديَّ !
قال سلمان رضي الله عنه : كنت قريباً منها ، فرأيت والله أساس حيطان مسجد رسول الله تقلعت من أسفلها ، حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ ، فدنوت منها فقلت : يا سيدتي ومولاتي إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمةً فلا تكوني نقمة ، فرجعت ورجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها ، فدخلت في خياشيمنا ) .
أقول : رؤية سلمان رضي الله عنه ارتفاع جدران المسجد ، قد تكون حقيقية وقد تكون بالكشف .

24 . طالبت فاطمة بحق علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فعلها وكلامها وخطبها

ومن كلامها ( عليه السلام ) في توبيخ الصحابة ، ما رواه ابن الأثير في كتابه : منال الطالب في شرح طوال الغرائب / 533 . طبعة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، بجامعة أمّ القرى بمكة المكرمة ، بالمملكة العربية السعودية . . .
قال ابن الأثير بعد أن أورد خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : حديث آخر لفاطمة رضي الله عنها : روي أنها مرِضتْ قبل وفاتها فدخلَ إليها نساءُ المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها فقلن لها : كيف أصبحتِ من علتك يا ابنة رسول الله ؟ فقالت :
أصبحتُ والله عائفةً لدنياكنّ ، قاليةً لرجالكن ، لفظتهم بعد أنْ عجمتهم ، وشنئتهم بعد أنْ سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحدّ وخطل الرأي وخور القناة ! لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ! لقد قلَّدتهم ربقتها ، وشنَّت عليهم غارتها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين .
ويحهم أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين ! ما الذي نقموا من أبي الحسن ؟ نقموا والله شدة وطأته ونكال وقعته ، ونكير سيفه ، وتنمّره في ذات الله . وأيم الله لو تكافؤوا على زمام نبذه إليه رسول الله ، لسار بهم سيراً سُجُحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفّتاه ، ولأصدرهم بطاناً قد تخير بهم الريُّ ، غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض .
--------------------------- 533 ---------------------------
ألا هلمَّ فاعجب وما عشت أراك الدهر عجباً ! فرغماً لمعاطس قومٍ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ! ولعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ! ثم احتلبوا طلاعَ القعب دماً عبيطاً ، وذعاقاً ممقراً ! فهنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبَّ ما أسّس الأولون ! فطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وطامنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيفٍ صارم ، وهرج شامل ، يدع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً .
فيا حسرة عليكم وأنى بكم وقد عميت عليكم ! أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لهَا كارِهُونْ .
قال ابن الأثير : هذا طرف من حديث أطول منه يروى من طريق أهل‌البيت ) . ( رواه الصدوق في معاني الأخبار / 354 ، والطوسي في الأمالي / 374 ، والجوهري في السقيفة / 120 ، وشرح نهج البلاغة : 16 / 233 وبلاغات النساء / 23 ) .

25 . خطبة فاطمة الزهراء في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

ومن العجيب أن الوهابية نشروها بتحقيق الدكتور الفاضل محمود محمد الطناحي ، ضمن كتاب منال الطالب في شرح طوال الغرائب ، لابن الأثير مجد الدين المبارك بن محمد - 544 - 606 ه - ، وهي في الصفحات : 501 - 534 . والكتاب من سلسلة ( من التراث الإسلامي ) منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، بجامعة أمّ القرى بمكّة المكرّمة ، بالمملكة العربية السعودية . . .
وسوف نورد الخطبة كاملة مع شرحها في سيرة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ، ونورد هنا ما يتعلق بسيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
قالت زينب بنت علي بن أبي طالب : لَمّا بلغ فاطمة إجْماَع أَبي بَكْرٍ عَلى مَنْعها حقَّها من فَدَكٍ لاثَتْ خِمارَها وَاشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها ، وَأَقْبَلَتْ في لُمَّةٍ مِنْ حَفَدَتِها وَنِساءِ قَوْمِها تجُرُّ أدْراعَها ، وتَطَأُ ذُيُولَها ، لا تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسُولِ اللهِ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حَتَّى دَخَلَتْ عَلى أبِي بَكْرٍ ، وَهُوَ فِي حَشَدٍ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنْصارِ وَغَيْرِهِمْ . فَنِيطَتْ دُونَها مُلاءَةٌ ، فَجَلَستْ ثُمّ أنَّتْ أنَّةً أجْهَشَ لَها القَوْمُ بِالْبُكاءِ والنحيب ، فَارْتَجَّ الَمجْلِسُ ، ثُمَّ أمْهَلَتْ هُنَيَّةً حَتّى إِذا سَكَنَ نَشِيجُ القَوْمِ وهَدَأتْ فَوْرَتُهُمْ وسكنت روعتهم ، افْتَتَحَتِ الكَلامَ
--------------------------- 534 ---------------------------
بالِحَمْدِ للهِ وَالثَّناءِ عَلَيْهِ ، وَالصَلاةِ عَلى رَسُولِهِ في كلام طويل من الثناء والتحميد ، فَعادَ الَقْومُ فِي بُكائِهِمْ ، فَلمَّا أمْسَكُوا عَادَتْ فِي كَلامِها فَقَالَتْ ( عليها السلام ) :
وَأشْهَدُ أنَّ أَبي مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، اخْتَارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أنْ أرْسَلَهُ ، وَسَمَّاهُ قَبْلَ أنْ إجْتَبَلَهُ ، وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أنْ ابْتَعَثَهُ إِذِ الخَلائِقُ بِالْغَيْبِ مَكْنُونَةٌ ، وَبِسَتْرِ الأهاوِيلِ مَصُونَةٌ ، وَبِنهايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعالَى بِمآئِلِ الأُمُورِ ، وَإِحاطَةً بِحَوادِثِ الدهُورِ ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ المقدُورِ . . .
ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إلَيْهِ قَبْضَ رَأفَةٍ وَاخْتِيارٍ ، وَرَغْبَةٍ وَإيثارٍ ، فَمُحَمَّدٌ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فِي راحَةٍ مِنْ تَعَبِ هذِهِ الدّارِ ، مَوضُوعَاً عَنْهُ أعْباءُ الأَوْزارِ ، وَمَحْفُوفَاً بِالْملاَئِكَةِ الأَبْرارِ ، وَرِضْوانِ الربِّ الغَفَّارِ ، وَمُجاوَرَةِ المَلِكِ الجَبَّارِ ، صَلَّى الله على أبي نَبِيِّهِ وَأمِينِهِ عَلى الَوحْي وَصَفِيهِ ، وَخِيَرَتِهِ مِنَ الخَلْقِ وَرَضِيّهِ ، وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ . . .
أيها النّاسُ : أنَا فَاطِمَةُ وَأبِي مُحَمَّدٌ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أقُولُها حَقَّاً عَوْدَاً وَبَدْءاً ، ما أقُولُ إذ أقُولُ غَلَطَاً ، وَلاَ أفْعَلُ مَا أفْعَلُ سرفاً ولا شَطَطَاً . لَقَدْ جَاءَ كُمْ رَسُولٌ مِنَ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ . فَإِنْ تَعْزُوهُ تَجِدُوهُ أبِي دُونَ نِسائِكُمْ ، وَأخا ابْنِ عَمي دُونَ رِجالِكُمْ ، وَلَنِعْمَ المَعْزِي إلَيْهِ صلّى الله عليه ، فَبَلَّغَ النذارَةَ صَادِعَاً بِالرسَالَةِ ، ناكباً عَنْ سنن المُشْرِكِينَ ، ضَارِباً لأثْباَجِهِمْ ، آخِذَاً بِأكْظامِهِمْ ، دَاعِيَاً إلى سَبِيلِ رَبّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ . .
ثمّ التفتت ( عليها السلام ) إلى أهل المجلس وقالت :
وكُنْتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّار ، مُذقةَ الشارب ، ونهزةَ الطامع ، وقبسةَ العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطَّرَق ، وتقتاتون القِدّ ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُني ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون
--------------------------- 535 ---------------------------
بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال !
فلما اختار الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسَمُلَ جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم . هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ .
فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنى تؤفكون ! وكتاب الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ، أم بغيره تحكمون ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً . وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ . ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تُورون وَقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهمال سنن النبي الصفي ، تشربون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء ، ويصبر منكم على مثل حز المدى ، ووخز السنان في الحشا . وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ( تبغون ) وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . . !
فَالْتَفَتَتْ فاطِمَةُ ( عليها السلام ) إلى النَّاسِ وَقَالَتْ : مَعاشِرَ النَّاسِ المُسْرِعَةَ إلى قِيلِ الباطِلِ ، المُغْضِيَةَ إلى الفِعْلِ الخاسِرِ ، أفَلا تَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها . كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِكُمْ ما أسَأتُمْ مِنْ أعْمالِكُمْ ، فَأخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأبْصارِكُمْ . .
ثُمَّ انكفأت إلي قبر أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متمثّلة بقول صفية بنت عبد المطلب وقيل أمامة :
قَدْ كانَ بَعْدَكَ أنْباءٌ وَهَنْبَثَةٌ * لَوْ كُنْتَ شاهِدَها لَمْ تَكْثُرِ الخُطَبُ
إِنّا فَقَدْناكَ فَقْدَ الأَرْضِ وَاِبلَها * وغاب مذْ غِبْتَ عنّا الوحيُ والكُتُبُ
--------------------------- 536 ---------------------------
تَهَضَّمَتْنا رِجالٌ وَاسْتُخِفَّ بِنا * إذْ بِنْتَ عنّا فنحن اليوم نُغْتَصَبُ
أبْدَتْ رِجالٌ لَنا نَجوْى صُدُورِهِمُ * لَمَّا فُقِدْتَ وَحالَتْ دُونَكَ الكُثُبُ
قال : فما رأينا يوماً أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم . ثُمَّ انكَفَأتْ وَأمِيرُ المُؤمِنِينَ يَتَوَقَّعُ رُجُوعَها إلَيهِ وَيَتَطَلَّعُ طُلُوعَها عَلَيْهِ ، فَلمَّا اسْتَقَرَّتْ بِها الدَّارُ قَالَتْ لأَمِيرِ المُؤمِنينَ ( عليه السلام ) : يا ابْنَ أبِي طالِبٍ اشْتَمَلْتَ شِمْلَةَ الجَنِينِ ، وَقَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَنِينِ ، نَقَضْتَ قادِمَةَ الأَجْدَلِ ، فَخانَكَ رِيشُ الأَعْزَلِ ، هَذا ابْنُ أبِي قُحافَةَ يَبْتَزنِي نِحْلَةَ أبِي وَبُلْغَةَ ابْنَيَّ ، لَقَدْ أجْهَدَ فِي خِصامِي ، وَألْفَيْتُهُ ألَدَّ فِي كَلاَمِي ، حَتَّى حَبَسَتْنِي قَيْلَةُ نَصْرَها ، وَالمُهاجِرَةُ وَصْلَهَا ، وَغَضَّتِ الجَماعَةُ دُونِي طَرْفَها ، فَلا دافِعَ وَلا مانِعَ ! خَرَجْتُ كاظِمَةً ، وَعُدْتُ راغِمَةً . . أضْرَعْتَ خَدَّكَ يَوْمَ أضَعْتَ حَدَّكَ ، افْتَرَسْتَ الذئابَ وَافْتَرَشْتَ الترابَ ، مَا كَفَفْتَ قائِلاً ، وَلا أغْنَيْتَ طائِلاً . وَلا خِيارَ لِي ، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هُنيَّتي وَدُونَ ذِلَّتِي !
عَذِيريَ اللهُ مِنْهُ عادِياً ، وَمِنْكَ حامِياً ، وَيْلايَ فِي كُلّ شارِقٍ وَغارِبٍ ، ماتَ العَمَدُ ، وَوَهَتِ العَضُدُ ، شَكْوايَ إلى أبِي ، وَعَدْوايَ إلى رَبي ، اللهمَ إنَّكَ أشَد قُوَّةً وَحَوْلاً ، وأحَد بَأسَاً وَتَنكِيلاً .
فَقَالَ لَهَا أمِيرُ المُؤمِنِينَ ( عليه السلام ) : لا وَيْلَ لَكِ بَلِ الوَيْلُ لِشانِئِكِ ، ثُمَّ نَهْنِهِي عَنْ وَجْدِكِ يابْنَةَ الصَّفْوَةِ ، وَبَقِيَّةَ النبُوَّةِ ، فَما وَنَيْتُ عَنْ دِيِني ، وَلا أخْطَأتُ مَقْدُورِي ، فَاِنْ كُنْتِ تُريِدِينَ البُلْغَةَ فَرِزْقُكِ مَضْمُونٌ ، وَكَفِيلُكِ مَأمُونٌ ، وَما أُعِدَّ لَكِ أفْضَلُ مِمّا قُطِعَ عَنْكِ ، فَاحْتَسِبِي اللهَ . فَقَالَتْ : حَسْبِيَ اللهُ ، وَأمْسَكَتْ ) . ( راجع : معاني الأخبار / 354 ، والطوسي في الأمالي / 374 ، والجوهري في السقيفة / 120 ، وشرح نهج البلاغة : 16 / 233 وبلاغات النساء / 23 ) .

26 . جواب علي ( عليه السلام ) على عتاب فاطمة ( عليها السلام )

في الإحتجاج ( 1 / 144 ) : ( فلما استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا ابن أبي طالب . . وروى نحو ما تقدم . . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا ويلَ لك ، بل الويل لشانئك ، ثم نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة ، وبقية النبوة ، فما ونيتُ عن ديني ، ولا أخطأتُ مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما
--------------------------- 537 ---------------------------
أعد لك أفضل مما قطع عنك ، فاحتسبي الله . فقالت : حسبي الله . وأمسكت ) .
ومعنى كلامها ( عليها السلام ) : يا علي مالك تلفعت بالشملة كالصبي ، وقعدت عن العمل كالبخيل ، وكأنك طائر قصصتَ ريشه فلم يستطع الطيران بالزغب ، أما ترى أبا بكر غصب مني نحلة أبي ومصرف أولادي ، لقد تمحل جاهداً في خصومتي ، وجادلني بعداوة ، ولم تنصرني الأنصار مع واجب حقي عليهم ، ولم ترعَ المهاجرة نسبي من قريش ، وتعامى عني المسلمون ، فلا مدافع عني ولا ممانع من ظلمي وقد خرجت إلى المسجد أكظم غيضي ، وعدت مرغمة بعناده معي وأنت يا علي اضطررت أن تضرع وتخضع يوم تركت سل سيفك ! ومن حولك تفترس الذئاب ، وأنت تفترش التراب ، ما كففت عني مخاصماً ، ولا نفعتني في شئ ، وأنا مكتوفة اليدين ! ليتني مت قبل أجلي وقبل أن أرى المذلة ، ليَ الله منه معتدياً عليَّ ، وليَ الله منك مسؤولاً عن حمايتي !
ويلي عند كل شروق وغروب ، لقد مات أبي وعمادي ، ووهنت قوتي .
شكواي إلى أبي ، وطلبي من ربي الانتقام من أبي‌بكر . اللهم إنك أشد قوة وحولاًمن ظالميَّ ، وأشد بأساً وتنكيلاً .
وقد استبعد بعضهم أن يصدر مثل هذا الكلام من الزهراء ( عليها السلام ) ، لأنه توبيخٌ لأمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يتناسب مع مقامه ولا مقامها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقد تصور هؤلاء أن المقصود بكلامها الإمام ( عليه السلام ) ، لكنها تخاطب الأمة ، وتسجل موقفاً للتاريخ ، وأنها غضبى ، وأن واجب المسلمين نصرتها ، وواجب علي ( عليه السلام ) قبلهم ، لكنه مأمور بالصبر إن لم يجد ناصراً ، والمسلمون غير مأمورين بذلك ، فلا عذر لهم !
ويوجد مثل هذا الخطاب في القرآن ، ظاهره عتب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتهديد له ، وواقعه عتب على الناس وتوبيخ لهم وتهديد . كقوله تعالى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . وقوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ . وقوله تعالى : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . وقوله تعالى : وَلا تَكُنْ للَّخَائِنِينَ خَصِيمًا . وكلها يقصد بها تفهيم غيره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 538 ---------------------------
27 . لماذا سمح علي ( عليه السلام ) لأبي‌بكر وعمر بزيارة فاطمة ( عليها السلام ) ؟
روى سليم بن قيس في كتابه / 391 : ( كان علي ( عليه السلام ) يصلي في المسجد الصلوات الخمس ( مفرداً ) فكلما صلى قال له أبو بكر وعمر : كيف بنت رسول الله ؟ إلى أن ثقلت ، فسألا عنها وقالا : قد كان بيننا وبينها ما قد علمت ، فإن رأيت أن تأذن لنا فنعتذر إليها من ذنبنا ؟ قال ( عليه السلام ) : ذاك إليكما . فقاما فجلسا بالباب ودخل علي على فاطمة ( عليها السلام ) فقال لها : أيتها الحرة ، فلان وفلان بالباب يريدان أن يسلما عليك ، فما ترين ؟ قالت : البيت بيتك والحرة زوجتك فافعل ما تشاء .
فقال : شدي قناعك فشدت قناعها وحولت وجهها إلى الحائط ، فدخلا وسلما وقالا : إرضي عنا رضي الله عنك . فقالت : ما دعاكما إلى هذا ؟ فقالا : اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا وتخرجي سخيمتك . فقالت : فإن كنتما صادقين فأخبراني عما أسألكما عنه ، فإني لا أسألكما عن أمر إلا وأنا عارفة بأنكما تعلمانه ، فإن صدقتما علمت أنكما صادقان في مجيئكما . قالا : سلي عما بدا لك . قالت : نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : فاطمة بضعة مني ، فمن آذاها فقد آذاني ؟ قالا : نعم . فرفعت يدها إلى السماء فقالت : اللهم إنهما قد آذياني ، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك .
لا والله لا أرضى عنكما أبداً حتى ألقى أبي رسول الله وأخبره بما صنعتما ، فيكون هو الحاكم فيكما !
قال : فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور وجزع جزعاً شديداً . فقال عمر : تجزع يا خليفة رسول الله من قول امرأة ؟ ) .
وقال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 115 ) : ( استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما ، فلما طال عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه ، فكلمها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ، ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما ، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أليس قد صنعت ما أردت ؟ قال نعم قالت : فهل أنت صانع ما آمرك قال : نعم . قالت : فإني أنشدك الله أن لا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري ) .
--------------------------- 539 ---------------------------
وقال الطبري الشيعي في دلائل الإمامة / 134 : ( وكان الرجلان من أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سألا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يشفع لهما إليها ، فسألها أمير المؤمنين فأجابت ، فلما دخلا عليها قالا لها : كيف أنت يا بنت رسول الله ؟ قالت : بخير بحمد الله . ثم قالت لهما : ما سمعتما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ؟ قالا : بلى . قالت : فوالله ، لقد آذيتماني . قال : فخرجا من عندها وهي ساخطة عليهما ) .
وفي رواية عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( البحار : 29 / 158 ) : ( عن أسماء بنت عميس قالت : طلب إلي أبو بكر أن استأذن له على فاطمة يترضاها ، فسألتها ذلك فأذنت له ، فلما دخلت ولت وجهها الكريم إلى الحائط ، فدخل وسلم عليها فلم ترد ، ثم أقبل يعتذر إليها ويقول : إرضيْ عني يا بنت رسول الله . فقالت : يا عتيق ، حملت الناس على رقابنا ! أخرج ، فوالله ما كلمتك أبداً حتى ألقى الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأشكوك إليهما ) .
ومن صحاح أخبارهم ، ما رواه البخاري ( 4 / 41 ) : ( فغضبت فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 30 ) وكحالة في أعلام النساء ( 3 / 1214 ) : ( فقال عمر لأبي‌بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً فكلماه فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام ! فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله ! والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي ، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أني متُّ ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ، إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول : لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة . فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تعرفانه وتفعلان به ؟ قالا : نعم . فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن
--------------------------- 540 ---------------------------
أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه ! فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها !
ثم خرج باكياً فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ! لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي ! قالوا : يا خليفة رسول الله ، إن هذا الأمر لا يستقيم ، وأنت أعلمنا بذلك ، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين . فقال : والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة ، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة ) .

28 . وصية فاطمة لعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وقد أوصت فاطمة علياً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن يدفنها ليلاً سراً ، ولايأذن لهما بالصلاة عليها .
ففي معاني الأخبار / 356 ، قال ( عليه السلام ) : ( لما حضرت فاطمة الوفاة دعتني فقالت : أمنفذٌ أنت وصيتي وعهدي ؟ قال قلت : بلى أنفذها . فأوصت إليَّ ، وقالت : إذا أنا متُّ فادفني ليلاً ، ولا تؤذننَّ رجلين ، ذكرتهما ) .
وفي رواية : غسلها علي ( عليه السلام ) في قميصها ، ثم حنطها من فضلة حنوط رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكفنها . قال : فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت : يا أم‌كلثوم ، يا زينب ، يا سكينة ، يا فضة ، يا حسن ، يا حسين . هلموا تزودوا من أمكم ، فهذا الفراق واللقاء في الجنة . فلما أقبل الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكلماها ، يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إني أشهد الله أنها قد حنَّت وأنَّت ومدَّت يديها وضمتهما إلى صدرها ملياً . وإذا بهاتف من السماء ينادي : يا أبا الحسن إرفعهما عنها ، فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات ، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب . قال : فرفعتهما عن صدرها .
ثم ذكر ( عليه السلام ) أنه عقد الرداء ، ثم حملها على يده وأقبل بها إلى قبر أبيها ، ثم عدل بها إلى الروضة ، فصلى عليها في أهله ومواليه وأصحابه وأحبائه ، وطائفة من المهاجرين
--------------------------- 541 ---------------------------
والأنصار . ثم واراها وألحدها في لحدها . ( البحار : 43 / 179 ) .
وفي كتاب سليم بن قيس / 392 : ( قال ابن عباس : فقبضت فاطمة من يومها فارتجَّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان له : يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله . . فلما كان في الليل دعا علي العباس والفضل والمقداد وسلمان وأبا ذر وعماراً ، فقدم العباس فصلى عليها ودفنوها .
فلما أصبح الناس أقبل أبو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة ( عليها السلام ) فقال المقداد : قد دفنا فاطمة البارحة ! فالتفت عمر إلى أبي‌بكر فقال : ألم أقل لك إنهم سيفعلون ! قال العباس : إنها أوصت أن لا تصليا عليها ! فقال عمر : والله لا تتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبداً ! إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب ! والله لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها ! فقال علي : والله لو رمت ذلك يا ابن صهَّاك لا رجعتْ إليك يمينك ! والله لئن سللت سيفي لا أغمدته دون إزهاق نفسك ، فَرُمْ ذلك ! فانكسر عمر وسكت ، وعلم أن علياً ( عليه السلام ) إذا حلف صدق ) .
وفي رواية روضة الواعظين للنيسابوري / 151 : ( فقالت : يا ابن عم إنه قد نُعِيَتْ إليَّ نفسي وإنني لأرى ما بي ، لا أشك إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة ، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي . قال لها علي : أوصني بما أحببت يا بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت .
ثمّ قالت : يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني ، فقال علي : معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم ، وأشد خوفاً من الله أن أوبخك غداً بمخالفتي ، فقد عز عليَّ مفارقتك وفقدك ، إلاّ أنه أمر لا بد منه ، والله جدد عليَّ مصيبة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها ، هذه والله مصيبة لا عزاء عنها ورزية لا خلف لها .
--------------------------- 542 ---------------------------
ثم بكيا جميعاً ساعة وأخذ علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأسها وضمها إلى صدره ، ثم قال : أوصيني بما شئت ، فإنك تجديني وفياً أمضي كل ما أمرتني به ، وأختار أمرك على أمري .
ثم قالت : جزاك الله عني خير الجزاء يا ابن عم ، أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإن الرجال لا بد لهم من النساء . قال : فمن أجل ذلك قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أربعة ليس إلى فراقهن سبيل : أمامة أوصتني بها فاطمة ، ثم قالت أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً ، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته ، فقال لها : صفيه إلي فوصفته فاتخذه لها ، فأول نعش عمل في وجه الأرض ذلك ، وما رأى أحد قبله ولا عمل أحد .
ثم قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي ، فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله ، وأن لا يصلي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم . وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار .
ثم توفيت صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها ، فصاح أهل المدينة صيحة واحدة ، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخن صرخة واحدة ، كادت المدينة أن تزعزع من صراخهن وهن يقلن : يا سيدتاه يا بنت رسول الله !
وأقبل الناس مثل عُرْف الفرس إلى علي وهو جالس والحسن والحسين بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما ، وخرجت أم‌كلثوم وعليها برقعة وتجر ذيلها ، متجللة برداء عليها تسحبه وهي تقول : يا أبتاه يا رسول الله ، الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده ، واجتمع الناس ، فجلسوا وهم يرجون وينظرون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها .
وخرج أبو ذر فقال : انصرفوا فإن ابنة رسول الله قد أخر إخراجها في هذه العشية . فقام الناس وانصرفوا . فلما أن هدأت العيون ومضى من الليل أخرجها علي والحسن والحسين وعمار والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان وبريدة ، ونفر من بني هاشم وخواصهم ، صلوا عليها ودفنوها في جوف الليل ، وسوَّى عليٌّ حواليها قبوراً مزورة مقدار سبعة ، حتى لا يعرف قبرها ) .
وفي رواية : أتاه أبو بكر وعمر وقالا : لم لاتخرجها حتى نصلي عليها ، فقال : ما أرانا
--------------------------- 543 ---------------------------
إلا سنصبح . وخرج أبو ذر وقال : انصرفوا فإن ابنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أُخِّرَ إخراجها في هذه العشية . فقام الناس وانصرفوا ، فدفنها ( عليه السلام ) في الليل . .
وفي رواية : فضج الناس ، ولام بعضهم بعضاً ، وقالوا : لم يخلِّف نبيكم فيكم إلا بنتاً واحدة ، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها ، ولا تعرفون قبرها !
وفي رواية : أنهم أرادوا أن يأتوا بنساء لنبش قبر الزهراء والصلاة عليها ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين فخرج مغضباً وقد احمرت عيناه ، ودرت أوداجه ، وعليه قباؤه الأصفر ، الذي كان يلبسه في كل كريهة ، وهو متوكئ على سيفه ذي الفقار حتى ورد البقيع ، وهو يقسم بالله : لئن حول من هذه القبور حجر ، ليضعن السيف على غابر الآخِر ، فلما بلغهم خبرمجيئه على هذا الحال تلقاه عمر ومن معه من أصحابه ، وقال له : ما لك يا أبا الحسن ! والله لننبشن قبرها ، فضرب علي ( عليه السلام ) بيده إلى جوامع ثوبه ثم ضرب به الأرض ، وقال له : يا بن السوداء ، أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتد الناس عن دينهم ، وأما قبر فاطمة ، فوالذي نفس علي بيده ، لئن رمت وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقين الأرض من دمائكم ، فإن شئت فاعرُض يا عمر !
فتلقاه أبو بكر فقال : يا أبا الحسن ، بحق رسول الله وبحق من فوق العرش إلا ما خليت عنه ، فإنَّا غير فاعلين شيئاً تكرهه .
قال : فخلى عنه ، وتفرق الناس ، ولم يعودوا إلى ذلك . ( دلائل الإمامة / 137 ) .
وهكذا استثمرت الزهراء ( عليها السلام ) موتها وجنازتها وموضع قبرها في معارضة السلطة ! تقول للأجيال : إفهموا لماذا غضبت فاطمة عليهم ، فقاطعتهم حتى لقيت ربها وأباها ؟ ولماذا أوصت أن لا يحضروا جنازتها ولا يصلوا عليها ! ولماذا أوصت أن يعفَّى قبرها ولا يعرف !

