سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام - ج 5

--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام عليه السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الخامس
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام عليه السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الخامس
الطبعة الأولى
1440 - 2018
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
سر شناسه ، كورانى ، على ، 1944 - م . / Kurani Ali
عنوان ونام پديد آور : سيره أمير المؤمنين ( ع ) / على الكوراني العاملي .
مشخصات نشر : قم : دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 - مشخصات ظاهري : ج .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 154 ج 5
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
يادداشت : عربى .
مندرجات : ج . 5 . غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام ( ع )
موضوع : علي بن أبي طالب ( ع ) ، امام أول ، 23 قبل از هجرت - 40 ق .
موضوع : 600 - 661 ، Ali ibn abi - Talib , Imam I
رده بندى كنگره : BP 37 / ك 85 س 13969
رده بندى ديويى : 297 / 951
شماره كتابشناسى ملى : 4992656


سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
غزو معاوية لمصر وحرب النهروان وشهادة الإمام ( ع )
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ربيع الثاني 1440 - 2018 Nov
المطبعة : باقري - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 2000 نسخة .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 15 - 4
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------

الفصل السادس والثمانون: وضع دولة الإمام ( ( ع ) ) بعد التحكيم

الفرق بين وضع الأمة في حرب الجمل وفي صفين وبعده

1 . كانت دعوة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى حرب الجمل ثقيلة على الناس ، واستجابتهم بطيئة قليلة ، فبالكاد استطاع ( عليه السلام ) أن يجمع اثني عشرألفاً .
بينما جندت عائشة والزبير وطلحة بسهولة مئة وعشرين ألفاً ، كما نص البلاذري وسُليم ، وإن كان أكثرهم أحداثاً ، حسب تعبير عائشة .
أما دعوة الإمام ( عليه السلام ) إلى حرب معاوية في صفين ، فقد كانت خفيفة على الناس ، وكانت استجابتهم واسعة ، فاستطاع أن يجمع سبعين ألفاً بسهولة لأن صفين جاءت بعد انتصاره في حرب الجمل ، وبعد نقله العاصمة إلى الكوفة ، فكان أهل العراق يشعرون بأن حرب معاوية حربهم ، لأن عاصمة الإسلام عندهم ويجب إخضاع البغاة من أهل الشام لعاصمتهم .
2 . أما بعد صفين وبعد تحكيم الحكمين ، فقد اتضح للرأي العام خيانة الحكمين ، وأن عمرو العاص لعب لعبة الشيطان على أبي موسى ! فسبَّبَ ذلك غضباً شديداً عند أهل العراق ، وكان رأي أكثرهم العودة إلى قتال معاوية لإرغامه على قبول الحق ، والدخول في بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لكن عوامل طرأت على الأمة سببت تثاقلهم عن الحرب ، وهي :
الأول : أنهم تعبوا في حرب صفين لتقارب القوتين وكثرة الخسائر ، ولذلك سكتوا أمام خيانة الأشعث وكندة ومن معهم وضغطهم على الإمام ( عليه السلام ) لإنهاء المعركة والقبول بالتحكيم ، ثم أصيبوا بالإحباط من التحكيم وشيطنة عمرو العاص على ممثلهم أبي موسى الأشعري !
--------------------------- 6 ---------------------------
وكان المفروض فيهم بعد انكشاف اللعبة أن يخفوا في الاستجابة ، لكنهم تباطؤوا واستثقلوا الحرب ، لأن خسائرها وجحيمها ما زال ماثلاً في ذاكرتهم ، فهم يخافون أن تكون الحرب الثانية كالأولى !
والثاني : أن أهل العراق تفرقوا ، وظهرفيهم الخوارج المخالفون للإمام ( عليه السلام ) !
والثالث : خسارة مصر وانضمامها إلى حكم معاوية ، فكان الناس يرون ذلك خسارة استراتيجية لعلي ( عليه السلام ) ، وانتصاراً بارزاً لمعاوية .
والرابع : شهادة عمار والأشتر وهاشم المرقال رضوان الله عليهم ، وقد كانوا وزراء أقوياء محركين للناس وأصحاب نفوذ وهيبة فيهم .
وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال ( الطبري ( 2 / 72 ) : « إن علياً وجَّهَ الأشتر إلى مصرفادعوا الله أن يكفيكموه ، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر ! وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر ، فقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قَطعتُ إحداهما يوم صفين يعني عمار بن ياسر ، وقَطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر » .
والخامس : قوَّى معاوية عملاءه في العراق ، وعلى رأسهم الأشعث بن قيس ، فكانوا يراسلونه باستمرار ويذهبون اليه سراً ، وكان يمدهم بالمال والخطط ! وقد صرح هو بذلك ، قال البلاذري ( 2 / 383 ) : ( إن معاوية لما بويع وبلغه قتال عليٍّ أهل النهروان ، كاتب وجوه من معه مثل الأشعث بن قيس وغيره ، ووعدهم ومنَّاهم وبذل لهم حتى مالوا إليه ، وتثاقلوا عن المسير مع علي ، فكان يقول فلا يلتفت إلى قوله ، ويدعو فلا يسمع لدعوته ، فكان معاوية يقول : لقد حاربت علياً بعد صفين بغير جيش ولا عناء ) .
وبهذه العوامل رأى السياسيون من رؤساء القبائل ، أن ميزان القوى أخذ يميل إلى معاوية ، لطاعة أهل الشام له ، وأغلبهم إنما يقاتلون مع الأقوى على أمل النصر ، ويمتنعون عن القتال مع مقابله أو يتثاقلون .
والسادس : أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخبرهم بأنه سوف يستشهد ، وأن معاوية سيغلب ويحكم بعده ، فكانت دعوته إلى الحرب دعوة إلى إتمام الحجة والمعذرة إلى الله تعالى ،
--------------------------- 7 ---------------------------
قبل وقوع قدر محقق ! وطبيعي في هذا الجو أن يتباطأ الناس ويتثاقلوا ، إلا الفئة الممتازة المملوءة غيرة وتديناً .
وهذا بعكس حربهم للخوارج التي كانت نتيجتها برأيهم محسومة لمصلحة الإمام وجمهور المسلمين ، وإن كانت صعبة عليهم نفسياً .
أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فكان يرى أنه يجب أن يخبر المسلمين بما يكون في المستقبل ، وأن نفع ذلك في تثبيت الدين في الأمة وترشيدها أكثر من ضرره !
وقد أجاب على رسالة أخيه عقيل ( شرح النهج : 2 / 120 ) التي تقدمت في ترجمة عقيل : ( فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه ، فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس معي عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة ، لأنني محق والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت على الحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقاً . وأما ما عرضت به من مسيرك إليَّ ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك ، فأقم راشداً محموداً ، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت ، ولا تحسبن ابن أمك ولو أسلمه الناس متخشعاً ولا متضرعاً ، إنه لكما قال أخو بني سليم :
فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب ) .
والخلاصة : أنه كان مع علي ( عليه السلام ) العصبة للنبي ( ( عليهما السلام ) ) والإسلام ، متمثلة بالمهاجرين والأنصار . ومعه العصبة العراقية لكنها كانت عصبة ناشئة ممزوجة بالعصبة اليمانية ، وكانت كندة ثقل اليمانيين مطيعة للأشعث ، كما كانت مذحج مطيعة للأشتر رضي الله عنه . وكانت العصبة العراقية لربيعة والقبائل العربية الأخرى ، أصفى عناصرالعصبة للعراق ، لكن الثقل كان لليمانيين ، وهم لا يرون لربيعة وزناً ، والقبائل العراقية أقل منها .
وصف نصر بن مزاحم / 227 ، تعبئة معاوية للقبائل بصفين فقال : ( فجاء بحمير فجعلهم بإزاء ربيعة على قرعة أقرعها ، فقال ذو الكلاع : بإستك من سهم لم تبغ الضراب ! كأنه أَنِفَ من أن تكون حمير بإزاء ربيعة ، فبلغ ذلك الخندف الحنفي ،
--------------------------- 8 ---------------------------
فحلف بالله لئن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه ) .
فأعانه الله عليه ، وقتله ! قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 2 / 469 ) : ( فأتى ابنُ ذي الكلاع سعدَ بن قيس قائد ميمنة علي ( عليه السلام ) فأذن له في أبيه ، فأتاه فوجده قد رُبط برجله طنب فسطاط ، فأتى أصحاب الفسطاط فسلَّم عليهم وقال : أتأذنون في طنب من أطناب فسطاطكم ، قالوا : نعم ومعذرة إليك ، ولولابغيه علينا ما صنعنا به ما ترون . فنزل إليه وقد انتفخ وكان عظيماً جسيماً وكان مع ابن ذي الكلاع أسود له فلم يستطيعا رفعه ، فقال ابنه : هل من معاون ؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي يدعى الخندف فقالوا : تنحوا . فقال ابن ذي الكلاع : ومن يرفعه ؟ قال : يرفعه الَّذي قتله ! فاحتمله حتى رمى به على ظهر البغل ثم شده بالحبل ، وانطلقا به إلى عسكرهم ) .
والنتيجة : أن التنوع في قبائل العراق وتعدد جذورها ومشاربها ، ومكر الأشعث بن قيس ، كانت عاملاً في إضعاف طاعة العراقيين لعلي ( عليه السلام ) ، مقابل وحدة العصبة الشامية ، وطاعة رؤسائهم المطلقة لمعاوية !
فقداجتمع لمعاوية التعصب الشامي ، والتعصب القرشي ، فكانت قريش كلها معه ضد علي وبني هاشم والمسلمين ، كما كانت مع أبيه أبي سفيان ضدالنبي ( ( عليهما السلام ) ) وبني هاشم والمسلمين !
كما اجتمع لمعاوية تعصب بعض اليمانيين فالتفوا حول شرحبيل بن السمط الكندي ، وذي الكلاع الحميري ، وكندة وحمير هما بيتا الملك في اليمن .

استنهاض الإمام ( ( ع ) ) للأمة وتثاقلها عن الجهاد

استنهاض الإمام ( ( ع ) ) للأمة وتثاقلها عن الجهاد
لا يتسع الكتاب لاستقصاء خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكلماته في حض المسلمين على الجهاد ، لكنا هنا اخترنا بعضها ، وذكرنا عدداً منها في محالها .
1 . قال البلاذري ( 2 / 365 ) : ( لما هرب أبو موسى إلى مكة ، ورجع ابن عباس والياً على البصرة ، وأتت الخوارج النهروان ، خطب علي الناس بالكوفة فقال : الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح ، والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) . أما بعد ، فإن معصية الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة ، وتُعقب
--------------------------- 9 ---------------------------
الندم . وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ونخلت لكم رأيي لو يطاع لقصير رأي ، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم فكنت وأنتم كما قال أخو هوازن :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوا * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن الرجلين الذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات القرآن ، ثم اختلفا في حكمهما ، فكلاهما لايرشد ولايسدد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إن شاء الله ) .
2 . وفي الإرشاد للمفيد ( 1 / 275 ) : ( ومن كلامه ( عليه السلام ) لما نقض معاوية شرط الموادعة ، وأقبل يشن الغارات على أهل العراق فقال بعد حمد الله والثناء عليه : ما لمعاوية قاتله الله ! لقد أرادني على أمر عظيم ، أراد أن أفعل كما يفعل ، فأكون قد هتكت ذمتي ونقضت عهدي ، فيتخذها عليَّ حجة ، فتكون عليَّ شيناً إلى يوم القيامة كلما ذكرتُ . فإن قيل له : أنت بدأت ! قال : ما علمت ولا أمرت ، فمن قائل يقول : قد صدق ، ومن قائل يقول : كذب ! أما والله ، إن الله لذو أناة وحلم عظيم ، لقد حلم عن كثير من فراعنة الأولين وعاقب فراعنة ، فإن يمهله الله فلن يفوته ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، فليصنع ما بدا له ، فإنا غير غادرين بذمتنا ، ولا ناقضين لعهدنا ، ولا مروعين لمسلم ولا معاهد ، حتى ينقضي شرط الموادعة بيننا ) .
3 . قال البلاذري ( 2 / 367 ) : ( وبعث علي إلى الخوارج أن سيروا إلى حيث شئتم ولا تفسدوا في الأرض ، فإني غير هائجكم ما لم تحدثوا حدثاً . فساروا حتى أتوا النهروان ، وأجمع عليٌّ على إتيان صفين ، وبلغ ذلك معاوية فسارحتى أتى صفين .
وكتب علي إلى الخوارج بالنهروان : أما بعد فقد جاءكم ما كنتم تريدون ، قد تفرق الحكمان على غيرحكومة ولا اتفاق ، فارجعوا إلى ما كنتم عليه ، فإني أريد
--------------------------- 10 ---------------------------
المسير إلى الشام . فأجابوه أنه لا يجوز لنا أن نتخذك إماماً وقد كفرت ، حتى تشهد على نفسك بالكفر وتتوب كما تبنا ، فإنك لم تغضب لله ، إنما غضبت لنفسك ) !
4 . قال في الدر النظيم / 369 : ( فنزل علي ( عليه السلام ) الأنبار ، فخطب الناس وحضهم على الجهاد وقال لهم : سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار ، ألا إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أمرني بقتل القاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم ، والناكثين وهم الذين فرغنا منهم ، والمارقين ولم نلقهم بعد ، فسيروا إلى القاسطين فهم أهم من الخوارج ، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ، يتخذهم الناس أرباباً ، ويتخذون عباد الله خَوَلاً . فأبوا أن يسيروا إلا إلى الخوارج ) .
وفي فضائل ابن عقدة / 85 : ( صعد علي ( عليه السلام ) المنبر يوم جمعة فقال : أنا عبد الله وأخو رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ، ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . أمرني رسول الله بقتال الناكثين طلحة والزبير ، والقاسطين معاوية وأهل الشام ، والمارقين وهم أهل النهروان ، ولوأمرني بقتال الرابعة لقاتلتهم ) .
5 . قال ابن الأعثم ( 4 / 256 ) : ( ثم ساروا ( الخوارج ) حتى دخلوا النهروان في اثني عشر ألفاً من بين فارس وراجل . قال : وبلغ ذلك علياً فنادى في الناس فجمعهم في المسجد فخطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إن الله عز وجل بعث محمداً ( ( عليهما السلام ) ) نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وشهيداً على هذه الأمة بالتحريم والتحليل ، وأنتم يا معشرالعرب إذ ذاك في شرِّدارٍ وعلى شردين ، تبيتون على حجارة خُشن ، وحيات صُم ، وشوك مبثوث في البلاد ، تشربون الأجاج ، وتأكلون الخبيث من الطعام ، سبلكم خائفة ، والأنصاب فيكم منصوبة : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ . فمنَّ الله عليكم بمحمد ( ( عليهما السلام ) ) فبعثه إليكم رسولاً من أنفسكم ، وقال تبارك وتعالى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ . وقال عز وجل : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ . فكنتم أنتم وهو رسوله إليكم ، تعرفون حسبه ونسبه ، وشرفه وفضله ، وكان يتلو عليكم الآيات ، ويأمركم بصلة الأرحام ، وحقن الدماء ،
--------------------------- 11 ---------------------------
وإصلاح ذات البين ، وينهاكم عن التظالم والتغاشم والتقاذف والتباهت ، ويأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر . وكلُّ خير يدني من الجنة ويبعد من النار فقد أمركم به ، وكلُّ شر يدني من النار فقد نهاكم عنه ، فلما استكمل ( ( عليهما السلام ) ) مدته توفاه الله إليه مشكوراً سعيه ، مرضياً عمله ، مغفوراً له ذنبه ، كريماً عند الله نزله . فيا لها من مصيبة خصت وعمت المؤمنين ، لم يصابوا بمثلها قبلها ولايعاينون بعدها مثلها .
وبعد ، فقد علمتم ما كان من هؤلاء القوم من الإقدام والجرأة على سفك الدماء ، وهم قوم فساق مراق ، عماة جفاة ، يريدون فراقي وشقاقي ، وفيهم من قد عضه بالأمس السلاح ، ووجد ألم الجراح . فجِدُّوا رحمكم الله ، وخذوا آلة الحرب فإني سائر إليهم إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله .
قال : ثم نزل عن المنبر ولم يجبه إلا اليسير من أهل الكوفة ، ودخل إلى منزله وغضب لذلك ! ثم خرج إلى الناس وخطبهم ثانياً ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيتها الفئة المجتمعة أبدانهم ، المتفرقة أديانهم ! إنه والله ماعزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح من قاساكم ، كلامكم يوهن الصم الصلاب ، وفعلكم يطمع فيه عدوكم ! إذا أدعوكم إلى أمر فيه صلاحكم ، والذب عن حريمكم ، اعتراكم الفشل وجبنتم بالعلل ، ثم قلتم كيْت وكيت وذيْتَ وذيت ، أعاليل وأضاليل وأقوال أباطيل ، ثم سألتموني التأخير دفاع ذي الدَّيْن المَطُول !
هيهات إنه لا ينفع الصم الدليل ، ولا يدرك الحق إلا بالجد ، فخبروني يا أهل العراق مع أي إمام بعدي تقاتلون ، أم أية دار تمنعون ؟ الذليل والله من نصرتموه ، والمغرور من غررتموه ، لقد أصبحت لا أطمع في نصركم ، ولا أصدق قولكم ، فرق الله بيني وبينكم ، وأبدلكم بي غيري ، وأبدلني بكم من هو خير لي منكم ! أما إنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرةً قبيحة ، يتخذها الظالمون عليكم سنة ، فتبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنون في بعض حالاتكم أنكم رأيتموني فنصرتموني ، وأرقتم دماءكم دوني ، فلا يبعد الله إلا من قد ظلم !
--------------------------- 12 ---------------------------
يا أهل الكوفة ! أعظكم فلا تتعظون ، وأوقظكم من سنتكم فلا تنتبهون ، إن من فاز بكم فقد فاز بالخيبة ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل ! أفٍّ لكم ! لقد لقينا منكم ترحاً ، يوماً أناديكم ويوماً أناجيكم ، فلا أحرار عند النداء ، ولا إخوان صدق عند المصائب ، فيا لله ماذا منيت به منكم ، لقد منيت بصُمٍّ لا يسمعون ، وكُمْهٍ لا يبصرون ، وبُكْمٍ لا يعقلون ، أما والله لولا أني حين أمرتكم بأمري حملتكم على المكروه منه ، فإن استقمتم هديتم ، وإن أبيتم عليَّ بدأتُ بكم ، وكانت الزلفى ، ولكني تراخيت لكم ، وتوانيت عنكم ، وتماديت في غفلتكم ، فكنت أنا وأنتم كما قال الأول :
أمرتكم أمري بمنقطع اللوى * فلم تستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
اللهم إن دجلة والفرات نهران أصمان أبكمان ، اللهم فأرسل عليهما ماء بحرك ، وانزع منهم ماء نصرك . حبذا إخواني الصالحون ! إن دعوا إلى الإسلام قبلوه ، أو قرأوا القرآن أحكموه ، أو ندبوا إلى الجهاد طلبوه ، فحقق اللهم لهم الثناء الحسن ، واشوقاه إلى تلك الوجوه ! قال : ثم ذرفت عيناه ونزل عن المنبر !
وقام إليه نافع بن طريف فقال : إنا لله إلى ما صرت إليه يا أمير المؤمنين ! فقال علي : نعم : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إلى ما صرت إليه ، صرت إلى قوم إن أمرتهم خالفوني ، وإن اتبعتهم تفرقوا عني ، جعل الله لي منهم فرجاً عاجلاً !
قال : ثم وثب فدخل إلى منزله مغموماً ، ودخل إليه جماعة من فرسان أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين ! لايسوؤك الله ، ها نحن بين يديك ، فسر بنا إلى أعداء الله إذا شئت لترى منا ما تحب . قال : ثم تقدم إليه رجل من أصحابه فقال : يا أمير المؤمنين !
إن الناس قد ندموا على ما كان من تثبطهم وقعودهم عن نصرتك ، على أن الحظ في ذلك لهم ، فلو عاودتهم بالخطبة لعلهم كانوا يرتدعون ، ويرجعون إلى محبتك . قال : فلما كان من غد خرج علي ( عليه السلام ) حتى دخل المسجد الأعظم وهو غاص بأهله ، وأصحابه متواترون ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أيها الناس ! ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقضت ، وإلى بلادكم تغزى ، وأنتم ذووا عدد جم ، وشوكة شديدة ؟ فما بالكم اليوم ، لله أبوكم ، من أين تؤتون ، ومن أين تسحرون ،
--------------------------- 13 ---------------------------
وأنى تؤفكون ، إنتبهوا رحمكم الله ، وأنبهوا نائمكم ، وتجردوا لحرب عدوكم ، فقد أبدت الرغوة عن الصريح ، وقد أضاء الصبح لذي عينين ، فاسمعوا قولي هداكم الله إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فوالله لئن أطعتموني لم تغووا ، وإن عصيتموني لن ترشدوا ، وخذوا للحرب أهبتها وأعدوا لها عدتها ، واجمعوا آلتها ، فقد شبت وأوقدت نارها ، وتجرد لكم الفاسقون ، لكي يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويغزوا عباد الله ، فوالله لولاقيتهم وحدي وهم أضعاف ما هم عليه ، لما كنت بالذي أخافهم ولا أهابهم ، ولا أستوحش منهم . لأني من ضلالتهم والحق الذي أنا عليه لعلى بصيرة ويقين ، وإني إلى لقاء ربي مشتاق ، ولحسن ثوابه منتظر ، وهذا القلب الذي ألقاهم به الذي لقيت به الكفار مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، وهو القلب الذي لقيت به أهل الجمل وأهل صفين وليلة الهرير ، فإذا أنا أنفرتكم فانفروا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . ولا تثاقلوا إلى الأرض فيفروا بالحيف ، فإن أخا الحرب من إن نام عنها لم تنم عيناه ، ومن غفل أوذي ، ومن ضعف ذل ، ومن ترك الجهاد في الله كان المغبون المهين ، اللهم اجمعنا على التقوى ، وجنبنا وإياهم البلوى ، واجعل الآخرة لنا ولهم خيراً من الأولى .
قال : فلما فرغ من خطبته أجابه الناس سراعاً ، فاجتمع إليه أربعة آلاف رجل أو يزيدون فخرج بهم من الكوفة ، وبين يديه عدي بن حاتم الطائي يرفع صوته ،
وهو يقول :
نسير إذا ما كاع قوم وبلدوا * برايات صدق كالنسور الخوافق
إلى شر قوم من شراة تحزبوا * وعادوا إله الناس رب المشارق
طغاة عماة مارقين عن الهدى * وكل لعين قوله غير صادق
وفينا علي ذو المعالي يقودنا * إليهم جهارا بالسيوف البوارق
قال : وسار علي رضي الله عنه حتى نزل على فرسخين من النهروان ، ثم دعا بغلامه فقال له : إركب إلى هؤلاء القوم وقل لهم عني : ما الذي حملكم على
--------------------------- 14 ---------------------------
الخروج عليَّ ؟ ألم أقصد في حكمكم ، ألم أعدل في قسمكم ، ألم أقسم فيكم فيأكم ؟ ألم أرحم صغيركم ، ألم أوقر كبيركم ، ألم تعلموا أني لم أتخذكم خولاً ، ولم أجعل مالكم نفلاً ؟ وانظرماذا يردون عليك ! وإن شتموك فاحتمل ، وإياك أن ترد على أحد منهم شيئاً . قال : فأقبل غلام علي حتى أشرف على القوم بالنهروان ، فقال لهم ما أمره به ، فقالت له الخوارج : إرجع إلى صاحبك ، فلسنا نجيبه إلى شئ يريده أبداً ، وإنا نخاف أن يردنا بكلامه الحسن كما رد إخواننا بحروراء عبد الله بن الكواء وأصحابه ، والله تعالى يقول : بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ، ومولاك عليٌّ منهم فارجع إليه ، وخبره بأن اجتماعنا ههنا لجهاده ومحاربته لا لغير ذلك .
قال : فرجع الغلام إلى علي وأخبره بما سمع من القوم ، قال : فعند ذلك كتب إليهم علي كرم الله وجهه : بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله وابن عبده أمير المؤمنين وأجير المسلمين أخي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وابن عمه ، إلى عبد الله بن وهب وحرقوص بن زهير ، المارقين من دين الإسلام ! أما بعد ، فقد بلغني خروجكما واجتماعكما هنالك بغيرحق كان لكما ، ولأبويكما من قبلكما ، وجمعكما لهذه الجموع الذين لم يتفقهوا في الدين ، ولم يعطوا في الله اليقين ! إلزما الحق فإن الحق يلزمكما منزلة الحق ، ثم لا يقضى إلا بالحق ، ولا تزيغا فيزيغ من معكما من أتباعكما ، فيكون مثلكما ومثلهم كمثل غنم نفشت في أرض ذات عشب ، فرعت وسمنت ، وإنما حتفها في سمنها ، وقد علمنا بأن الدنيا كعروتين سفلاً وعلواً ، فمن تعلق بالعلو نجا ، ومن استمسك بالسفل هلك ، والسعيد من سعدت به رعيته ، والشقي من شقيت به رعيته ، وخيرالناس خيرهم لنفسه وشرهم شرهم لنفسه ، وليس بين الله وبين أحد قرابة ، وكل نفس بما كسبت رهينة . والكلام كثير وإنما نريد منه اليسير ، فمن لم ينتفع باليسير ضره الكثير ، وقد جعلتموني في حالة من ضل وغوى ، وعن طريق الحق هوى ، خرجتم علي مخالفين بعد أن بايعتموني طائعين غير مكرهين ، فنقضتم عهودكم ونكثتم أيمانكم ، ثم لم يكفكم ما أنتم فيه من العمى وشق العصا ، حتى وثبتم على عبد الله بن خباب فقتلتموه ، وقتلتم أهله وولده بغير ترة كانت منه إليكم ولا ذحل ، وهو ابن صاحب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ،
--------------------------- 15 ---------------------------
ولن يغني القعود عن الطلب بدمه فادفعوا إلينا من قتله وقتل أهله وولده ، وشرك في دمائهم ، ولا تقتلوا أنفسكم على عمى وجهل ، فتكونوا حديثاً لمن بعدكم . وبالله أقسم قسماً صادقاً لئن لم تدفعوا إلينا قاتل صاحبنا عبد الله بن خباب ، لم أنصرف عنكم دون أن أقضي فيكم إربي ، وبالله أستعين وعليه أتوكل ، والسلام والرحمة من الواحد الخلاق ، على النبيين وعلى عباده الصالحين )
ويأتي جوابهم وعنادهم في فصل معركة النهروان .
6 . ومن خطبة له ( عليه السلام ) في ذم أصحابه : أحمد الله على ما قضى من أمر وقدر من فعل ، وعلى ابتلائي بكم أيها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم تجب . إن أمهلتم خضتم ، وإن حوربتم خرتم . وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم . وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم . لا أباً لغيركم ! ما تنتظرون نصركم والجهاد على حقكم ؟ الموت أوالذل لكم ، فوالله لئن جاء يومي وليأتيني ، ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قالٍ ، وبكم غير كثير . لله أنتم ! أما دين يجمعكم ؟ ولا حمية تشحذكم ؟ أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء . وأنا أدعوكم وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس إلى المعونة وطائفة من العطاء ، فتفرقون عني وتختلفون علي . إنه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه ، ولا سخط فتجتمعون عليه ، وإن أحب ما أنا لاقٍ إليَّ الموت . قد دارستكم الكتاب ، وفاتحتكم الحجاج ، وعرفتكم ما أنكرتم ، وسوغتكم ما جمعتم ، لو كان الأعمى يلحظ ، أو النائم يستيقظ . وأقرب بقوم من الجهل بالله قائدهم معاوية ، ومؤدبهم ابن النابغة ) . ( نهج البلاغة : 2 / 100 ) .
7 . ومن خطبة له ( عليه السلام ) في استنفار الناس إلى أهل الشام : أفٍّ لكم لقد سئمت عتابكم . أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً . وبالذل من العز خلفاً !
إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ، يرتج عليكم حواري فتعمهون . فكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون . ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي ، وما أنتم بركن يمال بكم ولا زوافر
--------------------------- 16 ---------------------------
عز يفتقر إليكم ، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها ، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر ، لبئس لعمرالله سُعْر نار الحرب أنتم تكادون ولا تكيدون ، وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون ، لايُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون .
أيها الناس : إن لي عليكم حقاً ولكم عليَّ حق . فأما حقكم عليَّ فالنصيحة لكم . وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا .
وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة ، والنصيحة في المشهد والمغيب . والإجابة حين أدعوكم . والطاعة حين آمركم ) . ( نهج البلاغة : 1 / 82 ) .
8 . ومن كلام له ( عليه السلام ) : ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أني لم أردَّ على الله ولا على رسوله ساعة قط . ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وتتأخر فيها الأقدام ، نجدةً أكرمني الله بها . ولقد قبض رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وإن رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي . ولقد وليت غسله ( ( عليهما السلام ) ) والملائكة أعواني ، فضجت الدار والأفنية ملأٌ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم ، يُصلون عليه حتى واريناه في ضريحه . فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً ؟ فانفذوا على بصائركم ، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم ، فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق ، وإنهم لعلى مزلة الباطل . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ) . ( نهج البلاغة : 2 / 171 ) .
9 . ومن خطبة له ( عليه السلام ) : ( ولئن أمهل الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، وبموضع الشجى من مساغ ريقه ! أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ليس لأنهم أولى بالحق منكم ، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقي ! ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي ! إستنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا . أشهودٌ كغُيَّاب ، وعبيد كأرباب ؟ أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها ، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر القول حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ، ترجعون
--------------------------- 17 ---------------------------
إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم ! أقومكم غدوة وترجعون إلي عشية كظهر الحية ، عجز المقوم وأعضل المقوم ! أيها الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم . صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ! لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم .
يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين : صم ذووا أسماع ، وبكم ذووا كلام ، وعمي ذووا أبصار . لا أحرار صدق عند اللقاء ولاإخوان ثقة عند البلاء . تربت أيديكم ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلما جمعت من جانب تفرقت من جانب آخر ! وإني لعلى بينة من ربي ، ومنهاج من نبيي ، وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً . أنظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى . فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا . لقد رأيت أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) فما أرى أحداً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً ، وقد باتوا سجداً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم . إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجريوم الريح العاصف ، خوفاً من العقاب ورجاء للثواب ) . ( نهج البلاغة : 1 / 187 ) .
10 . ومن كلام له ( عليه السلام ) يحثُّ فيه أصحابه على الجهاد : ( والله مستأديكم شكره ومورثكم أمره ، وممهلكم في مضمار محدود ، لتتنازعوا سبقه ، فشدوا عقد المآزر ، واطووا فضول الخواصر ، ولا تجتمع عزيمة ووليمة ! ما أنقض النوم لعزائم اليوم ، وأمحى الظلم لتذاكير الهمم ) . ( نهج البلاغة : 2 / 233 ) .
11 . آخرخطبة خطبها ( عليه السلام ) يحث فيها على الجهاد ويدعوهم للعودة إلى صفين : قال نوف البكالي : خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، وعليه مدرعة من صوف ، وحمائل
--------------------------- 18 ---------------------------
سيفه ليف ، وفي رجليه نعلان من ليف ، وكأن جبينه ثفنة بعير ، فقال ( عليه السلام ) :
الحمد الله الذي إليه مصائر الخلق ، وعواقب الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ونير برهانه ، ونوامي فضله وامتنانه ، حمداً يكون لحقه قضاءً ولشكره أداءً ، وإلى ثوابه مقرباً ولحسن مزيده موجباً .
ونستعين به استعانة راجٍ لفضله ، مؤملٍ لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطول ، مذعن له بالعمل والقول . ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً ، وأناب إليه مؤمناً ، وخنع له مذعناً ، وأخلص له موحداً ، وعظمه ممجداً ، ولاذ به راغباً مجتهداً .
لم يلد سبحانه فيكون في العز مشاركاً ، ولم يولد فيكون موروثاً هالكاً ، ولم يتقدمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم ، فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد ، قائمات بلا سند ، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكئات ولا مبطئات ، ولولا إقرارهن له بالربوبية وإذعانهن بالطواعية لما جعلهن موضعاً لعرشه ، ولا مسكناً لملائكته ، ولا مصعداً للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه . جعل نجومها أعلاماً يستدل بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن ترد ما شاع في السماوات من تلألؤ نور القمر . فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، ولا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات ، ولا في يفاع السفع المتجاورات ، وما يتجلجل به الرعد في أفق السماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء ، ويعلم مسقط القطرة ومقرها ، ومسحب الذرة ومجرها ، وما يكفي البعوضة من قواتها ، وما تحمل الأنثى في بطنها . الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جان أو إنس . لا يدرك بوهم ، ولا يقدر بفهم . ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل ولا يبصر بعين ، ولا يحد بأين ، ولا يوصف بالأزواج ، ولا يخلق بعلاج . ولا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس . الذي كلم موسى تكليماً ، وأراه من آياته عظيماً . بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات ،
--------------------------- 19 ---------------------------
بل إن كنت صادقاً أيها المتكلف لوصف ربك فصف جبرائيل وميكائيل وجنود الملائكة المقربين في حجرات القدس مرجحنين ، متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين . فإنما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء ، فلا إله إلا هو ، أضاء بنوره كل ظلام ، وأظلم بظلمته كل نور .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش ، وأسبغ عليكم المعاش . ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلماً ، أو إلى دفع الموت سبيلاً ، لكان ذلك سليمان بن داود ( عليه السلام ) الذي سخر له ملك الجن والإنس ، مع النبوة وعظيم الزلفة ، فلما استوفى طعمته ، واستكمل مدته ، رمته قسي الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية ، والمساكن معطلة ، وورثها قوم آخرون .
وإن لكم في القرون السالفة لعبرة . أين العمالقة وأبناء العمالقة ، أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ، أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفؤوا سنن المرسلين ، وأحيوا سنن الجبارين ، وأين الذين ساروا بالجيوش ، وهزموا الألوف ، وعسكروا العساكر ، ومدنوا المدائن .
( منها في وصف المهدي ( عليه السلام ) ) : قد لبس للحكمة جنتها ، وأخذها بجميع أدبها من الإقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها ، وهي عند نفسه ضالته التي يطلبها ، وحاجته التي يسأل عنها ، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، وضرب بعسيب ذنبه ، وألصق الأرض بجرانه . بقيةٌ من بقايا حججه ، خليفة من خلائف أنبيائه .
ثم قال ( عليه السلام ) : أيها الناس : إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء ( عليهم السلام ) بها أممهم . وأديت إليكم ما أدت الأوصياء ( عليهم السلام ) إلى من بعدهم . وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا ، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا . لله أنتم ! أتتوقعون إماماً غيرى يطأ بكم الطريق ، ويرشدكم السبيل ؟ ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً ، وأقبل منها ما كان مدبراً ، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار ، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثيرمن الآخرة لا يفنى .
ما ضرَّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين ، أن لا يكونوا اليوم أحياء ؟
--------------------------- 20 ---------------------------
يسيغون الغصص ويشربون الرنق ، قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم ، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم . أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ؟
أين عمار ، وأين ابن التيهان ، وأين ذو الشهادتين ، وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية ، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة .
( ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثم قال ( عليه السلام ) : أوهٍ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنة وأماتوا البدعة ، دُعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتبعوه .
ثم نادى بأعلى صوته : الجهاد الجهاد عباد الله . ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى الله ، فليخرج .
قال نوف : وعقد للحسين ( عليه السلام ) في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد ( رحمه الله ) في عشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم ، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كل مكان ) !

تثبيط الأشعث ساعد على تثاقل الناس !

تثبيط الأشعث ساعد على تثاقل الناس !
كتبنا في ترجمة الأشعث أنه كان رأس المنافقين ، والعدو الأول للإمام ( عليه السلام ) في عصره ، وقد بلغت وقاحته أنه طلب من الإمام ( عليه السلام ) أن يسكت كما سكت عثمان ! روى المفيد في الأمالي / 145 ، عن جندب بن عبد الله الأزدي ، ورواه ابن قتيبة ( الإمامة والسياسة : 1 / 128 ) بتفصيل ، قال : ( ولما أراد علي الانصراف من النهروان ، قام خطيباً فحمد الله ثم قال : أما بعد فإن الله قد أحسن بلاءكم ، وأعز نصركم ، فتوجهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . فقالوا ( والقائل الأشعث ) : يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا ، وكلت أذرعنا ، وتقطعت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، فارجع بنا نحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة ، فإن ذلك أقوى لنا على عدونا .
فأقبل عليٌّ بالناس حتى نزل بالنخيلة ، فعسكر بها وأمرالناس أن يلزموا معه
--------------------------- 21 ---------------------------
عسكرهم ، ويوطنوا أنفسهم على الجهاد ، وأن يقلوا من زيارة أبنائهم ونسائهم ، حتى يسيروا إلى عدوهم من أهل الشام ، فأقاموا معه أياماً ، ثم رجعوا يتسللون ويدخلون الكوفة ، ويتلذذون بنسائهم وأبنائهم ولذاتهم ، حتى تركوا علياً وما معه إلا نفرمن وجوه الناس يسيروتُرك العسكر خالياً .
فقام علي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله ، ودرك الوسيلة عنده ، فأعدوا له ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، وتوكلوا على الله ، وكفى به وكيلاً ، ثم تركهم أياماً ، ودعا رؤساءهم ووجوههم ، فسألهم عن رأيهم ، وما الذي ثبطهم ؟ فمنهم المعتل ومنهم المتكره ، وأقلهم من نشط ، فقال لهم علي : عباد الله ، مالكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلاً ، ورضيتم بالذل والهوان من العز خلفاً ، كلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم ، كأنكم من الموت في سكرة ، وكانت قلوبكم قاسية ، فأنتم لا تعقلون ، وكأن أبصاركم كُمْهٌ فأنتم لاتبصرون ! لله أنتم ، ما أنتم إلا أسود رواعة ، وثعالب رواغة عند البأس ، تُكادون ولا تكيدون وتنتقص أطرافكم فلا تحاشون ، وأنتم في غفلة ساهون : إن أخا الحرب ليقظان .
أما بعد فإن لي عليكم حقاً ، ولكم علي حق . . فإن يرد الله بكم خيراً تنزعوا عما أكره ، وترجعوا إلى ما أحب ، تنالوا بذلك ما تحبون ، وتدركوا ما تأملون .
أيها الناس : المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ، كلامكم يوهي الصم ، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم ، إذا أمرتكم بالمسير قلتم كيت وكيت ، أعاليل بأضاليل ، هيهات ، لا يدرك الحق إلا بالجد والصبر ، أيَّ دار بعد داركم تمنعون ؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ! أصبحت لا أطمع في نصرتكم ، ولا أصدق قولكم ، فرق الله بيني وبينكم ، وأعقبني بكم من هو خير لي ، وأعقبكم بعدي من هو شرلكم مني ، أما إنكم
--------------------------- 22 ---------------------------
ستلقون بعدي ذلاً شاملاً وسيفاً قاتلاً ، وأثرةً يتخذها الظالمون بعدي عليكم سنة تفرق جماعتكم ، وتُبكي عيونكم ، وتدخل الفقر بيوتكم . تمنون والله عندها أن لو رأيتموني ونصرتموني ! وستعرفون ما أقول لكم عما قليل !
إستنفرتكم فلم تنفروا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، وأسمعتكم فلم تعوا ، فأنتم شهود كأغياب ، وصم ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة ، وأعظكم بالموعظة النافعة ، وأحثكم على جهاد المحلين ، الظلمة الباغين ، فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين ، إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقاً عزين ، تضربون الأمثال ، وتناشدون الأشعار ، تربت أيديكم ، وقد نسيتم الحرب واستعدادها ، وأصبحت قلوبكم فارغة عن ذكرها ، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل ! فقام إليه الأشعث بن قيس الكندي فقال : يا أمير المؤمنين فهلا فعلت كما فعل عثمان ؟
قال له علي : ويلك وما فعل عثمان ، رأيتني عائذاً بالله من شرما تقول ، والله إن الذي فعل عثمان لمخزاةٌ على من لا دين له ، ولا حجة معه ، فكيف وأنا على بينة من ربي ، والحق معي ، والله إن امرأ أمكن عدوه من نفسه ، فنهش عظمه وسفك دمه ، لعظيم عجزه ، ضعيف قلبه !
أنت يا ابن قيس فكن ذلك ، فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفي يطير له فراش الرأس ، وتطيح منه الأكف والمعاصم ، وتجدُّ به الغلاصم ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .
والله يا أهل العراق ، ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشام إلاظاهرين عليكم ! فقالوا : أبعلم تقول ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : نعم ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إني أرى أمورهم قد علت ، وأرى أموركم قد خبت ، وأراهم جادين في باطلهم ، وأراكم وانين في حقكم ، وأراهم مجتمعين وأراكم متفرقين ، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين ، وأراكم لي عاصين !
أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي لتجدنهم أرباب سوء ، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم ، وحملوا إلى بلادهم منكم ، وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش
--------------------------- 23 ---------------------------
الضباب ، لا تأخذون لله حقاً ، ولا تمنعون له حرمة ، وكأني أنظر إليهم يقتلون صلحاءكم ، ويخيفون علماءكم ، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم ، ويدينون الناس دونكم فلو قد رأيتم الحرمان ، ولقيتم الذل والهوان ، ووقع السيف ونزل الخوف ، لندمتم وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم ، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية ، حين لا ينفعكم التذكار .
فقال الناس : قد علمنا يا أمير المؤمنين أن قولك كله وجميع لفظك يكون حقاً ، أترى معاوية يكون علينا أميراً ؟
فقال : لا تكرهوا إمرة معاوية ، فإن إمرته سلم وعافية ، فلو قد مات رأيتم الرؤوس تندر عن كهولها كأنها الحنظل ، وعداً كان مفعولاً ، فأما إمرة معاوية فلست أخاف عليكم شرها ، ما بعدها أدهى وأمر !
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال : إن أمير المؤمنين أكرمه الله قد أسمع من كانت له أذن واعية وقلب حفيظ ، إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها ، حيث نزل بين أظهركم ابن عم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وخيرالمسلمين وأفضلهم وسيدهم بعده ، يفقهكم في الدين ، ويدعوكم إلى جهاد المحلين فوالله لكأنكم صم لا تسمعون ، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون ! عباد الله ، أليس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس ، وقد شمل العباد ، وشاع في الإسلام ، فذو حق محروم ، ومشتوم عرضه ، ومضروب ظهره ، وملطوم وجهه ، وموطوء بطنه ، وملقى بالعراء ، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحق ونشرالعدل وعمل بالكتاب ، فاشكروا نعمة الله عليكم ، ولاتتولوا مجرمين ، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ! إشحذوا السيوف ، وجددوا آلة الحرب ، واستعدوا للجهاد ، فإذا دعيتم فأجيبوا ، وإذا أمرتم فأطيعوا تكونوا بذلك من الصادقين .
قال : ثم قام رجال من أصحاب علي فقالوا : يا أمير المؤمنين أعط هؤلاء هذه الأموال ، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي ، ممن يتخوف خلافه على الناس وفراقه . وإنما قالوا له هذا الذي كان معاوية يصنعه بمن أتاه ،
--------------------------- 24 ---------------------------
وإنما عامة الناس همهم الدنيا ولها يسعون وفيها يكدحون ، فأعط هؤلاء الأشراف فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من القسم .
فقال علي : أتأمروني أن أطلب النصربالجور فيمن وليت عليه من الإسلام ؟ فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم ، والله لو كان لهم مال لسويت بينهم فكيف وإنما هي أموالكم ! والله لقد أحببت أن يدال هؤلاء القوم عليكم بإصلاحهم في أرضهم ، وفسادكم في أرضكم ، وأدائهم الأمانة لمعاوية وخيانتكم ، وبطاعتهم له ومعصيتكم لي ، واجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم !
وأيم الله لا يدعون بعدي محرماً إلا استحلوه ، ولا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا أدخلوه ظلمهم ، حتى يقوم الباكيان منكم : باكٍ لدينه وباك لدنياه ، وحتى تكون نصرة أحدكم كنصرة العبدلسيده : إذا شهد أطاعه وإذا غاب سبه . فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، أتظن ذلك كائناً ؟ قال : ما هو بالظن ولكنه اليقين ) !
ورواه سليم / 213 ، بفروق ، وفيه : ( ويلك يا ابن قيس ! المؤمن يموت بكل موتة غيرأنه لا يقتل نفسه ، فمن قدر على حقن دمه ، ثم خلى بينه وبين قاتله فهوقاتل نفسه ! ويلك يا ابن قيس ! إن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة فرقة واحدة منها في الجنة واثنتان وسبعون في النار ، وشرها وأبغضها إلى الله وأبعدها منه السامرة الذين يقولون : لاقتال وكذبوا ، قد أمر الله عز وجل بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ، وكذلك المارقة .
وفي رواية : فقال الأشعث : فما يمنعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو تيم وأخوعدي وأخو بني أمية بعدهما ، أن تقاتل وتضرب بسيفك ؟
فقال له علي ( عليه السلام ) : يا ابن قيس ، قلت فاسمع الجواب : لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية لقاء ربي ، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها ، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعهده إلي !
أخبرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بما الأمة صانعة بي بعده ، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أشد يقيناً مني بما
--------------------------- 25 ---------------------------
عاينت وشهدت ! فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إلي إذا كان ذلك ؟ قال ( ( عليهما السلام ) ) : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعوانا . وأخبرني ( ( عليهما السلام ) ) أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري ، وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه ، والعجل ومن تبعه ) !
ولم يكتف الأشعث بمؤامرته في صفين ولا بتثبيطه الناس عن الجهاد بعدها ، بل عمل لقتل الإمام ( عليه السلام ) مع معاوية والخوارج ، فكان محور تآمرهم ، كما يأتي .

صحوة في أهل الكوفة قبيل شهادةالإمام ( ( ع ) )

صحوة في أهل الكوفة قبيل شهادةالإمام ( ( ع ) )
قال في الغارات ( 2 / 636 ) : ( عن أبي عبد الرحمن السلمي : أن الناس تلاقوا وتلاوموا ومشت الشيعة بعضها إلى بعض ، ولقي أشراف الناس بعضهم بعضاً ) .
وقال البلاذري ( 2 / 477 ) وما بين المعقوفين من رواية الثقفي : ( قالوا : لما استنفرعلي أهل الكوفة فتثاقلوا وتباطؤوا ، عاتبهم ووبخهم ، فلما تبين منهم العجزوخشي منهم التمام على الخذلان ، جمع أشراف أهل الكوفة ودعا شيعته الذين يثق بمناصحتهم وطاعتهم ، فخطبهم فقال :
الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) . أما بعد أيها الناس ، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردّكم عنها ، ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها ، فتوثب عليّ متوثبون ، كفى الله مؤنتهم وصرعهم لخدودهم ، وأتعس جدودهم ، وجعل دائرة السوء عليهم ، وبقيت طائفة تحدث في الإسلام أحداثاً ، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق ، ليست بأهل لما ادعت ، وهم إذا قيل لهم تقدموا قدماً تقدموا ، وإذا قيل لهم أقبلوا أقبلوا ، لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل ، ولايبطلون الباطل كإبطالهم الحق . أما إني قد سئمت من عتابكم وخطابكم فبينوا لي ما أنتم فاعلون ، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وأحب ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرى رأيي .
فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا
--------------------------- 26 ---------------------------
وبينهم وهو خير الحاكمين لأدعونّ الله عليكم ، ثم لأسيرنّ إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة ! أأجلاف أهل الشام وأعرابها أصبر على نصرة الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم ؟ ما بالكم ، ما دواؤكم ؟ إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة .
فقام إليه سعيد بن قيس الهمداني فقال : يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك ، والله ما يكبر جزعنا على عشائرنا إن هلكت ، ولا على أموالنا إن نفدت في طاعتك ومؤازرتك [ والله لو أمرتنا بالمسير إلى قسطنطينية ورومية مشاة حفاة على غير عطاء ولا قوة ، ما خالفتك أنا ولا رجل من قومي . [ قال : فصدقتم جزاكم الله خيراً ] .
وقام إليه زياد بن خصفة فقال : يا أمير المؤمنين أنت والله أحق من استقامت له طاعتنا ، وحسنت مناصحتنا ، وهل ندخر طاعتنا بعدك لأحد مثلك ، مرني بما أحببت مما تمتحن به طاعتي [ نحن شيعتك يا أمير المؤمنين التي لا نعصيك ولا نخالفك فقال : أجل أنتم كذلك ، فتجهزوا إلى غزو الشام ] .
وقام إليه سويد بن الحرث التيمي من تيم الرباب فقال : يا أمير المؤمنين مر الرؤساء من شيعتك فليجمع كل امرئ منهم أصحابه فيحثهم على الخروج معك ، وليقرأ عليهم القرآن ، ويخوفهم عواقب الغدر والعصيان ، ويضم إليه من أطاعه وليأخذهم بالشخوص .
فلقي الناس بعضهم بعضاً وتعاذلوا وتلاوموا ، وذكروا ما يخافون من استجابة دعائه عليهم إن دعا ، فأجمع رأي الناس على الخروج . وبايع حجر بن عدي أربعة آلاف من الشيعة على الموت ، وبايع زياد بن خصفة البكري نحو من ألفي رجل ، وبايع معقل بن قيس نحو من ألفي رجل ، وبايع عبد الله بن وهب السمني ( كذا ) نحو من ألف رجل .
وأتى زياد بن خصفة علياً فقال له : أرى الناس مجتمعين على المسيرمعك ، فأحمد الله يا أمير المؤمنين ، فحمد الله ثم قال : ألا تدلوني على رجل حسيب صليب يحشر الناس علينا من السواد ونواحيه ، فقال سعيد بن قيس : أنا والله أدلك عليه : معقل بن قيس الحنظلي ، فهو الحسيب الصليب الذي قد جربته وبلوته ، وعرفناه وعرفته !
--------------------------- 27 ---------------------------
فدعاه علي وأمره بتعجيل الخروج لحشر الناس ، فإن الناس قد انقادوا للخروج . ثم قال زياد بن خصفة : يا أمير المؤمنين قد اجتمع لي من قد اجتمع فأذن لي أن أخرج بأهل القوة منهم ، ثم ألزم بشاطئ الفرات حتى أغير على جانب من الشام وأرضها ، ثم أعجل الانصراف قبل وقت الشخوص واجتماع من بعث أمير المؤمنين في حشره ، فإن ذلك مما يرهبهم ويهدهم . قال : فامض على بركة الله ، فلا تظلمن أحداً ، ولا تقاتلن إلا من قاتلك ، ولا تعرضن للأعراب .
فأخذ زياد على شاطئ الفرات فأغار على نواحي الشام ، ثم انصرف .
ووجه معاوية عبد الرحمان بن خالد بن الوليد في طلبه ففاته ، وقدم زياد هيت فأقام بها ينتظر قدوم علي . وخرج معقل لما وجه له ، فلما صار بالدسكرة بلغه أن الأكراد قد أغارت على شهر زور ، فخرج في آثارهم فلحقهم حتى دخل الجبل فانصرف عنهم ، ثم لما فرغ من حشر الناس وأقبل راجعاً ، فصار إلى المدائن بلغه نعي علي ( عليه السلام ) ، فسار حتى دخل الكوفة ورجع زياد من هيت .
عن عوانة بن الحكم قال : خطب علي الناس ودعاهم إلى الخفوق إلى غزو أهل الشام ، وأمرالحرث الأعور بالنداء فيهم فلم يوافه إلا نحو من ثلاث مأة ، فخطبهم ووبخهم فاستحيوا ، فاجتمع منهم ألوف فتعاقدوا على الشخوص معه وأجمع رأيهم على الإقامة شتوتهم ثم الخروج في الفصل ، فإنهم على ذلك إذا أصيب علي ( عليه السلام ) .
وقال أبو مسعود : قال عوانة : قال عمرو بن العاص حين بلغه ما عليه عليّ من الشخوص إلى الشام وأن أهل الكوفة قد انقادوا له :
لا تحسبني يا عليّ غافلا * لأوردن الكوفة القبائلا

  • ستين ألفاً فارساً وراجلا ) .
    أقول : هذه أفضل استجابة روتها المصادر ، ومعناها أن هدف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الأول كان مواصلة الجهاد على تأويل القرآن ، والقضاء على رأس المحرفين !
  • *
    --------------------------- 28 ---------------------------

الفصل السابع والثمانون: غزو معاوية لمصر

1 . تفضيل النبي ؟ ص ؟ مصر على غيرها

روى البخاري ( 4 / 98 ) عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) تفضيل أهل اليمن على أهل نجد ، قال : « الإيمان يمانٍ . ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين ، عند أصول أذناب الإبل ، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر » .
كما فضل رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مصرعلى غيرها ، فقد روى الحاكم ( 4 / 448 ) : « عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه ، عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال : ستكون فتنة أسلم الناس فيها ، أو قال لخير الناس فيها الجند الغربي . فلذلك قدمت مصر . هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه » . والطبراني في المعجم الأوسط : 8 / 315 ، والكبير : 8 / 315 ، والبخاري الكبير : 6 / 313 ، ومجمع الزوائد : 5 / 281 ، وغيرها .
وقال السيوطي في شرح مسلم : 4 / 513 : « روى الطبراني والحاكم وصححه وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في مسند الصحابة الذين دخلوا مصر ، وزاد فيه : وأنتم الجند الغربي ، فهذه منقبة لمصر في صدر الملة ، واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة ، لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار ، وما زالت معدن العلم والدين ، ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال ، ولابلد الآن في سائرالأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيه من شعائر الدين ما هو ظاهر في مصر » .
أقول : تفسير عمرو بن الحمق للجند الغربي بمصر بقوله : « ولذلك قدمت عليكم مصر » حجةٌ ، لأنه تفسيرصحابيٍّ عاصرصدور النص . ومعنى الحمِق : خفيف اللحية ، وهو صحابي جليل يشبه أويساً القرني رضي الله عنهما ، أخبرعنه النبي ( ( عليهما السلام ) ) قبل أن يسلم ، وبعث اليه سلامه
--------------------------- 29 ---------------------------
فأسلم وجاء إلى النبي ( ( عليهما السلام ) ) . وحديثه في تفضيل مصر على الشام لم يعجبهم ! فتبنوا تفضيل كعب للشام على العالمين !
وقد استوفى السيوطي في كتابه : ( حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ) الأحاديث النبوية في فضل مصر ، وأشهرها حديث مسلم ( 7 / 190 ) عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : « قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط ، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها ، فإن لهم ذمة ورحماً » .
ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ( 11 / 101 ) عن أم سلمة : « الله في القبط ، فإنكم ستظهرون عليهم ، ويكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله » .

2 . تفضيل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) مصر على بلاد الشام

2 . تفضيل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) مصر على بلاد الشام
روى الثقفي في الغارات : 1 / 288 ، وهومعاصر للطبري وأوثق منه ، عن جندب بن عبد الله قال : « والله إني لعند عليٍّ ( عليه السلام ) جالس ، إذ جاءه عبد الله بن قعين جد كعب يستصرخ من قبل محمد بن أبي بكر ، وهو يومئذ أميرعلى مصر ، فقام علي فنادى في الناس : الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر ، وقد سار إليهم ابن النابغة عدو الله وعدوكم ، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت ، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم ، فكأنكم بهم قد بدؤوكم وإخوانكم بالغزو ، فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر . عباد الله إن مصر أعظم من الشام خيراً ، وخير أهلاً ، فلا تُغلبوا على مصر ، فإن بقاء مصر في أيديكم عزٌّ لكم ، وكبت لعدوكم . أخرجوا إلى الجرعة ( بين الكوفة والحيرة ) لنتوافى هناك كلنا غداً ، إن شاء الله » .
أي أن مصر خير للمسلمين بمواردها الاقتصادية ، وشعبها خير من أهل الشام .
--------------------------- 30 ---------------------------

3 . مدح نهر النيل

3 . مدح نهر النيل
في كامل الزيارات / 111 : بسند صحيح عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) قال : « نهران مؤمنان ، ونهران كافران ، نهران كافران : نهر بلخ ، ودجلة . والمؤمنان : نيل مصر ، والفرات ، فحنكوا أولادكم بماء الفرات » .
وفي الخصال / 291 ، قال الصادق ( عليه السلام ) : « إن جبرئيل كرى برجله خمسة أنهار ولسان الماء يتبعه : الفرات ، والدجلة ، ونيل مصر ، ومهران ، ونهر بلخ » .

4 . فتحت مصر بدون قتال

4 . فتحت مصر بدون قتال
وثقنا في كتاب « قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية » أن المصريين طلبوا من ملكهم المقوقس أن يعقد اتفاقية مع المسلمين ، بعد أن هزموا الروم في فلسطين وسوريا ، وانسحب هرقل إلى القسطنطينية ، وسحب قواته من الشام ومصر . فدخل عمرو العاص إلى مصر في جيش صغير ، واستقبله ملكها المقوقس ووقَّع معه عهد الصلح على أن يدفع عن كل مصري دينارين سنوياً ، ويدفع مبلغاً فعلاً . وقد تم ذلك بدون ضربة سيف ولاسوط ، وحكم المسلمون مصر بدل الروم ، وأخذوا يأتون إليها للسكنى ، وأسلم قسم من أهلها .
قال المؤرخ المصري القرشي المتوفى 257 ه - . في كتابه فتوح مصر / 131 ، ونحوه اليعقوبي ( 2 / 147 ) : « قال : يا أمير المؤمنين إئذن لي أن أسير إلى مصر ، وحرضه عليها وقال : إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعوناً لهم ، وهي أكثرالأرض أموالاً ، وأعجزها عن القتال والحرب . فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين وكره ذلك ، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها ، حتى ركن عمر لذلك ، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عكّ ويقال بل ثلاثة آلاف وخمسمائة » .
وقال القرشي في فتوح مصر / 152 : « وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتاباً يعلمه على وجه الأمر كله ، فكتب إليه ملك الروم يُقَبِّحُ رأيه ويُعَجِّزُه ويَرُدُّ عليه ما فعل ، ويقول في كتابه إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفاً وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا
--------------------------- 31 ---------------------------
يحصى ، فإن كان القبط كرهوا القتال ، وأحبوا أداء الجزية إلى العرب ، واختاروهم علينا ، فإن عندك من بمصر من الروم ، وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف ، معهم السلاح والعدة والقوة ، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت ، فعجزت عن قتالهم ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم والقبط أذلاء ! ألا تقاتلهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظهر عليهم ، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم ، كأكْلة !
وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتاباً إلى جماعة الروم ! فقال المقوقس لما أتاه كتاب ملك الروم : والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا ، وإن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا ، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل ، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ولا ولده ، ويرون أن لهم أجراً عظيماً فيمن قتلوه منا ، ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة وليس لهم رغبة في الدنيا ، ولا لذة إلا على قدر بلغة العيش من الطعام واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها ، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء ، وكيف صبرنا معهم !
واعلموا معشر الروم والله إني لا أخرج مما دخلت فيه ، ولا مما صالحت العرب عليه ، وإني لأعلم أنكم سترجعون غداً إلى رأيي وقولي ، وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني ! وذلك أني قد عاينت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره . ويْحكم ! أمايرضى أحدكم أن يكون آمناً في دهره على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة ! ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له : إن الملك قد كره ما فعلتُ وعجَّزني ، وكتب إليَّ وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتكم ، وأمرهم بقتالكم حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ! ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه ، وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني ، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم ، ولم يأت من قبلهم نقض ، وأنا متم لك على نفسي ، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم ) . ونهاية الإرب : 19 / 301 .
--------------------------- 32 ---------------------------
أقول : إن أي عاقل يقرأ هذه الحقائق ، يرفض ما ادعاه عمرو العاص ورواة السلطة بعد ذلك ، من معارك مخترعة في فتح مصر ! والعجب من بعض الباحثين كيف يخالف عقله ، فيسرد معارك وبطولات مزعومة لعمرو العاص ، مصدقاً بأنها وقعت في فتح مصر مع القبط أو الروم ، مع أنه يروي ما ينفيها !

  • *

5 . أول حركة محاسبة للخلافة كانت مصرية

5 . أول حركة محاسبة للخلافة كانت مصرية
وفى المصريون بمعاهدتهم مع المسلمين ، لكنهم كانوا أول من طالب عمر بتطبيق القرآن ، وهذا يدل على أنهم قرؤوا القرآن وتدبروه ، ونظروا في سياسة عمر وعماله ، فرأوا أن أكثر القرآن لا يطبق ، فذهبوا اليه يطالبونه بتطبيقه لكن عمر أحبط مسعاهم وهددهم ! فقد روى السيوطي في الدر المنثور ( 2 / 145 ) والطبري في تفسيره ( 5 / 63 ) وابن كثير في تفسيره ( 4 / 497 ) وكنز العمال ( 2 / 330 ) : « أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصرفقالوا : نرى أشياء من كتاب الله أمَر أن يُعمل بها لايُعمل بها ! فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه فلقي عمرفقال : يا أمير المؤمنين أن ناساً لقوني بمصرفقالوا إنا نرى أشياء من كتاب الله أمرأن يعمل بها لا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال : إجمعهم لي . قال : فجمعتهم له فأخذ أدناهم رجُلاً فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ قال : اللهم لا . قال : ولو قال نعم لخصمه . قال : فهل أحصيته في بصرك ، هل أحصيته في لفظك ، هل أحصيته في أثرك ؟ قال : ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمرأمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ! قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات قال : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ . هل عَلِم أهل المدينة ، أو قال هل علم أحدٌ ، بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم » !
ومعناه أنهم سألوه عن آيات فيها أوامر إلهية إدارية وسياسية ومالية واجتماعية ، لا يرون تطبيقها في دولته ! فهاجمهم بالجواب بأن القرآن عظيم لا يمكن لأحد أن يطبقه ! لأنه لا يمكنه أن يحصي كلماته وحروفه فيراها كلها دفعة واحدة ، أو يستحضرها في ذهنه دفعة
--------------------------- 33 ---------------------------
واحدة وكل دستور لا يرى الحاكم سطوره وكلماته حروفه دفعة واحدة ، يسقط عنه تطبيقه ! ويكفي أن يطبق عضه ! ثم هددهم إن انتقدوه ! فخاف الوفد المصري وجمعوا متاعهم وعادوا إلى مصرمبهوتين !

6 . مصر في عهد عثمان

6 . مصر في عهد عثمان
كان والي مصر في زمن عمر بن الخطاب عمرو العاص ، فعزله عثمان وعين أخاه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح ، ونقم منه أهل مصر سوء سيرته ، وأحبوا محمد بن أبي بكر الذي كان يتردد إليها مع صديقه محمد بن أبي حذيفة الأموي رضي الله عنهما ، وقد شاركا في فتح إفريقيا الذي انطلق من مصر ، ولما هاجم الروم مصركان المحمدان القائدين الميدانيين في معركة ذات الصواري البحرية ، وسخر الله للمسلمىن الريح فانهزم الروم .
وقد روينا في ابن أبي سرح ( الكافي : 8 / 201 ) أنه كان يكتب لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فإذا أنزل الله عز وجل : إن الله عزيز حكيم . كتب : إن الله عليم حكيم » !
وروى أبو داود ( 2 / 328 ) والنسائي ( 7 / 107 ) أنه كفر وهرب فهدر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) دمه !
وذكرنا أن وفد المصريين إلى عثمان طالبوا أن يولي عليهم محمد بن أبي بكر ، ثم تصاعد اعتراضهم فبايعوا ابن أبي حذيفة ، وطردوا والي عثمان ! ( الطبري : 3 / 548 )
وكتبوا رسالة إلى عثمان ( تاريخ المدينة : 3 / 1120 ) يحذرونه أن يسلط أقاربه على رقاب المسلمين ، فلم ينفع نصحهم فجاءوا وفداً في سبع مئة مقاتل وفاوضوه ، وحاصروه . قال ابن حجر في الإصابة ( 6 / 10 ) : « ثم جهزابن أبي حذيفةالذين ثاروا على عثمان وحاصروه إلى أن كان من قتله ما كان » .

7 . هتف المصريون وأهل المدينة باسم علي ( ( ع ) )

7 . هتف المصريون وأهل المدينة باسم علي ( ( ع ) )
جاء علي إلى المدينة فوجد عثمان قد قتل : « وجاء الناس كلهم يهرعون إلى عليٍّ ( عليه السلام ) حتى دخلوا عليه داره فقالوا له : نبايعك فمُدَّ يدك فلا بد من أمير . فقال علي :
--------------------------- 34 ---------------------------
ليس ذلك إليكم ، إنما ذلك لأهل بدر ، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة ، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً فقالوا : ما نرى أحداً أحق بها منك ، مد يدك نبايعك فقال : أين طلحة والزبير ؟ فكان أول من بايعه طلحة بلسانه وسعد بيده ، فلما رأى ذلك علي خرج إلى المسجد فصعد المنبر فكان أول من صعد إليه طلحة فبايعه بيده ، ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب النبي ( ( عليهما السلام ) ) .

تولية قيس بن سعد بن عبادة على مصر

تولية قيس بن سعد بن عبادة على مصر
1 . بعث علي ( عليه السلام ) قيس بن سعد بن عبادة والياً على مصرفبايعه أهلها ، إلا جماعة متعصبة لعثمان ، فأمره الإمام ( عليه السلام ) أن يُلزمهم بالطاعة أويقاتلهم ، لكن قيساً ارتكب خطأ قاتلاً فأطلق سراح شخصين سفَّاكين للدماء : معاوية بن حديج السكوني وبُسر بن أبي أرطاة ، كان محمد بن أبي حذيفة ( رحمه الله ) حبسهما لئلا يفسدا مصر
( تاريخ دمشق : 39 / 423 ) فأطلقهما قيس ، فجعلا قرية خَرَبْتَا قاعدة أموية ! ثم أمدهم معاوية فتكاثروا وقووا ، فعزل الإمام قيساً ، وولى مكانه محمد بن أبي بكر . فقد تصور قيس أنه بسكوته عنهما كف عدواً ، لكن شيطنة معاوية الأموية غلبت سذاجته الأنصارية ، وحاول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يفهِّم قيساً ، لكنه أصرَّ على موقفه ، ثم ندم قيس لما ثاروا على خلفه محمد بن أبي بكر وقتلوه ، كما قتلوا مالك الأشتر ، الذي سارع لنجدة مصر ، قتلوه غيلة ثم حاربوا محمد بن أبي بكر وقتلوه ! فتسلط عمرو العاص والأمويون مجدداً على مصر .
قال الطبري : 3 / 553 : « فلما بلغ ذلك علياً اتهم قيساً ، وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا ، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم وكتب إلى علي إنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم وأهل الحفاظ منهم ، وقد رضوا مني أن أومن سربهم وأجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ، وقد علمت أن هواهم مع معاوية ، فلست مكايدهم بأمرأهون علي وعليك من الذي أفعل بهم ، ولو أني غزوتهم كانوا لي قرناً وهم أسود العرب ، ومنهم بسر بي أرطاة ومسلمة بن مخلد ومعاوية بن خديج ، فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم ! فأبى علي إلاقتالهم وأبى قيس أن يقاتلهم ، فكتب قيس إلى
--------------------------- 35 ---------------------------
علي إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك ، وابعث إليه غيري ! فبعث علي الأشتر أميراً إلى مصرحتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه ، فبلغ ذلك معاوية وعمرو بن العاص ، فقال عمرو بن العاص : إن لله جنوداً من عسل ) !
أقول : كان رأي علي ( عليه السلام ) هو الصحيح ولو أطاعه قيس لخلص مصرمن الوباء الأموي ، لكنه فوت الفرصة ووقع في خطأ قاتل غفر الله له !
2 . قالت رواية الطبري : إنه بعث محمد بن أبي بكر بعد وفاة الأشتر ، وهو اشتباهٌ لأن محمداً كان الوالي ، فأرسل الإمام ( عليه السلام ) الأشتر بدله فقتل قبل أن يتسلم عمله ! ففي الغارات ( 1 / 301 ) : « عن مالك بن الجون الحضرمي أن علياً ( عليه السلام ) قال : رحم الله محمداً كان غلاماً حدثاً ، أما والله لقد كنت أردت أن أولي المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مصر ، والله لو أنه وليها لما خلَّى لعمرو بن العاص وأعوانه العرصة ، ولما قُتل إلاوسيفه في يده ، بلا ذم لمحمد بن أبي بكر ، فلقد أجهد نفسه وقضى ما عليه . قال : فقيل لعلي ( عليه السلام ) : لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين . قال : وما يمنعني ؟ إنه كان لي ربيباً ، وكان لبنيَّ أخاً ، وكنت له والداً ، أعده ولداً » .
قد يقال : لماذا نصب محمد بن أبي بكرعلى مصر ، ولم يولِّ هاشم المرقال أو الأشتر ، وهو يعلم خطورة جماعة معاوية ؟ والجواب : أن أهل مصرطلبوا محمد بن أبي بكر ، وكان الإمام ( عليه السلام ) بحاجة إلى الأشتر والمرقال في حرب صفين . والأئمة ( عليهم السلام ) لا يفعلون إلا ما يؤمرون به من النبي ( ( عليهما السلام ) ) أو بإلهام الله لهم .
قال بريدة : « فوقعت في علي حتى فرغت ، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غضب غضباً لم أره غضب مثله ، فنظر إلي فقال : يا بريدة أحب علياً ، فإنما يفعل ما يؤمر به » .
( المعجم الأوسط : 5 / 117 ، وأحمد ) .
3 . كان قيس بن سعد بن عبادة وعامة الأنصار ، ثابتين في ولائهم لعلي ( عليه السلام ) وقد شاركوا معه بفعالية في حروبه ، ولم يشارك منهم مع معاوية إلا شخصان من صبيانهما العاديين : النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد !
--------------------------- 36 ---------------------------
وفي مقاتل الطالبيين / 47 : « ولما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد بن عبادة يدعوه إلى البيعة ، فلما أرادوا أن يدخلوه إليه قال : إني قد حلفت أن لا ألقاه إلا بيني وبينه الرمح أو السيف ! فأمر معاوية برمح أو سيف ، فوضع بينه وبينه ، ليبرَّ يمينه » !

رسائل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) إلى أهل مصر وواليهم

رسائل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) إلى أهل مصر وواليهم
كان الإمام ( عليه السلام ) حريصاً على أن يخاطب أهل مصر مباشرة ، فخاطبهم في عهوده لولاته ، وأرسل إليهم رسائل خاصة وأمر الوالي أن يقرأها عليهم .
قال الحارث بن كعب : كنت مع محمد بن أبي بكر حيث قدم مصرفلما أتاها قرأ عليهم عهده : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر ، أمره بتقوى الله في السر والعلانية ، وخوف الله في المغيب والمشهد ، وباللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذمة ، وبالإنصاف للمظلوم ، وبالشدة على الظالم ، وبالعفو عن الناس ، وبالإحسان ما استطاع ، والله يجزي المحسنين . وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة ، فإن لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه .
وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ، ولا ينتقص منه ولايبتدع فيه ، ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل . وأمره أن يلين لهم جناحه ، وأن يساوي بينهم في مجلسه ووجهه ، وليكن القريب والبعيد عنده في الحق سواء . وأمره أن يحكم بين الناس بالحق ، وأن يقوم بالقسط ، ولا يتبع الهوى ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، فإن الله مع من اتقاه وآثر طاعته على ما سواه ، والسلام .
وكتبه عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لغرة رمضان سنة ست وثلاثين
وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني / 176 ، ومنهاج البراعة للخوئي : 19 / 73 :
« لما ولَّى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب محمد بن أبي بكر مصروأعمالها كتب له كتاباً وأمره أن يقرأه على أهل مصرويعمل بما وصاه به ، فكان الكتاب :
بسم الله الرّحمن الرّحيم . من عبد الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى أهل
--------------------------- 37 ---------------------------
مصرومحمد بن أبي بكر : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلَّا هو ، أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون ، فإنّ الله تعالى يقول : كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، ويقول : ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَه وإِلَى الله الْمَصِيرُ . ويقول : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ .
واعلموا عباد الله أن الله عزَّ وجلَّ سائلكم عن الصغير من أعمالكم والكبير ، فإن يعذِّب فنحن أظلم ، وإن يعفُ فهو أرحم الرّاحمين .
يا عباد الله : إن أقرب ما يكون العبدإلى المغفرة والرحمة حين يعمل لله بطاعته وبنصحه في التوبة . عليكم بتقوى الله ، فإنها تجمع الخير ولا خير غيرها ، ويدرك بها من الخيرما لا يدرك بغيرها ، من خير الدنيا والآخرة قال الله عز وجل : وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِه الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ .
إعلموا يا عباد الله أن المؤمن يعمل من الثواب لثلاث : أما الخير فإن الله يثيبه بعمله في دنياه ، قال الله سبحانه لإبراهيم : وآتَيْناه أَجْرَه فِي الدُّنْيا وإِنَّه فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، فمن عمل لله تعالى أعطاه أجره في الدّنيا والآخرة وكفاه المهم فيهما ، وقد قال الله تعالى : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِه الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأَرْضُ الله واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة ، قال الله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ ، والحسنى هي الجنة ، والزيادة هي الدنيا .
وإن الله تعالى يكفِّر بكل حسنة سيئة ، قال الله عزَّ وجلَّ : إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ، حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، قال الله عز وجل : جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ، وقال : إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ . فارغبوا في هذا رحمكم الله واعملوا له وتحاضّوا عليه .
واعلموا يا عباد الله ، أن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في
--------------------------- 38 ---------------------------
دنياهم ، ولهم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، أباحهم في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ، قال الله عزَّ اسمه : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِه والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، سكنوا الدنيا بأفضل ماسكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون ، وشربوا من طيبات ما يشربون ، ولبسوا من أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون ، وركبوا من أفضل ما يركبون . أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ، وهم غداً جيران الله ، يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون ، لا يردُّ لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيباً من اللَّذة . فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل ويعمل بتقوى الله ، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله .
يا عباد الله ، إن اتقيتم وحفظتم نبيكم في أهل بيته ، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد ، وذكرتموه بأفضل ما ذكر ، وشكرتموه بأفضل ما شكر ، وأخذتم بأفضل الصبر والشكر ، واجتهدتم أفضل الإجتهاد ، وإن كان غيركم أطول منكم صلاة وأكثر منكم صياماً ، فأنتم أتقى لله منه وأنصح لأولي الأمر .
إحذروا يا عباد الله الموت وسكرته ، فأعدُّوا له عُدَّته فإنه يفجؤكم بأمر عظيم : بخير لا يكون معه شرٌّ أبداً ، أو بشرٍّ لا يكون معه خيرٌ أبداً ، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها ، ومن أقرب إلى النار من عاملها . إنه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أيِّ المنزلتين يصير إلى الجنة أم النار ، أعدوٌّ هو لله أو وليٌّ ، فإن كان وليّاً لله فُتحت له أبواب الجنة ، وشُرعت له طرقها ، ورأى ما أعدَّ الله له فيها ، ففرغ من كل شغل ، ووضع عنه كل ثقل . وإن كان عدوَّاً لله فتحت له أبواب النار ، وشرع له طرقها ، ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها ، فاستقبل كل مكروه ، وترك كل سرور .
كل هذا يكون عند الموت وعنده يكون بيقين ، قال الله تعالى : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . ويقول : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ .
--------------------------- 39 ---------------------------
عباد الله : إن الموت ليس منه فوت ، فاحذروا قبل وقوعه ، وأعدوا له عدته فإنكم طرداء الموت : إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، وهو ألزم لكم من ظلِّكم ، الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تُطوى خلفكم ، فأكثروا ذكرالموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات ، وكفى بالموت واعظاً . وكان رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كثيراً ما يوصي أصحابه بذكرالموت فيقول : أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذّات ، حائل بينكم وبين الشهوات .
يا عباد الله : ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت : القبر . فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته ، إن القبر يقول كل يوم : أنا بيت الغربة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدُّود والهوام . والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، إن العبدالمؤمن إذا دفن قالت له الأرض مرحباً وأهلاً ، قد كنت من أحبُّ أن تمشي على ظهري ، فإذْ وليتُك فستعلم كيف صنيعي بك ، فيتسع له مدَّ البصر .
وإن الكافر إذا دفن قالت له الأرض : لامرحباً بك ولا أهلاً ، لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري ، فإذا وليتُك فستعلم كيف صنيعي بك ، فتضمُّه حتى تلتقي أضلاعه !
وإن المعيشة الضنك الَّتي حذَّر الله منها عدوه عذاب القبر أنه يسلِّط على الكافر في قبره تسعةً وتسعين تنيناً فينهشن لحمه ويكسرن عظمه ، ويترددن عليه كذلك إلى يوم البعث ، لو أن تنيناً منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعاً !
يا عباد الله : إن أنفسكم الضعيفة ، وأجسادكم الناعمة الرقيقة التي يكفيها اليسير ، تضعف عن هذا ، فإن استطعتم أن تجزعوا لأجسادكم وأنفسكم مما لا طاقة لكم ولا صبر لكم عليه ، فاعملوا بما أحبَّ الله واتركوا ما كره الله .
يا عباد الله : إن بعد البعث ما هو أشدُّ من القبر ، يومٌ يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، ويسقط فيه الجنين ، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، يوم عبوس قمطرير ، يوم كان شره مستطيراً .
--------------------------- 40 ---------------------------
إن فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشق السماء فهي يومئذ واهية ، وتصير وردة كالدهان ، وتكون الجبال كثيباً مهيلاً بعد ما كانت صُمّاً صِلاباً ، وينفخ في الصور فيفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن ، إن لم يغفر الله له ويرحمه من ذلك اليوم ، لأنه يقضي ويصير إلى غيره ، إلى نار قعرها بعيد ، وحرها شديد ، وشرابها صديد ، وعذابها جديد ، ومقامعها حديد . لا يفتر عذابها ، ولا يموت سكانها . دار ليس فيها رحمة ، ولا يسمع لأهلها دعوة .
واعلموا يا عباد الله ، أن مع هذا رحمة الله التي لاتعجز عن العباد ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ للَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ، خيرٌ لا يكون معها شرٌّ أبداً ، لذَّاتها لاتمل ، ومجتمعها لايتفرق ، سكانها قد جاوروا الرحمن وقام بين أيديهم الغلمان ، بصحاف من الذهب فيها الفاكهة والريحان .
ثم اعلم يا محمد بن أبي بكر ، أني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي : أهل مصر ، فإذْ وليتك ما وليتك من أمر الناس ، فأنت حقيق أن تخاف منه على نفسك ، وأن تحذر منه على دينك ، فإن استطعت أن لا تسخط ربك عز وجل برضا أحد من خلقه فافعل ، فإن في الله عز وجل خلفاً من غيره ، وليس في شئ سواه خلف منه . إشتدَّ على الظالم وخذ عليه ، ولن لأهل الخير وقربهم ، واجعلهم بطانتك وإخوانك . وانظر إلى صلاتك كيف هي ، فإنك إمام القوم ينبغي لك أن تتمها ولاتخففها ، فليس من إمام يصلي بقوم يكون في صلاتهم نقصان إلا كان عليه . وتممها وتحفظ فيها يكن لك مثل أجورهم ، ولا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً .
ثم انظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة ، وتمضمض ثلاث مرات ، واستنشق ثلاثاً ، واغسل وجهك ، ثم يدك اليمنى ، ثم يدك اليسرى ، ثم امسح رأسك ورجليك ، فإني رأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يصنع ذلك . واعلم أن الوضوء نصف الإيمان . ثم ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ، ولا تعجل بها قبله لفراغ ، ولا تؤخرها عنه لشغل ،
--------------------------- 41 ---------------------------
فإن رجلاً سأل رسول الله عن أوقات الصلاة فقال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : أتاني جبرئيل ( عليه السلام ) فأراني وقت الصلاة فصلى الظهر حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن ، ثم أراني وقت العصر فكان ظل كل شئ مثله ، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس ، ثم صلى العشاء الآخرة حين غاب الشفق ، ثم صلى الصبح فغلس بها والنجوم مشتبكة . فصل لهذه الأوقات ، والزم السنة المعروفة ، والطريق الواضح . ثم انظر ركوعك وسجودك ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كان أتم الناس صلاة ، وأخفهم عملاً فيها . واعلم أن كل شئ من عملك تبعٌ لصلاتك ، فمن ضيع الصلاة ، فإنه لغيرها أضيع .
أسأل الله الذي يرى ولا يرى وهو بالمنظر الأعلى ، أن يجعلنا وإياك ممن يحب ويرضى ، حتى يعيننا وإياك على شكره وذكره وحسن عبادته وأداء حقه ، وعلى كل شئ اختار لنا في دنيانا وآخرتنا .
وأنتم يا أهل مصر ، فليصدق قولكم فعلكم ، وسركم علانيتكم ، ولا تخالف ألسنتكم قلوبكم ، واعلموا أنه لا يستوي إمام الهدى وإمام الردى ، ووصي النبي وعدوه . وقد قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً ، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه وأما المشرك فيخزيه الله ويقمعه بشركه ولكني أخاف عليكم كل منافق حلو اللسان ، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون ، ليس به خفاء . وقد قال النبي ( ( عليهما السلام ) ) : من سرته حسناته وساءته سيئاته فذلك المؤمن حقاً . وكان يقول ( ( عليهما السلام ) ) : خصلتان لا يجتمعان في منافق : حسن سمت وفقه في سنة .
يا محمد بن أبي بكر ، إعلم أن أفضل الفقه الورع في دين الله ، والعمل بطاعته ، وإني أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيتك وعلى أي حال كنت عليه . الدنيا دار بلاء ، والآخرة دار الجزاء ودار البقاء ، فاعمل لما يبقى ، واعدل عما يفنى ، ولا تنس نصيبك من الدنيا .
إني أوصيك بسبع هن جوامع الإسلام : تخشى الله عز وجل ولاتخشى الناس في الله ، وخير القول ما صدقه العمل ، ولاتقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين
--------------------------- 42 ---------------------------
فيختلف أمرك وتزيغ عن الحق ، وأحب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، فإن ذلك أوجب للحجة وأصلح للرعية ، وخض الغمرات إلى الحق ولا تخف في الله لومة لائم ، وانصح المرء إذا استشارك ، واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم . وأمر بالمعروف وَانْهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك ، إن ذلك من عزم الأمور .
جعل الله عز وجل مودتنا في الدين ، وحلانا وإياكم حلية المتقين ، وأبقى لكم طاعتكم ، حتى يجعلنا وإياكم بها إخواناً ، على سرر متقابلين .
أحسنوا أهل مصر مؤازرة محمد أميركم ، واثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيكم ( ( عليهما السلام ) ) . أعاننا الله وإياكم على ما يرضيه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » .
أقول : تضمنت الرسالة حقائق هامة عن عقيدة الإسلام ، ونظرته إلى الحياة والحياة الآخرة ، والتعامل معهما . وهدف أمىر المؤمنىن ( عليه السلام ) تثبيت الإسلام في نفوس المصريين . ونلاحظ أنه يخاطبهم كما يخاطب خاصة المسلمين ، لأنهم أهلٌ لاستيعاب حقائق الإسلام والقرآن ، وسلوك الأبرارالأتقياء . ولا شك أن للحضارة المصرية والديانة المسيحية في مصر ، تأثيرهما في رفع مستوى المصريين .
فحريٌّ بالمصري أن يقرأ هذه الرسالة ويتدبر فيها ، لأن أمير المؤمنين خاطبه فيها !
هذا ، وقد أرسل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأهل مصر رسالة مع قيس بن سعد ، كما ستأتي رسالته الىهم مع الأشتر رضي الله عنه ، وعهده المفصل اليه .

غزو معاوية لمصر بعد معركة صفين

غزو معاوية لمصر بعد معركة صفين
روى الثقفي في الغارات ( 1 / 270 ) عن عبد الله بن حوالة الأزدي : « إن أهل الشام لما انصرفوا من صفين كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان . فما كان لمعاوية همٌّ إلا مصر ، قال : فدعا معاوية من كان معه من قريش : عمرو بن العاص السهمي ، وحبيب بن مسلمة الفهري ، وبسر بن أرطاة العامري ، والضحاك بن قيس الفهري ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، ودعا من غير قريش نحو شرحبيل بن السمط ، وأبي الأعور السلمي ، وحمزة بن مالك الهمداني ، فقال : أتدرون لماذا دعوتكم ؟ قالوا : لا ، قال :
--------------------------- 43 ---------------------------
فإني دعوتكم لأمر مهم ! قال : فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري ، وإلى معاوية بن حديج الكندي ، وكانا قد خالفا علياً ( عليه السلام ) :
بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإن الله عز وجل قد ابتعثكما لأمرعظيم أعظم به أجركما ورفع به ذكركما وزينكما به في المسلمين ، طلبتما بدم الخليفة المظلوم ، وغضبتما لله إذ ترك حكم الكتاب ، وجاهدتما أهل الظلم والعدوان ، فأبشرا برضوان الله ، وعاجل نصرة أولياء الله ، والمواساة لكما في دار الدنيا وسلطاننا ، حتى ينتهي ذلك إلى ما يرضيكما ويؤدى به حقكما ، فالزما أمركما ، وجاهدا عدوكما ، وادعوا المدبرين عنكما إلى هداكما ، فكأن الجيش قد أظل عليكما فانقشع كل ما تكرهان ، ودام كل ما تهويان ، والسلام عليكما . وبعث بالكتاب مع مولى له يقال له : سبيع فخرج الرسول بكتابه حتى قدم به عليهما بمصر ، ومحمد بن أبي بكر يومئذ أميرها قد ناصبه هؤلاء النفر الحرب بها ، وهم عنه متنحون يهابون الإقدام عليه ، فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد ، فلما قرأه قال له : إلق به معاوية بن حديج ، ثم إلقنى به حتى أجيب عني وعنه . فانطلق الرسول بكتاب معاوية فأقرأه إياه ، ثم قال له : إن مسلمة قد أمرني أن أرد الكتاب إليه لكي يجيب معاوية عنك وعنه . قال : قل له فليفعل ، فأتى مسلمة بالكتاب فكتب مسلمة الجواب عنه وعن معاوية بن حديج : إلى معاوية بن أبي سفيان : أما بعد فإن هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا وابتعثنا الله به على عدونا ، أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر على من خالفنا ، وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا ، وطأطأ الركض في جهادنا . ونحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي ، وأنهضنا من كان بها من أهل القسط والعدل ، وقد ذكرت مؤازرتك في سلطانك وذات يدك وبالله إنه لا من أجل مال غضبنا ولا إياه أردنا ، فإن يجمع الله لنا ما نريد ونطلب ، ويؤتنا ما نتمنى فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين ، وقد يؤتيهما الله معاً عالماً من خلقه ، كما قال في كتابه : فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
--------------------------- 44 ---------------------------
عجل علينا بخيلك ورجلك ، فإن عدونا قد كان علينا حرباً ، وكنا فيهم قليلاً ، وقد أصبحوا لنا هائبين وأصبحنا لهم منابذين فإن يأتنا مدد من قبلك يفتح الله عليك . ولا قوة إلا به وهو حسبنا ونعم الوكيل .
قال : فجاء هذا الكتاب معاوية وهو يومئذ بفلسطين . . قال معاوية : فتجهز إليها يا أبا عبد الله يعني عمرو بن العاص ، فبعثه في ستة آلاف رجل ، فخرج يسير وخرج معه معاوية يودعه فقال له معاوية عند وداعه إياه : أوصيك بتقوى الله يا عمرو ، وبالرفق فإنه يمن ، وبالتؤدة فإن العجلة من الشيطان ، وبأن تقبل من أقبل ، وأن تعفوعمن أدبر ، أنظره فإن تاب وأناب قبلت منه ، وإن أبى فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ في الحجة وأحسن في العاقبة ، وادع الناس إلى الصلح والجماعة ، فإن أنت ظفرت ، فليكن أنصارك آثر الناس عندك ، وكلَّ الناس فأوْلِ حسناً .
قال : فسار عمرو في الجيش حتى دنا من مصرفاجتمعت إليه العثمانية فأقام وكتب إلى محمد بن أبي بكر : أما بعد فتنحَّ عني بدمك يا ابن أبي بكر ، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر ، وإن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ، ورفض أمرك ، وندموا على اتباعك ، وهم مُسْلِمُوكَ لو قد التقت حلقتا البطان ، فأخرج منها إني لك من الناصحين . والسلام .
قال : وبعث عمرو أيضاً مع هذا الكتاب بكتاب معاوية إليه وفيه :
أما بعد فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال ، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا ، والتبعة الموبقة في الآخرة ، وما نعلم أحداً كان أعظم على عثمان بغياً ، ولا أسوأ له عيباً ، ولا أشد عليه خلافاً منك . سعيت عليه في الساعين ، وساعدت عليه مع المساعدين ، وسفكت دمه مع السافكين ، ثم أنت تظن أني عنك نائم ، ثم تأتي بلدة فتأمن فيها وجل أهلها أنصاري ، يرون رأيي ويرقبون قولي ويستصرخونني عليك .
وقد بعثت إليك قوماً حناقاً عليك ، يستسفكون دمك ، ويتقربون إلى الله بجهادك ، قد أعطوا الله عهداً ليقتلنك ، ولو لم يكن منهم إليك ما قالوا لقتلك الله بأيديهم أو بأيدي
--------------------------- 45 ---------------------------
غيرهم من أوليائه ، فأحذرك وأنذرك ، وأحب أن يقتلوك بظلمك ووقيعتك وعدوانك على عثمان يوم الدار ، تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه وأوداجه ، ولكني أكره أن تقتل ولن يسلمك الله من القصاص أين كنت . والسلام .
فطوى محمد بن أبي بكر كتابيهما وبعث بهما إلى علي ( عليه السلام ) وكتب إليه : أما بعد فإن العاصي ابن العاص قد نزل أداني مصر ، واجتمع إليه من أهل البلد كل من كان يرى رأيهم ، وقد جاء في جيش جرار ، وقد رأيت ممن قبلي بعض الفشل فإن كان لك في أرض مصرحاجة فامددني بالأموال والرجال . فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أما بعد فقد جاءني رسولك بكتابك تذكر أن ابن العاص قد نزل أداني مصرفي جيش جرار ، وأن من كان على مثل رأيه قد خرج إليه ، وخروج من كان يرى رأيه خير لك من إقامته عندك ، وذكرت أنك قد رأيت ممن قبلك فشلاً ، فلا تفشل وإن فشلوا ! حصن قريتك ، واضمم إليك شيعتك وأذك الحرس في عسكرك ، واندب إلى القوم كنانة بن بشرالمعروف بالنصيحة والتجربة والبأس ، وأنا نادب إليك الناس على الصعب والذلول ، فاصبر لعدوك وامض على بصيرتك ، وقاتلهم على نيتك ، وجاهدهم محتسباً لله ، وإن كانت فئتك أقل الفئتين ، فإن الله يعز القليل ويخذل الكثير . وقد قرأت كتابي الفاجرين المتحابين على المعصية ، والمتلائمين على الضلالة والمرتشيين الذين استمتعا بخلاقهما ، فلايهدنك إرعادهما وإبراقهما ، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله ، فإنك تجد مقالاً ما شئت . والسلام .
قال : فكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية جواب كتابه : أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر من أمر عثمان أمراً لا أعتذر إليك منه ، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح ، وتخوفني بالمثلة كأنك علي شفيق ، وأنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم وأن يهلككم الله في الواقعة ، وأن ينزل بكم الذل وأن تولوا الدبر ، فإن يكن لكم الأمر في الدنيا فكم وكم لعمري من ظالم قد نصرتم ، وكم من مؤمن قد قتلتم ومثلتم به ، وإلى الله المصير ، وإليه ترد الأمور ، وهو أرحم الراحمين ، والله المستعان على ما تصفون .
--------------------------- 46 ---------------------------
قال : وكتب محمد بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص جواب كتابه : أما بعد فقد فهمت كتابك وعلمت ما ذكرت ، وزعمت أنك لا تحب أن يصيبني منك ظفر ، فأشهد بالله إنك لمن المبطلين ، وزعمت أنك لي ناصح ، وأقسم أنك عندي ظنين ، وزعمت أن أهل البلد قد رفضوني وندموا على اتباعي ، فأولئك حزبك وحزب الشيطان الرجيم ، حسبنا الله رب العالمين ونعم الوكيل ، وتوكلت على الله العزيز الرحيم ، رب العرش العظيم .
قال : وأقبل عمرو بن العاص فقصد مصر ، فقام محمد بن أبي بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : أما بعد يا معشر المؤمنين فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة ، وينعشون الضلالة ، ويشبون نار الفتنة ، ويستطيلون بالجبرية ، قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجالدهم في الله . إنتدبوا إلى هؤلاء رحمكم الله ، مع كنانة بن بشر ، ومن يجيب معه من كندة . فانتدب معه ألفا رجل ، وخرج محمد في نحو ألفين ، واستقبل عمرو كنانة وهو على مقدمة محمد ، فأقبل عمرو نحو كنانة ، فلما دنا منه سرح نحوه الكتائب كتيبة بعد كتيبة ، فجعل كنانة لا يأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام ، إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يلحقها بعمرو ، ففعل ذلك مراراً ، فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي ، فأتاه في مثل الدهم فلما رأى كنانة ذلك الجيش ، نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه ، فضاربهم بسيفه وهو يقول : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ . ثم ضاربهم بسيفه حتى استشهد ( رحمه الله ) . وإن عمرو بن العاص لما قتل كنانة أقبل نحو محمد بن أبي بكر ، وقد تفرق عنه أصحابه ، فلما رأى ذلك محمد خرج يمضي في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها .
وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط ، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر ، حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم : هل مر بكم أحد تنكرونه ؟ قالوا : لا ، فقال أحدهم : إني دخلت تلك الخربة فإذا أنا فيها برجل جالس . فقال ابن حديج : هو هو ورب الكعبة ، فانطلقوا يركضون حتى دخلوا عليه
--------------------------- 47 ---------------------------
واستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً ، فأقبلوا به نحو الفسطاط . قال : ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص ، وكان في جنده فقال : والله لا يقتل أخي صبراً ، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه عن قتله ! فأرسل عمرو إلى معاوية أن إئتني بمحمد ، فقال معاوية : أقتلتم كنانة بن بشر ابن عمي وأخلي عن محمد ! هيهات ، أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ! فقال محمد : إسقوني قطرة من الماء .
فقال معاوية : لاسقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً ، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه ظامياً محرماً فسقاه الله من الرحيق المختوم ، والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن ، فيسقيك الله من الحميم والغسلين !
فقال له محمد بن أبي بكر : يا ابن اليهودية النساجة : ليس ذلك إليك ولا إلى من ذكرت ، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه ، وهم أنت وقرناؤك ، ومن تولاك وتوليته . والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم ! فقال له معاوية بن حديج : أتدري ما أصنع بك ! أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار !
فقال محمد : لئن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله ، وأيم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها عليَّ برداً وسلاماً ، كما جعلها على إبراهيم خليله ، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه ، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك يعني معاوية بن أبي سفيان ، وهذا وأشار إلى عمرو بن العاص بنار تلظى عليكم ، كلما خبت زادها الله سعيراً . فقال له معاوية : إني لا أقتلك ظلماً إنما أقتلك بعثمان . فقال له محمد : وما أنت وعثمان ؟ إن عثمان عمل بغير الحق وبدل حكم القرآن وقد قال الله عز وجل : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . وأولئك هم الظالمون ، وأولئك هم الفاسقون ، فنقمنا عليه أشياء عملها ، فأردناأن يختلع من عملنا فلم يفعل ، فقتله من قتله من الناس ، فغضب معاوية بن حديج فقدمه فضرب عنقه ، ثم ألقاه في جوف حمار
--------------------------- 48 ---------------------------
وأحرقه بالنار !
فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ، وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها ، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها .
عن عبد الله بن شداد ، قال : حلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً فما أكلت شواءً بعد مقتل محمد حتى لحقت بالله ، وما عثرت قط إلا قالت : تعس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج .
عن أبي إسحاق : أن أسماء بنت عميس لما أتاها نعي محمد بن أبي بكر وما صُنع به ، كظمت حزنها وقامت إلى مسجدها ، حتى تشخبت دماً .
قال : دخل معاوية بن حديج على الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) مسجد المدينة فقال له الحسن : ويلك يا معاوية أنت الذي تسب أمير المؤمنين علياً ( عليه السلام ) ! أما والله لئن رأيته يوم القيامة وما إن أظنك تراه ، لترينه كاشفاً عن ساق يضرب وجوه المنافقين ضرب غريبة الإبل .
قال : وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان عند قتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر : أما بعد فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر ، فدعوناهم إلى الكتاب والسنة فعصوا الحق وتهوكوا في الضلال ، فجاهدناهم فاستنصرنا الله عليهم فضرب الله وجوههم وأدبارهم ومنحنا أكتافهم ، فقتل محمد بن أبي بكر ، وكنانة بن بشر ، والحمد لله رب العالمين . والسلام » .
وفي الغارات ( 2 / 756 ) : ( فدخلوا إليه وربطوه بالحبال وجروه على الأرض وأمر به أن يحرق بالنار في جيفة حمار ! ودفن في الموضع الذي قتل فيه .
فلما كان بعد سنة من دفنه ، أتى غلامه وحفر قبره ، فلم يجد فيه سوى الرأس ، فأخرجه ودفنه في المسجد تحت المنارة ) .
وفي المواعظ للمقريزي : 3 / 75 : ( فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر ، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر ، سنة ثمان وثلاثين ) .
--------------------------- 49 ---------------------------
وقال اليعقوبي ( 2 / 194 ) : ( وجه معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرط له ، فقدمها سنة 38 ، ومعه جيش عظيم من أهل الشام ، فكان على دمشق يزيد بن أسد البجلي ، وعلى أهل فلسطين شمير الخثعمي ، وعلى أهل الأردن أبوالأعور السلمي ، ومعاوية بن حديج الكندي على الخارجة ، فلقيهم محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة ، فحاربهم محاربة شديدة ، وكان عمرو يقول : ما رأيت مثل يوم المسناة ، وقد كان محمد استذم إلى اليمانية ، فمايل عمرو بن العاص اليمانية ، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده ، فجالد ساعة ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة ، واتبعه ابن حديج الكندي فأخذه وقتله ، وأدخله جيفة حمار ، وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف . وبلغ علياً ضعف محمد بن أبي بكر ، وممالأة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص ، فقال : ما أُتيَ محمد من حَرَض » !
معناه : ما غلبه أعداؤه لضعف دينه أو عقله ، ولكنها المقادير .
وقال الدكتور إبراهيم حسن في : تاريخ عمرو بن العاص / 268 : « قال المقريزي : إن الموقعة المذكورة كانت في مدينة يقال لها المنشأة . وقد ذكرها اليعقوبي المسناة ، أما المنشأة فقد ذكرها المرحوم علي مبارك باشا في خططه فقال : يوجد من هذا الاسم عدة قرى أكبرها وأشهرها منشأة أخميم ، ثم منشأة بكار ، من مديرية الجيزة ، ومنشأة سدود من مديرية المنوفية ، ومنشأة سيوط ، ومنشأة عاصم ، وهي قرية من مديرية الدقهلية بمركز دكرنس على الشاطئ الشرقي للبحر الصغير . والظاهر أن الواقعة كانت في هذه القرية وباسمها سميت » .
وقال الأستاذ الورداني في كتاب الشيعة في مصر / 109 : « يقع مرقده في بلدة ميت دمسيس التابعة للمنصورة ، وهناك قبر ناحية الفسطاط يقال له محمد الصغير ، والعامة يعتقدون أنه محمد بن أبي بكر ، إلا أن الراجح أن مرقده ناحية المنصورة » .
--------------------------- 50 ---------------------------

محاولة علي ( ( ع ) ) نصرة محمد بن أبي بكر رضي الله عنه

محاولة علي ( ( ع ) ) نصرة محمد بن أبي بكر رضي الله عنه
تسلم محمد رضي الله عنه حكم مصرمن قيس بن سعد ، وأخذ يعالج مشكلة جماعة معاوية ، التي كبرت وصارت ألوف المقاتلين ! وتفاقم الخطر عليه فكتب إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليمده بجيش ، فتباطأ المسلمون عن إجابته . ثم أرسل الإمام ( عليه السلام ) الأشتر رضي الله عنه ، لكن معاوية وأنصاره دبَّروا له السم عند مشارف القاهرة ، فاستشهد قبل أن يتسلم عمله . ونشط الحزب الأموي في خَرَبْتَا ، بقيادة مسلمة بن مخلد ، ومعاوية بن حديج ، وبسر بن أرطاة ، لحرب محمد ، ووعدهم معاوية أن يرسل لهم جيشاً .
روى الثقفي في الغارات ( 1 / 288 ) عن جندب بن عبد الله قال : « والله إني لعند عليٍّ ( عليه السلام ) جالس ، إذْ جاءه عبد الله بن قعين جد كعب يستصرخ من قبل محمد بن أبي بكر وهو يومئذ أميرٌ على مصرفقام علي ( عليه السلام ) فنادى في الناس : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : أما بعد ، فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر . . إلى آخر ما تقدم ، وقال فيه : أخرجوا إلى الجرعة ( قرية بين الكوفة والحيرة ) لنتوافى هناك كلنا غداً ، إن شاء الله .
فلما كان الغد خرج يمشي فنزلها بكرةً فأقام بها حتى انتصف النهار يومه ذلك فلم يوافه منهم مائة رجل فرجع ، فلما كان العشي بعث إلى الأشراف فجمعهم فدخلوا عليه القصر وهو كئيب حزين فقال :
الحمد لله على ما قضى من أمر ، وقدر من فعل ، وابتلاني بكم أيتها الفرقة التي لاتطيع إذا أمرتُ ، ولا تجيب إذا دعوتُ ! لا أباً لغيركم ما تنتظرون بنصركم ربكم والجهاد على حقكم : الموتَ ، أو الذلَّ لكم في هذه الدنيا في غيرالحق ! والله لئن جاءني الموت ، وليأتيني فليفرقن بيني وبينكم وإني لصحبتكم لقال . ألا دينٌ يجمعكم ، ألاحميةٌ تغضبكم إذْ أنتم سمعتم بعدوكم ينتقص بلادكم ، ويشن الغارة عليكم !
أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الظلمة الطغام فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة ، فيجيبونه في السنة المرة والمرتين والثلاث ، إلى أي وجه شاء . ثم إني أدعوكم
--------------------------- 51 ---------------------------
وأنتم أولوا النهى وبقية الناس ، على المعونة وطائفة منكم على العطاء ، فتختلفون وتتفرقون عني ، وتعصونني وتخالفون عليَّ .
فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي فقال : يا أمير المؤمنين أندُب الناس معي فإنه لاعطر بعد عروس ، لمثل هذا اليوم كنت أدخر نفسي ، وإن الأجر لا يأتي إلا بالكره . ثم التفت إلى الناس وقال : اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوكم ، وأنا أسير إليهم يا أمير المؤمنين .
قال : فأمر عليٌّ مناديه سعداً مولاه فنادى : ألا سيروا مع مالك بن كعب إلى مصر ، وكان وجهاً مكروهاً ، فلم يجتمعوا إليه شهراً ، فلما اجتمع له منهم ما اجتمع ، خرج بهم مالك بن كعب فعسكر بظاهر الكوفة ، ثم إنه خرج وخرج معه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فنظروا فإذا جميع من خرج معه نحو من ألفي رجل ، فقال علي ( عليه السلام ) : سيروا على اسم الله ، فوالله ما إخالكم تدركون القوم حتى ينقضي أمرهم ! قال : فخرج مالك بهم ، وسار بهم خمس ليال . ثم إن الحجاج بن غزية الأنصاري قدم على علي ( عليه السلام ) من مصر ، وقدم عليه عبد الرحمن بن المسيب الفزاري من الشام ، فأما الفزاري فكان عينه ( عليه السلام ) بالشام ، وأما الأنصاري فكان مع محمد بن أبي بكر بمصرفحدثه الأنصاري بما عاين وشهد بهلاك محمد ، وحدثه الفزاري أنه لم يخرج من الشام حتى قدمت البشرى من قبل عمرو بن العاص تترى يتبع بعضها على أثر بعض بفتح مصر ، وقتل محمد بن أبي بكر ، وحتى أذَّن معاوية بقتله على المنبر ، فقال له : يا أمير المؤمنين ما رأيت يوماً قط سروراً مثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم هلاك ابن أبي بكر ! فقال علي ( عليه السلام ) : أما إن حزننا على قتله على قدر سرورهم به ، لا بل يزيد أضعافاً . قال : فسرح علي ( عليه السلام ) عبد الرحمن بن شريح الشامي إلى مالك بن كعب ، فرده من الطريق » .
وفي نهاية الإرب للنويري ( 1 / 112 ) : « فبعث إلى مالك بن كعب فرده من الطريق ، وذلك لأنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر .
فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس وهو نائبه على البصرة ، يشكو إليه ما يلقاه
--------------------------- 52 ---------------------------
من الناس من المخالفة » .

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على محمد بن أبي بكر

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على محمد بن أبي بكر
قال الثقفي في الغارات ( 1 / 295 ) : « وحزن علي ( عليه السلام ) على محمد بن أبي بكر حتى رؤيَ ذلك فيه وتبين في وجهه ، وقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
ألا وإن مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم ، الذين صدوا عن سبيل الله ، وبغوا الإسلام عوجاً .
ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد فعند الله نحتسبه . أما والله لقد كان ما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ، ويبغض شكل الفاجر ، ويحب هَيْن المؤمن . وإني والله ما ألوم نفسي على تقصير ولا عجز ، وإني بمقاساة الحرب لجد بصير ، وإني لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم ، وأقوم بالرأي المصيب فأستصرخكم معلناً ، وأناديكم نداء المستغيث معرباً ، فلاتسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً ، تُصَيِّرُون الأمور إلى عواقب المساءة ! فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار ، ولا تنقض بكم الأوتار !
دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين يوماً ، فجرجرتم عليَّ جرجرة الجمل الأشدق ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نية في جهاد العدو ، ولارأي له في اكتساب الأجر ! ثم خرج إلي منكم جُنيد متذائب ضعيف ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، فأفٍّ لكم ! ثم نزل ، فدخل رحله .
وكتب علي ( عليه السلام ) إلى عبد الله بن العباس وهو على البصرة : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن العباس : سلام عليك ورحمة الله وبركاته ، أما بعد فإن مصرقد افتتحت ، وقد استشهد محمد بن أبي بكر فعند الله عز وجل نحتسبه . وقد كنت كتبت إلى الناس وتقدمت إليهم في بدء الأمر ، وأمرتهم بإغاثته قبل الوقعة ، ودعوتهم سراً وجهراً ، وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتي كارهاً ، ومنهم المعتل كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً ! أسأل الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجاً ومخرجاً ، وأن يريحني منهم عاجلاً . فوالله لولا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة ، وتوطيني نفسي على المنية ، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً . عزم الله لنا ولك على الرشد ، وعلى
--------------------------- 53 ---------------------------
تقواه وهداه ، إنه على كل شئ قدير ) .
قال ابن أبي الحديد في شرحه ( 16 / 146 ) : « أنظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادَها وتُملكه زمامها . واعجب لهذه الألفاظ المنصوبة ، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه ، سلسةً سهلةً ، تتدفق من غير تعسف ولا تكلف ، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال : يوماً واحداً ، ولا التقي بهم أبداً . وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة ، جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة ، وتارة مجرورة ، وتارة منصوبة ، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثرٌ بين ، وعلامةٌ واضحة . وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ، ذكره عبد القاهر ، قال : أنظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة : الأولى منصوبة الفواصل ، والثانية ليس فيها منصوب أصلاً ، ولو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا ، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما . ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقةً بمقتضى البيان الطبيعي ، لا الصناعة التكلفية .
ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل ، كيف قال : ولداً ناصحاً وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً . ولو قال ولداً كادحاً ، وعاملاً ناصحاً ، وكذلك ما بعده لما كان صواباً ، ولا في الموقع واقعاً . فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة ! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ، ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء ، وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو ! ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية ، لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط ! ولم يربَّ بين الشجعان ، لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ، ولم يكونوا ذوي حرب ، وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض ! قيل لخلف الأحمر :
أيما أشجع عنبسة وبسطام أم علي ؟ فقال : إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة ! فقيل له : فعلى كل حال ؟ قال : والله لوصاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما !
--------------------------- 54 ---------------------------
وخرج أفصح من سحبان وقس ، ولم تكن قريش بأفصح العرب ، كان غيرها أفصح منها . قالوا : أفصح العرب جرهم ، وإن لم تكن لهم نباهة . وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفهم ، مع أن قريشاً ذووا حرص ومحبة للدنيا . ولا غرو فيمن كان محمد ( ( عليهما السلام ) ) مربيه ومخرجه ، والعناية الإلهية تمده وترفده ، أن يكون منه ما كان » !

حزن أسماء على ابنها وعائشة على أخيها محمد

حزن أسماء على ابنها وعائشة على أخيها محمد
قال الثقفي في الغارات ( 1 / 285 ) : « فلما بلغ ذلك عائشة أم المؤمنين جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت في دبركل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ، وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها ، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها .
عن أبي إسحاق : أن أسماء بنت عميس لما أتاها نعيُ محمد بن أبي بكر وما صنع به كظمت حزنها ، وقامت إلى مسجدها حتى تشخب ثدياها دماً » .
وفي الغارات ( 2 / 756 ) : ( ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دماً . ووَجَدَ ( حزن ) عليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وجْداً عظيماً وقال : كان لي ربيباً ، وكنت أعده ولداً ، ولبنيَّ أخاً » .
وفي مقابل حزن أسماء بنت عميس على ابنها ، وحزن عائشة على أخيها ، كانت فرحة ضرتها أم حبيبة « أم المؤمنين » بنت أبي سفيان أخت معاوية ، فقد ابتكرت بكيدها أسلوباً للشماتة بمقتل محمد !
في الغارات ( 2 / 757 ) : « لما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه سالم ومعه قميصه ، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء ! فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ( ( عليهما السلام ) ) بكبش فشُوِيَ ، وبعثت به إلى عائشة وقالت : هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت » ! وروى نحوه البلاذري ( 2 / 4 ) ورواه الدميري في الحيوان ( 1 / 404 ) .
وفي الغارات ( 1 / 287 ) : « حلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً ، فما أكلت شواءً بعد مقتل محمد حتى لحقت بالله ! وماعثرت قط إلا قالت : تعس معاوية بن أبي سفيان
--------------------------- 55 ---------------------------
عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج » .
لكن عائشة مع ذلك لم تُحرض على الثأر من معاوية ، كما فعلت في ثأر عثمان !
ففي سير الذهبي ( 2 / 186 ) والطبري : ( 4 / 205 ) : « إن معاوية لما حج قدم فدخل على عائشة ، فلم يشهد كلامها إلا ذكوان مولى عائشة فقالت لمعاوية : أأمنتَ أن أخبئ لك رجلاً يقتلك بأخي محمد ؟ قال : صدقت » !
وفي شرح الأخبار ( 2 / 171 ) قال معاوية : « لا أخاف ذلك لأني في دار أمان ، لكن كيف أنا في حوائجك ؟ قالت : صالح . قال : فدعيني وإياهم حتى نلتقي عند الله » .
ومعناه : أنه أرضاها بالمال ، فسكتت ! وكذلك سكت أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر عن أخذ ثأر أخيه سكوتاً ذليلاً ، فقد كان في جيش عمرو العاص ، واعترض على قتل أخيه محمد ، لكن ابن حديج أصر عليه لأنهم قتلوا كنانة بن بشر ، وهو كندي من قبيلته ! فسكت عبد الرحمن ولم يقل شيئاً ! وكذلك سكت بنو تَيْم عن الأخذ بثأرهم من بني أمية ، مع أن القبائل لا تسكت عادة عن ثأر ابنها ، وحتى عن ثأر حليفها وغلامها ! وبذلك تعرف ضعفهم وذلتهم ، وأن الثأر عندهم انتقائي ،
والذل غير انتقائي !

معاوية خال المؤمنين ومحمد بن أبي بكر ليس خالهم !

معاوية خال المؤمنين ومحمد بن أبي بكر ليس خالهم !
قال إمام المعتزلة أبو جعفر الإسكافي في كتابه المعيار والموازنة / 21 ، ملخصاً : « وأبين من هذا في جهل الأنعام الضالة والحمُر المستنفرة ، أن عائشة عندهم في أزواج النبي ( ( عليهما السلام ) ) أفضل من بنت أبي سفيان وأكثر في الشهرة والمعرفة ، فإذا ذكر معاوية بسوء غضبوا وأنكروا ولعنوا ، وعلتهم أنه خال المؤمنين ! وإذا ذكرمحمد بن أبي بكر بسوء رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره وخؤولته ظاهرة . وقد نفرت قلوبهم من علي ( عليه السلام ) لأنه حارب معاوية وقاتله ، وسكنت قلوبهم عند قتل معاوية عماراً ومحمد بن أبي بكر ، وله حرمة الخؤولة ، وهو أفضل من معاوية ، وأبوه خير من أب معاوية .
فتدبروا فيما ذكرناه ، لتعلموا أن علة القوم الخديعة والجهالة ، وإلا فما بالهم
--------------------------- 56 ---------------------------
لايستنكرون قتل محمد بن أبي بكر ، ولا يذكرون خؤولته للمؤمنين ؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون . وقد مالوا عن إمامة علي وضعفوها ، وبعضهم نفاها بما كان من خلاف عائشة وطلحة والزبير ، وقعود ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد ، وهؤلاء النفرالذين أوجبوا الشك في علي عندهم وضعفوا إمامته بقولهم ، هم الذين طعنوا على عثمان وألبوا عليه وذكروه بالتبديل والإستيثار ، وأولهم بادرةً عليه عائشة ، كانت تخرج قميص رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وهو على المنبر وتقول : يا عثمان هذا قميص رسول الله لم يَبْلَ وقد أبليت سنته ! فوالله ما قدح الشك في قلوبهم في عثمان بقولهم ولا قصروا عن تفصيله وتقديمه بطعنهم ، ولا أثر ذلك في صدورهم !
وكيف تمت بيعة أبي بكر عندكم بأبي عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب ،
مع خلاف سعد وامتناعه من البيعة وخلاف الأنصار ، وأبو بكر الساعي إليها والداعي لها ! ولم تتم بيعة علي بالمهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإيمان ، وهم الطالبون له والمجتمعون عليه ، وليس له نظير في زمانه يشاكله ويعادله ! أفٍّ لهذا من مقال ، ما أبين تناقضه ، وأقل حياء الدائن به » !
وقال الكراجكي في كتابه : التعجب من أغلاط العامة / 104 : ( ومن عجيب أمر الحشوية ووقاحتهم في العناد والعصبية ، أنهم يقولون : إن معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين ! فلم لا يسمون محمد بن أبي بكر خال المؤمنين ، ويكون أحق بذلك من معاوية بن أبي سفيان . وكيف يجب أن تحفظ أم حبيبة في أخيها معاوية ، ولم يجب أن تحفظ عائشة في أخيها محمد » ! ؟
وقال ابن كثير في تفسيره : 3 / 477 : ( وهل يقال لمعاوية وأمثاله : خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء ، ونص الشافعي على أنه لا يقال ذلك . وهل يقال لهن أمهات المؤمنات فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليباً ؟ فيه قولان ، صح عن عائشة أنها قالت لا يقال ذلك ، وهذا أصح في مذهب الشافعي » .
--------------------------- 57 ---------------------------

أجوبة أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مسائل محمد بن أبي بكر

أجوبة أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مسائل محمد بن أبي بكر
في كتاب الغارات للثقفي ( 1 / 230 ) : « كتب محمد بن أبي بكر إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وهو إذ ذاك بمصر يسأله جوامع من الحرام والحلال والسنن والمواعظ ، فكتب إليه : لعبد الله أمير المؤمنين من محمد بن أبي بكر : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو .
أما بعد ، فإن رأى أمير المؤمنين أرانا الله وجماعة المسلمين فيه أفضل سرورنا وأملنا فيه ، أن يكتب لنا كتاباً فيه فرائض وأشياء مما يبتلى به مثلي من القضاء بين الناس ، فعل ، فإن الله يعظم لأمير المؤمنين الأجر ويحسن له الذخر .
فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر .
سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فقد وصل إلي كتابك فقرأته وفهمت ما سألتني عنه ، وأعجبني اهتمامك بما لابد لك منه ، وما لا يصلح المسلمين غيره ، وظننت أن الذي دلك عليه نية صالحة ورأي غير مدخول ولا خسيس . وقد بعثت إليك أبواب الأقضية جامعاً لك فيها ، ولا قوة إلا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكتب إليه عما سأله من القضاء ، وذكر الموت ، والحساب ، وصفة الجنة والنار ، وكتب في الإمامة ، وكتب في الوضوء ، وكتب إليه في مواقيت الصلاة ، وكتب إليه في الركوع والسجود ، وكتب إليه في الأدب ، وكتب إليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكتب إليه في الصوم والاعتكاف ، وكتب إليه في الزنادقة ، وكتب إليه في نصراني فجر بامرأة مسلمة ، وكتب إليه في أشياء كثيرة لم يحفظ منها غير هذه الخصال ، وحدثنا ببعض ما كتب إليه . قال إبراهيم : فحدثنا يحيى بن صالح . . . عن عباية أن علياً ( عليه السلام ) كتب إلى محمد بن أبي بكر ، وأهل مصر :
أما بعد ، فإني أوصيك بتقوى الله في سرأمرك وعلانيته ، وعلى أي حال كنت عليها ، واعلم أن الدنيا دار بلاء وفناء ، والآخرة دار بقاء وجزاء ، فإن استطعت
--------------------------- 58 ---------------------------
أن تؤثر ما يبقى على ما يفنى فافعل ، فإن الآخرة تبقى وإن الدنيا تفنى ، رزقنا الله وإياك بصراً لما بصرنا ، وفهماً لما فهمنا ، حتى لانقصر عما أمرَنا به ، ولا نتعدى إلى ما نهانا عنه ، فإنه لا بد لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن عرض لك أمران أحدهما للآخرة والآخر للدنيا ، فابدأ بأمر الآخرة . ولتعظم رغبتك في الخير ، ولتحسن فيه نيتك ، فإن الله عز وجل يعطي العبدعلى قدر نيته ، وإذا أحب الخير وأهله ولم يعمله كان إن شاء الله كمن عمله ، فإن رسول الله قال حين رجع من تبوك : لقد كان بالمدينة أقوام ما سرتم من مسير ولاهبطتم من واد إلا كانوا معكم . ماحبسهم إلا المرض يقول : كانت لهم نية .
ثم إعلم يا محمد أني وليتك أعظم أجنادي في نفسي : أهل مصر ، وإذ وليتك ما وليتك من أمر الناس ، فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك ، وتحذر فيه على دينك ، ولو كان ساعة من نهار ، فإن استطعت أن لا تسخط فيها ربك لرضى أحد من خلقه فافعل ، فإن في الله خلفاً من غيره ، وليس في شئ غيره خلف منه ، فاشتد على الظالم ، ولِنْ لأهل الخير ، وقربهم إليك ، واجعلهم بطانتك ، وإخوانك . والسلام .
« بعث علي ( عليه السلام ) محمد بن أبي بكر أميراً على مصرفكتب إلى علي ( عليه السلام ) يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانية ، وعن زنادقة فيهم من يعبدالشمس والقمر ، وفيهم من يعبدغير ذلك ، وفيهم مرتد عن الإسلام ، وكتب يسأله من مُكاتب مات وترك مالاً وولداً ؟ فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أن أقم الحد فيهم على المسلم الذي فجر بالنصرانية ، وادفع النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا . وأمره في الزنادقة أن يقتل من كان يدعي الإسلام ، ويترك سائرهم يعبدون ما شاؤوا ، وأمره في المكاتب إن كان ترك وفاء لمكاتبته فهو غريم بيد مواليه يستوفون ما بقي من مكاتبته وما بقي فلولده »

وقعت كُتُب أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لمحمد في يد معاوية

وقعت كُتُب أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لمحمد في يد معاوية
قال الثقفي في الغارات ( 1 / 251 ) : « فلما ظهر عليه وقُتل أخذ عمرو بن العاص كتبه أجمع ، فبعث بها إلى معاوية بن أبي سفيان ، وكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويعجبه ، فقال الوليد بن عقبة وهو عند معاوية لما رأى إعجاب معاوية به :
--------------------------- 59 ---------------------------
مُرْ بهذه الأحاديث أن تحرق !
فقال له معاوية : مه يا ابن أبي معيط إنه لا رأي لك ، فقال له الوليد : إنه لا رأي لك ، أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها وتقضي بقضائه ، فعلام تقاتله ! فقال معاوية : ويحك أتأمرني أن أحرق علماً مثل هذا ! والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح !
فقال الوليد : إن كنت تعجب من علمه وقضائه ، فعلامَ تقاتله ؟ فقال معاوية : لولا أن أباتراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه !
ثم سكت هنيئة ثم نظر إلى جلسائه فقال : إنا لا نقول إن هذه من كتب علي بن أبي طالب ولكنا نقول : إن هذه من كتب أبي بكرالصديق كانت عند ابنه محمد فنحن نقضي بها ونفتي ! فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية حتى وليَ عمر بن عبد العزيز ، فهو الذي أظهرأنها من أحاديث علي ( عليه السلام ) » .
أقول : أراد النبي ( ( عليهما السلام ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) أن يكون العلم في الأمة قبل ظهور المهدي ( عليه السلام ) ، محصوراً بالقرآن ، وما ترويه الأمة عن النبي والأئمة ( عليهم السلام ) بالطرق العادية .
لذلك أملى النبي ( ( عليهما السلام ) ) كتباً وقال لعلي ( عليه السلام ) : أكتب لك ولشركائك وجعلها عند علي والأئمة ( عليهم السلام ) حتى يظهر المهدي ( عليه السلام ) فيظهرها .
وسبب عدم إعطائهم المزيد من العلم أن لايسيئ الناس استعماله فيظلمون بعضهم ، كما قال تعالى : وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ . ويبدو أن ما كتبه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمحمد بن أبي بكر كان علماً خاصاً لم يرد أن يصل إلى أعدائه ، وقد روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تأسف على وقوعه في يد معاوية . ففي الغارات : 1 / 252 ، عن ابن سلمة قال : صلى بنا علي ( عليه السلام ) فلما انصرف قال : إني استعملت محمد بن أبي بكر على مصر ، فكتب إلي أنه لا علم لي بالسنة ، فكتبت إليه كتاباً فيه السنة ، فقتل ، وأخذ الكتاب ) .
ونحن نشك في صحة ما نسب اليه ( عليه السلام ) من التأسف وتخطئة نفسه في تصرفه !