29 . كلام علي ( عليه السلام ) على قبر فاطمة ( عليها السلام )

في أمالي المفيد / 281 ، عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : ( فلما حضرتها الوفاة أوصت أمير المؤمنين أن يتولى أمرها ويدفنها ليلاً ويعفي قبرها ! فتولى ذلك
--------------------------- 544 ---------------------------
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ودفنها ، وعفى موضع قبرها ، فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خديه ، وحول وجهه إلى قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال :
السلام عليك يا رسول الله مني ، والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك ، والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار لها الله سرعة اللحاق بك . قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، وضعف عن سيدة النساء تجلدي ، إلا أن في التأسي لي بسنتك والحزن الذي حل بي بفراقك ، موضع التعزي ، فلقد وسدتك في ملحود قبرك ، بعد أن فاضت نفسك على صدري ، وغمضتك بيدي ، وتوليت أمرك بنفسي .
نعم وفي كتاب الله أنعم القبول : إنا لله وإنا إليه راجعون . لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، واختلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء . يا رسول الله ! أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهد ، لا يبرح الحزن من قلبي ، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم . كَمَدٌ مُقيح ، وهَمٌّ مُهيج . سرعان ما فرق بيننا ، وإلى الله أشكو .
وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك عليَّ ، وعلى هضمها حقها ، فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً ! وستقولُ ويحكم الله ، وهو خير الحاكمين .
سلام عليك يا رسول الله سلام مودع ، لاسئمٍ ولا قالٍ ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ، والصبر أيمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً ، واللبث عنده معكوفاً ، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية ! فبعين الله تدفن ابنتك سراً ، وتهتضم حقها قهراً ، وتمنع إرثها جهراً ، ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر ! فإلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك أجمل العزاء . وصلوات الله عليك وعليها ، ورحمة الله وبركاته ) .

30 . لماذا ترك علي ( عليه السلام ) فدكاً ولم يأخذها في خلافته ؟

أورد الصدوق ( قدس سره ) في علل الشرائع ( 1 / 154 ) جوابين للإمام الصادق ( عليه السلام ) في العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فدكاً لما وليَ الناس ، يقول أولهما إن الظالم والمظلوم قدما على الله تعالى ، ويقول الثاني إنه اقتدى برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما فتح مكة وقد باع عقيل بن أبي طالب داره ، فقيل له يا رسول الله ألا ترجع إلى دارك ؟ فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وهل ترك
--------------------------- 545 ---------------------------
عقيل لنا داراً ، إنا أهل بيت لانسترجع شيئاً يؤخذ منا ظلماً ، فلذلك لم يسترجع فدك لما وليَ .
وأورد جواباً عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) يقول : لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو ، عز وجل ، ونحن أولياء المؤمنين . إنما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم ، ولا نأخذ لأنفسنا .
وهي أجوبة سياسية لتعليم الشيعة وإسكات الخصم . أما السبب الأساسي فهو أنه ( عليه السلام ) كان يعلم أن الغلبة ستكون لغيره وأنهم سيأخذون فدك بعده ، فتركها . وقد نص ( عليه السلام ) على أنه ترك تحريفات قام بها الحكام قبله ، لأن العامة أشربوا حبها ، ولا يتقبلون إرجاعها إلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكان ( عليه السلام ) يعلم أن أبا بكر وعمر اتخذوا قراراً مشدداً بإفقارهم ومصادرة كل ماليتهم !
جاء في مجمع الزوائد ( 9 / 39 ) عن عمر ، أنه لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا : ما تقول في ما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله ! قال فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك ! فقلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير !
قال ( عليه السلام ) كما في الكافي ( 8 / 59 ) : ( إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة ، فإذا غير منها شئ قيل : قد غيرت السنة ، وقد أتى الناس منكراً !
ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب ، وكما تدق الرحا بثفالها ، ويتفقهون لغير الله ، ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة . ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال :
قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيرين لسنته ، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي ، الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله
--------------------------- 546 ---------------------------
عز وجل وسنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ( عليها السلام ) ، ورددت صاع رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضي بها ، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن ، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأرحام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ، وألقيت المساحة ، وسويت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه ، وحرمت المسح على الخفين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجده ممن كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أدخله ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائرالأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ،
إذاً لتفرقوا عني !
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة ، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ! !
ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة ، وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار !
--------------------------- 547 ---------------------------
وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل : إن كنتم آمنتم بالله وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ . فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال تعالى : فَللَّهِ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، فينا خاصة ، كَىْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ في ظلم آل محمد ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، لمن ظلمهم .
رحمة منه لنا ، وغنىً أغنانا الله به ، ووصى به نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً ، أكرم الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأكرمنا أهل‌البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس ، فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا ! ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
والله المستعان على من ظلمنا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) .
* *
--------------------------- 548 ---------------------------

الفصل الخامس والعشرون: علي ( عليه السلام ) يمنع انهيارالدولة في عهد أبي‌بكر

موجة الردة وادعاء النبوة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

راجع لتفصيل هذا الموضوع كتابنا الثلاثة : قراء جديدة في حروب الردة ، وقراءة جديدة في الفتوحات . فقد فصلنا فيها دورأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وتلاميذه القادة ، في قمع الردة وفي حروب الفتوحات . ونذكر هنا خلاصة في سياقها من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
قال ابن واضح اليعقوبي ( 2 / 128 ) يصف الردة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « وتنبأ جماعة من العرب ، وارتد جماعة ووضعوا التيجان على رؤوسهم ، وامتنع قوم من دفع الزكاة إلى أبي‌بكر . . » .
وقال الطوسي في المبسوط ( 7 / 267 ) : « أهل الردة بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضربان : منهم قوم كفروا بعد إسلامهم مثل مسيلمة وطليحة والعنسي وأصحابهم ، وكانوا مرتدين بالخروج من الملة بلا خلاف . والضرب الثاني : قوم منعوا الزكاة مع مقامهم على الإسلام وتمسكهم به ، فسموا كلهم أهل الردة ، وهؤلاء ليسوا أهل ردة عندنا وعند الأكثر » .
وقال الزمخشري في الكشاف : 1 / 620 : « وقيل بل كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة . .
أقول : تعدادهم للمرتدين غير دقيق ، فبعضهم اعترضوا على خلافة أبي‌بكر فسموهم مرتدين ، مثل بني يربوع من بني تميم ، الذين كان رئيسهم مالك بن نويرة رضي الله عنه صحابياً جليلاً شهد له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالجنة . وعندما أرسل أبو بكر خالداً لقتال طليحة ، أمره أن يقتل مالك بن نويرة بتهمة الردة حتى لايفتق عليه فتقاً ، فذهب خالد واحتال على مالك وقتله غدراً ، وأخذ زوجته !
--------------------------- 549 ---------------------------
وقد اعترض عليه عدد من الصحابة كانوا معه كعبد الله بن عمر وأبي قتادة الأنصاري ، فأصر على فعله ولم يسمع كلامهم . وانتقده عمر وطالب أبا بكر أن يقتص منه ويقتله ، لأنه قتل مسلماً وعدا على زوجته !
وكذلك كانت حركة قبائل كندة في حضرموت ، فعندما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعاهم عاملهم زياد البياضي إلى بيعة أبي‌بكر : « فقال له الحارث : أخبرني لم نَحَّيْتُم عنها أهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهم أحق الناس بها ، لأن الله عز وجل يقول : وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ . فقال له زياد بن لبيد : إن المهاجرين والأنصار أَنْظَرُ لأنفسهم منك . فقال له الحارث بن معاوية : لا والله ! ما أزلتموها عن أهلها إلا حسداً منكم لهم ، وما يستقر في قلبي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علماً يتبعونه ! فارحل عنا أيها الرجل فإنك تدعو إلى غير رضا ، ثم أنشأ الحارث بن معاوية يقول :
كان الرسول هو المطاع فقد مضى * صلى عليه الله لم يستخلف !
قال : فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي فقال : صدق والله الحارث بن معاوية ! أخرجوا هذا الرجل عنكم ، فما صاحبه بأهل للخلافة ولايستحقها بوجه من الوجوه وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأمة من نبيها » . ( ابن الأعثم : 1 / 48 ) .
فهي حركة ضد أبي‌بكر وليست ردة عن الإسلام ، ثم دخل في حركتهم الأشعث بن قيس الكندي فجعلها ردة ، وتفاوض مع أبي‌بكر وأخذ امتيازات ، وأهم امتيا ز له أنه تزوج أخت أبي‌بكر !
لكن اتهام الحكومة لمخالفيها بالردة لا ينفي وجود حركة ردة في قبائل العرب . فإن عدداً من القبائل تصوروا أن نبوة قريش انتهت بوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن الفرصة جاءتهم ليعلنوا نبوتهم ، ويحققوا مكاسب قبلية ، كما حققت قريش من نبوتها مكاسب بتصورهم ! وهم الذين قال الله فيهم : قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الآيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .
قال في تاريخ دمشق : 25 / 156 : « فلما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قام عيينة بن حصن في
--------------------------- 550 ---------------------------
غطفان فقال : ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ، وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة . ووالله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش . وقد مات محمد وبقي طليحة ، فطابقوه على ذلك » !
ويقصد بالحليفين : غطفاناً وأسداً ، فقد قلد أبا جهل لما قال : نبيٌّ من بني هاشم ! لا والله حتى يكون نبي من مخزوم ! وقال علي ( عليه السلام ) عن خطر الردة : « فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » ! ( نهج البلاغة : 3 / 119 ، من رسالته لأهل مصر ) .

لجوء أبي‌بكر إلى علي ( عليه السلام )

ادعى طليحة بن خويلد النبوة في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبعد وفاته نشط في دعوا وانضمت اليه بطون من طيئ وخزاعة وفزارة ، وبلغ جيشه ثلاثين الفاً وقيل أربعين ألفاً وأرسل الرسائل والوفود إلى أبي‌بكر مطالباً بالاعتراف بنبوته مع نبوة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبإسقاط الزكاة والصلاة عن أتباعه . وأرسل عشرة آلاف بقيادة ابن أخيه حِبال ، ليفاوضوا أبا بكر ، فإن لم يستجب لهم غزوا المدينة واحتلوها !
وكان طليحة مطمئناً إلى نجاح خطته ، لأن قريشاً عزلت بطلها علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فاعتزل في بيته وانتهت أسطورته ، ولأن جيش أسامة ذهب إلى مؤتة فخليت المدينة فاعتبرها طليحة فرصة لغزو المدينة وقتل خليفة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإعلان نبوته !
وعاش أبو بكر ومن حوله الرعب ، وأشار عليه عمر بن الخطاب أن يقبل بشروطهم ، ليكفوا عن مهاجمة المدينة !
وأحس أبو بكر بحاجته الماسَّة إلى علي ( عليه السلام ) فأرسل له الواسطة بعد الأخرى يعتذر اليه من عزله من الخلافة ، ويؤكد له بأنه سيعيدها اليه بعد وفاته . ( الخصال للصدوق / 343 ) .
وقد وصف البلاذري فرح أبي‌بكر بمجيئ علي ( عليه السلام ) اليه ! فقال في أنساب الأشراف ( 1 / 588 ) : « لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى عليّ فقال : يا ابن عم ، إنه لا يخرج أحد إلى هذا العدو وأنت لم تبايع ، فلم يزل به حتى مشى إلى أبي‌بكر . فقام أبو بكر إليه فاعتنقا
--------------------------- 551 ---------------------------
وبكى كل واحد إلى صاحبه . فبايعه فسُرَّ المسلمون ، وجدَّ الناس في القتال ، وقطعت البعوث » .
قال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 3 / 118 ، والغارات للثقفي : 1 / 307 ، والإمامة والسياسة : 1 / 133 ) : « من كتاب له ( عليه السلام ) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر ، لما ولاه إمارتها : أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان ( أبي‌بكر ) يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب . فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه » .
وتعبير : ما كان يلقى في روعي ، تعبير مجازي ، للأمر المفاجئ غير المنطقي . ومعنى تنهنه : سكن واطمأن .
وفي كشف المحجة / 176 : « حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام ، تدعو إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وملة إبراهيم ( عليه السلام ) » .
يقصد بذلك حركة طليحة في حائل ، وحركة مسيلمة في اليمامة ، وحركة الأسود العنسي في اليمن . ومعنى دعوتهم إلى مَحْقِ دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وملة إبراهيم ( عليه السلام ) ، أنهم يريدون إزالة الإسلام ، وحتى الحج إلى الكعبة الذي بقي عند العرب من ملة إبراهيم ( عليه السلام ) ! لأن دعوتهم كانت إلى نبوة مقابل نبوة قريش سادنة الكعبة .
وكانت بعض القبائل ومنها طيئ لاتحج إلى الكعبة ، ولعلهم كانوا مرتبطين بهرقل عن طريق الغساسنة ، وأما العنسي فعن طريق الحبشة .
ورواه بعضهم كابن قتيبة في الإمامة : 1 / 134 ، والثقفي في الغارات : 1 / 306 ،
--------------------------- 552 ---------------------------
وفيه : « فمشيت عند ذلك إلى أبي‌بكر فبايعته ، ونهضت معه في تلك الأحداث حتى زهق الباطل وكانت كلمة الله هي العليا وإن رغم الكافرون . فتولى أبوبكرتلك الأمور ، فيسر وسدد ، وقارب واقتصد ، فصحبته مناصحاً ، وأطعته فيما
أطاع الله فيه جاهداً » .
وكلمة ( فبايعته ) لا تصح على أصولنا ، لأنه ( عليه السلام ) كان بايعه مكرهاً ، ولا يجوز له أن يبايعه مختاراً ، فالصحيح : تألفته بدل بايعته ، كما رواه في المسترشد / 97 ، و / 411 ، ودلائل الإمامة ( 1 / 83 ) في منشور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي كتبه ليُقرأ على المسلمين في بلادهم وهو من صفحات ، قال ( عليه السلام ) : « ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم ، فمشيت عند ذلك إلى أبي‌بكر فتألفته ، ولولا أني فعلت ذلك لباد الإسلام ! ثم نهضت في تلك الأحداث حتى انزاح الباطل ، وكانت كلمة الله هي العليا ، ولو كره المشركون » .
ومعنى قوله ( عليه السلام ) : ولولا أني فعلت ذلك لبادَ الإسلام ! أنه لو لم ينهض ( عليه السلام ) ويقاوم جيش طليحة المهاجم لسيطر على المدينة ، وقتل أبا بكر وأصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأعلن نبوته وإلغاء نبوة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! أو أعلن الأذان : أشهد أن طليحة ومحمداً رسول الله !

مشاورة أبي‌بكر لعلي ( عليه السلام ) في أمر طليحة

روى مسدد في مسنده ( كنز العمال : 6 / 531 ) أن أبا بكر : « استشارعلياً في أهل الردة فقال : إن الله جمع الصلاة والزكاة ، ولا أرى أن تفرق ، فعند ذلك قال أبو بكر : لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه » .
وفي الرياض النضرة للطبري : 1 / 129 : « شاوره أبو بكر في قتال أهل الردة بعد أن شاور الصحابة فاختلفوا عليه ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : إن تركت شيئاً مما أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم فأنت على خلاف سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال : أما لئن قلت ذلك ، لأقاتلنهم ولو منعوني عقالاً . أخرجه ابن السمان » . وذخائر العقبى لأحمد الطبري / 97 ، وجواهر المطالب للدمشقي : 1 / 261
ومعناه أن أبا بكر أخذ برأي علي ( عليه السلام ) وخالف عمر ، بل وبخه ووصفه بالجبن والخور !
--------------------------- 553 ---------------------------
فقال له عمر : « تألَّف الناس وارفق بهم ، فإنهم بمنزلة الوحش . فقال له : رجوتُ نصرك وجئتني بخذلانك ! جَبَّارٌ في الجاهلية خَوَّارٌ في الإسلام ! ماذا عسيتُ أن أتألفهم ، بشعر مفتعل أو بسحر مفترى ، هيهات هيهات ، مضى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانقطع الوحي . والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي ، وإن منعوني عقالاً » . ( كنز العمال : 6 / 527 ) .
وقال البخاري في صحيحه ( 8 / 140 ) : « لما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستُخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي‌بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله ؟ فقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال . والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ، لقاتلتهم على منعه » .
ومعناه أن عمر كان يرى تحريم قتالهم ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ! لكن أبا بكر أخذ برأي علي ( عليه السلام ) .
ثم استشار علياً ( عليه السلام ) في غزو الروم : « ماذا ترى يا أبا الحسن ؟ فقال : أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم ، نُصرت عليهم إن شاء الله . فقال :
بشرك الله بخير » . ( تاريخ دمشق : 2 / 64 ) .

أهل المدينة يتوقعون هجوم جيش طليحة

روى الطبري ( 2 / 476 ) : ( فرجع وفد المرتدة إليهم فأخبروا عشائرهم بقلة أهل المدينة وأطمعوهم فيها . وجعل أبو بكر بعدما خرج الوفد على أنقاب المدينة نفراً : علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وأخذ ( ألزم ) أهل المدينة بحضور المسجد . وقال لهم إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة ، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً وأدناهم منكم على بريد . . فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارةً مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حِسْي ، ليكونوا لهم ردءً ) .
--------------------------- 554 ---------------------------
أقول : كانت هذه الحادثة بعد ستين يوماً من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكان لها وقع شديد على الصحابة ، خاصة القرشيين أهل السقيفة والنظام الجديد ، وغابت عنهم فرحتهم بأخذ دولة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أهل بيته ( عليهم السلام ) !

الوضع العسكري لدولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عند وفاته

1 . كانت دولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متوثبة لبسط حكمها على فارس والروم والعالم كما أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكانت تواجه أخطاراً كبيرة أهمها أطماع القبائل التي كانت تسارع إلى الردة والى غزو المدينة . وكان ثقل القوة القتالية للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالأنصار وقد انتهت قوتهم بسبب اختلافهم ! فلم يكن للأوس رئيس يجمعهم ، ورئيس الخزرج سعد بن عبادة لم يستطع أن يكسب الأوس ، وزاد من ضعفه أنه لما رأى أن قريشاً قررت عزل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) رشح نفسه للخلافة ، فعادته قريش وخصومه الأوسيون وأذلوه وأهانوه وهددوه فبايعوا أبا بكر في بيته وكان مريضاً ، وخذله الخزرج فخضع وانتهت قوته حتى أن عمر نفاه من المدينة إلى الشام وقتله ، فلم يتحرك الخزرج ، وكان ابنه قيس ضعيفاً !
وكانت القوة العسكرية لأبي‌بكر طلقاء قريش ، ومن يستطيع جمعه من أهل المدينة والقبائل ، لكنها قوة شرطة وليست قوة معارك مع الفرس والروم والقبائل القوية .
2 . يتوقف كل إنجاز عسكري على القائد الميداني والجندي الشجاع ، فهما اللذان يحققان النصر ، ويسمون أهل البلاء وأهل الغَناء وأهل النكاية بالعدو ، أي يُغنون عن غيرهم . فهم الخط الأول المقتحمون ، وهم الثابتون إذا تراجع غيرهم . وهم القوة الحقيقية للجيش وصُنَّاع النصر .
والعجيب أن هؤلاء كلهم أو جِلُّهم من تلاميذ علي ( عليه السلام ) ، وليس مع أبي‌بكر وعمر منهم أحد ! قد تقول : أين خالد بن الوليد ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهم ؟ والجواب : أن مكذوبات الحكومة لهؤلاء كثيرة ، لكنهم لم يبرز أحد منهم إلى فارس ، ولا اقتحم في معركة أبداً !
--------------------------- 555 ---------------------------
ولذلك لما هدد طليحة المدينة توسل أبو بكر وعثمان بعلي ( عليه السلام ) وقالوا له إن أهل المدينة لا يخرجون حتى تخرج ، يقولون إن خرج عليٌّ خرجنا معه ! ولما استغاث خالد وأبو عبيدة بالخليفة ليرسل لهم مدداً إلى اليرموك مقابل الروم ، لجأ الخليفة إلى علي ( عليه السلام ) فكتب إلى تلاميذه فرسان اليمن ، فجاءه مالك الأشتر ونخبة من النخعيين ، وعمرو بن معدي كرب ونخبة من الزبيديين . وبعثهم إلى الشام فقطفوا النصر في معركة اليرموك .
كان فرسان المسلمين القادة من تلاميذ الإمام ( عليه السلام ) ، مثل حذيفة بن اليمان قائد معركة نهاوند فتح الفتوح ، وأبي دجانة سماك بن خراش ، والنعمان بن مقرن وإخوته الستة ، وسلمان الفارسي القائد في فتح العراق وإيران وأرمينيا ، وحجر بن عدي الكندي ، وعمار بن ياسر ، وهاشم المرقال الزهري ، وأبي ذر القائد في فتح الشام وقبرص ومصر ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي ، بطل معركة أجنادين في فتح فلسطين وما بعدها إلى اليرموك ، وأخويه أبان بن سعيد وعمرو بن سعيد ، وبريدة الأسلمي ، وعبادة بن الصامت ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعثمان بن حنيف وإخوته ، وعبد الرحمن بن سهل الأنصاري ، والمقداد بن عمرو ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، والبراء بن عازب ، وقيس بن ثابت ، وبلال بن رباح ، وعبد الله بن خليفة البجلي ، وعدي بن حاتم الطائي ، وأبي عبيد الثقفي ، وصعصعة بن صوحان العبدي وإخوته ، والأحنف بن قيس ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وجعدة بن هبيرة ابن أخت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، والمسيب بن نجبة ، ومسلم بن عوسجة ، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة الأموي ، وأبي رافع وأولاده .
ولكل واحد من هؤلاء أدوارٌ وإنجازات ، أخفاها إعلام الخلافة ، وجعلوا بدلها أدواراً مكذوبة لأشخاص موالين للسلطة .
--------------------------- 556 ---------------------------