  • *
    --------------------------- 60 ---------------------------

شخصية محمد بن أبي حذيفة رضي الله عنه

شخصية محمد بن أبي حذيفة رضي الله عنه
1 . هو محمد ، بن أبي حذيفة ، بن عتبة ، بن ربيعة ، بن عبد شمس . وجدُّه عتبة زعيم بني أمية وعبدشمس ، وكان من أشد المشركين على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وهو الذي عرض على النبي ( ( عليهما السلام ) ) أن يعبدوا ربه يوماً ويعبدأصنامهم يوماً ! فأنزل الله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ .
وكان عتبة وأبو جهل قائدي قريش في بدر ، فقال النبي ( ( عليهما السلام ) ) ( ابن هشام : 2 / 453 ) :
« إن يكن في أحد من القوم خير ، فعند صاحب الجمل الأحمر ، فإن يطيعوه يرشدوا » ! وطلب منهم أن يرجعوا عنه ويتركوه والعرب ، وقبل عتبة ، فاتهمه أبو جهل بالجبن ، فغضب وبرز مع أخيه وابنه فقتلوا !
وكان ابنه أبو حذيفة وهو أبو محمد مسلماً مع النبي ( ( عليهما السلام ) ) : « ولما أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بهم أن يلقوا في القليب ، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب ، فنظر رسول الله فيما بلغني في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير لونه ، فقال : يا أباحذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ ؟ أو كما قال ( ( عليهما السلام ) ) . فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك . فدعا له رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بخير ، وقال له خيراً »
( ابن هشام : 2 / 468 ) .
2 . أسلم أبو حذيفة وهاجر إلى الحبشة وولد ابنه محمد في الحبشة ، ولما رجع إلى المدينة تبنى سالماً وكان غلاماً فارسياً ، وكان ذكياً داهية ، فأعجب به عمر وأبو بكر وكان يصلي بهم على صغر سنه : « وروى البخاري من حديث ابن عمر : كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء ، فيهم أبو بكر وعمر » . ( الإصابة : 3 / 12 ) .
ثم كان سالم وأبو عبيدة شريكي الشيخين في عملهم لأخذ الخلافة وهو الذي قال فيه عمر : لو كان حياً لوليته ! ( تاريخ المدينة : 3 / 140 ) مع أن سالم فارسي !
واشتهر سالم بأنه رضع وهو كبير من سهلة زوجة أبي حذيفة ليحرم عليها ولم يُروَ
--------------------------- 61 ---------------------------
ذلك عن سالم ولاعن سهلة إلا عائشة فقد زعمت أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أجاز لسهلة ذلك ، فأرضعت عائشة بضعة رجال من أختها وزوجة أخيها ليدخلوا عليها ، واستنكر ذلك نساء النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! ( مصنف عبد الرزاق : 7 / 458 ) .
3 . قتل أبو حذيفة وسالم في حرب مسيلمة الكذاب ، وكان محمد بن أبي حذيفة يومها دون العشرين ، ويظهر أنه عاش بعيداً عن أمه سهلة لأنها انشغلت بأزواجها ! ففي الإصابة ( 8 / 193 ) : « ثم تزوجت شماخ بن سعيد بن قائف بن الأوقص السلمي ، فولدت له عامراً ، ثم تزوجت عبد الله بن الأسود بن عمرو من بني مالك بن حسل فولدت له سليطاً ، ثم تزوجت عبد الرحمن بن عوف فولدت له سالماً ، فهم إخوة محمد بن أبي حذيفة لأمه » .
وشارك محمد في فتوح الشام ، وكان يسخر من كعب الأحبار ومن علمه المزعوم ! قال في تاريخ المدينة ( 3 / 1117 ) : « ركب كعب الأحبار ومحمد بن أبي حذيفة في سفينة قِبَلَ الشام ، زمن عثمان في غزوة غزاها المسلمون ، فقال محمد لكعب : كيف تجد نعت سفينتنا هذه في التوراة تجري غداً في البحر ! فقال كعب : يا محمد لاتسخر بالتوراة فإن التوراة كتاب الله . قال : ثم قال له ( محمد ) ذاك ثلاث مرات » !
وهذا يشير إلى أن محمداً شيعي لا يحترم كعباً !
وكان محمد ( رحمه الله ) يجيد القرآن ، فقد وصفه البيهقي ( 3 / 225 ) بأنه من أقرأ الناس .
4 . كان لمحمد في مصر دور مهم فقد بايعه المصريون وعزلوا والي عثمان ، وهو الذي أرسل الوفد المسلح الذين حاصروا عثمان وقتلوه .
قال الطبري : 3 / 548 : « أقام بمصر ، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح وضبطها ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل عثمان وبويع لعلي )
وأصح الروايات في موت محمد أنه بعد مجيئ قيس بن سعد والياً على مصر من قبل علي ( عليه السلام ) ذهب محمد إلى علي ( عليه السلام ) ، فاحتال عليه معاوية وقبض عليه في الطريق وحبسه ، ثم هرب من السجن ، فطارده معاوية وقتله ، ولم يعلن ذلك معاوية حتى لا يكون لبني عتبة ثار عنده !
--------------------------- 62 ---------------------------
وقد روى البلاذري ( 2 / 407 ) أقوالاً في شهادته ( رحمه الله ) قال : « ويقال أيضاً : إن ابن أبي حذيفة توارى فطلبه عمرو بن العاص حتى قدر عليه وحمله إلى معاوية فحبسه ، ثم هرب من حبسه فلُحق فقتل . عن الليث بن سعد قال : بلغنا أن محمد بن أبي حذيفة لما ولِيَ قيس بن سعد ، شَخَصَ عن مصر يريد المدينة أو يريد علياً ، وبلغ معاوية خبر شخوصه فوضع عليه الأرصاد حتى أخذ وحمل إليه فحبسه ، فتخلص من الحبس ، واتبعه رجل من اليمانية فقتله » .
أقول : هكذا أبعد معاوية دم ابن خاله عن نفسه ، بروايات متناقضة !
وفي رواية الكشي المعتبرة أنه قتله بعد شهادة علي ( عليه السلام ) فقد روى ( 1 / 286 ) : « عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : إن المحامدة تأبى أن يعصى الله عز وجل . قلت : ومن المحامدة ؟ قال : محمد بن جعفر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، ومحمد بن أمير المؤمنين . أما محمد بن أبي حذيفة هو ابن عتبة بن ربيعة وهو ابن خال معاوية أخبرني بعض رواة العامة عن محمد بن إسحاق قال : حدثني رجل من أهل الشام قال : كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع علي بن أبي طالب ومن أنصاره وأشياعه ، وكان ابن خال معاوية وكان رجلاً من خيار المسلمين ، فلما توفي عليٌّ ( عليه السلام ) أخذه معاوية وأراد قتله فحبسه في السجن دهراً ، ثم قال معاوية ذات يوم : ألا نرسل إلى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة فنُبَكِّتَهُ ونخبره بضلاله ، ونأمره أن يقوم فيسب علياً ؟ قالوا : نعم . فبعث إليه معاوية فأخرجه من السجن ، فقال له معاوية : يا محمد بن أبي حذيفة ألم يَأْنَ لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب الكذاب . ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوماً ، وأن عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه ، وأن علياً هو الذي دس في قتله ، ونحن اليوم نطلب بدمه ؟ قال محمد بن أبي حذيفة : إنك لتعلم أني أمسُّ القوم بك رحماً ، وأعرفهم بك ؟ قال : أجل . قال : فوالله الذي لا إله غيره ، ما أعلم أحداً شرك في دم عثمان ، وألَّب الناس عليه غيرك ، لما استعملك ومن كان مثلك ، فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ، ففعلوا به ما بلغك ! ووالله ما أحد اشترك في قتله بدءً
--------------------------- 63 ---------------------------
وأخيراً إلا طلحة والزبير وعائشة ، فهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة وألبوا عليه الناس ، وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعاً . قال : قد كان ذلك . قال : فوالله إني لأشهد أنك مذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ، ما زاد فيك الإسلام قليلاً ولا كثيراً ، وإن علامة ذاك
فيك لبينة !
تلومني على حب علي ! خرج مع علي كل صوام قوام مهاجري وأنصاري وخرج معك أبناء المنافقين والطلقاء والعتقاء ، خدعتهم عن دينهم وخدعوك عن دنياك ، والله ما خفي عليك ما صنعت ، وما خفي عليهم ما صنعوا إذ أحلوا أنفسهم لسخط الله في طاعتك ! والله لا أزال أحب علياً لله ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) وأبغضك في الله ورسوله ، أبداً ما بقيت ! قال معاوية : وإني أراك على ضلالك بعد . ردوه ، فردوه وهو يقرأ : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ » .
ثم هرب من السجن ، فأدركه معاوية وقتله .

  • *

ولاية مالك الأشتر على مصر

ولاية مالك الأشتر على مصر
ترجمنا لمالك الأشتر رضي الله عنه في كتاب قراءة جديدة في الفتوحات ، بمناسبة أنه كان بطل اليرموك وهازم الروم من سوريا وفلسطين .
ثم كانت له مشاركات مهمة في الفتوحات ، ثم كان واحداً من قادة المعترضين على عثمان ثم كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب الجمل وصفين ، ثم أرسله قبل حرب النهروان والياً على مصر ، فاحتال عليه معاوية وقتله بالسم لما وصل إلى القاهرة ، قبل أن يباشر مهمته كحاكم على مصر .
روى الثقفي في الغارات ( 1 / 254 ) عن المدائني قال : « فلم يلبث ابن أبي بكر شهراً كاملاً حتى بعث إلى أولئك المعتزلين ، الذين كان قيس بن سعد موادعاً لهم ، فقال : يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا ، وإما أن تخرجوا من بلادنا . فبعثوا إليه : إنا لا نفعل فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمرالناس فلا تعجل حربنا ،
--------------------------- 64 ---------------------------
فأبى عليهم ، فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم .
ثم كانت وقعة صفين وهم لمحمد هائبون ، فلما أتاهم خبرمعاوية وأهل الشام وصارت أمورهم إلى الحكومة ، وأن علياً وأهل العراق قد رجعوا عن معاوية وأهل الشام إلى عراقهم ، اجترؤوا على محمد بن أبي بكر وأظهروا المنابذة له ، فلما رأى ذلك محمد بعث ابن جمهان البلوى إليهم ، وفيهم يزيد بن الحارث من بني كنانة فقاتلهم فقتلوه ، ثم بعث إليهم رجلاً من كلب فقتلوه أيضاً .
وخرج معاوية بن حديج السكسكي فدعا إلى الطلب بدم عثمان ، فأجابه ناس كثير آخرون ، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر ، فبلغ علياً توثبهم عليه فقال : ما لمصر إلا أحد الرجلين : صاحبنا الذي عزلناه عنها بالأمس يعني قيس بن سعد ، أو مالك بن الحارث . وكان علي ( عليه السلام ) حين رجع عن صفين قد رد الأشتر إلى عمله بالجزيرة ، وقال لقيس بن سعد : أقم أنت معي على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة ، ثم اخرج إلى آذربيجان ، فكان قيس مقيماً على شرطته . فلما انقضى أمر الحكومة كتب علي إلى مالك الأشتر وهو يومئذ بنصيبين : أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين ، وأقمع به نخوة الأثيم ، وأسدُّ به الثغر المخوف ، وقد كنت وليت محمد بن أبي بكر مصر ، فخرجت عليه خوارج وهو غلام حدث السن ، ليس بذي تجربة للحروب ولا مجرباً للأشياء ، فأقدم عليَّ لننظر فيما ينبغي ، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك . والسلام .
فأقبل مالك إلى علي ( عليه السلام ) واستخلف على عمله شبيب بن عامر الأزدي ، وهو جد الكرماني الذي كان بخراسان صاحب نصر بن سيار ، فلما دخل مالك على علي ( عليه السلام ) حدثه حديث مصر ، وخبره خبر أهلها وقال : ليس لها غيرك فأخرج إليها رحمك الله ، فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك ، واستعن بالله على ما أهمك . أخلط الشدة باللين ، وارفق ما كان الرفق أبلغ ، واعتزم على الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة » .
ولا يصح قولهم إن الإمام ( عليه السلام ) ندم على عزله قيساً ، وكان يفكر بتوليته مصر !
--------------------------- 65 ---------------------------

رسالة الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر لما بعث لهم الأشتر

رسالة الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر لما بعث لهم الأشتر
( من كتاب له ( عليه السلام ) إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر ( رحمه الله ) : من عبد الله عليٍّ أمير المؤمنين ، إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه وذُهب بحقه ، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر ، والمقيم والظاعن ، فلا معروف يستراح إليه ، ولا منكر يتناهى عنه .
أما بعد ، فإني قد بعثت إليكم عبداً من عباد الله ، لا ينام أيام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء حذر الدوائر . لاناكلٍ من قدم ، ولا واهٍ في عزم ، من أشد عباد الله بأساً ، وأكرمهم حسباً ، أضرعلى الفجار من حريق النار ، وأبعد الناس من دنس أو عار ، وهومالك بن الحارث الأشتر ، حسام صارم ، لانابي الضريبة ، ولا كليل الحد . حليم في السلم رزين في الحرب ، ذو رأي أصيل ، وصبر جميل . فاسمعوا له وأطيعوا أمره ، فإن أمركم بالنفر فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنه لا يقدم ولايحجم إلا بأمري . وقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم وشدة شكيمة على عدوكم ، عصمكم الله بالهدى ، وثبتكم بالتقوى ، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى . والسلام عليكم ورحمة الله » . ( نهج البلاغة : 3 / 63 ، والاختصاص / 80 ) .
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 16 / 156 ) : « هذا الفصل يُشكل عليَّ تأويله لأن أهل مصرهم الذين قتلوا عثمان ، وإذا شهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنهم غضبوا لله حين عصيَ في الأرض ، فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان وإتيان المنكر ! ويمكن أن يقال وإن كان متعسفاً : إن الله تعالى عُصيَ في الأرض لامن عثمان بل من ولاته وأمرائه وأهله ، وذهب بينهم بحق الله وضرب الجور سرادقه بولايتهم ، وأمرهم على البر والفاجر ، والمقيم والظاعن ، فشاع المنكر ، وفقد المعروف .
يبقى أن يقال : هب أن الأمر كما تأولت ، فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى ماذا آل أمرهم ، أليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان ! فلا تعدو حالهم أمرين ، إما أن يكونوا أطاعوا الله بقتله فيكون عثمان عاصياً مستحقاً للقتل ، أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله ، فعثمان إذا على حق وهم
--------------------------- 66 ---------------------------
الفساق العصاة . فكيف يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين !
يمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا لله وجاءوا من مصر وأنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق ، وحصروه في داره طلباً أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه ، أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم ، فلما حُصر طمع فيه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدينة وغيرها ، وصار معظم الناس إلباً عليه ، وقلَّ عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره ومطالبته بخلع نفسه وتسليم مروان وغيره من بنى أمية إليهم ، وعزل عماله والإستبدال بهم ، ولم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه ، ولكن قوماً منهم ومن غيرهم تسوروا داره ، فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم ، فقادت الضرورة إلى النزول والإحاطة به ، وتسرع إليه واحد منهم فقتله .
ثم إن ذلك القاتل قتل في الوقت ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم ، وشرحناه ، فلا يلزم من فسق ذلك القاتل وعصيانه أن يفسق الباقون ، لأنهم ما أنكروا إلا المنكر ، وأما القتل فلم يقع منهم ، لا راموه ولا أرادوه ، فجاز أن يقال : إنهم غضبوا لله ، وأن يثني عليهم ويمدحهم » .
أقول : هذا ما اخترعه المعتزلة المحبون لعثمان وعلي ( عليه السلام ) وهو غاية ما يصل اليه الخيال في مقتل عثمان وتبرئته من الظلم ، وتبرئة المصريين من دمه .

رسالة أخرى بعثها الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر

رسالة أخرى بعثها الإمام ( ( ع ) ) إلى أهل مصر
ويظهر أنها تمهيد لإرسال الأشتر ، لكن ذكر بعضهم أنه أرسلها معه :
« أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( ( عليهما السلام ) ) نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى ( ( عليهما السلام ) ) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تُزعج هذا الأمر من بعده ( ( عليهما السلام ) ) عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده . فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي ، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد ( ( عليهما السلام ) ) فخشيت إن لم أنصرالإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ،
--------------------------- 67 ---------------------------
أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه .
ومنها : إني والله لو لقيتهم واحداً وهم طِلاع الأرض كلها ، ما باليت ولا استوحشت ! وإني من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه ، لعلى بصيرة من نفسي ، ويقين من ربي . وإني إلى لقاء الله وحسن ثوابه لمنتظر راج .
ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها ، فيتخذوا مال الله دولاً ، وعباده خَوَلاً ، والصالحين حرباً ، والفاسقين حزباً ، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام ، وجلد حداً في الإسلام ، وإن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ !
انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوكم ، ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف وتبوؤوا بالذل ، ويكون نصيبكم الأخس . وإن أخا الحرب الأرِقُ ومن نام لم يُنم عنه . والسلام » . ( نهج البلاغة : 3 / 118 ) .

شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه

شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه
1 . قال ابن تغري في النجوم الزاهرة : 1 / 103 : « فخرج الأشتر من عند علي وأتى رحله ، وتهيأ للخروج إلى مصر ، وكتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصرفشق عليه وعظم ذلك لديه ، وكان قد طمع في مصروعلم أن الأشتر متى قدمها كان أشد عليه . فكتب معاوية إلى الخانْسِيَار رجل من أهل الخراج ، وقيل كان دهقان القلزم يقول : إن الأشتر واصل إلى مصر قد وليها ، فإن أنت كفيتني إياه لم آخذ منك خراجاً ما بقيتُ ، فأقبل لهلاكه بكل ما تقدر عليه ! فخرج الخانسيار حتى قدم إلى القلزم فأقام به ، وخرج الأشتر من العراق يريد مصر حتى قدم القلزم ، فاستقبله الخانسيار فقال له : إنزل فإني رجل من أهل الخراج وقد أحضرت ما عندي ، فنزل الأشتر فأتاه بطعام وعلف ، وسقاه شربة من عسل جعل فيها سُمّاً فلما شربه مات ! وبعث الخانسيار من أخبر بموته معاوية ، فلما بلغ معاوية وعمرو بن العاص موت الأشتر ، قال عمرو بن العاص : إن لله جنوداً من عسل !
--------------------------- 68 ---------------------------
وقال ابن الكلبي : لما سارالأشتر إلى مصرأخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له نافع ، وأظهر له الود وقال له : أنا مولى عمر بن الخطاب ، فأدناه الأشتر وقربه ووثق به وولاه أمره ، فلم يزل معه إلى عين شمس ، أعني المدينة الخراب خارج مصر بالقرب من المطرية ، فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا ، وسقاه نافع المذكور العسل فمات منه » . ويظهر أن نافعاً كان عميل معاوية .
2 . قال الطبري ( 2 / 72 ) : « وأقبل معاوية يقول لأهل الشأم : إن علياً وجَّهَ الأشتر إلى مصرفادعوا الله أن يكفيكموه ، فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر . وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر ، فقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قَطعتُ إحداهما يوم صفين يعنى عمار بن ياسر ، وقَطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر » .
3 . وفي تاريخ دمشق : 56 / 376 ، أن معاوية قال لأهل الشام : « يا أهل الشام إنكم منصورون ومستجاب لكم الدعاء فادعوا الله على عدوكم ! فرفع أهل الشام أيديهم يدعون عليه ، فلما كانت الجمعة الأخرى خطب فقال : يا أهل الشام إن الله قد استجاب لكم وقتل عدوكم ! وإن لله جنوداً في العسل ، فرفع أهل الشام أيديهم حامدين الله على كفايتهم إياه » . ونحوه في تاريخ اليعقوبي ( 2 / 179 ) وشرح النهج ( 6 / 76 ) .
4 . وفي مجمع الأمثال ( 2 / 215 ) : « لاجِدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك . يقال ضربه فأقعصه أي قتله مكانه . يقول : جدك الحقيقي ما دفع عنك المكروه ، وهو أن تقتل عدوك دونك . قاله معاوية حين خاف أن يميل الناس إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فاشتكى عبد الرحمن ، فسقاه الطبيب شربة عسل فيها سُمٌّ فأخرقته ، فعند ذلك قال معاوية
هذا القول » .
وفي محاضرات الراغب ( 1 / 531 ) : « قال معاوية لما أتاه خبر موت أمير المؤمنين علي :
لا جدَّ إلا ما أقعص عنك » . أي قتل عدوك دفعة واحدة .
--------------------------- 69 ---------------------------

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مالك الأشتر رضي الله عنه

حزن أمير المؤمنين ( ( ع ) ) على مالك الأشتر رضي الله عنه
« عن صعصعة بن صوحان قال : فلما بلغ علياً ( عليه السلام ) موت الأشتر قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين .
اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالكاً فقد وفى بعهده ، قضى نحبه ولقي ربه ، مع أنا قد وطنا أنفسنا على أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، فإنها أعظم المصائب . .
عن فضيل بن خديج ، عن أشياخ النخع قالوا : دخلنا على علي ( عليه السلام ) حين بلغه موت الأشتر ، فجعل يتلهف ويتأسف عليه ويقول : لله در مالك ، وما مالك ! لو كان جبلاً لكان فِنداً ، ولو كان حجراً لكان صَلْداً ، أما والله ليهدن موتك عالماً وليفرحن عالماً ، على مثل مالك فلتبك البواكي ، وهل موجود كمالك ! فقال علقمة بن قيس النخعي : فما زال عليٌّ ( عليه السلام ) يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا ، وقد عُرف ذلك في وجهه أياماً » .
وفي الإختصاص / 81 : « وبكى عليه أياماً ، وحزن عليه حزناً شديداً ، وقال : لا أرى مثله بعده أبداً » .
وشهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الأشتر شهادة عظيمة فقال : « رحم الله مالكاً وما مالك ! عزَّ عليَّ به هالكاً . لو كان صخراً لكان صَلداً ( لصلابته ويقينه ) ولو كان جبلاً لكان فِنداً ( مميزاً ) وكأنه قُدَّ مني قداً » . ( رجال الكشي : 1 / 283 ) .
وأعظم منها شهادة النبي ( ( عليهما السلام ) ) في حق المقداد الكندي رضي الله عنه !
« قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : قُدَّ منِّي قَدّاً » . ( نهج الحق للعلامة / 304 ) .

قبر مالك الأشتر رضي الله عنه في مصر

قبر مالك الأشتر رضي الله عنه في مصر
قال الكاتب الورداني في كتابه : الشيعة في مصر / 108 : « لما سارالأشتر إلى مصرأخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة ، فجاءه مولى لعثمان يقال له نافع وأظهر له الود . فلم يزل معه إلى عين شمس ، فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا ،
--------------------------- 70 ---------------------------
وسقاه نافع العسل فمات !
وهذه الرواية أقرب الروايات إلى الواقع ، وتؤكد صحة موضع قبره بمنطقة القلج ، وهي من أحياء المرج ، والمرج مدخل القاهرة من شمالها الشرقي وهي قرب بلدة الخانكة ، وهي ضمن مدينة عين شمس القديمة » .
أقول : توفقت لزيارة قبره رضي الله عنه ، وقد بنى مشهده الشيعة الهنود ، وهو على بعد 25 كيلو متر من قلب القاهرة ، وقلت لصاحب دكان من جيرانه : مبارك لكم جوار هذا الولي إن شاء الله ترون بركته . فقال : الحمد لله رأينا بركته . فسألته : هل صحيح أن بعض الأشرار أرادوا هدم قبره ؟ قال : نعم ، وخرجنا إليهم بالخشب ضربناهم وطردناهم . سألته : من هم ؟ فقال : الكلاب الوهابية !

  • *

عهد الإمام ( ( ع ) ) إلى مالك الأشتر

عهد الإمام ( ( ع ) ) إلى مالك الأشتر
من كنوز الأمة الإسلامية عهد أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر رضي الله عنه ، عندما ولاه مصر ( نهج البلاغة : 3 / 82 ) وهو برنامج عمل شامل للحاكم ، في سلوكه الشخصي ، والسياسي ، والعمراني .
ولم يعرف قدره عالمنا الإسلامي مع الأسف ، وعرفه بعض الحقوقيين الغربيين فترجموه إلى الألمانية وغيرها ، وجعلوه مصدراً للتقنين .
ولا يتسع المجال للإفاضة فيه ، فنكتفي بوضع عناوين لفقراته :

هدف الحكم

هدف الحكم
( بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر ، في عهده إليه حين ولاه مصر : جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها .
--------------------------- 71 ---------------------------

أصول الفكر والسلوك للحاكم

أصول الفكر والسلوك للحاكم
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته ، واتباع ما أمر به في كتابه : من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها ، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه ، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره ، وإعزاز من أعزه . وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ، ويزعها عند الجمحات ، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله .

كيف يجب أن تكون نظرة الحاكم إلى نفسه ؟

كيف يجب أن تكون نظرة الحاكم إلى نفسه ؟
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك ، من عدل وجور ، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم . وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح . فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك ، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها ، فيما أحبت أو كرهت .

أهم صفات الحاكم محبة المواطنين كلهم

أهم صفات الحاكم محبة المواطنين كلهم
وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ . فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك . وقد استكفاك أمرهم ، وابتلاك بهم .
--------------------------- 72 ---------------------------

خطأ شعور الحاكم بالصراع بينه وبين فئة من المواطنين

خطأ شعور الحاكم بالصراع بينه وبين فئة من المواطنين
ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته . ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة ، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع ، فإن ذلك إدغال في القلب ، ومنهكة للدين ، وتقرب من الغير .

كيف يجاهد الحاكم نفسه ويتخلص من غروره ؟

كيف يجاهد الحاكم نفسه ويتخلص من غروره ؟
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة ، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ، ويكف عنك من غربك ، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك . إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته ، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال . أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ، ومن خاصة أهلك ، ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته ، وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب . وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته ، من إقامة على ظلم ، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد .

موقف الحاكم إلى جنب الجمهور وليس البطانة

موقف الحاكم إلى جنب الجمهور وليس البطانة
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة . وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقل شكراً عند الإعطاء ، وأبطأ عذراً عند المنع وأضعف صبراً عند ملمات الدهر ، من أهل الخاصة . وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم .
--------------------------- 73 ---------------------------

موقف الحاكم من المخابرات والمتملقين والنمامين

موقف الحاكم من المخابرات والمتملقين والنمامين
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك ، أطلبهم لمعائب الناس ، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها . فلا تكشفن عما غاب عنك منها ، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك ، والله يحكم على ما غاب عنك . فاستر العورة ما استطعت ، يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك .
أطلق عن الناس عقدة كل حقد . واقطع عنك سبب كل وتر . وتغاب عن كل ما لا يضح لك ، ولا تعجلن إلى تصديق ساع ، فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين . ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ، ولا جباناً يضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .
صفات الوزراء الحسنة والسيئة
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام . فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الأثمة ، وإخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ، ولا آثما على إثمه . أولئك أخف عليك مؤونة ، وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفاً ، وأقل لغيرك إلفاً ، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمُرِّ الحق لك ، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك ، مما كره الله لأوليائه ، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع ، والصق بأهل الورع والصدق ، ثم رُضْهم على أن لايطروك ، ولايبجحوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو ، وتدني من العزة .
محاسبة الوزراء
ولا يكن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة فألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه .
--------------------------- 74 ---------------------------
سياسة إعطاء الحرية للمواطنين وحسن الظن بهم
واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته ، من إحسانه إليهم ، وتخفيفه المؤونات عليهم ، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك ، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً ، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده ، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده .
احترام العادات الاجتماعية وتحسينها
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة ، واجتمعت بها الألفة ، وصلحت عليها الرعية . ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن ، فيكون الأجر لمن سنها ، والوزر عليك بما نقضت منها .
المستشارون في القضايا الإستراتيجية
وأكثر مدارسة العلماء ، ومنافثة الحكماء ، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك .

طبيعة المجتمع وتركيبه من فئات وطبقات

طبيعة المجتمع وتركيبه من فئات وطبقات
واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض . فمنها جنود الله . ومنها كتاب العامة والخاصة . ومنها قضاة العدل . ومنها عمال الإنصاف والرفق . ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس . ومنها التجار
وأهل الصناعات . ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة . وكلا قد سمى الله سهمه ، ووضع على حده فريضته ، في كتابه أو سنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) عهداً منه عندنا محفوظاً ! فالجنود بإذن الله حصون الرعية ، وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبل الأمن ، وليس تقوم الرعية إلا بهم .
ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج ، الذي يقوون به في جهاد عدوهم ، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ، ويكون من وراء حاجتهم .
ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون
--------------------------- 75 ---------------------------
من المعاقد ، ويجمعون من المنافع ، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها . ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار ، وذوي الصناعات ، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ، ويقيمونه من أسواقهم ، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ، ما لا يبلغه رفق غيرهم . ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم ، وفي الله لكل سعة ، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه .
وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك ، إلا بالاهتمام والاستعانة بالله ، وتوطين نفسه على لزوم الحق ، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل .

سياسة الحاكم مع القوات المسلحة

سياسة الحاكم مع القوات المسلحة
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك ، وأنقاهم جيباً ، وأفضلهم حلماً ، ممن يبطئ عن الغضب ، ويستريح إلى العذر ، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء . وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف .
ثم ألصق بذوي الأحساب ، وأهل البيوتات الصالحة ، والسوابق الحسنة ،
ثم أهل النجدة والشجاعة ، والسخاء ، والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم ، وشعب من العرف . ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به . ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك . ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها ، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به ، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه . وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جِدته ، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم ، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو . فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك .

سياسة الحاكم مع قادة الجيش الحكام

سياسة الحاكم مع قادة الجيش الحكام
وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، وظهور مودة الرعية . وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة
--------------------------- 76 ---------------------------
أمورهم ، وقلة استثقال دولهم ، وترك استبطاء انقطاع مدتهم . فافسح في آمالهم ، وواصل في حسن الثناء عليهم ، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم . فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع ، وتحرض الناكل إن شاء الله . ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ، ولا تقصرن به دون غاية بلائه ، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً . واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ، ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَئٍْ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ . فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة .

سياسة الحاكم مع القوة القضائية

سياسة الحاكم مع القوة القضائية
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ، ممن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ، ممن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء ، وأولئك قليل . ثم أكثر تعاهد قضائه ، وافسح له في البذل ما يزيل علته ، وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك . فانظر في ذلك نظراً بليغاً ، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار ، يُعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدنيا .
سياسة الحاكم مع ولاة المحافظات
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة وأثرةً ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء ، من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إشرافاً ،
--------------------------- 77 ---------------------------
وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .
ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنىً لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك ، أو ثلموا أمانتك .
جهاز المخابرات الخاص برئيس الدولة
ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية . وتحفظ من الأعوان ، فإن أحدٌ منهم بسط يده إلى خيانة ، اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك ، اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ، ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة .
السياسة المالية والضرائبية
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله . وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة . ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً ، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة ، أو إحالة أرض اغتمرها غرق ، أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم . ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم ، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك ، باستفاضة العدل فيهم ، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم ، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به ، فإن العمران محتمل ما حملته ، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر .
--------------------------- 78 ---------------------------

الجهاز الإداري الخاص بالحاكم

الجهاز الإداري الخاص بالحاكم
ثم انظر في حال كُتَّابك ، فولِّ على أمورك خيرهم ، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم ، لوجود صالح الأخلاق ، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك ، وإصدار جواباتها على الصواب عنك ، وفيما يأخذ لك ويعطي منك . ولا يضعف عقداً اعتقده لك ، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور ، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل . ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك ، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم ، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ ، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك ، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً ، وأعرفهم بالأمانة وجهاً ، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره .
واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم ، لا يقهره كبيرها ، ولا يتشتت عليه كثيرها ، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته .

سياسة الدولة مع التجار والكسبة

سياسة الدولة مع التجار والكسبة
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً : المقيم منهم ، والمضطرب بماله ، والمترفق ببدنه ، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق ، وجلابها من المباعد والمطارح ، في برك وبحرك ، وسهلك وجبلك ، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ، ولا يجترئون عليها ، فإنهم سلم لا تخاف بائقته ، وصلح لا تخشى غائلته . وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك .
واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً ، وشحاً قبيحاً ، واحتكاراً للمنافع ، وتحكماً في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة . فامنع من الإحتكار فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) منع منه ، وليكن البيع بيعاً سمحاً ، بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع . فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به ، وعاقب في غير إسراف .
--------------------------- 79 ---------------------------

سياسة الدولة مع الطبقة الفقيرة

سياسة الدولة مع الطبقة الفقيرة
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، والمساكين والمحتاجين ، وأهل البؤسى والزمنى ، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً . واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك ، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد ، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ، وكل قد استرعيت حقه ، فلا يشغلنك عنهم بطر ، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم ، فلا تشخص همك عنهم ، ولا تصعر خدك لهم ، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ، ممن تقتحمه العيون ، وتحقره الرجال ، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع ، فليرفع إليك أمورهم ، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه ، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم ، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه .
وتعهد أهل اليتم ، وذوي الرقة في السن ، ممن لا حيلة له ، ولا ينصب للمسألة نفسه ، وذلك على الولاة ثقيل ، والحق كله ثقيل ، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ، ووثقوا بصدق موعود الله لهم .

سياسة الحاكم مع المراجعين

سياسة الحاكم مع المراجعين
واجعل لذوي الحاجات منك قسماً ، تفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك ، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع ، فإني سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول في غير موطن : لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع . ثم احتمل الخرق منهم والعي ، ونح عنك الضيق والأنف ، يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ، ويوجب لك ثواب طاعته . وأعط ما أعطيت هنيئاً ، وامنع في إجمال وإعذار .
--------------------------- 80 ---------------------------

برنامج أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لعمل الحاكم اليومي

برنامج أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لعمل الحاكم اليومي
ثم أمورٌ من أمورك لا بد لك من مباشرتها : منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كُتابك . ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك ، مما تحرج به صدور أعوانك . وأمض لكل يوم عمله ، فإن لكل يوم ما فيه ، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت ، وأجزل تلك الأقسام ، وإن كانت كلها لله ، إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية . وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك ، إقامة فرائضه التي هي له خاصة ، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص ، بالغاً من بدنك ما بلغ . وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً ، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة . وقد سألت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم فقال : صل بهم كصلاة أضعفهم ، وكن بالمؤمنين رحيما .
لقاءات الحاكم المباشرة مع الناس
وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك ، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق ، وقلة علم بالأمور . والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه ، فيصغر عندهم الكبير ، ويعظم الصغير ، ويقبح الحسن ويحسن القبيح ، ويشاب الحق بالباطل ، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ، وليست على الحق سيماء تتعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، وإنما أنت أحد رجلين : إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ، ففيم احتجابك من حق تعطيه ، أو فعل كريم تسديه ،
أو مبتلى بالمنع ، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك ، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك ، من شكاة مظلمة ، أو طلب إنصاف في معاملة . ثم إن للوالي خاصة وبطانة ، فيهم استئثار ، وتطاول ، وقلة إنصاف في معاملة ، فاحسم مادة أولئك ، بقطع أسباب تلك الأحوال .
--------------------------- 81 ---------------------------

سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته

سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته
ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة ، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس ، في شرب أو عمل مشترك ، يحملون مؤونته على غيرهم ، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك ، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة . وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ، وكن في ذلك صابراً محتسباً ، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع . وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإن مغبة ذلك محمودة ، وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك ، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك ، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ، ورفقاً برعيتك ، وإعذاراً تبلغ به حاجتك ، من تقويمهم على الحق .

سياسة السلم والحذر مع العدو والالتزام الكامل بالإتفاقيات

سياسة السلم والحذر مع العدو والالتزام الكامل بالإتفاقيات
ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى ، فإن في الصلح دعة لجنودك ، وراحة من همومك ، وأمناً لبلادك . ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن . وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ، فإنه ليس من فرائض الله شئٌ الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود . وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ، لما استوبلوا من عواقب الغدر . فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك ، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي . وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره . فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه .
ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته ، خير من غدر تخاف تبعته ، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة ، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك .
--------------------------- 82 ---------------------------

تحذير الحاكم من سفك الدماء

تحذير الحاكم من سفك الدماء
إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة ، من سفك الدماء بغير حقها . والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة . فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله . ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد ، لأن فيه قود البدن . وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة ، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة ، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم . وإياك والإعجاب بنفسك ، والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء ، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين .

الخطوط العامة لسياسة الحاكم مع المواطنين

الخطوط العامة لسياسة الحاكم مع المواطنين
وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ، أوالتزيد فيما كان من فعلك ، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإن المن يبطل الإحسان ، والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى : كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاتَفْعَلُونَ .

التثبت والاعتدال في اتخاذ القرارات

التثبت والاعتدال في اتخاذ القرارات
وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها ، أو التسقط فيها عند إمكانها ، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت ، أو الوهن عنها إذا استوضحت ، فضع كل أمر موضعه ، وأوقع كل عمل موقعه . وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة ، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون ، فإنه مأخوذ منك لغيرك . وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور ، وينتصف منك للمظلوم .

كيف يكون الحاكم حاكم نفسه ويسيطر على غضبه ؟

كيف يكون الحاكم حاكم نفسه ويسيطر على غضبه ؟
أملك حمية أنفك ، وسورة حدك ، وسطوة يدك ، وغرب لسانك . واحترس من كل ذلك بكف البادرة ، وتأخير السطوة ، حتى يسكن غضبك ، فتملك الاختيار . ولن تحكم ذلك من نفسك ، حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك ، والواجب عليك أن تتذكر ما مضى
--------------------------- 83 ---------------------------
لمن تقدمك من حكومة عادلة ، أو سنة فاضلة ، أو أثر عن نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ، أو فريضة في كتاب الله ، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها ، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا ، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها .
دعاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالتوفيق في تحقيق أهدافه في الحكم
وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة ، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه ، من الإقامة على العذر الواضح إليه ، وإلى خلقه ، مع حسن الثناء في العباد ، وجميل الأثر في البلاد ، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة ، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة ، وإنا إليه راغبون » .

  • *
    --------------------------- 84 ---------------------------

الفصل الثامن والثمانون: إمام الخوارج : حرقوص بن زهير

1 . اسمه وصفته :

هو حرقوص بن زهير البجلي السعدي التميمي ، حليف بني سعد ، فرع من بني تميم يسكنون البصرة . ومنهم شخصيات ، مثل جارية بن قدامة السعدي ، الذي كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
قال السمعاني ( 5 / 215 ) والعلامة في كشف اليقين / 163 : ( حرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية ) وعرف باسم المخدَّج ، وذي الخُوَيْصرة ، وشيطان الردهة ، وشيطان الوهدة ، وسفعة الشيطان ، وذي الثندوة ، وذي الثَّدِية ، لأن يده اليسرى لها عضد بلا ذراع ، وذراعه غدة عليها شعر كشوارب القط !
( وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع ، على رأس عضده مثل حلمة الثدي ، عليه شعرات بيض ) . ( صحيح مسلم ( 3 / 115 ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 372 ) : ( حبشي مثل البعير في منكبه مثل ثدي المرأة ) . وفي الإصابة ( 2 / 342 ) : ( فكأني أنظر إليه حبشي عليه مريطة ) .
وذكرت المصادر زهيراً البجلي أباه ولم تذكر جده ، ولا متى أسلم ، لكن ذكرت أن حرقوصاً صحابي من أهل بيعة الرضوان ! ( الإصابة : 2 / 44 ) .
--------------------------- 85 ---------------------------

2 . علاقته بأَزَبّ العقبة وشيطانها :

2 . علاقته بأَزَبّ العقبة وشيطانها :
بعد بيعة الأنصار للنبي ( ( عليهما السلام ) ) سمعوا صيحة الشيطان فقال : هذا أزبُّ العقبة . وروي : الأزب ، بن أزيب ، وابن الأزيب . وشيطان الردهة .
قال ابن هشام ( 2 / 306 ) : ( فلما بايعنا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم ( أي محمد ( ( عليهما السلام ) ) ) والصباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ! قال فقال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : هذا أَزَبُّ العقبة ، هذا ابن أزيب ! أتسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك . قال ثم قال رسول الله : إرفَضُّوا إلى رحالكم ) .
ثم ظهر إبليس بصورة إنسان في معركة بدر ، يشجع المشركين على القتال .
قال ابن هشام ( 2 / 445 و 487 ) : « فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف بني كنانة . كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه ) . قال الله تعالى : وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ .
وقال ابن هشام ( 3 / 596 ) عن معركة أُحُد : ( وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء ! الصارخ : أزب العقبة ، يعني الشيطان ) . وفي سيرة ابن كثير ( 3 / 60 ) صرخ أربع مرات .
وفي توضيح المشتبه للقيسي ( 1 / 182 ) : ( بفتح الهمزة والزاي معاً وتشديد الموحدة ، كذلك ذكره ابن ماكولا ) .
قال في القاموس ( 1 / 36 ) : ( والإزب ، بالكسرالقصير والغليظ والداهية ، واللئيم ، والدميم ، والدقيق المفاصل الضاوي ) .
وقال الدميري في حياة الحيوان ( 1 / 431 ) : ( أزبُّ العقبة يقال له الخيتعور ، يريد به شيطان العقبة ، فجعل الخيتعور إسماً له ، وقيل : الخيتعور كل شئ يضمحل ولايدوم على حالة واحدة ، ولا يكون له حقيقة ، كالسراب ) .
--------------------------- 86 ---------------------------
وقال الشبلي في آكام المرجان في أحكام الجان ( 1 / 289 ) : ( الجباجب يعني منازل منى . قال السهيلي : وأصله أن الأوعية من الأدم كالزنبيل ونحوه يسمى جبجبة . وقال ابن ماكولا : لا يعرف الأزب في الأسماء إلا هذا . وقال السهيلي : الله أعلم هل الأزب أو الإزب شيطان واحد أو اثنان . والأزيب : الرجل المتقارب المشي ، وهو على وزن أفعل قاله صاحب العين . ويحتمل أن يكون ابن أزيب من هذا أيضاً . وأما البخيل فأزيب على وزن فعيل . ويجوز أن تكون أزيب وأزيبة مثل أرمل وأرملة ، فلا يكون فعيلاً ) .
والنتيجة : أن الشيطان قد يظهر بصورة إنسان أو غيره ، وقد ظهر في مكة وبدر وأحُد ، وأن علاقة أزب العقبة بحرقوص أن حرقوصاً شيطان الردهة ، وهو الأزب ، وسيأتي أن حرقوصاً شرك شيطان ، فالشيطان أبوه مع أبيه !
ويأتي قول النبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( يحتدره رجل من بجيلة ) . أي يضعه في رحم أمه .

3 . علاقة حرقوص بشيطان الردهة :

3 . علاقة حرقوص بشيطان الردهة :
شيطان الردهة والوهدة : أي شيطان الحفرة في الجبل التي يكون فيها ماء . وفسر بعضهم قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 156 ) : ( ألاوقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض . فأما الناكثون فقد قاتلت ، وأما القاسطون فقد جاهدت ، وأما المارقة فقد دوخت . وأما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ورجة صدره ) .
بأن المقصود به ذا الثدية ، وقد ضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه بذي الفقار . لكن يظهرأن موته يحتاج إلى صعقة مع الضربة .
وروى الحاكم ( 4 / 521 ) عن سعد : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : شيطان الردهة يحتدره
( ينزله في رحم أمه ) رجل من بجيلة يقال له الأشهب أو ابن الأشهب راعى الخيل . وراعى الخيل علامة في القوم الظلمة . هذا حديث صحيح ) . وهذا النص وأمثاله يدل على أنه بجلي وحليف لبني سعد من بني تميم !
وروى مثله أحمد ( 1 / 179 ) ووثقوه ! لكنهم مع ذلك قالوا إن شيطان الردهة ذو الثدية !
--------------------------- 87 ---------------------------
ومعناه أن شيطان الردهة شريك أبيه في ابنه حرقوص !
ويؤيد ذلك قول علي ( عليه السلام ) قال : ( قتل شيطان الوهدة . قال : سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : أمه أمة لبني سليم ، وأبوه شيطان ) . ( كتاب سليم / 411 ) .
وروى ابن أبي شيبة ( 8 / 733 و 735 ) : ( عن أبي بركة الصائدي قال : لما قتل علي ذا الثدية قال سعد : لقد قتل ابن أبي طالب جان الردهة ) .
قال في شرح النهج ( 13 / 183 ) : ( وأما شيطان الردهة ، فقد قال قوم إنه ذو الثدية صاحب النهروان ، ورووا في ذلك خبراً عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وممن ذكر ذلك واختاره الجوهري صاحب الصحاح . وهؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف ، ولكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة ، وإليها أشار ( عليه السلام ) بقوله : فقد كفيته بصعقة ، سمعت لها وَجْبَةَ قلبه . والردهة : شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء ، وهذا مثل قوله ( ( عليهما السلام ) ) : هذا أزب العقبة أي شيطانها ، ولعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه ، فتارة يرد بهذا اللفظ ، وتارة يرد بذلك اللفظ ) .
قال الجوهري في الصحاح ( 6 / 2232 ) : ( الردهة : نقرة في صخرة يستنقع فيها الماء ، والجمع رُدَهٌ ورُدَاه . يقال : قرِّب الحمار من الردهة ولا تقل له سأ . ( أي هو يشرب ولا تقل له ) . قال الخليل : الردهة : شبه أكمه كثيرة الحجارة . وفي الحديث أنه ( ( عليهما السلام ) )
ذكر المقتول بالنهروان فقال : شيطان الردهة ) .

4 . شرك الشيطان ابن شيطان الردهة :

4 . شرك الشيطان ابن شيطان الردهة :
استفاضت الأحاديث في مصادرنا بأن شرك الشيطان ابن شيطان الردهة ، ففي تفسير العياشي ( 2 / 299 ) ، وغيره : ( عن زرارة قال : كان يوسف أبو الحجاج صديقاً لعلي بن الحسين صلوات الله عليه وإنه دخل على امرأته فأراد أن يضمها أعني أم الحجاج ، قال : فقالت له : أليس إنما عهدك بذاك الساعة ؟ قال : فأتى علي بن الحسين فأخبره فأمره أن يمسك عنها فأمسك عنها فولدت بالحجاج ،
وهو ابن شيطان ذي الردهة ) .
وفي كنز الدقائق ( 7 / 443 ) عن الصادق ( عليه السلام ) في تفسير : وشارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ ،
--------------------------- 88 ---------------------------
قال : إن الشيطان ليجئ حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها ، ويحدث كما يحدث ، وينكح كما ينكح ! قلت : بأي شئ يعرف ذلك ؟ قال : بحبنا وبغضنا ، فمن أحبنا كان نطفة العبد ، ومن أبغضنا كان نطفة الشيطان .
وفي من لا يحضره الفقيه : قال الصادق ( عليه السلام ) : من لم يبال ما قال ولا ما قيل فيه فهو شرك الشيطان ، ومن لم يبال أن تراه الناس مسيئاً ، فهو شرك شيطان ، ومن اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما ، فهو شرك شيطان ، ومن شغف بمحبة الحرام وشهوة الزنا ، فهو شرك شيطان .
عن عبد الملك بن أعين قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : إذا زنى الرجل أدخل الشيطان ذكره ثم عملا جميعاً ، ثم تختلط النطفتان فيخلق الله منهما فيكون شرك الشيطان .
صفوان الجمال قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فاستأذن عيسى بن منصور عليه . فقال : مالك ولفلان يا عيسى ، أما إنه ما يحبك ! فقال : بأبي وأمي ، يقول قولنا ويتولى من نتولى . فقال : إن فيه نخوة إبليس . فقال : بأبي وأمي ، أليس يقول إبليس : خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ؟ فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ويقول الله : وشارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ ، فالشيطان يباضع ابن آدم هكذا . وقرن بين إصبعيه !
عن يونس قال : كنت عنده ليلة فذكرشرك الشيطان فعظَّمه حتى أفزعني ! فقلت : جعلت فداك ، فما المخرج منها وما نصنع ؟ قال : إذا أردت المجامعة فقل : بسم الله الرحمن الرحيم ، الَّذي لا إله إلَّا هو بديع السماوات والأرض الَّلهم إن قضيت مني في هذه اللَّيلة خليفة فلا تجعل للشيطان فيه نصيباً ولا شركاً ولاحظاً ، واجعله عبداً صالحاً خالصاً مخلصاً مصغياً ) .

5 . حرقوص شرك شيطان وهو نفسه من شياطين الردهة :

5 . حرقوص شرك شيطان وهو نفسه من شياطين الردهة :
هذا هو المرجح عندنا ، قال ابن أبي الحديد : ( فقد قال قوم إنه ذو الثدية صاحب النهروان ، ورووا في ذلك خبراً عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وممن ذكر ذلك واختاره الجوهري صاحب الصحاح . وهؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف ، ولكن الله رماه يوم
--------------------------- 89 ---------------------------
النهروان بصاعقة ، واليها أشار ( عليه السلام ) بقوله : فقد كفيته بصعقة سمعت لها وَجْبَةَ قلبه ) .
والمرجح عندنا أن الصعقة جاءته بعد ضربة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) له بذي الفقار ، قال في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 371 ) : ( فكان أول من خرج أخنس بن العيزارالطائي فقتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخرج إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الوضاح بن الوضاح من جانب ، وابن عمه حرقوص من جانب ، فقتلَ الوضاح ، وضرب ضربةً على رأس الحرقوص فقطعه ، ووقع رأس سيفه على الفرس فشرد ورجله في الركاب ، حتى أوقعه في دولاب ) .
وقال العلامة في كشف اليقين / 163 : ( فحمل ذو الثدية ليقتل علياً ( عليه السلام ) فسبقه علي وضربه ففلق البيضة ورأسه ، فحمله فرسه فألقاه في آخر المعركة في جرف دالية على شط النهروان ) .
وقال ابن ميثم في شرح النهج ( 4 / 312 ) : ( روي عن يزيد بن رويم قال : قال لي على ( عليه السلام ) في ذلك اليوم : يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية ، فلما طُحن القوم ورام إخراج ذي الثدية فأتعبه ، أمرني أن أقطع أربعة ألف قصبة ، وركب بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ثم أمرني أن أضع على كل رجل منهم قصبة ، فلم أزل كذلك وهو راكب خلفي والناس حوله حتى بقيت في يدي واحدة ، فنظرت إليه وقد ارْبَدَّ وجهه وهو يقول : والله ما كذبت ولا كُذبت ، فإذا نحن بخرير الماء في حفرة عند موضع دالية ، فقال لي : فتش هذا ، ففتشته فإذا قتيل قد صار في الماء وإذا رجله في يدي فجذبتها وقلت : هذه رجل إنسان ، فنزل عن البغلة مسرعاً فجذب الرجل الأخرى وجررناه فإذا هو المخدج ، فكبر ( عليه السلام ) ثم سجد ، وكبر الناس بأجمعهم .
وأما الصعقة الَّتي أشار إليها فهي ما أصاب ذا الثدية من الغشي والموت بضربته ( عليه السلام ) حتى استلزم ذلك ما حكاه من سماعه لرجة صدره ووجيب قلبه . وقال بعضهم المراد بالصعقة هنا الصاعقة وهي صيحة العذاب وذلك أنه
--------------------------- 90 ---------------------------
رويَ أن علياً ( عليه السلام ) لماقابل القوم صاح في القوم فكان ذو الثدية ممن هرب من صيحته ،
حتى وجد قتيلاً في الحفرة المذكورة ) .

6 . لا قيمة لتشكيك الذهبي بعد صحة الأحاديث :

6 . لا قيمة لتشكيك الذهبي بعد صحة الأحاديث :
بعد هذه الأحاديث وفيها الصحيح ، لا قيمة لقول الذهبي إن حديث شيطان الردهة منكر وموضوع ! ففي الدر المنثور ( 6 / 57 ) : ( أخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : شيطان الردهة يحتدره ( يُمْنِيه ) رجل من بجيلة يقال له الأشهب أو ابن الأشهب ، راعي الخيل ، علامة في القوم الظلمة . قال الذهبي ما أبعده من الصحة وأنكره ) . ولا وجه لعده منكراً بعد استفاضة الأحاديث بمعناه !
أما قول ابن الأثير ( النهاية : 2 / 216 ، وابن منظور : 13 / 491 ) : ( قيل أراد به معاوية لما انهزم
أهل الشام يوم صفين ، وأخلد إلى المحاكمة ) . فيصح أن معاوية شرك شيطان ، وابن شيطان الردهة كالحجاج ، لكنه لم يقتل بسيف وصاعقة .
يبقى سؤال : عن علاقة الشيطان بالردهة ؟ وجوابه أن الجن لهم أنظمة ، فهم مثلاً يأكلون ما يبقى على العظام كما روي ، وعندهم أمكنة مفضلة كالكنيف ، ولا بد أن الردهة والوهدة منها ، وهي حفرة الماء في كعب الجبل أو قلته . وكأن الشيطان الأكثر مساساً بالإنسان يسكن الردهات .

7 . كان حرقوص يرى أنه أفضل من النبي ؟ ص ؟ !

7 . كان حرقوص يرى أنه أفضل من النبي ؟ ص ؟ !
أقبل حرقوص حتى وقف على النبي ( ( عليهما السلام ) ) وأصحابه فلم يسلم عليهم ! فقال له النبي ( ( عليهما السلام ) ) : أنشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل مني أو أخير مني ! قال : اللهم نعم ! ثم دخل يصلي ) ! ( مسند أبي يعلى : 1 / 90 ) . فحرقوص جاء إلى مسجد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ليصلي لله الصلاة التي نزلت على هذا النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، لكنه يرى أنه أفضل منه ، ولعله يقول لربه في صلاته : إعدل يا رب ! فلماذا بعثت محمداً نبياً ، وأنا أفضل منه !
--------------------------- 91 ---------------------------

8 . اشتهر حرقوص بقوله للنبي ؟ ص ؟ إعدل فإنك لم تعدل !

8 . اشتهر حرقوص بقوله للنبي ؟ ص ؟ إعدل فإنك لم تعدل !
فقد جاء إلى النبي ( ( عليهما السلام ) ) في غزوة حنين وهو يقسم الغنائم فقال له : يا محمد إعدل ، أراك ما عدلت ! قال البخاري ( 4 / 179 ) : ( فقال : يا رسول الله [ يا محمد ] إعدل ! فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ! فقال عمر : يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه ، فقال : دعه فإن له أصحاباً يحقرأحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلايجد فيه شيئاً ، ثم ينظر إلى رضافه فلا يوجد فيه شئ ، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شئ ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ ، قد سبق الفرث الدم . آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر . يخرجون على حين فرقة من الناس !
قال أبو سعيد : فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأشهد أن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأُتيَ به حتى نظرت إليه على نعت النبي ( ( عليهما السلام ) ) الذي نعته ) !
ورواه البخاري بنحوه في مواضع ، ورواه غيره بتفصيل ومدح عظيم لمن يقتلهم ، ففي الإرشاد للمفيد ( 1 / 148 ) : ( ولما قسم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غنائم حنين أقبل رجل طوال آدم أجنأ ، بين عينيه أثر السجود ، فسلم ولم يخص النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم . قال : وكيف رأيت ؟ قال : لم أرك عدلت ! فغضب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقال : ويلك ! إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ! فقال المسلمون : ألا نقتله ؟ فقال : دعوه سيكون له أتباعٌ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يقتلهم الله على يد أحب الخلق إليه من بعدي . فقتله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في من قتل يوم النهروان من الخوارج ) .
أي يدخلون في الدين آناً ما ويخرجون منه بسرعة ، كالسهم السريع !
وفي مجمع الزوائد ( 6 / 228 ) : ( عن أبي برزة : أحدثك بما سمعت أذنايَ ورأت
--------------------------- 92 ---------------------------
عيناي : أُتِيَ رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بدنانير فكان يقسمها وعنده رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان بين عينيه أثر السجود ، فتعرض لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فأتاه من قبل وجهه فلم يعطه شيئاً ، فأتاه من قبل يمينه فلم يعطه شيئاً ، ثم أتاه من خلفه فلم يعطه شيئاً ، فقال : والله يا محمد ما عدلت في القسمة منذ اليوم ! فغضب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غضباً شديداً ثم قال : والله لا تجدون بعدي أحداً أعدل عليكم مني قالها ثلاثاً ! ثم قال : يخرج من قبل المشرق رجال كأن هذا منهم هديهم هكذا ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، لا يرجعون إليه ووضع يده على صدره ، سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم ، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم ! قالها ثلاثاً ، شر الخلق والخليقة ، قالها ثلاثاً . لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال . رواه أحمد والأزرق بن قيس وثقه ابن حبان ، وبقية رجاله رجال الصحيح ) .
أقول : لا يبعد أن يكون مجيؤه هذا في حنين أيضاً ، فيكون جاء مرتين .