مقارنة بين شجاعة علي ( عليه السلام ) وأبي‌بكر وعمر

كان من أهم عوامل انتصار الإسلام شجاعة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومعه فرسان بني عبد المطلب : عليٌّ وحمزة وجعفر وعبيدة ، فلولا هؤلاء لما انتصر المسلمون في بدر ، ولما غيروا المعادلة لمصلحة الإسلام . ولو لم يثبت علي ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أحُد ، ويردَّ عنه هجمات قريش المستميتة ، لتغيَّر مسار المعركة ، ومسار التاريخ .
ولو لم يبرز علي ( عليه السلام ) لعمرو بن ود يوم الخندق ، لقتل عمرو عدداً من المسلمين وفتح ثغرة الخندق لجيش الأحزاب ، فدخلوا المدينة واحتلوها ! وعندما حاصر المسلمون خيبر وفشلوا في اقتحامه ، لو لم يأت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي ( عليه السلام ) من القسم الأول من خيبر ، ليقتحم الحصن ، لما تحقق النصر على اليهود .
وعندما انهزم المسلمون في حنين وتركوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لو لم يهاجم عليٌّ ( عليه السلام ) جيش هوازن ، ويقتل أربعين من حملة راياتهم ، لما تحقق النصر . وكذلك الحال في كل معركة ، فإن النصر فيها يتوقف على البطل أو الأبطال ، الذين يغيرون المعادلة .
ولذلك صارت الأمثال تضرب بشجاعة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وبطولته ، ويليه أفراد معدودون من الصحابة ، لكن الفارق كبير بينه وبينهم .
أما الباقون ففيهم شجعان ، لكن فيهم كثيرون إذا حميَ الوطيس رجع أحدهم إلى الصف الخلفي ، أو هرب مُوَلِّياً من المعركة تاركاً النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لسيوف أعدائه !
وقد وصفتهم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فقالت كما في بلاغات النساء / 13 : « وكنتم على شفا حفرة من النار ، مُذقة الشارب ، ونَهزة الطامع ، وقَبْسَة العَجْلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطَّرَق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ! فأنقذكم الله بأبي بعد اللُّتَيَّا والتي ، وبعد ما مُنِيَ ببُهم الرجال ، وذؤبان العرب ، ومَرَدَة أهل الكتاب ، كلما حَشَوْا ناراً للحرب أطفأها ، ونَجَمَ قرنٌ للضلال ، وفَغَرت فاغرةٌ من المشركين ، قذف بأخيه في لهواتها ، فلاينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بحده ، مكدوداً في ذات الله ، قريباً من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، سيداً في أولياء الله ، وأنتم في بَلَهْنِيَةٍ وادعون آمنون .
--------------------------- 557 ---------------------------
حتى إذا اختار الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دار أنبيائه ، ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الآفلين ، وهدر فنيق المبطلين . . الخ . » .
وكما اتفق المسلمون على شجاعة علي ( عليه السلام ) ، اتفقوا على أن أبا بكر وعمر لم يشتركا في أي معركة من معارك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يضربا ضربةً بسيف ولا طعنا طعنةً برمح ! بل كانا عندما تبرز الأبطال ويزحف الصفان ، يتأخران إلى الصفوف الخلفية يحفظان حياتهما ، أو يوليان الدبُر ويهربان !
قال في مناقب آل أبي طالب : 1 / 341 : « المعروفون بالجهاد : عليٌّ ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، وسعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب ، وسعد بن معاذ ، ومحمد بن مسلمة . وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلي ( عليه السلام ) في شوكته وكثرة جهاده . فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي ، فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة » .
وروى سليم بن قيس في كتابه / 247 ، قول علي ( عليه السلام ) يصف أبا بكر وعمر وعثمان : « ألا إن العجب كل العجب من جُهال هذه الأمة وضُلالها ، وقادتها وساقتها إلى النار ، لأنهم قد سمعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول عوداً وبدءً : ما ولَّت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه ، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ، ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه . وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ، وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله . وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولاغَناءٌ معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبةً في البقاء . وقد علموا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل بنفسه فقتل أبيَّ بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف ، وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك .
وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولا يبارز الأبطال ولا يفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شديدة قط ولا كَرَبَهُ أمرٌ ولا
--------------------------- 558 ---------------------------
ضاق مستصعب من الأمر ، إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمي عن وجهي ! فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولله عز وجل ولرسوله بذلك المَنُّ والطول حيث خصني بذلك ووفقني له .
لم يكن لأبي‌بكر وعمر أي سابقة في الدين ، وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غيرمرة واحدة ، ثم فرَّ ومنح عدوه دُبُرَه ، ورجع يُجَبِّن أصحابه ويجبنونه ، وقد فرَّ مراراً !
فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغيَّر ( أظهر الغيرة ) وأمر ونهى » !
إلى آخر كلامه ( عليه السلام ) وهو طويل ، ملئ بالحجج !
كما نلاحظ أن الله تعالى أنزل السكينة على المؤمنين في حُنين فقال : ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . بينما أنزلها في الهجرة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحده ولم ينزلها على صاحبه فقال تعالى : فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ . ولم يقل : عليهما .
وفي معركة بدر : قال الله عز وجل عن فريق من الصحابة : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ . وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ .
قال مسلم في صحيحه ( 5 / 170 ) : « شاورحين بلغه إقبال أبي سفيان ، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه » !
وفي الدر المنثور ( 3 / 165 ) : « فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إنها قريش وعزها ! والله ما ذلت منذ عزت ، ولا آمنت منذ كفرت ، والله لتقاتلنك ، فتأهب لذلك أهبته واعدد له عدته » ! أي إرجع واستعد لقتالها ! فهو ينصح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالرجوع فعلاً ، وعدم قتال قريش !
وقد ثبت عن أبي‌بكر وعمر أنهما لم يقاتلا في بدر ، وزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استبقى أبا بكر معه في العريش ليستشيره في إدارة المعركة ! لكنهم رووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل قتالاً شديداً ، ولم يكن معه أبو بكر ولا عمر ، فأين كانا ؟ ! قال علي ( عليه السلام ) : « لقد رأيتني يوم بدر
--------------------------- 559 ---------------------------
ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » !
ومجمع الزوائد : 9 / 12 ، وقد صححوه . ثم أنزل الله في بدر : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ . ومعناه أنه كان في بدر فرارٌ إلى الصفوف الخلفية ! وهو فرارٌ تام الشروط والأركان ، مستوجبٌ لغضب الرحمن ، فكيف ينكرون وجود فارِّين !
وقد اعترف عمر بأنه فَرَّ من العاص بن سعيد : « رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه ، فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزُغت عنه ! فقال إلى أين يا ابن الخطاب » . ( ابن هشام : 2 / 464 ) .
وفي معركة أحُد : زعموا أن أبا بكر ثبت : « وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكر الصديق ، وسبعة من الأنصار » . ( الطبقات : 2 / 42 ) . لكنهم تنازلوا عن هذه الرواية فقال أبو بكر إنه من أول من رجع من الفرار !
« عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم أحد » . ( الطبقات : 3 / 155 )
تقصد أنه كان في الأوائل الذين عادوا من الفرار بعد الظهر ، بعد أن انسحب المشركون ، وبعد أن صلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على الشهداء !
أما عمر فقال إنه كان يقفز صعوداً على الجبل ، ففي تفسير الطبري ( 4 / 193 ) : « خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران . . قال : لما كان يوم أحد . . ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد » . أي : العنز الجبلية التي تتسلق الصخور !
وقال ابن إسحاق ( 3 / 309 ) إن أنس بن النضر : « انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ( انهاروا ) فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله ! قال : فما تظنون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل » .
--------------------------- 560 ---------------------------
ولم يؤثِّر كلامه في الصحابة المحترمين ، ولصقوا بالصخرة !
وفي تفسير الطبري ( 4 / 151 ) : « قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول » ! وفي الدر المنثور : 2 / 80 ، قال أحدهم : « والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لنعطينهم بأيدينا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل ! فترخصوا في الفرار حينئذ » ! أي نلتحق نحن القرشيين بعشائرنا !
وفي معركة الخندق : أخذوا يستأذنون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليتفقدوا بيوتهم فيذهبون ولا يعودون ! وبعضهم هرب بلا استئذان !
قال حذيفة كما رواه الحاكم ( 3 / 31 ) : « إن الناس تفرقوا عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة الأحزاب ، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً » !
وهذا فرار مخفي فضحه الله بقوله : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً . ومعناه : أنهم ولوهم الأدبار ، بترك الخندق !
وقال عبد الله بن عمر : « بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف ، فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي ، وقال : من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا ، وكان ذلك في برد شديد ، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم : إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا . قال : فلاوالله ماعطف عليَّ منهم اثنان أو واحد » ! ( أوسط الطبراني : 5 / 275 ، وصححه الزوائد : 6 / 135 ) .
وقد وصفت عائشة ( أحمد : 6 / 141 ) اختباء جماعة من الصحابة في حديقة ، منهم عمر وطلحة ، وكانا يتخوفان من الفرار العام ، وأن طلحة أفتى بأن الفرار جائز ، لأنه فرارٌ إلى الله تعالى !
ورووا أنه بعد أن قتل علي ( عليه السلام ) عمرو بن ود ، أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمر بن الخطاب أن يبرز إلى ضرار بن الخطاب ، فنكص عنه ! ( تفسير القمي : 2 / 182 ) .
بينما روى الجميع قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « لمَبُارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد وُدٍّ يومَ الخندق ، أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة » . ( الحاكم : 3 / 32 ) .
--------------------------- 561 ---------------------------
وفي معركة خيبر : قال النسائي : 5 / 108 : « دعا أبا بكر فعقد له لواءً ثم بعثه فسار بالناس فانهزم ، حتى إذا بلغ رجع ! فدعا عمر فعقد له لواءً ، فسار ثم رجع منهزماً بالناس ! فقال رسول الله : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله له ليس بفرار » ومجمع الزوائد : 9 / 124 وصححه .
وفي رواية عن سعد بن أبي وقاص : « فغضب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه » . ( أمالي المفيد / 56 ) .
وفي غزوة ذات السلاسل : رجع أبو بكر وعمر منهزمين ، فأرسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً فانتصر ، ونزلت سورة العاديات . ( الإرشاد : 1 / 150 ) .
وفي غزوة حنين : فرَّ أبو بكر وعمر مع الفارين ، وتركوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لسيوف عشرين ألف مقاتل من هوازن ، وثبت معه بنو هاشم فقط ! قال الله تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ .
ورووا أن أبا بكر عانهم ، أي أصابهم بالعين !
وفي سيرة ابن كثير ( 3 / 610 ) : « وقال أبو بكر الصديق : لن نغلب اليوم من قلة ، فانهزموا ، فكان أول من أنهزم بنو سليم ثم أهل مكة ، ثم بقية الناس » .
وقال المفيد في الإفصاح / 68 : « وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس فقال لانغلب اليوم من قلة . ثم كان أول المنهزمين ومن ولى من القوم الدبر ، فقال الله تعالى : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ . فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره ، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق » .
بعد ستين يوماً من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هاجم طليحة المدينة
روى الطبري عن عروة ، قال : ( 2 / 476 ) : ( فرجع وفد المرتدة إليهم فأخبروا عشائرهم بقلة أهل المدينة وأطمعوهم فيها . وجعل أبو بكر بعدما خرج الوفد على
--------------------------- 562 ---------------------------
أنقاب المدينة نفراً : علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وأخذ ( ألزم ) أهل المدينة بحضور المسجد . . وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم ، فأنفش العدو ( انهزموا في فوضى ) فأتبعهم المسلمون على إبلهم ، حتى بلغوا ذا حسي . . فبات أبو بكر ليلته يتهيأ فعبأ الناس ، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن ، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن ، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب ، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد ، فما سمعوا للمسلمين همساً ولاحساً ، حتى وضعوا فيهم السيوف ، فاقتتلوا في أعجاز ليلتهم ، فما ذرَّ قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار ، وغلبوهم على عامة ظهرهم ، وقُتِل حِبَال . وعز المسلمون بوقعة أبي‌بكر ، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة ، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة . وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي :
غداة سعى أبو بكر إليهم * كما يسعى لموتته جُلَالُ
أراحَ على نواهقها علياً * ومجَّ لهن مهجته حِبالُ ) .
ومعنى البيتين في النص : يوم سعى إليهم أبو بكر في الغداة ، كما يسعى الجُلال أي الجمل الكبير إلى موتته أي إلى أجله ، ويقصد بها هنا فريسته . وجعل علياً ( عليه السلام ) على خيل المدينة المرتاحة ، فكانت النتيجة أن القائد حبال لفظ مهجته لخيل علي ( عليه السلام ) ، ومعنى مجَّ : مص الماء ونحوه ، وتستعمل بمعنى صبه ، والمعنى هنا : أن حِبال القائد لفظَ مهجته للنواهق ، أي لخيول علي ( عليه السلام ) .
والبيتان تصوير دقيق للمعركة ، فقد خرج أبو بكر في اليوم التالي على النواضح مع المصلين ، ووصلوا إلى ذي حسي القريب فدحرج كمين طليحة القِرَب أمام النواضح فجفلت ورجعت مذعورة مجنونة إلى المدينة .
أما خيل المسلمين ( النواهق ) التي كانت على أنقاب المدينة فقادها علي ( عليه السلام ) وتبعهم حتى اشتبك معهم وقتل قائدهم ، فانفرط عقدهم وانهزموا من معسكرهم في ذي القصة ، الذي يبعد عن المدينة نحو عشرين كيلوا متراً . وفي اليوم التالي ذهب عاود أبو بكر الذهاب إلى ذي القصة مع جيش المدينة بقيادة أولاد مقرن .
--------------------------- 563 ---------------------------
ونلاحظ أن رواية عروة في الطبري وقعت في تناقض فذكرت أنهم خرجوا على النواضح ، وذكر الشاعر أنهم على الخيل ( النواهق ) كما أن عروة لم يذكر علياً ( عليه السلام ) في المدافعين ، وذكر الشاعر أنه قائد الخيل !
والصحيح أن أبا بكر لم يذهب لقتال المرتدين ، لا في نقاب المدينة ، ولا في ذي حِسْي ، ولا في ذي القَصَّة ، ولا في أبرق الربذة على بعد 150 كيلو متراً عن المدينة ، لأنهم رووا بسند صحيح عن الزهري عن عائشة ، قالت : « خرج أبي شاهراً سيفه راكباً على راحلته إلى ذي القصة ، فجاء علي بن أبي طالب وأخذ بزمام راحلته فقال : إلى أين يا خليفة رسول الله ؟ أقول لك ما قال لك رسول الله يوم أحد : شم سيفك ولاتفجعنا بنفسك ، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً ، فرجع وأمضى الجيش » . ( تاريخ دمشق : 30 / 316 ، وابن كثير في النهاية : 6 / 346 ،
ورواه في كنز العمال ( 5 / 665 ، عن ابن عمر ) .
فهي تقول إن أباها أبا بكر تهيأ وتعبأ وأعدَّ واستعد ، وركب ناقته ، وأخرج سيفه من غمده ، ورفعه في الهواء ، وتحرك خطوات ، لكن علياً غفر الله له وقف أمام ناقته وترجَّاه أن لا يذهب ، ففكر أبو بكر بين جهاد المرتدين وبين كلام علي فقرر أن يسمع نصيحته فرجع !
وقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا تفجعنا بنفسك ، يعني أنك إن خرجت تقتل بيد المرتدين ، فيقع الضرر على الإسلام !
كما توجد عندهم رواية للزهري صحيحة أيضاً ( تاريخ دمشق : 25 / 163 ) تقول إن أبا بكر تحرك أمتاراً ، ورجع من تلقاء نفسه بدون نصيحة علي ( عليه السلام ) ، لأنه خاف على المدينة ! « عن الزهري قال : لما استخلف الله أبا بكر ، فارتد من ارتد من العرب عن الإسلام ، خرج أبو بكر غازياً حتى إذا بلغ نقعاً من نحو البقيع ، خاف على المدينة فرجع ، وأمَّر خالد بن الوليد سيف الله ، وندب معه الناس » .
فقد غيَّر أبو بكر رأيه بنفسه ، ورجع من تلقاء نفسه ، من أجل حفظ الإسلام ومدينة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 564 ---------------------------
فرواية عائشة ، ورواية عبد الله بن عمر ، ورواية الزهري ، وكلها صحيحة عندهم ، تكفي لنفي خروج أبي‌بكر للقتال إلى ذي حسي ، أو ذي القَصَّة أو الربذة . فيكون ذهابه إلى ذي القَصة بعد انسحاب جيش طليحة منها .
أما معركة الأبرق فلايوجد سندٌ مقبول لأصل وجودها . ولا مصداق لقول الطبري : « فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفاً ، وأخذ الحطيئة أسيراً » لأن الحطيئة شاعر مشهور ، ولو أسر لأتيَ به إلى المدينة وكانت له أخبار ، كأخباره لما أسره زيد الخيل الطائي وجزَّ ناصيته . وعندما حبسه عمر لهجائه الزبرقان بقوله :
دع المكارمَ لا ترحلْ لبُغْيتها * واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
( تاريخ المدينة لابن شبة : 3 / 786 ) .
والنتيجة أن طليحة أرسل وفداً إلى المدينة ، يطلب الاعتراف بنبوته وإسقاط الزكاة عن أتباعه فنصح عمرأبا بكر أن يقبل منهم لأنه لا طاقة له بقتال طليحة ، ونصحه علي ( عليه السلام ) بأن لا يقبل وأن يقاتل فأخذ أبو بكر بنصيحته ، وكان مطمئناً لأن علياً إلى جانبه . ثم هاجم طليحة المدينة ، ونهض علي ( عليه السلام ) في تلك الأحداث وهو البطل المميز في التخطيط والتنفيذ ، وقد قال : لو لم أنهض لباد الإسلام وأهله ! ومعناه أن الخطر كان حقيقياً فدفعه فادعته السلطة وتبجحت به !
وجعلوا علياً مأموراً من أبي‌بكر على نقب من أنقاب المدينة ، ثم جعلوه مرافقاً لأبي‌بكر إلى ذي القَصَّة ، وذكروا مقتل القائد حِبَال ولم يذكروا أنه قتله !
ولا يمكن لعاقل أن يقبل أن المرتدين هاجموا المدينة وانهزموا بدون معركة !
فلا بد أن علياً ( عليه السلام ) عرف من أين سيأتون فاستقبلهم في فرسان انتخبهم ، واشتبك معهم وقتل قائدهم فانهزموا . فبهذا يمكن أن تفهم قول الشاعر :
أراحَ على نواهقها علياً . . ومجَّ لهن مهجته حِبالُ
وفي اليوم الثاني جاء الخبر بأن جيش طليحة انهزم وأخلوا معسكر ذي القَصَّة ، فاقترح علي ( عليه السلام ) النعمان بن مقرن المزني لقيادة المسلمين إلى ذي القصة ، وهو فارس يثق به ، وقد اختاره بعدها قائداً لمعركة نهاوند ، أكبرمعارك فتح فارس .
--------------------------- 565 ---------------------------

الفصل السادس والعشرون: علي ( عليه السلام ) ينهض لمقاومة حركة طليحة ومسيلمة

الدور العظيم لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه

1 . عدي بن حاتم نبيلٌ في الجاهلية ، قائد في الإسلام . فأبوه حاتم يضرب به المثل للكرم في العرب وفي العالم ، وهو : « حاتم بن عبد الله ، بن سعد ، بن الحشرج ، بن امرئ القيس ، بن عدي ، بن أخزم ، بن ربيعة » . ( اليعقوبي : 1 / 264 ) .
قال في العقد الفريد ( 1 / 81 ) : « أجود أهل الجاهلية الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر : حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي ، وهرم بن سنان المري ، وكعب بن مامة الإيادي . ولكن المضروب به المثل حاتم وحده . . )
وكان عَدِيٌّ أبو طريف أكبر أبناء حاتم وأبرزهم ، فورث مكانة أبيه . « كان يكنى أبا طريف ، وكان طويلاً إذا ركب الفرس كادت رجلاه تخطَّ في الأرض » . ( المعارف ابن قتيبة / 313 ) .
وفي الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة / 355 : « كان يفتُّ الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ) ! وفيه يقول الشاعر رؤبة :
بأبه اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَم * ومن يُشَابِهْ أَبَه فَمَا ظلَم
( معجم القواعد العربية / 47 ) .
2 . أسلم عَدِيٌّ على أثر سرية أرسلها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى طيئ بقيادة علي ( عليه السلام ) ، لمنع تحويل طئ إلى قاعدة للروم قبيل غزوة تبوك ، كما ذكرنا ، وجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بوفد من زعماء طيئ فاسلموا وحسن إسلامهم . . ( البحار : 21 / 365 ) .
--------------------------- 566 ---------------------------
وكان عَدِي أيام وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة ، وشهد بعض أحداث السقيفة ، ومما قاله : « ما رحمت من خلق الله أحداً كرحمتي عليّ بن أبي طالب ، رأيته حين أُتيَ به إلى بيعة أبي‌بكر فلما نظر إلى القبر قال : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي . فقالوا : بايع . قال : فَإن لم أَفعل ؟ قالوا : نقتلك ! قال : تقتلون إذاً عبدَ الله وأخا رسول الله ! فمسح القوم على يده وأصابعه مضمومة ، ولم يستطيعوا بسطها » . ( الشافي : 3 / 244 ) .
وفي العقد النضيد / 161 ، عن تميم بن بجدل قال : « ولقد سمعته بصفين يخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيّها الناس إمضوا على بصيرتكم ، وقاتلوا على نوركم ، واعلموا أنّكم لن تقاتلوا تحت راية أهدى من هذه الراية ، ولا قوماً أضل من أهل الشام ، ألا تحبون أن تلقوا الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غداً وهما عنكم راضيان ؟ تقاتلون مع ابن عم رسول الله ووصيه وخليفته على أُمته . والله لقد رأيتنا نسلم عليه بالخلافة في حياة رسول الله ، فماذا في قتال معاوية وأصحابه ؟ وإنما هم أشباه البهائم أتى بهم معاوية ليوردهم النار ويشعرهم العار ! وإن فاطمة ( عليها السلام ) كانت تنادي عمر : يا ابن السوداء ، والله لولا أن يصيب البلاء من لا ذنب له ، لدعوت الله أن يطبق عليكم أحشاء مكة والمدينة ، ولوجدت الله سريع الإجابة ! فقال الناس : فلا جزيتم عنا خيراً يا أصحاب محمد ، إنكم شهدتم وغبنا ، فهلا أعلمتمونا ! قال : وبَدَرَ الناس إلى عدي بن حاتم ، فخشي أن يتفرَّق الناس عن عليٍّ ( عليه السلام ) فأمسك . . فقيل له : هل قلت يوم بيعة أبي‌بكر شعراً ؟ قال : نعم ، وأنشد شعراً :
أبا حسن صبراً وفي الصبر عصمةٌ * وفيه نجاة المرء في السرٍّ والجهر
ألم تر أنّ الصبر أحجى بذي الحِجى * وأن ابتدار الأمر شين على الأمر
وقد لقي الأخيار قبلك ما لقوا * وأُودَوا عباد الله في سالف الدهر » .
أقول : يقصد الراوي أنه عندما تحدث عدي عما جرى بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكر كلام الزهراء ( عليها السلام ) لعمر ، أظهر الناس انتقادهم للصحابة لماذا لم ينقلوا إليهم الحقيقة ، وبَدَرَ اليه الناس أي ركضوا ليسمعوا منه ، فأمسك وسكت خوفاً أن لا يتحمل الناس نقد أبي‌بكر وعمر ، فيتفرقوا عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 567 ---------------------------
وينبغي الإلفات إلى أن قريشاً جعلت الخلافة أمراً يخصها وحدها ، وكانت تقمع كل من تكلم عن وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي والحسنين والعترة ( عليهم السلام ) ، وعن أحداث السقيفة وهجومهم على بيت علي والزهراء ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعن إجبارهم المسلمين بالسيف على بيعة أبي‌بكر . ولذا لم يستطع عدي بن حاتم الطائي ، ومالك بن نويرة التميمي ، وأمثالهما ، أن يقولوا الحقيقة عن الخلافة !
3 . ثبت عدي على الإسلام بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونشط في نصح قبيلته ،
وكان له أكبر الأثر في رد موجة طليحة الأسدي ، فأقنع طيئاً وبجيلة بترك طليحة والثبات على الإسلام ، والانضمام إلى خالد في حرب طليحة .
قال ابن حجر في الإصابة : 4 / 388 : « وثبت على إسلامه في الردة ، وأحضر صدقة قومه إلى أبي‌بكر ، وشهد فتح العراق ، ثم سكن الكوفة ، وشهد صفين مع علي ، ومات بعد الستين وقد أسن ، قال خليفة : بلغ عشرين ومائة سنة ) .
وفي تهذيب التهذيب : 7 / 151 : « وحضر فتح المدائن ، وشهد مع علي الجمل ، وصفين ، والنهروان » .
4 . كان عَدِيٌّ في حرب مسيلمة قائداً : « وقدم عدي بن حاتم بألف رجل من طئ ، حتى أتى اليمامة » . ( مجمع الزوائد : 6 / 220 ، ومسند أبي يعلى : 13 / 146 ) . وكان دورهم أساسياً في هزيمة طليحة ، ثم مسيلمة .
5 . وبعد حرب اليمامة سار عدي مع خالد وشارك في فتح العراق ، ( الطبري : 2 / 554 ) وشارك وقبيلته في معركة الجسر في العراق ، بعد ذهاب خالد ، بقيادة أبي عبيد الثقفي ، وكان قائد الميسرة . ثم كان قائداً مع المثنى ومع هاشم المرقال في عمليات في فتح العراق . ( الأخبار الطوال / 115 ) .
وذكر ابن الأثير في الكامل ( 6 / 386 ) أنه قتل أحد أبطال الفرس .
وقال الطبري : 3 / 7 : « وكان المثنى في ثمانية آلاف من ربيعة . . وألفان من قضاعة وطيئ ، وعلى طيئ عدي بن حاتم » .
--------------------------- 568 ---------------------------
6 . وكان عدي من قادة القادسية ، ففي الإصابة ( 5 / 66 و 4 / 389 ) أنه كان في أول خيل
غارت على المدائن .
7 . وكان عدي يحدث بمناقب علي ( عليه السلام ) ، قال : « ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلاببغض علي بن أبي طالب » . ( البخاري وفقه أهل العراق / 25 ) . كما شهد بحديث الغدير لما ناشد علي ( عليه السلام ) الذين حضروه . ( الغدير : 1 / 54 ) .
8 . وكان عدي في المدينة عندما خرجت عائشة وطلحة والزبير ، فبادر إلى طيئ يستنفرهم لنصرة الإمام ( عليه السلام ) . ( الإمامة والسياسة ( 1 / 55 ) . 0
ومر علي ( عليه السلام ) على بني طيئ في فيد في طريقه إلى البصرة والتحقوا به . ( فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : جزى الله طيئاً خيراً : وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . فلما انتهوا إليه سلموا عليه . قال عبد الله بن خليفة : فسرني والله ما رأيت من جماعتهم وحسن هيئتهم ، وتكلموا فأقروا والله عيني ، ما رأيت خطيباً أبلغ من خطيبهم ، قام عدي بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأديت الزكاة على عهده ، وقاتلت أهل الردة من بعده . أردت بذلك ما عند الله ، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى . وقد بلغنا أن رجالاً من أهل مكة نكثوا بيعتك ، وخالفوا عليك ظالمين ، فأتيناك لننصرك بالحق ، فنحن بين يديك ، فمرنا بما أحببت ، ثم أنشأ يقول :
ونحن نصرنا الله من قبل ذاكم * وأنت بحق جئتنا فستنصرُ
سنكفيك دون الناس طراً بأسرنا * وأنت به من سائر الناس أجدرُ
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : جزاكم الله من حي عن الإسلام وأهله خيراً ، فقد أسلمتم طائعين ، وقاتلتم المرتدين ، ونويتم نصر المسلمين . . فأتبعه منهم ست مائة رجل حتى نزل ذا قار ، فنزلها في ألف وثلاث مائة رجل » . ( أمالي المفيد / 295 )
9 . وكان لعدي بن حاتم وبنيه وقبيلته مواقف مشهورة في حرب الجمل .
وقال الطبري ( 3 / 529 ) : « رأيت عبد الله بن حكيم بن حزام ومعه راية قريش ، وعدي
--------------------------- 569 ---------------------------
بن حاتم الطائي ، وهما يتصاولان كالفحلين ، فتعاورناه فقتلناه ، يعني عبد الله ، فطعن عبد الله عدياً ففقأ عينه » . وقتل ابنه طريف . ( الجمل للمفيد / 196 ) وقال عدي :
أنا عديٌّ ونماني حاتمُ * هذا عليٌّ بالكتاب عالمُ
لم يعصه في الناس إلا ظالُم
( مناقب آل أبي طالب : 2 / 346 ) .
وفي أنساب الأشراف : 5 / 92 : « دخل عديُّ بن حاتم الطائي على معاوية ، فقال له ابن الزبير : يا أبا طريف متى ذهبت عينك ؟ قال : يوم فرَّ أبوك ، وقتل خالك يعني طلحة ، لأنّه من بني تيم ، وضربتَ على قفاك مولياً ، وأنا مع الحقّ وأنت مع الباطل ! فقال معاوية : ما بقي من حبك لعلي ؟ قال : هو على ما كان وكلَّما ذكر زاد ) !
10 . وكان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في صفين ، وعندما تحرك ( عليه السلام ) من المدائن : « خلَّف عليهم عديَّ بن حاتم ، فاستخلص منهم ثمان مائة رجل ، فسار بهم وخلَّف معهم ابنه زيداً ، فلحقه في أربع مائة رجل منهم » . ( شرح نهج البلاغة لميثم : 2 / 126 )
وروى ابن مزاحم في وقعة صفين / 397 ، أنه لما انهزم في المعركة عمرو بن العاص : « اشرأب لعلي همام بن قبيصة ، فقال عدي بن حاتم لصاحب لوائه : أدن مني ، فأخذه وحمل وهو يقول :
يا صاحب الصوت الرفيع العالي * إن كنت تبغى في الوغى نزالي
فادنُ فإني كاشف عن حالي * تفدي علياً مهجتي ومالي
وأسرتي يتبعها عيالي
فضربه وسلب لواءه ، فقال ابن حطان وهو شامت به :
أهمامُ لا تذكر مدى الدهر فارساً * وعَضَّ على ما جئته بالأباهم
سما لك يوماً في العجاجة فارس * شديد القفيز ذو شجاً وغماغم
فوليته لما سمعت نداءه * تقول له خذ يا عدي بن حاتم
فأصبحت مسلوب اللواء مذبذباً * وأعظم بهذا من شتيمة شاتم » .
--------------------------- 570 ---------------------------
وكذلك هرب من عديٍّ عبد الرحمن بن خالد ، القائد العام لجيش معاوية : « فقواه معاوية بالخيل والسلاح ، وكان معاوية يعده ولداً ، فلقيه عدي بن حاتم في حماة مذحج وقضاعة ، فبرز عبد الرحمن أمام الخيل وهو يقول :
قل لعديٍّ ذهب الوعيدُ * أنا ابن سيف الله لا مزيدُ
وخالدٌ يَزِينُهُ الوليد * ذاك الذي هو فيكم الوحيد
قد ذقتم الحرب فزيدوا زيدوا * فما لنا ولا لكم محيد
عن يومنا ويومكم فعودوا
ثم حمل فطعن الناس ، وقصده عدي بن حاتم ، وسدد إليه الرمح وهو يقول :
أرجو إلهي وأخاف ذنبي * وليس شئ مثل عفو ربي
يا ابن الوليد بغضكم في قلبي * كالهضب بل فوق قنان الهضب
فلما كاد أن يخالطه بالرمح ، توارى عبد الرحمن في العجاج ، واستتر بأسنة أصحابه ، واختلط القوم ، ورجع عبد الرحمن إلى معاوية مقهوراً ، وانكسر معاوية » ( وقعة صفين / 430 ) .
أقول : لاحظ أن عبد الرحمن بن خالد يفتخر بجده الوليد بن المغيرة ، الذي قال الله تعالى فيه : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً . . وقال فيه : وَلاتُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ .
وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت في الوليد ، ففي تفسير الجلالين / 758 : « دعيٌّ في قريش ، وهو الوليد بن المغيرة ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة » .
فافتخاره بجده الطاغية الزنيم بقوله : وخالد يزينه الوليد ، يعني أنه لم يدخل الإيمان قلبه !
وروى في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 359 ) حملة عدي بن حاتم ، ومالك الأشتر ، وسعيد بن قيس ، لرد أشد حملات أبي الأعور السلمي ومن معه ، وهو أقوى قادة معاوية ، وإيقاعهم بهم ، حتى انهزم مع جنوده .
11 . وكان عدي مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في حربه للخوارج في النهروان . وكان طرفة بن عدي مع الخوارج ، قال الطبري ( 4 / 55 ) : « وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم
--------------------------- 571 ---------------------------
الطائي فاتبعه أبوه ، فلم يقدر عليه فانتهى إلى المدائن » .
12 . وعندما أخذ معاوية يَغِيرُ على أطراف العراق ، وتباطأ الناس عن رده ، نهض عدي رضي الله عنه

13 . وبقي عدي ( رحمه الله ) وفياً لعلي ( عليه السلام ) إلى آخر عمره على رغم ضغوط معاوية .

ففي مروج الذهب ( 3 / 4 ) : « ذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية فقال له معاوية : ما فعلت الطرفات ؟ يعني أولاده ؟ قال : قتلوا مع علي . قال : ما أنصفك عَليٌّ ، قتل أولادك وبقي أولاده فقال عدي : ما أنصفْتُ علياً ، إذ قُتل وبقيتُ بعده ! فقال معاوية : أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان مايمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن . فقال عدي : والله إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فتراً لندنينَّ إليك من الشر شبراً ، وإن حَزَّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليٍّ . فسلُّ السيف يا معاوية باعثٌ سل السيف ! فقال معاوية : هذه كلمات حكم فاكتبوها ، وأقبل على عدي محادثاً له كأنه ما خاطبه بشئ » !
وفي رواية : فأرسل إليه معاوية بجائزة سنية وترضاه » .
14 . وعاش بعد علي ( عليه السلام ) في الكوفة ، وكان يداري السلطة أكثر من غيره ، وقد تعرض للحبس في قضية حجر بن عدي وأصحابه ، فقد كان عبد الله بن خليفة الطائي من أصحاب حجر الخاصين رضوان الله عليهم .
15 . وامتد العمر بِعُدَيٍّ ( رحمه الله ) فعاش إلى سنة ثمان وستين هجرية وتوفي زمن المختار عن عمر بلغ مئة وعشرين سنة وقيل 180 سنة . ( خليفة بن خياط / 127 ) .
16 . أوكل علي ( عليه السلام ) وأبو بكر إلى عدي مهمات كبيرة في حرب الردة
روى الطبري ( 2 / 483 ) : « وبعث أبو بكر عدياً قبل توجيه خالد من ذي القَصَّة إلى قومه وقال : أدركهم لا يؤكلوا ! فخرج إليهم ، فَفَتَلَهُمْ في الذروة والغارب ، وخرج خالد في أثره » .
--------------------------- 572 ---------------------------

وقام عَدِي بعملين كبيرين سبَّبَا نصر المسلمين

وهذان العملان هما : إقناع قبيلة جديلة حليفة طيئ ، وبطون من طيئ ، بأن يتركوا طليحة وينضموا اليه ، والثاني قيادته لطيئ في حرب طليحة . وفي تاريخ دمشق : 25 / 158 : « عن الشعبي قال : ارتدت العرب بعد رسول الله عوام أو خواص ، فارتدت أسد ، واجتمعوا على طليحة ، واجتمعت عليه طيئ إلا ما كان من عدي بن حاتم ، فإنه تعلق بالصدقات فأمسكها ، وجعل يكلم الغوث ، وكان فيهم مطاعاً يستلطف لهم ويرفق بهم ، وكانوا قد استَحْلَوْا أمر طليحة وأعجبهم » .

هرب خالد بجيشه من طليحة ولجأ إلى عدي بن حاتم !

قال الطبري ( 2 / 484 ) : « وسار خالد بن الوليد حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم أحد بني العجلان حليف الأنصار طليعةً ، حتى إذا دنوا من القوم ، خرج طليحة وأخوه سلمة ينظران ويسألان ، فأما سلمة فلم يمهل ثابتاً أن قتله ، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه ، أن أعِني على الرجل فإنه آكلي ، فاعْتَوَنَا عليه فقتلاه ، ثم رجعا » .
وقال طليحة مفتخراً بقتله عكاشة وثابتاً ، ثأراً بابن أخيه حِبال :
« نصبت لهم صدر الحمالة إنها * معاودة قبل الكماة نزالي
فيوماً تراها في الجلال مصونةً * ويوما تراها غير ذات جلال
ويوماً تُضئ المشرفية نحرها * ويوما تراها في ظلال عوال
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم * أليسوا وإن لم يسلموا برجال
عشية غادرت ابن أقرم ثاوياً * وعكَّاشة الغنْمي عنه بحال
فإن تك أذوادٌ أخذنَ ونسوةٌ * فلَمْ تَذْهَبُوا فِرْغاً بقَتْلِ حِبَالِ »
( تاريخ دمشق : 25 / 166 ) . ومعنى فِرْغاً : لم يذهب دمه هدراً . ( الزبيدي : 12 / 51 ) .
ولما وصل خالد بجيشه إلى قرب بُزَّاخَة رأى عكاشة وثابتاً قتيلين ، فانهار خالد الذي زعموا أنه « سيف الله المسلول » ورجع بجيشه من أبواب بُزَّاخَة ، ولجأ إلى عدي بن حاتم في جبلي طيئ ، ليستعين به على قتال طليحة !
--------------------------- 573 ---------------------------
قال الطبري ( 2 / 484 ) : « نظروا فإذا هم بعكاشة بن محصن صريعاً ، فجزع لذلك المسلمون . . قال لهم : هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حي من أحياء العرب ، كثير عددهم شديدة شوكتهم ، لم يرتد منهم عن الإسلام أحد ؟ فقال له الناس : ومن هذا الحي الذي تعني ، فنعم والله الحي هو ؟ قال لهم : طيئ . فقالوا : وفقك الله ، نعم الرأي رأيت . فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيئ » .
أقول : تبعد حائل عن المدينة 450 كيلومتراً ، وبُزَّاخَة عن حائل على بعد 40 كيلومتراً وقطن التي قتل فيها عكاشة قرب بُزَّاخَة ( تاريخ خليفة / 65 ) .
أما منازل طيئ فأقربها إلى بُزَّاخَة جبل أجأ نحو 100 كيلو متر ، أما جبل سلمى التي ذهب إليها خالد ( النهاية : 6 / 349 ) فتبعد كما ذكروا في جغرافية حائل 175 كيلو متراً . ومعناه أن خالداً وصل إلى قرب معسكر طليحة ، فرأى الفارسين الذين أرسلها طليعة مقتولين ، فانذعر وخاف وذهب بعيداً ، مع أن معه جيشاً من 2700 رجلاً !
وروى الطبري : 2 / 484 ، أن عدياً أرسل إلى خالد أن يأتيه أياماً ثم يذهب معه إلى قتال طليحة ! ولوصح ذلك لقصد خالد طيئاً قبل قطن وبُزَّاخَة ، وقبل أن يرى القتيلين ، فالطريق مختلف وفرق المسافة أربعة أيام !
وقد فرح طليحة بهروب خالد ، فنقل معسكره إلى قطن ، فكانت مكان معركته مع المسلمين !

17 . كان عدي مرجع خالد في الرأي والإدارة والتدبير

وكان عدي قائداً شجاعاً بعكس خالد . قال الطبري ( 2 / 485 ) : « إن خيل طيئ كانت تلقى خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم ، فيتشاتمون ولايقتتلون ، فتقول أسد وفزارة : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً ! فتقول لهم خيل طيئ : نشهد ليقاتلنكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر » .

18 . نهض الأنصار وبنو طيئ بثقل المعركة ضد طليحة

لكن الرواة أعطوا بطولتها لخالد على عادتهم ، مع أنه لم يشارك بنفسه ، لا في مبارزة ولا حملة !
--------------------------- 574 ---------------------------
قال في تاريخ دمشق : 25 / 163 : « فلما رأى طليحة كثرة انهزام أصحابه قال : ويلكم مايهزمكم ؟ ! قال رجل منهم : أنا أحدثك ، ما يهزمنا أنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله ، وإنا لنلقي قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه » .
قال الطبري ( 2 / 485 ) : « عن محمد بن طلحة . . قال : حُدثت أن الناس لما اقتتلوا ، قاتلَ عيينة مع طليحة في سبع مائة من بني فزارة قتالاً شديداً ، وطليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر يتنبأ لهم ، والناس يقتتلون !
فلما هزَّت عيينة الحرب وضَرُسَ القتال ، كرَّ على طليحة فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : لا . قال : فرجع فقاتل حتى إذا ضرس القتال وهزته الحرب ، كرَّ عليه فقال : لا أباً لك ، أجاءك جبريل بعد ؟ قال : لا والله . قال : يقول عيينة حلفاً : حتى متى ، قد والله بلغ منا ! قال : ثم رجع فقاتل حتى إذا بلغ كرَّ عليه فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : نعم . قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : إن لك رحاً كرحاه ، وحديثاً لاتنساه . قال : يقول عيينة : أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لاتنساه ! يا بني فزارة هكذا فانصرفوا ، فهذا والله كذاب ! فانصرفوا وانهزم الناس ، فغَشَوْا طليحة يقولون : ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعدَّ فرسه عنده ، وهيأ بعيراً لامرأته النوار ، فلما أن غَشَوْهُ يقولون ماذا تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه ، وحمل امرأته ثم نجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت ، وينجو بأهله فليفعل ) !
وقال ابن أعثم ( 1 / 13 ) : « وجعل عدي بن حاتم وزيد الخيل وقبائل طيئ يقاتلون بين يدي خالد بن الوليد قتالاً لم يقاتلوا قبله في يوم من أيامهم التي سلفت ، ومدحهم خالد بن الوليد . . . ثم ولى عيينة بن حصن منهزماً مع بني عمه من فزارة ، وانهزمت بنو أسد وغطفان ، وسيوف المسلمين في أقفيتهم كأنها الصواعق ) !
فقال طليحة بن خويلد : ويحكم ما بالكم منهزمين ؟ فقال رجل منهم : أنا أخبرك يا أبا عامر : لم لا ننهزم ؟ نحن قوم نقاتل ونريد البقاء ، وهؤلاء قوم يقاتلون ويحبون الفناء .
قال : فقالت نوار امرأة طليحة : أما إنه لو كانت لكم نية صادقة لما انهزمتم عن نبيكم ! فقال لها رجل منهم : يا نوار لو كان زوجك هذا نبياً حقاً لما خذله ربه ! قال :
--------------------------- 575 ---------------------------
فلما سمع طليحة ذلك صاح بامرأته : ويلك يا نوار ! إقتربي مني فقد اتضح الحق وزاح الباطل . ثم استوى طليحة على فرسه وأردف امرأته من ورائه ، ومرَّ منهزماً مع من انهزم ) !
واحتوى خالد ومن معه من المسلمين على غنائم القوم ، وعامة نسلهم وأولادهم . قال : فجمع خالد غنائم القوم فوكل نفراً من المسلمين يحفظونها » .
أقول : بهذه الخفة أنهى طليحة المتنبئ أكذوبته وأحلامه وهزمه الله . ونلاحظ أن خالد بن الوليد لم يبرز إلى فارس أبداً ، ولا شارك في حملة على جيش طليحة ، وكذلك كان في كل معاركه ! لكن تأتيه البطولة على الأسرى والعُزَّل الذين يلقي القبض عليهم بعد الحرب ، ويعطيهم الأمان ثم يغدر بهم ، كما فعل في بني جذيمة !
وكان في بُزَّاخَة يرسل خيله فتأتيه بشخص أو جماعة مكتفين فيتفنن في قتلهم !
قال الطبري ( 2 / 491 ) : « فأقام على البُزَّاخَة شهراً يُصَعِّدُ عنها ويُصَوِّبُ ، ويرجع إليها في طلب أولئك فمنهم من أحرقه ، ومنهم من قَمَّطَه ورضخه بالحجارة ، ومنهم من رمى به من رؤس الجبال » .
وفي التمهيد : 5 / 315 : « فأمر خالد بالحظيرة أن تبنى ، ثم أوقد تحتها ناراً عظيمة فألقى الأسارى فيها » .
وقد فصلنا ذلك في كتاب : قراءة جديدة في حروب الردة وذكرنا توبة طليحة ، وجهاده وشهادته في الفتوحات .
* *
--------------------------- 576 ---------------------------

الفصل السابع والعشرون: تلاميذ علي ( عليه السلام ) قادوا حرب اليمامة

1 - أخطر حركات الردة حركة مسيلمة

أهم حركات الردة حركة مسيلمة الكذاب ، فقد جمع حوله قبيلته بني حنيفة ، وكان مركزه اليمامة وهي قرب مدينة الرياض الفعلية ، ومكان المعركة يسمى عَقْرُبَاء ، وتسمى اليوم الجبيلة ، وتبعد نحو 40 كيلو متراً عن الرياض .
وبعد أن هزم المسلمون طليحة قصد خالد بجيشه اليمامة لحرب مسيلمة ، ونهض الأنصار بثقل المعركة ، وكانت أطول وأشد من حرب طليحة ، استشهد فيها ألف ومئتان من المسلمين ، ولم يشارك خالد في أي قتال فيها ، بل انهزم من خيمته ، وانهزم أمام فارس حنفي !
والذي حقق النصرهم شيعة علي ( عليه السلام ) : عمار بن ياسر ، والبراء بن مالك ، وأبو دجانة ، وثابت بن قيس بن شماس ، وابن عمه بشير بن عبد الله من بني الحارث بن النجار ، وآخرون .
وثابت بن قيس بن شماس غير ثابت بن قيس بن زيد ، ويوجد ثالث أيضاً .

2 - بنو حنيفة قبيلة مسيلمة

بنو حنيفة بن لجيم من قبائل بكر بن وائل ، أبناء عم بني عجل بن لجيم وبني شيبان . ومساكنهم في اليمامة وهي سافلة نجد مما يلي البحرين ، وهي الآن محافظة الرياض . وكان رئيسهم في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثمامة بن أثال ، وقد أسلم وحسن إسلامه ( الكافي : 8 / 299 ) وكان هو وهوذة بن علي مَلِكا اليمامة ) . ( ابن هشام : 4 / 1026 ) وكان هوذة نصرانياً وبنى كنيسة ، وكان على صلة بالغساسنة والروم . ونصب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثمامة والياً على اليمامة ، وكتب إلى هوذة يدعوه إلى الإسلام .
وقد وقف ثمامة في وجه مسيلمة وحذَّر بني حنيفة منه لأنه كذاب . لكن مسيلمة أثر عليهم
--------------------------- 577 ---------------------------
بسجعه فأطاعوه ، وسيطر على مدينة الحِجْر وهي عاصمة اليمامة ، وأخرج ثمامة ومن معه ، فكتب له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقاتلهم ، وأرسل إلى بعض رؤساء تميم أن يمدوه . ( المنتظم : 4 / 22 ) .
قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1258 ) : « وبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فرات بن حيان العجلي إلى ثمامة بن أثال ، في قتل مسيلمة وقتاله » .

قال مسيلمة : من حق بني حنيفة أن يكون لهم نبي !

قال إنهم ليسوا أقل من قريش عدداً وعُدة ! وإن الله بعثه شريكاً لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في النبوة ، وطلب من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقبل ذلك ، فسماه : مسيلمة الكذاب .
وكان مسيلمة وَفَدَ إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع بني حنيفة ، ولما رجع كتب له : « من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك ، فإني قد أُشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون .
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب وسمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لهما حين قرءا كتاب مسيلمة : فما تقولان أنتما ؟ قالا : نقول كما قال . فقال : أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ! فكتب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مسيلمة : بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » . ( ابن هشام : 4 / 1019 ) .
قال الحموي في معجم البلدان ( 3 / 288 ) : « سهام : اسم موضع باليمامة كانت به وقعة أيام أبي‌بكر ، بين ثمامة بن أثال ومسيلمة الكذاب ، فالتقوا بسهام دون الثنية ، أظنه يعني ثنية حجر اليمامة » .
ونشط مسيلمة في الدعوة إلى نفسه فأجابه أكثر بني حنيفة ! ولم يستطع ثمامة أن يرد موجته لأن أبا بكر لم يساعده ! فأخرجه مسيلمة من حِجْر اليمامة .
وعندما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تفاقم أمر مسيلمة ، وشهد له نَهَّار بن عُنفوة الحنفي المسمى بالرحَّال بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشركه في النبوة ! وكان الأب الروحي لمسيلمة ! « وكان الرحَّال قائد مقدمة جيش مسيلمة ، وهو أول من قتل من جيشه . ( الطبري : 2 / 510 ) .
--------------------------- 578 ---------------------------

3 - وتنبأت سجاح التميمية وتزوجت مسيلمة

وهي من أهل الموصل من بني تميم ، واتَّبعها بعض بني تميم وأخوالها بنو تغلب . وذهبت إلى اليمامة ومعها جيش صغير ، وآمنت بمسيلمة وتزوجته وأخذت منه مالاً ، ثم تركته بعد ثلاثة أيام ، وعادت إلى الموصل .
وفي تاريخ الطبري ( 2 / 496 ) : « فبينا الناس في بلاد بني تميم على ذلك . . فجأتهم سجاح بنت الحارث ، قد أقبلت من الجزيرة وكانت ورهطها في بني تغلب ، تقود أفناء ربيعة ، معها الهذيل بن عمران في بني تغلب ، وعقة بن هلال في النمر ، وزياد بن فلان في أياد ، والسليل بن قيس في شيبان ، فأتاهم أمر دهيٌّ هو أعظم مما فيه الناس ، لهجوم سجاح عليهم » .
وفي تاريخ الطبري ( 2 / 498 ) : « وكانت راسخة في النصرانية ، قد علمت من علم نصارى تغلب . فقال مسيلمة : سمع الله لمن سمع ، وأطمعه بالخير إذ طمع ، ولازال أمره في كل ما سر نفسه يجتمع ، رآكم ربكم فحياكم ، ومن وحشة خلاكم ، ويوم دينه أنجاكم ، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار ، لا أشقياء ولا فجار ، يقومون الليل ويصومون النهار ، لرب الكبار ، رب الغيوم والأمطار . ثم دارسها فقال : ما أوحى إليك ؟ قالت : هل تكون النساء يبتدئن ، ولكن أنت ما أوحى إليك ؟ قال : ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى . قالت : وماذا أيضاً ؟ قال : أوحى إليَّ إن الله خلق النساء أفراجاً ، وجعل الرجال لهن أزواجاً ، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً ثم نخرجه إذا نشاء إخراجاً ، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً ! قالت : أشهد أنك نبي . قال : هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت : نعم . . » .

4 - خالد بن الوليد قائد جبان في حرب اليمامة

عَسْكَرَ خالد مقابل مسيلمة ، ونصب فسطاطه في آخر الجيش ! وجعل على مقدمته شرحبيل بن حسنة ، ورجلاً من بني مخزوم اسمه خالد ، وعلى ميمنته زيد بن الخطاب ، وعلى ميسرته أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، ورايته بيد سالم مولى أبي حذيفة ، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس . ( الطبري : 2 / 508 ، و : 3 / 288 ) .
--------------------------- 579 ---------------------------
وقال الطبري ( 2 / 508 ) في عدد جيش مسيلمة : « المقلل يقول أربعين ( ألفاً ) والمكثر يقول ستين » . وفيه مبالغة ، وقد يكون عددهم عشرة آلاف ، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف . وقيل استشهد منهم ألفٌ ومئتان . واستمرت المعركة يومين ، وانهزم المسلمون في اليوم الأول مرات ، وانهزموا في اليوم الثاني حتى وصل بنو حنيفة إلى فسطاط خالد بن الوليد ، فهرب خالد وترك زوجته للعدو !
ثم لَطُفَ الله تعالى بالمسلمين بمبادرات أبطالهم خاصة عمار بن ياسر ، فثبَّتوا المسلمين وشجَّعوهم ، وتقدموا أمامهم وحملوا على العدو فجندلوا أبطاله ، وألجؤوا بني حنيفة إلى حديقة مسورة ، فدخلوا فيها وأغلقوا بابها ، فتسور شجعان المسلمين ونزلوا خلف الباب ، وكسروه ، فانتقلت المعركة إلى داخل الحديقة ، وكانت معركة صعبه ، فصمد المسلمون حتى قُتل عدو الله مسيلمة .
قال ابن الأعثم ( 2 / 30 ) : « قال رافع بن خديج الأنصاري . . هزمونا نيفاً على عشرين هزيمة ، وقتلوا منا مقتلة عظيمة ، وكادوا أن يفضحونا مراراً ، غير أن الله عز وجل أحب أن يعز دينه » .
وأصح وصف للمعركة ما رواه ابن الأعثم ( 1 / 27 ) ، وخلاصته : أن أول من تقدم للحرب عمار بن ياسر رضي الله عنه وفي يده صحيفة له يمانية ، فحمل وقتل منهم جماعة . فلما كان من الغد تقدم مُحَكَّمُ بن الطفيل وزير مسيلمة وحمل على المسلمين فقاتل قتالاً شديداً ، وحمل عليه ثابت بن قيس الأنصاري فطعنه في خاصرته طعنة نكسه عن فرسه قتيلاً . ثم لم يزل ثابت يقاتل حتى قتل .
ثم : « صاحت بنو حنيفة بعضها ببعض ، وحملوا على المسلمين حملة منكرة حتى أزالوهم عن موقفهم ، وقتلوا منهم نيفاً على ثمانين رجلاً . قال : ثم كبر المسلمون وحملوا عليهم وكشفوهم كشفة قبيحة . ثم تراجعت بنو حنيفة ومعهم صاحبهم مسيلمة حتى وقف أمام قومه ثم حسر عن رأسه ، ثم إنه حمل وحمل معه بنو حنيفة وانهزم المسلمون بين أيديهم وأسلموا سوادهم ، وصارت بنو حنيفة إلى فسطاط خالد . « فزال ( هرب ) خالد عن فسطاطه ، ودخل أناس الفسطاط وفيه مجاعة
--------------------------- 580 ---------------------------
( أسيرخالد ) عند أم تميم ، فحمل عليها رجل بالسيف ، فقال مجاعة : أنا لها جارٌ فنعمت الحرة ، عليكم بالرجال فرَعْبَلُوا الفسطاط بالسيوف » . ( الطبري : 2 / 510 ) .
وكان مجاعة مقيداً فحل وثاقه بنو حنيفة لأنه من رؤسائهم ، فأمرهم بترك أم تميم فأطاعوه ، والعجيب أنه لم يذهب معهم وبقي أسيراً ، والظاهر أنه عشق أم تميم ، وكانت كما قالوا أجمل نساء العرب ، وقد وجد خالد مَجَّاعة في الطريق فأسره وجعله عند زوجته ! ثم زوج مجاعة خالداً ابنته !
ثم كانت حملة فرسان الأنصار المئة : « وأقبل عباد بن بشرالأنصاري حتى وقف على باب الحديقة ثم نادى بأعلى صوته : يا معشر الأنصار ! إحطموا جفون سيوفكم واقتحموا الحديقة عليهم فقاتلوهم أو يقتل مسيلمة الكذاب . ثم كسر عباد بن بشرجفن سيفه ، وكسرت الأنصار جفان سيوفهم واقتحموا الحديقة ، فقاتلوا حتى ما بقي منهم إلا أربعة نفر ، فإنهم أقبلوا مجروحين لما بهم . قال : وعظم الأمر على الفريقين جميعاً » !
ثم اقتحم المسلمون الحديقة فنجح هجومهم داخلها حتى قتلوا عدو الله مسيلمة .
وبعد هذه الهزيمة القبيحة ، نهض الأبطال عمار بن ياسر ، والبراء بن مالك ، وأبو دجانة ، وثابت بن قيس بن شماس ، وابن عمه بشير من بني النجار ، وغيرهم من حماة الأنصار ، فتقدموا وحملوا على بني حنيفة حتى هزموهم وساقوهم إلى الحديقة .
وهنا تشجع خالد ! فقال ابن الأعثم ( 1 / 31 ) : « واقتحم خالد بن الوليد الحديقة بفرسه وبيده سيف لو ضرب به الحجر لقطعه ، قال : فاستقبله رجل من بني حنيفة فقال له : أين تريد يا ابن كذا وكذا ؟ فحمل عليه خالد واعتنقه الحنفي فسقطا عن فرسيهما جميعاً إلى الأرض ، فسقط الحنفي تحت خالد فجعل يجرحه بخنجر كان معه ، وخالد قد قبض على حلقه والحنفي يجرحه من تحت ، حتى جرحه سبع جراحات ، فوثب خالد وتركه ، وإذا فرس خالد قد غار عن الحديقة ، فجعل خالد ظهره إلى باب الحديقة وجعل يقاتل حتى تخلص وهو لما به » !
أي لم يستطع خالد أن يغلب الحنفي ، مع أن سيفه يقطع الصخر والحنفي وقع تحته ! فطعنه الحنفي طعنات وتمكن خالد أن يهرب منه فوجد فرسه قد هرب ، فاحتمى
--------------------------- 581 ---------------------------
بحائط الحديقة ورجع إلى خيمته وهو في آخر رمق ولم يدخل إلى الحديقة ، مع أن المعركة دامت فيها نصف نهار وقد كان مسيلمة يقاتل وهو حاسر ، حتى قُتل ! وبعد قتل مسيلمة تشجع القائد خالد : « حتى دخل الحديقة ومعه جماعة من المسلمين ، فوقف على مسيلمة وهو مقتول » !

5 - تلاميذ علي ( عليه السلام ) صُنَّاع النصر في حرب اليمامة

1 . كان سبب هزيمة المسلمين المكررة في معركة اليمامة : أن المعركة في بلد العدو ، فبنو حنيفة مدافعون والمسلمون مهاجمون . والسبب الأهم جبن القائد خالد بن الوليد ! فمسيلمة كان يقاتل في أول قومه : « ثم حسر عن رأسه ، ثم إنه حمل وحمل معه بنو حنيفة كحملة رجل واحد ، وانهزم المسلمون بين أيديهم ، وأسلموا سوادهم . . وصارت بنو حنيفة إلى فسطاط خالد » . ( ابن الأعثم : 1 / 27 ) .
أما خالد ، فيجلس في فسطاطه في آخر الجيش ، ولما وصلت الهزيمة إلى خيمته هرب وترك « زوجته » التي سرقها من مالك بن نويرة . وهذا أسلوبه في إدارة المعركة يجلس في مؤخرة الجيش ، فإن انتصر تقدم لإدارة النصر ، وإن انهزم كان في أوله ثم يتشاور مع ضباطه فيما يفعل . وقد يحضرأثناء المعركة للمراقبة ومعه مجموعة حرس .
قال الطبري ( 2 / 512 ) : « وحمل خالد بن الوليد وقال لحماته : لا أوتين من خلفي » .
2 . قاد عمار الحرب لا خالد !
سبب انتصار المسلمين بعد هزائمهم ، مبادرات تلاميذ علي ( عليه السلام ) الأبطال الشجعان ، وهم : عمار بن ياسر ، وأبو دجانة الأنصاري ، والبراء بن مالك ، وثابت بن قيس ، وبشير بن عبد الله ابن عم ثابت ، وأم سليم نسيبة بنت عمارة .
أما الذين نسبت لهم السلطة النصر فهم : خالد بن الوليد وزيد بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي‌بكر ووحشي . وحذيفة بن عتبة ، وسالم مولاه .
قال عبد الله بن عمر ( ابن الأعثم : 1 / 27 ) : « وتقدم عمار بن ياسر وفي يده صفيحة له يمانية ، ثم حمل فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة ، وحمل رجل من بني حنيفة
--------------------------- 582 ---------------------------
فضربه فاتقاها عمار بجحفته فزاحت الضربة عن الجحفة وهوت إلى أذن عمار فرمت بها ، فلما بقيت أذن عمار معلقة سقطت على عاتقه ، قال : وداخله عمار فضربه ضربة قتله » .
وروى الحاكم : 3 / 385 ، عن عبد الله بن عمر : « رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح : يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون ! أنا عمار بن ياسر ، أمن الجنة تفرون ! أنا عمار بن ياسر ، هلمَّ إليَّ . وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تَذَبْذَب ، وهو يقاتل أشد القتال » !
وكفى بهذين المشهدين دليلاً على أن عماراً كان قائد المعركة فالقائد في أول الجيش ، وكان يومها ابن بضع وستين سنة . فأين كان خالد !
وبطولات عمارعديدة في فتوحات العراق وفارس ، وقبلها في حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد قتل في بدر بضعة فرسان منهم أحد صناديد قريش الحارث بن زمعة . ( ابن هشام : 2 / 527 ) .
ومن صناع النصر في اليمامة أبو دجانة :
سماك بن خرشة الخزرجي ، وكان من شجعان بدر بعد علي ( عليه السلام ) وحمزة وعبيدة بن الحارث . وفي معركة أحُد أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيفاً بيده فهزه وقال : « من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقال الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله ، فأعرض عنه وقال : من يأخذه بحقه ؟ فقام إليه أبو دجانة فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : ألايقفَ به في الكُبُول ، وأن يضرب به في العدو حتى ينحني . فقال : أنا آخذه يا رسول الله فدفعه إليه فأخذه أبو دجانة ، ثم أخرج عصابة معه حمراء فتعصب بها فقالت الأنصار : تعصب أبو دجانة عصابته قد نزل الموت ) ! ( شرح الأخبار : 1 / 273 ، وصحيح مسلم : 7 / 151 ) .
وفي الكافي ( 8 / 318 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما انهزم الناس يوم أحد عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) انصرف إليهم بوجهه وهو يقول : أنا محمد أنا رسول الله ، لم أقتل ولم أمت . . وبقي معه علي ( عليه السلام ) وسماك بن خرشة أبو دجانة فدعاه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا أبا دجانة انصرف وأنت في حل من بيعتك ، فأما عليٌّ فأنا هو وهو أنا ، فتحول وجلس بين يدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبكى وقال : لا والله ، ورفع رأسه إلى السماء وقال : لا والله ، لاجعلت نفسي في حل من بيعتي ، إني بايعتك فإلى من أنصرف يا رسول الله ؟ إلى زوجة تموت
--------------------------- 583 ---------------------------
أو ولد يموت أو دار تخرب ومال يفنى وأجل قد اقترب ! فرقَّ له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
فلم يزل يقاتل حتى أثخنته الجراحة ، وهو في وجه وعلي في وجه ، فلما سقط احتمله علي فجاء به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووضعه عنده فقال : يا رسول الله أوفيت ببيعتي ؟ قال : نعم ، وقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خيراً » .
ولما رأى أبو دجانة هزيمة المسلمين أمام قوم مسيلمة ، وأنهم رَعْبَلوا فسطاط خالد وقطعوا أطنابه بالسيوف ، غاضه ذلك فنادى هو وعمار : ويحكم يا قراء القرآن ! أما تخافون غضب الرحمن وعذاب النيران ؟ ويحكم يا أهل دين محمد ! أين الفرار ممن يزعم أنه شريك نبيكم محمد في نبوته ورسالته ! أما تخافون الله أن يطلع عليكم فيجازيكم على سوء فعلتكم ! ( الطبري : 2 / 510 ) .
قال ابن الأعثم ( 1 / 29 ) : « فثاب الناس إليه من كان جانب حتى أحدقوا به ، ودنت بنو حنيفة للقتال كأنهم الأسد الضارية واشتبك الحرب بين الفريقين ، وتقدم أبو دجانة ثم حمل على بني حنيفة فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة . . حتى تحصنوا في الحديقة ) .
وفي فتوح ابن الأعثم ( 1 / 30 ) : « فلما أدخلوهم إلى جوفها ومسيلمة معهم ، فقال أبو دجانة الأنصاري : ويحكم يا معشر الأنصار إحملوني حملاً وألقوني إليهم ، قال : فحملوا أبا دجانة على ترس ثم رُفِع بالرماح حتى ألقيَ في جوف الحديقة . . ثم وثب كالليث المغضب ، فلم يزل يقاتل في جوف الحديقة حتى قتل ، رحمة الله عليه » .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 130 ) : « ثم قتل مسيلمة في المعركة ، طعنه أبو دجانة الأنصاري ، فمشى إليه مسيلمة في الرمح فقتله . ورماه وحشي بحربته فقتله » !
وفي تاريخ خليفة / 70 : « اقتحم فقاتلهم على الحديقة حتى فتحها للمسلمين . . وفيه بضع وثمانون جراحة » !