9 . كان حرقوص شجاعاً مديراً وشارك في بعض الفتوحات :

9 . كان حرقوص شجاعاً مديراً وشارك في بعض الفتوحات :
كان أسمر يميل إلى السواد ، ضخم الجثة ، وكان شجاعاً ومديراً ، فمن إدارته أن والي البصرة عتبة بن غزوان طلب من عمر مدداً بجيش ، فأرسل له حرقوصاً ، وحارب الفرس وشارك في فتح مدينة الأهواز . ثم ورد اسمه في معركة نهاوند ، ويظهر أنه شارك فيها .

10 . نشط حرقوص في الاعتراض على عثمان في الكوفة والبصرة !

10 . نشط حرقوص في الاعتراض على عثمان في الكوفة والبصرة !
فقد ورد اسمه في الذين نفاهم عثمان من الكوفة إلى الشام ، لاعتراضهم على عامله الأموي الوليد بن عقبة بن أبي معيط . كما ترأس الوفد الذي جاء من البصرة إلى المدينة يطلب من عثمان تغييرالوالي الأموي عبد الله بن كريز .
وبعد عثمان قاوم حرقوص طلحة والزبير وعائشة لما جاءوا إلى البصرة ، فقاتلهم مع حكيم بن جبلة ، ولما قتل حكيم فر إلى قومه بني سعد .
وقَتلت عائشة وطلحة والزبير كل من وجدوه من وفد حرقوص الذين اعترضوا
--------------------------- 93 ---------------------------
على عثمان ، وأرادت أن تقتل حرقوص فحمته عشيرته بنو سعد وهددوا بالحرب فتركوهم ، وكان عددهم ستة آلاف مقاتل .

11 . قاتل حرقوص مع علي ( ( ع ) ) في حرب الجمل الصغرى ثم خنس :

11 . قاتل حرقوص مع علي ( ( ع ) ) في حرب الجمل الصغرى ثم خنس :
شارك في حرب الجمل الصغرى ، لكنه خنس عن حرب الجمل الكبرى ، لأن حلفاءه بني تميم وقفوا على الحياد ، فكان معهم وأرسل بعض أتباعه ، فاعترضوا على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في قسمة الغنائم ، وقالوا له إنك لم تعدل !
قال الطبري ( 3 / 509 ) : ( فخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمرين قد منعوا حرقوص بن زهير ، ولا يرون القتال مع علي بن أبي طالب ) .
ثم ذكر أن الأحنف قال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إما أن آتيك فأكون معك بنفسي ، وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف ، فقال : بل كف ، فرجع . ومعناه أن الأحنف وقومه اعتزلوا ومنهم بنو سعد وحرقوص ، لكن أتباعه اعترضوا على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقالوا له : إعدل لما نادى مناديه : ( أن لا يُقتل مدبرٌ ، ولا يُدفَّف على جريح ، ولا يُكشف سترٌ ، ولا يُؤخذ مالٌ ، فقال قوم يومئذ : ما يُحلل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم ! فيومئذ تكلمت الخوارج ! وكان متكلمهم رجلاً اسمه عباد بن قيس قال : يا أمير المؤمنين والله ماقسمتَ بالسوية ، ولا عدلتَ بالرعية ! فقال : ولمَ ويحك ! قال : لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية . فقال ( عليه السلام ) : أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن !
( أي أعرض عنه وعلَّم المسلمين مداواة الجراحة ) فقال عباد : جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف ! يا أخا بكر أنت أمرؤ ضعيف الرأي ، أوَما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير ، وأن الأموال كانت لهم قبل الفرقة ، وتزوجوا على رشدة ، وولدوا على فطرة ، وإنما لكم ما حوى عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث ، فإن عدا أحد منهم أخذناه بذنبه ، وإن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره . فمهلاً مهلاً رحمكم الله ، فإن لم تصدقوني وأكثرتم عليَّ ، وذلك أنه تكلم في
--------------------------- 94 ---------------------------
هذا غير واحد ، فأيكم يأخذ عائشة بسهمه ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا وعلمت وجهلنا فنحن نستغفر الله تعالى ) !
لكن حرقوصاً ، وعَبَّاداً ، ومسعر بن فدكي ، وعبد الله بن وهب الراسبي ، وغيرهم من قيادات الخوارج لم يقتنعوا ! وواصلوا عملهم في نشر أفكارهم ووجدوا أتباعاً على شاكلتهم ، وكثروا في البصرة والكوفة والأهواز ومناطق أخرى ، وشاركوا مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب صفين ، وهم يحملون أفكارهم العنيفة التي تُكفِّر من خالفهم ! وكانوا الجمهور الذين لعب بعقولهم الأشعث ودفعهم إلى مواجهة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فطالبوه أن يوقف القتال ويقبل التحكيم وإلا قتلوه أو سلموه إلى معاوية ! ثم بعد توقيع وثيقة التحكيم انقلبوا رأساً على عقب ، وقالوا إنهم كفروا بقبولهم تحكيم الرجال في دين الله ، والآن تابوا ورجعوا إلى الإسلام ، وطلبوا من علي ( عليه السلام ) أن يتوب ويرجع ليكونوا معه !
وتدل الرواية التالية على تأثير حرقوص على عروة بن أدية التميمي وأمثاله !
قال الطبري ( 4 / 38 ) : ( خرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ويعرضه عليهم فيقرؤونه ، حتى مرَّ به على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية وهو أخو أبي بلال ، فقرأه عليهم ، فقال عروة بن أدية : تحكِّمون في أمر الله عز وجل الرجال ! لا حُكْمَ إلا لله ، ثم شدَّ بسيفه فضرب به عجز دابته ضربةً خفيفة ، واندفعت الدابة وصاح به أصحابه : أن املك يدك ، فرجع فغضب للأشعث قومه وناسٌ كثير من أهل اليمن ، فمشى الأحنف بن قيس السعدي ، ومعقل بن قيس الرياحي ، ومسعر بن فدكي ، وناس كثير من بني تميم ، فتنصلوا إليه واعتذروا فقبل وصفح ) !
وكان حرقوص معهم ، لكنه ابتعد ولم يعتذر للأشعث ، وكان يجيد الخنْس .

12 . كان حرقوص يخنس وهو موجود :

12 . كان حرقوص يخنس وهو موجود :
فقد كان حاضراً في صفين لكن لا تجد له خبراً حتى تم التحكيم فجاء إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) معترضاً ورفع شعار التحكيم !
قال الطبري ( 4 / 52 ) : ( عن عون بن أبي جحيفة أن علياً لما أراد أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج : زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير
--------------------------- 95 ---------------------------
السعدي ، فدخلا عليه فقالا له : لا حكم إلا لله . فقال علي : لا حكم إلا لله . فقال له حرقوص : تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك ، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا ! فقال لهم علي : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا وقد قال الله عز وجل : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . فقال له حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه . فقال علي : ما هو ذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف من الفعل ، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه . فقال له زرعة بن البرج : أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عز وجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه . فقال له علي : بؤساً لك ما أشقاك كأني بك قتيلاً تسفي عليك الريح . قال وددت أن قد كان ذلك . فقال له علي : لو كنت محقاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا . إن الشيطان قد استهواكم فاتقوا الله عز وجل إنه لا خير لكم في دنياً تقاتلون عليها فخرجا من عنده يحكمان ) .
ونحوه أسد الغابة ( 2 / 475 ) ومناقب آل أبي طالب ( 2 / 369 ) .
وقد وصف ابن مزاحم / 517 ، سرعة تغير موقفهم بعد إمضاء الاتفاقية ، فقال : ( فنادت الخوارج أيضاً في كل ناحية : لا حكم إلا الله ، لا نرضى بأن نحكم الرجال في دين الله ، قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا معنا في حكمنا عليهم ، وقد كانت منا خطيئة وزلة حين رضينا بالحكمين ، وقد تبنا إلى ربنا ورجعنا عن ذلك ، فارجع كما رجعنا وإلا فنحن منك براء . فقال علي ( عليه السلام ) : ويحكم أبعد الرضا والعهد والميثاق أرجع ! أوليس الله يقول : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . قال : فبرئوا من علي وشهدوا عليه بالشرك ، وبرئ علي منهم ) !
( راجع كتاب صفين / 514 و 518 ) .
--------------------------- 96 ---------------------------

13 . وكان حرقوص فقيراً يلصق نفسه بعلي ( ( ع ) ) :

13 . وكان حرقوص فقيراً يلصق نفسه بعلي ( ( ع ) ) :
قال البلاذري ( 2 / 365 ) : ( قال أبو مريم : والله إن كان المخدج لمعنا يومئذ في المسجد ، وكان يجالس علياً ( عليه السلام ) في الليل والنهار ، ولقد كان فقيراً يشهد طعام علي ) . وفي رواية ابن كثيرعن أبي داود ( النهاية : 7 / 323 ) : ( عن أبي مريم قال : إن كان ذاك المخدج لمعنا يومئذ في المسجد ، نجالسه الليل والنهار ، وكان فقيراً ، ورأيته مع المساكين يشهد طعام علي مع الناس ، وقد كسوته برنساً ) .
أي كان يأكل على سفرة علي ( عليه السلام ) ، وهذا عجيب ، لأنه كان قائداً في فتح الأهواز ، وكان معروفاً في حلفائه بني سعد ، وقد حموه من عائشة وطلحة والزبير ، وكان مطاعاً عند الخوارج وكانوا من أيام حرب الجمل فرقة يتبعونه .

14 . روينا أن أحمد بن حنبل من ذرية حرقوص :

14 . روينا أن أحمد بن حنبل من ذرية حرقوص :
روى الصدوق في علل الشرائع ( 2 / 467 ) بسنده عن إبراهيم بن محمد بن سفيان قال : ( إنما كانت عداوة أحمد بن حنبل مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أن جده ذا الثدية الذي قتله علي بن أبي طالب يوم النهروان كان رئيس الخوارج ) !
ويؤيد ذلك أن الطبري المؤرخ ألف كتاباً في الرد على الحنابلة وسماه : ( الرد على الحرقوصية ) أي الحنابلة ، قال النجاشي في فهرست أسماء مصنفي الشيعة / 322 : ( محمد بن جرير أبو جعفر الطبري عامي ، له كتاب الرد على الحرقوصية ، ذكر طرق خبر يوم الغدير ، أخبرنا القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا محمد بن جرير بكتابه : الرد على الحرقوصية ) .
وقد اشتبه بعضهم فتصور أنه أورد طرق حديث الغدير في كتابه الرد على الحرقوصية ، لكنهما كتابان . وكان للطبري مع الحنابلة عداوة لأنه لم يوافقهم على التشبيه والتجسيم ، فأرادوا قتله ، ورجموا بيته بالأحجار ، فتدخلت السلطة .
واسم كتاب الطبري ورواية الصدوق ، شهادة بنسب ابن حنبل إلى ذي الثدية حرقوص . وهو دليل يرد النسب الذي وضعه ابنه صالح وألحق أباه ببني شيبان .
--------------------------- 97 ---------------------------
ويؤيد ذلك أن عارم السدوسي ، قال لأحمد متعجباً : سمعنا أنك عربي ! فسكت ولم يجب ، وسكوته يكفي لرد رواية ابنه في النسب الذي وضعه ! قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 1 / 63 ) : « قال عارم : قلت له يوماً : يا أبا عبد الله بلغني أنك من العرب ؟ فقال : يا أباالنعمان نحن قوم مساكين ، فلم يزل يدافعني حتى خرج ولم يقل لي شيئاً » .
وهو يدل على وجود ادعاء بأنه عربي في مجتمع يميزالعرب على غيرهم ، لكنه لا يثبت أن أحمد ادعى ذلك أو وافق عليه ! فقد تخوف من ادعاء أنه عربي وقال إنه مسكين من الموالي ، والعربية مقام لا يدعيه . ثم ادعى ابنه صالح النسب إلى شيبان فسكت عنه ، قال : ( رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال وما يصنع هذا النسب ولم ينكر النسب ) . ( تاريخ دمشق : 5 / 256 ) .
قال في تاريخ بغداد ( 5 / 181 ) : ( حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل وذكر أباه فقال : جئ به حملٌ من مرو ، وتوفي أبوه محمد بن حنبل وله ثلاثون سنة ) .

  • *
    --------------------------- 98 ---------------------------

الفصل التاسع والثمانون: أحاديث النبي ؟ ص ؟ في الخوارج وأبرز صفاتهم

إخبار النبي ؟ ص ؟ عن الخوارج من دلائل نبوته

1 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو متوجه إلى قتال الخوارج ( الإرشاد : 1 / 317 ) : ( لولا أني أخاف أن تتكلوا وتتركوا العمل لأخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيه ( ( عليهما السلام ) ) فيمن قاتل هؤلاء القوم مستبصراً بضلالتهم . وإن فيهم لرجلاً مَوْدُون اليد ( ناقص ) له ثدي كثدي المرأة ، وهم شرالخلق والخليقة وقاتلهم أقرب خلق الله إلى الله وسيلة . ولم يكن المخدج معروفاً في القوم ، فلما قتلوا جعل ( عليه السلام ) يطلبه في القتلى ويقول : والله ما كذبت ولا كذبت ! حتى وجد في القوم ، وشق قميصه وكان على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات إذا جذبت انجذبت كتفه معها وإذا تركت رجع كتفه إلى موضعه ، فلما وجده كبَّر وقال : إن في هذا لعبرةً لمن استبصر ) .
2 . وروى ابن المغازلي / 65 : ( عن أبي سعيد الخدري : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : يكون فيكم قوم تُحقّرونَ صلاتَكم مع صلاتِهم ، وأعمالكم مع أعمالِهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيهم ، يَمْرُقونَ من الدين كما يمرقُ السهم من الرمية : ينظُر في النصل فلا يرى شيئاً ، ثم ينظر في القِدح فلا يرى شيئاً ، ثم ينظر في الرِّيش فلا يرى شيئاً ، ثمّ يتمادى في الفُوق ) .
والمعنى : أن دخولهم في الإسلام كسهم سريع تضربه على فريسة فلا يظهر عليه شئ من الدم من أثر الفريسة ، لا على السهم ، ولا على النصل ، ولا على القوس . .
3 . في مسند أحمد ( 1 / 91 ) : ( لما خرجت الخوارج بالنهروان قام علي في أصحابه فقال : إن هؤلاء القوم قد سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا في سرح الناس ، وهم أقرب العدو إليكم ، وإن تسيروا إلى عدوكم أخاف أن يخلفكم هؤلاء في أعقابكم ! إني سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : تخرج
--------------------------- 99 ---------------------------
خارجة من أمتي ، ليس صلاتكم إلى صلاتهم بشئ . . فسيروا على اسم الله . ) .
4 . في مسند أحمد ( 1 / 107 ) : ( عن طارق بن زياد قال : خرجنا مع علي إلى الخوارج فقتلهم ثم قال : أنظروا فإن نبي الله ( ( عليهما السلام ) ) قال : إنه سيخرج قوم يتكلمون بالحق لا يجوز حلقهم . . ثم قال : أطلبوا فطلبنا فوجدنا المخدج فخررنا سجوداً ، وخر عليٌّ معنا ساجداً ) .
5 . وفي صحيح مسلم ( 3 / 115 ) : ( عن علي رضي الله عنه قال : أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول : يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ ، ولاصلاتكم إلى صلاتهم بشئ ، ولاصيامكم إلى صيامهم بشئ ، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهوعليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضيَ لهم على لسان نبيهم لاتكلوا عن العمل !
وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع ، على رأس عضده مثل حلمة الثدي ، عليه شعرات بيض ، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم . والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم ، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله . قال سلمة بن كهيل فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال : مررنا على قنطرة ، فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم : ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها ، فإني أخاف ان يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء ، فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم . قال : وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان ، فقال علي رضي الله عنه : التمسوا فيهم المخدج ، فالتمسوه فلم يجدوه ، فقام علي بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض ، قال : أخرجوهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله ( ( عليهما السلام ) ) . قال : فقام إليه عبيدة السلماني فقال : يا أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله ؟
--------------------------- 100 ---------------------------
فقال : إي والله الذي لا إله إلا هو . حتى استحلفه ثلاثاً ) .
6 . في صحيح البخاري ( 8 / 53 ) : ( سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق : يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ) .
7 . في سنن ابن ماجة ( 1 / 59 ) : ( عن عبد الله بن مسعود : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول الناس ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم . يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . فمن لقيهم فليقتلهم ، فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم . وعن عبيدة السلماني عن علي قال : لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم ، على لسان محمد ( ( عليهما السلام ) ) قلت : أنت سمعته من محمد ؟ قال : إي ، ورب الكعبة ، ثلاث مرات .
عن ابن أبي أوفى ، قال : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : الخوارج كلاب النار .
عن أبي أمامة ، يقول : شرُّقتلى قتلوا تحت أديم السماء ، وخيرقتيل من قتلوا ، كلاب أهل النار . قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفاراً . قلت : يا أباأمامة هذا شئ تقوله ؟ قال : بل سمعته من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ) .
هذا ، وستأتي شهادة عائشة بما سمعته من النبي ( ( عليهما السلام ) ) في الخوارج وعلي ( عليه السلام ) !

  • *
    --------------------------- 101 ---------------------------

أهم صفات الخوارج وصفات حركتهم

أهم صفات الخوارج وصفات حركتهم

1 . مشكلة الخوارج التكبر الذي ملأ صدورهم :

1 . مشكلة الخوارج التكبر الذي ملأ صدورهم :
إن الداء الدويَّ في الخوارج عُجْبُهم بأنفسهم بتعبيرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ! فقد دخل إمامهم حرقوص مسجد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ذات يوم ولم يسلم عليه ، فسأله النبي : نشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل مني أو أخير مني ! قال : اللهم نعم ! ثم دخل يصلي ) ! ( أبو يعلى : 1 / 90 ) .
فهو يرى أنه أفضل من النبي ( ( عليهما السلام ) ) ويعمل لإثبات ذاته ! كما قال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ .
وفي المحاسن ( 1 / 184 ) : ( قال رجل لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : إن لنا جاراً من الخوارج يقول : إن محمداً يوم القيامة همه نفسه ، فكيف يشفع ! فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمد ( ( عليهما السلام ) ) يوم القيامة ) !

2 . سبب شجاعتهم مركب النقص وإثبات الذات :

2 . سبب شجاعتهم مركب النقص وإثبات الذات :
وقد كشف الإمام الصادق ( عليه السلام ) هذا السبب ، لما سأله جميل بن دراج : هل يرى أنهم شُكَّاكٌ ؟ ( فقال : نعم . فقال بعض أصحابه : كيف وهم يدعون إلى البراز ؟ قال : ذلك مما يجدون في أنفسهم ) . ( تهذيب الأحكام : 6 / 145 ) .
يعني أن سبب تكبرهم مركب نقص يجدونه في أنفسهم ، فيتحملون الخطر لإثبات أنهم على يقين ! وتصديق كلامه ( عليه السلام ) أن قائدهم الراسبي لما نادى أصحابه : ( روحوا بنا رَوْحةً إلى الجنة . فقال : لعلها رَوْحةٌ إلى النار ! قالوا : شككت ! قال : أتألون على الله ! فاعتزل منهم فروة بن نوفل الأشجعي بألف رجل ! فقال لهم أصحابهم : أشككتم ؟ أما لو أن تبقى منا عصابة من بعدنا يدعون إلى أمرنا لبدأنا بكم ) .
( شرح الأخبار : 2 / 55 ) .
فشجاعتهم ناشئة من عقدة إثبات الذات بالمزايدة في الدين ، فيتحملون الخطر ! ونلاحظ أن المعاصرين منهم مثل أسلافهم تماماً ، يعتقدون العظمة في ذواتهم !
--------------------------- 102 ---------------------------

3 . ضيقوا واسعاً ونزعوا الرحمة من الدين :

3 . ضيقوا واسعاً ونزعوا الرحمة من الدين :
( إسماعيل الجعفي قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله فقال : الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم ! قلت : جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه ؟ فقال : بلى ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله ، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم ، فقال : ما جهلت شيئاً ، هو والله الذي نحن عليه .
قلت : فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر ؟ فقال : لا إلا المستضعفين . قلت : من هم ؟ قال : نساؤكم وأولادكم ثم قال : أرأيت أم أيمن ؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه ) . ( الكافي : 2 / 405 ) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) ( قرب الإسناد / 385 ) : ( إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إن الدين أوسع من ذلك ، إن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان يقول : إن شيعتنا في أوسع ما بين السماء إلى الأرض ، أنتم مغفور لكم ) .
وفي الأصول الستة عشر / 68 ، قال الصادق ( عليه السلام ) : ( دخل على أبي قوم فقال لهم : مالكم وللبراءة بعضكم من بعض ! إنما أخذتم أخذ الخوارج ، ضيقوا على أنفسهم حتى برئ بعضهم من بعض ! إن أمرنا أوسع مما بين السماء والأرض ، وإذا أبغضت الرجل فقد برئت منه ) .

4 . من أبرز صفاتهم العامية والخشونة :

4 . من أبرز صفاتهم العامية والخشونة :
فالأمورعندهم أبيض وأسود فقط ، ولا ألوان بينهما . فهم كما قال تعالى : أَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ . . لايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً . ترى أحدهم لا يفهم إلا قليلاً ، أو لا يفهم أبداً ! ويزعمون أنهم أفهم الناس ، ويتكلم أحدهم في كل المسائل ، ويزعم أنه مجتهد ، يفتي في الآية والحديث ، والقاعدة العقلية ، والقضية التاريخية ، والسياسة ، وأوضاع العالم ! فيخلط عباساً بدباس ، وهو فرح بأنه يقول علماً ، وينطق حكماً !
وحتى نساؤهم تجتهد وتفتي ، في الفقه والعقائد ، وتحكم على الناس بالكفر ، وتهدر
--------------------------- 103 ---------------------------
الدماء ، وتبيح الأعراض ! في عامية مفرطة ، وخشونة !
وهذا سبب تكفيرهم لبعضهم وتكاثر فرقهم ! وقد زاد عددهم في زمن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على عشرين فرقة ، وزاد في عصرنا أضعافاً !
قال ابن ميثم في شرح النهج ( 2 / 154 ) : ( وأما الذين ظهروا بعده من رؤسائهم فجماعة كثيرة ، وذلك أن التسعة الذين سلموا يوم النهر تفرقوا في البلاد فانهزم اثنان منهم إلى عُمان ، واثنان إلى كرمان ، واثنان إلى سجستان ، واثنان إلى الجزيرة ، وواحد إلى تل مورون في اليمن ، وقد كان منهم جماعة لم يظفر ( عليه السلام ) بهم ، فظهرت بدعتهم في أطراف البلاد بعده ، فكانوا نحواً من عشرين فرقة وكبارها سِتٌّ :
إحداها : الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق وكانت أكبر الفرق . خرجوا من البصرة إلى الأهواز وغلبوا عليها وعلى كورها ، وما وراءها من بلدان فارس وكرمان ، في أيام عبد الله بن الزبير ، وكان مع نافع من أمراء الخوارج عشرة : عطية بن الأسود الحنفي ، وعبد الله بن ما خول ، وأخواه : عثمان بن الزبير ، وعمر بن عمير العميري ، وقطري بن فجأة المازني ، وعبدة بن الهلال الشيباني ، وصخر التميمي ، وصالح العبدي ، وعبدربه الكبير ، وعبدربه الصغير في ثلاثين ونيف ألف فارس منهم .
فانفذ إليهم المهلَّب بن أبي صفرة ، ولم يزل في حربهم هو وأولاده تسع عشرة سنة ، إلى أن فرغ من أمرهم في أيام الحجاج ، ومات نافع قبل وقايع المهلَّب ، وبايعوا قَطْرياً وسموه أمير المؤمنين .
الثانية : النجدات رئيسهم نجدة بن عامر الحنفي ، وكان معه أميران يقال لأحدهما عطية ، والآخر أبوفديك ، ففارقاه بشبهة ثم قتله أبوفديك ، وصار لكل واحد منهما جمع عظيم ، وقتلا في زمن عبد الملك بن مروان .
الثالثة : البيهسية أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر ، وكان بالحجاز وقتله عثمان بن حيان المزني بالمدينة ، بعد أن قطع يديه ورجليه . وذلك في زمن الوليد بإشارة منه .
--------------------------- 104 ---------------------------
الرابعة : العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد ، وتحت هذه الفرقة فرق كثيرة ، لكلّ منهم رئيس منهم مشهور .
الخامسة : الأباضية أصحاب عبد الله بن أباض في أيام مروان بن محمد ، فوجّه إليه عبد الله بن محمد بن عطية ، فقاتله فقتله .
السادسة : الثعالبة أصحاب ثعلبة بن عامر ، وتحت هذه الفرقة أيضاً فرق كثيرة ، ولكل منها رئيس مشهور . وتفصيل رؤسائهم وفرقهم وأحوالهم ومن قتلهم مذكور في كتب التواريخ . .
وأمّا كون آخرهم لصوصاً سلَّابين فإشارة إلى ما كانوا يفعلونه في أطراف البلاد بإصبهان والأهواز وسواد العراق ، يعيثون فيها بنهب أموال الخراج وقتل من لم يدن بدينهم ، جهراً وغيلةً ، وذلك بعد ضعفهم وتفرّقهم بوقايع المهلَّب وغيرها ، كما هو مذكور في مظانه . . الخ . ) .
قال المفيد في الإعلام / 46 : ( اتفقت الإمامية على أن السارق يجب قطعه من أصول الأصابع ، وتبقى له الراحة والإبهام . وأجمعت العامة على خلاف ذلك ، وزعم جمهورهم أن يقطع من الرسغ خاصة . وقال الخوارج : يقطع من المرفق ، وقال بعضهم : من أصل الكتف ) !

5 . ومن صفاتهم القسوة إلى حد الوحشية !

5 . ومن صفاتهم القسوة إلى حد الوحشية !
وقد ظهر ذلك في أول تكتلهم ، فقتلوا الصحابي الفارس عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه ، وبقروا بطن زوجته ، وقتلوا طفلها !
قال الطبري ( 4 / 60 ) : ( فخرجت عصابة منهم فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار ، فعبروا إليه فدعوه فتهددوه وأفزعوه ، قالوا له : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض وكان سقط عنه لما أفزعوه ، فقالوا له : أفزعناك ؟ قال : نعم ، قالوا له : لاروع عليك ، فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي ( ( عليهما السلام ) ) لعل الله ينفعنا به . قال : حدثني أبي عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أن فتنة تكون يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسي فيها مؤمناً ويصبح فيها كافراً ، ويصبح
--------------------------- 105 ---------------------------
فيها كافراً ويمسي فيها مؤمناً . فقالوا : لهذا الحديث سألناك ، فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما خيراً . قالوا : ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها قال : إنه كان محقاً في أولها وفي آخرها . قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ قال : إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة . فقالوا : إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ! والله لنقتلنك قتلةً ما قتلناها أحداً ! فأخذوه فكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم ، حتى نزلوا تحت نخل مواقر فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه ، فقال أحدهم : بغيرحلها وبغيرثمن ! فلفظها وألقاها من فمه . ثم أخذ سيفه فأخذ يمينه ، فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه بسيفه فقالوا : هذا فساد في الأرض ! فأتى صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره ! فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال : لئن كنتم صادقين فيما أرى فما عليَّ منكم بأس ، إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً ، ولقد آمنتموني قلتم لاروع عليك ! فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه وسال دمه في الماء ! وأقبلوا إلى المرأة فقالت : إنما أنا امرأة ، ألا تتقون الله ! فبقروا بطنها ! وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ ، وقتلوا أم سنان الصيداوية ) !
وفي رواية البلاذري ( 2 / 368 ) : ( فجاؤوا به فأضجعوه على شفيرنهروألقوه على الخنزيرالمقتول فذبحوه عليه ، فصار دمه مثل الشراك ، قد امْذَقَرَّ في الماء وأخذوا امرأته فبقروا بطنها وهي تقول : أما تتقون الله ) !
امْذَقَر : أي جمد دمه رضي الله عنه في الماء ، ولم يختلط بدم الخنزير !

6 . اعترف أحدهم بعد توبته بأنهم يكذبون على رسول الله ؟ ص ؟ :

6 . اعترف أحدهم بعد توبته بأنهم يكذبون على رسول الله ؟ ص ؟ :
رووا عن عبد الله بن زيد المقري : ( أن رجلاً من الخوارج رجع عن بدعته ، فجعل يقول : أنظروا هذا الحديث عمن تأخذونه ، فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً ) ! ( الدراية للشهيد الثاني / 160 ، والبابلي : 1 / 208 ) .
--------------------------- 106 ---------------------------

7 . من صفاتهم المكابرة والتناقض !

7 . من صفاتهم المكابرة والتناقض !
ومن أمثلة ذلك أن ابن الأزرق رئيس أكبر فرقهم ، وهو من بني حنيفة قبيلة مسيلمة ، كان يناظر ابن عباس والإمام الباقر ( عليه السلام ) فيحجانه ، ثم لا يرجع عن رأيه ! ففي الإحتجاج ( 2 / 57 ) والإرشاد ( 2 / 165 ) : ( جاءت الأخبار أن [ عبد الله بن ] نافع بن الأزرق جاء إلى محمد بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجلس بين يديه فسأله عن مسائل في الحلال والحرام ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) في عرض كلامه : قل لهذه المارقة : بمَ استحللتم فراق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى الله بنصرته ؟ فسيقولون لك : إنه حكَّم في دين الله ، فقل لهم : قد حكَّم الله تعالى في شريعة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) رجلين من خلقه فقال تعالى : فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أهلها إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللُه بَيْنَهُمَا . وحكم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) سعد بن معاذ في بني قريظة ، فحكم فيهم بما أمضاه الله ، أوما علمتم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدياه ، واشترط رد ما خالف القرآن من أحكام الرجال ، وقال حين قالوا له : حكمت على نفسك من حكم عليك ، فقال : ما حكمت مخلوقاً ، وإنما حكمت كتاب الله . فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن واشترط رد ما خالفه ! لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان ؟ ! فقال نافع : هذا كلام ما مر بسمعي قط ، ولا خطر مني ببال ، وهو الحق إن شاء الله ) .
ورغم أنه قال : هو الحق ، فقد هاجم مدينة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! ففي الخرائج ( 1 / 289 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( كان أبي في مجلس له ذات يوم إذ أطرق رأسه إلى الأرض فمكث فيها ملياً ثم رفع رأسه فقال : يا قوم كيف أنتم إذا جاءكم رجل يدخل عليكم مدينتكم هذه في أربعة آلاف حتى يستعرضكم بالسيف ثلاثة أيام ، فيقتل مقاتلتكم وتلقون منه بلاء لا تقدرون أن تدفعوه ، وذلك من قابل ، فخذوا حذركم واعلموا أن الذي قلت هو كائن لابد منه . فلم يلتفت أهل المدينة إلى كلامه وقالوا : لا يكون هذا أبداً ، ولم يأخذوا حذرهم إلا نفر يسير وبنو هاشم خاصة ، وذلك أنهم علموا أن كلامه هو الحق ، فلما كان من قابل تحمل أبو جعفر بعياله وبنو هاشم فخرجوا من المدينة ، وجاء نافع بن الأزرق حتى كبس المدينة ، فقتل مقاتلتهم وفضح نساءهم ! فقال أهل
--------------------------- 107 ---------------------------
المدينة : لانردعلى أبي جعفرشيئاً نسمعه منه أبداً ، بعدما سمعنا ورأينا ، فإنهم أهل بيت النبوة وينطقون بالحق ) .
وروى في الكافي ( 8 / 251 ) مناظرة عبد الله بن نافع مع الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، قال : ( كان يقول : لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غيرظالم لرحلت إليه . فقيل له : ولا ولده ؟ فقال : أفي ولده عالم ؟ فقيل له : هذا أول جهلك وهم يخلون من عالم ! قال : فمن عالمهم اليوم ؟ قيل : محمد بن علي بن الحسين بن علي ( عليهم السلام ) قال : فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة ، فاستأذن على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقيل له : هذا عبد الله بن نافع ، فقال : وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار ؟ فقال له أبو بصير الكوفي : جعلت فداك إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم ، لرحل إليه ، فقال له أبو جعفر : أتراه جاءني مناظراً ؟ قال : نعم ، قال : يا غلام أخرج فحط رحله ، وقل له : إذا كان الغد فأتنا . قال : فلما أصبح عبد الله بن نافع غداً في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر ( عليه السلام ) إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم ، ثم خرج إلى الناس في ثوبين ممغرين وأقبل على الناس كأنه فلقة قمر فقال :
الحمد لله محيث الحيث ومكيف الكيف ومؤين الأين . الحمد لله الذي : لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَئٍْ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَالْعَلِي الْعَظِيمُ . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) عبده ورسوله ، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم .
الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته . يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فليقم وليتحدث قال : فقام الناس فسردوا تلك المناقب . فقال عبد الله : أنا أروى لهذه المناقب من هؤلاء ، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين . حتى انتهوا في المناقب إلى حديث
--------------------------- 108 ---------------------------
خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ما تقول في هذا الحديث فقال : هو حق لاشك فيه ولكن أحدث الكفر بعد ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : ثكلتك أمك أخبرني عن الله عز وجل أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم ؟ قال ابن نافع : أعد عليَّ ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : أخبرني عن الله جل ذكره أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ؟
قال : إن قلت : لا ، كفرت . فقال : قد علم قال : فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته ؟ فقال : على أن يعمل بطاعته !
فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : فقم مخصوماً ! فقام وهو يقول : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .
ومع ذلك بقي ابن نافع معانداً كأبيه !
وروى ابن أبي شيبة ( 7 / 505 ) مناظرة نافع مع عبد الله بن عمر ، قال : ( جاءه نافع بن الأزرق فقام علي رأسه فقال : والله إني لأبغض علياً ، قال فرفع إليه ابن عمر رأسه فقال : أبغضك الله ، تبغض رجلاً سابقةٌ من سوابقه خيرمن الدنيا وما فيها ) .

8 - أسَّس الخوارج حركة التكفير والهجرة

8 - أسَّس الخوارج حركة التكفير والهجرة
1 . قال البلاذري ( 2 / 362 ) : ( إن وجوه الخوارج اجتمعوا عند عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم ودعاهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقول بالحق وإن أمر وضر ، وقال : أخرجوا بنا معشر إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها ، إلى بعض السواد وبعض كور الجبل ، منكرين لهذه البدع المكروهة . ثم قام حرقوص بن زهير السعدي فتكلم ، وتكلموا جميعاً بذم الدنيا والدعاء إلى رفضها ، والجد في طلب الحق وإنكار البدع والظلم ، وعرضوا رئاستهم على غير واحد منهم فأبوها ، وقبلها عبد الله بن وهب الراسبي فبايعوه . وذلك ليلة الجمعة لعشر ليال بقين من شوال سنة سبع وثلاثين ، في منزل زيد بن حصين .
وقال أبو مخنف : إن الحرورية اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي بعد أن ولَّوا
--------------------------- 109 ---------------------------
أمرهم عبد الله بن وهب ، وبعد شخوص أبي موسى للحكومة ، فقال ابن وهب : إن هؤلاء القوم قد خرجوا لإمضاء حكمهم حكم الضلال ، فأخرجوا بنا رحمكم الله إلى بلدة نبعد بها عن مكاننا هذا ، فإنكم أصبحتم بنعمة ربكم أهل الحق . فقال شريح : فما تنتظرون ؟ أخرجوا بنا إلى المدائن لننزلها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيوافونا . فأشار عليهم زيد بن حصين أن لايعتمدوا دخول المدائن ، وأن يخرجوا وحداناً مستخفين لئلايرى لهم جماعة فتتبع ، وأن ينزلوا بحصن المدائن ، فعملوا على ذلك وكتبوا إلى من بالبصرة من إخوانهم يستنهضونهم ، وبعثوا بالكتاب مع رجل من بني عبس . وخرج زيد بن حصين وشريح بن أوفى من منزلهما على دابتيهما . وخرج الناس وترافدوا بالمال والعتاق ، وخرج عتريس بن عرقوب الشيباني صاحب عبد الله بن مسعود ، مع الخوارج فاتبعه صيفي بن فسيل الشيباني في رجال من قومه ، فطلبوه ليردوه فلم يقدروا عليه .
قالوا : كان أول من خرج شريح بن أوفى صلاة الغداة ، وهو يتلو : رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا . فخرج قومه من المسجد ليمنعوه فقال : والله لا يعرض لي أحد منكم إلا أنفذت رمحي فيه ! فقالوا : أبعدك الله إنما أشفقنا عليك !
وخرج زيد بن حصين وهو يقرأ : فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ . فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . فلما عبر الفرات قرأ : وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ .
ثم تتابعوا يخرجون . وخرج القعقاع بن نفر الطائي فاستعان عليه أخوه حكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة برجال فحبسوه . وحكم هذا جد الطرماح الشاعر ابن حكيم بن حكم ، فقال :
وإني لمقتاد جوادي فقاذف * به وبنفسي اليوم إحدى المتالف
فيا رب إن كانت وفاتي فلا تكن * على شرجع تعلوه خضر المطارف
ولكن أَحِن يومي شهيداً بعصبة * يصابون في فج من الأرض خائف
ليصبح لحدي بطن نسر مقيله * بجوّ السماء في نسور عواكف
يوافون من شتى ويجمع بينهم * تقى الله نزالون عند التزاحف .
--------------------------- 110 ---------------------------
وخرج عتريس بن عرقوب الشيباني ، وخرج في طلبه صيفي بن فسيل الشيباني ابن عمه في جماعة من قومه ليردوه ، ففاتهم .
وخرج زيد بن عدي بن حاتم ، فاتبعه أبوه عدي بن حاتم ففاته ، فلم يقدر عليه ، فانصرف عدي إلى علي بخبرهم .
وخرج كعب بن عميرة ، فاشترى فرساً وسلاحاً وقال :
هذا عتادي للحروب وإنّني * لآمل أن ألقى المنية صابرا
وبالله حولي واحتيالي وقوتي * إذا لقحت حرب يشيب الحزاورا
وما زلت مذ كنت ابن عشرين حجة * أهمّ بأن ألقى الكماة مغاورا
وأصنع للهيجاء محبوكة القزا ( كذا ) * معقربة الانساء تحسب طائرا
إذا عضّها سوطي تمطت ملحة * بأروع مختال يروق النواظرا
فقال له عبد الله بن وهب : جزيت خيراً فرب سريعة موت تنجيك من النار وتوردك مورداً لا تظمأ بعده . فأخذه أهل بيته فحبسوه حتى قتل أهل النهروان . وخرج عبيدة بن خالد المحاربي . . فأراد عمه ردَّه فأبى ) .
2 . وأراد العيزار أن يلتحق بهم فمنعوه ! قال له رجلان مراديان ( الطبري : 4 / 66 ) : إنا لنعرفك يا عيزار برأي القوم فلا تفارقنا حتى نذهب بك إلى أمير المؤمنين فنخبره خبرك ، فلم يكن بأوشك أن جاء عليٌّ فأخبراه خبره وقالا : يا أمير المؤمنين إنه يرى رأى القوم ، قد عرفناه بذلك ، فقال ما يحل لنادمه ولكنا نحبسه . فقال عدي بن حاتم : يا أمير المؤمنين إدفعه إليَّ وأنا أضمن أن لا يأتيك من قبله مكروه ، فدفعه إليه )
3 . وقد وصفهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال ( الخصال / 381 ) : ( وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كان عهد إلي أن أقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بخلافهم عليَّ ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم لي بقتلهم بالسعادة . فلما انصرفت إلى موضعي هذا يعني بعد الحكمين ، أقبل بعض القوم عليَّ بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن
--------------------------- 111 ---------------------------
لا يبايع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ ، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه ، فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لاحكم إلا لله ! ثم تفرقوا : فرقة بالنخيلة ، وأخرى بحروراء ، وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً حتى عبرت دجلة فلم تمر بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ومن خالفها قتلته ) !
4 . وقال في شرح النهج ( 4 / 136 ) : ( ومنهم نافع بن الأزرق الحنفي ، وكان شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج وإليه تنسب الأزارقة ، وكان يفتي بأن الدار دار كفر وأنهم جميعاً في النار ، وكل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه ، ولا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعياً منهم إلى الصلاة ، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم ، ولا أن يناكحوهم ، ولا يتوارث الخارجي وغيره ، وهم مثل كفارالعرب وعبدة الأوثان ، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف .
والقَعَدة ( القاعدون ) بمنزلتهم . والتقية لا تحل لأن الله تعالى يقول : إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وقال فيمن كان على خلافهم : يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) .
وقال في المواقف ( 3 / 697 ) : ( الأزارقة قالوا : كفرعلي بالتحكيم وهو الذي أنزل فيه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وابن ملجم محق في قتله وهو الذي أنزل فيه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ .
وفيه قال مفتي الخوارج وزاهدها عمران بن حطان :
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه * أوفي البرية عند الله ميزانا
وكفرت الصحابة عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر المسلمين معهم ، وقضوا بتخليدهم في النار . وكفروا القَعَدة عن القتال وإن كانوا موافقين لهم في الدين . وقالوا تحرم التقية في القول والعمل . ويجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم ، ولا رجم على الزاني المحصن إذ هو غير مذكور في القرآن ،
--------------------------- 112 ---------------------------
ولاحد للقذف على النساء ، لأن المذكور في القرآن هو صيغة الذين وهو للمذكرين ) .
5 . قال الطبري ( 4 / 54 ) : ( فقال له حرقوص بن زهير : إن المتاع بهذه الدنيا قليل ، وإن الفراق لها وشيك ، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم ، فإن اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . فقال حمزة بن سنان الأسدي : يا قوم إن الرأي ما رأيتم ، فولوا أمركم رجلاً منكم فإنه لابد لكم من عماد وسناد ، وراية تحفون بها وترجعون إليها . فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى ، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى ، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا ، وعرضوها على عبد الله بن وهب فقال : هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ، ولا أدعها فرقاً من الموت ! فبايعوه لعشر خلون من شوال ، وكان يقال له ذو الثفنات ! ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي فقال ابن وهب : إشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاد حكم الله ، فإنكم أهل الحق . قال شريح نخرج إلى المدائن فننزلها ونأخذ بأبوابها ونُخرج منها سكانها ، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا .
فقال زيد بن حصين : إنكم إن خرجتم مجتمعين اتُّبِعتم ، ولكن أخرجوا وحداناً مستَخْفِين ، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم ، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسرالنهروان ، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة . قالوا : هذا الرأي ، وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم ما اجتمعوا عليه ويحثهم على اللحاق بهم ، وسيَّر الكتاب إليهم فأجابوه أنهم على اللحاق به ! فلما عزموا على المسير تعبدوا ليلتهم وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة ، وساروا يوم السبت ، فخرج شريح بن أوفى العبسي وهو يتلو قول الله تعالى : فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ .
وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم فردَّهم أهلوهم كرهاً ، منهم القعقاع بن قيس الطائي عم الطرماح بن حكيم ، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي ، وبلغ علياً أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج فأحضره عنده ونهاه فانتهى ) .
أقول : هذه صُوَرٌ من تكفيرهم ، وتجمعهم ، حتى صاروا أربعة عشر ألفاً .

  • *
    --------------------------- 113 ---------------------------

الفصل التسعون: تعامل أمير المؤمنين ( ( ع ) ) معهم وبعض كلماته فيهم

نجح أمير المؤمنين ( ( ع ) ) في تخفيض عدد الخوارج

1 . كانت سياسة الإمام ( عليه السلام ) مع الخوارج الأناة والمناظرة ، وقد طمأنهم بأنه لا يقوم ضدهم بعمل ، ولا يمنعهم حقهم من بيت المال ، إلا أن يعتدوا على المجتمع ويفسدوا في الأرض . وعمل لإقناعهم فأرسل لهم صعصعة ، وقيس بن سعد ، وابن عباس ، وغيرهم . وذهب هو إليهم مرات وتكلم معهم ، فكانت النتيجة أن رجع كثير منهم ، وبقيت أقلية معاندة فقاتلهم .
2 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 270 ) والطبري ( 4 / 46 ) : ( خرجوا مع علي إلى صفين وهم متوادون أحباء ، فرجعوا متباغضين أعداء ! ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم ( شعار : لاحكم إلا لله ) ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط ! يقول الخوارج : يا أعداء الله أدهنتم في أمرالله عز وجل وحكَّمتم ! وقال الآخرون : فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا ! فلما دخل عليٌّ الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً ، ونادى مناديهم : إن أميرالقتال شبث بن ربعي التميمي ، وأميرالصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عز وجل والأمربالمعروف والنهي عن المنكر .
فخرج عليٌّ في الناس حتى دخل إليهم فأتى فسطاط يزيد بن قيس فدخله فتوضأ فيه وصلى ركعتين ، وأمَّره على أصبهان والري ، ثم خرج حتى انتهى إليهم ، وهم يخاصمون ابن عباس فقال : إنته عن كلامهم ، ألم أنهك رحمك الله . ثم تكلم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال :
--------------------------- 114 ---------------------------
اللهم إن هذا مقام من أفلح فيه كان أولى بالفلح يوم القيامة ، ومن نطق فيه وأوعث فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً . ثم قال لهم : من زعيمكم ؟ قالوا : ابن الكواء . قال عليٌّ : فما أخرجكم علينا ؟ قالوا : حكومتكم يوم صفين . قال : أنشدكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم : إني أعلم بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال ، إمضوا على حقكم وصدقكم ، فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهناً ومكيدةً ، فرددتم عليَّ رأيي وقلتم : لا بل نقبل منهم . فقلت لكم : أذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي . فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء . ! قالوا له : فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء ؟ فقال : إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن انما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق ، إنما يتكلم به الرجال .
قالوا : فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم ؟ قال : ليعلم الجاهل ويتثبت العالم ، ولعل الله عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة . أدخلوا مصركم رحمكم الله ، فدخلوا من عند آخرهم ) .
أقول : أفحمهم الإمام ( عليه السلام ) وأبطل حجتهم ، فمنهم من تاب ، ومنهم من بقي على ضلاله ! وكلهم دخلوا الكوفة ، ثم خرجوا وعسكروا في المدائن ، ثم في النهروان . وتابع الإمام ( عليه السلام ) إقناعهم حتى انخفض عددهم إلى أربعة آلاف .
وقد نص البلاذري على أنهم بعد دخولهم الكوفة كانوا يهتفون بشعار الخوارج ! قال ( 2 / 359 ) : ( فدخلوا جميعاً إلى الكوفة ، وكان الرجل منهم يذكر القضية فيخرج فيحكَّم ، وكان علي يقول : إنا لا نمنعهم الفئ ولا نحول بينهم وبين دخول مساجد الله ، ولانهيجهم ما لم يسفكوا دماً وما لم ينالوا محرماً ) .
3 . قال الطبري ( 4 / 46 ) : ( ولما قدم عليٌّ الكوفة وفارقته الخوارج ، وثَبَتْ إليه الشيعة فقالوا : في أعناقنا بيعة ثانية ، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، فقالت
--------------------------- 115 ---------------------------
الخوارج : إستبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان ! بايع أهل الشأم معاوية على ما أحبوا وكرهوا ، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى ! فقال لهم زياد بن النضر : والله ما بسط عليٌّ يده فبايعناه قط ، إلا على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ونحن كذلك ، وهو على الحق والهدى ، ومن خالفه ضال مضل ) .
أقول : تعبير وثبت اليه شيعته أي خاصة أصحابه ، يدل على أنهم شريحة من أهل الكوفة ، بادروا وبايعوه على معاداة أعدائه .
4 . وفي الخرائج ( 1 / 229 ) : ( وكانوا إذ ذاك اثني عشرألفاً ، فقال : فخرج إليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في إزار ورداء راكباً البغلة فقيل له : القوم شاكون في السلاح ، أتخرج إليهم كذلك ؟ قال : إنه ليس بيوم قتالهم ! وصار إليهم بحروراء وقال لهم : ليس اليوم أوان قتالكم ، وستفترقون حتى تصيرون أربعة آلاف فتخرجون عليَّ في مثل هذا اليوم في هذا الشهر ، فأخرج إليكم بأصحابي فأقاتلكم حتى لا يبقى منكم إلا دون عشرة ، ويقتل من أصحابي يومئذ دون عشرة ، هكذا أخبرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . فلم يبرح من مكانه حتى تبرأ بعضهم من بعض وتفرقوا إلى أن صاروا أربعة آلاف بالنهروان ) .
5 . وقال البلاذري ( 2 / 371 ) : ( قال لهم علي ( يوم المعركة ) : يا قوم إنه قد غلب عليكم اللجاج والمراء واتبعتم أهواءكم فطمح بكم تزيين الشيطان لكم ، وأنا أنذركم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الغائط ، وأثناء هذا النهر . ثم بسط لهم علي الأمان ودعاهم إلى الطاعة ، فقال فروة بن نوفل الأشجعي : والله ما ندري على ما نقاتل علياً ؟ فانصرف في خمس مائة فارس حتى نزل البند نيجين والدسكرة ، وخرجت طائفة منهم أخرى متفرقين إلى الكوفة ، وأتى مسعر بن فدكي التميمي راية أبي أيوب الأنصاري في ألف ، واعتزل عبد الله بن الحوساء ويقال ابن أبي الحوساء الطائي في ثلاث مأة ، وخرج إلى علي منهم ثلاث مأة فأقاموا
--------------------------- 116 ---------------------------
معه ، وكانوا أربعة آلاف فارس ومعهم خلق من الرجالة . واعتزل حوثرة بن وداع في ثلاث مأة ، واعتزل أبو مريم السعدي في مأتين ، واعتزل غيرهم ، حتى صار مع ابن وهب الراسبي ألف وثمان مائة فارس ، ورجالة يقال : إنهم ألف وخمس مائة ) .

  • *

من رسائل الإمام ( ( ع ) ) واحتجاجه على الخوارج

من رسائل الإمام ( ( ع ) ) واحتجاجه على الخوارج
1 . افترق الخوارج عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من صفين ، ولم يدخلوا الكوفة معه ، فكلمهم وأفحمهم فدخلوا الكوفة ، لكنهم استمروا في رفع شعار : لا حكم إلا لله ! ثم خرجوا من الكوفة إلى حروراء ، ثم ذهبوا وعسكروا قرب المدائن ، فأرسل إليهم رسائل ومبعوثين . ثم أعد الإمام ( عليه السلام ) جيشه للعودة إلى حرب معاوية بصفين ، ولما وصل إلى الأنبار شكى له الناس بأن شر الخوارج قد تفاقم وقتلوا الصحابي عبد الله بن خباب ونساء وأطفالاً . . فراسلهم وأرسل إليهم مبعوثين فركبوا رؤوسهم ، فطلب منه المسلمون أن يقاتلهم ويطفئ شرهم قبل أن يذهب إلى حرب معاوية ، فتوجه من الأنبار إلى النهروان ، وأرسل إليهم الرسل ، ولما اقترب من معسكرهم كلمهم مباشرة وناظرهم فرجع قسم منهم ، وبقي أربعة آلاف مصرين على قتاله ، وروي أنهم ألفان وثمان مئة ، لكن الصحيح أنهم كانوا أربعة آلاف أو يزيدون ، فقد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم وهم أربعة آلاف أو يزيدون ) .
2 . قال ابن الأعثم ( 4 / 251 ) : ( تحركت طائفة من خاصة أصحابه في أربعة آلاف فارس ، وهم من النساك العباد أصحاب البرانس ، فخرجوا عن الكوفة وتحزبوا وخالفوا علياً وقالوا : لاحكم إلا لله ولاطاعة لمن عصى الله . قال : وانحاز إليهم نيف عن ثمانية آلاف رجل ممن يرى رأيهم . قال : فصار القوم في اثني عشر ألفاً ، وساروا حتى نزلوا بحروراء وأمروا عليهم عبد الله بن الكواء . قال : فدعا علي بعبد الله بن عباس فأرسله إليهم .
فخرج إليه رجل منهم يقال له عتاب بن الأعور الثعلبي حتى وقف قبالته ، وكأن القرآن إنما كان ممثلاً بين عينيه ، حتى إذا فرغ من كلامه أقبل عليه ابن عباس فقال : خبرني عن محمد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء هل أحكم
--------------------------- 117 ---------------------------
عمارتها وبين حدودها ، وأوقف الأمة على سبلها وعملها وشرائع أحكامها ومعالم دينها ؟
قال الخارجي : نعم قد فعل محمد ذلك . قال ابن عباس : فخبرني الآن عن محمد هل بقي فيها أو رحل عنها ؟ قال الخارجي : بل رحل عنها . قال ابن عباس : فخبرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بينة الحدود أم رحل عنها وهي خربة لا عمران فيها ؟ قال الخارجي : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة بينة الحدود قائمة المنار . قال ابن عباس : صدقت ، فخبرني هل كان لمحمد ( ( عليهما السلام ) ) أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا ؟
قال الخارجي : بلى ، قد كان له صحابة وأهل بيت ووصي وذرية يقومون بعمارة هذه الدار من بعده . قال ابن عباس : ففعلوا أم لم يفعلوا ؟
قال الخارجي : بلى ، قد فعلوا وعمروا هذه الدار من بعده .
قال ابن عباس : فخبرني الآن عن هذه الدار من بعده هل هي اليوم على ما تركها محمد من كمال عمارتها وقوام حدودها أم هي خربة عاطلة الحدود ؟ قال الخارجي : بل هي عاطلة الحدود خربة . قال ابن عباس : أفذريته وليت هذه الخراب أم أمته ؟ قال : بل أمته . قال ابن عباس : أفأنت من الأمة أو من الذرية ؟ قال : أنا من الأمة . قال ابن عباس : يا عتاب ! فخبرني الآن عنك كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمة قد أخربت دار الله ودار رسوله وعطلت حدودها ؟ فقال الخارجي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ويحك يا بن عباس ! احتلت والله حتى أوقعتني في أمر عظيم وألزمتني الحجة حتى جعلتني ممن أخرب دار الله ، ولكن ويحك يا بن عباس ! فكيف الحيلة في التخلص مما أنا فيه ؟ قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من دار الإسلام . قال : فدلني على السعي في ذلك !
قال ابن عباس : إن أول ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه . قال : صدقت يا ابن عباس ! والله
--------------------------- 118 ---------------------------
ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحب عمارة دار الإسلام غير ابن عمك علي بن أبي طالب لولا أنه حكَّمَ عبد الله بن قيس في حق هو له !
ثم ذكر ابن الأعثم أن عتاباً قبلَ من ابن عباس ، لكن أكثرهم لم يقبلوا ، ومن حقهم ذلك لأنه حجة ابن عباس مجملة مبهمة ، أقرب إلى الجدل والتذاكي !
( فصاحت الخوارج وقالوا : هيهات يا بن عباس ! نحن لا نتولى علياً بعد هذا اليوم أبداً ، فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتج عليه ونسمع كلامه ويسمع من كلامنا ، فلعلنا إن سمعنا منه شيئاً يعلق . . قال : فخرج عبد الله بن عباس إلى علي فخبره بذلك . قال : فركب علي إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتى وافاهم بحروراء فلما بلغ ذلك الخوارج ، ركب عبد الله بن الكواء في مائة رجل من أصحابه حتى واقفه .
فقال له علي : يا بن الكواء ! إن الكلام كثير ، أبرز إلي من أصحابك حتى أكلمك . قال ابن الكواء : وأنا آمن من سيفك ؟ قال علي : نعم وأنت آمن من سيفي . قال : فخرج ابن الكواء في عشرة من أصحابه ودنوا من علي رضي الله عنه ، قال : وذهب ابن الكواء ليتكلم فصاح به رجل من أصحاب علي وقال : أسكت حتى يتكلم من هو أحق بالكلام منك !
قال : فسكت ابن الكواء وتكلم علي بن أبي طالب ، فذكر الحرب الذي كان بينه وبين معاوية ، وذكر اليوم الذي رفعت فيه المصاحف ، وكيف اتفقوا على الحكمين . ثم قال له علي : ويحك يا بن الكواء ! ألم أقل لكم في ذلك اليوم الذي رفعت فيه المصاحف كيف أهل الشام يريدون أن يخدعوكم بها ؟ ألم أقل لكم بأنهم قد عضهم السلاح وكاعوا عن الحرب ، فذروني أناجزهم فأبيتم علي وقلتم : إن القوم قد دعونا إلى كتاب الله عز وجل فأجبهم إلى ذلك ، وإلا لم نقاتل معك ، وإلا دفعناك إليهم ، فلما أجبتكم إلى ذلك وأردت أن أبعث ابن عمي عبد الله بن عباس ليكون لي حكماً ، فإنه رجل لا يبتغي بشئ من عرض هذه الدنيا ولا يطمع أحد من الناس في خديعته ، فأبى علي منكم من أبى وجئتموني بأبي موسى الأشعري وقلتم : قد رضينا بهذا ، فأجبتكم إليه وأنا كاره ،
--------------------------- 119 ---------------------------
ولو أصبت أعوانا غيركم في ذلك الوقت لما أجبتكم ، ثم إني اشترطت على الحكمين بحضرتكم أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته أو السنة الجامعة ، فإن هما لم يفعلا ذلك فلا طاعة لهما علي ، أكان ذلك أم لم يكن ؟
فقال ابن الكواء : صدقت قد كان هذا بعينه ، فلم لا ترجع إلى حرب القوم إذ قد علمت أن الحكمين لم يحكما بالحق ، وأن أحدهما خدع صاحبه ؟
فقال علي : إنه ليس إلى حرب القوم سبيل إلى انقضاء المدة التي ضربت بيني وبينهم . قال ابن الكواء : فأنت مجمع على ذلك ؟ قال : وهل يسعني إلى ذلك ، أنظر يا بن الكواء أني أصبت أعواناً وأقعد عن حقي ؟
قال : فعندها بطن ( خضع ) ابن الكواء فرسه وصار إلى علي مع العشرة الذين كانوا معه ، ورجعوا عن رأي الخوارج ، وانصرفوا مع علي إلى الكوفة ، وتفرق الباقون وهم يقولون : لا حكم إلا لله ولا طاعة لمن عصى الله ) .
3 . روى ابن الأعثم ( 4 / 262 ) والبلاذري ( 2 / 362 ) : كتب إليهم : « أما بعد فإني أذكركم أن تكونوا من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً ، بعد أن أخذ الله ميثاقكم على الجماعة ، وألف بين قلوبكم على الطاعة ، وأن تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات .
فكتب إليه ابن وهب الراسبي : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، إن الله بعث محمداً بالحق وتكفل له بالنصر كما بلغ رسالاته ، ثم توفاه إلى رحمته وقام بالأمر بعده أبو بكر بما قد شهدته وعاينته متمسكاً بدين الله مؤثراً لرضاه حتى أتاه أمر ربه ، فاستخلف عمر ، فكان من سيرته ما أنت عالم به ، لم تأخذه في الله لومة لائم . وكان من أمر عثمان ما كان حتى سار إليه قوم قتلوه لما آثرالهوى وغير حكم الله ، ثم استخلفك الله على عباده فبايعك المؤمنون وكنت لذلك عندهم أهلاً ، لقرابتك بالرسول وقدمك في الإسلام . ووردت صفين غير مداهن ولا وانٍ ، مبتذلاً نفسك في مرضاة ربك ، فلما حميت الحرب وذهب الصالحون عمار بن ياسر وأبو الهيثم بن التيهان وأشباههم ، اشتمل عليك من لا فقه له في الدين
--------------------------- 120 ---------------------------
ولا رغبة له في الجهاد ، مثل الأشعث بن قيس وأصحابه ، واستنزلوك حتى ركنت إلى الدنيا حين رفعت لك المصاحف مكيدة ، فتسارع إليهم الذين استنزلوك وكانت منا في ذلك هفوة ، ثم تداركنا الله منه برحمته ، فحكمت في كتاب الله وفي نفسك ، فكنت في شك من دينك وضلال عدوك وبغيه عليك ! كلا والله يا ابن أبي طالب ، ولكنكم ظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً ، وقلت : لي قرابة من الرسول وسابقة في الدين فلايعدل الناس بي معاوية ، فالآن فتب إلى الله وأقر بذنبك فإن تفعل نكن يدك على عدوك ، وإن أبيت ذلك فالله يحكم بيننا وبينك ) !
4 . قال ابن الأعثم ( 4 / 262 ) : ( كتاب علي إلى الخوارج : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وابن عبده أمير المؤمنين وأجيرالمسلمين ، أخي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، وابن عمه ، إلى عبد الله بن وهب وحرقوص بن زهيرالمارقيْن من دين الإسلام ! أما بعد ، فقد بلغني خروجكما واجتماعكما هنالك بغير حق كان لكما ولأبويكما من قبلكما ، وجمعكما لهذه الجموع الذين لم يتفقهوا في الدين ، ولم يعطوا في الله اليقين . .
وتقدم ذكر ذلك ، إلى أن قال ابن الأعثم : ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى عبد الله بن أبي عقب وأرسله . قال : فأقبل عبد الله بن أبي عقب إلى الخوارج بالكتاب ، حتى إذا صار إلى النهروان تقدم إلى عبد الله بن وهب الراسبي وهو جالس على شاطئ النهروان محتب بحمائل سيفه ، وحرقوص بن زهير إلى جانبه ورؤساء الخوارج جلوس حولهم . قال : فسلم عبد الله بن أبي عقب ودفع الكتاب إلى عبد الله بن وهب ، فأخذه وفضه وقرأه عن آخره ، ثم ألقاه إلى حرقوص فقرأه ، ثم رفع رأسه إلى ابن أبي عقب فقال له : لولا أنك رسول لألقيت منك أكثرك شعراً فمن أنت ؟ قال : رجل من الموالي ( فارسي ) قال : من أي الموالي أنت ؟ قال : من موالي بني هاشم . قال : إني أظنك من هذا الرجل بسبب ، يعني علي بن أبي طالب ، فقال : أنا رجل من أصحابه ، قال : أفحلال أنت أم لا ؟ قال : لا بل حرام دمي في كتاب الله عز وجل ، فقال : ما أراك تعرف كتاب الله ، قال : بلى ، إني لأعرف منه الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والسفري والحضري ! قال : وتعرف الله حق معرفته ؟ فقال : نعم ، إني لأعرفه ولا أنكره ، أؤمن به ولا أكفره . قال : وبما ذا عرفته ؟
--------------------------- 121 ---------------------------
قال : برسوله وكتابه المنزل ، قال : صدقت . فأصدقني ما تكون من علي بن أبي طالب ، قال : أنا أخوه في الإسلام .
قال عبد الله بن وهب : أوَ مسلم أنت ؟ قال : أنا مسلم والحمد لله . قال : وما الإسلام ؟ قال له ابن أبي عقب : إن الإسلام عشرة أسهم ، خاب من لاسهم له فيها ، شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة ، والصلاة وهي الفطرة ، والزكاة وهي الطهر ، والصوم وهو الجنة ، والحج وهو الشريعة ، والجهاد وهو الغزو ، والأمر بالمعروف وهو الوفاق ، والنهي عن المنكر وهو الحجة ، والطاعة وهي العصمة ، والجماعة وهي الألفة .
قال : صدقت ، فخبرني ما الإيمان ، فقال : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون ، والرضاء بما جاء من عند الله من سخط أو رضى ، والجنة حق ، والنار حق ، وأن الله يبعث من في القبور . . ثم أورد أسئلة الراسبي له عن القرآن والفرائض ، ثم قال :
فقال حرقوص : أيها الرجل ! فإني سائلك عن غير ما سألك صاحبي ، قال : سل عما بدا لك ! قال : من تتولى من أصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ؟
قال : أتولى أولياء الله المؤمنين . . إلى أن قال : فما تقول في صاحبك علي وما تقول في عثمان وطلحة والزبير ومعاوية والحكمين عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس ؟ إلى أن قال : وأما معاوية والحكمان فمعاوية رضي برجل وعلي صاحبي برجل ، فخدع أحدهما صاحبه ، والخلافة لا تثبت لأحد بالمكر والخديعة ، ونحن على رأس أمرنا إلى انقضاء المدة .
فقال حرقوص : أيها الرجل ! إنك قد أوجبت على نفسك القتل ، قال : ولم ذاك ؟ فقال : لأنك توليت قوماً كفروا بعد إيمانهم وأحدثوا الأحداث ، فقال له ابن أبي عقب : أيها الرجل ! إنك لم تبلغ في العلم ما يجب عليك أن تفتش عن علم الإمام ، ولكني أسألك عن مسائل يسأل صبياننا بعضهم بعضا عنها في المكتب ، قال : سل عما بدا لك !
--------------------------- 122 ---------------------------
فقال ابن أبي عقب : خبرني أيها الرجل عن المتحابين ما هما ؟ وعن المتباغضين ما هما ؟ وعن المستبقين والجديدين والدائبين وعن الطارف والتالد وعن الطم والرم وعن نسبة الله عز وجل ما هي ؟ قال حرقوص : ما رأيت أحداً يسأل عن مثل هذا ، ولكن خبرني عنها وأنت آمن !
فقال له ابن أبي عقب : أما المتحابان فالمال والولد ، وأما المتباغضان فالموت والحياة ، وأما المستبقان فالنور والظلمة ، وأما الجديدان فالليل والنهار ، وأما الدائبان فالشمس والقمر ، وأما الطارف والتالد فالمال المستحدث والمال القديم ، وأما الطم والرم فالطم البحر والرم الثرى ، وأما نسبة الله عز وجل فإن قريشاً سألت النبي ( ( عليهما السلام ) ) فقالوا : يا محمد ! صف لنا ربك ، فنزلت سورة الإخلاص وهي : قُلْ هُوَاللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . قال : فتعجب القوم من كلام ابن أبي عقب وعلمه ، ثم أجاب عبد الله بن وهب إلى علي بن أبي طالب جواباً : ورد علي كتابك مع رسولك ، فقرأته وفهمت ما فيه ، وأما قولك تأمرني أن ألزم الحق يوم لا يقضى بالحق ، فقد صدقت وأنا لازم الحق جهدي وطاقتي ، وأما قولك لا أزيغ فيزيغ من معي ، فأنت معدن الزيغ وأهله ، وقد قال الله تعالى : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، وأما قولك إن السعيد من سعدت به رعيته والشقي من شقيت به رعيته ، فقد صدقت وما أعلم سعيداً سعدت به رعيته بعد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غير أبي بكر ومن بعده عمر ، ولا أعلم شقياً شقيت به رعيته بعد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) غيرك وغير عثمان بن عفان ، والقول كما قلت كثير والتفسير يسير ، فمن شاء هذر ونثر ، ومن شاء قال بقدر . وأما قولك أن ادفع إلينا قاتل عبد الله بن خباب فكلنا قتله ! وأما ذكرك المسير إلينا لقتالنا ، فإذا شئت فاقدم ، فإنا عازمون على حربك ، والسلام . قال : ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى ابن أبي عقب ، فأخذه وأقبل إلى علي كرم الله وجهه ، فخبره بالذي دار بينه وبين القوم .
--------------------------- 123 ---------------------------

أمر الإمام ( ( ع ) ) بالمسير من الأنبار إلى النهروان

أمر الإمام ( ( ع ) ) بالمسير من الأنبار إلى النهروان
قال : وعندها نادى علي في أصحابه وأمرهم بالمسير إلى النهروان ، فرحل ورحل الناس معه في السلاح والآلة الكاملة والعدة القوية ، حتى إذا صار قريباً من النهروان نظر فإذا برجل من أصحابه قد عدل عن الطريق وجلس على ترسه ، فعلم علي أنه قد شك في قتال أهل النهروان ، فعدل إليه وقام الرجل فجلس علي في موضعه ، فإذا برجل قد أقبل من ناحية نهروان يركض على فرس له ، فصاح به علي : إلي ! فجاء إليه فقال له علي : ما وراءك ؟ فقال : إن القوم لما علموا أنك تقاربت منهم عبروا النهروان هاربين ، فقال له علي : أنت رأيتهم حين عبروا ؟ قال : نعم ، قال علي : كلا والذي بعث محمداً بالحق نبياً لا يعبرون ولايبلغون إلى قصر بوران بنت كسرى ، حتى يقتل الله مقاتلهم على يدي ، فلا يبقى منهم إلا أقل من عشرة ، ولا يقتل من أصحابي إلا أقل من عشرة ، ذلك عهد معهود وقضاء مقضي .
قال : ثم نهض علي فركب حتى وافى القوم ، وإذا هم قد مدوا الرماح في وجه علي وأصحابه وهم يقولون : لاحكم إلا لله . فقال : لا أنتظر فيكم إلاحكم الله . قال : ثم عبأ علي أصحابه ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين .
ثم دعا بعبد الله بن عباس فقال له : تقدم إلى هؤلاء واحتج عليهم وانظر ماذا يقولون ! قال : فقال له ابن عباس : يا أمير المؤمنين أفألقي عني حلتي هذه وألبس درعي ؟ فإني أخاف القوم على نفسي ، فقال له علي : إني لا أخافهم عليك ، فتقدم فها أنا ذا من وراءك . قال : فتقدم عبد الله بن عباس حتى واجه القوم ، ثم قال : أيها الناس ! ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين ؟ فقالوا له : يا بن عباس ! إن الذي نقمناه عليك في وقتنا هذا أشد مما نقمناه على علي ، وذلك أنك قد جئتنا في حلة يمانية ونحن نريد حربك وحرب ابن عمك . فقال ابن عباس : أما هذه الحلة فقد رأيت خيراً منها على من هو خير مني وهو أبو القاسم ( ( عليهما السلام ) ) . وأما الحرب فقد دنت منا ومنكم ولا شك في ذلك ، فهاتوا ما الذي نقمتم على علي ! قالوا :
--------------------------- 124 ---------------------------
نقمنا عليه أشياء ، لو كان حاضراً لكفرناه بهن .
فالتفت ابن عباس إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ! إنك قد سمعت الكلام فأنت أحق بالجواب . قال : فتقدم علي حتى إذا واجه القوم فسلم عليهم ، فردوا عليه السلام ، ثم قال : أيها الناس ! أنا علي بن أبي طالب فتكلموا بما نقمتم به علي ! فقالوا : إن أول ما نقمنا به عليك أنا قاتلنا يوم البصرة بين يديك ، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما كان في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية ، وكنت تستحل ما كان في العسكر ولا تستحل النساء والذرية !
قال : فقال لهم علي : يا هؤلاء ! إن أهل البصرة قاتلونا وبدأوا بقتالنا ، فلما أظفرني الله بهم قسمت بينكم سلب من قاتلكم ، ومنعتكم النساء والذرية ، لأن النساء لم يقاتلن ، والذرية ولدوا على فطرة الإسلام ، فمنعتكم الذرية والنساء لأجل ذلك ، وقد رأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) منَّ على أهل مكة يوم فتحها فلم يسب نساءهم ولا ذريتهم ، وإذا كان النبي منَّ على المشركين فلا تعجبوا مني إذا مننت على المسلمين ، فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم !
قالوا : فإنا نقمنا عليك غير هذا ، نقمنا عليك يوم صفين في وقت الكتاب الذي كتبته بينك وبين معاوية أنك قلت لكاتبك : أكتب : هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فأبى معاوية أن يقبل أنك أمير المؤمنين ، فمحوت اسمك من الخلافة وقلت لكاتبك : اكتب : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فإن لم تكن أمير المؤمنين فأنت أميرالكافرين ونحن مؤمنون ، ولا يجب أن تكون أميراً علينا ! فقال علي : يا هؤلاء ! إنكم قد تكلمتم فاسمعوا الجواب ! أنا كنت كاتب النبي ( ( عليهما السلام ) ) يوم الحديبية فقال لي النبي ( ( عليهما السلام ) ) : أكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وأهل مكة ، فقال أبو سفيان : إني لو علمت يا محمد أنك رسول الله لما قاتلتك ، ولكن أكتب صحيفتك باسمك واسم أبيك ، فأمرني النبي ( ( عليهما السلام ) ) فمحوت الرسالة من الكتاب وكتبت : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأهل مكة . وإنما محوت اسمي من الخلافة كما محى النبي اسمه من الرسالة فكانت لي به أسوة .
--------------------------- 125 ---------------------------
قالوا : فإنا نقمنا عليك غيرهذا ، إنك قلت للحكمين : أنظرا في كتاب الله ، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة ، وإن كان معاوية أفضل مني فأثبتاه في الخلافة ، فإن كنت شاكاً في نفسك أن معاوية أفضل منك فنحن فيك أعظم شكاً ! فقال لهم علي : إنما أردت بذلك النصفة لمعاوية ، لأني لو قلت للحكمين : أحكما لي وذرا معاوية ، كان معاوية لا يرضى بذلك وإنما كان النبي ( ( عليهما السلام ) ) لو قال للنصارى لما قدموا عليه من نجران : تعالوا حتى نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم ، كانوا لا يرضون بذلك ، ولكنه أنصفهم فقال : تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ، فأنصفهم من نفسه ، وكذلك أنصفت أنا معاوية ، ولم أعلم لما أراد عمرو بن العاص من خديعة صاحبي .
قالوا : فإنا نقمنا عليك غيرهذا ، إنك حكمت حكماً في حق هولك ، فقال : إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قد حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل ، فحكم فيهم سعد بقتل النساء والرجال وسبي الذرية والأموال ، وإنما أقمت حكماً كما أقام النبي ( ( عليهما السلام ) ) لنفسه حكماً . فهل عندكم شئ غير هذا تحتجون به عليَّ ؟
قال : فسكت القوم وجعل بعضهم يقول لبعض : صدق فيما قال ولقد دحض جميع ما احتججنا عليه ، ثم صاح القوم من كل ناحية وقالوا : التوبة ، التوبة يا أمير المؤمنين ! فاستأمن إليه منهم ثمانية آلاف ، وبقي على حربه أربعة آلاف ، وأقبل علي رضي الله عنه إلى هؤلاء المستأمنين إليه فقال : اعتزلوا عني في وقتكم هذا ، وذروني والقوم .
قال : فاعتزل القوم وتقدم علي بن أبي طالب من أصحابه حتى دنا منهم ، وتقدم عبد الله بن وهب حتى وقف بين الجمعين ، وجعل يقول : الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ . ألا ! إن الذين عدلوا بربهم علي بن أبي طالب وأصحابه ، الذين حكموا في دين الله عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس ، والله تعالى يقول : إِتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ .
--------------------------- 126 ---------------------------
وقال تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ . وقال : أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ .
قال : فصاح به رجل من أصحاب علي يكنى بأبي حنظلة فقال له : يا عدو الله ! ما أنت والخطابة في مثل هذا الموضع ، وأنت والله ما فهمت في دين الله ساعة قط ، وما زلت جلفاً جافياً مذ كنت ! ثكلتك أمك ، يا بن وهب ! أتدري ويلك لمن تتكلم ولمن تتنازع ؟ أما علمت أنه أمير المؤمنين أخو رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وابن عمه ووصيه وصفيه وزوج ابنته وأبوسبطيه ؟ !
فقال له علي : ذره يا أباحنظلة ! فإن الذي هو فيه من العمى والضلالة أعظم من كلامه إياي لو علم .
قال : فصاح ذو الثدية حرقوص وقال : والله يا ابن أبي طالب ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة . فقال علي : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . أَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . منهم أهل النهروان ورب الكعبة ) !
ملاحظة :
أوردنا هذا الحديث الطويل الذي رواه ابن الأعثم ، لأن فيه خصائص توجب الثقة به ، وقد رواه ابن شهرآشوب ( 2 / 368 ) بنحوه ، عن كتاب ( خطيبهم عتاب بن الأعور الثعلبي ) ويظهر أن عبد الله بن أبي عقب ، هو ابن أبي عقبة الشاعر الذي روى عنه والد الصدوق في الإمامة والتبصرة / 122 ، والصدوق في كمال الدين / 304 ، وابن كثير في الفتن والملاحم ( 1 / 203 ) فهو شيعي فارسي ، لكنهم لم يذكروه في كتب الرجال . ويظهر من الحديث أن قادة الخوارج عوام ، قد غلبهم شخص مثل ابن عقبة قليل الثقافة بذكائه وتفننه في الكلام .
وروى ابن المغازلي / 73 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما اقترب من معسكرهم كلف ابن عباس أن يكلمهم : ( فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين قد سمعتَ ما قال القوم ، وأنت أولى بالجواب مني ! فقال علي ( عليه السلام ) : لا تَرتابَنَّ ظَفِرتَ بهم والذي فلَق الحبة وبرأ النسمة ، وناداهم : ألستم تَرضَون بما أُنبؤكم به من كتاب الله لا تجهلون به وسنة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لاتنكرونه ؟ قالوا : اللهم بلى . قال : أبدأ بما بدأتم به . . وذكر نحو ما
--------------------------- 127 ---------------------------
تقدم ، إلى أن قال : وأما قولكم إني كنت وصياً فَضَيَّعْتُ الوصية فإن الله تعالى قال في كتابه : وللهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ استَطاعَ إلَيه سَبيلاً . ولو ترك الحجّ من استطاعَ إليه سبيلاً كَفر . ولم يكن البيتُ ليَكْفُرَ ولو تركه الناس لا يأتونه ، ولكن كان يَكْفُرُ من كان يستطيع إليه السبيل فلا يأتيه ، وكذلك أنا : إن أكن وصيّاً فإنّكم كفرتم بي ، لا أنا كفرت بكم بما تركتموني . قالوا : صدقت هذه بحجتنا هذه !
فرجع إليه من الخوارج أكثر من أربعة آلاف ، وثبت على قتاله أربعة آلاف ، وأقبلوا يُحَكِّمُون ! فقال عليّ : حُكمَ الله أنتظر فيكم يا هؤلاء ؟ أيكم قتل عبد الله بن خَباب بن الأرت وزوجته وابنته يَظهَر لي أقتُلْهُ بهم وأنصرف ، عهداً إلى مدة حُكم الله أنتظر فيكم . فنادَوا كُلنا قتل ابن خبّاب وزوجته وابنته وشرك في دمائهم ! فناداهم أمير المؤمنين : أظهروا لي كتائب وشافهوني بذلك ، فإني أكره أن يُقِرَّ به بعضُكم في الضوضاء ولا يُقِرَّ بعض ولا أعرف ذلك في الضوضاء وأستحِل قَتل من لم يُقِرَّ بِقَتلِ من أقرَّ ، لكم الأمان حتى ترجعوا إلى مراكزكم كما كنتم ، ففعلوا وجعلوا كلما جاء كتيبة سألهم عن ذلك ، فإذا أقرُّوا عزلهم ذات اليمين حتى أتى على آخرهم ، ثم قال : إرجعوا إلى مراكزكم ، فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات : رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم ؟ فنادوا كلُّهم : نعم !
فالتفت إلى الناس فقال : الله أكبر ! الله أكبر ! والله لوأقر بقتلهم أهل الدنيا وأقدرعلى قتلهم لقتلتُهم ، شُدُّوا عليهم ، فأنا أول من شد عليهم ، وعَزَل بسيف رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ثلاث مرات كل ذلك يُسَوِّيه على ركبتيه من اعوجاجه ، ثم شد الناس معه ، فقتلوهم فلم يَنجُ منهم تمام عشرة ) .
وروى اليعقوبي ( 2 / 192 ) بعضه ، والطبرسي ( الإحتجاج : 1 / 276 ) وفيه : ( ولقد قال الله جل ذكره : وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً . فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إياه ، ولكن كانوا يكفرون بتركهم لأن الله تعالى قد نصبه لهم علماً ، وكذلك نصبني علماً حيث قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأنت مني بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي . فأذعنوا
--------------------------- 128 ---------------------------
فرجع بعضهم وبقي منهم أربعة آلاف لم يرجعوا ) .
وتؤيد هذه الرواية رواية الطبري ( 4 / 54 ) : ( فبعث إليهم عبد الله بن عباس فرجع ولم يصنع شيئاً ، فخرج إليهم عليٌّ فكلمهم حتى وضع الرضا بينه وبينهم ، فدخلوا الكوفة فأتاه رجل فقال : إن الناس قد تحدثوا أنك رجعت لهم عن كفرك فخطب الناس في صلاة الظهرفذكرأمرهم فعابه فوثبوا من نواحي المسجد يقولون لا حكم إلا لله . واستقبله رجل منهم واضع إصبعه في أذنيه فقال : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فقال عليٌّ : فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) .
وفي نهج البلاغة : ( 3 / 136 ) أوصى ( عليه السلام ) ابن عباس لما بعثه إليهم : ( لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنة ، فإنهم لن يجدوا
عنها محيصاً ) .
أقول : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعلم ابن عباس كيف يتكلم معهم ويحتج عليهم ، وقد أجاد ابن عباس أحياناً ، وكان كلامه ضعيفاً أحياناً ، وأحياناً نهاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن مناظرتهم ، وأمره أن ينتظر حتى يحضر الإمام ( عليه السلام ) بنفسه .
5 . ومن كلام له ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 235 ) للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم : ( أكلكم شهد معنا صفين ؟ فقالوا : منا من شهد ومنا من لم يشهد . قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفين فرقة ، ومن لم يشهدها فرقة حتى أكلم كلا بكلامه . ونادى الناس فقال : أمسكوا عن الكلام وانصتوا لقولي وأقبلوا بأفئدتكم إليَّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها . ثم كلمهم ( عليه السلام ) بكلام طويل ، منه : ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ، ومكراً وخديعة : إخواننا وأهل دعوتنا ، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه ، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم . فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، وأوله رحمة وآخره ندامة . فأقيموا على شأنكم ، والزموا طريقتكم ، وعضوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق : إن أجيب أضل ، وإن ترك ذل . وقد كانت هذه الفعلة ، وقد رأيتكم أعطيتموها ، والله لئن أبيتها ما
--------------------------- 129 ---------------------------
وجبت علي فريضتها ولاحملني الله ذنبها . ووالله إن جئتها إني للمحق الذي يتبع ، وإن الكتاب لمعي ، ما فارقته مذ صحبته ، فلقد كنا مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيماناً ، ومضياً على الحق ، وتسليماً للأمر ، وصبراً على مضض الجراح .
ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل . فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها ، وأمسكنا عما سواها ) .
وفي بعض النسخ : ثم قطع كلامه ( عليه السلام ) .

  • *

شعارهم : كلمة حق يراد بها باطل !

شعارهم : كلمة حق يراد بها باطل !
في دعائم الإسلام ( 1 / 393 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال : لاحكم إلا الله ، فسكت عليٌّ ( عليه السلام ) ثم قام آخر وآخر ، فلما أكثروا عليه قال : كلمة حق يراد بها باطل ، لكم عندنا ثلاث خصال : لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها ، ولا نمنعكم الفئ ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به .
وأشهد لقد أخبرني النبي الصادق ( ( عليهما السلام ) ) عن الروح الأمين ( عليه السلام ) عن رب العالمين عز وجل أنه لا يخرج علينا منكم فرقة قَلَّتْ أو كثرت إلى يوم القيامة ، إلا جعل الله حتفها على أيدينا ، وإن أفضل الجهاد جهادكم ، وأفضل الشهداء من قتلتموه ، وأفضل المجاهدين من قتلكم ، فاعملوا ما أنتم عاملون فيوم القيامة يخسر المبطلون و : لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 91 ) : ( لما سمع قولهم : لا حكم إلا لله : حق يراد به باطل ، نعم إنه لاحكم إلا لله ، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله ، وإنه لا بد للناس من أمير برأو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل ، ويجمع به الفئ ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف
--------------------------- 130 ---------------------------
من القوي ، حتى يستريح به بَرٌّ ، ويُستراح من فاجر ) .

سب بسب أو عفو عن ذنب !

سب بسب أو عفو عن ذنب !
وفي نهج البلاغة ( 4 / 98 ) ( كان ( عليه السلام ) جالساً في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ، فقال ( عليه السلام ) : إن أبصارهذه الفحول طوامح ، وإن ذلك سبب هبابها ، فإذا نظرأحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله ، فإنما هي امرأة كامرأة ! فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافراً ما أفقهه ! فوثب القوم ليقتلوه فقال ( عليه السلام ) : رويداً ، إنما هو سب بسب ، أو عفو عن ذنب ) .

بعداً لهم كما بعدت ثمود !

بعداً لهم كما بعدت ثمود !
ومن كلام له ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 102 ) وقد أرسل رجلاً من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه ( عليه السلام ) ، فلما عاد إليه الرجل قال له : أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا ؟ فقال الرجل : بل ظعنوا يا أمير المؤمنين . فقال ( عليه السلام ) : بُعداً لهم كما بعدت ثمود . ، أما لو أُشرعت الأسنة إليهم وصُبَّت السيوف على هاماتهم ، لقد ندموا على ما كان منهم ! إن الشيطان اليوم قد استفلَّهم وهو غداً متبرئ منهم ومتخل عنهم . فحسبهم بخروجهم من الهدى ، وارتكاسهم في الضلال والعمى ، وصدهم عن الحق ، وجماحهم في التيه ) .
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 106 ) في كلام كلم به الخوارج : ( أصابكم حاصب ولا بقي منكم آبر ( مخبر ) أبعد إيماني بالله وجهادي مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أشهد على نفسي بالكفر ! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين . فأوبوا شر مآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب . أما إنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة .
وقال ( عليه السلام ) لما عزم على حرب الخوارج وقيل له إنهم قد عبروا جسر النهروان : مصارعهم دون النطفة . والله لا يفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منكم عشرة . يعني بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيراً جماً .
ولما قُتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم فقال ( عليه السلام ) : كلا والله ، إنهم
--------------------------- 131 ---------------------------
نُطف في أصلاب الرجال ، وقرارات النساء ، كلما نجم منهم قرن قطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين ) !
ومن كلام له ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 114 ) : ( قاله للبرج بن مسهر الطائي ، وقد قال له بحيث يسمعه لا حكم إلا لله وكان من الخوارج : أسكت قبحك الله يا أثرم ، فوالله لقد ظهرالحق فكنت فيه ضئيلاً شخصك ، خفياً صوتك حتى إذا نعر الباطل نَجَمْتَ نُجُومَ قرن الماعز ) !

من بغضهم لعلي ( ( ع ) ) نسبوا له شرب الخمر !

من بغضهم لعلي ( ( ع ) ) نسبوا له شرب الخمر !
قال الحاكم النيسابوري ( 2 / 307 ) : ( عن علي رضي الله عنه قال : دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر ، فحضرت صلاة المغرب ، فتقدم رجل فقرأ : قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فنزلت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ . هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وفي هذا الحديث فائدة كبيرة هي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره ، وقد برأه الله منها ، فإنه راوي الحديث ) .
أقول : ورد أن الرجل الذي قرأ خطأ هو عمر ، فنسبوا ذلك إلى علي ( عليه السلام )

نهى الإمام ( ( ع ) ) عن قتالهم إذا خرجوا على سلطان جائر :

نهى الإمام ( ( ع ) ) عن قتالهم إذا خرجوا على سلطان جائر :
في نهج البلاغة ( 1 / 107 ) : ( فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم . قال ( عليه السلام ) : كلا والله إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء ! كلَّما نَجَمَ منهم قرنٌ قُطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين ) !
وقال ( عليه السلام ) : لاتقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه . يعني معاوية وأصحابه ) .
وفي تهذيب الأحكام ( 6 / 144 ) قال الصادق ( عليه السلام ) : ( لما فرغ أمير المؤمنين ( عليه السلام )
من أهل النهروان قال : لا يقاتلهم بعدي إلا من هم أولى بالحق منه ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ذكرت الحرورية عند علي ( عليه السلام ) فقال : إن خرجوا
--------------------------- 132 ---------------------------
على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم ، فإن لهم في ذلك مقالاً ) .
وفي علل الشرائع / 218 : ( خرج على معاوية بالكوفة جويرية بن ذراع أو ابن وداع أو غيره من الخوارج ، فقال معاوية للحسن ( عليه السلام ) : أخرج إليهم وقاتلهم فقال : يأبى الله لي بذلك قال : فلمَ أليس هم أعداؤك وأعدائي ؟ قال : نعم يا معاوية ولكن ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فوجده ! فأسكت معاوية ) .
وقال البلاذري ( 2 / 46 ) : ( فقال : تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمة وألفتهم ، أفتراني أقاتل معك ؟ ! ) . وفي الروائع المختارة / 107 : ( لوآثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك ) .

منافق خارجي زعم أنه يحب الإمام ( ( ع ) )

منافق خارجي زعم أنه يحب الإمام ( ( ع ) )
في بصائر الدرجات / 411 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( بينا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوماً جالس في المسجد وأصحابه حوله ، فأتاه رجل من شيعته فقال : يا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إن الله يعلم أني أدينه بحبك في السر كما أدينه بحبك في العلانية ، وأتولاك في السر كما أتولاك في العلانية . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : صدقت ، أمَّا فاتخذ للفقر جلباباً ، فإن الفقر أسرع إلى شيعتنا من السيل إلى قرار الوادي . قال : فولى الرجل وهو يبكى فرحاً لقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صدقت . وكان رجل من الخوارج يحدث صاحباً له قريباً من أمير المؤمنين فقال أحدهما لصاحبه : تالله إن رأيت كاليوم قط ! إنه أتاه رجل فقال له إني لأحبك فقال له : صدقت ، فقال له الآخر : ما أنكرتَ من ذلك ، لم يجد بداً من أنه إذا قيل له إني لأحبك أن يقول له صدقت . قال : تعلم أني لاأحبه قال : فأنا أقوم فأقول له مثل مقالة الرجل ، فيرد عليَّ مثل مارد عليه . قال : نعم ، فقام الرجل فقال له مثل مقالة الأول ، فنظر إليه ملياً ثم قال له : كذبت لا والله ما تحبني ولا أحبك ! قال : فبكى الخارجي ، فقال : يا أمير المؤمنين لتستقبلني بهذا وقد علم الله خلافه ، أبسط يدك أبايعك . قال عليٌّ : على ماذا ؟ والله لكأني بك قد قتلت على ضلال ووطأت وجهك دواب العراق ، فلا تغرنك قوتك . قال : فلم يلبث أن خرج عليه أهل النهروان وخرج
--------------------------- 133 ---------------------------
الرجل معهم فقتل ) !
ورواه الطبري ( 4 / 56 ) بلفظ : ( أتى علياً أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، فشرط لهم سنة رسول ( ( عليهما السلام ) ) فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي وكان شهد معه الجمل وصفين ومعه راية خثعم فقال له : بايع على كتاب الله وسنة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . فقال ربيعة : على سنة أبي بكر وعمر ! قال له عليٌّ : ويلك لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله ( ( عليهما السلام ) )
لم يكونا على شئ من الحق . فبايعه فنظر إليه عليٌّ وقال : أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت ، وكأني بك وقد وطأتك الخيل بحوافرها .
فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة ) .

معجزة لأمير المؤمنين ( ( ع ) ) : خارجي يصير كلباً !

معجزة لأمير المؤمنين ( ( ع ) ) : خارجي يصير كلباً !
قال الشريف الرضي في خصائص الأئمة ( عليهم السلام ) / 46 : ( روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان جالساً في المسجد إذ دخل عليه رجلان فاختصما إليه ، وكان أحدهما من الخوارج ، فتوجه الحكم إلى الخارجي فحكم عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال له الخارجي : والله ما حكمت بالسوية ولا عدلت في القضية ، وما قضيتك عند الله تعالى بمرضية ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأومأ إليه : إخسأ عدو الله فاستحال كلباً أسود ، فقال من حضره : فوالله لقد رأينا ثيابه تطاير عنه في الهواء ، وجعل يبصبص لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ودمعت عيناه في وجهه ، ورأينا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد رق فلحظ السماء ، وحرك شفتيه بكلام ، لم نسمعه ، فوالله لقد رأيناه وقد عاد إلى حال الإنسانية ، وتراجعت ثيابه من الهواء ، حتى سقطت على كتفيه ، فرأيناه وقد خرج من المسجد وإن رجليه لتضطربان . فبهتنا ننظر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ! فقال لنا : ما لكم تنظرون وتعجبون ؟ فقلنا يا أمير المؤمنين : كيف لا نتعجب وقد صنعت ما صنعت ! فقال : أما تعلمون أن آصف بن برخيا وصي سليمان بن داود ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قد صنع ما هو قريب من هذا الأمر فقص الله جل اسمه قصته حيث يقول : قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلا أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَاتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ
--------------------------- 134 ---------------------------
قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ .
فأيما أكرم على الله نبيكم أم سليمان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقالوا : بل نبينا ( عليه السلام ) أكرم يا أمير المؤمنين ، قال : فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان ، وإنما كان عند وصي سليمان من اسم الله الأعظم حرف واحد ، فسأل الله جل اسمه فخسف له الأرض ما بينه وبين سرير بلقيس فتناوله في أقل من طرف العين ، وعندنا من اسم الله الأعظم اثنان وسبعون حرفاً ، وحرف عند الله تعالى استأثر به دون خلقه ! فقالوا له يا أمير المؤمنين : فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الأنصار في قتال معاوية وغيره ، واستنفارك الناس إلى حربه ثانية ؟
فقال : بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . إنما أدعو هؤلاء القوم إلى قتاله لثبوت الحجة وكمال المحنة ، ولو أذن لي في إهلاكه لما تأخر ، لكن الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء ! قالوا فنهضنا من حوله ونحن نعظم ما أتى به ) !

أكثر الخوارج كانوا من أهل البصرة

أكثر الخوارج كانوا من أهل البصرة
وهذا يدل على تأثير حرقوص بن زهير ومسعر بن فدكي ودعاتهما فيهم ! فقد وصفوا الخوارج كلهم بأنهم أهل البصرة : ( حكيم بن سعد قال : ما هو إلا أن لقينا أهل البصرة فما لبثناهم فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا ) . ( الطبري : 4 / 64 ) .

قصة الصحابي جندب الأزدي

قصة الصحابي جندب الأزدي
قال الشريف الرضي في خصائص الأئمة ( عليهم السلام ) / 60 : ( ومن أعلامه ( عليه السلام ) عند قتال الخوارج بالنهروان وبإسناد مرفوع إلى جندب بن عبد الله البجلي ، قال : دخلني يوم النهروان شك فاعتزلت ، وذلك أني رأيت القوم أصحاب البرانس ، وراياتهم المصاحف حتى هممت أن أتحول إليهم . فبينا أنا مقيم متحير إذ أقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حتى جلس إلي ، فبينا نحن كذلك إذ جاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين : ما يقعدك وقد عبر القوم ؟ قال : أنت رأيتهم ؟ قال : نعم . قال : والله ما عبروا ولا يعبرون أبداً ! فقلت
--------------------------- 135 ---------------------------
في نفسي : الله أكبر كفى بالمرء شاهداً على نفسه ، والله لئن كانوا عبروا لأقاتلنه قتالاً لا آلو فيه جهداً ، ولئن لم يعبروا لأقاتلن أهل النهروان قتالاً يعلم الله به أني غضبت له ! ثم لم ألبث أن جاء فارس آخر يركض ويلمع بسوطه ، فلما انتهى إليه قال : يا أمير المؤمنين ، ما جئت حتى عبروا كلهم ، وهذه نواصي خيلهم قد أقبلت . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : صدق الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) وكذبت .
ما عبروا ولن يعبروا ، ثم نادى في الخيل فركبوا وركب أصحابه وسار نحوهم ، وسرت ويدي على قائم سيفي ، وأنا أقول : أول ما أرى فارساً قد طلع منهم أعلو علياً بالسيف للذي دخلني من الغيظ عليه . فلما انتهى إلى النهر إذا القوم كلهم وراء النهر لم يعبر منهم أحد ، فالتفت إليَّ ثم وضع يده على صدري ، ثم قال : يا جندب أشككت ، كيف رأيت ؟ قلت يا أمير المؤمنين : أعوذ بالله من الشك وأعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله وسخط أمير المؤمنين ! قال : يا جندب ، ما أعمل إلابعلم الله ، وعلم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ! فأصابت جندباً يومئذ اثنتا عشرة ضربة مما ضربه الخوارج ) .
ورواه القطب الراوندي في الخرائج ( 2 / 755 ) وفيه : ( فانتهيت إلى عسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل في قراءة القرآن ، وفيهم أصحاب البرانس ، وذووا الثفنات ، فلما رأيت ذلك دخلني شك ، فتنحيت ونزلت عن فرسي وركزت رمحي ووضعت ترسي ونثرت عليه درعي ، وقمت أصلي وأنا أقول في دعائي : اللهم إن كان قتال هؤلاء القوم رضاً لك ، فأرني من ذلك ما أعرف به أنه الحق ، وإن كان لك سخطاً فاصرفه عني ، إذ أقبل علي ( عليه السلام ) فنزل عن بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقام يصلي ، إذ جاء رجل وقال : قطعوا النهر . ثم جاء آخر تشتد به دابته وقال : قطعوه وذهبوا . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ما قطعوه ولا يقطعونه ، وليقتلن دونه ، عهد من الله ورسوله . وقال : يا جندب ترى التل ؟ قلت : نعم . قال : فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حدثني أنهم يقتلون عنده ! ثم قال : أما إنا نبعث إليهم رسولاً يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه فيرشقون وجهه بالنبل وهومقتول !
--------------------------- 136 ---------------------------
قال : فانتهينا إليهم فإذا هم في معسكرهم لم يبرحوا ولم يرتحلوا . فنادى في الناس فضمهم ، ثم أتى الصف وهو يقول : من يأخذ هذا المصحف فيمشي إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ، وهو مقتول وله الجنة . فما أجابه أحد إلا شاب من عامر بن صعصعة ، فلما رأى حداثة سنه قال : إرجع إلى موقفك .
ثم أعاد القول فما أجابه أحد إلا ذلك الشاب ، فقال : خذه أما إنك مقتول . فمشى به حتى إذا دنا من القوم حيث يسمعهم ناداهم فرموا وجهه بالنبل فأقبل علينا ووجهه كالقنفذ . فقال علي ( عليه السلام ) : دونكم القوم ، فحملنا عليهم قال جندب : ذهب الشك عني وقتلت بكفي ثمانية ) .
ورواه المفيد في الإرشاد ( 1 / 317 ) وفيه : ( فدخلني شك وقلت : قراؤنا وخيارنا نقتلهم ! إن هذا لأمر عظيم ! فركزت رمحي ووضعت ترسي إليه واستترت من الشمس ، فإني لجالس حتى ورد في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . . فقلت في نفسي : الحمد لله الذي بصرني هذا الرجل وعرفني أمره ، هذا أحد رجلين : إما رجل كذاب جرئ أو على بينة من ربه وعهد من نبيه ، اللهم إني أعطيك عهداً تسألني عنه يوم القيامة ، إن أنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أول من يقاتله وأول من يطعن بالرمح في عينه ، وإن كانوا لم يعبروا أن أقيم على المناجزة والقتال . فدفعنا إلى الصفوف فوجدنا الرايات والأثقال كما هي ، قال : فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال : يا أخا الأزد أتبين لك الأمر ؟ قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، قال : فشأنك بعدوك ، فقتلت رجلاً ثم قتلت آخر ، ثم اختلفت أنا ورجل آخر أضربه ويضربني فوقعنا جميعاً ، فاحتملني أصحابي فأفقت حين أفقت وقد فرغ القوم . وهذا حديث مشهور شائع بين نقلة الآثار ، وقد أخبر به الرجل عن نفسه في عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبعده فلم يدفعه عنه دافع ولا أنكر صدقه فيه منكر ، وفيه إخبار بالغيب ، وإبانة عن علم الضمير ومعرفة ما في النفوس ، والآية باهرة فيه لا يعادلها إلا ما ساواها في معناها من عظيم المعجز وجليل البرهان ) .
--------------------------- 137 ---------------------------

ملاحظة

ملاحظة
يدل ذلك على أن جندباً كان فارساً مميزاً ، فشك في قتال الخوارج لأنهم معلموا القرآن وأهل عبادة ، فانفرد عن جيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قبيل الحرب ، فعرف ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بإلهام الله تعالى ، وجاء اليه منفرداً عن جيشه ، ليريه معجزة ويزيل عن قلبه الشك ، فأراه آية أنهم لم يعبروا ولن يعبروا حتى يقتلوا !
وقد ذكرعلماء الجرح والتعديل أن اسم جندب الأزدي مشترك بين ثلاثة وأكثر لكن لا يبعد أن يكون جندب هذا هو قاتل الساحر اليهودي في زمن عثمان ، وهو صحابي ممدوح ، رووا عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أنه مدحه وزيد بن صوحان قبل أن يراهما !
قال ( الإستيعاب : 2 / 556 ) : ( زيد وما زيد ! جندب وما جندب ! فسئل عن ذلك فقال : رجلان من أمتي ، أما أحدهما فتسبقه يده ، أو قال : بعض جسده إلى الجنة ، ثم يتبعه سائر جسده . وأما الآخر فيضرب ضربة يفرّق بها بين الحق والباطل . قال أبو عمر : أصيبت يد زيد يوم جلولاء ، ثم قتل يوم الجمل مع علي ابن أبي طالب . وجندب قاتل الساحر ) .
وهذا مقام عظيم لهما رضي الله عنهما ، وتقدم ذكر زيد في حرب الجمل ، أما ضربة جندب فكانت في زمن عثمان لما ولَّى أخاه من الرضاعة الوليد بن عقبة الأموي على العراق ، ويسمى الوليد الفاسق ، لأنه نزل فيه قول تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ . وقد جاء الوليد بساحر هندي وكان يقيم له العروض في الكوفة ! ولعل غرضه أن يصدق الناس بقدرة السحرة ثم يقول لهم إن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) ساحر !
ولهذا كانت ضربة جندب رضي الله عنه فاصلة ، بين حق النبوة وباطل السحر .
قال السيوطي في الخصائص ( 2 / 140 ) : ( فلما ولي الوليد بن عقبة الكوفة في زمن عثمان أجلس رجلاً يَسْحَر ، يُريهم أنه يُحيى ويميت ، فأتى جندب بسيف فضرب به عنق الساحر ، وقال : أحي نفسك الآن ) !
وقال في شرح النهج ( 2 / 20 ) : ( فقتله وقال له : أحي نفسك إن كنت صادقاً ،
--------------------------- 138 ---------------------------
وأن الوليد أراد أن يقتله بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه ، فحبسه وطال حبسه ، حتى هرب من السجن ) .
وذكر المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 339 ) أن الوليد أراد قتله : ( فمنعته الأزد فحبسه ، وأراد قتله غيلة ونظرالسجان إلى قيامه ليله إلى الصبح ، فقال له : أنْجُ بنفسك ، فقال له جندب : تقتل بي ، قال : ليس ذلك بكثير في مرضاة الله والدفع عن ولي من أولياء الله ، فلما أصبح الوليد دعا به وقد استعدَّ لقتله فلم يجده ، فسأل السجان ، فأخبره بهربه فضرب عنق السجان ، وصلبه بالْكناسة ) ! وبقي جندب مخلصاً لأمير المؤمنين وللحسن ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
هذا ، وقد أوردنا العديد من كلمات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الخوارج في محالها .

  • *
    --------------------------- 139 ---------------------------

الفصل الحادي والتسعون: معركة النهروان مع الخوارج

نهاه المنجم عن السفر فخالفه الإمام ( ( ع ) )

1 . لما عزم على المسير إلى الخوارج قال له ( نهج البلاغة : 1 / 129 ) بعض أصحابه : ( يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لاتظفر بمرادك ، من طريق علم النجوم . فقال ( عليه السلام ) : أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء ، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر ! فمن صدق بهذا فقد كذب القرآن ، واستغنى عن الإعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه . وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه ، لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر !
ثم أقبل ( عليه السلام ) على الناس فقال : أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر ، فإنها تدعو إلى الكهانة والمنجم كالكاهن والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر والكافر في النار . سيروا على اسم الله ) .
2 . وفي فرج المهموم / 58 : ( عن قيس بن سعد ، قال : كنت أساير أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً إذا سار إلى وجه من الوجوه ، فلما قصد أهل النهروان وصرنا بالمدائن وكنت يومئذ مسايراً له ، إذ خرج إلينا قوم من أهل المدائن من دهاقينهم ، معهم براذين قد جاءوا بها هدية إليه فقبلها ، وكان فيمن تلقاه دهقان من دهاقين المدائن يدعى سرسفيل ، وكانت الفرس تحكم برأيه فيما مضى ، وترجع إلى قوله فيما سلف ، فلما بصر بأمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : يا أمير المؤمنين ، تناحست النجوم الطوالع ، فنحس أصحاب السعود وسعد أصحاب النحوس ، ولزم الحكيم في مثل هذا اليوم الاختفاء والجلوس ، وإن يومك هذا
--------------------------- 140 ---------------------------
يوم مميت ، قد اقترن فيه كوكبان قتالان ، وشرف فيه بهرام في برج الميزان ، واتقدت من برجك النيران ، وليس لك الحرب بمكان . فتبسم أمير المؤمنين صلوات الله عليه ثم قال : أيها الدهقان ، المنبئ بالأخبار ، والمحذر من الأقدار ، أتدري ما نزل البارحة في آخر الميزان ، وأي نجم حل في السرطان ؟ قال : سأنظر ذلك . وأخرج من كمه أسطرلاباً وتقويماً ، فقال له أمير المؤمنين صلوات الله عليه : أنت مسيِّر الجاريات ؟ قال : لا . قال : أفتقضي على الثابتات ؟ قال : لا . قال : فأخبرني عن طول الأسد وتباعده عن المطالع والمراجع ؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع ؟ قال : لاعلم لي بذلك . قال : فما بين السواري إلى الدراري ، وما بين الساعات إلى الفجرات ، وكم قدر شعاع المدرات ، وكم تحصيل الفجر في الغدوات ؟ قال : لا علم لي بذلك .
قال : هل علمت يا دهقان أن الملك اليوم انتقل من بيت إلى بيت في الصين ، وانقلب برج ماجين ، واحترقت دور بالزنج ، وطفح جب سرنديب ، وتهدم حصن الأندلس ، وهاج نمل السيح ، وانهزم مراق الهند ، وفقد ربان اليهود بأيلة ، وجذم بطريق الروم برومية ، وعمي راهب عمورية ، وسقطت شرافات القسطنطينية ، أفعالمٌ أنت بهذه الحوادث ، وما الذي أحدثها شرقيها أوغربيها من الفلك ؟ قال : لا علم لي بذلك .
قال : فبأي الكواكب تقضي في أعلى القطب ، وبأيها تنحس من تنحس ؟ قال : لا علم لي بذلك . قال : فهل علمت أنه سعد اليوم اثنان وسبعون عالماً في كل عالم سبعون عالماً ، منهم في البر ، ومنهم في البحر ، وبعض في الجبال وبعض في الغياض ، وبعض في العمران ، فما الذي أسعدهم ؟
قال : لا علم لي بذلك . قال يا دهقان ، أظنك حكمت على اقتران المشتري وزحل لما استنارا لك في الغسق ، وظهر تلألؤ المريخ وتشريفه في السحر ، وقد سار فاتصل جرمه بنجوم تربيع القمر ، وذلك دليل على استخلاف ألف ألف من البشر ، كلهم يولدون اليوم والليلة ، ويموت مثلهم ويموت هذا فإنه منهم ، وأشار إلى جاسوس في عسكره لمعاوية ، فلما قال ذلك ظن الرجل أنه قال خذوه ، فأخذه شئ في قلبه وتكسرت نفسه في صدره فمات لوقته ! فقال ( عليه السلام ) للدهقان : ألم أرك عين التقدير في غاية التصوير ؟ قال :
--------------------------- 141 ---------------------------
بلى يا أمير المؤمنين . فقال : يا دهقان ، أنا مخبرك أني وصحبي هؤلاء لا شرقيون ولا غربيون ، إنما نحن ناشئة القطب ، وما زعمت البارحة أنه انقدح من برج الميزان فقد كان يجب أن تحكم معه لي ، لأن نوره وضياءه عندي ، فلهبه ذاهب عني . يا دهقان : هذه قضية عيص ، فاحسبها وولدها إن كنت عالماً بالأكوار والأدوار ، ولو علمت ذلك لعلمت أنك تحصي عقود القصب في هذه الأجمة . ومضى أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فهزم أهل النهروان وقتلهم فعاد بالغنيمة والظفر ، فقال الدهقان : ليس هذا العلم بأيدي أهل زماننا ، هذا علم مادته من السماء ) !

ملاحظة

ملاحظة
هذا يدل على صحة علم النجوم ، وأن الأحداث في مجتمعنا يمكن الإستدلال عليها بحركة النجوم . لكن ما في أيدي الناس والمنجمين ناقص ، وعلمه الكامل عند المعصومين صلوات الله عليهم . وهذا معنى قول الدهقان المنجم : ( ليس هذا العلم بأيدي أهل زماننا ، هذا علم مادته من السماء ) !
قال صاحب الجواهر ( 22 / 94 ) : ( وأما علم النجوم فقد يظهر من الكتاب والسنة صحته في الجملة ، نحو قوله تعالى : فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . على أحد الوجوه فيها أو أظهرها . وقوله : وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً . . فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً . . فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وغير ذلك .
وخبر أبان بن تغلب . . وخبر سعيد بن جبير . . ورواه قيس بن سعد بطريق آخر . . بل رواه الأصبغ بن نباتة بطريق ثالث ، والأمر سهل .
وخبر يونس بن عبد الرحمان ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك أخبرني عن علم النجوم ما هو : قال : هوعلم من علم الأنبياء ( عليهم السلام ) قال فقلت : كان علي بن أبي طالب يعلمه ، فقال : كان أعلم الناس به . .
إلى أن قال : وفي خبر عبد الرحمان بن سيابه : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك إن الناس يقولون أن النجوم لا يحل النظر فيها وهي تعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شئ يضر بديني ، وإن كانت لا تضر بديني فوالله
--------------------------- 142 ---------------------------
إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : ليس كما يقولون لا تضر بدينك ، ثم قال : إنكم تنظرون في شئ كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر ، ثم قال : أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة ؟ قلت : لا والله . قال : أفتدري كم بين الزهرة وبين القمر من دقيقة ؟ قلت : لا والله . قال : أفتدري كم بين الشمس وبين السكينة من دقيقة ؟ قلت : لا والله ما سمعته من أحد من المنجمين قط . قال : أفتدري كم بين السكينة وبين اللوح المحفوظ من دقيقة ، قلت : ما سمعته من منجم قط ، قال : ما بين كل واحد منهما إلى صاحبه ستين أو سبعين دقيقة ، ثم قال : يا عبد الرحمان هذا حساب إذا حسبه الرجل ووقع عليه ، عرف القصبة التي في وسط الأجمة ، وعدد ما عن يمينها ، وعدد ما عن يسارها ، وعدد ما خلفها ، وعدد ما في أمامها ، حتى لا يخفى عليه من قصب الأجمة واحدة ) !
وذكرصاحب الجواهر ( قدس سره ) أن حساب المنجمين اختلط عليهم من عهد داود ( عليه السلام ) .

قال رسول الله ؟ ص ؟ : مصارعهم دون النهر

قال رسول الله ؟ ص ؟ : مصارعهم دون النهر
في مناقب علي ( عليه السلام ) لابن المغازلي / 72 : ( خَرج عليُّ بن أبي طالب يريد الخوارج إذ أقبل رجل يركُض حتى انتهى إلى أمير المؤمنين علي فقال : يا أمير المؤمنين البُشرى ! قال : هات ما بُشراك ؟ قال : قد عَبرالقوم النهروان لما بلغهم عنك ، وقد مَنَحَكَ الله أكْتافَهم ، فقال : الله لأنت رأيْتَهُم قد عَبروا ؟ فقال : والله لأنا رأيتُهم حين عَبروا ، فحلّفه ثلاث مرّات في كلِّ ذلك يَحْلِفُ له ، فقال له أمير المؤمنين : كذَبْتَ والّذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النّسَمَة ما عبَروا النهروان ، ولن يبلغوا الأثلاث ولا قصر بُوران حتى يَقْتُلَهُم الله على يَدِي ، لاينَجُو منهم تمام عشرة ولا يُقتَلُ مِنا عشرة : عهداً معهوداً وقدراً مَقْدوراً وقضاء مقْضِياً ، وقد خابَ مَن افْتَرى . ثم أقبَل أيضاً آخَر حتى جاءه ثلاثة كلهم يقولون مقالة الأول ويقول لهم مثل ذلك ، ثم ركب فأجال في ظهر بَغلَته ونهض الشابُّ وأجال في ظَهر فرسه وهو يقول في نفسه : والله لأنطَلِقنَّ مع علي فإن كان القوم قد عَبروا لأكونن من أشدِّ الناس على علي ، فلما انتهى إلى النهروان أصابوا القوم قد كَسروا جُفونَ سُيوفهم ، وعَرقَبُوا دوابهم وجَثَوا على رُكَبِهم وحَكموا بحكم رجل واحد ،
--------------------------- 143 ---------------------------
واستقبلوا علياً بصدور الرماح فقال علي ( عليه السلام ) : حُكَم الله أنتظر فيكم . فنزل إليه الشابُّ فقال : يا أمير المؤمنين إنِّي قد كنت شككتُ في قتال القوم فاغفر ذلك لي ، فقال علي : بل يغفر الله الذُّنوب فاستَغْفِرْه .
ثمّ نادى علي ( عليه السلام ) قَنْبَرفقال : ياقَنْبَر ناد القوم ما نَقَمْتُم على أمير المؤمنين ؟
ألم يَعدِل في قِسمتكم ، ويُقسِطْ في حكمكم ، ويرحم مسترحمكم ؟ لم يتخذ مالكم دُوَلاً ، ولم يأخذ منكم إلاّ السّهمين اللذين جعلهما الله : سهماً في الخاصة وسهماً في العامة . فقالت الخوارج : يا قنبر إن مولاك رجل جَدِل ورجل خَصِم وقد قال الله تعالى : بَل هُم قَومٌ خَصِمُونَ ، وهو منهم وقد ردنا بكلامه الحُلْو في غير مَوْطن ، وجعلوا يقولون : والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ) .

حَوَّلَ الإمام ( ( ع ) ) طريقه من صفين إلى النهروان

حَوَّلَ الإمام ( ( ع ) ) طريقه من صفين إلى النهروان
روى الطبري ( 4 / 57 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تحرك بجيشه إلى النخيلة ثم إلى الأنبار ، قاصداً صفين لمواصلة حرب معاوية . وخطب بالنخيلة فقال : ( أما بعد فإنه من ترك الجهاد في الله وادهن في أمره كان على شفا هلكة ، إلا أن يتداركه الله بنعمة ، فاتقوا الله وقاتلوا من حاد الله وحاول أن يطفئ نور الله . قاتلوا الخاطئين الضالين ، القاسطين المجرمين ، الذين ليسوا بقراء للقرآن ، ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام . والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل . تيسروا وتهيؤوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب .
فلم يزل بالنخيلة حتى وافاه هذان الجيشان من البصرة ثلاثة آلاف ومائتا رجل ، فجمع إليه رؤوس أهل الكوفة ورؤوس الأسباع ورؤوس القبائل ووجوه الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أهل الكوفة ، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق ، وصحابتي على جهاد عدوي المحلين ، بكم أضرب المدبر وأرجو تمام طاعة المقبل ، وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم فلم يأتني منهم إلا ثلاثة آلاف ومائتا رجل ، فأعينوني بمناصحة جلية خلية من الغش . .
--------------------------- 144 ---------------------------
فنهض خاصة أصحابه : فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل وسبعة عشرألفاً من الأبناء ممن أدرك ، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم ، وقالوا : يا أمير المؤمنين أما من عندنا من المقاتلة وأبناء المقاتلة ممن قد بلغ الحلم وأطاق القتال فقد رفعنا إليك منهم ذوي القوة والجلد وأمرناهم بالشخوص معنا . وكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفاً وثلاثة آلاف ومائتي رجل من أهل البصرة ، وكان جميع من معه ثمانية وستين ألفاً ومائتي رجل ) .
قال الطبري ( 4 / 60 ) : ( فبلغ ذلك علياً ومن معه من المسلمين من قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس ، فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم ويكتب به إليه على وجهه ولا يكتمه ، فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسائلهم فخرج القوم إليه فقتلوه !
وأتى الخبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والناس ، فقام إليه الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين علامَ تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا ، سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم ، سرنا إلى عدونا من أهل الشام . فإن هؤلاء أحضر عداوة وأنكى حداً ) .

وتجمع الخوارج في النهروان

وتجمع الخوارج في النهروان
قال الطبري ( 4 / 56 ) : ( أما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمس مائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي ، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم بالجسرالأكبر ، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه ، وأقبل يعترض الناس وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني ، وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر ) .
وكلامه هذا عن الخوارج الذين جاؤوا من البصرة يومها ، وإلا فأكثر الخوارج من أهل البصرة ، ورئيسهم العام حرقوص بن زهير بصري .
ثم قال الطبري : ( فنادى ( الإمام ) بالرحيل وخرج فعبر الجسر ، فصلى ركعتين بالقنطرة ، ثم نزل دير عبد الرحمن ، ثم دير أبي موسى ، ثم أخذ على قرية شاهي ، ثم على دباها ، ثم على شاطئ الفرات )
--------------------------- 145 ---------------------------
( لما أراد عليٌّ المسير إلى أهل النهر من الأنبار قدم قيس بن سعد وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره . . وبعث إلى أهل النهر : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم . ثم أنا تارككم وكافٌّ عنكم حتى ألقى أهل الشأم ، فلعل الله يقلب قلوبكم ويردكم إلى خيرمما أنتم عليه من أمركم ، فبعثوا إليه فقالوا : كلنا قتلتهم ، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم ) !