ومن صناع النصر ثابت بن قيس خطيب الأنصار :

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 2 / 11 ) : « قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس وشهد له بالجنة . . وشهد بدراً والمشاهد كلها ودخل عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
--------------------------- 584 ---------------------------
وهو عليل فقال : أذهب البأس رب الناس ، عن ثابت بن قيس بن شماس » .
روى المفيد في أماليه / 49 : « عن مروان بن عثمان قال : لما بايع الناس أبا بكر . . خرج علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) نحو العالية فلقيه ثابت بن قيس بن شماس فقال : ما شأنك يا أبا الحسن ؟ فقال : أرادوا أن يحرقوا عليَّ بيتي ، وأبو بكر على المنبر يبايع له ولا يدفع عن ذلك ولا ينكره ! فقال له ثابت : ولا تفارق كفي يدك حتى أقتل دونك ، فانطلقا جميعاً حتى عادا إلى المدينة » .
ويبدو أن قيس بن ثابت ( رحمه الله ) كان ناشطاً بعد فتح مكة عندما كثر القرشيون في المدينة ، وكانوا يعملون لأخذ الخلافة ، وعزل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) والأنصار ، ولذلك أرادوا اغتياله فوقاه علي ( عليه السلام ) ، وأنجاهما الله تعالى بكرامة ( مناقب آل أبي طالب : 2 / 130 ) .
وروى اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 179 ) فرحة الصحابة ببيعة علي ( عليه السلام ) ، وخُطَبَهم في المسجد النبوي ، فقال : « وقام قوم من الأنصار فتكلموا ، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وكان خطيب الأنصار ، فقال : والله يا أمير المؤمنين لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين ، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ، ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون ، وما احتجت إلى أحد مع علمك . ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري وهو ذو الشهادتين ، فقال : يا أمير المؤمنين ! ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ، ولا كان المنقلب إلا إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا فيك ، فلأنت أقدم الناس إيماناً وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لك ما لهم ، وليس لهم ما لك . . . الخ . » .
وعندما انهزم المسلمون في اليمامة وقف ثابت ونادى في المسلمين فقال : « بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! اللهم إني أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء يعنى أهل اليمامة ، وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء يعني المسلمين » ! ( الطبري : 2 / 510 )
وفي فتوح ابن الأعثم ( 1 / 29 ) : « فتقدم وفي يده راية صفراء ، ثم حمل على القوم فلم يزل يطاعن حتى قتل . قال : فتقدم ابن عم له يقال له بشير بن عبد الله ، حتى وقف بين الجمعين ،
--------------------------- 585 ---------------------------
قال : ثم حمل بشير بن عبد الله هذا فلم يزل يقاتل حتى قتل » .

ومن صناع النصر البراء بن بن مالك :

قال السيد الخوئي ( 4 / 188 ) : « البراء بن مالك الأنصاري ، أخو أنس بن مالك ، شهد بدراً وأحداً والخندق وقتل يوم تستر . من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . .
وقال الكشي في ترجمة أبي أيوب . . من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أبو الهيثم بن التيهان ، وأبو أيوب ، وخزيمة بن ثابت ، وجابر بن عبد الله ، وزيد بن أرقم ، وأبو سعيد الخدري ، وسهل بن حنيف ، والبراء بن مالك ، وعثمان بن حنيف ، وعبادة بن الصامت . ثم ممن دونهم قيس بن سعد بن عبادة ، وعدي بن حاتم ، وعمرو بن الحمق ، وعمران بن الحصين ، وبريدة الأسلمي ، وبشر بن كثير » . ومعنى رجوعهم اليه ( عليه السلام ) إدانتهم لأهل السقيفة .
وقال الطبري : 2 / 510 ، عن بطولة البراء في اليمامة : « انهزم المسلمون . . ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، وكان إذا حضر الحرب أخذته العروراء حتى يقعد عليه الرجال ، ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله ، فإذا بال يثور كما يثور الأسد ، فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال ، فلما بال وثب فقال : أين يا معشر المسلمين ، أنا البراء بن مالك هلمَّ إليَّ ! وفاءت فئة من الناس فقاتلوا القوم حتى قتلهم الله ، وخلصوا إلى مُحكَّم اليمامة وهو محكم بن الطفيل . . ثم زحف المسلمون حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت ، وفيها عدو الله مسيلمة الكذاب فقال البراء : يا معشر المسلمين ألقونى عليهم في الحديقة ، فقال الناس : لا نفعل يا براء ، فقال والله لتطرحني عليهم فيها ! فاحتُمل حتى إذا أشرف على الحديقة من الجدار اقتحم فقاتلهم عن باب الحديقة حتى فتحها للمسلمين ، ودخل المسلمون عليهم فيها فاقتتلوا حتى قتل الله مسيلمة عدو الله » .

ومن صناع النصر عباد بن بشر الأنصاري :

روى ابن سعد ( 3 / 441 ) عن أبي سعيد الخدري قال : « سمعت عباد بن بشريقول : يا
--------------------------- 586 ---------------------------
أبا سعيد رأيت الليلة كأن السماء قد فرجت لي ثم أطبقت عليَّ ، فهي إن شاء الله الشهادة . قال قلت : خيراً والله رأيت . قال فأنظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار إحطموا جفون السيوف وتميزوا من الناس . وجعل يقول أخلصونا أخلصونا ، فأخلصوا أربع مائة رجل من الأنصار ، ما يخالطهم أحد يقدمهم عباد بن بشر وأبو دجانة والبراء بن مالك ، حتى انتهوا إلى باب الحديقة فقاتلوا أشد القتال ، وقتل عباد بن بشر ، فرأيت بوجهه ضرباً كثيراً » .
وقال ابن الأعثم ( 1 / 31 ) : « وأقبل عباد بن بشرالأنصاري حتى وقف على باب الحديقة ثم نادى بأعلى صوته : يا معشر الأنصار ! إحطموا جفون سيوفكم واقتحموا الحديقة عليهم فقاتلوهم ، قال : ثم كسر عباد بن بشرجفن سيفه ، وكسرت الأنصار جفان سيوفهم واقتحموا الحديقة مائة رجل ، فقاتلوا حتى ما بقي منهم إلا أربعة نفر ، فإنهم أقبلوا مجروحين لما بهم . قال : وعظم الأمر على الفريقين جميعاً . . والتفت بنو حنيفة إلى مسيلمة فقالوا له : يا أبا ثمامة ! ألا ترى إلى ما نحن فيه من قتال هؤلاء . . قال : فاقتحم المسلمون بأجمعهم على مسيلمة وأصحابه فقاتلوهم حتى احمرت الأرض من الدماء » .

6 - خالد بن الوليد عنده هواية القتل !

في الطبري ( 2 / 516 ) : « خرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالداً فقال : أكتب كتابك فكتب : هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلاناً وفلاناً ، قاضاهم على الصُّفَّراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع ، وحائط من كل قرية ومزرعة ، على أن يسلموا . ثم أنتم آمنون بأمان الله ، ولكم ذمة خالد بن الوليد وذمة أبي‌بكر خليفة رسول الله ، وذمم المسلمين على الوفاء . لكن خالداً لم ينفذ ما كتبه معهم بل نفذ أمر أبي‌بكر : ( بعث رجلاً من الأنصار إلى خالد يأمره أن يقتل من أنبت من
بني حنيفة ) . ( تاريخ الطبري : 2 / 517 ، وخليفة / 72 ، وابن خلدون : 2 ق 2 / 76 ، والكامل : 2 / 365 ، والإصابة : 7 / 342 ) .
وبقي خالد بعد معركة اليمامة شهراً وتزوج بنت أسيره مجَّاعة ، ومارس هوايته في القتل
--------------------------- 587 ---------------------------
صبراً ! فقد نص المؤرخون على أنه قتل نحو سبعة آلاف !
قال الطبري : 2 / 516 ، وغيره : « وقتل من بني حنيفة في الفضاء بعقرباء سبعة آلاف ، وفي حديقة الموت سبعة آلاف ، وفي الطلب نحوٌ منها » أي كان خالد يبعث الخيل فيقبضوا عليهم ويقتلهم !
* *
--------------------------- 588 ---------------------------

الفصل الثامن والعشرون: علي ( عليه السلام ) يمنع انهيارالدولة في عهد عمر

كان عمر يستشير علياً ( عليه السلام ) في شؤون الدولة

1 . كان لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) دور واسعٌ في كل الفتوحات ، من فتح العراق إلى إيران ، وفتح فلسطين ، إلى بقية بلاد الشام ، ثم مصر . فهو الذي ساند القائد المثنى بن حارثة الشيباني في معاركه مع قوات كسرى ، في حين وبخه عمر وأمره بالإنسحاب .
وهو الذي أرسل القائد خالد بن سعيد بن العاص فقاد المسلمين مع شرحبيل بن حسنة معركة أجنادين ، فانتصروفتح فلسطين ، ثم حقق النصر فيما بعدها من معارك إلى اليرموك .
وهو الذي أرسل مالك الأشتر وأصحابه الفرسان ، وعمرو بن معدي كرب وأصحابه الفرسان ، مدداً لأبي عبيدة وخالد في معركة اليرموك ، فحققوا النصر وهزموا الروم ، حتى قرر هرقل الانسحاب من بلاد الشام كلياً .
وهو الذي أدار معركة نهاوند لما جمع الفرس مئة وخمسين ألف مقاتل ، فارتعد عمر والمسلمون ، فأطلق يد علي ( عليه السلام ) فأدار المعركة ، وجعل قائدها النعمان بن مقرن ، فإن استشهد فحذيفة بن اليمان ، وقد حققا النصر للمسلمين .
وهو الذي شجع عمرعلى فتح إيران ، حتى أقنعه فبعث الأحنف لفتح خراسان .
قال علي ( عليه السلام ) : ( كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ) . ( الخصال / 365 ) .
لذلك كان علي ( عليه السلام ) يشكو قريشاً فيقول ( شرح النهج : 20 / 298 ) : « اللهم إني أستعديك على
--------------------------- 589 ---------------------------
قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحِلْتُ بينهم وبينها ، فكانت الوجبةُ بي والدائرةُ عليَّ .
ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذريعة إلى الرياسة ، وسُلَّماً إلى العز والإمرة ، لما عَبَدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدَّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً ! ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرَتْ بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سَمِجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا أنه حق لما كان كذا ! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خَمِل ذكرُه وخَبَتْ نارُه ، وانقطع صوته وصِيتُه ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف » !
يذكرهم سلام الله عليه بأنه هو الذي رد هجوم المرتدين عن المدينة ، ودفع أبا بكر إلى حروب الردة ، ثم إلى هذه الفتوح ، ودبر إدارتها وهيأ أبطالها ، لكن إعلام السلطة نسبها إلى الخليفة ! ومن الواضح أن مَشُورة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالفتوحات ، وإرساله بعض قادتها ، لا يعني مسؤوليته عن المظالم الكبيرة التي ارتكبها قادة وولاةٌ لم يعينهم هو .
أما الذين أرسلهم هو فكانوا قدوة في نزاههتم وبطولاتهم .
2 . وهذه قائمة بأبرز تلاميذه وشيعته ( عليه السلام ) ، من فرسان الفتوحات وقادتها الميدانيين الذين خاضوا غمار المعارك ، وحققوا الانتصارات الواسعة ، فمنهم :
حذيفة بن اليمان ، وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن عمرو ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وابنه وأخوه عمرو ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص المعروف بالمرقال ، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب الهاشمي ، وأولاده عبد الله وعتبة ، وبريدة الأسلمي ، وعبادة بن الصامت ، وأبو أيوب الأنصاري ، وعثمان بن حنيف وإخوته ، وعبد الرحمن بن سهل الأنصاري ، ومالك بن الحارث الأشتر وإخوته ، ومعه عدد من القادة والفرسان
--------------------------- 590 ---------------------------
النخعيين ، وصعصعة بن صوحان العبدي وإخوته ، والأحنف بن قيس ، وحجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وأبو الهيثم بن التيهان ، والنعمان بن مقرن ، وبديل بن ورقاء الخزاعي ، وأبو رافع مولى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأولاده ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، والبراء بن عازب ، وبلال بن رباح مؤذن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقيس بن ثابت الأنصاري ، وعبد الله بن خليفة البجلي ، وعدي بن حاتم الطائي ، وأبو عبيد بن مسعود الثقفي ، وأبو الدرداء ، ومحمد بن أبي‌بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة الأموي ، وجارية بن قدامة السعدي ، وأبو الأسود الدؤلي . . وغيرهم .
* *

أول معركة للمسلمين مع الروم في غزة قادها شيعي

قال البلاذري : 1 / 130 : « فأول وقعة كانت بين المسلمين وعدوهم بقرية من قرى غزة يقال لها دائن ، كانت بينهم وبين بطريق غزة ، فاقتتلوا فيها قتالاً شديداً ، ثم إن الله تعالى أظهر أولياءه وهزم أعداءه وفض جمعهم ، وذلك قبل قدوم خالد بن الوليد الشام ) .
وفي تاريخ الطبري : 2 / 601 : « اجتمع الروم جمعاً بالعَرْبَة من أرض فلسطين فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي ، ففض ذلك الجمع . قالوا : فأول حرب كانت بالشام بعد سرية أسامة ( يقصد جيش أسامة ) بالعربة ، ثم أتوا الداثنة ويقال الداثن فهزمهم أبو أمامة الباهلي ، وقتل بطريقاً منهم » .
وقد طمسوا دور أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وهو صحابي ثقة ، وقائد بطل . قال في الإستيعاب : 4 / 1602 : « اسمه صُدَيُّ بنُ عجلان . كان من المكثرين في الرواية عن رسول الله ، وأكثر حديثه عند الشاميين . توفي سنة إحدى وثمانين ) .
وقال ابن قتيبة في المعارف / 309 : « كان ممن شهد مع علي صفين ، ونزل بالشام ، وهو ممن يعد فيمن تأخر موته من الصحابة ، وتوفي سنة ست وثمانين ، وهو ابن إحدى وتسعين سنة » .
وذنبه عندهم أن أحاديثه صريحة في التشيع لأهل‌البيت ( عليهم السلام ) كالذي رواه عنه محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( 1 / 545 ) قال : « دخل على معاوية بن أبي سفيان فألطفه
--------------------------- 591 ---------------------------
وأدناه ، ثم دعا بغداء فجعل يطعم أبا أمامة بيده ، ثم أوسع رأسه ولحيته طيباً بيده ، ثم أمر له ببدرة دنانير فأتي بها فدفعها إليه ، ثم قال : يا أبا أمامة سألتك بالله ، أنا خير أم علي بن أبي طالب ؟ !
فقال أبو أمامة : والله لا كذبت ، ولو بغير الله سألتني لصدقت فكيف وسألتني بالله ! عليٌّ والله خير منك وأكرم وأقدم هجرة ، وأقرب من رسول الله قرابة وأشد في المشركين نكاية ، وأعظم على المسلمين منة ، وأعظم غَنَاءً عن الأمة منك ! يا معاوية أتدري ويلك مَن علي ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين ، وأبو الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وابن أخي حمزة سيد الشهداء ، وأخو جعفر ذي الجناحين الطيار مع الملائكة في الجنة ، فأين تقع أنت من هذا ! يا معاوية ، أوَظننت أني سأخيِّرُك على علي بن أبي طالب بإلطافك وإطعامك ومالك ، فأدخل إليك مؤمناً وأخرج عنك كافراً ! ؟ بئس ماسوَّلت لك نفسك يا معاوية ! ثم نفض ثوبه وخرج من عنده . قال : فأتبعه معاوية بالمال فقال : والله لا أرزأ منه ديناراً أبداً » !
وروى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ( 2 / 203 ) : « عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة ، فأنا أصلها وعليٌّ فرعها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجى ، ومن زاغ هوى .
ولو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثم ألف عام ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالي ، ثم لم يدرك محبتنا أكبه الله على منخريه في النار » . وأحاديثه في فضائل أهل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووجوب اتباعهم كثيرة مهمة .
هذا ، وقد ذكر الواقدي ( 2 / 235 ) أن المقداد بن الأسود كان في فتوح الشام ، وهو قائد ، وقد أهملوا دوره !
* *
--------------------------- 592 ---------------------------

أرسل علي ( عليه السلام ) خالد بن سعيد ليثأر لجعفر ( عليه السلام ) ويفتح فلسطين

1 . كان أول جيش أرسله أبو بكر لفتح الشام جيش خالد بن سعيد بن العاص ، وبعد أن قطع ثلث الطريق من الحجاز إلى الشام عزله أبو بكر وعيَّن مكانه يزيد بن أبي سفيان . فرجع خالد إلى المدينة ، ثم خرج محتسباً مع جيش شرحبيل بن حسنة ، وكان عدد جيشه بضعة آلاف . فقاد الجيش عملياً خالد ، وحقق النصر في معركة أجنادين ففتح فلسطين ، ثم سلمه كل القادة جيوشهم وقادها !
قال ابن أعثم في الفتوح ( 1 / 80 ) : ( ثم إن عبد الرحمن بن عوف قام فقال : يا خليفة رسول الله ، إنها الروم وبنو الأصفر ، حد مديد ، وركن شديد ، ما أرى أن نقتحم عليهم اقتحاماً ، ولكن نبعث الخيل فتغير في قواصي أرضهم ثم ترجع إليك . . . وبعد ذلك تكلم كل من طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار كلاماً بهذا المعنى ، وعلي رضي الله عنه ساكت ، فقال أبو بكر : ماذا ترى يا أبا الحسن ؟ فقال : أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت عليهم إن شاء الله .
فقال : بشرك الله بخير . ومن أين علمت ذلك ؟ قال سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه ، حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون . فقال : سبحان الله ، ما أحسن هذا الحديث .
ثم ذكر تأميره لخالد بن سعيد فقبل خالد ذلك وقال : إنني مع إخواني وأبناء عمومتي قد وطنا العزم على الجهاد في سبيل الله ، وسنبذل ما في وسعنا لجهاد الكفرة ، فأثنى الصديق على موقفه ) !
وقال البلاذري في الفتوح ( 1 / 128 ) : « لما عقد أبو بكر لخالد بن سعيد كره عمر ذلك فكلم أبا بكر في عزله وقال إنه رجل فخور ، يحمل أمره على المغالبة والتعصب ) .
أقول : سبب عداء عمر لخالد بن سعيد رضي الله عنه أنه كان أول من اعترض على بيعة أبي‌بكر وخطب في المسجد ووبخ أبا بكر وعمر ، فأجابه عمر فرده خالد بشدة
--------------------------- 593 ---------------------------
وأسكته وهو الوحيد الذي أسكت عمر !
ثم كانت لخالد مواقف شديدة معهم في أحداث السقيفة ، لذلك أصر عمر على أبي‌بكر حتى عزله عن جيش الشام بعد أن سار بأيام !
ثم خرج مع شرحبيل بن حسنة ، جندياً احتساباً لله تعالى ، وكان شرحبيل يحترمه فكان هو القائد عملياً ، وقد فرضت كفاءته وبطولته نفسها على قادة الجيوش في الشام ، فسلموه قيادة المعارك بعد أجنادين ، ثم انقطع خبره وهو في معركة اليرموك ، فلا يبعد أنهم قتلوه !
2 . كانت معركة أجنادين بعد تبوك ، ثأراً لجعفر ! قال اليعقوبي ( 2 / 67 ) :
« سار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جمع كثير إلى تبوك يطلب بدم جعفر بن أبي طالب ( رحمه الله ) ) .
وكان شرحبيل بن حسنة وخالد بن سعيد رضي الله عنهما يعيشان هذا الهدف لأنهما كانا مهاجرين مع جعفر في الحبشة ، ورأيا مكانته عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشاركا في جيش تبوك . وعندما سمعا بتجميع هرقل لقواته في أجنادين وهي قرب مؤتة استبشرا ، وأرسلا إلى أبي عبيدة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وعمرو العاص ، وخالد بن الوليد الذي ، كان وصل بست مئة مقاتل من العراق ، وأخبراهم بجمع الروم ، فتوجه الجميع إلى أجنادين .
وتقع أجنادين قرب الخليل ، وقيل في وادي عَجُّور على بُعد 37 كيلو متراً عن الخليل ، و 30 كيلو متراً عن الرملة ، وفيها مؤتة وهي مركز قوات الروم المدافعة عن القدس . « قال ابن إسحاق : ثم ساروا جميعاً قِبَل فلسطين ، فالتقوا بأجنادين بين الرملة وبين بيت جبريل ، والأمراء كلٌّ على جنده . وعلى الروم القنقلار ، فقتل القنقلار وهزم الله المشركين » . ( تاريخ خليفة / 79 ) .
وفي تاريخ دمشق ( 16 / 84 ) : « ثم زحف إليهم فوقف خالد بن سعيد في مقدمة الناس ، يحرض الناس على القتال ، ويرغبهم في الشهادة » .
وقال اليعقوبي ( 2 / 134 ) : « وكانت بينهم وبين الروم وقعات بأجنادين صعبة ، في كل ذلك يهزم الله الروم ، وتكون العاقبة للمسلمين » .
--------------------------- 594 ---------------------------
وفي معجم البلدان ( 1 / 103 ) : « قالت العلماء بأخبار الفتوح : شهد يوم أجنادين
مائة ألف من الروم » .
3 . وقد افتتح معركة أجنادين حفيدان لعبدالمطلب ، ثأراً لجعفر بن أبي طالب
رضي الله عنهم ، أولهما عبد الله بن الزبيرأكبر أبناء عبد المطلب ، وكان أول من برز يوم أجنادين عندما برز بطريق مُعَلَّم ودعا إلى المبارزة ، وكانوا يعطون للفارس الشجاع درجة بطريق ، والمُعَلَّم : الذي عنده درجة في الفروسية ، فبرز إليه عبد الله فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله بن الزبير ، ولم يتعرَّض لسلبه مع أنهم كانوا يحرصون على سلب الفرسان المميزين ، لأنه يلبس قلنسوة مُذَهَّبة ، وحزاماً عريضاً مُذهباً ، يسمى مَنطقة . لكن حفيد عبد المطلب رضي الله عنه أعرض عنه ، لأنه رأى بطلاً رومياً آخر جاء يطلب المبارزة فبرز إليه ، فتشاولا بالرمحين ثم صارا إلى السيفين ، وكان الرومي مُدَرَّعاً ، فحمل عليه عبد الله فضربه على عاتقه ، وهو يقول : خذها وأنا ابن عبد المطلب ! فشقت ضربته الدرع ، وأسرع السيف في منكب الرومي ، فولى منهزماً ، ثم سقط .
وقيل لعبد الله كفاك هذا فلا تقاتل ! فقال : لا أجدني أصبر ، وحمل على الروم وقتل عدداً من فرسانهم . وبحث عنه المسلمون بعد المعركة فوجدوه مثخناً بالجراح ، في وجهه ثلاثون ضربة سيف ، وحوله عشرة من الروم مجندلين ، ووجدوا سيفه بيده لاصقاً ، فعالجوه حتى نزعوه بعد عناء . وذكروا أن أمه مخزومية ، وله عدة أخوات ولاعقب له رضي الله عنه وأرضاه .
( الإستيعاب : 3 / 904 ، والإصابة : 4 / 78 ، وتاريخ دمشق : 8 / 138 ) .
أما ثاني حفيد لعبدالمطلب فهو : طُلَيب بن عمير بن وهب من بني عبد بن قصي : « أمّه أروى بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، يكنى أبا عدي . هاجر طُليب بن عمير إلى أرض الحبشة ثم شهد بدراً وكان من خيار الصحابة . قال الزبير بن بكار : كان طُليب بن عمير بن وهب من المهاجرين الأولين ، وشهد بدراً ، قتل بأجنادين شهيداً ) . ( الإستيعاب : 2 / 772 ) .
--------------------------- 595 ---------------------------
4 . وقاد خالد بن سعيد ، وهاشم المرقال ، معركة أجنادين ، ومَرْجَ الصُّفَّر ، وفِحل ، وحققا النصر للمسلمين ، وكذا في محاصرة دمشق ! وقال ابن سعد في الطبقات ( 4 / 98 ) : « شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين وفحل ومرج الصُّفَّر » .
وارتضاه الجميع قائداً عاماً لمعركة مرج الصُّفَّر ، ففي تاريخ خليفة / 120 : « قال ابن إسحاق : في هذه السنة وقعة مرج الصُّفَّر يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، والأمير خالد بن سعيد » .
وقال الذهبي في العبر ( 1 / 17 ) : « كانت وقعة هائلة استشهد فيها جماعة » .
أقول : مرج الصُّفَّر موضع بين دمشق والجولان ، وكانت معركتها بعد أجنادين بنحو عشرين يوماً ، وكان عدد الروم فيها شبيهاً بعددهم في أجنادين .
وقد اختار القادة الأربعة : ابن الجراح وابن أبي سفيان وابن العاص وشرحبيل ، خالدَ بن سعيد للقيادة ، لأنهم رأوا منه في أجنادين سداد رأي وبطولة .
كما وصفوا بطولة أخيه عمرو في هذه المعركة ، فقال في فتوح بن الأعثم ( 1 / 152 ) : « تقدم عمرو بن سعيد وكان من أفاضل الناس وفرسان المسلمين ، حتى وقف بين الجمعين ثم رفع صوته وقرأ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يا أيها الناس أطلبوا الجنة فإنها نعم المأوى ونعم القرار ولنعم دار الأبرار ، ولمن هي يا قوم ؟ هي والله لمن شرى نفسه وقاتل في سبيل الله ! ثم نادى بأعلى صوته : إليَّ إليَّ يا أهيل الإسلام ، فأنا عمرو بن سعيد ! ثم حمل هذا عمرو على الروم فقاتل قتالاً حسناً ، ثم رجع إلى المسلمين وقد أصابته ضربة على حاجبه الأيمن والدم يسيل من الضربة حتى ملأت عينه ، فلم يستطع أن يفتح جفن عينه من الدم . قال : ثم حمل عمرو بن سعيد فلم يزل يقاتل حتى قتل رحمة الله عليه » .
ثم كانت معركة فِحل في فلسطين ، وقادها خالد بن سعيد أيضاً ( ابن الأعثم : 1 / 153 ) وتقع قيسارية على ساحل فلسطين بين حيفا ويافا ، ويقع بمحاذاتها إلى داخل
--------------------------- 596 ---------------------------
فلسطين سهل بيسان ، وبمحاذاته إلى الداخل فِحل ، وهي قريبة نسبياً من اليرموك ، قبل أن تصل إلى مرج الصفر .
وبهذا كان فتح فلسطين وقسم من سوريا ، بيد تلاميذ علي ( عليه السلام ) الذين أرسلهم إلى الشام .

تعاظَمَ أمرخالد بن سعيد فقتلوه !

أجمع قادة جيوش الشام على تسليم القيادة له بعد بطولاته في معركة أجنادين . وطبيعي أن يُغضب ذلك عمر بن الخطاب لأنه عدوه اللدود ، فقد عزله عن قيادة جيشٍ فصار قائداً لكل الجيوش !
وطبيعي أن يكتب عمرلأبي عبيدة ويوبخه على إعطاء القيادة لخالد بن سعيد . وهذا يفسرلنا انقطاع أخباره بعد هذا التعاظم ، ويكفي أن نقرأ رواية الطبري لنفهم
أنهم قتلوه !

قال الطبري ( 2 / 597 ) : « وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك ، عكرمة ، وعمرو بن عكرمة ، وسلمة بن هشام ، وعمرو بن سعيد ، وأبان بن سعيد ، وأثبت ( جُرح ) خالد بن سعيد ، فلا يدرى أين مات » !

* *

علي ( عليه السلام ) يختار مالك الأشتر لبطولة اليرموك

1 . أخذ هرقل يحشد قواته لمعركة اليرموك ، وخاف أبو عبيدة من المفاجأة ، فأمر بالإنسحاب من حمص إلى دمشق ، فدخلت قوات الروم إلى حمص وأعادت احتلالها .
وروى الحموي في معجم البلدان ( 3 / 280 ) سبب تجميع هرقل جيشه في اليرموك ، فقال : « لما نصر الله المسلمين بفحل ، وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بأنطاكية ، دعا رجالاً منهم فأدخلهم عليه فقال : حدثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فأنتم أكثر أو هم ؟ قالوا : بل نحن ، قال : فما بالكم ؟ فسكتوا ، فقام شيخ منهم وقال : أنا أخبرك أنهم إذا حملوا صبروا ولم يكذبوا ، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب ، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويرون أن قتلاهم في الجنة
--------------------------- 597 ---------------------------
وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر .
فقال : يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجن من هذه القرية وما لي في صحبتكم من حاجة ، ولا في قتال القوم من إرَب !
فقال ذلك الشيخ : أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر ، فقال : قد قاتلتم بأجنادين ودمشق وفحل وحمص كل ذلك تفرون ولاتصلحون ، فقال الشيخ : أتفر وحولك من الروم عدد النجوم ، وأي عذر لك عند النصرانية ؟ فثناه ذلك إلى المقام ، وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجميع الجيوش فقال لهم : يا معشر الروم إن العرب إذا ظهروا على سورية لم يرضوا حتى يتملكوا أقصى بلادكم ، ويسبوا أولادكم ونساءكم ويتخذوا أبناء الملوك عبيداً ، فامنعوا حريمكم وسلطانكم ، وأرسلهم نحو المسلمين فكانت وقعة اليرموك ، وأقام قيصر بأنطاكية .