أتم الحجة عليهم قبل المعركة

أتم الحجة عليهم قبل المعركة
قال الطبري ( 4 / 62 ) أن الإمام ( عليه السلام ) أرسل إليهم أباأيوب الأنصاري : ( فقال : عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة ، فعلامَ تقاتلوننا ؟ فقالوا : إنا لو بايعناكم اليوم حكَّمتم غداً ! قال : فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في قابل ) .
قال الصدوق في التوحيد / 225 : ( لما وقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على الخوارج ووعظهم وذكرهم ، وحذرهم القتال قال لهم : ما تنقمون مني ؟ ألا إني أول من آمن بالله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) ! فقالوا : أنت كذلك ، ولكنك حكَّمت في دين الله أبا موسى الأشعري ، فقال ( عليه السلام ) : والله ما حكمت مخلوقاً ، وإنما حكمت القرآن ، ولولا أني غلبت على أمري وخولفت في رأيي لما رضيت أن تضع الحرب أوزارها بيني وبين أهل حرب الله ، حتى أعلي كلمة الله وأنصر دين الله ولو كره الكافرون والجاهلون ) .
أقول : يظهر أن كلامه ( عليه السلام ) هذا كان في المرة الأولى ويبدو أنه ( عليه السلام ) ذهب إليهم أكثر من مرة ، قال الطبري ( 4 / 62 ) : ( عن زيد بن وهب أن علياً أتى أهل النهر فوقف عليهم فقال : أيتها العصابة ، التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدها عن الحق الهوى ، وطمح بها النزق ، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم : إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غداً صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان بين ! ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم ، ونبأتكم أن القوم
--------------------------- 146 ---------------------------
ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأني أعرف بهم منكم ، عرفتهم أطفالاً ورجالاً فهم أهل المكر والغدر ، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم ، فعصيتموني !
حتى إذا أقررت بأن حكَّمت فلما فعلت شرطت واستوثقت فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة فنبذنا أمرهما ، ونحن على أمرنا الأول . فما الذي بكم ومن أين أتيتم ؟ قالوا : إنا حكَّمنا فلما حكمنا أثمنا ، وكنا بذلك كافرين ! وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك ، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء إن الله لا يحب الخائنين !
فقال عليٌّ : أصابكم حاصب ولا بقي منكم آبر أبعد إيماني برسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله ، أشهد على نفسي بالكفر ! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . ثم انصرف عنهم .
وروى الطبري ( 4 / 63 ) : آخر كلام للإمام ( عليه السلام ) معهم ، فقال : حدثني أبو سلمة الزهري أن علياً قال لأهل النهر . . وأنتم والله معاشرأخفاء الهام سفهاء الأحلام ، فلم آت لا أباً لكم حراماً ! فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج من جماعتنا إن اختار الناس رجلين ، أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم ، وتسفكون دماءهم ! إن هذا لهو الخسران المبين ، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها ، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام !
فتنادوا : لاتخاطبوهم ولا تكلموهم ، وتهيؤوا للقاء الرب : الرواح الرواح إلى الجنة ! فخرج عليٌّ فعبأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي ، وعلى ميسرته شبث بن ربعي ، أو معقل بن قيس الرياحي ، وعلى الخيل أباأيوب الأنصاري ، وعلى الرجالة أباقتادة الأنصاري ، وعلى أهل المدينة وهم سبع مائة أو ثمان مائة رجل قيس ابن سعد بن عبادة .
قال وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي ، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي ) .
--------------------------- 147 ---------------------------

نصب لهم راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري

نصب لهم راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري
( ورفع عليٌّ راية أمان مع أبي أيوب ، فناداهم أبو أيوب : من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن . ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن . إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم ، في سفك دمائكم . فقال فروة بن نوفل الأشجعي : والله ما أدري على أي شئ نقاتل علياً ! لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه وانصرف في خمس مائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة ، وخرجت طائفة أخرى متفرقين ، فنزلت الكوفة وخرج إلى علي منهم نحو من مائة ، وكانوا أربعة آلاف فكان الذين بقوا مع عبد الله ابن وهب منهم ألفين وثمان مائة . وزحفوا إلى علي وقدم على الخيل دون الرجال وصف الناس وراء الخيل صفين ، وصف المرامية أمام الصف الأول ، وقال لأصحابه كفوا عنهم حتى يبدؤوكم فإنهم لو قد شدوا عليكم وجلهم رجال لم ينتهوا إليكم إلا لاغبين ، وأنتم رادون حامون ! وأقبلت الخوارج ثم تنادوا الرواح الرواح إلى الجنة فشدوا على الناس والخيل أمام الرجال فلم تثبت خيل المسلمين لشدتهم وافترقت الخيل فرقتين فرقة نحو الميمنة وأخرى نحو الميسرة وأقبلوا نحو الرجال فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فوالله ما لبثوهم أن أناموهم ثم إن حمزة بن سنان صاحب خيلهم لما رأى الهلاك نادى أصحابه أن أنزلوا فذهبوا لينزلوا فلم يتقاروا حتى حمل عليهم الأسود ابن قيس المرادي وجاءتهم الخيل من نحو علي فأهمدوا في الساعة ) .
كانت المعركة ساعات فقط
قال ابن الأعثم ( 4 / 263 ) : ( قال : فصاح ذو الثدية حرقوص وقال : والله يا بن أبي طالب ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة . قال : فقال علي : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً أَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
--------------------------- 148 ---------------------------
صُنْعاً ؟ ! منهم أهل النهروان ورب الكعبة !
قال : ثم دعا علي برجل من أصحابه يقال له رويبة بن وبر البجلي فدفع إليه اللواء وأمره بالتقدم إلى القوم ، قال : فتقدم إلى القوم وهو يقول :
لقد عقد الإمام لنا لواء * وقدمنا أمام المؤمنينا
بأيدينا مثقفة طوالٌ * وبيض المرهفات إذا حلينا
نكر على الأعادي كل يوم * ونشهد حربهم متواريينا
ونضرب في العجاج رؤوس قوم * تراهم جاحدين وعابدينا
قال : فحمل فجعل يقاتل حتى استشهد .
وتقدم من بعده عبد الله بن حماد الحميري فقاتل فاستشهد .
وتقدم من بعده رفاعة بن وائل الأرحبي فقاتل واستشهد .
ثم تقدم من بعده كيسوم بن سلمة الجهني فقاتل فقتل .
وتقدم من بعده عبد بن عبيد الخولاني فقاتل فقتل .
قال : فلم يزل يخرج رجل بعد رجل من أشد فرسان علي ، حتى قتل منهم جماعة وهم ثمانية ، وأقبل التاسع واسمه حبيب بن عاصم الأزدي فقال : يا أمير المؤمنين ! هؤلاء الذين نقاتلهم أكفارٌهم ؟ فقال علي : من الكفر هربوا وفيه وقعوا ! قال : أفمنافقون ؟ فقال علي : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قال : فما هم يا أمير المؤمنين حتى أقاتلهم على بصيرة ويقين ؟ فقال علي : هم قوم مرقوا من دين الإسلام كما مرق السهم من الرمية ، يقرؤون القرآن فلا يتجاوز تراقيهم ، فطوبى لمن قتلهم أو قتلوه ! قال : فعندها تقدم حبيب بن عاصم هذا نحو الشراة ، وهو التاسع من أصحاب علي فقاتل وقتل ، واشتبك الحرب من الفريقين ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ولم يقتل من أصحاب علي إلا أولئك التسعة .
قال : وتقدم رجل من الشراة يقال له الأخنس العيزار الطائي حتى وقف بين الجمعين ، وكان من أشد فرسان الخوارج ، وكان ممن شهد يوم صفين وقاتل فيه ، فلما كان ذلك اليوم تقدم حتى وقف بين الجمعين وأنشأ يقول :
--------------------------- 149 ---------------------------
ألا ليتني في يوم صفين لم أؤبْ * وغودرت في القتلى بصفين ثاويا
وقطعت آراباً أوِ ألْقيتُ جىفة * وأصبحت ميتاً لا أجيب المناديا
ولم أر قتلى سنبس ولَقتلهم * أشاب غداة البين مني النواصيا
ثمانون من أحيا جديلة قتلوا * على النهر كانوا يخضبون العواليا
ينادون لا لا حكم إلا لربنا * حنانيك فاغفر حُوبنا والمساويا
هم فارقوا من جار في الله حكمه * وكل عن الرحمن أصبح راضيا
فلا وإله الناس ما هابَ معشر * على النهر في الله الحتوف القواضيا
شهدت لهم عند الإله بفلحهم * إذا صالح الأقوام خافوا المخازيا
وآلوا إلى التقوى ولم يتبعوا الهوى * فلا يبعدن الله من كان شاريا
قال : ثم حمل على أصحاب علي كرم الله وجهه حملة فشق الصفوف ، وقصده علي ، فالتقيا بضربتين فضربه علي فألحقه بأصحابه .
وحمل ذو الثدية على علي ليضربه بسيفه ، وسبقه علي فضربه على بيضته فهتكها ، وحمل به فرسه وهو كما به من الضربة ، حتى رمى به في آخر معركة على شط النهروان في جرف دالية خربة . قال : وخرج من بعده ابن عم له يقال له مالك بن الوضاح ، حتى وقف بين الجمعين وهو يقول :
إني لبائع ما يفنى بباقية * ولا أريد لذي الهيجاء تربيصا
أخشى فجاءة قوم أن يعاجلني * ولم أرد بطوال العمر تنقيصا
فأسأل الله بيع النفس محتسباً * حتى أرافق في الفردوس حرقوصا
والزبرقان ومرداساً وإخوته * إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا
قال : ثم حمل على علي ، وحمل علي فضربه ضربة ألحقه بأصحابه .
وتقدم عبد الله بن وهب الراسبي حتى وقف بين الجمعين ثم نادى بأعلى صوته : يا ابن أبي طالب ! حتى متى تكون هذه المطاولة بيننا وبينك ! والله لا نبرح هذه العرصة أبداً أو نأتي على نفسك ، فابرز إلي حتى أبرز إليك وذر الناس جانباً . قال : فتبسم علي ثم قال : قاتله الله من رجل ما أقل حياءه ! أما إنه ليعلم أني حليف السيف وجديل الرمي ، ولكنه أيس من الحياة ، أو لعله يطمع طمعاً
--------------------------- 150 ---------------------------
كاذباً . قال وجعل عبد الله يجول بين الصفين وهو يرتجز :
أنا ابن وهب الراسبي الشاري * أضرب في القوم لأخذ الثار
حتى تزول دولة الأشرار * ويرجع الحق إلى الأخيار
ثم حمل فضربه علي ضربة ألحقه بأصحابه . قال : واختلط القوم فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم ، وقد كانوا أربعة آلاف ، فما فلت منهم إلا تسعة نفر ، فهرب منهم رجلان إلى خراسان إلى أرض سجستان وفيها نسلهما إلى الساعة ، وصار رجلان إلا بلاد اليمن فيها نسلهما إلى الساعة ، ورجلان صارا إلا بلاد الجزيرة إلى موضع يقال له سوق التوريخ ، وإلى شاطئ الفرات فهناك نسلهما إلى الساعة ، وصار رجل إلى تل يسمى تل موزن وغنم أصحاب علي في ذلك اليوم غنائم كثيرة . وأقبل علي نحو الكوفة ) .
وقال علي ( عليه السلام ) لما مر بقتلى الخوارج ( نهج البلاغة : 4 / 77 ) : ( بؤساً لكم ، لقد ضركم من غركم . فقيل له : من غرهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال : الشيطان المضل والأنفس الأمارة بالسوء ، غرتهم بالأماني وفسحت لهم بالمعاصي ، ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم النار ) .
وقال البلاذري ( 2 / 371 ) : ( وقال علي لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدؤوكم . ونادى جمرة بن سنان : روحوا إلى الجنة ، فقال ابن وهب : والله ما ندري أنروح إلى الجنة أم إلى النار ! وتنادي الحرورية : الرواح إلى الجنة معاشر المخبتين وأصحاب البرانس المصلين . فشدوا على أصحاب علي شدة واحدة ، فانفرقت خيل علي منفرقين : فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة . وأقبلوا نحو الرجالة فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل حتى كأنهم معزى تتقي المطر بقرونها ، ثم عطفت الخيل عليهم من الميمنة والميسرة ، ونهض علي إليهم من القلب بالرماح والسيوف ، فما لبثوا أن أهمدوا في ساعة ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 128 ) : ( فلا والله ما لبثوا فواقاً حتى صرعهم الله ، كأنما قيل لهم موتوا فماتوا . قال : وأخذ عليٌّ ما كان في عسكرهم من كل شئ ، فأما السلاح والدواب فقسمه علي بيننا ، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم الكوفة رده على أهلها ) .
وقال الطبري ( 4 / 65 ) : ( جاء هانئ بن خطاب الأرحبي وزياد بن خصفة يحتجان في
--------------------------- 151 ---------------------------
قتل عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهما : كيف صنعتما ؟ فقالا : يا أمير المؤمنين لما رأيناه عرفناه وابتدرناه فطعناه برمحينا . فقال علي : لاتختلفا كلاكما قاتل . وشد جيش بن ربيعة أبو المعتمر الكناني على حرقوص بن زهير فقتله ، وشد عبد الله بن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله ، وطُلب من به رمق منهم فوجدناهم أربع مائة رجل ، فأمر بهم عليٌّ فدفعوا إلى عشائرهم وقال : إحملوهم معكم فداووهم ، فإذا برؤا فوافوا بهم الكوفة . . وطلب عدي بن حاتم ابنه طرفة فوجده فدفنه ، ثم قال : الحمد لله الذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك . ودفن رجال من الناس قتلاهم فقال أمير المؤمنين حين بلغه ذلك : إرتحلوا إذاً أتقتلونهم ثم تدفنونهم فارتحل الناس ) .
أقول : نقرأ أن قائد الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي طلب مبارزة علي ( عليه السلام ) فبرز إلىه وقتله ، ثم جاءه اثنان مختلفين في قتله ، فحكم لهما بالشراكة ! وتفسيره أن من اختلفا فيه قد يكون ابن الراسبي أو أخاه ، أو يكونان كاذبين فلم يكذبهما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحكم لهما بالشراكة ليأخذا الجائزة مناصفة !
معركة النهروان برواية المسعودي
قال في مروج الذهب ( 2 / 404 ) : ( وقد كان علي انفصل عن الكوفة في خمسة وثلاثين ألفاً ، وأتاه من البصرة من قبل ابن عباس وكان عامله عليها عشرة آلاف ، فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن قدامة السعدي ، وذلك في سنة ثمان وثلاثين ، فنزل علي الأنبار . والتأمت اليه العساكر فخطب الناس وحرضهم على الجهاد وقال : سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار قُدماً ، فإنهم طالما سعوا في إطفاء نور الله ، وحرضوا على قتال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومن معه ، ألا إن رسول الله أمرني بقتال القاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم ، والناكثين وهم هؤلاء الذين فرغنا منهم ، والمارقين ولم نلقهم بعد ، فسيروا إلى القاسطين ، فهم أهم علينا من الخوارج ، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ، يتخذهم الناس أرباباً ، ويتخذون عباد الله خوَلاً ، ومالهم دولاً ، فأبوا إلا أن يبدؤوا
--------------------------- 152 ---------------------------
بالخوارج ، فسارعلي إليهم ، حتى أتى النهروان ، فبعث إليهم بالحارث بن مرة العبدي رسولاً يدعوهم إلى الرجوع فقتلوه ، وبعثوا إلى علي : إن تُبْت من حكومتك وشهدت على نفسك بالكفر بايعناك ، وإن أبيت فاعتزلنا حتى نختار لأنفسنا إماماً فإنا منك براء ، فبعث إليهم علي : أن ابعثوا إلي بقتلة اخواني فأقتلهم ثم أتارككم إلى أن أفرغ من قتال أهل المغرب ، ولعل الله يقلب قلوبكم ، فبعثوا اليه : كلنا قتلة أصحابكَ ، وكلنا مستحلٌّ لدمائهم مشتركون في قتلهم !
فلما أشرف عليهم قال : الله أكبر ، صدق الله ورسوله . فتصافَّ القوم ، ووقف عليهم بنفسه ، فدعاهم إلى الرجوع والتوبة ، فأبوا ورموا أصحابه ، فقيل له : قد رمونا . فقال : كفوا ، فكرروا القول عليه ثلاثاً وهو يأمرهم بالكف ، حتى أتيَ برجل قتيل متشحط بدمه فقال علي : الله أكبر ، الآن حل قتالهم ، احملوا على القوم ، فحمل رجل من الخوارج على أصحاب علي ، فجرح فيهم ، وجعل يغشى كل ناحية ويقول :
أضربهم ولو أرى عليا * ألبسته أبيض مشرفيا
فخرج اليه علي رضي الله عنه ، وهو يقول :
يا أيهذا المبتغي علياً * إني أراك جاهلًا شقيا
قد كنت عن كفاحه غنياً * هلم فابرز هاهنا إليا
وحمل عليه عليٌّ ، فقتله ، ثم خرج آخر ، فحمل على الناس ففتك فيهم ، وجعل يكرعليهم يقول :
أضربهم ولو أرى أباحَسَن * ألبسته بصارمِي ثوب غَبنْ
فخرج اليه علي وهو يقول :
يا أيهذا المبتغي أباحسن * إليك فانظر أينا يلقى الغبن
وحمل عليه علي وشكه بالرمح وترك الرمح فيه ، فانصرف علي وهو يقول : لقد رأيت أباحسن فرأيت ما تكره !
وحمل أبو أيوب الأنصاري على زيد بن حصن فقتله ، وقُتل عبد الله بن وهب الراسبي ، قتله هانئ بن حاطب الأزدي ، وزياد بن حفصة ، وقُتل حرقوص بن زهير السعدي ، وكان جملة من قُتل من أصحاب علي تسعة ، ولم يفلت من الخوارج إلا
--------------------------- 153 ---------------------------
عشرة ، وأتى علي على القوم وهم أربعة آلاف فيهم المخدج ذو الثدية ، إلا من ذكرنا من هؤلاء العشرة .
وأمر علي بطلب المخدج ، فطلبوه ، فلم يقدروا عليه ، فقام علي عليه أثر الحزن لفقد المخدج ، فانتهى إلى قتلى بعضهم فوق بعض فقال : أفرجوا ، ففرجوا يميناً وشمالًا واستخرجوه ، فقال علي : الله أكبر ما كذَبْتُ على محمد وإنه لناقص اليد ليس فيها عظم ، طرفها حلمة مثل ثدي المرأة ، عليها خمس شعرات أو سبع رؤسها معقفة . ثم قال : إئتوني به فنظرالى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة عليه شعرات سود ، إذا مدت اللحمة امتدت حتى تحاذي بطن يده الأخرى ، ثم تترك فتعود إلى منكبه ، فثَنَى رجله ونزل وخر لله ساجداً . ثم ركب ومر بهم وهم صَرْعى فقال : لقد صرعكم من غركم . قيل : ومن غرهم ؟ قال : الشيطان وأنفُسُ السوء !
فقال أصحابه : قد قطع الله دابرهم إلى آخر الدهر ، فقال : كلا والذي نفسي بيده ، وإنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء ، لا تخرج خارجة إلا خرجت بعدها مثلها حتى تخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل يقال له الأشمط يخرج اليه رجل منا أهل البيت فيقتله ، ولا تخرج بعدها خارجة إلى يوم القيامة . وجمع علي ما كان في عسكر الخوارج ، فقسم السلاح والدواب بين المسلمين ورد المتاع والعبيد والإماء إلى أهلهم ، ثم خطب الناس ، فقال : إن الله قد أحسن إليكم وأعز نصركم ، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين قد كلت سيوفنا ، ونفدت نبالنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، فدعنا نستعد بأحسن عدتنا ، وكان الذي كلمه بهذا الأشعث بن قيس ، فعسكر علي بالنخيلة . فجعل أصحابه يتسللون ويلحقون بأوطانهم ، فلم يبق معه الا نفر يسير ) .
أطلبوا جثة حرقوص المخدج !
في خصائص الأئمة للشريف الرضي / 61 : ( لما قَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أهل النهروان قال لأصحابه : أطلبوا إلي رجلاً مخدج اليد ، وعلى جانب يده الصحيحة ثدي كثدي المرأة إذا مد امتد ، وإذا ترك تقلص ، عليه شعرات صهب ، وهو صاحب
--------------------------- 154 ---------------------------
رايتهم يوم القيامة ، يوردهم النار وبئس الورد المورود ، فطلبوه فلم يجدوه فقالوا : لم نجده . فقال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ونصب الكعبة ، ما كذبت ولا كذبت ، وإني لعلى بينة من ربي ، قال : فلما لم يجدوه ، قام والعرق ينحدرعن جبهته ، حتى أتى وهدة من الأرض فيها نحو من ثلاثين قتيلاً ، فقال : إرفعوا إلي هؤلاء فجعلنا نرفعهم حتى رأينا الرجل الذي هذه صفته تحتهم فاستخرجناه فوضع أمير المؤمنين رجله على ثديه الذي هو كثدي المرأة ، ثم عركه بالأرض ثم أخذه بيده وأخذ بيده الأخرى يد الرجل الصحيحة ومدها حتى استويا ، ثم التفت إلى رجل جاء إليه وهو شاك فقال : وهذه لك آية . ثم قال : إن الجانب الآخر الذي ليس فيه يد ليس فيه ثدي ، فشقوا عنه جانب قميصه ، فإذا له مكان اليد شئ مثل غلظ الإبهام ، وإذا ليس في ذلك الجانب ثدي ، فقال للرجل الشاك : وهذه لك آية أخرى ) .
وفي المناقب لابن المغازلي / 79 : ( عن يزيد بن رُوَيم قال : كنت عامِلاً لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على باروسما ونَهر الملك ، فأتاه مَن أخبره أن الخوارج الذين قتلوا عبد الله بن الخَباب قد عبروا النهروان ، فقال له علي ( عليه السلام ) : لم يعبُروا ولن يَعبُروا وإن عَبَروا لم ينجُ منهم عشرة ، ولن يقتل منكم عشرة ، قال : ثم جاء القوم فبرز إليهم فقال : يا يزيد بن رُوَيم اقطع أربعة آلاف خَشَبة أو قَصبة قال : فقطع له ثم أوقفهم قال : فقاتلهم فلما فرغ من قتالهم قال لي : يا يزيد إطرح على كلِّ قتيل خَشَبه أو قَصَبة ، قال : فركب بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأُناس بين يديه ونحن على ظَهر نهر لا يَمُرُّ بقتيل إلاّ طرحتُ عليه خَشبة أو قَصبة قال : حتى بَقِيَتْ في يدي واحدة ، قال : فنظرت إليه فإذا وجهه أرْبَدُ وهو يقول : والله ما كَذبتُ ولا كُذِبْتُ . قال : فبينا أنا أمُرُّ بين يَدَيه إذا خَريرُ ماء عند موضع دالِيَة فقلت : يا أمير المؤمنين هذا خَرير ماء ، قال : فقال لي : فَتِّشْهُ ففتَّشْتُه فإذا رجل قد صارت في يدي ، فقلت : هذه رجلٌ فنزل إليَّ فأخذنا الرِّجل الأُخرى وجَرَّها وجَررتُ ، فإذا رجُل قال : فقال لي
مدَّ يده ، فمددتها فاستوت قال : ثمّ قال : خَلِّها فخلّيتُها ، فإذا هي كأنّها الثَدي في صدره ) .
--------------------------- 155 ---------------------------
أسماء الشهداء من أصحاب الإمام ( ( ع ) ) في النهروان
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 99 ) : ( قال ( عليه السلام ) في الخوارج مخاطباً لأصحابه : والله لا يقتل منكم عشرة . وفي رواية : لا ينفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منا عشرة ، فقتل من أصحابه تسعة ، وانفلت منهم تسعة : اثنان إلى سجستان ، واثنان إلى عمان ، واثنان إلى بلاد الجزيرة ، واثنان إلى اليمن ، وواحد إلى موزن ، والخوارج من هذه المواضع منهم .
وقال الأعثم : المقتولون من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : رويبة بن وبر العجلي ، وسعد بن خالد السبيعي ، وعبد الله بن حماد الأرحبي ، والفياض بن خليل الأزدي ، وكيسوم بن سلمة الجهني ، وعبيد بن عبيد الخولاني ، وجميع بن جشم الكندي ، وضب بن عاصم الأسدي ) .
لقد شهدََنا في هذا الموقف اُناسٌ لم يخلق الله آباءهم !
( عن الحكم بن عيينة قال : لما قَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الخوارج يوم النهروان
قام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين طوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف وقتلنا معك هؤلاء الخوارج ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يخلق الله آبائهم ولا أجدادهم بعد ، فقال الرجل : وكيف شهدنا قوم لم يخلقوا ؟ قال : بلى ، قوم يكونون في آخر الزمان يشركوننا فيما نحن فيه وهم يسلمون لنا ، فأولئك شركاؤنا فيما كنا فيه حقاً حقاً ) . ( المحاسن : 1 / 362 ) .
ونحوه في نهج البلاغة ( 1 / 44 ) : ( لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه : وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك . فقال له ( عليه السلام ) : أهوى أخيك معنا ؟ فقال نعم ، قال فقد شهدنا . ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان ) .
--------------------------- 156 ---------------------------
آخر الخوارج في رميلة الدسكرة
في معجم أحاديث الإمام المهدي ( عليه السلام ) ( 4 / 34 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( أول خارجة خرجت على موسى بن عمران بمرج دابق وهو بالشام ، وخرجت على المسيح بحران ، وخرجت على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالنهروان ، وتخرج على القائم بالدسكرة دسكرة الملك . ثم قال لي : كيف مالح دير بين ماكي مالح . يعني عند قريتك وهو بالنبطية ، وذاك أن يونس كان من قرية دير بين ما يقال الدسكرة إلى عند دير بين ما ) .
ونحوه ابن أبي شيبة ( 8 / 673 )
ودسكرة الملك من توابع النهروان قرب شهرابان ، وهي اليوم من محافظة بعقوبة .
قال السمعاني ( 2 / 476 ) : ( قرية كبيرة تنزلها القوافل ، نزلت بها في التوجه والانصراف وبت بها ليلتين ) . وقال الحموي ( 2 / 455 ) : ( قرية في طريق خراسان قريبة من شهرابان ، وهي دسكرة الملك ، كان هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك يكثر المقام بها فسميت بذلك ) .
وقال الحموي ( 5 / 324 ) : ( نهروان : وأكثر ما يجري على الألسنة بكسرالنون ، وهي ثلاثة نهروانات : الأعلى والأوسط والأسفل ، وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدها الأعلى متصل ببغداد وفيها عدة بلاد متوسطة ، منها : إسكاف وجرجرايا والصافية ودير قنا ، وغير ذلك ، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج مشهورة ، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب ، فمن كان من مدنها نسب إلى مدينة ومن كان من قراها الصغار نسب إلى الكورة ، وهو نهر مبتدؤه قرب تامرا أو حلوان ، فإني لا أحققه ولم أر أحداً ذكره ، وهو الآن خراب ومدنه وقراه تلال يراها الناس بها والحيطان قائمة ، وكان سبب خرابه اختلاف السلاطين وقتال بعضهم بعضاً في أيام السلجوقية ، إذ كان كل من ملك لا يحتفل بالعمارة إذ كان قصده أن يحوصل ويطير ( يجمع الحاصل ويذهب ) ! وكان أيضاً في ممر العساكر فجلى عنه أهله واستمر خرابه ، وقد استشأم الملوك أيضاً من تجديد حفر نهره ، وزعموا أنه ما شرع فيه أحد إلا مات قبل تمامه ، وكان قد شرع
--------------------------- 157 ---------------------------
فيه نهروان الخادم وغيره فمات وبقي على حاله ، وكان من أجمل نواحي بغداد وأكثرها دخلاً ، وأحسنها منظراً ، وأبهاها مخبراً ) .
أقول : لله تعالى أسرارٌ في أماكن الأحداث وتعاقبها ، وكأن التاريخ يدور دورات ، مثلاً تأسيس القدس وتجديد الكعبة مقدمة لبعثة نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ، وعودة العراق بعد نوح وإبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليكون عاصمة الإسلام على يد علي ( عليه السلام ) ، ثم الوعد الإلهي بأن يكون العراق عاصمة العالم على يد الإمام المهدي ( عليه السلام ) . ومن دورات التاريخ أن يكون آخر الخوارج في نفس المكان الذي خرجوا فيه على علي ( عليه السلام ) !
أما أول خارجة على الإمام المهدي ( عليه السلام ) في العراق فهم البترية الذين يزعمون أنهم يتولون أهل البيت ( عليهم السلام ) وظالميهم معاً !
عن أبي الجارود أنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( دلائل الإمامة / 241 ) : ( ويسير إلى الكوفة فيخرج منها ستة عشرألفاً من البترية شاكين في السلاح ، قراء القرآن فقهاء
في الدين ، قد قرحوا جباههم ، وشمروا ثيابهم ، وعمهم النفاق ، وكلهم يقولون : يا ابن فاطمة إرجع لا حاجة لنا فيك ، فيضع السيف فيهم على ظهر النجف عشية الاثنين من العصر إلى العشاء ، فيقتلهم أسرع من جزر جزور ، فلا يفوت منهم رجل ولا يصاب من أصحابه أحد ! دماؤهم قربان إلى الله !
ثم يدخل الكوفة فيقتل مقاتليها حتى يرضى الله تعالى . قال : فلم أعقل المعنى ! فمكثت قليلاً ثم قلت : وما يدريه جعلت فداك متى يرضى الله عز وجل ؟ قال : يا أباالجارود إن الله أوحى إلى أم موسى وهو خير من أم موسى ، وأوحى الله إلى النحل وهو خير من النحل ، فعقلت المذهب فقال لي : أعقلت المذهب ؟ قلت : نعم . فقال : إن القائم ليملك ثلاث مائة وتسع سنين كما لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً ويفتح الله عليه شرق الأرض وغربها ) .
--------------------------- 158 ---------------------------
إخبارالإمام ( ( ع ) ) بالمغيبات معجزة للنبي ؟ ص ؟
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 5 / 4 ) ملخصاً : ( هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة ، لاشتهاره ونقل الناس كافة له ، وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب ، فإنه لا يحتمل التلبيس ، لتقييده بالعدد المعين في أصحابه وفى الخوارج ، ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعرفه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) من جهة الله سبحانه . والقوة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره . وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته ، وأحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا ، حتى نسب إلى أن الجوهر الإلهي حل في بدنه ، كما قالت النصارى في عيسى ( عليه السلام ) .
وقد أخبره النبي ( ( عليهما السلام ) ) بذلك فقال : يهلك فيك رجلان محبٌّ غالٍ ، ومبغضٌ قالٍ . وقال له تارة أخرى : والذي نفسي بيده ، لولا أني أشفق أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالاً ، لاتمر بملأ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة ) !
معجزة الإمام ( ( ع ) ) في براثا ببغداد
1 . في أمالي الطوسي / 199 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء فقال للناس : إنها الزوراء فسيروا وجنبوا عنها ، فإن الخسف أسرع إليها من الوتد في النخالة ، فلما أتى موضعاً من أرضها قال : ما هذه الأرض ؟ قيل : أرض بحرا . فقال : أرض سباخ جنبوا ويمنوا . فلما أتى يمنة السواد فإذا هو براهب في صومعة له فقال له : يا راهب أنزل هاهنا ؟ فقال له الراهب : لاتنزل هذه الأرض بجيشك . قال : ولم َ ؟ قال : لأنه لا ينزلها إلا نبي أو وصي نبي بجيشه يقاتل في سبيل الله عز وجل ، هكذا نجد في كتبنا . فقال له أمير المؤمنين : فأنا وصي سيد الأنبياء وسيد الأوصياء . فقال له الراهب : فأنت إذن أصلع قريش ووصي محمد ( ( عليهما السلام ) ) . قال له أمير المؤمنين : أنا ذلك .
--------------------------- 159 ---------------------------
فنزل الراهب إليه فقال : خذ عليَّ شرائع الإسلام ، إني وجدت في الإنجيل نعتك ، وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرض عيسى ( عليه السلام ) .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قف ولاتخبرنا بشئ ، ثم أتى موضعاً فقال : ألكزوا هذه فلكزه برجله ( عليه السلام ) فانبجست عين خرارة ، فقال : هذه عين مريم التي انبعثت لها ثم قال : اكشفوا هاهنا على سبعة عشر ذراعاً ، فكشف فإذا بصخرة بيضاء فقال علي ( عليه السلام ) : على هذه وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت هاهنا . فنصب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الصخرة وصلى إليها ، وأقام هناك أربعة أيام يتم الصلاة ، وجعل الحرم في خيمة من الموضع على دعوة ، ثم قال : أرض براثا ، هذا بيت مريم ( عليها السلام ) هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء . قال أبو جعفر محمد بن علي ( عليه السلام ) : ولقد وجدنا أنه صلى فيه إبراهيم قبل عيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
2 . كتبنا عن براثا في كتاب : الإمام الكاظم ( عليه السلام ) سيد بغداد ، وذكرنا أن مسجد براثا كان قبل بغداد بأكثر من قرن !
قال في معجم البلدان ( 1 / 362 ) : « محلة كانت في طرف بغداد في قبلة الكرخ وجنوبي باب محول ، وكان لها جامع مفرد تصلي فيه الشيعة » .
وفي التهذيب ( 3 / 264 ) : « أن الراهب قال : إنما بنيت هذه الصومعة من أجل هذا الموضع وهو براثا ، وقرأت في الكتب المنزلة أنه لا يصلي في هذا الموضع بذا الجمع إلا نبي أو وصي نبي ، وقد جئت أن أسلم ، فأسلم فخرج معنا إلى الكوفة فقال له علي ( عليه السلام ) : فمن صلى هاهنا ؟ قال : صلى عيسى بن مريم وأمه . فقال له علي ( عليه السلام ) : أفأفيدك من صلى ههنا ؟ قال : نعم . قال : الخليل ( عليه السلام ) » .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 100 ) : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فاجلس يا حباب ، قال : وهذه دلالة أخرى ( أي عرف اسمه ) ثم قال : فانزل يا حباب من هذه الصومعة وابن هذا الدير مسجداً ، فبنى حباب الدير مسجداً ولحق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الكوفة ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فعاد حباب إلى مسجده ببراثا .
--------------------------- 160 ---------------------------
وفي رواية : أن الراهب قال : قرأت أنه يصلي في هذا الموضع إيليا وصي البارقليطا محمد نبي الأميين ، الخاتم لمن سبقه من أنبياء الله ورسله ( عليهم السلام ) ، فمن أدركه فليتبع النور الذي جاء به نبي الأميين الخاتم لمن سبقه من أنبياء الله ورسله ( عليهم السلام ) ، ألا وإنه تغرس في آخر الأيام بهذه البقعة شجرة لا يفسد ثمرها . في كلام كثير .
وفي رواية زاذان : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ومن أين شربك ؟ قال : من دجلة ، قال : ولمَ لم تحفر عيناً تشرب منها ؟ قال : قد حفرتها وخرجت مالحة . قال : فاحتفر الآن بئراً أخرى ، فاحتفر فخرج ماؤها عذباً فقال : يا حباب ليكن شربك من ههنا ، ولا يزال هذا المسجد معموراً ، فإذا خربوه وقطعوا نخله حلت بهم أو قال بالناس داهية .
وفي رواية محمد بن قيس : فأتى أمير المؤمنين موضعاً من تلك الملبة فركلها برجله فانبجست عين خرارة فقال : هذه عين مريم ، ثم قال : فاحتفروا ههنا سبعة عشر ذراعاً ، فاحتفروا فإذا صخرة بيضاء فقال : ههنا وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت ههنا ، فنصب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الصخرة وصلى إليها ، وأقام هناك أربعة أيام .
وفي رواية الباقر ( عليه السلام ) : قال هذه عين مريم التي أنبعت لها ، واكشفوا ههنا سبعة عشر ذراعاً فكشف فإذا صخرة بيضاء . . الخبر .
وفي رواية : هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء ( عليهم السلام ) . وقال أبو جعفر : ولقد وجدنا أنه صلى فيه قبل عيسى . ورواية أخرى : صلى فيه الخليل .
وروي : أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صاح بالعبراني فقال : يا بئر أقرب إليَّ ، فلما عبر إلى المسجد وكان فيه عوسج وشوك عظيم فانتضى سيفه وكسح ذلك كله وقال : إن ههنا قبر نبي من أنبياء الله ( عليهم السلام ) ، وأمر الشمس أن إرجعي فرجعت وكان معه ثلاثة عشر رجلاً من أصحابه ، فأقام القبلة بخط الاستواء وصلى إليها ، وقال العوني :
وقلت براثا كان بيتاً لمريم * وذاك ضعيف في الأسانيد أعوج
ولكنه بيت لعيسى بن مريم * وللأنبياء الزهر مثوى ومدرج
وللأوصياء الطاهرين مقامهم * على غابر الأيام والحق أبلج
بسبعين موصى بعد سبعين مرسل * جباههم فيها سجوداً تشجج
وآخرهم فيها صلاة إمامنا * عليٌّ ، بذا جاء الحديث المنهَّج » .
--------------------------- 161 ---------------------------
وفي عيون المعجزات / 2 : « لما رجع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قتال أهل النهروان أخذ على النهروانات وأعمال العراق ، ولم يكن يومئذ بنيت بغداد . . الخ . » .
وفي اليقين لابن طاووس / 156 : ( فلما سمع الراهب الصيحة والعسكر أشرف من قلايته ( صومعته ) إلى الأرض فنظر إلى عسكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاستفظع ذلك ونزل مبادراً قال : من هذا ، ومن رئيس هذا العسكر ؟ فقيل له : هذا أمير المؤمنين وقد رجع من قتال أهل النهروان ، فجاء الحباب مبادراً يتخطى الناس حتى وقف على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين حقاً حقاً ، فقال له : وما أعلمك بأني أمير المؤمنين حقاً حقاً ؟ قال له : بذلك أخبرنا علماؤنا وأحبارنا . فقال له : يا حباب ، فقال له الراهب : وما علمك باسمي ! فقال : أعلمني بذلك حبيبي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ! فقال له حباب : مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله وأنك علي بن أبي طالب وصيه ) .
وفي اليقين لابن طاووس / 421 : « فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وأين تأوي ؟ فقال : أكون في قلاية لي هاهنا . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بعد يومك هذا لاتسكن فيها ولكن ابن هاهنا مسجداً وسمه باسم بانيه ، فبناه رجل اسمه براثا فسمي المسجد ببراثا باسم الباني له .
ثم قال ( عليه السلام ) : ومن أين تشرب يا حباب ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، من دجلة هاهنا . قال : فلم لا تحفر هاهنا عيناً أو بئراً ؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ، كلما حفرنا بئراً وجدناها مالحة غير عذبة ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إحفرهاهنا بئراً فحفر فخرجت عليهم صخرة لم يستطيعوا قلعها . فقلعها أمير المؤمنين فانقلعت عن عين أحلى من الشهد وألذ من الزبد ، فقال له : يا حباب ، يكون شربك من هذه العين . أما إنه يا حباب ستبنى إلى جنب مسجدك هذا مدينة ، وتكثر الجبابرة فيها ويعظم البلاء » .
أقول : دل هذا على أن بغداد بنيت بين براثا والكرخ . وأن إبراهيم ( عليه السلام ) صلى في موضع براثا ، وأن مريم ( عليه السلام ) كانت فترة من تشريدها مع ابنها عيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العراق ،
--------------------------- 162 ---------------------------
وتدل الروايات على أن اليهود والرومان ضايقوها فاضطرت إلى الهجرة إلى بابل ثم إلى مصر ، وبقيت نحو ثلاثين سنة ، ثم أمر الله عيسى ( عليه السلام ) فرجع إلى القدس ، ودعا الناس حتى حاولوا قتله ، فرفعه الله تعالى .
وفي ذكرى الشيعة ( 3 / 118 ) : ( مسجد براثا في غربي بغداد ، وهو باق إلى الآن رأيته وصليت فيه ( القرن الثامن ) روى الجماعة عن جابرالأنصاري قال : صلى بنا علي ( عليه السلام ) ببراثا بعد رجوعه من قتال الشراة ونحن زهاء مائة ألف رجل ، فنزل نصراني من صومعته فقال : أين عميد هذا الجيش ؟ فقلنا : هذا . فأقبل عليه وسلم عليه ثم قال : يا سيدي أنت نبي ؟ قال : لا ، النبي سيدي قد مات . قال : أفأنت وصي نبي ؟ قال : نعم . فقال : إنما بنيت الصومعة من أجل هذا الموضع وهو براثا ، وقرأت في الكتب المنزلة أنه لا يصلي في هذا الموضع بذا الجمع إلا نبي أو وصي نبي ، ثم أسلم ، فقال له علي : من صلى ها هنا ؟ قال : صلى عيسى بن مريم وأمه . فقال له علي : والخليل ( عليهم السلام ) ) .
3 . تأسست بغداد في سنة 145 ، وكانت الكرخ قرية عامرة قبل تأسيسها وكان أهلها شيعة ، ففي بصائر الدرجات / 355 ، أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سأل إبراهيم الكرخي :
« يا إبراهيم أين تنزل من الكرخ ؟ قلت : في موضع يقال له شادروان ، قال فقال لي : تعرف قَطَفْتَا ؟ قال : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين أتى أهل النهروان نزل قطفتا ، فاجتمع إليه أهل بادرويا ، فشكوا إليه ثقل خراجهم وكلموه بالنبطية ، وأن لهم جيراناً أوسع أرضاً وأقل خراجاً ، فأجابهم بالنبطية : ( وغرزطا من عوديا ) قال فمعناه : رب رجز صغيرخير من رجز كبير ) . والرجز هنا : سهم الأرض . ويظهرأن قطفتا وبادرويا وشادروان والكرخ ، كانت قرى كبيرة كالمدينة . وترجمت المصادر لعدد من الكرخيين في أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) غير إبراهيم المذكور ، وفيهم علماء مؤلفون .
وقال في معجم البلدان ( 4 / 448 ) : « وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية ، لا يوجد فيهم سني البتة » أما معروف الكرخي فهو من كرخ شهرزور وليس كرخ بغداد .
وافتخر ابن كثيربهمجية أصحابه فقال : ( تسلطت أهل السنة ( مجسمة الحنابلة ) على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض ، وقتلوا بعض من
--------------------------- 163 ---------------------------
كان فيه . وأحرق الكرخ فألقيَ في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال ، من ذلك ثلاث مائة دكان ، وثلاثة وثلاثون مسجداً ، وسبعة عشر ألف إنسان ) ! ( النهاية : 11 / 209 و 288 ) .
4 . وقد روينا عن الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) أن مقبرة براثا مقدسة ، ففي كامل الزيارات / 546 ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن إلى جانبكم مقبرة يقال لها : براثا يحشر منها عشرون ومائة ألف شهيد ، كشهداء بدر » .
معجزة رد الشمس للإمام ( ( ع ) ) في بابل
1 . ورد في معجزات نبينا ( ( عليهما السلام ) ) أنه كان مريضاً نائماً على ركبة علي ( عليه السلام ) ففاتت علياً ( عليه السلام ) صلاة العصرحتى غابت الشمس أو كادت ، فدعا النبي ربه فأرجع الله الشمس إلى وقت العصر ، وصلى علي ( عليه السلام ) ، ثم غابت .
كما ورد أن علياً ( عليه السلام ) مرعلى بقعة من بابل فقال للناس : صلوا إن شئتم ، لكنها أرض ملعونة لا يجوز لنبي ولا وصي أن يصلي فيها ، وأخر صلاته ، فلما أكمل عبور البقعة كانت الشمس غابت أو كادت ، فدعا الله فعادت وصلى وغابت الشمس بعد صلاته ، كما حدث له مع النبي ( ( عليهما السلام ) ) .
وقال أهل الشك : هذا محال ، لأن رد الشمس يوجب اختلال نظام الفلك ، ولو سلمنا أنه لا يوجب إخلالاً ، لانتشر خبره في الناس .
وجوابه : أن صحة الحديث تعني أنه لايسبب إخلالاً في النظام الكوني ، ثم لا يلزم شموله لكل الأرض ، فقد يكون رجوعها خاصاً بتلك البقعة .
وقال بعضهم : كيف تنسبون اليه أنه أخر صلاته لأنه مشغول بشئ ؟
وجوابه : ما المانع أن يكون الله تعالى أمرض رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وأشغل به علياً ( عليه السلام ) ، حتى يُظهر هذه الآية للناس .
أما في بابل فقد ذكر الإمام ( عليه السلام ) أن سبب عدم صلاته في تلك البقعة أنها أرض ملعونة لا يجوز لنبي ولا وصي ( عليهم السلام ) أن يصلي فيها ، ويجوز ذلك لعامة الناس . ومعناه : أن صلاته فيها تؤثر أثراً تكوينياً يناقض اللعنة لها !
--------------------------- 164 ---------------------------
وهذا ممكن ، فنحن لا نعرف تأثير لعن الله تعالى لشخص أو بقعة أرض ، ولا تأثيرصلاة المعصوم فيها ، فمعلوماتنا محدودة ، وما دام الحديث صحيحاً فنحن نقبله ، لأنه من الغيب الذي نؤمن به ولا نشك .
2 . أحاديث رد الشمس مستفيضة ، روتها مصادر الطرفين ، وألف فيها بعض علماء السنة والشيعة رسائل مستقلة . وقد أوردنا بعضها في محله .
روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه ( 1 / 203 ) : ( عن جويرية بن مسهرأنه قال : أقبلنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من قتل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر فنزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ونزل الناس ، فقال علي ( عليه السلام ) : أيها الناس إن هذه أرض ملعونة قد عذبت في الدهر ثلاث مرات ، وفي خبر آخر مرتين ، وهي إحدى المؤتفكات ، وهي أول أرض عُبِد فيها وثن ، وإنه لا يحل لنبي ولا لوصي نبي أن يصلي فيها ، فمن أراد منكم أن يصلي فليصل ، فمال الناس عن جنبي الطريق يصلون وركب هو ( عليه السلام ) بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومضى . قال جويرية فقلت : والله لأتبعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولأقلدنه صلاتي اليوم ، فمضيت خلفه ، فوالله ما جزنا جسر سوراء حتى غابت الشمس فشككت فالتفت إليَّ وقال : يا جويرية أشككت ؟ فقلت : نعم يا أمير المؤمنين ، فنزل ناحية فتوضأ ثم قام فنطق بكلام لا أحسنه إلا كأنه بالعبراني ، ثم نادى الصلاة ، فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صرير ، فصلى العصر وصليت معه ، فلما فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان فالتفت إلي وقال : يا جويرية بن مسهر إن الله عز وجل يقول : فسبح باسم ربك العظيم ، وإني سألت الله عز وجل باسمه العظيم فرد علي الشمس . وروي أن جويرية لما رأى ذلك قال : أنت وصي نبي ورب الكعبة ) .
وفي بصائر الدرجات / 237 : ( فقال يا جويرية بن مسهر إن الله يقول فسبح باسم ربك العظيم ، فإني سألت الله باسمه العظيم فرد على الشمس ! فقلت وصي نبي ورب الكعبة ) .
3 . وفي عيون المعجزات / 3 : ( لا يحل لوصي أن يصلي فيها ، ومن أراد منكم أن
--------------------------- 165 ---------------------------
يصلي فليصل ، فقال المنافقون : نعم هو لا يصلي ويقتل من يصلي ! يعنون أهل النهروان ! فقال : أقم ، ففعلت ، وإذ أنا في الإقامة إذ تحركت شفتاه بكلام كأنه منطق الخطاطيف لم أفهم ما هو فرجعت الشمس بصرير عظيم حتى وقفت في مركزها من العصر ، فقام ( عليه السلام ) وكبر وصلى فصلينا وراءه . فلما فرغ من صلاته وقعت كأنها سراج في طست وغابت واشتبكت النجوم ! فالتفت إلي وقال : أذن أذان العشاء يا ضعيف اليقين !
وروي أن الشمس ردت عليه في حياة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بمكة وقد كان رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) موعوكاً فوضع رأسه في حجرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) وحضر وقت العصرفلم يبرح من مكانه وموضعه حتى استيقظ ، فقال ( ( عليهما السلام ) ) : اللهم إن علياً كان في طاعتك ، فرد عليه الشمس ليصلي العصر ، فردها الله عليه بيضاء حتى صلى ثم غربت .
وقال في ذلك السيد الحميري رضي الله عنه في قصيدته المعروفة بالمذهبة :
خير البرية بعد أحمد من له * مني الولاء والى بنيه تطربي
أمسي وأصبح معصماً مني له * بهوىً وحبلِ هداية لم يُقصب
رُدَّت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هويَّ الكوكب
وعليه قد رُدت ببابل مرة * أخرى وما ردت لخلق معرب
إلا ليوشع أو له ولحبسها * ولردها تأويل أمر معجب ) .
وقال المرتضى في رسائله ( 4 / 79 ) في شرح قصيدة الحميري ، ملخصاً :
( فإن قيل : يقتضي أن يكون ( عليه السلام ) عاصياً بترك الصلاة . قلنا : عن هذا جوابان :
أحدهما : أنه إنما يكون عاصياً إذا ترك الصلاة بغيرعذر .
والجواب الآخر : أن الصلاة لم تنته بمعنى جميع وقتها ، وإنما فاته ما فيها من الفضيلة ، ويقوي هذا الرواية في الشعر : حين تفوته وقوله : وقد دنت للمغرب . وهذا يقتضي أنها لم تغرب ، وإنما دنت وقاربت الغروب .
فإن قيل : إذا كانت لم تنته فأي معنى للدعاء بردها ؟ قلنا : الفائدة ليدرك فضيلة
--------------------------- 166 ---------------------------
الصلاة في أول وقتها ثم ليكون ذلك دلالة على سمومحله وجلالة قدره ، في خرق العادة من أجله .
وعليه قد حبست ببابل مرة * أخرى وما حبست لخلق مُعرب
هذا البيت يتضمن الإخبار عن رد الشمس ببابل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والرواية بذلك مشهورة ، وخرق العادة هاهنا لا يمكن أن يقال إن نسبته إلى غيره ، كما أمكن في أيام النبي ( ( عليهما السلام ) ) . فإن قيل : حبست بمعنى وقفت ، ومعناه يخالف معنى ردت . قلنا : المعنيان ههنا واحد لأن الشمس إذا ردت إلى الموضع الذي تجاوزته فقد حبست عن المسيرالمعهود )
4 . قال القمي في منتهى الآمال ( ترجمة الميلاني : 1 / 181 ) : ( عُمِّرمسجد رد الشمس وبني بناء جيداً بيد المخلصين لأهل البيت بقربه من الحلة ، بخلاف مسجد الجمجمة الذي ترك لعدم المرور عليه فهجر ومحي اسمه . . إلى آخر ما تقدم في معجزات الإمام ( عليه السلام ) في طريقه إلى صفين .
5 . روى الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 227 ) أن الشمس ردت للإمام ( عليه السلام ) في بابل في رجوعه من صفين ، ويظهر أنه اشتباه من الراوي ، ويحتمل أن يكون ردها تكررت في رجوعه من صفين ثم من النهروان .
6 . في علل الشرائع ( 2 / 351 ) : ( العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلاة العصر في حياة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حتى فاتته ، والعلة التي من أجلها تركها بعد وفاته حتى ردت عليه الشمس : ( عن حنان قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما العلة في ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلاة العصر وهو يجب له أن يجمع بين الظهر والعصر فأخرها ؟
قال : إنه لما صلى الظهر التفت إلى جمجمة ملقاة فكلمها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال . .
وروي أن الجمجمة كلمته يومئذ
أضاف الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( فقال : أيتها الجمجمة من أين أنت ؟ فقالت : أنا فلان ابن فلان ملك بلاد آل فلان . قال لها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقصي عليَّ الخبر وما كنت وما كان عصرك ؟ فأقبلت الجمجمة تقص من خبرها وما كان في عصرها من خير وشر ، فاشتغل
--------------------------- 167 ---------------------------
بها حتى غابت الشمس ، فكلمها بثلاثة أحرف من الإنجيل لئلا يفقه العرب كلامه ، فلما فرغ من حكاية الجمجمة قال للشمس : إرجعي قالت : لا أرجع وقد أَفِلْت ! فدعا الله عز وجل فبعث إليها سبعين ألف ملك بسبعين ألف سلسلة حديد ، فجعلوها في رقبتها وسحبوها على وجهها ، حتى عادت بيضاء نقية ، حتى صلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم هوت كهويِّ الكوكب ، فهذه العلة في تأخير العصر ) .
أقول : ثبت رد الشمس لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وثبت أن الجمجمة كلمته ( عليه السلام ) وتقدمت رواية ذلك في معجزات الإمام ( عليه السلام ) في طريقه إلى صفين .
أما هذه الرواية فلا تصح عندنا لضعف سندها ومتنها ، وقد أخذ الراوي مقولة أن الشمس امتنعت من الرجوع فسحبوها بسلاسل ، من رواية العامة التي تزعم أن الملائكة يجرون الشمس بالسلاسل ، ويجلدونها ! ( رواه أحمد في مسنده : 1 / 256 ) ولعل راويها كان عامياً ، ثم استبصر وبقيت روايته من خيالات العامة !