فلما هزم الروم وجاءه الخبر وبلغه أن المسلمين قد بلغوا قنسرين خرج يريد القسطنطينية ، وصعد على نشز وأشرف على أرض الروم وقال : سلام عليك يا سورية ، سلام مودع لا يرجو أن يرجع إليك أبداً ! ثم قال : ويحك أرضاً ! ما أنفعك أرضاً ! ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب ! ثم إنه مضى إلى القسطنطينية » .

وفي تاريخ دمشق ( 2 / 162 ) : « فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلاً واسع العطن ، واسع المطرد ضيق المهرب . . فنزلوا الواقوصة على ضفة اليرموك ، وصار الوادي خندقاً لهم وهو لهب لا يدرك ، وإنما أراد باهان وأصحابه أن تستفيق الروم » . فخاف خالد وأبو عبيدة من تحشيد الروم ، فكتبا إلى أبي‌بكر ، ثم كتب أبو عبيدة إلى عمر : « حشد الروم مئة وعشرين ألف مقاتل ، وكان عدد المسلمين أربعةً وعشرين ألفاً ) . ( تاريخ دمشق : 2 / 143 ) .
أقول : وكان عليٌّ ( عليه السلام ) أرسل إلى الأشتر وابن معدي كرب ، وفرسان النخعيين والزبيديين ، وكانوا شيعته وأنصاره لما كان في اليمن .
--------------------------- 598 ---------------------------
قال الواقدي ( 1 / 68 ) : « فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي . . وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام . . واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف ، فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتاباً إلى خالد بن الوليد . . وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة ، ويكفيك ابن معد يكرب الزبيدي ، ومالك بن الحارث » .
ثم توفي أبو بكر واستمر تحشيد الروم قواتهم ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر : « واعلم يا أمير المؤمنين أن كلب الروم هرقل قد استفزَّ علينا كل من يحمل الصليب ، وقد سار القوم الينا كالجراد المنتشر ، وقد نزلنا باليرموك بالقرب من أرض الرماة والخولان . . .
فلما فتح عمر الكتاب انتقع لونه وتزعزع كونه ، وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون . فقال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من الصحابة : يا أمير المؤمنين أطلعنا على ما في هذا الكتاب من أمر إخواننا المسلمين . فقام عمر ورقى المنبر خطيباً وقرأ الكتاب على الناس ، فلما سمعوا ما فيه ضجوا بالبكاء شوقاً إلى إخوانهم وشفقة عليهم ، وكان أكثر الناس بكاء عبد الرحمن بن عوف . . فقال له علي بن أبي طالب : أبشروا رحمكم الله تعالى ، فإن هذه الوقعة يكون فيها آيةٌ من آيات الله تعالى ، يختبر بها عباده المؤمنين لينظر أفعالهم وصبرهم ، فمن صبر واحتسب كان عند الله من الصابرين . واعلموا أن هذه الوقعة هي التي ذكرها لي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) التي يبقى ذكرها إلى الأبد ! هذه الدائرة المهلكة . فقال العباس : على مَن هي يا ابن أخي ؟ فقال : يا عماه على من كفر بالله واتخذ معه ولداً ، فثقوا بنصر الله عز وجل . ثم قال لعمر : يا أمير المؤمنين ، أكتب إلى عاملك أبي عبيدة كتاباً ، وأعلمه فيه أن نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا ، فيوشك أن يكون أمر عظيم ) . ( فتوح الشام للواقدي : 1 / 177 ) .
ويقصد علي ( عليه السلام ) بالآية من آيات الله تعالى : آية النصر بمالك الأشتر رضي الله عنه ، حيث قتل ماهان القائد العام لجيوش هرقل ، وعشرة أو أكثر من قادتهم في مطلع المعركة ، فضعضع أركانهم ، وألقى الرعب في قلوبهم !
قال الواقدي ( 1 / 68 ) : « فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي يريد الشام ، فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي ، فنزل عند
--------------------------- 599 ---------------------------
الإمام علي بأهله ، وكان مالك يحب سيدنا علياً ( عليه السلام ) وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام » .
2 . وقد كتم أكثر رواة السلطة مشاورة أبي‌بكر لعلي ( عليه السلام ) ، وإرساله فرسان النخع
وزبيد . وتبشيره بالنصر ! ونسبوا بطولات الأشتر إلى غيره !
وكذلك بقية أبطال الشيعة كهاشم بن عتبة المرقال ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأخويه عمرو وأبان وابنه سعيد ، والمقداد بن الأسود فارس حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأبي ذر الغفاري ، وكان قائداً لخمس مئة فارس . فقد شهد هؤلاء معركة اليرموك ، كما شهدها القائد حذيفة بن اليمان ، وكان رسول أبي عبيدة بالفتح ، وشهدها عمرو بن معديكرب وهو فارس له وزنه . وشهدها عبادة بن الصامت بن أخ أبي ذر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وهو من الأبطال ، وأبو أيوب الأنصاري وهو من الفرسان القادة ، وجابر بن عبد الله الأنصاري . . وأمثالهم .
وقال في تاريخ دمشق : 2 / 143 : « شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيهم نحو من مائة من أهل بدر » .
ودامت المعركة أربعة أيام ، وكانت حافلة بالأحداث . ( فتوح الشام : 1 / 211 ) . وجعل رواة السلطة بطولاتها لخالد بن الوليد ، وضرار بن الأزور الذي قُتل في اليمامة قبل سنتين ، فأحيوه في اليرموك ! وحتى أبو هريرة الذي لم يُقاتل كل عمره ، صار عند الرواة أسداً في اليرموك !
3 . لكن بطولات الأشتر ظهرت بين السطور ، وقد وصفها الواقدي ، فقال :
( 1 / 223 ) : « فلما عزم ( بطل الروم ما هان ) على الخروج تقدم له راهب من الرهبان فقال : أيها الملك ما أرى لك إلى البراز سبيلاً ولا أحبه لك . قال : ولمَ ذلك ؟ قال : لأني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز . فقال ماهان : لست أفعل والقتل أحب إليَّ من العار ! قال فبخروه وودعوه ، وخرج ماهان إلى القتال ، وهو كأنه جبل ذهب يبرق ، وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز ، وخوف باسمه ، فكان أول من عرفه خالد بن الوليد فقال : هذا ماهان ، هذا صاحب القوم قد خرج . ووالله ما عندهم
--------------------------- 600 ---------------------------
شئ من الخير ! ( ولم يبرز اليه خالد ولا أبو عبيدة ) ! قال : وماهان يُرَعِّبُ باسمه . .
وكان أول من برز مالك النخعي الأشتر وساواه في الميدان ، فقال له ماهان : أنت صاحب خالد بن الوليد ؟ قال : لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه ، فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه ، فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر .
قال : فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ، ثم فكر فيما عزم عليه ، فدبر نفسه وعلم أن الله ناصره ، والدم فائر من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكاً وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه ، وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين : يا مالك إستعن بالله يعنك على قرينك . قال مالك : فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعاً غير موهن ، فعلمت أن الأجل حصين . فلما أحسن ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره ) !
أقول : يفهم من الرواية أن ماهان فرَّ جريحاً ، فذهلت الروم ومالت كفة المعركة لصالح المسلمين ! وقد مات من ضربة الأشتر كما نص الكلاعي ، ثم برز بطل آخر فقتله الأشتر ، فكانوا ثلاثة مبارزة ، ثم حمل عليهم فقتل ثمانية من قادتهم ، فصاروا أحد عشر !
قال في الاكتفاء : 3 / 273 : « كان من جلداء الرجال وأشدائهم ، وأهل القوة والنجدة منهم ، وإنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم ، وقتل منهم ثلاثة مبارزة » !
وقوله قبل أن ينهزموا يعني أن ذلك كان في أول المعركة ، وأنه أثَّر في هزيمتهم .
وفي تاريخ دمشق ( 56 / 379 ) : « وكان الأشتر الأحسن في اليرموك ! قالوا لقد قتل ثلاثة عشر » .
4 . مالك الأشتر وجماعته هم الآية الربانية ، والعباد الموعودون ، أولو البأس الشديد ، فهم الذين فتحوا سوريا وفلسطين والقدس ، لا زيد ولا عمرو !
قال الله تعالى : وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا
--------------------------- 601 ---------------------------
كَبِيرًا . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا . إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا . عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا » .
ومعناها : حكمنا لكم في القضاء المبرم أنكم ستفسدون في المجتمع البشري مرتين ، وتستكبرون وتعلون علواً كبيراً مرة واحدة . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا : وقت عقوبتكم على إفسادكم الأول على يد رسولنا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمته ، أرسلنا عليكم عباداً لنا أصحاب بطش ينزلونه بكم . فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا : أي دخلوا فلسطين بسهولة ، وجاس جنودهم بين البيوت يتعقبون المقاتلين من الروم وعملائهم اليهود . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ : أي أعدنا الغلبة لليهود على هؤلاء المسلمين ، وأعطيناهم أموالاً وأولاداً ، وجعلناهم أكثر منهم أنصاراً في العالم .
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ : إن تبتم بعدها وعملتم خيراً فهو لكم ، وإن أسأتم وطغيتم وعلوتم فهو لكم أيضاً .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ : معناه أنكم ستُسيؤون ، فنمهلكم إلى وقت العقوبة الثانية ونسلط عليكم نفس العباد فيسوؤوا وجوهكم ، ثم يدخلوا المسجد الأقصى فاتحين ، كما دخلوه أول مرة ، ويسحقوا علوكم سحقاً .
فتاريخ اليهود من بعد موسى ( عليه السلام ) إلى آخر حياتهم يتلخص بإفسادهم أولاً ثم عقوبتهم على يد المسلمين ، ثم غلبتهم على المسلمين وكثرة أنصارهم في العالم ، ومعها عُلُوُّهم ، حتى يجئ وعد العقوبة الثانية على يد المسلمين أيضاً ، فالقوم المبعوثون في العقوبة الثانية ، نفسهم المبعوثون في العقوبة الأولى ، وقد أخطأ كثير من المفسرين فجعلوهم قومين ! وقد فسرتهم الأحاديث بأنهم هم أصحاب علي والمهدي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( معجم أحاديث الإمام المهدي ( عليه السلام ) / 640 ) .
--------------------------- 602 ---------------------------
5 . يعلم الله كم من بطولاتٍ في اليرموك أخفاها رواة السلطة ، لخالد بن سعيد بن العاص
وابنه وإخوته ، ولهاشم المرقال ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وحذيفة ، وأبي أمامة ، وعبادة بن الصامت ، وعمرو بن معدي كرب ، وعشرات الأبطال الشيعة ، أصحاب العجائب في المعارك .
وقد ذكر ابن أبي شيبة ( 8 / 14 ) أن النخعيين كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة مقاتل ، وقال : « كنت لا تشاء أن تسمع يوم القادسية : أنا الغلام النخعي ، إلا سمعته » .
6 . وصفوا مالك الأشتر بأنه من شجعان العالم ، قويَّ الروح والبنية ، طويل القامة :
« يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض » . ( المحبر / 113 ) .
وترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 4 / 34 ) ولم يستطع رغم نصبه إلا أن يمدحه فقال : « الأشتر : ملك العرب ، مالك بن الحارث النخعي ، أحد الأشراف والأبطال المذكورين . . فقئت عينه يوم اليرموك . وكان شهماً مطاعاً . . ألب على عثمان وقاتله ، وكان ذا فصاحة وبلاغة . شهد صفين مع علي ، وتميز يومئذ وكاد أن يهزم معاوية ، فحمل عليه أصحاب علي لما رأوا مصاحف جند الشام على الأسنة يدعون إلى كتاب الله ، وما أمكنه مخالفة علي ، فكف » .
وقال العلامة في الخلاصة / 276 : « قدس الله روحه ورضي الله عنه ، جليل القدر عظيم المنزلة ، كان اختصاصه بعلي ( عليه السلام ) أظهر من أن يخفى ، وتأسف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لموته وقال : لقد كان لي كما كنت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وقال السيد الخوئي ( 15 / 168 ) : « لما نُعي الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تأوه حزناً وقال : رحم الله مالكاً وما مالك ، عزَّ عليَّ به هالكاً . لو كان صخراً لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فنداً ، وكأنه قُدَّ مني قَدّاً » !
أي هو من نوع قماشي وطينتي ، وهو تعبير لم يستعمله الإمام ( عليه السلام ) في غيره .

7 . وطارد الأشتر جيش الروم داخل بلادهم .

روى الكلاعي ( 3 / 273 ) : « أن الأشتر قال لأبي عبيدة : ابعث معي خيلاً أتبع آثار القوم ، فإن عندي جزاء وغناء . فقال له أبو عبيدة : والله إنك لخليق بكل خير ، فبعثه في ثلاث
--------------------------- 603 ---------------------------
مائة فارس وقال له : لا تتباعد في الطلب ، وكن مني قريباً . فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين ونحو ذلك . . وأتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم ، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض فعلوا فوقه وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم ، فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف فإن خيل المسلمين لمواقفتهم ، إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم ، فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم ! قال : فوالله ما خرج إليه رجل منهم ، فقال لهم الأشتر : أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج ؟ فلم يتكلم أحد !
قال : فنزل الأشتر ثم خرج إليه ، فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر وعلى الرومي مثل ذلك ، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما فوقع سيف الرومي على هامة الأشتر فقطع المغفر وأسرع السيف في رأسه حتى كاد ينشب في العظم ، ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومي فلم تقطع شيئاً من الرومي إلا أنه ضربه ضربة شديدة أوهنت الرومي وأثقلت عاتقه ، ثم تحاجزا .
فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئاً انصرف فمشى على هيئته ، حتى أتى الصف وقد سال الدم على لحيته ووجهه فقال : أخزى الله هذا سيفاً ، وجاءه أصحابه فقال : عليَّ بشئ من حناء فأتوه به من ساعته ، فوضعه على جرحه ثم عصبه بالخرق ، ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض ثم قال : ما أشد لحيتي ورأسي وأضراسي .
وقال لابن عم له : أمسك سيفي هذا وأعطني سيفك ، فقال : دع لي سيفي رحمك الله ، فإني لا أدري لعلي أحتاج إليه ، فقال : أعطنيه ولك أم النعمان يعني ابنته . فأعطاه إياه ، فذهب ليعود إلى الرومي فقال له قومه : ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج فقال : والله لأخرجن إليه فليقتلني أو لأقتلنه فتركوه فخرج إليه ، فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق ، فاضطربا بسيفيهما فضربه الأشترعلى عاتقه فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته ، ووقعت ضربة الرومي على عاتق الأشتر فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئاً ، ووقع الرومي ميتاً وكبر المسلمون ، ثم حملوا على صف
--------------------------- 604 ---------------------------
رجالة الروم ، فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق ، فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل ، وباتوا ليلتهم يتحارسون ، فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع ، فارتحل الأشتر منصرفاً بأصحابه » .
وفي تاريخ حلب ( 1 / 156 ) : « وأول من قطع جبل اللكام وصار إلى المصيصة : مالك بن الحارث الأشتر النخعي » .
والمصيصة بعد إسكندرونة بأكثر من مئة كيلو متر . وتبعد عن دمشق نحو 500 كم . وذكر البلاذري في فتوحه ( 1 / 194 ) أن مالك الأشتر كان قائداً في فتح أنطاكية .
وذكر ( 1 / 302 ) كيف خطط مالك لفتح حلب ، ثم كيف فتح حصن عزاز ، واستخلف عليه سعيد بن عمرو الغنوي ، ورجع إلى أبي عبيدة ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بالنصر » .
وقال الواقدي ( 1 / 462 ) في فتح الموصل : « التقى مالك الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم أنه من ملوكهم ، فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره » .
وقال البلاذري : 1 / 162 : « قالوا : ولما بلغ هرقل خبر أهل اليرموك وإيقاع المسلمين بجنده هرب من أنطاكية إلى قسطنطينية . فلما جاوز الدرب قال : عليك يا سورية السلام ! ونعم البلد هذا للعدو ، يعني أرض الشام لكثرة مراعيها . وكانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة » .
أقول : بعد هزيمة اليرموك انسحب هرقل من سوريا وفلسطين ومصروقبرص ، ففتحت كل مدنها أمام المسلمين ولم تحتج إلى قتال ، بل كان يكفي أن يذهب رسول بكتاب من القائد العام أبي عبيدة إلى القدس أو أي مدينةفيطلب حضورهم فيأتونه ليكتب معهم عهد صلح ، ويقبلوا بالجزية التي هي ضريبة سنوية .
فكل ما رواه الرواة من معارك بعد اليرموك ، فهو معركة صغيرة أو مناوشات مع حاميات غير رومية ، ضخمها الرواة ليثبتوا بطولات لخالد بن الوليد وعمرو العاص وأمثالهم ، وغالباً ما تكون المعركة من أصلها مكذوبة .
وكذا ما رووه من معارك في فتح القدس وقبرص ومصر ! وما أسهل أن تكشف كذب الرواة إذا بحثت عن الجيش الذي قاتلوه ، فلا تجد جندياً رومياً واحداً !
--------------------------- 605 ---------------------------

شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه في مصر

في تاريخ دمشق ( 56 / 376 ) أن معاوية قال لأهل الشام : « يا أهل الشام إنكم منصورون ومستجاب لكم الدعاء ، فادعوا الله على عدوكم ! فرفع أهل الشام أيديهم يدعون عليه ، فلما كانت الجمعة الأخرى خطب فقال : يا أهل الشام إن الله قد استجاب لكم وقتل عدوكم ! وإن لله جنوداً في العسل ، فرفع أهل الشام أيديهم حامدين الله على كفايتهم إياه » .
وقال الطبري ( 2 / 72 ) : « وأقبل معاوية يقول لأهل الشأم : إن علياً وجَّهَ الأشتر إلى مصرفادعوا الله أن يكفيكموه ، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر . وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر ، فقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قَطعتُ إحداهما يوم صفين يعنى عمار بن ياسر ، وقَطعت الأخرى اليوم
يعني الأشتر » .
وروى نحوه اليعقوبي ( 2 / 179 ) وسيأتي ذكره في أحداث خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
* *
--------------------------- 606 ---------------------------

الفصل التاسع والعشرون: دور تلاميذ علي ( عليه السلام ) في فتح العراق إلى القادسية

الصحابي المثنى بن حارثة رائد فتح العراق !

1 . وَفَدَ المثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنة تسع . وعندما ملكت بوران بنت كسرى بدأ عملياته في تحرير العراق فأخذ يغير على مسالح الفرس . قال في الإستيعاب ( 4 / 1456 ) : « المثنى بن حارثة الشيباني كان إسلامه وقدومه في وفد قومه على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سنة تسع » .
وفي الإصابة ( 6 / 51 ) : « كان المثنى ومذعور قد وفدا على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصحباه » .
ثم وفد زعيم بني شيبان حريث بن حسان على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبايعه على الإسلام له ولقومه . ( الطبقات : 1 / 318 و : 7 / 58 ، والإصابة : 8 / 289 ، ومجمع الزوائد : 6 / 11 ) . وفي الإصابة ( 2 / 117 ) : قال بطل ذي قار حنظلة بن سيار :
ونحن بعثنا الوفد بالخيل ترتمي * بهم قُلَّصٌ نحو النبي محمد
بما لقي الهرموز والقوم إذ غزوا * وما لقي النعمان عند التورد » .
ومعناه أنهم أسلموا وواصلوا معاركهم مع كسرى ، وإنما سكت كسرى عنهم لانشغاله بقتال الروم ! ثم قتله ابنه شيرويه واضطرب نظامه ، فاستغل المثنى فترة اضطراب حكمهم ووسع هجماته على حاميات الفرس ، وكان ذلك تنفيذاً لتوجيهات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
2 . بعد حرب اليمامة جاء خالد بن الوليد والياً على العراق من قبل أبي‌بكر ، وكان دوره أن
يبرم عقود الصلح مع القرى والدساكر التي فتحها المثنى ، ولم يخض أي معركة مع الفرس ، بل
--------------------------- 607 ---------------------------
شن غارات نهب وسبي على السكان العرب وغيرهم من الأقليات . وبعد ذهابه إلى الشام كانت معركة بابل مع الجيش الفارسي ، قبيل وصول أبي عبيد ، ثم قاد أبو عبيد معركتين : معركة النمارق ، ثم معركة الجسرالتي استشهد فيها رضي الله عنه . ثم كانت معركة البويب التي ثأر فيها المثنى لمعركة الجسر .
ثم كانت معركة القادسية الكبرى التي كانت حاسمة في فتح العراق . ثم تلتها بعد نحو سنتين معركة المدائن الصغيرة . وكانت المرحلة الأخيرة معركة جلولاء الكبرى ، وهي آخر معارك فتح العراق .
3 . واستعمل عمر أبا عبيد الثقفي على العراق ، فجاهد مع المثنى رضي الله عنهما ، وثبَّتا ما تمَّ تحريره ، وطردا الحاميات الفارسية الصغيرة والمتوسطة من الدساكر .
وذكر البلاذري ( 2 / 307 ) أنه بعد سنة من ولاية أبي عبيد ، أرسل رُستم القائد الفارسي ونائب الملك ، جيشاً ، فكانت معركة الجسر ، وانهزم المسلمون فيها وخسروا نحو أربعة آلاف رجل ، واستشهد أبو عبيد ، ومسعود أخ المثنى ، وكثيرمن فرسان المسلمين . وكانت المعركة في شهر رمضان سنة 13 هجرية ، فقد أخطأ المسلمون وعبروا إلى الجيش الفارسي النهر وكان مكانهم غير ملائم ، فلقوا ذا الحاجب وهو في أربعة آلاف واقتتلوا قتالاً شديداً ، وكثرت الجراحات وفشت في المسلمين . فقال سليط بن قيس : يا أبا عبيد قد كنت نهيتك عن قطع هذا الجسر إليهم فأبيت ! وقاتل سليط وأبو عبيد حتى استشهدا ، وانسحب المثنى بالمسلمين بصعوبة وهو جريح .
وقد أثرت هذه الخسارة في نفس عمر بن الخطاب كثيراً ، فلم يرسل أحداً إلى العراق إلا بعد أكثر من سنة ، ونشط المثنى ليأخذ بثأر المسلمين ، فأرسل عمر جرير بن عبد الله البجلي والياً على العراق ، فخيم على حدود العراق من جهة الحجاز ، وأرسل إلى المثنى بأمر عمر أن ينسحب من العراق كلياً ويأتي اليه !
قال ابن الأعثم ( 1 / 136 ) : « فسار جرير بن عبد الله من المدينة في سبع مائة رجل ، حتى صار إلى العراق فنزلها ، وبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني ، فكتب إليه : أما بعد يا جرير فإنا نحن الذين أقدمنا المهاجرين والأنصار من بلدهم ،
--------------------------- 608 ---------------------------
وأقمنا نحن في نحر العدو نكابدهم ليلاً ونهاراً ، وإنما أنت مدد لنا ، فما انتظارك رحمك الله لا تصير إلينا ؟ فصر إلينا وكثِّرنا بأصحابك . . .
قال فكتب إليه جرير : أما بعد فقد ورد كتابك عليَّ فقرأته وفهمته ، فأما ما ذكرت أنك الذي أقدمت المهاجرين والأنصار إلى حرب العدو ، فصدقت ، وليتك لم تفعل ! وأما قولك : إن المهاجرين والأنصار لحقوا ببلدهم ، فإنه لما قتل أميرهم لحقوا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وأما ما ذكرت أنك أقمت في نحر العدو ، فإنك أقمت في بلدك وبلدك أحب إليك من غيره .
وأما ما سألتني من المصير إليك ، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم يأمرني بذلك ، فكن أنت أميراً على قومك ، وأنا أمير على قومي . والسلام » .
أقول : هذا يكشف عن استياء عمر من توغل المثنى وخوفه من حرب الفرس ، خاصة بعد خسارة العرب في معركة الجسر ! لكن المثنى رضي الله عنه فرض عليه الأمر الواقع ، وأقنع جريراً أخيراً ، فجاء ببني بجيلة وشارك في معركة البويب رغم نهي عمر !
وقاد المثنى المعركة خير قيادة ، وكانت كما يقول ابن كثير بحجم معركة اليرموك ، وحقق المثنى فيها النصر المبين للمسلمين ، وطارد بعدها جيش الفرس ، ووسع غاراته إلى الأهواز شرقاً ، والى حدود سوريا غرباً .
والبويب : « نهر كان بالعراق موضع الكوفة ، فمهُ عند دار الرزق ، يأخذ من الفرات » . ( معجم البلدان : 1 / 512 ) .

عمر يغضب على المثنى رضي الله عنه وينتقم منه !

وأصر عمر بعد معركة البويب على الانسحاب من العراق ! وأرسل سعد بن
أبي وقاص والياً وأمره أن لا يدخل إلى العراق وأن يخيَّم في زَرود على حدود العراق من جهة الحجاز ، تبعد عن حائل نحو 170 كيلو متراً ، فنزل فيها سعد وبقي فيها نحو ستة أشهر ، وهو يصر على المثنى بتنفيذ أمر عمر بالإنسحاب وأن يأتيه بجيشه إلى زرود !
قال ابن خليفة / 87 : « وتنازع جرير والمثنى بن حارثة الإمارة ، فبعث عمر سعد بن مالك وكتب إليهما أن اسمعا له وأطيعا » . أي فلينسحب المثنى ويأتي بقواته إلى زرود !
--------------------------- 609 ---------------------------
وقد استاء المثنى والمسلمون من قرار عمر بالإنسحاب ، وانتقد عدم دخول سعد إلى العراق ، وجرت بينهما مراسلات شبيهة بمراسلاته مع جرير !
وفي هذا الجو مات المثنى فجأة ! وكان أخوه المعنى مع رأي عمر ، فذهب المعنى مع أرملة أخيه المثنى إلى سعد وخطبها سعد وتزوجها ، وأمَّر أخاه المُعَّنى مكانه . وكلامه عن أخيه يوجب الشك والريبة ، وزواج سعد بزوجة المثنى يؤكد الريبة أيضاً . وبعد وفاة المثنى رضي الله عنه أخذ الفرس يستعدون لمعركة القادسية ، حتى آخر سنة ستة عشر ، بعد سنة من معركة البويب . ( البلاذري : 2 / 314 ) .

وغضب عمر على شيعي آخر هو حاكم البحرين !

كانت ولاية البحرين تشمل البحرين الفعلية والقطيف والأحساء ، وقد وَفَدَ أهلها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسلموا طوعاً ، فعيَّن العلاء بن الحضرمي والياً عليهم . ولما رأى العلاء اضطراب حكم الفرس ، وانسحاب أكثر جيشهم من جهة العراق والبحرين ، عبر بسفنه من البحرين إلى ساحل شيراز وتوغل فيه ففتح مناطق واسعة حتى وصل جيشه إلى شيراز .
وبلغ ذلك عمر فلم يشكره ولم يرسل له مدداً ، بل غضب عليه ووبخه وعزله بحجة أنه غامر بركوب البحر وعرض المسلمين للخطر ! والسبب الحقيقي أن العلاء من جماعة علي ( عليه السلام ) ، وإذا فتح منطقة فسيكون حاكمها ، وتكون قوة لعلي ( عليه السلام ) ، لذلك أمرهم عمر بالإنسحاب .
قال ابن سعد في الطبقات ( 4 / 260 ) : « عبر العلاء إلى أهل دارين فقاتلهم فقتل المقاتلة وحوى الذراري . وبعث العلاء عرفجة بن هرثمة إلى أسياف فارس فقطع في السفن ، فكان أول من فتح جزيرة بأرض فارس ، واتخذ فيها مسجداً وأغار على باريخان والأسياف ، وذلك في سنة أربع عشرة » .
ثم وصف ابن سعد عمل العلاء وأنه أرسل القائد الأزدي عرفجة ، فعبر بجنوده من بني عبد القيس ومن انضم إليهم من الأزد ، في سفنهم إلى الساحل الفارسي الذي يقابل البحرين ، ويظهر أنه ميناء سيراف ويسمى الآن ميناء
--------------------------- 610 ---------------------------
جم ، ويبعد عن البحرين في البحر نحو 200 كيلومتر ، ويبعد عن إصطخر وشيراز نحو 300 كيلومتر ، كما تدل الخرائط .
وقد غضب عمر على العلاء غضباً شديداً وعزله عن البحرين وأمره بطاعة خصمه سعد بن أبي وقاص ! وزعم عمر أن العلاء الحضرمي يعمل لغير الله ، فرفض العلاء تنفيذ أمره ، كما رفض المثنى ، ومات فجأة كما مات المثنى ! روى ذلك الطبري ، وابن خياط ، والحموي ، والكلاعي ، والنويري ، وابن خلدون ، وغيرهم .
وقال الطبري ( 3 / 176 ) وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان « إن العلاء بن الحضرمي حمل جنداً من المسلمين ، فأقطعهم أهل فارس وعصاني ، وأظنه لم يرد الله بذلك ، فخشيت عليهم أن لا ينصروا وأن يغلبوا وينشبوا ، فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يُجتاحوا ) .
لكن غزوان أبى طاعة سعد أيضاً ، فمات كما مات المثنى والعلاء ، ولم يحكم البصرة إلا ستة أشهر !
وكلٌّ من المثنى بن حارثة ، وعتبة بن غزوان ، والعلاء الحضرمي أفضل من سعد وأكثر جهاداً ، وقد ماتوا فجأة بعد أن اعترضوا على عمر ورفضوا طاعة سعد ، فهل كان عمر يقوم بسم من يغضب عليهم ، وهل بلال وأصحابه الثلاثون ، الذين كتبوا إلى عمر من الشام يعترضون على معاوية ، فماتوا كلهم ، ماتوا بالسم ؟ !

ومع ذلك يقولون إن عمر فتح إيران ، وإن علياً ( عليه السلام ) وشيعته كانوا معارضين !

سارع تلاميذ علي ( عليه السلام ) من اليرموك إلى القادسية !

1 . في مروج الذهب ( 1 / 118 ) : « كان الفرات الأكثر من مائه ينتهي إلى بلاد الحِيرةِ ونهرها بين إلى هذا الوقت ، وهو يعرف بالعتيق ، وعليه كانت وقعة المسلمين مع رُستُم ، وهي وقعة القادسية ، فيصب في البحر الحبشي ( الخليج ) وكان البحر حينئذ في الموضع المعروف بالنّجَف في هذا الوقت ، وكانت تجيئ اليه سفن الصين والهند ، ترِد إلى ملوك الحيرة » . ومعناه : أن معركة القادسية كانت قرب النجف الأشرف ، وأن الوادي المسمى بحر النجف ، كان خليجاً متصلاً بالبصرة والخليج ، تبُحر فيه السفن !
--------------------------- 611 ---------------------------
2 . قال خليفة بن خياط / 89 : « كان رستم في ستين ألفاً من أخص ديوانه ، والمسلمون ستة آلاف أو سبعة . . . عن إبراهيم قال : كانوا ما بين الثمانية آلاف إلى التسعة آلاف ، وجاءهم قدر ألفين ، فأقاموا قدر شهر لايلقاهم العدو » .
وروى ابن أبي شيبة ( 8 / 14 ) أن النخعيين كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة : « كنت لا تشاء أن تسمع يوم القادسية : أنا الغلام النخعي ، إلا سمعته » . « فقال عمر : ما شأن النخع أصيبوا من بين سائر الناس ، أفرَّ الناس عنهم ؟ قالوا : لا ، بل وُلُّوا عِظَم الأمر وحدهم » . ( والإصابة : 1 / 196 ) .
3 . كان قائد جيش المسلمين المفترض سعد بن أبي وقاص ، لكنه كان كخالد بن الوليد لا يقاتل بنفسه ، فلم يشارك في معركة القادسية ، ولا في غيرها ! والذين قادوا المعركة هم : هاشم بن عتبة المرقال ، وحجر بن عدي ، وعمرو بن معدي كرب ، وعدد من الأبطال من تلاميذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وغاب سعد زاعماً أن في فخذه دملة ، فذهب إلى قصر العذيب ، وهو يبعد عن القادسية بضع عشرة كيلومتر ! وقد فضحته زوجته واتهمته بالجبن ! ومع ذلك قالوا إنه كان يدير المعركة من قصر العذيب ! فكيف يديرها وهو على بعد ثلاث ساعات مشياً ، أو ساعة للفارس المُجِدّ !
قال الطبري ( 3 / 76 ) : « قادس قرية إلى جانب العذيب ، فنزل الناس بها ، ونزل سعد في قصر العذيب » .
وقال الإدريسي ( 1 / 383 ) : « من القادسية إلى العذيب ستة أميال » .
والميل قريب من كيلومترين ، لأنه ثلث الفرسخ ، فالمسافة بين المعركة وسعد نحو 15 كلم ، لكن الرواة كذبوا فجعلوا قصر العذيب جنب المعركة !
وفي فتوح البلاذري ( 2 / 316 ) : « وكان مقيماً في قصر العذيب ، فجعلت امرأته وهي سلمى بنت حفصة من بني تيم الله بن ثعلبة ، امرأة المثنى بن حارثة ، تقول : وامثنياه ، ولامثنى للخيل ! فلطمها ، فقالت : يا سعد أغيرةً وجبناً » !
وفي الطبري : ( 3 / 81 ) ومعجم البلدان ( 4 / 291 ) : « قاتل المسلمون يومئذ وسعد في
--------------------------- 612 ---------------------------
القصر ينظر إليهم ، فنُسب إلى الجبن ، فقال رجل من المسلمين :
« ألم ترَ أن الله أنزل نصره * وسعدٌ بباب القادسية مُعصمُ
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة * ونسوةُ سعدٍ ليس فيهنَّ أيِّمُ »
ومن العجيب أن رواة أحداث معركة القادسية لأربعة أيام يقولون : فأمر سعد ، وقال سعد ، وكبَّر سعد ، وتقدم سعد ، ورجع سعد ! ومعناه هاشم المرقال ، أو حجر بن عدي ، أو بقية القادة الأبطال الذين خاضوا المعركة ، وفتح الله على أيديهم !
وكان المسلمون أكثر من عشرة آلاف ، منهم ألفان وأربع مئة من النخعيين جماعة مالك الأشتر ، وكان ثقل القتال عليهم . وفي نفس الوقت كانت نخبة من النخع مع الأشتر في اليرموك ، تطارد الروم في جبال تركيا بعد المعركة ! ( الكلاعي : 3 / 273 ) .

أبرز القادة الشيعة الذين شاركوا في فتح العراق وإيران

المثنى بن حارثة ، ومعه إخوته وأبناؤه وأقاربه ، وقد استشهد ابنه ثمامة في حرب الجمل مع علي ( عليه السلام ) ( أنساب الأشراف / 244 ) .
وسلمان الفارسي ، الذي نشط في دعوة الفرس إلى الإسلام ، وكان رائد المسلمين وداعيتهم ، ثم والياً على المدائن .
وعمار بن ياسر ، والي الكوفة ، وكان قائداً في معركة فتح تستر ، وهو الذي جاء بالهرمزان أسيراً إلى المدينة فأسلم على يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . ثم كان عمار قائداً في معركة نهاوند ، ومعارك فتح بقية إيران .
وحذيفة بن اليمان ، كان قائداً في معارك فتح العراق ، والقائد العام في فتح نهاوند ، وما بعدها من مدن إيران ، ثم في فتح أرمينيا ، ومناطق من آسيا .
وعدي بن حاتم الطائي ، كان قائداً في معارك فتح العراق وإيران ، والشام .
وحجر بن عدي ، كان قائداً في القادسية والمدائن وجلولاء ، وفي فتح الشام .
وأبو عبيد بن مسعود الثقفي ، أبو المختار ، كان والياً على العراق ، وقائداً لمعركة الجسر ، واستشهد فيها ( رحمه الله ) .
وهاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص ، كان قائداً في معركة أجنادين التي فتحت بها
--------------------------- 613 ---------------------------
فلسطين ، ثم في معركة اليرموك ، ثم سارع إلى القادسية .
وكان القائد العام من قبل عمه سعد فيها وفي معركة المدائن وجلولاء وحلوان ، وقائداً في معركة نهاوند ، ثم كان له دور في ترسيخ حكم المسلمين في مصر .
وقطبة بن قتادة بن الخصاصية وابنه سويد ، صحابي كان مع المثنى يغير على مسالح الفرس في البصرة .
وبشير بن الخصاصية ، وهو صحابي قائد ، كان المثنى يعتمد عليه في الإدارة والمعارك ، ويستخلفه إذا غاب ، وقد استخلفه قائداً لجيشه عندما توفي .
وعمرو بن حزم ، كان يغير مع المثنى على أطراف أرض السواد .
والنعمان بن مقرن ، وإخوته ، وهم سبعة : معقل وعقيل وسويد وسنان وعبد الرحمن ، وسابع لم يسم ، صحابة كان يعتمد عليهم علي ( عليه السلام ) . وكانوا معه عندما خرج للدفاع عن المدينة ، وكانوا قادة في فتح العراق وغيره . وكان النعمان القائد العام لمعركة نهاوند باقتراح علي ( عليه السلام ) ، وقد استشهد فيها .
ومذعور بن عدي العجلي ، كان قائداً عند المثنى في معركة الجسر ، ومعركة البويب وغيرها . وهو صحابي وفد مع المثنى إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( تاريخ دمشق : 57 / 198 ) .
وعمرو بن معدي كرب الزبيدي ، كتب اليه علي ( عليه السلام ) فجاء وأرسله إلى معركة اليرموك ، ثم سارع مع هاشم المرقال إلى القادسية وشارك فيها ، ثم في معركة جلولاء وحلوان ، وتستر ، واستشهد في معركة نهاوند .
وقيس بن مكشوح المرادي ، وهو صحابي كتب له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليساعد في قتل مدعي النبوة الأسود العنسي ، وكانت له أدوار بطولية وقيادية في الفتوحات ، فقد شارك في معركة اليرموك وسارع مع هاشم المرقال إلى العراق ، فحضر القادسية وكان قائد ميسرتها ، وكان قائداً فيما بعدها من معارك . وهو من كبار أصحاب علي ( عليه السلام ) ،
واستشهد معه في صفين .
وعطارد بن حاجب ، وأبوه حاجب زعيم بني تميم ، الذي اشتهر برهن قوسه وثيقة عند كسرى ، وقد جاء ابنه عطارد بوفد تميم إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسلم في السنة
--------------------------- 614 ---------------------------
التاسعة ، وشارك في القادسية وبعض الفتوح وابنه عمير ، وكان من أصحاب علي ( عليه السلام ) وقادته في صفين . وغيرهم كثير . . كانوا أبطالاً وقادة في معارك الفتوحات وأحداثها .

أبرزالقادة غيرالشيعة في فتح العراق وإيران

خالد بن الوليد ، كان والياً على العراق من قبل أبي‌بكر نحو سنة ، ولم يكن في عصره معارك مع الفرس أبداً ، لانشغالهم بوضعهم الداخلي . فكان عمل خالد في العراق توقيع عهود الصلح مع القرى والدساكر التي خرجت من تحت النفوذ الفارسي . وقد أغار على بعض الدساكر وقتل منها وأخذ منها أسرى . وأغار على قبائل عربية كبني تغلب وقتل منهم وسبى ، وكان منهم مسلمون فلم يصدقهم وقتلهم ، فدفع أبو بكر دية بعضهم .
ثم ذهب خالد قائداً في جيش فتح الشام ، ثم عزله عمر ، وبقي بدون صفة رسمية ، وشارك في معركة اليرموك وغيرها ، لكن لم يثبت أنه قاتل أبداً ، وقد ادعى لنفسه بطولات كبيرة واضحة الكذب كقوله برواية البخاري إنه قاتل في مؤتة وكسر تسعة سيوف ! مع أنه لما رجع إلى المدينة حثى المسلمون التراب في وجهه لانهزامه ، وتشاءموا به ! وسكن خالد في حمص وتوفي فيها .
وعتبة بن غزوان : بعثه عمر إلى البصرة في ثلاث مئة مقاتل ، وبقي فيها شهوراً ، وكره أن يكون أميره سعد بن أبي وقاص ، واستعفى . ونسبوا له فتح الأبلة في البصرة ، لكن رووا أن أهلها خرجوا اليه بالمساحي ! أي لم يكن فيها جيش للفرس ولا حاميات ، ولا كان أهلها مسلحين . كما نسبوا إلى عتبة فتح ميسان وإرسال جيش إلى فارس . ورددنا ذلك في محله .
والأشعث بن قيس الكندي : وكان يقود مقاتلي قبيلته كندة في القادسية وبعدها .
والمغيرة بن شعبة : وهو ثقفي استنابه عتبة بن غزوان على البصرة ، ووقعت له فضيحة مع امرأة محصنة زنى بها ، فسترها عمر ، ثم ولاه البصرة ، ثم الكوفة . فالأشعث والمغيرة لايعتبران قائدين عسكريين في الفتح ، بل هما واليان .
قال البلاذري ( 13 / 344 ) : « خرج المغيرة ومعه جرير بن عبد الله ، والأشعث بن قيس ، وهو يومئذ والي الكوفة ، فلقوا أعرابياً فقالوا له : ما تقول في المغيرة بن شعبة ؟ قال أعيور زنَّاء ، ترفعه إمرته وتضعه أسرته ! قالوا : فجرير بن عبد الله ؟ قال : هو بجيلة
--------------------------- 615 ---------------------------
إذا رأيتموه فقد رأيتموها ! قالوا : فالأشعث ؟ قال : لا يغزى قومه ما بقي لهم .
( أي لحنكته وحيله ) .
فقالوا له : هذا المغيرة ، وهذا جرير ، وهذا الأشعث ! فانصرف وقال : ما كنت لآتي قوماً أسمعتهم المكروه ، وقال لامرأته يا أم فلان إصرفي حمارك » .
وأبو موسى الأشعري : وكان معروفاً ببغضه لعلي والعترة ( عليهم السلام ) ، وقد بعثه عمر والياً على البصرة ، وكان القائد الرسمي لمعركة تستر ، ولم يبرز إلى أحد ولا قاتل في معركة ، فهو من نوع خالد وسعد بن أبي وقاص ، بل دونهما .
وجرير بن عبد الله البجلي : بعثه عمر والياً على العراق ومدداً للمثنى ، وأعطاه ربع الخمس من الغنائم . وشارك في معركة البويب والقادسية ، وما بعدها ، وكان له ولبجيلة دور متوسط في المعارك ، ضخَّمه الرواة .
وعياض بن غنم : الأشعري أو الفهري ، شهد اليرموك ، ونسبوا اليه أنه فتح الجزيرة والموصل .
وطليحة بن خويلد الأسدي : الذي تنبأ وانهزم إلى الشام ، ثم تاب ، وكان شجاعاً قائداً في القادسية وما بعدها ، وقد استشهد في معركة نهاوند .
والقعقاع بن عمرو التميمي ، وقد بالغ رواة الفتوح في بطولاته وأساطيره ، حتى أنكر وجوده الباحث السيد العسكري في كتابه : مئة وخمسون صحابي مختلق ، وقد وقع كثيراً في إنكار الواضحات !
وذو الخمار الأسدي : وكان من فرسان القادسية . ( الأنساب : 4 / 122 ) .
وأبو محجن الثقفي : الذي كان محبوساً لإدمانه الخمر ، فلما رأى خيل المسلمين انهزمت في القادسية طلب من امرأة سعد أن تُطلقه ْ وسيعود إلى سجنه ، فأطلقته وأعطته فرس سعد ، فحمل على العدوحملة بطل وقتل منهم ورجع إلى سجنه وتاب عن الخمر . وذكر الطبري ( 2 / 644 ) أنه هرب من أليس .
هذا ، وقد ترجمنا في كتاب قراءة جديدة للفتوحات لعدد من هؤلاء الشخصيات ، ترجمة وافية ، واقتصرنا هنا على ما هو مسيس الصلة بسيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 616 ---------------------------

علي ( عليه السلام ) يمنع تكوين إقطاعية ظالمة في العراق

أراد عمر أن يُملك أرض العراق للعسكر الفاتحين ، فوجد أن سهم المقاتل الواحد ثلاثة فلاحين مع أراضيهم الزراعية ، فمنعه علي ( عليه السلام ) من ذلك وأمره أن يتركها أرضاً خراجية يستفيد منها كل المسلمين من فتحها منهم وأجيالهم الآتية .
فقد قال البيهقي في سننه ( 9 / 134 ) والبلاذري في فتوحه ( 2 / 326 ) : « أراد عمر أن يقسم أهل السواد بين المسلمين ، وأمر بهم أن يحصوا ، فوجدوا الرجل المسلم يصيبه ثلاثة من الفلاحين يعني العلوج ، فشاور أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ذلك فقال علي : دعهم يكونون مادةً للمسلمين . فبعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم : ثمانية وأربعين ، وأربعة وعشرين ، واثني عشر » .
وبذلك نجا العراق من تكوين إقطاعة سيئة للمقاتلين وأولادهم .
* *
--------------------------- 617 ---------------------------

الفصل الثلاثون: دور تلاميذ علي ( عليه السلام ) في فتح المدائن ومعركة جلولاء

هاشم المرقال بطل أجنادين إلى اليرموك إلى القادسية والمدائن

هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، المرقال ، الزهري رضي الله عنه ، صحابي جليل ، وخطيب مُفَوَّهٌ وبطلٌ شجاع ، وشيعيٌّ صلب .
كان ضخم الجثة بطلاً قائداً في معركة أجنادين في فتح فلسطين ، ومعركة اليرموك ، وسارع بعدها مع عدد من المقاتلين إلى معركة القادسية وشارك فيها قائداً ، ثم اعتمد عليه عمه سعد بن أبي وقاص كلياً فقاد فتح المدائن ، وفتح جلولاء ، وفتح حلوان ، وفتح عدة مناطق من إيران . وسُمِّيَ المِرْقَال لأنه يَرقل برايته في الحرب ، أي يهرول فيها هرولةً خاصة .
وفي العقد الفريد ( 5 / 88 ) : يقال له المرقال لقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له : أُرْقُلْ يا ميمون ! وقلنا إنه نقيض أبيه ، لأنه صاحب إيمان وتقوى ، بينما أبوه عتبة بن أبي وقاص من عتاة قريش ، وقد بقي على شركه وعداوته للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى مات .
وقلنا إنه على عكس عمه سعد بن أبي وقاص ، لأن هاشماً من أبطال الإسلام والتاريخ ، وعمه سعد قائد شكلي لم يبرز يوماً إلى فارس ، ولا شارك بجدية في معركة أبداً ! وإذا حضر المعركة يحفظ نفسه في الخط الخلفي ! وفي معركة القادسية ذهب إلى قصر العذيب ، مدعياً أن في فخذه دُمَّلاً ، فلم يصدقه المسلمون ، وعيَّروه ووصفوه بالجُبن وقالوا فيه قصائد !
وكان سعد والي الكوفة فاستفاد منه ابن أخيه هاشم ، وكانت علاقته به جيدة مع أن رأيه فيه سئ ، وقد تزوج هاشم ابنته أم إسحاق . ( المحبر / 69 ) .
وكان سعد يفتخر بابن أخيه هاشم لشجاعته ، رغم أنه شيعي !
--------------------------- 618 ---------------------------
ربع قرن في الجهاد
خاض هاشم المرقال رضي الله عنه معارك الجهاد وقادها ، لمدة ربع قرن ، في فتوح فلسطين ، والشام ، ومصر ، والعراق ، وإيران ، ثم في حروب علي ( عليه السلام ) . وهي مدة طويلة ، والأهم من بطولاته إيمانه وإخلاصه رضي الله عنه !
وقد أرسله أبو بكر قائداً في فلسطين والشام ، قال ابن الأعثم ( 1 / 85 ) ملخصاً : « دعا أبو بكر بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وهو ابن أخي سعيد بن أبي وقاص فقال : يا هاشم إن من سعادة جِدِّك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها ، وممن يثق الوالي بوفائه وصدقه ونصحه وبأسه وشجاعته . وقد بعث أبو عبيدة بن الجراح والمسلمون يخبرونني باجتماع الكفار عليهم ، فأخرج فعسكر حتى أندب إليك الناس . .
قال هاشم : أفعل ذلك إن شاء الله . فعندها قام أبو بكر في الناس خطيباً فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إن إخوانكم من المسلمين الذين أغزيناهم إلى الشام إلى جهاد عدوهم معافون ، مدفوع عنهم مصنوع لهم ، قد ألقى الله الرعب في قلوب أعدائهم ، وقد جاءني كتاب أبي عبيدة يخبرني بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم ونزوله مدينة أنطاكية وقد اجتمع عليه خلق كثير من النصرانية .
وقد رأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم فيشد الله عز وجل بكم ظهورهم ، ويكبت بكم أعداءهم ، ويلقى الرعب في قلوبهم ، فانتدبوا رحمكم الله مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، واحتسبوا في ذلك الأجر العظيم فإنكم إن قاتلتم ونصرتم فهو الفلح والغنيمة ، وإن هلكتم فهو الشهادة والسعادة . قال : فانتدب لأبي‌بكر خلق كثير ، من همدان ، وأسلم ، وغفار ، ومزينة ، ومراد ، والأزد ، وجميع القبائل » .
وقال ابن الأعثم ( 1 / 95 ) : « ثم سار هاشم بن عتبة في ثلاثة آلاف مجهز ، حتى قدم على أبي عبيدة بن الجراح ، قال : فَسُرَّ أبو عبيدة وجميع المسلمين بقدوم هاشم بن عتبة ومن معه ، سروراً شديداً » .
وكانت أول مشاركة لهاشم في معركة أجنادين ، وهي المعركة التي فتحت على أثرها فلسطين ، وقادها هاشم مع خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهما ، فكان هو
--------------------------- 619 ---------------------------
قائد الميسرة في معارك فتح وفلسطين والشام : أجنادين ومرج الصُّفَّر وفِحل واليرموك ، وكان خالد بن سعيد قائد الخيل كلها ، في المعارك الأربعة .
أسرع هاشم بعد اليرموك إلى القادسية
وبعد اليرموك مباشرة ، سارع هاشم في نخبة من جيش المسلمين إلى العراق ، للمشاركة في معركة القادسية ، التي كانت بعد اليرموك بشهر . وبقي الأشتر وقيس بن سعد بن عبادة في الشام ولم يشاركا في القادسية ، واشتغل الأشتر بمطاردة جيش الروم المنسحب ، حتى وصل وراءهم إلى جبال اللكام في تركيا .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 60 ) : « قدم هاشم بن عتبة من قبل الشام معه قيس بن المكشوح المرادي في سبع مائة بعد فتح اليرموك ودمشق ، فتعجل في سبعين فيهم سعيد بن نمران الهمداني . فتعجل في أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفر ، منهم ابن المكشوح ، فلما دنا تعجل في ثلاث مائة فوافق الناس وهم على مواقفهم فدخلوا مع الناس في صفوفهم » .
وبعد القادسية قاد هاشم فتح المدائن
حاصر المسلمون المدائن شهوراً ، وقيل تسعة أشهر ، وقيل أكثر من ذلك وكانوا يترامونهم بالمنجنيق والسهام .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 116 ) : « وخرج هاشم وخرج سعد في أثره ، وانتهى إلى مظلم ساباط ( نفق مبني فوق الأرض ) ووقف لسعد حتى لحق به ، فوافق ذلك رجوع المُقَرَّط أسدٌ كان لكسرى قد ألَّفه وتخيَّره .
« وقيل نظر هاشم إلى الناس قد أحجموا ووقفوا فقال : ما لهم ؟ فقيل له : أسد قد منعهم ، ففرج هاشم الناس وقصد له فثاوره الأسد وضربه هاشم فقطع وصليه كأنما احتدم غضباً ، ووقعت الضربة في خاصرته » . ( الروض المعطار / 297 ) .
قال الواقدي ( 2 / 197 ) : « فلما ترتبت الصفوف كان أول من برز واشتهر وسما وافتخر فيروز ، ورطن بالفارسية وقال : يا هؤلاء العرب لقد أطمعتم أنفسكم
--------------------------- 620 ---------------------------
فيما لا تصلون إليه ، وساءت ظنونكم وزعمتم أنكم تملكون العراق وتأخذونه من أيدي الأكاسرة ، وهذا ظن لا يصير أبداً !
ونحن كتيبة كسرى أولوا الشدة والبأس والقوة والمراس ، وأنا مقدمهم والرئيس فيهم ، فليبرز إليَّ مقدمكم ويفعل مثل ما فعلت أنا من بين قومي .
قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه هاشم المرقال يجر قناته من ورائه ، وحمل عليه وحصل بينهما حرب يشيب منها الطفل ، ثم إن هاشماً طعنه في صدره فأطلع السنان من ظهره ! قال : فلما قتله هاشم ورجع إلى المسلمين قبَّله سعد بين عينيه ) .
نص الرواة على أن هاشماً قاد الجيش إلى المدائن ، ثم إلى جلولاء ، ولم يكن فيه عمه سعد . ( البلاذري : 2 / 323 ) . فلابد أنه قبله بعد رجوعه .
وهرب الشاه يزجرد إلى داخل إيران قبل وصول جيش المسلمين إلى المدائن . ثم جمع الفرس قواتهم في جلولاء وخانقين فهزمهم المسلمون .
ثم جمعوها في تستر فهزموهم . ثم كان أكبر تجمُّع للفرس في نهاوند ، وكانت معركتها سنة إحدى وعشرين للهجرة ، فهزمهم المسلمون .
وقال ابن خلدون : 2 ق 2 / 101 : « وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة ، ووجدوا حلية كسرى : ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان يجلس فيها للمباهاة ، أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين وأخذ منهم أيضاً وَقْر بغل من السيوف ، وآخر من الدروع والمغافر ، منسوبة كلها : درع هرقل وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وبهرام جور ، وسياوخش والنعمان بن المنذر . وسيف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان . . وقسم سعد الفئ بين المسلمين بعدما خمسه ، وكانوا ستين ألفاً ، فصار للفارس اثنا عشر ألفاً » .
وفي شرح النهج ( 12 / 14 ) : « جئ بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته للجواهر التي كانت عليه ، فقال : إن قوماً أدوا هذا لأمناء . فقال علي ( عليه السلام ) : إنك عففت فعفوا ، ولو رتعت لرتعوا » .
وفي فتوح الواقدي ( 2 / 205 ) : « إن هاشم بن عتبة تبع المنهزمين من جنود الملك فانتهى
--------------------------- 621 ---------------------------
سيره إلى مرج حلوان ، فالتقى بكتيبة من أهل فارس بالعدد والسلاح والهوادج والخدم والجواري والمماليك ، وقد داروا بمحفة من العود الرطب وعليها من الثياب الملونة المذهبة ، وأهلتها من الذهب مرصعة بالجواهر ، وقاتلوا دون المحفة قتالاً شديداً ، وكانت المحفة لشاهران ابنة الملك يزدجرد بن كسرى ، وكان السائر بها ساقر بن هرمز فقتله وقتل أصحابه ، وأكثر ما كان مع ساقر وولى الباقي منهزمين ، وتسلم هاشم المحفة وما حولها ، وأتوا بذلك كله إلى سعد . . ثم أشرف سعد على ما بقي من الخزائن ، فوجد صندوقاً عظيماً ظاهره وباطنه بالديباج المذهب ، وفي داخله بساط كسرى ، وهو البساط الذي كان يفتخر به على الملوك ملوك الدنيا ، كله ذهب منسوج بالحرير ، منظوم بالدر واليواقيت الملونة والمعادن والجواهر المثمنة والزمرد . وكان طوله ستين ذراعاً قطعة واحدة ، في جانب منه كالصور وفي جانب كالشجر والرياض والأزهار ، وفي جانب كالأرض المزروعة المقبلة بالنبات في الربيع . وكل ذلك من الحرير الملون والمعادن على قضبان الذهب والزمرذ والفضة . وكان الملك لا يبسطه الا في أيام الشتاء في إيوانه إذا قعد للشراب ، وكانوا يسمونه بساط النزهة والمسرات ، فيكون لهم شبه الروضة الزهراء ، فلما رآه العرب قالوا : والله هذه قطيفة زينة !
ثم إن سعداً رأى رأياً أن يُسَيَّرَ بشيراَ يبشر عمر بفتح المدائن وبقدوم الخمس وقال : فلما سمع عمر هذا المقال حمد الله وأثنى عليه . .
ثم إنه قسم البساط قطعاً بين الناس ، قال : فأصاب كل رجل منهم قطعة ، فباعها بنحو العشرين ألف دينار » !
هاشم المرقال قائد معركة جلولاء وخانقين
وقاد هاشم المرقال جيش المسلمين في معركة جلولاء الكبرى ، وبعدها ، وتقع جلولاء في شمال شرق بغداد قرب الحدود العراقية الإيرانية ، وتبعد عن بغداد 180 كيلو متراً ، وقد اتخذها الفرس مركزاً لتجميع القوات الآتية من أنحاء إيران لنجدة يزدجرد في المدائن .
--------------------------- 622 ---------------------------
قال الطبري ( 3 / 134 ) : « ففَصَل هاشم بن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ست عشرة في اثني عشر ألفاً ، منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ، ممن ارتد وممن لم يرتد ، فحاصرهم وطاولهم أهل فارس ، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلا إذا أرادوا وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفاً ، كل ذلك يعطى الله المسلمين عليهم الظفر ) .
وانشغل سعد بخزائن كسرى في المدائن ، وكتب له هاشم والمسلمون يطلبون حضوره إليهم فحضر على مضض ، ورجع ولم يذهب معهم إلى حلوان ، حيث هرب يزدجرد !
قال ابن الأعثم في الفتوح ( 1 / 216 ) : « قال : فغضب المسلمون لقعود سعد عنهم ثم أنشأ إبراهيم بن حارثة الشيباني يقول في ذلك :
أما بال سعد خامَ عن نصر جيشه * لقد جئت يا سعد بن زهرة منكرا
وأقسم بالله العلي مكانه * لو أن المثنى كان حياً لأصحرا
وقاتل فيها جاهداً غير عاجز * وطاعن حتى يحسب الجون أحمرا
ولكن سعداً لم يرد أجر يومه * ولم يأتنا في يوم بأس فيعذرا
أقول : لاحظ أن أخ المثنى كان في جلولاء ، وهجا سعداً لعدم مشاركته المسلمين في الحرب ، وعيَّره بأخيه المثنى !
وقال البلاذري ( 2 / 324 ) : « فلقوهم وحجر بن عدي الكندي على الميمنة ، وعمرو بن معدي كرب على الخيل ، وطليحة بن خويلد على الرجال ، وعلى الأعاجم يومئذ خرزاد أخو رستم . فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله ، رمياً بالنبل وطعناً بالرماح حتى تقصفت ، وتجالدوا بالسيوف حتى انثنت .
ثم إن المسلمين حملوا حملة واحدة قلعوا بها الأعاجم عن موقفهم وهزموهم ، فولوا هاربين ، وركب المسلمون أكتافهم يقتلونهم قتلاً ذريعاً حتى حال الظلام بينهم ، ثم انصرفوا إلى معسكرهم .
وجعل هاشم بن عتبة جرير بن عبد الله بجلولاء في خيل كثيفة ليكون بين المسلمين وبين عدوهم . فارتحل يزدجرد من حلوان ، فأتوا مهروذ ، فصالح دهقانها هاشماً على جريب من دراهم » .
--------------------------- 623 ---------------------------
ونلاحظ أن القادة ما عد طليحة شيعة لعلي ( عليه السلام ) .
سعد ينصب هاشماً قائداً عاماً لجيشه
قال ابن الأعثم ( 1 / 210 ) : « وكتب سعد بن أبي وقاص إلى ابن أخيه هاشم بن عتبة فجعله أمير المسلمين ) .
وكان هاشم يباشر المعركة بنفسه ويديرها ، واستمر في منصبه القيادي حتى بعد أن عزل عمر سعداً عن ولاية الكوفة ، وولى عمار بن ياسر . فقد اعتمد عمار على هاشم أيضاً في الإعداد لمعركة نهاوند .
هاشم المرقال قائداً في معركة نهاوند
رغم كل هزائمهم فقد استعاد الفرس المبادرة ، وجمعوا قوات كبيرة في نهاوند بلغت مئة وخمسين ألفاً ، واستعادوا كثيراً من المناطق التي فتحها المسلمون داخل إيران ! وكتب عمار بن ياسر والي الكوفة إلى عمر بن الخطاب ، كما روى الكلاعي وابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 291 ) قال :
« قد اجتمعوا بأرض نهاوند في خمسين ومائة ألف ، من فارس وراجل من الكفار ، وقد كانوا أمروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، وسنفاد بن حشروا ، وخهانيل بن فيروز ، وشروميان بن إسفنديار ، وإنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا على أنهم يخرجوننا من أرضنا ويأتونكم من بعدنا . وهم جمع عتيد وبأس شديد ودواب فره وسلاح شاك ، ويد الله فوق أيديهم . فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، وقد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، وقد عزموا أن يقصدوا المدائن ويصيروا منها إلى الكوفة ، وقد والله هالنا ذلك ، وما أتانا من أمرهم وخبرهم » .
مدح علماء السنة هاشم المرقال
مدح علماء السنة وأئمتهم هاشم المرقال وروى عنه الستة ، ووثقه ابن معين والنسائي ، وأحمد والبزار . وحدث عن ابن المسيب ، وعامر ، وعائشة وسعد بن مالك ،
--------------------------- 624 ---------------------------
وإسحاق بن عبد الله ، وغيرهم . وحدث عنه موسى بن يعقوب الزمعي ، ومالك وأبو أسامة . . وجماعة . ( تهذيب التهذيب : 11 / 20 ) . وعقدوا لمناقبه باباً كالحاكم في المستدرك ( 3 / 395 ) .
وفي الإستيعاب ( 4 / 1546 ) : « كان من الفضلاء الخيار ، وكان من الأبطال البُهْم ، فُقئت عينه يوم اليرموك ، ثم أرسله عمر من اليرموك مع خيل العراق إلى سعد كتب إليه بذلك ، فشهد القادسية وأبلى بها بلاء حسناً ، وقام منه في ذلك ما لم يقم من أحد ، وكان سبب الفتح على المسلمين . وكان بهمةً من البَهم فاضلاً خيراً . وهو الذي افتتح جلولاء فعقد له سعد لواء ووجهه ، وفتح الله عليه جلولاء ولم يشهدها سعد » . والبُهْمَة : الفارس الشديد البأس ، لأنه مبهم لا يُنفذ اليه . ( الصحاح : 5 / 1875 ) .
وقد روى المرقال أحاديث في فضائل أهل‌البيت ( عليهم السلام ) كحديث الغدير ، وصحح عنه الحاكم والذهبي بشرط الشيخين ( 4 / 398 ) : « أن رسول الله اضطجع ذات يوم فاستيقظ وهو خائر النفس ، وفي يده تربة حمراء فقلت : ما هذه التربة يا رسول الله ؟ فقال : أخبرني جبريل أن هذا يقتل بأرض العراق للحسين فقلت لجبريل : أرني تربة الأرض التي يقتل بها ، فهذه تربتها » .
وقال في الإصابة ( 6 / 404 ) : « لما جاء خبرعثمان إلى أهل الكوفة قال هاشم لأبي موسى الأشعري : تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الأمة علي ! فقال : لا تعجل فوضع هاشم يده على الأخرى فقال : هذه لعلي وهذه لي وقد بايعت علياً ، وأنشد :
أبايع غير مكترثٍ علياً * ولا أخشى أميراً أشعريا
أبايعه وأعلم أن سأرضي * بذاك الله حقاً والنبيا » .
ومدحه علماء الشيعة فوصفوه بأنه صحابي جليل خَيِّرٌ فاضلٌ رضي الله عنه ، من خواص أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شهد معه حرب الجمل ، وكان حامل لوائه الأعظم يوم صفين ، واستشهد فيها هو وعمار بن ياسر ، فصلى عليهما علي ( عليه السلام ) ودفنهما بثيابهما ولم يُغسِّلهما ، وأعطى لواءه لابنه عبد الله ، وكان زعيماً في البصرة ، ورئيس الشيعة فيها .
( معجم السيد الخوئي : 15 / 241 ) .
وستأتي بعض أخباره في الجمل وصفين وكان القائد العام لجيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 625 ---------------------------
ففي رجال الكشي ( 1 / 281 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية . فأما الخمسة فمحمد بن أبي‌بكر رحمة الله عليه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس . وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال . وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان : إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبو الربيع » .
وقد فضَّله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على محمد بن أبي‌بكر ، مع حبه له رضي الله عنهما ، ففي نهج البلاغة ( 1 / 116 ) : « من كلام له ( عليه السلام ) لما قلد محمد بن أبي‌بكر مصر فمُلكت عليه فقُتل : وقد أردتُ تولية مصر هاشم بن عتبة ، ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة ولا أنهزهم الفرصة . بلا ذم لمحمد بن أبي‌بكر ، فلقد كان إليَّ حبيباً وكان لي ربيباً » . ( الغارات : 1 / 300 ) .
وجهه علي ؟ ع ؟ إلى الشهادة فقال له : يا هاشم إلى متى تأكل من خبز الدنيا !
وقرت عين هاشم بالفوز بالشهادة بين يدي مولاه ( عليه السلام ) ، فقاتل في صفين قتال الأبطال حتى استشهد هو وعمار في يوم واحد !
ففي وقعة صفين / 353 : « أن هاشم بن عتبة دعا في الناس عند المساء : ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فليقبل . فأقبل إليه ناس فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشام مراراً ، فقاتل قتالاً شديداً ثم قال لأصحابه : لايهولنكم ما ترون من صبرهم ، فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها ، وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق . يا قوم إصبروا وصابروا واجتمعوا ، وامشوا بنا إلى عدونا على تؤده رويداً واذكروا الله ، ولا يسلمن رجل أخاه ، ولا تكثروا الالتفات ، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين .
وكان هاشم من خاصة أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكان يمازحه ، وأخبره بيوم
--------------------------- 626 ---------------------------
شهادته وبشره بأنه سيأكل هذا اليوم من طعام الجنة .
قال نصر / 346 : « ثم إن علياً ( عليه السلام ) دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة ومعه لواؤه فقال له :
يا هاشم ، حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء ؟ ! فقال هاشم : لأجهدن على ألا أرجع إليك أبداً ! قال علي ( عليه السلام ) : إن بإزائك ذا الكلاع وعنده الموت الأحمر ! وكثرت القتلى وحمل
ذو الكلاع فاجتلد الناس فقتلا جميعاً . وأخذ ابن هاشم اللواء ، وهو يقول :
أهاشم بن عتبة بن مالك * أعزز بشيخ من قريش هالك
تخبطه الخيلات بالسنابك * في أسود من نقعهن حالك
أبشر بحور العين في الأرائك * والروح والريحان عند ذلك » .
وقال هاشم ( رحمه الله ) : أيها الناس ، إني رجل ضخم فلا يهولنكم مسقطي إن أنا سقطت ، فإنه لايفرغ مني أقل من نحر جزور ، حتى يفرغ الجزار من جزرها » . ( صفين / 353 ) .
وفي الأخبار الطوال / 183 : « فلما أصبح عليٌّ غادى أهل الشام القتال ، ودفع رايته العظمى إلى هاشم بن عتبة فقاتل بها نهاره كله ، فلما كان العشي انكشف أصحابه انكشافه ، وثبت هاشم في أهل الحفاظ منهم والنجدة ، فحمل عليهم الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه طعنة جائفة ، فلم ينته عن القتال .
ووافاه رسول علي ( عليه السلام ) يأمره أن يقدم رايته ، فقال للرسول : أنظر إلى ما بي ، فنظر إلى بطنه فرآه منشقاً ! فرجع إلى علي فأخبره ، ولم يلبث هاشم أن سقط ، وجال أصحابه عنه ، وتركوه بين القتلى ، فلم يلبث أن مات . وحال الليل بين الناس وبين القتال ، فلما أصبح علي ( عليه السلام ) غَلَّسَ بالصلاة ، وزحف بجموعه نحو القوم على التعبية الأولى ، ودفع الراية إلى ابنه عبد الله بن هاشم بن عتبة وتزاحف الفريقان فاقتتلوا )
وفي أسد الغابة ( 5 / 49 ) : « فقطعت رجله يومئذ ، وجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك ويقول : الفحل يحمى شوله معقول . وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة :
يا هاشم الخير جُزيت الجنة * قاتلتَ في الله عدو السنة » .
« ولما قتل هاشم جزع الناس عليه جزعاً شديداً ، وأصيب معه عصابة من أسلم من القراء ، فمرَّعليهم علي ( عليه السلام ) وهم قتلى حول أصحابه الذين قتلوا معه ، فقال :
--------------------------- 627 ---------------------------
جزى الله خيراً عصبةً أسلميةً * صباحَ الوجوه صُرِّعُوا حولَ هاشمِ
يزيدٌ وعبد الله بشرٌ ومعبدٌ * وسفيانُ وابنا هاشم ذي المكارم
وعروة لا يبعد ثناه وذكره * إذا اخترطت يوماً خفاف الصوارم
ثم قام عبد الله بن هاشم ، وأخذ الراية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس ، إن هاشماً كان عبداً من عباد الله ، الذين قدر أرزاقهم ، وكتب آثارهم ، وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ، فدعاه ربه الذي لا يعصى فأجابه ، وسلم لأمر لله ، وجاهد في طاعة ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأول من آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلين ما حرم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان ، فزين لهم الإثم والعدوان ، فحق عليكم جهاد من خالف سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعطل حدود الله ، وخالف أولياء الله . فجودوا بمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى ، والملك الذي لا يبلى . فلو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية ابن أكالة الأكباد . فكيف وأنتم ترجون ما لا يرجون » . ( وقعة صفين / 356 ) .

أخوة هاشم المرقال وأولاده

كان لهاشم المرقال أبناء مثله شيعة ، وكان له إخوة قادة ، ومن إخوته حمزة بن عتبة ، وكان مع علي ( عليه السلام ) في صفين واستشهد فيها . كما في وقعة صفين / 278 ، وذكر الحاكم نافع بن عتبة ( 3 / 430 ) وذكره ابن حبان في ثقاته ( 3 / 412 ) وذكر أن له صحبة ورواية ، وأنه هو الذي استشهد في صفين .
وذكر البخاري في تاريخه الصغير ( 2 / 72 ) هاشم بن هاشم ، وذكره ابن حبان في ثقاته ( 2 / 342 ) والذهبي في سيره ( 6 / 206 ) . وذكر خليفة / 185 ، ابنه إسحاق . وذكر ابن حجر في الإصابة ( 3 / 201 ) ابنه سليمان ، وفي تقريب التهذيب ( 1 / 229 ) ابنه حفصاً . كما ذكروا له ابنين استشهدا معه في صفين ، وأنهما المقصودان بقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رثائه : وابنا هاشم ذي المكارمِ .
--------------------------- 628 ---------------------------
وذكر له في تاريخ دمشق ( 33 / 347 ) ثلاثة أولاد ، عبد الرحمن وعبد الله وعبد الملك ، وأمهم أمية بنت عوف من الأزد . وذكر في الإصابة ( 4 / 601 ) ابنته درة .

عبد الله بن هاشم المرقال بطلٌ كأبيه

أشهر أبنائه عبد الله ، واشتهر بأجوبته المفحمة لمعاوية وعمرو بن العاص ، لما قبض عليه بعد صفين . وكان وجيه الشيعة في البصرة .
ففي شرح النهج ( 8 / 32 ) ومروج الذهب ( 3 / 8 ) عن أبي عبيد الله المرزباني قال :
« إن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي ( عليه السلام ) بعث زياداً على البصرة ونادى منادى معاوية : أمن الأسود والأحمر بأمان الله ، إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة ! فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب ولا يعرف له خبراً ، حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة فقال له : أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة ، أكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية ! فدعا كاتبه فكتب : من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بنى مخزوم ففتشه داراً داراً حتى تأتى إلى دار فلانة المخزومية ، فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق رأسه وألبسه جبة شعر وقيده وغل يده إلى عنقه واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غطاء ، وانفذ به إليَّ . . .
فاقتحم الدار واستخرج عبد الله منها ، فأنفذه إلى معاوية ، فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصباً كثيراً ، ومن الهجير ما غيَّر جسمه ، وكان معاوية يأمر بطعام ، فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش ولأشراف الشام ووفود العراق . فلم يشعر معاوية إلا وعبد الله بين يديه وقد ذبل وسَهِمَ وجهه فعرفه ولم يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية : يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا الفتى ؟ قال لا ، قال : هذا ابن الذي كان يقول في صفين :
إني شَرَيْتُ النفس لما اعتلَّا * وأكْثَرَ اللوم وما أقلَّا
أعور يبغي أهله محلَّا * قد عالج الحياة حتى ملَّا
لا بد أن يَفُلَّ أو يُفَلا * أشلُّهم بذي الكعوب شلا
لا خير عندي في كريمٍ ولَّى
--------------------------- 629 ---------------------------
دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب ، فاشخب أوداجه على أسباجه ، ولا تردَّه إلى أهل العراق ، فإنه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق ، وحزب إبليس ليوم هيجاء ، وأن له هوى سيرديه ، ورأياً سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة سيئة مثلها .
فقال عبد الله : يا عمرو إن أُقتَل فرجلٌ أسلَمه قومه وأدركه يومه ، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ، ونحن ندعوك إلى النزال ، وأنت تلوذ بسمال النطاف ، وعقائق الرصاف ، كالأمة السوداء ، والنعجة القوداء ، لا تدفع يد لامس !
فقال عمرو : أما والله لقد وقعت في لهاذم شَذقم للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتاً من مخاليب أمير المؤمنين .
فقال عبد الله : أما والله يا ابن العاص إنك لبطر في الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم إذا وليت ، هيابة إذا لقيت ، تهدر كما يهدر العَوْد المنكوس المقيد ، بين مجرى الشول لايستعجل في المدة ، ولا يرتجى في الشدة ، أفلا كان هذا منك إذا غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً ، ولم يمزقوا كباراً ، لهم أيدٍ شداد ، وألسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل !
فقال عمرو : أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه ، وتبق أمعاؤه ، وتضطرب أطلاؤه ، كأنما انطبق عليه صمد .
فقال عبد الله : يا عمرو ، إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوباً غادراً ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يسامونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ إليك عقلك ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القَعود الذي أثقله حمله . فقال معاوية : إيهاً عنكما ، وأمر باطلاق عبد الله ) .
أقول : كان معاوية يتحالم ، لأنه لا يريد أن يفتح معركة مع بني زهرة ، فيكون لهم ثأر عنده بقتل ابن المرقال . أما عمرو العاص ، فهو زنيم لا يعرف الحلم ولا التحالم .
* *
--------------------------- 630 ---------------------------

حجر بن عدي الكندي راهب الصحابة وقائد في الفتوحات

وقد ترجمنا له في : قراءة جديدة في الفتوحات ( 2 / 327 ) ونورد هنا نقاطاً حوله :
1 . حجر بن عدي الكندي ، صحابيٌّ جليل ، وقائدٌ في الفتوح ، كان كثيرالعبادة حتى وصفوه براهب الصحابة . قال الحاكم ( 3 / 468 ) : « ذكر مناقب حجر بن عدي رضي الله عنه ، وهو راهب أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » . وكان باراً بأمه محباً لها ، يرتب مكان نومها بيديه ، ثم ينام فيه ليطمئن أنه ممهد ! ( تاريخ دمشق : 12 / 212 . ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 76 ) .
2 . كان قائداً في فتح العراق وإيران ، وقائد الميسرة في معركة القادسية ، وقائد الميمنة في فتح المدائن ، وفي معركة جلولاء ، وشارك في فتح الشام ، وهو الذي فتح مرج عذراء ، الذي قتله فيه معاوية ! ( المحبر / 292 والطبري : 3 / 135 ، وابن الأعثم : 1 / 211 ، والطبقات : 6 / 217 ، والغارات : 2 / 812 ) .
3 . ظهرت له كرامات في حروبه وشهادته ، وكان أول من اقتحم بفرسه نهر دجلة العريض في فتح المدائن ، فقد طال اصطفاف المسلمين والفُرس ، وكان الفُرس على الضفة الأخرى لدجلة ، فتقدم حِجْر وقرأ : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ . وأقحم فرسه وهو يقول باسم الله ، فعبر وعبر المسلمون على أثره ! فلما رآهم العدو قالوا : ديوان ديوان ! ( جمع دِيو : الغول ) فهربوا فدخلنا عسكرهم » . ( كرامات الأولياء اللالكائي / 152 ، وتفسير ابن كثير : 1 / 419 ) .
4 . تحمل اضطهاد معاوية ، مع عدد من أصحابه من رؤساء القبائل وقادة الإسلام وفرسانه ، الذين فتحوا العراق والشام ، فمنهم مثلاً : « سعيد بن نمران الهمداني الناعطي ، كان كاتباً لعلي ( عليه السلام ) وأدرك من حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعواماً وشهد اليرموك ، وسار إلى العراق مدداً لأهل القادسية ، وكان من أصحاب حجر بن عدي ، وسيَّره زياد مع حجر إلى الشام ، فأراد معاوية قتله مع حجر ، فشفع فيه حمزة بن مالك الهمداني ، فخلى سبيله » . ( أسد الغابة : 2 / 316 ) .
وكفى بذلك دليلاً على اضطهاد الخلافة القرشية لقادة الفتح ، فالعسكريون الأبطال يضحون ويفتحون البلاد ويسلمونها إلى الخليفة ، فيسلمها إلى أجبن الناس وأبعدهم عن أخلاق الجهاد والفروسية ، فيضطهدون الفاتحين ، ويزعمون أنهم هم جاهدوا وفتحوا !
--------------------------- 631 ---------------------------

وحاول معاوية إجباره على لعن علي ( عليه السلام )

ففي شرح النهج ( 4 / 58 ) : « وأمر المغيرة بن شعبة وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية ، حجرَ بن عدي أن يقوم في الناس فليلعن علياً ! فأبى ذلك فتوعده فقام فقال : أيها الناس ، إن أميركم أمرني أن ألعن علياً فالعنوه ! فقال أهل الكوفة :
لعنه الله ، وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد » .
5 . وكان حجرٌ يردد قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الموت في حب علي ( عليه السلام ) شهادة ! ففي مختصر أخبار الشعراء للمرزباني / 49 : « لما قَدِمَ حجر عذراء قال : ما هذه القرية ؟ فقيل : عذراء . فقال : الحمد لله ، أما والله إني لأول مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأول مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثم أنا اليوم أحمل إليها
مصفداً في الحديد !
ثم قال حجر للذي أمر بقتلهم : دعني أصلي ركعتين خفيفتين فلما سلم انفتل إلى الناس فقال : لولا أن يقولوا جزع من الموت لأحببت أن يكونا أنفس مما كانتا ، وأيم الله لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ما هاتان بنافعتيَّ شيئاً ، ثم أخذ ثوبه فتحزَّم به ، ثم قال لمن حوله من أصحابه : لاتحلوا قيودي فإني أجتمع ومعاوية على هذه المحجة !
ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص إليه حجر فقال : ألم تقل إنك لم تجزع من الموت ؟ فقال : أرى كفناً منشوراً ، وقبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع ! أما والله لئن جزعت لا أقول ما يسخط الرب ! فقال له : فابرأ من علي وقد أعدَّ لك معاوية جميع ما تريد إن فعلت ! فقال : ألم أقل إني لا أقول ما يسخط الرب ! والله لقد أخبرني حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيومي هذا !
ثم قال : إن كنت أمرت بقتل ولدي فقدمه فقدمه فضربت عنقه ، فقيل له : تعجلت الثكل ! فقال : خفت أن يرى هوْل السيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي ( عليه السلام ) ، فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين !
ثم التفت إلى بقية أصحابه فرأى منهم جزعاً فقال : قال لي حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
--------------------------- 632 ---------------------------
يا حجر تقتل في محبة عليٍّ صبراً ، فإذا وصل رأسك إلى الأرض مادت وأنبعت عين ماء فتغسل الرأس ! فإذا شاهدتم ذلك فكونوا على بصائركم ، وقدم فضربت عنقه فلما وصل رأسه إلى الأرض مادت من تحته وأنبعت عين ماء فغسلت الرأس !
قال : فجعل أصحابه يتهافتون إلى القتل ، فقال لهم أصحاب معاوية : يا أصحاب علي ما أسرعكم إلى القتل ! فقالوا : من عرف مستقره سارع إليه » !
6 . كان لقتل حِجْرٍ وقع شديد على شخصيات المسلمين
فقد غضب الحسين ( عليه السلام ) لقتله وعائشة والصحابة وأخيار الأمة .
وقالت عائشة لمعاوية ( تاريخ دمشق : 12 / 226 ) : « ما حملك على قتل حجر وأصحابه ؟ فقال : يا أم المؤمنين أني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة وأن بقاءهم فساد للأمة ! فقالت : سمعت رسول الله يقول : سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء » .
راجع : الطبقات ( 6 / 219 ، والطبري : 4 / 208 ، والاستيعاب : 1 / 331 ، وأنساب الأشراف / 1265
والروض الأنف : 3 / 366 ) .
وفي تاريخ دمشق ( 12 / 227 ) : « عن علي ( عليه السلام ) قال : يا أهل الكوفة ، سيقتل فيكم سبعة نفر خياركم ، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود » .
وكان في صفين قائد ميمنة علي ( عليه السلام ) ( الطبري : 4 / 63 ) وقائد قوات كندة . ( خليفة 146 ) .
7 . وقتل معاوية بدون حجة إلا تشيعه لعلي ( عليه السلام ) رغم أنه كان في بنود صلحه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) أن لا يتعقب أحداً من شيعة علي ( عليه السلام ) .
واعترف معاوية بجريمته فقال : « ما قتلت أحداً إلا وأنا أعرف فيمَ قتلتُه وما أردت به ! ما خلا حجر بن عدي فإني لا أعرف فيمَ قتلته » . ( تاريخ دمشق : 12 / 231 ) .
وكان قتله في صفر سنة إحدى وخمسين هجرية ( الطبري : 4 / 187 ، وتاريخ خليفة بن خياط / 160 ، ومستدرك الحاكم : 3 / 468 ، ومعارف ابن قتيبة / 178 ) .
8 . كان الربيع بن زياد المذحجي من قادة الفتوح ، وهو يشبه حجر بن عدي الكندي رضي الله عنهما ، وعندما قتل حجر كان حاكم خراسان .
قال ابن سعد في الطبقات ( 6 / 159 ) : « وكان عمر يقول : دلوني على رجل إذا كان
--------------------------- 633 ---------------------------
في القوم وهو أمير ، فكأنه ليس بأمير ، وإذا كان فيهم وهو غير أمير فكأنه أمير . فقالوا : ما نعلمه إلا الربيع بن زياد بن أنس ، وكان متواضعاً خيراً ، وقد ولي خراسان ،
وفتح عامتها » .
وقد نزل عليه قتل حجر بن عدي كالصاعقة ، فقال : ذلت العرب بعد قتل حجر صبراً !
9 . وقُتل مع حِجْر خمسة من أصحابه ضربت أعناقهم رضي الله عنهم وهم : شريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسي ، ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري ، وكدام بن حيان العنزي .
أما السابع عبد الرحمن بن حسان العنزي ، فأعاده معاوية إلى زياد بن أبيه ، وأمره أن يدفنه حياً في الكوفة ليرهب به الناس !
وتوسط لهم الصحابة وزعماء القبائل والشخصيات ، فلم يقبل معاوية وساطتهم إلا في سبعة فأطلقهم ، وهم :
كريم بن عفيف الخثعمي ، وعبد الله بن حوية التميمي ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء بن سمي البجلي ، والأرقم بن عبد الله الكندي ، وعتبة بن الأخنس من
بني سعد بن بكر ، وسعيد بن نمران الهمداني » . ( تاريخ دمشق : 8 / 27 ) .
10 . وأصيب معاوية بالهذيان قبل موته فكان يهذي باسم علي ( عليه السلام ) وحجر ، وعمرو بن الحمق .
قال ابن الأعثم في الفتوح ( 4 / 344 ) : « وجعل معاوية يبكي لما قد نزل به . . وكان في مرضه يرى أشياء لا تسره ! حتى كأنه ليهذي هذيان المدنف وهو يقول : إسقوني إسقوني فكان يشرب الماء الكثير فلايروى ! وكان ربما غُشيَ عليه اليوم واليومين فإذا أفاق ينادي بأعلى صوته : ما لي ومالك يا حجر بن عدي ! مالي وما لك يا عمرو بن الحمق ! مالي ومالك يا ابن أبي طالب » !
وبعد أن قتل معاوية حجراً ، أمر عامله فهدم داره بالكوفة ! ( الطبري : 4 / 536 ) .
* *
--------------------------- 634 ---------------------------

الفصل الحادي والثلاثون: أسلم الهرمزان حاكم الأهواز على يد علي ( عليه السلام )

الهرمزان حاكم الأهواز ، أخ زوجة كسرى