  • *
    اضطرت عائشة أن تشهد لعلي ( ع ) بأنه خير الأمة
    قال ابن حاتم في الدر النظيم / 234 : ( لما فرغ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من قتال أهل النهر أقبل أبو قتادة الأنصاري ومعه ستون أوسبعون من الأنصار ، قال فبدأ بعائشة فقال أبو قتادة : لما دخلت عليها قالت : ماوراءك ؟ فأخبرتها أنه لما تفرقت المحكمة من عسكر المؤمنين لحقناهم فقتلناهم . فقالت : أما كان معك غيرك من الوفد ؟ قلت : بلى ستون أو سبعون . قالت : أوَكلهم يقولون مثل الذي تقول ؟ قلت : نعم . فقالت : قص علي القصة . فقلت : يا أم المؤمنين تفرقت الفرقة وهم نحو اثني عشر ألفاً ينادون : لا حكم إلا لله ، فقال علي ( عليه السلام ) : كلمة حق يراد بها باطل ، فقاتلناهم بعد أن ناشدناهم بالله وكتابه ، وقالوا : كفر عثمان وعلي وعائشة ومعاوية ، فلم نزل نحاربهم وهم يتلون القرآن ، فقاتلناهم وقاتلونا وولى منهم من ولى ، فقال علي : لا تتبعوا مولياً ، فأقمنا ندور على القتلى حتى وقفت بغلة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعلي ( عليه السلام ) راكبها ، فقال : إقلبوا القتلى ، فأتينا وهو على نهر فيه
    --------------------------- 168 ---------------------------
    قتلى ، فقلبناهم حتى خرج في آخرهم رجل أسود على كتفيه مثل حلمة الثدي ، فقال علي ( عليه السلام ) : الله أكبر والله ما كذبت ولا كذبت ، كنت مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقد قسم فيئاً فجاء هذا فقال : يا محمد إعدل ، فوالله ما عدلتَ منذ اليوم . فقال النبي ( ( عليهما السلام ) ) : ثكلتك أمك ومن يعدل عليك إذا لم أعدل أنا ! فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ألا أقتله ؟ فقال النبي ( ( عليهما السلام ) ) : لا ، دعه فإن له من يقتله . فقال : صدق الله ورسوله . فقالت عائشة : ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق : سمعت النبي يقول : تفترق أمتي على فرقتين ، تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم ، محفون شواربهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبهم إلى الله ورسوله .
    قال : فقلت يا أم المؤمنين ، فأنت تعلمين هذا من رسول الله ، فلمَ كان الذي كان منك ؟ فقالت : يا أباقتادة : وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً . وللقدر سبب : إن الناس قالوا في قصة الإفك ما قالوا ، وكان أكثر المهاجرين والأنصار لما يرون من قلق رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وحزنه يقولون له : أمسك عليك زوجك حتى يأتيك أمر ربك ، وعلي يقول : لك يا رسول الله في نساء قريش من هي أبهى منها وأجل نسباً ، وكنت امرأة لي من رسول الله حظ ومنزلة ، وجدت لذلك كما يجد النساء ، فكانت أشياء استغفر الله من اعتقادها ) .
    أقول : ادعت عائشة أنها كان لها حظوة عند النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، والثابت غير ذلك ، فقد روت هي توبيخ النبي ( ( عليهما السلام ) ) لها وتحذيره لها أن تنحرف بعده ، وقد ضرب الله لها ولحفصة مثلاً بامرأتي نوح ولوط الكافرتين .
    كما أن روايتها أن علياً ( عليه السلام ) اقترح على النبي ( ( عليهما السلام ) ) طلاقها ، لو صحت فهي عليها لا لها ، خاصة بعد قول أبيها للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( يا رسول الله ماتنتظر بهذه التي قد خانتك وفضحتني ) وقد رواه ووثقه الهيتمي في مجمع الزوائد ( 9 / 229 ) وغرضنا هنا شهادتها بأن علياً ( عليه السلام ) أحب الناس إلى الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) .
    بل شهدت عائشة بأن علياً ( عليه السلام ) خيرالخلق ، فغصَّ رواة السلطة بشهادتها !
    ففي شرح النهج ( 2 / 267 ) عن مسند أحمد : ( عن مسروق قال قالت لي عائشة : إنك من وُلدي ومن أحبهم إليَّ ، فهل عندك علم من المخدج ؟ فقلت : نعم قتله علي بن أبي طالب
    --------------------------- 169 ---------------------------
    على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان ، بين لخاقيق ( شقوق في الأرض ) وطرفاء ، قالت : إبغني على ذلك بينة فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلك . قال فقلت لها : سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله فيهم ؟ فقالت : نعم سمعته يقول : إنهم شرالخلق والخليقة ، يقتلهم خيرالخلق والخليقة ، وأقربهم عند الله وسيلة ) .
    أقول : لا وجود لهذا الحديث في نسخة أحمد فقد حذفوه ! ومن البعيد أن أحمد رواه في غير المسند ، وأن ابن أبي الحديد اشتبه في اسم الكتاب ، فهو دقيق يقظ .
    وفي فتح الباري ( 12 / 253 ) : ( وعند البزار من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : ذكر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) الخوارج فقال : هم شرارأمتي يقتلهم خيار أمتي . وسنده حسن . وعند الطبراني من هذا الوجه مرفوعاً : هم شر الخلق والخليقة ، يقتلهم خيرالخلق والخليقة ) .
    وفي شرح النهج ( 2 / 268 ) : ( وفي كتاب صفين للمدائني عن مسروق ، أن عائشة قالت له لما عرفت أن علياً قتل ذا الثدية : لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه كتب إليَّ يخبرني أنه قتله بالإسكندرية ! ألا أنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله يقول : يقتله خير أمتي من بعدي ) .
    وفي مناقب علي لابن مردويه / 172 ، بسند صحيح عن مسروق ، قال : سألتني أُمّ المؤمنين عائشة عن أصحاب النهروان وعن ذي الثدية فأخبرتها فقالت : يا مسروق ، أتستطيع أن تأتيني بأناس ممن يشهد . فأتيتها من كل سُبْعٍ برجل ، فشهدوا أنّهم رأوه . فقالت : يرحم الله عليّاً إنه كان على الحق ، ولكني كنت امرأة من الأحماء ) .
    أي : أتيتها بوثيقة من الكوفة وقعها من كل سُبع من أسباع القبائل رجل ، فترحمت على عليٍّ ( عليه السلام ) وشهدت أنه كان على الحق ، وادعت أنه لم يكن بينها وبينه إلا الحساسية التي تكون بين المرأة وأقارب زوجها ! فأي حساسية عائلية هذه أشعلت حرب الجمل الطاحنة التي قتل فيها أكثر من ثلاثين ألف مسلم !
    --------------------------- 170 ---------------------------
    وغصَّ رواة الخلافة القرشية بحديثها وتحيروا ! فكيف يعترفون لعلي ( عليه السلام ) بأنه خير الخلق بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ويُدينون السقيفة ، ويبطلون جهود قريش لإشاعة أن أبا بكر وعمر وعثمان خيرالخلق بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! فحذف بعضهم نصف الحديث الأخير ! واستبدل بعضهم آخره بأن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال : طوبى لمن قتلهم ! أو زعم أن الحديث : تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق ! أوبدلوا كلمة خير الخلق بخيار الخلق كي لا تختص بعلي ( عليه السلام ) ! وبعضهم زعم أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) وصف ابن مسعود بأنه أقرب الخلق وسيلة ، ليبطلوا اختصاص الوصف بعلي ( عليه السلام ) !
    وبعضهم يرويه كاملاً ، ثم يوجه ذكاءه إلى تأويله وتحريفه ، ليفرغه من معناه !
    ويدلك على أن التفضيل هنا مطلق أن سعد بن أبي وقاص رأى نفسه مجبراً على إنكار أن علياً ( عليه السلام ) قتل ذا الثدية ، فقال لوصح ذلك لكنت له خادماً طول عمري !
    قال الصدوق في علل الشرائع ( 1 / 222 ) : ( وهذا سعد بن أبي وقاص لما أنهيَ إليه أن علياً صلوات الله عليه قتل ذا الثدية ، أخذه ما قدم وما أخر ، وقلِق ونزِق وقال : والله لو علمت أن ذلك كذلك ، لمشيت إليه ولو حبواً ) !
  • *
    منشور أمير المؤمنين ( ( ع ) ) في أبي بكر وعمر وعثمان
    وتقدم حديثه في الفصل الرابع والثلاثين : احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أبي بكر وعمر وعثمان ، وقد رواه الكليني في رسائل الأئمة ( عليهم السلام ) بسنده عن علي بن إبراهيم قال : « كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد منصرفه من النهروان كتاباً وأمر أن يقرأ على الناس ، وذلك أن الناس سألوه عن أبي بكر وعمر وعثمان ، فغضب لذلك وقال : قد تفرغتم للسؤال عما لا يعنيكم ، وهذه مصرُ قد افتتحت وقَتل معاوية بن خديج محمد بن أبي بكر ، فيا لها من مصيبة ما أعظمها مصيبتي بمحمد ، فوالله ما كان إلا كبعض بنيَّ . سبحان الله ، بينا نحن نرجو أن نغلب القوم على ما في أيديهم ، إذ غلبونا على ما في أيدينا !
    وأنا أكتب لكم كتاباً فيه تصريح ما سألتم إن شاء الله تعالى . فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له : أدخل عليَّ عشرةً من ثقاتي ، فقال : سمِّهم يا أمير المؤمنين ، فقال : أدخل أصبغ بن نباتة ، وأباالطفيل عامر بن واثلة الكناني ، وزر بن حبيش الأسدي ، وجويرية بن
    --------------------------- 171 ---------------------------
    مسهر العبدي ، وخندف بن زهير الأسدي ، وحارثة بن مضرب الهمداني ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ومصابيح النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وكميل بن زياد ، وعمير بن زرارة ، فدخلوا إليه فقال لهم : خذوا هذا الكتاب وليقرأه عبيد الله بن أبي رافع وأنتم شهود ، كل يوم جمعة ، فإن شغب شاغب عليكم فأنصفوه بكتاب الله بينكم وبينه .
    بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى شيعته من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فإن الله يقول : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ، وهو إسمٌ شرفه الله تعالى في الكتاب ، وأنتم شيعة النبي محمد ( ( عليهما السلام ) ) كما أنه من شيعة إبراهيم ، إسمٌ غير مختص وأمر غير مبتدع ، وسلام الله عليكم » .
    إلى آخر المنشور وهو طويل ، وقد تضمن موقفه ( عليه السلام ) من الخلافة والسقيفة . ورواه الثقفي في الغارات : 1 / 302 ، وابن طاووس في كشف المحجة / 173 ، وآخرون .
  • *
    --------------------------- 172 ---------------------------
    الفصل الثاني والتسعون
    خوارج بالهواية بعد النهروان
    هواة الانشقاق عن الدولة والمجتمع
    بعد معركة النهروان ، قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) نهج البلاغة ( 1 / 107 ) : ( هلك القوم بأجمعهم . قال : كلا والله إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء ! كلَّما نَجَمَ منهم قرنٌ قُطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين ) !
    وأشهر هؤلاء الهواة اللصوص السلابين : الخريت بن راشد ، من بني ناجية ، وقد فصل أخباره الطبري ( 4 / 86 ) والبلاذري ( 2 / 411 ) والثقفي ( 1 / 329 ) قال : ( لما بايع أهل البصرة علياً ( عليه السلام ) بعد الهزيمة دخلوا في الطاعة غير بني ناجية فإنهم عسكروا ، فبعث إليهم علي ( عليه السلام ) رجلاً من أصحابه في خيل ليقاتلهم ، فأتاهم فقال : ما بالكم عسكرتم وقد دخل الناس في الطاعة غيركم ، فافترقوا ثلاث فرق : فرقة قالوا : كنا نصارى فأسلمنا ودخلنا فيما دخل فيه الناس من الفتنة ، ونحن نبايع كما بايع الناس ، فأمرهم فاعتزلوا .
    وفرقة قالوا : كنا نصارى ولم نسلم فخرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا ، قهرونا فأخرجونا كرها فخرجنا معهم فهزموا ، فنحن ندخل فيما دخل فيه الناس ، ونعطيكم الجزية كما أعطيناهم ، فقال لهم : اعتزلوا .
    وفرقة قالوا : كنا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الإسلام فرجعنا إلى النصرانية فنحن نعطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى ، فقال لهم : توبوا وارجعوا إلى الإسلام فأبوا ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ، فقدم بهم على علي ( عليه السلام ) .
    وقال الثقفي ( 1 / 333 ) : ( شهد الخريت بن راشد الناجي وأصحابه مع علي صفين فجاء
    --------------------------- 173 ---------------------------
    الخريت إلى علي في ثلاثين راكباً من أصحابه يمشي بينهم حتى قام بين يدي علي فقال له : والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك ، وإني غداً لمفارق لك ! قال : وذاك بعد وقعة صفين وبعد تحكيم الحكمين ، فقال له علي ( عليه السلام ) : ثكلتك أمك ، إذاً تنقض عهدك وتعصي ربك ، ولا تضر إلا نفسك ، أخبرني لم تفعل ذلك ؟ قال : لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق إذ جد الجد ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك راد وعليهم ناقم ، ولكم جميعاً مباين ! فقال له علي ( عليه السلام ) : ويحك هلم إلي أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن ، وأفاتحك أموراً من الحق أنا أعلم بها منك ، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر ، وتستبصر ما أنت به الآن عنه عمٍ وبه جاهل ! فقال الخريت : فإني عائد عليك غداً ، فقال له علي ( عليه السلام ) : أغد ولا يستهوينك الشيطان ولا تقحمن بك رأي السوء ، ولايستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون ، فوالله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني ، لأهدينَّك سبيل الرشاد ، فخرج الخريت من عنده منصرفاً إلى أهله .
    قال عبد الله بن قعين : فعجلت في أثره مسرعاً وكان لي من بني عمه صديق فأردت أن ألقى ابن عمه في ذلك فأعلمه بما كان من قوله لأمير المؤمنين وما رد عليه ، وآمر ابن عمه ذلك أن يشتد بلسانه عليه ، وأن يأمره بطاعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومناصحته ، ويخبره أن ذلك خير له في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . قال : فخرجت حتى انتهيت إلى منزله وقد سبقني فقمت عند باب داره ، وفي داره رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على علي ( عليه السلام ) ، فوالله ما رجع ولا ندم على ما قال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وما رد عليه ، ثم قال لهم : يا هؤلاء إني قد رأيت أن أفارق هذا الرجل وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد ، ولا أراني إلا مفارقه !
    فقال أكثر أصحابه : لا تفعل حتى تأتيه ، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه ، وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه ، فقال لهم : نعم ما رأيتم .
    قال : ثم استأذنت عليهم فأذنوا لي فأقبلت على ابن عمه وهو مدرك بن الريان
    --------------------------- 174 ---------------------------
    الناجي وكان من كبراء العرب فقلت له : إن لك عليَّ حقاً لإخائك ووُدك ، ولحق المسلم على المسلم ، إن ابن عمك كان منه ما قد ذكر لك فتخل به واردد عليه رأيه وعظم عليه ما أتى ، واعلم أنني خائف إن فارق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يقتلك ونفسه وعشيرته !
    فقال : جزاك الله خيراً من أخ فقد نصحت وأشفقت . إن أراد صاحبي فراق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فارقته وخالفته ، وكنت أشد الناس عليه ، وأنا بعد خال به ومشير عليه بطاعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومناصحته والإقامة معه ، وفي ذلك حظه ورشده ، فقمت من عنده وأردت الرجوع إلى علي ( عليه السلام ) لأعلمه الذي كان ، ثم اطمأننت إلى قول صاحبي فرجعت إلى منزلي فبت به ، ثم أصبحت فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فجلست عنده ساعة ، وأنا أريد أن أحدثه بالذي كان من قوله لي على خلوة ، فأطلت الجلوس فلم يزدد الناس إلا كثرة ، فدنوت منه فجلست وراءه فأصغى إلي برأسه فأخبرته بما سمعت من الخريت ، وما قلت لابن عمه وما رد علي ، فقال ( عليه السلام ) : دعه فإن قبل الحق ورجع عرفنا ذلك له وقبلناه منه ، وإن أبى طلبناه ، فقلت : يا أمير المؤمنين فلمَ لا تأخذه الآن فتستوثق منه ؟
    فقال : إنا لو فعلنا هذا لكل من نتهمه من الناس ملأنا السجون منهم !
    ولا أراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم ، حتى يظهروا لنا الخلاف ! قال : فسكت عنه وتنحيت فجلست مع أصحابي ، ثم مكثت ما شاء الله معهم .
    ثم قال لي علي ( عليه السلام ) : أدن مني فدنوت منه ثم قال لي مسراً : إذهب إلى منزل الرجل فاعلم لي ما فعل ؟ فإنه قل يوم لم يكن يأتيني فيه إلا قبل هذه الساعة قال : فأتيت منزله فإذا ليس في منزله منهم ديار ، فدرت على أبواب دور أخرى كان فيها طائفة أخرى من أصحابه ، فإذا ليس فيها داع ولا مجيب ، فأقبلت إلى علي ( عليه السلام ) فقال لي حين رآني : أأمنوا فقطنوا ، أم جبنوا فظعنوا ؟ قلت : بل ظعنوا ، قال : أبعدهم الله كما بعدت ثمود ! أما والله لو قد أشرعت لهم الأسنة وصبت على هامهم السيوف لقد ندموا ، إن الشيطان قد
    --------------------------- 175 ---------------------------
    استهواهم فأضلهم ، وهو غداً متبرئ منهم ومخلٍّ عنهم .
    فقام إليه زياد بن خصفة فقال : يا أمير المؤمنين إنه لو لم يكن من مضرَّة هؤلاء إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم علينا فنأسى عليهم ، فإنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا ، ولقلما ينقصون من عددنا بخروجهم منا ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليهم من أهل طاعتك ، فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك إن شاء الله .
    فقال له علي ( عليه السلام ) : أخرج في أثرهم راشداً ، فلما ذهب ليخرج قال له ( عليه السلام ) :
    وهل تدري أين توجه القوم ؟ فقال : لا والله ولكني أخرج فأسأل وأتبع الأثر ، فقال له علي ( عليه السلام ) : أخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى ثم لا تبرحه حتى يأتيك أمري ، فإنهم إن كانوا قد خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة ، فإن عمالي ستكتب إلي بذلك ، وإن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم ، وسأكتب إلى من حولي من عمالي فيهم ، فكتب نسخة واحدة وأخرجها إلى العمال :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من العمال : أما بعد ، فإن رجالاً لنا عندهم بيعة خرجوا هراباً فنظنهم توجهوا نحو بلاد البصرة ، فاسأل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ، ثم اكتب إلي بما ينتهي إليك عنهم . والسلام .
    فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره فجمع أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا معشر بكر بن وائل فإن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أموره مهم ، وأمرني بالإنكماش فيه بالعشيرة حتى آتي أمره ، وأنتم شيعته وأنصاره ، وأوثق حي من أحياء العرب في نفسه ، فانتدبوا معي في هذه الساعة وعجلوا . قال : فوالله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه منهم مائة رجل ونيف وعشرون أو ثلاثون ، فقال : اكتفينا ولا نريد أكثر من هؤلاء .
    قال : فخرج زياد حتى قطع الجسر ثم أتى دير أبي موسى فنزله فأقام به بقية يومه ذلك ، ينتظر أمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
    --------------------------- 176 ---------------------------
    عن عبد الله بن وال التيمي قال : إني والله لعند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، إذ جاءه فيج ( بريد ) بكتاب يسعى من قرظة بن كعب بن عمرو الأنصاري ، وكان أحد عماله فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله علي أمير المؤمنين من قرظة بن كعب : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أن خيلاً مرت بنا من قبل الكوفة متوجهة نحو نُفَّر ، وأن رجلاً من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم وصلى يقال له : زاذان فروخ ، أقبل من قبل إخوان له بناحية نُفَّر ، فلقوه فقالوا له : أمسلم أنت أم كافر ؟ قال : بل مسلم ، قالوا : ما قولك في علي بن أبي طالب ؟ قال : قولي فيه خير أقول إنه أمير المؤمنين ووصي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وسيد البشر ، فقالوا له : كفرت يا عدو الله ، ثم حملت عليه عصابة منهم فقطعوه بأسيافهم وأخذوا معه رجلاً من أهل الذمة يهودياً فقالوا له : ما دينك ؟ قال : يهودي ، فقالوا : خلوا سبيل هذا ، لا سبيل لكم عليه ، فأقبل إلينا ذلك الذمي فأخبرنا هذا الخبر ! وقد سألت عنهم فلم يخبرني عنهم أحد بشئ . فليكتب إليّ أمير المؤمنين فيهم برأيه أنتهِ إليه . والسلام .
    فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أما بعد فقد فهمت كتابك وماذكرت من أمر العصابة التي مرت بعملك فقتلت المرء المسلم وأمن عندهم المخالف المشرك ! وإن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا ، وكانوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ، فأسمع بهم وأبصر يوم تختبرأحوالهم ، فالزم عملك وأقبل على خراجك ، فإنك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك ، والسلام .
    قال : وكتب علي ( عليه السلام ) إلى زياد بن خصفة : أما بعد فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتى يأتيك أمري وذلك أني لم أكن علمت أين توجه القوم وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد ، يقال لها نُفَّر فاتبع آثارهم وسل عنهم ، فإنهم قد قتلوا رجلاً مسلماً من أهل السواد مصلياً ، فإذا أنت لحقتهم فارددهم إليَّ ، فإن أبوا فناجزهم واستعن بالله عليهم فإنهم قد فارقوا الحق ، وسفكوا الدم الحرام ، وأخافوا السبيل . والسلام .
    قال عبد الله بن وال : فأخذت الكتاب منه وخرجت من عنده وأنا يومئذ شاب
    --------------------------- 177 ---------------------------
    حدث فمضيت به غير بعيد فرجعت إليه فقلت : يا أمير المؤمنين ألا أمضي مع زياد بن خصفة إلى عدوك إذا دفعت إليه الكتاب ؟ فقال : يا ابن أخي إفعل ، فوالله إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين ، فقلت : يا أمير المؤمنين أنا والله كذلك ومن أولئك ، وأنا والله حيث تحب . قال ابن وال : فوالله ما أحب أن لي بمقالة علي ( عليه السلام ) حمر النعم قال : ثم مضيت إلى زياد بكتاب علي ( عليه السلام ) وأنا على فرس لي رائع كريم وعليَّ السلاح فقال لي زياد : يا ابن أخي والله ما لي عنك من غنى ، وإني لأحب أن تكون معي في وجهي هذا ، فقلت له : إني قد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لي ، فسر بذلك . ثم إنا خرجنا حتى أتينا الموضع الذي كانوا فيه ، فسألنا عنهم فقيل لنا : إنهم قد أخذوا نحو المدائن ، فلحقناهم وهم نزول بالمدائن وقد أقاموا بها يوماً وليلة وقد استراحوا وأعلفوا دوابهم فهم جامُّون مريحون ، وأتيناهم وقد انقطعنا ولغبنا ونصبنا ، فلما رأونا وثبوا على خيولهم واستووا عليها وجئنا حتى انتهينا إليهم فواقفناهم ، فنادانا صاحبهم الخريت بن راشد : يا عميان القلوب والأبصار أمع الله أنتم ومع كتابه وسنة نبيه ، أم مع القوم الظالمين ؟ فقال له زياد بن خصفة : لا ، بل والله نحن مع الله وكتابه وسنة رسوله ومع من الله ورسوله وكتابه آثر عنده من الدنيا ثواباً ، ولو أنها منذ يوم خلقت إلى يوم تفنى لآثر الله عليها ، أيها العمي الأبصار والصم القلوب والأسماع !
    فقال لنا الخريت : أخبروني ما تريدون ؟ فقال له زياد وكان مجرباً رفيقاً : قد ترى ما بنا من النصب واللغوب ، والذي جئنا له لا يصلحه الكلام علانية على رؤوس أصحابك ، ولكن إنزلوا وننزل ثم نخلو جميعاً فنذاكر أمرنا وننظر فيه ، فإن رأيت فيما جئنا له حظاً لنفسك قبلته ، وإن رأيت فيما أسمع منك أمراً أرجو فيه العافية لنا ولك ، لم أردده عليك .
    فقال له الخريت : إنزل فنزل ، ثم أقبل إلينا زياد فقال : إنزلوا على هذا الماء فأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فنزلنا به ، فما هو إلا أن نزلنا فتفرقنا ثم تحلقنا عشرة
    --------------------------- 178 ---------------------------
    وتسعة وثمانية وسبعة ، يضعون طعامهم بين أيديهم فيأكلون ثم يقومون إلى ذلك الماء فيشربون . فقال لنا زياد : علقوا على خيولكم فعلقنا عليها مخاليها ، ووقف زياد في خمسة فوارس أحدهم عبد الله بن وال فوقف بيننا وبين القوم ، فانطلق القوم فتنحوا ناحية ، فنزلوا وأقبل إلينا زياد فلما رأى تفرقنا وتحلقنا قال : سبحان الله أنتم أصحاب حرب ! والله لو أن هؤلاء القوم جاؤوكم الساعة على هذه الحال ما أرادوا من غرتكم أفضل من حالكم التي أنتم عليها ! عجلوا قوموا إلى خيولكم ، فأسرعنا وتحشحشنا فمنا من يتوضأ ، ومنا من يشرب ، ومنا من يسقي فرسه ، حتى إذا فرغنا من ذلك كله أتينا زياداً وإذا في يده عرق ينهش فنهشه نهشتين أو ثلاثاً ، ثم أتى بإداوة فيها ماء فشرب منه ، ثم ألقى العرق من يده ثم قال : يا هؤلاء إنا قد لقينا العدو وإن القوم لفي عدتكم ولقد حرزتكم وإياهم فما أظن أحد الفريقين يزيد على الآخر خمسة نفر ، ووالله إني ما أرى أمركم وأمرهم إلا يصير إلى القتال ، فإن كان ذلك
    فلا تكونوا أعجز الفريقين .
    قال : ثم قال لنا : ليأخذ كل رجل منكم بعنان فرسه حتى أدنو منهم وأدعوا إليَّ صاحبهم فأكلمه فإن تابعني على ما أريد وإلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيلكم ، ثم أقبلوا إليَّ معاً غير متفرقين ، فاستقدم أمامنا وأنا معه فسمعت رجلاً من القوم يقول : جاءكم القوم وهم كالُّون مُعْيُون وأنتم جامُّون مريحون ، فتركتموهم حتى نزلوا وأكلوا وشربوا وأراحوا دوابهم ، هذا والله سوء الرأي ، والله لا يرجع الأمر بكم وبهم إلا إلى القتال فسكتوا وانتهينا إليهم . ودعا زياد بن خصفة صاحبهم الخريت فقال له : اعتزل فلننظر في أمرنا ، فأقبل إليه في خمسة نفر ، فقلت لزياد : أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابنا حتى نلقاهم في عددهم ؟ فقال : أدع من أحببت منهم ، فدعوت له ثلاثة فكنا خمسة وهم خمسة . فقال له زياد : ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا إذ فارقتنا ؟ فقال له الخريت : لم أرض بصاحبكم إماماً ، ولم أرض بسيرتكم سيرة ، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى من الناس ، فإذا اجتمع الناس على رجل هولجميع الأمة رضاً كنت مع الناس . فقال له زياد : ويحك وهل يجتمع الناس على
    --------------------------- 179 ---------------------------
    رجل منهم يداني علياً صاحبك الذي فارقته علماً بالله وبكتابه وسنة رسوله ، مع قرابته منه ( ( عليهما السلام ) ) وسابقته في الإسلام ؟ فقال الخريت : ذلك ما أقول لك .
    فقال له زياد : ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم ؟ فقال له الخريت : ما أنا قتلته إنما قتلته طائفة من أصحابي ، فقال له زياد : فادفعهم إلي . فقال له الخريت : ما إلى ذلك سبيل ، فقال له زياد : وكذلك أنت فاعل ؟ قال : هو ما تسمع . قال : فدعونا أصحابنا ، ودعا الخريت أصحابه ثم اقتتلنا ، فوالله ما رأيت قتالاً مثله منذ خلقني الله ، لقد تطاعنا الرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح ، ثم اضطربنا بالسيوف حتى انحنت ، وعقرت عامة خيلنا وخيلهم ، وكثرت الجراح فيما بيننا وبينهم ، وقتل منا رجلان مولى لزياد كانت معه رايته يدعى سويدا ، ورجل من الأبناء يدعى واقد بن بكر ، وصرعنا منهم خمسة نفر وحال الليل بيننا وبينهم وقد والله كرهونا وكرهناهم ، وهَرَوْنا وهروناهم ، وقد جرح زياد وجرحت . ثم إنا بتنا في جانب وتنحوا فمكثوا ساعة من الليل ثم إنهم مضوا وذهبوا . فأصبحنا فوجدناهم قد ذهبوا ، فوالله ما كرهنا ذلك ، فمضينا حتى أتينا البصرة ، وبلغنا أنهم أتوا الأهواز فنزلوا في جانب منها ، فتلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مائتين كانوا معهم بالكوفة ، ولم يكن معهم من القوة ما ينهضهم معهم حين نهضوا فاتبعوهم من بعد فلحقوهم بأرض الأهواز فأقاموا معهم .
    قال : وكتب زياد بن خصفة إلى علي ( عليه السلام ) : أما بعد فإنا لقينا عدو الله الناجي وأصحابه بالمدائن ، فدعوناهم إلى الهدى والحق وكلمة السواء فتولوا عن الحق ، فأخذتهم العزة بالإثم ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ، فقصدونا وصمدنا صمدهم فاقتتلنا قتالاً شديداً ما بين قائم الظهيرة إلى أن دلكت الشمس ، واستشهد منا رجلان صالحان وأصيب منهم خمسة نفر ، وخلوا لنا المعركة وقد فشت فينا وفيهم الجراح ، ثم إن القوم لما لبسهم الليل خرجوا من تحته متنكرين إلى أرض الأهواز ، وقد بلغني أنهم نزلوا منها جانباً ، ونحن بالبصرة نداوي جراحنا ، وننتظر أمرك رحمك الله . والسلام . قال : فلما أتيته
    --------------------------- 180 ---------------------------
    بكتابه قرأه على الناس فقام إليه معقل بن قيس ، فقال : أصلحك الله يا أمير المؤمنين إنما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين ، فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم ، وقطعوا دابرهم ، فأما أن يلقاهم أعدادهم فلعمري ليصبرن لهم فإنهم قوم عرب ، والعدة تصبر للعدة وتنتصف منها فيقاتلون كل القتال .
    فقال له علي ( عليه السلام ) : تجهز يا معقل إليهم ، وندب معه ألفين من أهل الكوفة فيهم يزيد بن المغفل ، وكتب إلى عبد الله بن العباس بالبصرة : أما بعد فابعث رجلاً من قبلك صليباً شجاعاً معروفاً بالصلاح في ألفي رجل من أهل البصرة فليتبع معقل بن قيس ، فإذا خرج من أرض البصرة فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلاً ، فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين ، فليسمع منه وليطعه ولا يخالفه ، ومر زياد بن خصفة فليقبل إلينا ، فنعم المرء زياد ونعم القبيل قبيله . والسلام .
    قال : وكتب علي ( عليه السلام ) إلى زياد بن خصفة : أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به الناجي وأصحابه الذين طبع الله على قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم ، فهم حيارى عمون ، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ووصفت ما بلغ بك وبهم الأمر ، فأما أنت وأصحابك فلله سعيكم وعليه جزاؤكم ، وأيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها ، فما عندكم ينفد وما عند الله باق ، ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .
    وأما عدوكم الذين لقيتموهم فحسبهم بخروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلال ، وردهم الحق وجماحهم في التيه ، فذرهم وما يفترون ، ودعهم في طغيانهم يعمهون ، فأسمع بهم وأبصرفكأنك بهم عن قليل بين أسير وقتيل ، فأقبل إلينا أنت وأصحابك مأجورين ، فقد أطعتم وسمعتم وأحسنتم البلاء والسلام .
    قال : ونزل الناجي جانباً من الأهواز واجتمع إليه علوج من أهلها كثير ممن أراد كسر الخراج ومن اللصوص وطائفة أخرى من الأعراب ترى رأيه .
    عن عبد الله بن قعين ، قال : كنت أنا وأخي كعب بن قعين في ذلك الجيش مع معقل
    --------------------------- 181 ---------------------------
    بن قيس ، فلما أراد الخروج أتى علياً ( عليه السلام ) يودعه فقال له علي : يا معقل إتق الله ما استطعت فإنها وصية الله للمؤمنين ، لاتبغ على أهل القبلة ، ولا تظلم أهل الذمة ، ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين .
    فقال معقل : الله المستعان ، فقال : خير مستعان . ثم قام فخرج وخرجنا معه حتى نزل الأهواز ، فأقمنا ننتظر أهل البصرة فأبطؤوا علينا .
    فقام معقل فقال : يا أيها الناس إنا قد انتظرنا أهل البصرة وقد أبطؤوا علينا وليس بنا بحمد الله قلة ولا وحشة إلى الناس ، فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل ، فإني أرجو أن ينصركم الله وأن يهلكهم ، فقام إليه أخي كعب بن قعين فقال : أصبت إن شاء الله ، رأينا رأيك وإني لأرجو أن ينصرنا الله عليهم ، وإن كانت الأخرى فإن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا ، فقال : سيروا على بركة الله ، فسرنا ، فوالله ما زال معقل بن قيس لي مكرماً مواداً ما يعدل بي أحداً من الجند ، وقال معقل لأخي : كيف قلت : إن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا ، صدقت والله وأحسنت ووفقت وفقك الله قال : فوالله ما سرنا يوماً وإذا بفيج يشتد بصحيفة في يده من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس : أما بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت مقيماً به أو أدركك وقد شخصت منه ، فلا تبرحن من المكان الذي ينتهي إليك رسولي فيه حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك .
    وقد وجهنا إليك خالد بن معدان الطائي وهو من أهل الدين والصلاح والبأس والنجدة فاسمع منه ، واعرف ذلك له إن شاء الله ، والسلام .
    قال : فقرأ معقل بن قيس كتابه على أصحابه فسروا به وحمدوا الله ، وقد كان ذلك الوجه هالهم ، قال : فأقمنا حتى قدم الطائي علينا وجاءنا حتى دخل على صاحبنا فسلم عليه بالإمرة واجتمعا جميعاً في عسكر واحد ، ثم خرجنا إلى الناجي وأصحابه ، فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز يريدون قلعة بها حصينة ، وجاءنا أهل البلد فأخبرونا بذلك ، فخرجنا في آثارهم نتبعهم
    --------------------------- 182 ---------------------------
    فلحقناهم وقد دنوا من الجبل ، فصففنا لهم ثم أقبلنا نحوهم فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المغفل الأزدي ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من بني السيد من أهل البصرة ، فوقف الخريت بن راشد الناجي فيمن معه من العرب فكانوا ميمنة ، وجعل أهل البلد والعلوج ومن أراد كسر الخراج وجماعة من الأكراد ميسرة .
    قال وسار فينا معقل يحرضنا ويقول لنا : يا عباد الله لا تبدؤوا القوم وغضوا الأبصار ، وأقلوا الكلام ، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب ، وأبشروا في قتالهم بالأجر العظيم ، إنما تقاتلون مارقة مرقت من الدين وعلوجاً منعوا الخراج ، ولصوصاً وأكراداً . أنظروني فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد ، قال : فمر في الصف كله يقول لهم هذه المقالة حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل فوقف وسط الصف في القلب ونظرنا إليه ما يصنع ، فحرك رايته تحريكتين ، ثم حمل في الثالثة وحملنا معه جميعاً ، فوالله ما صبروا لنا ساعة واحدة حتى ولوا وانهزموا ، وقتلنا سبعين عربياً من بني ناجية ومن بعض من اتبعه من العرب ، وقتلنا نحو ثلاث مائة من العلوج والأكراد .
    قال كعب بن قعين : ونظرت فيمن قتل من العرب فإذا صديقي مدرك بن الريان قتيلاً ، وخرج الخريت منهزماً حتى لحق بسيف من أسياف البحر وبها جماعة من قومه كثير ، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويزين لهم فراقه ويخبرهم أن الهدى في فراقه وحربه ومخالفته ، حتى اتبعه منهم ناس كثير . وأقام معقل بن قيس بأرض الأهواز وكتب إلى علي ( عليه السلام ) معي بالفتح ، وكنت أنا الذي قدم بالكتاب عليه وكان في الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله علي أمير المؤمنين من معقل بن قيس ، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنا لقينا المارقين ، وقد استظهروا علينا بالمشركين فقتلنا منهم ناساً كثيراً ، ولم نتعد فيهم سيرتك ، فلم نقتل منهم مدبراً ولا أسيراً ، ولم نذفف منهم على جريح ، وقد نصرك الله والمسلمين ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام .
    قال : فقدمت بالكتاب فقرأه أمير المؤمنين على أصحابه واستشارهم في الرأي ، فاجتمع رأي عامتهم على قول واحد فقالوا : يا أمير المؤمنين نرى أن تكتب إلى معقل
    --------------------------- 183 ---------------------------
    بن قيس أن يتبع آثارهم ولا يزال في طلبهم حتى يقتلهم أو ينفيهم من أرض الإسلام ، فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس ، قال : فردني إليه وكتب معي :
    أما بعد فالحمد لله على تأييد أوليائه وخذلان أعدائه . جزاك الله والمسلمين خيراً فقد أحسنتم البلاء وقضيتم ما عليكم ، وسل عن أخي بني ناجية ، فإن بلغك أنه قد استقر ببلد من بلاد المسلمين فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه ، فإنه لن يزال للمسلمين عدواً وللقاسطين ولياً ما بقي ، والسلام . قال : فسأل معقل عن مسيره ، والمكان الذي انتهى إليه ، فنبئ بمكانه بالأسياف أسياف فارس ، وأنه قد رد قومه عن طاعة علي ( عليه السلام ) وأفسد من قبله من عبد القيس ومن والاهم من سائر العرب ، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين ومنعوها في ذلك العام أيضاً ، فكان عليهم عقالان فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة ، فأخذوا على أرض فارس حتى انتهوا إلى أسياف البحر ، فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره أقبل على من كان معه من أصحابه ممن يرى رأي الخوارج فأسر إليهم إني أرى رأيكم ، فإن علياً لم ينبغ له
    أن يحكم الرجال في أمر الله .
    وقال للآخرين من أصحابه مسراً إليهم : إن علياً قد حكم حكماً ورضي به فخلعه حكمه الذي ارتضاه لنفسه ، فقد رضيت أنا من قضائه وحكمه ما ارتضاه لنفسه . وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة .
    وقال مسراً لمن يرى رأي عثمان : أنا والله على رأيكم وقد قتل عثمان مظلوماً معقولاً . وقال لمن منع الصدقة : شدوا أيديكم على صدقاتكم ثم صلوا بها أرحامكم وعودوا بها إن شئتم على فقرائكم ، فأرضى كل صنف منهم بضرب من القول ، وأراهم أنه على رأيهم .
    قال : وكان فيهم نصارى كثير وقد كانوا أسلموا ، فلما اختلف الناس بينهم قالوا : والله لديننا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذين لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبل ، فرجعوا إلى دينهم ، فلقي الخريت أولئك
    --------------------------- 184 ---------------------------
    فقال : ويحكم إنه لا ينجيكم من القتل إلا الصبر لهؤلاء القوم وقتالهم ، أتدرون ما حكم علي فيمن أسلم من النصارى ثم رجع إلى النصرانية ؟ إنه لا والله لا يسمع له قولاً ، ولا يرى له عذراً ، ولا يقبل منه توبة ، ولا يدعوه إليها ، وإن حكمه فيه لضرب عنقه ساعة يستمكن منه ، فما زال حتى جمعهم وخدعهم ، وجاء من كان من بني ناجية في تلك الناحية ومن غيرهم ، فاجتمع إليه ناس كثير . قال : ففعل هذا الخريت بالناس وجمعهم بالخديعة والمكر وكان منكراً داهياً .
    فلما رجع معقل قرأ على أصحابه كتاباً من علي ( عليه السلام ) فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين والمارقين والنصارى والمرتدين . سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه والبعث بعد الموت ، وافياً بعهد الله ولم يكن من الخائنين . أما بعد فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وأن أعمل فيكم بالحق وبما أمر الله تعالى به في كتابه ، فمن رجع منك إلى رحله وكف يده واعتزل هذا المارق الهالك المحارب الذي حارب الله ورسوله والمسلمين ، وسعى في الأرض فساداً فله الأمان على ماله ودمه ، من تابعه على حربنا والخروج من طاعتنا ، استعنا بالله عليه وجعلنا الله بيننا وبينه وكفى بالله ولياً ، والسلام .
    قال : فأخرج معقل راية أمان فنصبها وقال : من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرة ، فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه ، وعبأ معقل بن قيس أصحابه فجعل على ميمنته يزيد بن المغفل الأزدي ، وعلى ميسرته المنجاب بن راشد الضبي ، ثم زحف بهم نحو الخريت وعامة قومه ، وقد حضر معه جميع قومه مسلمهم ونصرانيهم ، ومانعوا الصدقة منهم ، فجعل مسلميهم ميمنة ، والنصارى ومانعي الصدقة ميسرة . قال : وجعل الخريت يومئذ يقول لقومه : إمنعوا اليوم حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وأولادكم ، فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم !
    فقال له رجل من قومه : هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك ، فقال لهم : قاتلوا فقد سبق السيف العذل ، إيهاً والله لقد أصابت قومي داهية !
    --------------------------- 185 ---------------------------
    عن عبد الله بن قعين قال : سار فينا معقل يحرض الناس فيما بين الميمنة والميسرة ويقول : أيها الناس المسلمون ما تدرون أفضل مما سيق إليكم في هذا الموقف من الأجر العظيم ، إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة وارتدوا عن الإسلام ونكثوا البيعة ظلماً وعدواناً ، إني شهيد لمن قتل منكم بالجنة ، ولمن عاش بأن الله يقر عينه بالفتح والغنيمة ، ففعل ذلك حتى مر بالناس أجمعين ، ثم إنه وقف في القلب برايته ، وبعث إلى يزيد بن المغفل وهو في الميمنة : أن احمل عليهم ، فحمل ، فثبتوا له فقاتلوا قتالاً شديداً ثم إنه انصرف حتى وقف موقفه الذي كان فيه من الميمنة ، ثم بعث إلى المنجاب بن راشد الضبي وهو في الميسرة أن احمل عليهم ، فحمل فثبتوا له فقاتلوا قتالاً شديداً طويلاً ، ثم إنه رجع حتى وقف موقفه الذي كان فيه من الميسرة ، ثم إن معقلاً بعث إلى ميمنته وميسرته : إذا حملت فاحملوا جميعاً ، فحرك دابته وضربها ثم حمل وحمل أصحابه جميعاً فصبروا لهم ساعة .
    ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فضربه فصرعه عن فرسه ، ثم إنه نزل إليه وقد جرحه فأثخنه فاختلف بينهما ضربات فقتله النعمان بن صهبان ، وقتل معه في المعركة سبعون ومائة ، وذهب الباقون في الأرض يميناً وشمالاً وبعث معقل الخيل إلى رحالهم ، فسبى من أدرك منهم فسبى رجالاً ونساءً وصبياناً ، ثم نظر فيهم فمن كان مسلماً فخلاه وأخذ بيعته وخلى سبيل عياله ، ومن كان ارتد عن الإسلام فعرض عليه الرجوع إلى الإسلام وإلا القتل ، فأسلموا فخلى سبيلهم وسبيل عيالاتهم إلا شيخاً منهم نصرانياً يقال له : الرماجس بن منصور فإنه قال : والله ما زللت مذ عقلت إلا في خروجي من ديني دين الصدق إلى دينكم دين السوء ، لا والله لا أدع ديني ولا أقرب دينكم ما حييت ، فقدمه معقل بن قيس فضرب عنقه . وجمع الناس فقال : أدوا ما عليكم في هذه السنين من الصدقة ، فأخذ من المسلمين عقالين .
    وعمد إلى النصارى وعيالاتهم فاحتملهم معه ثم أقبل حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني وهو عامل لعلي ( عليه السلام ) على أردشير خرة وهم خمس مائة إنسان ،
    --------------------------- 186 ---------------------------
    فبكى إليه النساء والصبيان ، وصاح الرجال : يا أبا الفضل ، يا حامل الثقل ومأوى الضعيف ، فكاك العناة أمنن علينا فاشترنا وأعتقنا ، فقال مصقلة : بعني نصارى بني ناجية فقال : نعم أبيعكهم بألف ألف درهم فأبى عليه ، فلم يزل يراوده حتى باعه إياهم بخمس مائة ألف درهم ودفعهم إليه وقال له : عجل بالمال إلى أمير المؤمنين فقال مصقلة : أنا باعث الآن بصدر منه ، ثم أبعث بصدر آخر ، ثم كذلك حتى لا يبقى منه شئ إن شاء الله . قال : وأقبل معقل إلى علي ( عليه السلام ) فأخبره بما كان منه في ذلك فقال له علي : أحسنت وأصبت ووفقت . قال : وانتظر علي مصقلة أن يبعث إليه بالمال فأبطأ به فبلغ علياً أن مصقلة خلى سبيل الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشئ . فقال : ما أرى مصقلة إلا قد حمل حمالة لا أراكم إلا سترونه عن قريب مبلدحاً ! ثم أقبل ( مصقلة ) حتى أتى علياً ( عليه السلام ) بالكوفة ، فأقره علي أياماً لم يذكر له شيئاً ، ثم سأله المال ، فأدى إليه مائتي ألف درهم ، وعجز عن الباقي فلم يقدر عليه . ثم لحق بمعاوية ! فبلغ ذلك علياً ( عليه السلام ) فقال ( نهج البلاغة : 1 / 95 ) : ( قبح الله مصقلة ، فعل فعل السادات وفر فرار العبيد ، فما أنطق مادحه حتى أسكته ، ولا صدَّق واصفه حتى بكته ، ولو أقام لأخذنا ميسوره ، وانتظرنا بماله وفوره » .
    وقال ( عليه السلام ) في الخرِّيت كما في رواية الطبري ( 4 / 98 ) : ( هوت أمه ، ما كان أنقص عقله وأجرأه على ربه ، فإنه جاءني مرة فقال لي : إن في أصحابك رجالاً قد خشيت أن يفارقوك فما ترى فيهم ؟ فقلت له : إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن ، ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة ، ثم لست مقاتله حتى أدعوه وأعذر إليه ، فإن تاب ورجع إلينا قبلنا منه وهو أخونا ، وإن أبى إلا الإعتزام على حربنا استعنا بالله عليه وناجزناه ، فكف عني ما شاء الله ، ثم جاءني مرة أخرى فقال لي : إني خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب ، وزيد بن حصين الطائي . إني سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما عليها حتى تقتلهما أو توثقهما ، فلا يفارقان محبسك أبداً ، فقلت : إني مستشيرك فيهما فماذا تأمرني به ؟ قال : إني آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما ، فعلمت أنه لا ورع له ولا عقل ! فقلت : والله ما أظن أن لك ورعاً
    --------------------------- 187 ---------------------------
    ولاعقلاً نافعاً ، والله كان ينبغي لك أن تعلم أني لاأقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته ، ولم يناصبني بالذي كنت أعلمتكه من رأيي حيث جئتني في المرة الأولى ووصفت أصحابك عندي !
    ولقد كان ينبغي لك لو أردتُ قتلهم أن تقول لي : إتق الله ، لمَ تستحل قتلهم ؟ ولم يقتلوا أحداً ولم ينابذوك ، ولم يخرجوا من طاعتك ) !
    ملاحظات
    1 . سياسة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع من خالفه ، أن يعطيهم الحرية الكاملة في القول والعمل ، ويحفظ لهم حقوقهم المدنية وعطاءهم من بيت المال ، حتى يرتكبوا إفساداً في المجتمع أو يقاوموا الدولة بالسلاح ! وهي حرية لم يعطها حاكم بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) لمعارضيه . لكن في رواية أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قطع العطاء عمن لم يقاتل معه ، فتكون استثناء لمصلحة .
    قال القاضي النعمان في دعائم الإسلام ( 1 / 391 ) : ( وروينا عنه صلوات الله عليه وعلى الأئمة من ولده ، أنه قطع العطاء عمن لم يشهد معه وأقامهم مقام أعراب المسلمين وأن ابن عمر كتب إليه يسأله العطاء فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : شككت في حربنا فشككنا في عطائك ، فرد عليه ابن عمر : والله إني لنادم على تخلفي عنك ! وكلمه فيه الحسن فأعطاه ، فدل ذلك على أنه إنما أعطاه بعد التوبة ) . وكأنه استثنى هؤلاء من القاعدة تأديباً لهم ، ولمدة .
    2 . معقل بن قيس رضي الله عنه من صناديد العرب ، ومن خاصة أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، حضر معه مشاهده ، فكان في حرب الجمل على الرجالة من تميم الكوفة . ( الجمل للمفيد / 172 ) . وكان قائداً بارزاً في صفين ( الفتوح : 3 / 147 ) وقائد الميسرة في النهروان ( الطبري : 4 / 63 ) وكان قائد شرطة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( الغارات : 2 / 783 ) وبعثه لمطاردة الخريت بن راشد الخارجي إلى الأهواز فقاتله وهزمه ، ثم طارده إلى فارس حتى قتله . ( الفتوح : 4 / 84 ) .
    وفي سنة تسع وثلاثين للهجرة بعث معاوية يزيد بن شجرة للإغارة على مكة ،
    --------------------------- 188 ---------------------------
    وإفساد موسم الحج على المسلمين ، فكتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى واليه على مكة قثم بن العباس : وقد وجهت إليكم جمعاً من المسلمين ذوي بسالة ونجدة ، مع الحسيب الصليب الورع التقي معقل بن قيس الرياحي . وهي شهادة عظيمة في معقل رضي الله عنه ، فهرب منه ابن شجرة ، وأدرك بعض جيشه بوادي القرى فأسرهم . وفاداهم الإمام ( عليه السلام ) بأناس كان أسرهم معاوية ( الغارات : 2 / 503 ) ثم اختاره أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليكر على معاوية ، فاستشهد الإمام ( عليه السلام ) ، ورجع معقل إلى الكوفة . ( الغارات : 2 / 481 ) .
    3 . ذكر اليعقوبي ( 2 / 194 ) أن الخريت كان خرج في الكوفة وقتل جماعة ، وطلبهم الناس ، فخرج الخريت وأصحابه من الكوفة ، فجعلوا لا يمرون ببلد إلا انتهبوا بيت ماله حتى صاروا إلى سيف عمان ، وكان علي قد وجه الحلو بن عوف الأزدي عاملاً على عمان ، فوثبت به بنو ناجية فقتلوه ، وارتدوا عن الإسلام ، فوجه علي معقل بن قيس الرياحي إلى البلد ، فقتل الخريت بن راشد وأصحابه ، وسبى بني ناجية ، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وأنفذ بعض الثمن ، ثم هرب إلى معاوية ، وأمر علي بهدم داره ، وأنفذ عتق بني ناجية ، وكانوا يدعون أنهم من ولد سامة بن لؤي ) .
    ونحوه تهذيب الأحكام ( 10 / 139 ) وفيه : ( كانوا يسكنون الأسياف وكانوا يدعون في قريش نسباً ، وكانوا نصارى فأسلموا ثم رجعوا عن الإسلام . . فاشتراهم مصقلة بن هبيرة بمائة ألف درهم فأعتقهم ، وحمل إلى علي خمسين ألفاً فأبى أن يقبلها . قال : فدفنها في داره ولحق بمعاوية ) .
    وفي الإصابة ( 2 / 235 ) : ( لقي الخريت بن راشد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بين مكة والمدينة في وفد بني سامة بن لؤي فاستمع لهم وقال لقريش : هؤلاء قوم لُد ) ولا يبعد أن يكونوا جادلوه ( ( عليهما السلام ) ) لأنه نفى نسبهم إلى قريش ، فقد روي عنه أنه قال : إن عمي سامة لم يعقب ) . ( الغارات : 2 / 772 ) .
  • *
    --------------------------- 189 ---------------------------
    خوارج آخرون أقل شأناً من الخريت
    قال البلاذري ( 2 / 480 ) وابن الأثير في الكامل ( 3 / 372 ) : ( قالوا : أول من خرج على عليّ بعد مقتل أهل النهروان أشرس بن عوف الشيباني خرج بالدسكرة في مأتين ثم صار إلى الأنبار ، فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاث مأة ، فواقعه فقتل أشرس في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين .
    وكان الأشرس لما توجه يريد النهر لقيه علي بن الحرث بن يزيد بن رويم ليمنعه فطعنه وقال خذها من ابن عم لك مفارق ، لولا نصرته الحق كان بك ضنينا ! فيقال إنه قتله ، والثبت أنه بقي وكان فيمن لقيه فضربه وقال : خذها من ابن عم لك شانٍ .
    قالوا : ثم خرج هلال بن علقمة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد ، وقال بعضهم إن الرئاسة كانت لمجالد ، فأتى ماسبذان يدعو إلى رأيه ويقاتل من قاتله ، فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مأتين ، وكان مقتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين .
    أمر الأشهب بن بشير القرني : وبعضهم يقول : الأشعث ، وكان من بجيلة وهو كوفي . قالوا : ثم خرج الأشهب في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين في مائة وثلاثين ، فأتى المعركة التي أصيب ابن علقمة وأصحابه فيها فصلى عليه ، وأجنَّ من قَدِر عليه منهم ، فوجه إليه عليٌّ جارية بن قدامة التميمي ويقال حجر بن عدي ، فأقبل إليهم الأشهب فالتقوا بجرجرايا من أرض جوخا ، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين .
    أمر سعيد بن قفل التيمي : من تيم الله بن ثعلبة بن عكاية . قالوا : ثم خرج سعيد بن قفل التيمي في رجب بالبند نيجين ، وكان معه مائتا رجل ، فأقبل حتى أتى قنطرة الدرزيجان وهي على فرسخين من المدائن ، فكتب علي إلى سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد ابن مسعود وكان عامله على المدائن في أمره ، فخرج إلى ابن قفل وأصحابه فواقعهم فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين
    --------------------------- 190 ---------------------------
    وبعضهم يقول : هو سعد بن قفل .
    أمر أبي مريم السعدي : من سعد مناة بن تميم . قالوا : رجع عليٌّ إلى الكوفة من النهروان وبها ثلاثة آلاف من الخوارج ، وألف في عسكره ممن فارق ابن وهب وجاء إلى راية أبي أيوب الأنصاري ، ومن كان بالنخيلة ممن خرج يريد أهل الشام قبل النهروان ، فلما قاتل عليّ أهل النهر أقاموا ولم يقاتلوا معه ، وقوم بالكوفة لا يرون قتاله ولا القتال معه . فأتى أبو مريم بعد وقعة النهر شهر زور في مأتين ، جلهم مَوَال فأقام بشهر زور أشهراً يحض أصحابه ويذكرهم أمر النهر ، واستجاب له أيضاً قوم من غير أصحابه ، فقدم المدائن في أربع مائة ، ثم أتى الكوفة ، فأقام على خمسة فراسخ منها ، فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته وأن يدخل المصر ، فيكون فيه مع من لا يقاتله ولا يقاتل معه ، فقال : ما بيني وبينك إلا الحرب !
    فبعث إليه علي شريح بن هانئ في سبع مائة فدعاه إلى بيعة علي أو دخول المصر ، لايقاتله ولا يقاتل معه . فقال أبو مريم : يا أعداء الله أنحن نبايع علياً ونقيم بين أظهركم يجور علينا إمامكم ، وقد قتلتم عبد الله بن وهب وزيد بن حصين ، وحرقوص بن زهير ، وإخواننا الصالحين ! ثم تنادوا بالتحكيم وحملوا على شريح وأصحابه فانكشفوا ، وبقي شريح في مأتين ، فانحاز إلى بعض القرى وتراجع إليه بعض أصحابه فصار في خمس ومائة ، ودخل الباقون الكوفة ، فأرجفوا بقتل شريح ، فخرج علي بنفسه وقدم أمامه جارية بن قدامة في خمس مائة ثم أتبعه في ألفين فمضى جارية حتى صار بإزاء الخوارج فقال لأبي مريم : ويحك أرضيت لنفسك أن تقتل مع هؤلاء العبيد ؟ والله لئن وجدوا ألم الحديد ليسلمنك ! فقال : إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ! ولحقهم علي فدعاهم إلى بيعته فأبوها وحملوا على علي فجرحوا عدة من أصحابه ، ثم قُتلوا ، إلا خمسين رجلاً استأمنوا فآمنهم علي . وكان في الخوارج أربعون جريحاً ، فأمر عليٌّ بإدخالهم الكوفة ومداواتهم ، ثم قال لهم : ألحقوا بأيّ البلاد شئتم . وكان مقتل أبي مريم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين .
    وقال أبو الحسن المدائني : كان أبو مريم في أربع مائة من الموالي والعجم ليس فيهم
    --------------------------- 191 ---------------------------
    من العرب إلا خمسه من بني سعد ، وأبو مريم سادسهم ) .
    وذكر ابن الأثير في الكامل ( 3 / 272 ) خمسة خوارج بعد النهروان ، قال : ( ذكر أمر الخوارج بعد النهروان : لما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على علي بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاث مائة فواقعه فقتل أشرس في ربيع الآخرة سنة ثمان وثلاثين . ثم خرج هلال بن علقمة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتى ماسبذان فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه ، وهم أكثر من مائتين ، وكان قتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين .
    ثم خرج الأشهب بن بشر وقيل الأشعث وهو من بجيلة في مائة وثمانين رجلاً فأتى المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلى عليهم ، ودفن من قدر عليه ، فوجه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي وقيل حجر بن عدي فأقبل إليهم الأشهب فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى ، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين .
    ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتى درزنجان وهي من المدائن على فرسخين ، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين .
    ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى شهرزور وأكثر من معه من الموالي وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم واجتمع معه مائتا رجل وقيل أربع مائة وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة ، فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة فلم يفعل وقال : ليس بيننا غير الحرب فبعث إليه عليٌّ شريح بن هانئ في سبع مائة فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين ، فانحاز في قرية فتراجع إليه بعض أصحابه ، ودخل الباقون الكوفة ، فخرج علي بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي ، فدعاهم جارية إلى طاعة علي وحذرهم القتل فلم يجيبوا ولحقهم علي
    --------------------------- 192 ---------------------------
    أيضاً فدعاهم فأبوا عليه وعلى أصحابه ، فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلاً ، استأمنوا فأمنهم ، وكان في الخوارج أربعون رجلاً جرحى فأمرعلي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برؤوا ، وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين . وكانوا من أشجع من قاتل من الخوارج ، ولجرأتهم قاربوا الكوفة ) .
  • *
    --------------------------- 193 ---------------------------
    الفصل الثالث والتسعون
    غارات معاوية على دولة أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    تهارش معاوية وعمرو على الخلافة مهارشة الذئاب !
    رجع عمرو العاص من دومة الجندل إلى الشام فرحاً بنجاح مكيدته لأبي موسى الأشعري ، وأخذه الغرور ، فقرر أن يأخذ الخلافة بدل معاوية ، بحجة أنه اتفق مع أبي موسى على خلع علي ومعاوية ، وله الحق أن يعين الخليفة الذي يريد !
    وتكلم عمرو مع رؤساء أهل الشام وقال لهم : ألستم أعطيتموني العهد والميثاق قبل التحكيم أن تقبلوا برأيي في الخلافة ؟ فقالوا : بلى . فذهب إلى منزله ولم يذهب إلى معاوية ، ولما عرف معاوية بعمله جُن جنونه ، وخاض معه معركة مكر شيطاني ، وتهارش حيواني ، وعنف قرشي ، على الخلافة ، كأشد ما تتهارش الذئاب والكلاب ! كما نص المؤرخون ، فقد قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 400 ) :
    ( قال عمرولأبي موسى : سَمِّ من شئت حتى أنظر معك ، فسمى أبو موسى ابن عمر وغيره ، ثم قال لعمرو : قد سميت أنا فسم أنت ، قال : نعم ، أسمي لك أقوى هذه الأمة عليها ، وأسدها رأياً ، وأعلمها بالسياسة ، معاوية بن أبي سفيان . قال : لا والله ما هو لذلك بأهل ، قال : فآتيك بآخر ليس هو بدونه ، قال : من هو ؟ قال : أبو عبد الله عمرو بن العاص ، فلما قالها علم أبو موسى أنه يلعب به ، فقال : فعلتها لعنك الله ولعن الذي أرسلك ، فتسابَّا ، فلحق أبو موسى بمكة . فلما انصرف أبو موسى انصرف عمرو بن العاص إلى منزله ، ولم يأت إلى معاوية ، فأرسل اليه معاوية يدعوه فقال : إنما كنت أجيئك إذ كانت لي إليك حاجة ، فأما إذا كانت الحاجة إلينا فأنت أحق ان تأتينا ، فعلم معاوية ما قد دُفع اليه ( دُبِّرَ له ) ، فخمَّرَ الرأي
    --------------------------- 194 ---------------------------
    وأعمل الحيلة ، وأمر معاوية بطعام كثير فصنع ثم دعا بخاصته ومواليه وأهله فقال : إني سأغدو إلى عمرو فإذا دعوت بالطعام فدعوا مواليه وأهله فليجلسوا قبلكم ، فإذا شبع رجل منهم وقام فليجلس رجل منكم مكانه ، فإذا خرجوا ولم يبق في البيت أحد منهم فأغلقوا باب البيت ، واحذروا أن يدخل أحد منهم إلا أن آمركم ! وغدا إليه معاوية وعمرو جالس على فراشه ، فلم يقم له عنهاولا دعاه إليها ، فجاء مُعاوية وجلس على الأرض واتكأ على ناحية الفراش وذلك أن عمراً كان يحدث نفسه أنه قد ملك الأمر وإليه العقد ، يضعها فيمن يرى ويندب للخلافة من يشاء ، فجرى بينهما كلام كثير ، وكان مما قال له عمرو : هذا الكتاب الذي بيني وبينه عليه خاتمي وخاتمه ، وقد أقر بأن عثمان قتل مظلوماً ، وأخرج علياً من هذا الأمر وعَرَض عليَّ رجالاً لم أرهم أهلًا لها ، وهذا الأمر إليَّ أن أستخلف من شئته وقد أعطاني أهل الشام عهودهم ومواثيقهم !
    فحادثه معاوية ساعة وأخرجه عما كانوا عليه ، وضاحكه وداعبه ثم قال : يا أبا عبد الله هل من غداء ؟ قال : أما والله شئ يشبع من ترى فلا ، فقال معاوية : هلم يا غلامي غداءك ؟ فجئ بالطعام المستعد فوضع فقال : يا أبا عبد الله أدع مواليك وأهلك ، فدعاهم ثم قال له عمرو : وادع أنت أصحابك ، قال : نعم يأكل أصحابك أولاً ، ثم يجلس هؤلاء بعدُ ، فجعلوا كلما قام رجل من حاشية عمرو قعد موضعه رجل من حاشية معاوية ، حتى خرج أصحاب عمرو وبقي أصحاب معاوية ، فقام الذي وكله بغلق الباب فأغلق الباب ، فقال له عمرو : فعلتها ! فقال : إي والله بيني وبينك أمران فاخترأيهما شئت : البيعة لي ، أو أقتلك ، ليس والله غيرهما !
    قال عمرو : فأذَنْ لغلامي وردان حتى أشاوره وأنظر رأيه ، قال : لا تراه والله ولا يراك إلا قتيلاً ، أو على ما قلت لك ! قال : فالوفاء إذن بطعمة مصر ، قال : هي لك ما عشت ! فاستوثق كل واحد منهما من صاحبه وأحضر معاوية الخواصَّ من أهل الشام ، ومنع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو ، فقال لهم عمرو : قد رأيت أن أبايع معاوية فلم أر أحداً أقوى على هذا الأمر منه ، فبايعه أهل الشام وانصرف معاوية إلى منزله خليفة ) ! !
    --------------------------- 195 ---------------------------
    رواه ابن عساكر ، قال في تاريخ دمشق ( 49 / 293 ) وفيه : ( فأغلقوا البيت ! قال عمرو : فعلتَها ! قال : بيني وبينك أمران ، إختر أيهما شئت : البيعة لي ، أوأقتلك . . الخ . ) ! ورواه ابن حاتم في الدر النظيم ( 1 / 367 ) وغيرهم !
    فالأساس الذي قامت عليه خلافة معاوية هو حيلة عمرو العاص في التحكيم ، ثم احتال هو على عمرو وأجبره على بيعته ، وأن يسحب كلامه ويطلب من أهل الشام أن يبايعوا معاوية ! فجاءت خلافة معاوية بالمكر والحيلة والعنف !
    وكان معاوية أخذ البيعة بالخلافة قبل صفين
    قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 74 ) : ( ثم دعاهم إلى الطلب بدمه فقام إليه أهل الشام فقالوا : هو ابن عمك وأنت وليه ، ونحن الطالبون معك بدمه ، فبايعوه أميراً عليهم ، وكتب وبعث الرسل إلى كور الشام ، وكتب إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو بحمص ، يأمره أن يبايع له بحمص كما بايع أهل الشام ، فلما قرأ شرحبيل كتاب معاوية دعا أناساً من أشراف أهل حمص فقال لهم : ليس من قتل عثمان بأعظم جرماً ممن يبايع لمعاوية أميراً ، وهذه سقطة ، ولكنا نبايع له بالخلافة ولانطلب بدم عثمان مع غير خليفة ! فبايع لمعاوية بالخلافة هو وأهل حمص ، ثم كتب إلى معاوية : أما بعد فإنك أخطأت خطأ عظيماً ، حين كتبت إلي أن أبايع لك بالإمرة ، وأنك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غيرخليفة ، وقد بايعت ومن قبلي لك بالخلافة . فلما قرأ معاوية كتابه سره ذلك ودعا الناس وصعد المنبر وأخبرهم بما قال شرحبيل ، ودعاهم إلى بيعته بالخلافة ، فأجابوه ولم يختلف منهم أحد ، فلما بايع القوم له بالخلافة واستقام له الأمر كتب إلى علي ) !
    فانظر إلى هذا التملق والتزلف ، ورخص الدين عند هؤلاء !
    وأعلن معاوية أنه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر
    فقد حضر عبد الله بن عمر تحكيم الحكمين في دومة الجندل ، على أمل أن يكون له سهم في الخلافة ! قال كما في البخاري ( 5 / 48 ) : ( دخلت على حفصة ونَسْواتها
    --------------------------- 196 ---------------------------
    تَنْطُف ( جدائلها تقطر بعد أن اغتسلت ) قلت : قد كان من أمر الناس ما ترين ( الحَكَمَيْن ) فلم يُجعل لي من الأمر شئ ! فقالت : إلحق ( اجتماع الحكمين ) فإنهم ينتظرونك ، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ، فلم تدَعْهُ حتى ذهب ) ! ثم ذهب ابن عمر إلى الشام بعد الحكمين ، وزار بيت المقدس وأحرم كما يحرم للحج ! ( الدر النظيم / 367 ) .
    ثم ذهب إلى الشام مع سعد بن أبي وقاص ، وأحرما منها وذهبا إلى بيت المقدس ! وكان عبد الله حاضراً في خطبة معاوية التي أعلن فيها أنه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر لأنه من شجرةعبدمناف ، وهما من شجرة تيم وعدي !
    قال البخاري ( 5 / 48 ) : ( قال معاوية : من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطْلع لنا قرنه ، فلنحن أحق به منه ومن أبيه ! قال حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته ؟ ! قال عبد الله : فحللتُ حَبْوتي ( عقدة ثوبي عن ساقي ) وهممتُ أن أقول : أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام ، فخشيتُ أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ، ويُحمل عني غير ذلك ، فذكرتُ ما أعدَّ الله في الجنان ) ! وتعمد البخاري أن يخفي مناسبة خطبة معاوية ، وذكر غيره ( الطبري : 4 / 48 ) أنها كانت بعد التحكيم .
    وفي تاريخ دمشق ( 24 / 90 ) : ( نحن أحق بهذا الأمر ! نحن شجرة رسول الله وبيضته التي انفلقت عنه ونحن ونحن ! فقال صعصعة : فأين بنو هاشم منكم ؟ قال : نحن أسوس منهم ، وهم أخير منا ) .
    والأسوس هو الأولى بالنبي ( ( عليهما السلام ) ) بزعمه حتى لو كان قاتل النبي ( ( عليهما السلام ) ) كل عمره !
    بل ذم معاوية عمر بن الخطاب لأنه فرق الأمة وسفك دماءها ! فقال لرئيس ربيعة
    ( تاريخ دمشق : 19 / 197 ) « أخبرْني ما فرَّقَ بين هذه الأمة ومن سفك دمائها وشق عصاها وفرق ملأها . . . ثم قال إنها شورى عمر التي أطمعت قبائل قريش في ملك بني عبد مناف ! قال : فما زال كل رجل من أهل الشورى يطمع فيها ويطمع له فيها أحباؤهم ، حتى وثبوا على عثمان فقتلوه واختلفوا بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً ! فهذا الذي سفك دماء هذه الأمة وشق عصاها وفرق ملأها » !
    واعجب لضعف عمر أمام معاوية لما نصب نفسه والياً على الشام بعد موت أخيه ،
    --------------------------- 197 ---------------------------
    فسكت عمر وأقره ! ثم لم يسمع شكوى بلال وجماعته على معاوية ( سير الذهبي : 3 / 126 )
    ثم أعجب لضعف عبد الله بن عمر أمام معاوية ، فقد بايع معاوية ، ثم هدده بالقتل إن لم يبايع ابنه يزيد ، فبايعه ! ( ابن خياط / 10 ) .
  • *
    غارات معاوية على دولة الإمام ( ( ع ) )
    1 . سارع معاوية بعد التحكيم إلى أخذ البيعة لنفسه بالخلافة ، ثم نشط في الغارات على دولة الإمام ( عليه السلام ) ، فكان يرسل جيشاً من نحو ألف مقاتل ، ويأمرهم بقتل كل من صادفوه من أتباع علي ( عليه السلام ) وسلب ما وصلت إليه أيديهم !
    وبدأ غاراته في الشهر الأخير من سنة 38 ، واستمرت كل سنة 39 وثمانية أشهر من سنة 40 ، إلى أن استشهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في شهر رمضان ، وبلغت عشرغارات ، وكان يأمر قادتها أن يقتلوا ، ويحرقوا ، وينهبوا ، ويرعبوا الناس !
    وفي هذه المدة خاض أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حرب النهروان مع الخوارج وانتصر عليهم ، وأخذ يستعد للعودة إلى صفين ، وكان يحث الناس على الجهاد وهم يتباطؤون عليه ، حتى استشهد صلوات الله عليه .
    وقد ألف المؤرخ الثقفي المتوفى سنة 283 ، كتابه ( الغارات ) بالأصل للتأريخ لغارات معاوية ، وهو أقدم من الطبري والبلاذري وأوثق منهما ، لكن نسخته التي وصلتنا ملخصة مع الأسف ، فقد كتب الناسخ في آخرها مع الأسف : تم كتاب الغارات على حذف الزيادات وتكرارات .
    لذلك نعتمد الرواية الأتم للغارة ، ونكملها من المصادر المختلفة .
    وكان الأسوأ في غارات معاوية تخاذل المسلمين عن ردها ، إلا قليلاً ! فكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتحرق ألماً من تخاذلهم ! وقد فصَّل المحدثون والمؤرخون ذلك .
    2 . قال ابن الأعثم في الفتوح ( 4 / 218 ) : ( ابتداء ذكر الغارات بعد صفين : عن أبي مخنف بن يحيى بن سعيد الأزدي قال : لما كان من أمر صفين ما كان ، وحكم
    --------------------------- 198 ---------------------------
    الحكمان ما حكما ، ورجع أهل الشام إلى الشام وأهل العراق إلى العراق ، واستقر علي بن أبي طالب بالكوفة ، جاء معاوية برجل يقال له الضحاك بن قيس الفهري ، وهو صاحب شرطة معاوية ، فضم إليه خيلاً عظيمة من خيل أهل الشام ، ووجه به نحو أهل العراق ) .
    3 . قال الثقفي في الغارات ( 2 / 416 ) : ( أول غارة كانت بالعراق غارة الضحاك بن قيس ، وكانت بعدما حكم الحكمان وقبل قتل أهل النهر وذلك أن معاوية لما بلغه أن علياً ( عليه السلام ) بعد تحكيم الحكمين تحمَّل إليه مقبلاً فهاله أمره ، فخرج من دمشق معسكراً ، وبعث إلى كور الشام فصاح فيها أن علياً قد سار إليكم ، وكتب إليهم نسخة واحدة فقرئت على الناس :
    أما بعد فإنا كنا قد كتبنا بيننا وبين علي كتاباً وشرطنا فيه شروطاً ، وحكمنا رجلين يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا يعدوانه ، وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم ، وإن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني ، وإن حكمه خلعه ، وقد أقبل إليكم ظالماً ومن نكث فإنما ينكث على نفسه . تجهزوا للحرب بأحسن الجهاز ، وأعدوا لها آلة القتال وأقبلوا خفافاً وثقالاً وكسالى ونشاطاً ، يسرنا الله وإياكم لصالح الأعمال .
    فاجتمع إليه الناس من كل كورة وأرادوا المسير إلى صفين فاستشارهم وقال إن علياً قد خرج إليكم من الكوفة وعهد العاهد به أنه فارق النخيلة . فقال له حبيب بن مسلمة : فإني أرى أن نخرج حتى ننزل منزلنا الذي كنا فيه فإنه منزل مبارك ، قد متعنا الله به وأعطانا من عدونا فيه النصف .
    وقال له عمرو بن العاص : إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة ، فإن ذلك أقوى لجندك وأذل لأهل حربك ، فقال معاوية : والله إني لأعرف أن الرأي الذي تقول ، ولكن الناس لا يطيقون ذلك ، قال عمرو : إنها أرض رفيعة ( غنية ) فقال معاوية والله إن جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به يعني صفين .
    --------------------------- 199 ---------------------------
    فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة حتى قدمت عليهم عيونهم أن علياً اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة ، وأنه قد رجع عنكم إليهم ، فكثر سرورالناس بانصرافه عنهم ، وما ألقى الله من الخلاف بينهم . فلم يزل معاوية معسكراً في مكانه ، منتظراً لما يكون من علي وأصحابه ، وهل يقبل علي بالناس أم لا ؟ فما برح معاوية حتى جاءه الخبر أن علياً قد قتل تلك الخوارج وأراد بعد قتلهم أن يقبل إليه بالناس ، وأنهم استنظروه ودافعوه ، فسر بذلك هو ومن قِبَلَه من الناس )
    رد الأشتر قبل شهادته غارة الضحاك الفهري
    كانت الغارات عادة عند العرب بين القبائل مع بعضها ، وبين الدول أيضاً ، وقد أغار الأشترعلى الرقة وحران ، وكان على حق لأنه يمثل الخليفة المبايع ، فغارته من أجل تحرير ما اغتصبه معاوية الباغي ، الخارج على الخليفة الشرعي .
    قال الثقفي ( 1 / 322 ) والبلاذري ( 2 / 472 ) : ( بعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري على ما كان من سلطانه من الجزيرة والرقة وحران والرها وقرقيسيا فبلغ ذلك الأشتر ، فسار من نصيبين يريد الضحاك ، واستمد الضحاك أهل الرقة ، وكان جل من بها عثمانية هربوا من علي فأمدوه ، وعليهم سماك بن مخرمة الأسدي ، فعسكروا جميعاً بين الرقة وحران ، وأقبل إليهم الأشتر فاقتتلوا قتالاً شديداً وفشت فيهم الجراح ، وأسرع الأشتر فيهم ، فلما حجز الليل بينهم سار الضحاك من ليلته فنزل حران ، وأصبح الأشتر فأتبعهم حتى حاصرهم بحران ، وأتى الصريخ معاوية ، فدعا عبد الرحمان بن خالد بن الوليد المخزومي ، فأمره بالمسير لإنجاد الضحاك ، فلما بلغ الأشتر ذلك كتب كتائبه ليعاجل الضحاك
    ثم نادى :
    ألا إن الحي عزيز ، ألا إن الذمار منيع ! ألا تنزلون أيتها الثعالب الرواغة !
    ثم مضى فمر بالرقة فتحصنوا منه ، وأتى قرقيسيا فتحصنوا منه ، وبلغ عبد الرحمان بن خالد انصرافه فأقام ! وقال أيمن بن خريم بن فاتك
    --------------------------- 200 ---------------------------
    من مبلغٌ عني ابن حرب رسالة * من عاتبين مساعر أنجاد
    أنسيت إذ في كل يوم غارةٌ * في كل ناحية كرِجل جراد
    غارات أشتر في الخيول يريدكم * بمعرة ومضرة وفساد
    وضع المسالح مرصداً لهلاككم * ما بين عانات إلى سنداد
    وحوى رساتيق الجزيرة كلها * غصباً بكل طِمِرَّةٍ وجواد
    لما رأى نيران قومي أوقدت * وأبوأنيس فاتر الإيقاد
    أمضى إلينا خيله ورجاله * وأغذ لا يجري لأمر رشاد
    ثرنا إليهم عند ذلك بالقنا * وبكل أبيض كالعقيقة صاد
    في مرج مَرِّينا ألم تسمع بنا * نبغي الإمام به وفيه نعادي
    لولا مقام عشيرتي وطعانهم * وجلادهم بالمرج أي جلاد
    لأتاك أشتر مذحج لا ينثني * بالجيش ذا حنق عليك وآد ) .
    لكن الأمر اختلف بعد التحكيم وبعد شهادة مالك الأشتر رضي الله عنه ، واختلاف المسلمين في العراق ، فكان الضحاك بن قيس الفهري صاحب أول من أغار على العراق ، وتوالت الغارات إلى شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سنة أربعين ، وقد عدها ابن الأعثم ( 4 / 218 ) ست غارات ، وعدها البلاذري سبعاً ، وذكر أثناءها وبعدها غارات صغيرة . وكان أشدها فتكاً غارة بسر بن أرطاة على الحرمين واليمن ، قتل فيها أكثر من ثلاثين ألفاً ، وأحرق ونهب واستباح الحرمات .
    الغارة الأولى على دولة الإمام ( ( ع ) ) غارة الضحاك بن قيس
    خطب الإمام ( عليه السلام ) داعياً المسلمين إلى رد غارة معاوية ، فقال ( نهج البلاغة : 1 / 73 ) :
    ( أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم . كلامكم يوهي الصم الصلاب وفعلكم يطمع فيكم الأعداء . تقولون في المجالس كيت وكيت . فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد ! ما عزت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم . أعاليل بأضاليل . دفاع ذي الدَّيْن المَطول . لا يمنع الضيم الذليل . ولا يدرك الحق إلا بالجد . أي دار بعد داركم تمنعون . ومع أي إمام بعدي تقاتلون . المغرور والله من غررتموه . ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب . ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل !
    --------------------------- 201 ---------------------------
    أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم ، ما دواؤكم ، ما طبكم ؟ القوم رجال أمثالكم ! أقولاً بغير عمل ، وغفلة من غير ورع ، وطمعاً في غير حق ) .
    وقال في شرج النهج ( 2 / 113 ) : ( هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في غارة الضحاك بن قيس . . . حيدي حياد : كلمة يقولها الهارب الفار ، وهي نظيرة قولهم : فيحي فياح ، أي اتسعي . وصُمي صمام ، للداهية . وأصلها من حاد عن الشئ ، أي انحرف ، وحيادِ ، مبنية على الكسر ، وكذلك ما كان من بابها ، نحو قولهم : بدارِ ، أي ليأخذ كل واحد قرنه . وقولهم : خراجِ ، في لعبة للصبيان ، أي أخرجوا .
    والباء في قوله : بأضاليل متعلقة بأعاليل نفسها ، أي يتعللون بالأضاليل التي لا جدوى لها . والسهم الأفوق : المكسور الفوق ، وهو مدخل الوتر . والناصل : الذي لا نصل فيه يخاطبهم ، فيقول لهم : أبدانكم مجتمعة وأهواؤكم مختلفة ، متكلمون بما هو في الشدة والقوة يوهي الجبال الصم الصلبة ، وعند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة . تقولون في المجالس : كيت وكيت ، أي سنفعل وسنفعل ، وكيت وكيت كناية عن الحديث ، كما كنى بفلان عن العلم ، ولا تستعمل إلا مكرره ، وهما مخففان من : كَيْه . وقد استعملت على الأصل ، وهي مبنية على الفتح . وقد روى أئمة العربية فيها الضم والكسر أيضاً . فإذا جاء القتال فررتم وقلتم الفرار الفرار . ثم أخذ في الشكوى ، فقال : من دعاكم لم تعز دعوته ، ومن قاساكم لم يسترح قلبه . دأبكم التعلل بالأمور الباطلة ، والأماني الكاذبة . وسألتموني الإرجاء وتأخر الحرب كمن يمطل بدين لازم له . والضيم لا يدفعه الذليل ، ولا يدرك الحق إلا بالجد فيه والاجتهاد وعدم الانكماش ) .
    غارة الضحاك برواية البلاذري
    قال البلاذري ( 2 / 437 ) : ( وجه معاوية الضحاك بن قيس الفهري حين بلغه أن علياً يدعو الناس إلى الخروج إليه ، وأن أصحابه مختلفون عليه ، في خيل كثيفة جريدة ، وأمره أن يمر بأسفل واقصة فيغير على الأعراب ممن كان على طاعة
    --------------------------- 202 ---------------------------
    علي ، وعلى غيرهم ممن كان في طاعته ممن لقيه مجتازاً ، وأن يصبح في بلد ويمسي في آخر ، ولا يقيم لخيل إن سرحت إليه ، وإن عرضت له قاتلها ، وكانت تلك أول غارات معاوية . فأقبل الضحاك إلى القطقطانة فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف ، وجعل يأخذ أموال الناس من الأعراب وغيرهم ، ويقتل من ظن أنه على طاعة عليّ أو كان يهوي هواه حتى بلغ الثعلبية ، وأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم !
    ثم صار إلى القطقطانة منصرفاً ، ولقيه بالقطقطانة على طريق الحاج عمرو بن عميس بن مسعود ، ابن أخي عبد الله بن مسعود فقتله ، فلما ولاه معاوية الكوفة كان يقول : يا أهل الكوفة أنا أبوأنيس قاتل ابن عميس ، يعلمهم بذلك أنه لا يهاب القتل وسفك الدماء ، وأخذ طريق السماوة منصرفاً ، فلما بلغ علياً خبره قام في أهل الكوفة خطيباً ، فدعاهم إلى الخروج لقتال عدوهم ومنع حريمهم ، فردوا عليه رداً ضعيفاً ، ورأى منهم فشلاً وعجزاً ، فقال : وددت والله أن لي بكل عشرة منكم رجلاً من أهل الشام ، وأني صرفتكم كما يصرف الذهب ، ولوددت أني لقيتهم على بصيرتي ، فأراحني الله من مقاساتكم ومداراتكم كما يدارى البكار العمدة والثياب المنهرمة ، كلما خيطت من جانب تهتكت من جانب !
    ثم خرج يمشي إلى نحو الغريين ، حتى لحقه عبد الله بن جعفر بدابة فركبها ولحقه الناس بعد ، فسرح لطلبه حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف أعطاهم خمسين درهماً خمسين درهماً ، فسار حجر حتى لحق الضحاك نحو تدمر فقاتله فأصاب من أصحابه تسعة عشر رجلاً ويقال : سبعة عشر رجلاً ، وقتل من أصحاب علي رجلان يقال : إنهما عبد الله وعبد الرحمان ابنا حوزة ، وهما من الأزد ، وحجز الليل بينهم ، فهرب الضحاك في الليل وأقام حجر يوماً أو يومين فلم يلق أحداً ، فانصرف ) .
    ورواها الثقفي في الغارات ( 2 / 416 ) وقال : ( أول غارة كانت بالعراق غارة الضحاك بن قيس ، وكانت بعد ما حكم الحكمان ، وقبل قتل أهل النهر . . .
    عن عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري قال : جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط من الكوفة ونحن معسكرون مع معاوية ، نتخوف أن يفرغ علي من خارجته ، ثم يقبل إلينا
    --------------------------- 203 ---------------------------
    ونحن نقول : إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الذي نستقبله به مكاننا الذي لقيناه فيه العام الماضي ، وكان في كتاب عمارة : أما بعد فإن علياً خرج عليه علية أصحابه ونساكهم فخرج عليهم فقتلهم وقد فسد عليه جنده وأهل مصره ، ووقعت بينهم العداوة وتفرقوا أشد الفرقة ، فأحببت إعلامك لتحمد الله ، والسلام .
    قال : فقرأه معاوية عليَّ وعلى أخيه وعلى أبي الأعور السلمي ، ثم نظر إلى أخيه عتبة وإلى الوليد بن عقبة ، وقال للوليد : لقد رضي أخوك أن يكون لنا عيناً ! قال : فضحك الوليد وقال : إن في ذلك أيضاً لنفعاً !
    وبلغني أن الوليد بن عقبة قال لأخيه عمارة بن عقبة بن أبي معيط يحرضه :
    فإن يك ظني بابن أمي صادقاً * عمارة لا يطلب بذحل ولا وِتْرِ
    يبيتُ وأوتار ابن عفان عنده * مخيمة بين الخورنق والقصر
    تمشى رخي البال مستشزر القوى * كأنك لم تشعر بقتل أبي عمرو
    قال : فعند ذلك دعا معاوية الضحاك وقال له : سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه . فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف جريدة خيل .
    قال : فأقبل الضحاك يأخذ الأموال ويقتل من لقي من الأعراب حتى مر بالثعلبية فأغار خيله على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة وقتل معه ناساً من أصحابه ! . قال أبو روق : فحدثني أبي أنه سمع علياً ( عليه السلام ) وقد خرج إلى الناس وهو يقول على المنبر : يا أهل الكوفة أخرجوا إلى العبدالصالح عمرو بن عميس ، وإلى جيوش لكم قد أصيب منها طرف ، أخرجوا فقاتلوا عدوكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين . قال : فردوا عليه ردا ضعيفاً . . .
    ثم دعا حجر بن عدي الكندي من خيله فعقد له ثم راية على أربعة آلاف ثم سرحه فخرج حتى مر بالسماوة وهي أرض كلب فلقي بها امرء القيس
    --------------------------- 204 ---------------------------
    بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي أصهار الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) فكانوا أدلاءه على طريقه وعلى المياه ، فلم يزل مغذاً في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر ) .
    ثم أورد الثقفي رسالة عقيل رضي الله عنه يعرض عليه نفسه وولده ، وجواب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) له ، وتقدمت في ترجمة عقيل رضي الله عنه ) .
    من هو الضحاك بن قيس الفهري
    1 . الضحاك بن قيس الفهري أخ فاطمة بنت قيس المشهورة ، وكانت أكبر منه بعشر سنين ، وقال الطبري كان عمره لما توفي النبي ( ( عليهما السلام ) ) ثمان سنين ، ومع ذلك يروي عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) حديث أن الملك في قريش لا في قحطان !
    وكان مقرباً من معاوية ، ونصبه والياً لشمال سوريا ، ثم كان قائداً في جيشه في صفين ، ثم أوكل اليه الغارة على العراق ، ثم نصبه والي الكوفة ، ثم والي دمشق . ولما توفي معاوية تولى الحكم في دمشق حتى جاء يزيد بن معاوية من الصيد فأخذ له البيعة . ولما مات يزيد أخذ البيعة لابنه معاوية ، وبعد موت ابن يزيد دعا إلى بيعة نفسه ! فبايعه بعض الناس !
    ثم عدل وبايع ابن الزبير وأخذ له البيعة من الشام وغيرها ، ولما بايعت القبائل مروان قاتله الضحاك في معركة مرج راهط ، وقُتل فيهاوجاؤوا برأسه لمروان ، وذلك في أواخر سنة 64 هجرية . راجع الإصابة ( 3 / 387 ) .
    2 . في الغارات ( 2 / 436 ، و 438 ) : ( عن محمد بن مخنف قال : إني لأسمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان على منبر الكوفة يخطبنا وهو يقول : أنا ابن قيس وأنا أبوأنيس ، وأنا قاتل عمرو بن عميس . أما والله إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم ، فكنت أول من غزاها في الإسلام أعاقب من شئت وأعفو عمن شئت ، لقد ذعرت المخبئات في خدورهن ، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي ! فاتقوا الله يا أهل العراق واعلموا أني أنا الضحاك بن قيس !
    فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال : صدق الأمير وأحسن القول ، ما أعرفنا والله
    --------------------------- 205 ---------------------------
    بما ذكرت ، ولقد أتيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعاً صبوراً مجرباً ، ثم جلس ! فسكت الضحاك قليلاً فكأنه خزي واستحيا !
    قال : لقد رأيت منكم بغربي تدمر رجلاً ما كنت أرى في الناس مثله رجلاً ، حمل علينا فما كذب حتى ضرب الكتيبة التي أنا فيها ، فلما ذهب ليولي حملت عليه فطعنته في قمته فوقع ثم قام فلم يضره شيئاً ، فذهب ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها فصرع رجلاً ، ثم ذهب لينصرف فحملت عليه فضربته على رأسه بالسيف فخيل إلي أن سيفي قد ثبت في عظم رأسه !
    قال : فضربني ، فوالله ما صنع سيفه شيئاً ثم ذهب ، فظننت أنه لن يعود ، فوالله ما راعني إلا وقد عصب رأسه بعمامة ثم أقبل نحونا ، فقلت : ثكلتك أمك أما نهتك الأُوليان عن الإقدام علينا ؟ قال : وما تنهياني وأنا أحتسب هذا في سبيل الله ! قال : ثم حمل علينا فطعنني وطعنته فحمل أصحابه علينا فانفصلنا وحال الليل بيننا ! فقال له عبد الرحمن بن مخنف : هذا يوم شهده هذا ! يعني ربيعة بن ناجد وهو فارس الحي ، وما أظنه هذا الرجل يخفى عليه فقال له : أتعرفه ؟ قال نعم ، قال : من هو ؟ قال أنا ! قال : فأرني الضربة التي برأسك ، قال : فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة . فقال له : ما رأيك اليوم فينا ، أهو كرأيك يومئذ ؟ قال : رأيي اليوم رأي الجماعة ! قال : فما عليكم اليوم من بأس ) !
    الغارة الثانية : غارة سفيان بن عوف
    1 . قال الثقفي في الغارات ( 2 / 464 ) : ( عن سفيان بن عوف الغامدي قال : دعاني معاوية فقال : إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة وجلادة ، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها ، فإن وجدت بها جنداً فأغرعليهم وإلا فامض حتى تغير على الأنبار ، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى تغير على المدائن ، ثم أقبل إلي ، واتق أن تقرب الكوفة ، واعلم أنك إن أغرت على الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة !
    إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترهب قلوبهم ، وتجرئ كل من كان
    --------------------------- 206 ---------------------------
    له فينا هوى ويرى فراقهم ، وتدعو إلينا كل من كان يخاف الدوائر ، وخرب كل ما مررت به من القرى ، واقتل كل من لقيت ممن ليس هو على رأيك ، واحرب الأموال ، فإنه شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلوب !
    قال : فخرجت من عنده فعسكرت وقام معاوية في الناس خطيباًفحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فانتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر عظيم سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله ، ثم نزل .
    قال : فوالله الذي لا إله إلا هو ما مرت بي ثلاثة حتى خرجت في ستة آلاف ، ثم لزمت شاطئ الفرات فأغذذت السير حتى أمر بهيت ، فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات ، فمررت بها وما بها عريب ، كأنها لم تُحلل قط ، فوطأتها ، حتى مررت بصندوداء فتنافروا فلم ألق بها أحداً ، فمضيت حتى أفتتح الأنبار وقد أنذروا بي ، فخرج إليَّ صاحب المسلحة فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلماناً من أهل القرية فقلت لهم : خبروني كم بالأنبار من أصحاب علي ؟ قالوا : عدة رجال المسلحة خمس مائة ، ولكنهم قد تبددوا ورجعوا إلى الكوفة ولا ندري الذي يكون فيها ،
    قد يكون مائتي رجل . قال : فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة فيقاتلونهم ، والله ويصبرون لهم ويطاردونهم في الأزقة .
    فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحواً من مائتين ثم أتبعتهم الخيل فلما مشت إليهم الرجال وحملت عليهم الخيل فلم يكن إلا قليلاً حتى تفرقوا ، وقتل صاحبهم في رجال من أصحابه ، وأتيناه في نيف وثلاثين رجلاً فحملنا ما كان في الأنبار من أموال أهلها ، ثم انصرفت .
    فوالله ما غزوت غزوة أسلم ، ولا أقر للعيون ولا أسر للنفوس منها ، وبلغني والله أنها أفزعت الناس ، فلما أتيت معاوية فحدثته الحديث على وجهه قال : كنت والله عند ظني بك لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره ، وإن أحببت توليته وليتك ، وأنت أمين أينما كنت من سلطاني ، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني قال : فوالله ما لبثنا إلا يسيراً حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هُرَّاباً .
    --------------------------- 207 ---------------------------
    وعن جندب بن عفيف قال : والله إني لفي جند الأنبار مع أشرس بن حسان البكري ، إذ صبحنا سفيان بن عوف كتائب تلمع الأبصار منها فهالونا والله ، وعلمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا بهم طاقة ولا يد ، فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا ، وأيم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم والله حتى كرهونا ، ثم نزل صاحبنا وهو يتلو قوله تعالى : فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ثم قال لنا : من كان لا يريد لقاء الله ولا يطيب نفساً بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم ، فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب ، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار ، ثم نزل في ثلاثين رجلاً قال : فهممت والله بالنزول معه ثم إن نفسي أبت ، واستقدم هو وأصحابه فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله ، فلما قتلوا أقبلنا منهزمين .
    عن محمد بن مخنف أن سفيان بن عوف لما أغار على الأنبار قدم علج من أهلها على علي ( عليه السلام ) فأخبره الخبر ، فصعد المنبرفقال : أيها الناس إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار وهو معتز لا يخاف ما كان ، فاختار ما عند الله على الدنيا ، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم ، فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا ، ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلموا ، أو يتكلم متكلم منهم بخير ، فلم ينبس أحد منهم بكلمة !
    فلما رأى صمتهم على ما في أنفسهم نزل فخرج يمشي راجلاً حتى أتى النخيلة ، والناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا : إرجع يا أمير المؤمنين نحن نكفيك ، فقال : ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله ، فرجع وهو واجم كئيب !
    ودعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة بثمانية آلاف وذلك أنه أخبر أن القوم جاؤوا في جمع كثيف فقال له : إني قد بعثتك في ثمانية آلاف فاتبع هذا الجيش حتى تخرجه من أرض العراق ، فخرج على شاطئ الفرات في طلبه حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم ، حتى إذا بلغ
    --------------------------- 208 ---------------------------
    أداني أرض قنسرين وقد فاتوه ، ثم انصرف . .
    قال : فلبث علي ( عليه السلام ) ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس فكتب كتاباً ، وكان في تلك الأيام عليلاً ، فلم يطق على القيام في الناس بكل ما أراد من القول ، فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد ومعه الحسن والحسين ( عليهم السلام ) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، فدعا سعداً مولاه فدفع الكتاب إليه فأمره أن يقرأه على الناس ، فقام سعد بحيث يسمع علي قراءته وما يرد عليه الناس ، ثم قرأ الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي إلى من قُرئ عليه كتابي من المسلمين ، سلام عليكم ، أما بعد فالحمد لله رب العالمين ، وسلام على المرسلين ، ولا شريك لله الأحد القيوم ، وصلوات الله على محمد ، والسلام عليه في العالمين .
    أما بعد ، فإني قد عاتبتكم في رشدكم حتى سئمت ، رجعتموني بالهزء من قولكم حتى برمت ، هزءٌ من القول لا يعاد به ( لا يجاب به ) وخطلٌ لا يعز أهله ، ولو وجدت بداً من خطابكم والعتاب إليكم ما فعلت ، وهذا كتابي يقرأ عليكم فردوا خيراً وافعلوه ، وما أظن أن تفعلوا ، فالله المستعان .
    أيها الناس : إن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فتحه الله لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة .
    فمن ترك الجهاد في الله ألبسه الله ثوب ذلة وشمله البلاء ، وضرب على قلبه بالشبهات ، وديث بالصغار والقماءة ، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف ، ومنع النصف .
    ألا وإني قد دعوتكم إلى جهاد عدوكم ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهراً ، وقلت لكم : أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا ، فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي ، فعصيتم واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، حتى شنت عليكم الغارات في بلادكم ، وملكت عليكم الأوطان ، وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ، فقتل بها أشرس بن حسان ، فأزال مسالحكم عن مواضعها ، وقتل منكم رجالاً صالحين ، وقد بلغني أن الرجل من أعدائكم كان يدخل بيت المرأة المسلمة والمعاهدة ،
    --------------------------- 209 ---------------------------
    فينتزع خلخالها من ساقها ، ورِعْثَها من أذنها فلا تُمتنع منه ، ثم انصرفوا وافرين لم يُكْلَم منهم رجل كَلماً ، فلو أن امرءً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً ، بل كان عندي به جديراً !
    فيا عجباً ، عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم ويُسَعِّر الأحزان ، من اجتماع هؤلاء على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، فقبحاً لكم وترحاً لقد صيرتم أنفسكم غرضاً يرمى ، يُغار عليكم ولا تغيرون ، وتُغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون ، ويقضى إليكم فلا تأنفون ، قد ندبتكم إلى جهاد عدوكم في الصيف فقلتم : هذه حمارَّة القيظ ، أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم : هذه صَبَارَّة القَرّ ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد ، فكل هذا فراراً من الحر والصَّر ، فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون فأنتم والله من حر السيوف أفر ! لا والذي نفس ابن أبي طالب بيده عن السيف تحيدون فحتى متى ،
    وإلى متى !
    يا أشباه الرجال ولا رجال ! ويا طُغام الأحلام ، أحلام الأطفال ، وعقول ربات الحجال ، الله يعلم لقد سئمت الحياة بين أظهركم ولوددت أن الله يقبضني إلى رحمته من بينكم . وليتني لم أركم ولم أعرفكم ، معرفة والله جرت ندماً وأعقبت سَدَماً ، أوْغَرتم يعلم الله صدري غيظاً ، وجرعتموني جُرَع التَّهمام أنفاساً ، وأفسدتم عليَّ رأيي وخرصي ، بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش وغيرها : إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب ! لله أبوهم ، وهل كان منهم : رجل أشد مقاساة وتجربة ولا أطول لها مراساً مني ، فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين ، ولكن لارأي لمن لا يطاع !
    فقام إليه رجل من الأزد ، يقال له حبيب بن عفيف آخذاً بيد ابن أخ له يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف فأقبل يمشي حتى استقبل أمير المؤمنين بباب السدة ، ثم جثا على ركبتيه وقال : يا أمير المؤمنين ها أنا ذا لا أملك إلا نفسي
    --------------------------- 210 ---------------------------
    وأخي ، فمرنا بأمرك فوالله لننفذن له ، ولو حال دون ذلك شوك الهراس وجمر الغضا ، حتى ننفذ أمرك أو نموت دونه ، فدعا لهما بخير ، وقال لهما : أين تبلغان مما نريد ؟
    ثم أمر الحارث الأعور الهمداني فنادى في الناس : أين من يشري نفسه لربه ويبيع دنياه بآخرته ، أصبحوا غداً بالرحبة إن شاء الله ، ولا يحضرنا إلا صادق النية في المسير معنا ، والجهاد لعدونا ، فأصبح بالرحبة نحو من ثلاث مائة ! فلما عرضهم قال : لو كانوا ألفاً كان لي فيهم رأي !
    قال : وأتاه قوم يعتذرون وتخلف آخرون فقال : وجاء المعذرون وتخلف المكذبون ! قال : ومكث أمير المؤمنين أياماً بادياً حزنه شديد الكآبة . ثم إنه نادى في الناس فاجتمعوا فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
    أما بعد أيها الناس ، فوالله لَأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب ، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين صغير مولدهما ، وما هما بأقدم العرب ميلاداً ، ولا بأكثرهم عدداً ، فلما آووا النبي ( ( عليهما السلام ) ) وأصحابه ونصروا الله ودينه رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وتحالفت عليهم اليهود ، وغزتهم اليهود والقبائل قبيلة بعد قبيلة ، فتجردوا لنصرة دين الله ، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل ، وما بينهم وبين اليهود من العهود ، ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة ، وأهل الحزن والسهل وأقاموا قناة الدين ، وتصبروا تحت أحلاس الجلاد ، حتى دانت لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) العرب ، ورأى فيهم قرة العين قبل أن يقبضه الله إليه ، فأنتم في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب .
    فقام إليه رجل آدم طوال فقال : ما أنت بمحمد ، ولا نحن بأولئك الذين ذكرت ، فلا تكلفنا ما لا طاقة لنا به ! فقال له علي ( عليه السلام ) : أحسن سمعاً تحسن إجابة ، ثكلتكم الثواكل ما تزيدونني إلا غماً ، هل أخبرتكم أني محمد ( ( عليهما السلام ) ) وأنكم الأنصار ؟ إنما ضربت لكم مثلاً ، وإنما أرجو أن تأسَّوا بهم !
    ثم قام رجل آخر فقال : ما أحوج أمير المؤمنين اليوم ومن معه إلى أصحاب النهروان !
    --------------------------- 211 ---------------------------
    ثم تكلم الناس من كل ناحية ولغطوا !
    فقام رجل فنادى بأعلى صوته : إستبان فقد الأشتر على أهل العراق ، وأشهد أن لو كان حياً لقل اللغط ولعلم كل امرئ ما يقول !
    فقال ( عليه السلام ) لهم : هبلتكم الهوابل لأنا أوجب عليكم حقاً من الأشتر ، وهل للأشترعليكم من الحق إلا حق المسلم على المسلم ! فغضب ، ونزل .
    فقام حجر بن عدي الكندي وسعيد بن قيس الهمداني فقالا : لايسوؤك الله يا أمير المؤمنين ، مرنا بأمرك نتبعه فوالله ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدت ، ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك ، فقال لهم : تجهزوا للمسير إلى عدونا . فلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه قال لهم : أشيروا علي برجل صليب ناصح يحشرالناس من السواد ، فقال له سعيد بن قيس الهمداني : يا أمير المؤمنين أشير عليك بالناصح الأريب الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي ، قال : نعم ، ثم دعاه فوجهه فسار ، فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . عن أبي مسلم : سمعت علياًيقول : لولابقية المسلمين لهلكتم ) .
    2 . هذه الخطبة متواترة ، رواها المحدثون والمؤرخون والأدباء ، وتفاوتت روايتهم في مناسبتها ، وهل كانت مكتوبة أو مرتجلة وقد رواها البلاذري ( 2 / 441 ) بنحو ما تقدم ، وذكر أن خبر الغارة جاءه وكان مريضاً ، فكتب هذه الخطبة وتليت عنه وهو حاضر . والمتحصل من مصادرها ، أن الخبر جاءه ( عليه السلام ) وهو مريض فنهض وخرج إلى المسجد وخطب ودعا الناس إلى الخروج لرد الغارة ، فلم يستجيبوا له ، فغضب وذهب ماشياً إلى النخيلة فلحقه الناس ، فخطب على ربوة هناك ، وأرسل سعيد بن قيس في ثمانية آلاف لرد الغارة ومطاردتها ، ورجع ، واشتد مرضه ، فكتب الخطبة ودعا صاحب شرطته ، فتلاها وهو حاضر .
    قال القاضي النعمان في شرح الأخبار ( 2 / 74 ) : ونهج البلاغة ( 4 / 62 ) : ( لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار فخرج بنفسه ماشياً حتى أتى النخيلة ، فأدركه الناس وقالوا يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم فقال : والله ما تكفونني أنفسكم
    --------------------------- 212 ---------------------------
    فكيف تكفونني غيركم ! إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها ، وإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي ، كأنني المقود وهم القادة ، أو الموزوع وهم الوَزَعة ) !
    وفي معاني الأخبار للصدوق / 92 : ( فخرج مغضباً يجر ثوبه حتى أتى النخيلة وأتبعه الناس ، فرقى رباوة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( ( عليهما السلام ) )
    ثم قال ، وأورد نحوها مختصراً ، وقال : فقام إليه رجل ومعه أخوه فقال : يا أمير المؤمنين أنا وأخي هذا كما قال الله عز وجل حكاية عن موسى : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي ، فمرنا بأمرك فوالله لننتهين إليه ولو حال بينا وبينه جمر الغضا وشوك القتاد ! فدعا له بخير ثم قال : وأين تقعان مما أريد ؟ ! ثم نزل ( عليه السلام ) ) . ورواها الطبري مختصرة ( 4 / 103 ) .
    ورواها الشريف الرضي ( نهج البلاغة : 1 / 67 ) قال : ومن خطبة له ( عليه السلام ) في دعوة الناس لرد غارة معاوية على الأنبار ، . إلى قوله ( عليه السلام ) : ولكن لارأي لمن لا يطاع ) .
    3 . وقال في شرح النهج ( 2 / 75 ) : هذه الخطبة من مشاهير خطبه ( عليه السلام ) قد ذكرها كثير من الناس ، ورواها أبو العباس المبرد في أول الكامل ، وأسقط من هذه الرواية ألفاظاً وزاد فيها ألفاظاً ، وقال في أولها : إنه انتهى إلى علي ( عليه السلام ) أن خيلاً وردت الأنبار لمعاوية فقتلوا عاملاً له يقال له حسان بن حسان ، فخرج مغضباً يجر رداءه حتى أتى النخيلة ، واتبعه الناس فرقى رباوة من الأرض ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ص ، ثم قال : أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . . إلى قوله : لا يطاع .
    وفي شرح النهج ( 2 / 88 ) : ( وقدم علج من أهل الأنبار على علي ( عليه السلام ) فأخبره الخبر ، فصعد المنبر فخطب الناس ، وقال : إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار ، وهومعتز لا يخاف ما كان ، واختار ما عند الله على الدنيا ، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم ، فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا . ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه ، أو يتكلم منهم متكلم ، فلم ينبس أحد منهم بكلمة ، فلما رأى صمتهم نزل ، وخرج يمشي راجلاً حتى أتى النخيلة ، والناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم ، فقالوا : إرجع يا أمير المؤمنين نحن نكفيك ، فقال : ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم . فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله ، فرجع وهو واجم كئيب ، ودعا سعيد
    --------------------------- 213 ---------------------------
    بن قيس الهمداني ، فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف ، وذلك أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف . . الخ . !
    وهذه الرواية في ظرف الخطبة أكثرمعقولية . فقد كان الإمام ( عليه السلام ) مريضاً وخرج وخطب ، فلم يستجيبوا له ، وخرج ماشياً إلى النخيلة وهي مسير ساعة أو أكثر ، فلحقه جمهور من الناس ، وخطب فيهم ، وأرسل سعيداً لرد الغارة ، فلما رجعوا بعد أسابيع كان مريضاً فكتب الخطبة وتلاها صاحب شرطته بحضوره .
    4 . ونقل الصدوق / 310 ، تفسير ألفاظها عن المبرد ، وقد اشتبه المبرد فتصور أن سيماء بالمد العلامة ، بينما هي فعل للمجهول من الوسم . وخلاصة ما نقله عنه الصدوق : وديث الصغار : بعير مديث أي مذلل . في عقر ديارهم : أي في أصل ديارهم ، والعقر الأصل ومن ثم قيل لفلان عقار أي أصل مال . تواكلتم أحال به كل واحد إلى الآخر . واتخذتموه وراءكم ظهرياً : أي لم تلتفتوا إليه . حتى شنت عليكم الغارات يقول : صبت . يقال : شننت الماء على رأسه أي صببته . فتنتزع أحجالها : الخلاخيل واحدها حجل . رِعَثها : الشنوف واحدها رعثة وجمعها رعاث . ثم انصرفوا موفورين : من الوفر يقال : فلان موفور وفلان ذو وفر . لم يُكْلم أحد منهم كَلْماً : كل جرح صغير أو كبير فهو كلم . وقوله : مات من دون هذا أسفاً يقول : تحسراً . وقوله : قلتم هذا أوان قرٍّ وصرٍّ فالصر : شدة البرد ، قال الله عز وجل : كمثل ريح فيها صر . وقوله : هذه حمارة القيظ ، فالقيظ : الصيف ، وحمارته : اشتداد حره ) .
    وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 2 / 75 ) ملخصاً : ( ديث بالصغار : أي مذلل ، ومنه الديوث : الذي لا غيرة له . والصَّغار : الذل والضيم . والقَمَاء بالمد : مصدر قمؤ الرجل قماء وقماءة ، أي صار قميئاً وهو الصغيرالذليل ، فأما قمَأ بفتح الميم فمعناه سمن ، ومصدره القموء والقموءة .
    وقوله ( عليه السلام ) : وضرب على قلبه بالإسهاب ، فالإسهاب هنا ذهاب العقل ويمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام كأنه عوقب بأن يكثر
    --------------------------- 214 ---------------------------
    كلامه فيما لا فائدة تحته . وأديل الحق منه بتضييع الجهاد : المراد : وأديل الحق منه لأجل تضييعه الجهاد ، فالباء هنا للسببية كقوله تعالى : ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ والنصَف : الإنصاف . وتواكلتم : أحال به كل واحد على الآخر ، ومنه رجل وكل ، أي عاجز . والمسالح : جمع مسلحة وهي كالثغر والمرقب ، وفي الحديث : كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب . والمعاهدة : ذات العهد وهي الذمية . والحجل : الخلخال ، ومن هذا قيل للفرس محجل ورعثها : شنوفها ، جمع رعاث بكسر الراء . والقُلُب : جمع قلب وهو السوار المصمت . وفي رواية المبرد : فتواكلتم وتخاذلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، قال : أي رميتم به وراء ظهوركم . في المثل : لا تجعل حاجتي منك بظهر وفي رواية المبرد أيضاً : وفشلكم عن حقكم ، الفشل : الجبن والنكول عن الشئ : فقبحاً لكم وترحاً ، دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير ، وأن يخزيهم ويسوءهم . والغرض : الهدف . وحمارَّة القيظ : بتشديد الراء : شدة حره . ويُسَبِّخ عنا الحر أي يخف ، وفي الحديث أن عائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئاً فقال لها النبي ( ( عليهما السلام ) ) : لا تسبخي عنه بدعائك . وصبارَّة الشتاء بتشديد الراء : شدة برده ، ولم يرو المبرد هذه اللفظة ، ورويَ : إذا قلت لكم أغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر وصر ، وإن قلت لكم أغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر . ولم يرو المبرد : حلوم الأطفال ، وروى عوضها : يا طغام الأحلام ، وقال : الطغام : من لا معرفة عنده ، ومنه قولهم : طغام أهل الشام . وربات الحجال : النساء ، والحجال : جمع حجلة ، وهي بيت يزين بالستور والثياب والأسرة . والسدم : الحزن والغيظ . والقيح : ما يكون في القرحة من صديدها . وشحنتم : ملأتم . والنَّغَب : جمع نغبة وهي الجرعة
    والتهمام بفتح التاء : الهم وكذلك كل تَفعال كالتَّرداد والتكرار والتجوال إلا التبيان والتلقاء فإنهما بالكسر . وأنفاساً : أي جرعة بعد جرعة . وذرَّفْتُ على الستين : أي زدت ، ورواها المبرد : نيفتُ ) .
    وأضاف في شرح النهج ( 2 / 83 ) : ( استطراد بذكركلام لابن نباتة في الجهاد . .
    ثم قال : واعلم أني أضرب لك مثلاًتتخذه دستوراً في كلام أمير المؤمنين وكلام الكتَّاب
    --------------------------- 215 ---------------------------
    والخطباء بعده كابن نباتة والصابئ وغيرهما ، أنظر نسبة شعر أبي تمام والبحتري وأبي نؤاس ومسلم ، إلى شعر امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى ، هل إذا تأملت أشعار هؤلاء وأشعار هؤلاء ، تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نؤاس وأصحابه عليهم ؟
    ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت ، ولا يقوله إلا من لا يعرف علم البيان ، وماهية الفصاحة ، وكنه البلاغة ، وفضيلة المطبوع على المصنوع .
    فإذا أقررت من نفسك بالفرق والفضل ، وعرفت فضل الفاضل ، ونقص الناقص ، فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى هؤلاء هذه النسبة ، بل أظهر ، لأنك تجد في شعر امرئ القيس وأصحابه من التعجرف والكلام الوحشي ، واللفظ الغريب المستكره شيئاً كثيراً ، ولا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شيئاً ، وأكثر فساد الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك .
    فإن شئت أن تزداد استبصاراً ، فانظر القرآن العزيز واعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة ، وتأمله تأملاً شافياً ، وانظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة والبعد عن التقعير والتقعيب والكلام الوحشي الغريب ، وانظر كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإنك تجده مشتقاً من ألفاظه ، ومقتضباً من معانيه ومذاهبه ، ومحذواً به حذوه ، ومسلوكاً به في منهاجه ، فهو وإن لم يكن نظيراً ولا نداً يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل ، ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل ، إلا أن يكون كلام ابن عمه ( ( عليهما السلام ) )
    وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة ، وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر ، بل ولا لانتقاد الذهب ، ولكل صناعة أهل ، ولكل عمل رجال ) !
    5 . وروى ابن أبي الحديد ( 2 / 89 ) وغيره خطبة أخرى بعد هذه الخطبة ، قال : ( ثم أمر الحارث الأعور الهمداني فنادى في الناس : أين من يشتري نفسه لربه ويبيع دنياه بآخرته ؟ أصبحوا غداً بالرحبة إن شاء الله ، ولا يحضر إلا صادق النية في السير
    --------------------------- 216 ---------------------------
    معنا والجهاد لعدونا . فأصبح وليس بالرحبة إلا دون ثلاث مائة ، فلما عرضهم قال : لو كانوا ألفاً كان لي فيهم رأي ! وأتاه قوم يعتذرون فقال : وجاء المعذرون ، وتخلف المكذبون ! ومكث أياماً بادياً حزنه شديد الكآبة ، ثم جمع الناس فخطبهم ، وأوردها بنحو ما تقدم وفي آخرها إرسال معقل بن قيس التميمي ، ليجمع الناس ويرد غارة معاوية ويكون مقدمة جيشه إلى صفين .
    الغارة الثالثة : غارة النعمان بن بشير
    رواها الثقفي ( 2 / 445 ) وأخذها منه البلاذري ، فجاءت في كلا المصدرين في نفس المجلد والصفحة ! ذكر أن معاوية كان بعث النعمان وأباهريرة إلى علي ( عليه السلام ) يدعوانه إلى أن يسلِّم قتلة عثمان ، وأن النعمان تأخر في الكوفة أشهراً مظهراً لعليّ ( عليه السلام ) والأنصار أنه معهم ، ثم هرب إلى معاوية ! قالت الرواية : ( فأتياه فدخلا عليه فقال له أبو هريرة : يا أباحسن إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلاً وشرفاً ، أنت ابن عم محمد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمراً تهدأ به هذه الحرب ويصلح الله به ذات البين ، أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به ، ثم يجمع الله به أمرك وأمره ويصلح الله بينكم ، وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة ، ثم تكلم النعمان بنحو من هذا . فقال ( عليه السلام ) لهما : دعا الكلام في هذا . حدثني عنك يا نعمان أنت أهدى قومك سبيلاًيعني الأنصار ؟ قال : لا ، فقال : كل قومك قد اتبعني إلا شذاذاً منهم ثلاثة أو أربعة ، أفتكون أنت من الشذاذ !
    فقال النعمان : أصلحك الله ، إنما جئت لأكون معك وألزمك ، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام ، وقد كنت رجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك ، وطمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحاً ، فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك !
    وكذب النعمان ففي الرواية : فأقام بعده أشهراً ثم خرج فاراً من علي ( عليه السلام ) حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي عليها فأراد حبسه وقال له : ما مر بك ههنا ؟ قال : إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت ، فحبسه
    --------------------------- 217 ---------------------------
    ثم قال : كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك ، فناشده وعظم عليه أن يكتب إلى علي ( عليه السلام ) فيه ، وقد كان قال لعلي : إنما جئت لأقيم ، فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري وهو بجانب عين التمر يجبي خراجها لعلي ( عليه السلام ) فجاء مسرعاً حتى وصل إلى مالك بن كعب ، فقال له : خل سبيل هذا الرجل يرحمك الله ! فقال له : يا قرظة إتق الله ولا تتكلم في هذا ، فإن هذا لو كان من عُبَّاد الأنصار ونُسَّاكهم ما هرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين ! فلم يزل يقسم عليه حتى خلى سبيله ، فقال له : يا هذا لك الأمان اليوم والليلة وغداً ، ثم قال : والله لئن أدركتك بعدها لأضربن عنقك ! فخرج مسرعاً لايلوي على شئ ، وذهبت به راحلته فلم يدر أين يتسكع من الأرض ، وأصبح ثلاثاً لا يدري أين هو ! قال النعمان : والله ما علمت أين أنا حتى سمعت قائلة تقول وهي تطحن :
    شربت مع الجوزاء كأساً رويةً * وأخرى مع الشعرى إذا ما استقلت
    معتقة كانت قريش تصونها * فلما استحلوا قتل عثمان حلت
    فعلمت أني عند حي من أصحاب معاوية ، وإذا الماء لبني القين ، فعلمت عند ذلك أني قد انتهيت إلى مأمني ، ثم انتهى حتى قدم على معاوية فخبره بما كان ولقي ، ثم لم يزل مع معاوية مناصحاً مجالداً لعلي ( عليه السلام ) ، ويتتبع قتلة عثمان حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق ، ثم انصرف إلى معاوية .
    وقد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة : أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق ، فقال له النعمان : ابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوى ، وكان النعمان عثمانياً ، قال فانتدب على اسم الله فانتدب وندب معه ألفي رجل ، وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات ، وأن لايغيرإلا على مسلحة ، وأن يعجل بالرجوع ! فأقبل النعمان بن بشير حتى دنا من عين التمر ، وكان بها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له معه ما ذكرناه ، وكان معه بها ألف رجل وقد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة ، فلم يك بقي معه إلا مائة أو نحوها ، فكتب مالك إلى علي ( عليه السلام ) : أما بعد فإن النعمان
    --------------------------- 218 ---------------------------
    بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف فَرَ ما أنت ترى . سددك الله تعالى وثبتك . والسلام .
    فاستعان مالك بن كعب مخنف بن سليم . قال عبد الله بن مخنف : فندب معي أبي مخنف خمسين رجلاً ، ولم يوافه يومئذ غيرهم ، فبعثني عليهم فانتهيت إلى مالك بن كعب وهو في مائة والنعمان وأصحابه قاهرون لمالك فانتهينا إليه مع الماء ، فلما رأوني ظنوا أن ورائي جيشاً فانحازوا ، فالتقيناهم فقاتلناهم وحجز الليل بيننا وبينهم وهم يظنون أن لنا مدداً فانصرفوا ، فقتل من أصحاب مالك بن كعب عبد الرحمن بن حرم الغامدي ، وضرب مسلم بن عمرو الأزدي على قمته فكسر ، وانصرف النعمان .
    فبلغ الخبر علياً ( عليه السلام ) فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أهل الكوفة المنسر من مناسر أهل الشام ، إذا أظل عليكم أغلقتم أبوابكم وانجحرتم في بيوتكم انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها ، الذليل والله من نصرتموه ، ومن رمى بكم رمى بأفوق ناصل ، أفٍّ لكم لقد لقيت منكم ترحاً ، ويحكم يوماً أناجيكم ويوماً أناديكم ، فلا أحرارٌ عند النداء ، ولاإخوان صدق عند اللقاء ، أنا والله منيت بكم ، صمٌّ لا تسمعون ، بكمٌ لاتنطقون ، عميٌ لا تبصرون ، فالحمد لله رب العالمين .
    ويحكم أخرجوا إلى أخيكم مالك بن كعب فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير ، فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الظالمين طرفاً ، ثم نزل فلم يخرجوا ، فأرسل إلى وجوههم وكبرائهم فأمرهم أن ينهضوا ويحثوا الناس على المسير ، فلم يصنعوا شيئاًً ! فقام عدي بن حاتم فتكلم فقال : هذا والله الخذلان القبيح ، هذا والله الخذلان غيرالجميل ، ما على هذا بايعنا أمير المؤمنين ثم دخل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين إن معي ألف رجل من طئ لايعصونني ، فإن شئت أن أسير بهم سرت ؟ قال : ما كنت لأعرض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس ، ولكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم ، فخرج فعسكر ، وفرض علي ( عليه السلام ) سبع مائة لكل رجل ، فاجتمع إليه ألف فارس عدا طيئاً أصحاب عدي بن حاتم ، فسار بهم على شاطئ الفرات ، فأغار في أداني الشام ، ثم أقبل .
    ثم ذكر الثقفي غارة النعمان فقال : ( عن أبي صالح الحنفي قال : رأيت علياً ( عليه السلام )
    --------------------------- 219 ---------------------------
    يخطب وقد وضع المصحف على رأسه حتى رأيت الورق يتقعقع على رأسه فقال : اللهم قد منعوني ما فيه فأعطني ما فيه ، اللهم قد أبغضتهم وأبغضوني ، ومللتهم وملوني ، وحملوني على غير خلقي وطبيعتي ، وأخلاق لم تكن تعرف لي ، اللهم فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شراً مني ، اللهم مث قلوبهم
    كما يماث الملح في الماء ) !
    وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال يومئذ ( نهج البلاغة : 1 / 91 ) : ( منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت ! لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم ، أما دين يجمعكم ولا حمية تحمشكم ! أقوم فيكم مستصرخاً وأناديكم متغوثاً ، فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً ، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة ، فما يدرك بكم ثار ولا يبلغ بكم مرام ! دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرِّ ، وتثاقلتم تثاقل النِّضْو الأدبر ، ثم خرج إلي منكم جُنيد متذائب ضعيف : كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وهُمْ يَنْظُرُونَ ! ) . والأسَرّ : المريض .
    والأدبر : المجروح .
    ملاحظات
    1 . كانت الأنصار عامةً مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وشذ منها النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد . وكانت قريش عامة مع معاوية إلا خمسة من شخصياتها .
    قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكشي : 1 / 281 ) : « كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية . فأما الخمسة فمحمد بن أبي بكر رحمة الله عليه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس ، وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان : إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي ( ( عليهما السلام ) ) أبو الربيع » .
    --------------------------- 220 ---------------------------
    2 . النعمان بن بشير ، ومسلمة بن مخلد ، وزيد بن ثابت ، من صبيان الأنصار وكانوا عند وفاة النبي ( ( عليهما السلام ) ) صغاراً دون العشر سنوات ، وكانوا يخدمون في دار الخلافة عند أبي بكر وعمر وعثمان ، فنشؤوا على سفرة الخليفة وعطائه ، وتربوا على حب بني أمية ، وبغض عترة النبي ( ( عليهما السلام ) ) !
    وقد وثقنا في تدوين القرآن أن زيد بن ثابت يهودي ، وأمه أنصارية . أما النعمان ومسلمة فهما خزرجيان موظفان عند بني أمية ، ولما قتل عثمان أرسلت زوجته نائلة النعمان بن بشير بقميصه وأصابعه إلى معاوية .
    وكان النعمان ومسلمة مع معاوية في صفين فشكا اليهما فقال ( صفين / 445 ) :
    ( يا هذان ، لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج ، صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال ، حتى والله جبنوا أصحابي الشجاع والجبان ، وحتى والله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلا قالوا قتلته الأنصار . أما والله لألقينهم بحدي وحديدي ، ولأعبين لكل فارس منهم فارساً ينشب في حلقه ) !
    3 قال ابن قتيبة في الإمامة ( 1 / 97 ) : ( ذكروا أن النعمان بن بشير وقف بين الصفين فقال : يا قيس بن سعد ، أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه . إنكم يا معشر الأنصار أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار ، وقتلكم أنصاره يوم الجمل ، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً ، كان هذا بهذا ، ولكنكم خذلتم حقاً ونصرتم باطلاً . . وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم ، ونحن أحسن بقية وأقرب إلى الظفر ، فاتقوا الله في البقية !
    فضحك قيس ، وقال : والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام ! أما المنصف المحق فلاينصح أخاه إن غش نفسه ، وأنت والله الغاش لنفسه الضال المضل المبطل فيم انتصح غيره . أما ذكرك عثمان فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه ، قتل عثمان من لست خيراً منه ، وخذله من هو خير منك . وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث . وأما معاوية فلو اجتمعت العرب على بيعته لقاتلتهم الأنصار . وأما قولك إنا لسنا كالناس فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) نتقي السيوف بوجوهنا ، والرماح بنحورنا ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون !
    --------------------------- 221 ---------------------------
    ولكن أنظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقاً أعرابياً أو يمانياً مستدرجاً ؟ وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ؟ ثم أنظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك ، ولستما والله بدريين ولا عقبيين ، ولا لكما سابقة في الإسلام ، ولا آية في القرآن ! وقال قيس في ذلك ( ابن الأعثم : 3 / 168 ) :
    والراقصات بكل أشعث أغبر * خوص العيون تحثها الركبان
    ما ابن المخلد ناسياً أسيافنا * فيمن نحاربه ولا النعمان
    تركا العيان وفي العيان كفاية * لو كان يدفع صاحبيك عيان
    وجدا معاوية بن صخر شبهه * فيها التلبس والبيان يهان ) .
    4 . ولما كان قيس بن سعد والي علي ( عليه السلام ) على مصر أرسل معاوية مسلمة إلى مصر ، قال الطبري ( 3 / 551 ) : ( وثب مسلمة بن مخلد الأنصاري فنعى عثمان بن عفان ، ودعا إلى الطلب بدمه ، فأرسل إليه قيس بن سعد : ويحك عليَّ تثب ! فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك ! فبعث إليه مسلمة أني كافٌّ عنك ما دمت أنت والي مصر ) .
    وتقدم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمر قيساً بأن يناجز مسلمة ومن معه في خربتا قرب الإسكندرية ، فلم يطعه قيس ، واضطر الإمام ( عليه السلام ) إلى عزله عن ولاية مصر !
    5 . جعلت السلطة النعمان ومسلمة صحابيين كبيرين ، وروت عنهما مصادرهم ، ورووا عن مسلمة أنه كان يقول بنقص القرآن ، وقد أخذه عن أئمته الأمويين والقرشيىن ، قال الهروي المتوفى / 224 ، في فضائل القرآن ( 1 / 172 ) : ( قال مسلمة : أخبروني بآيتين من القرآن لم يكتبا في المصحف ، فلم يخبروه ، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال مسلمة : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا وأنتم المفلحون ) .
    6 . أما النعمان فأرسله معاوية مع أبي هريرة إلى علي ( عليه السلام ) فأفحمه علي ( عليه السلام ) ، فزعم كاذباً أنه لم يأت رسولاً من معاوية وأنه جاء للإنضمام إلى علي ( عليه السلام ) ، وبقي
    --------------------------- 222 ---------------------------
    في الكوفة أشهراً ، وكان في الواقع جاسوساً لمعاوية ، ثم هرب اليه .
    7 . كانت غارة النعمان فاشلة ، كشفت جبنه وجبن جنوده ، مع أنهم كانوا عشرة أضعاف الذين قاتلوهم من شيعة علي ( عليه السلام ) .
    الغارة الرابعة : غارة ابن مسعدة الفزاري
    قال البلاذري ( 2 / 448 ) : ( الرابع من غارات معاوية على أطراف بلاد المسلمين : غارة ابن مسعدة الفزاري . قالوا : ودعا معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة الفزاريّ ، فبعثه إلى تيماء ، وضم إليه ألفاً وسبع مائة ، وأمره أن يصدق من مر به من العرب ، ويأخذ البيعة له على من أطاعه ، ويضع السيف على من عصاه ، ثم يصير إلى المدينة ومكة وأرض الحجاز ، وأن يكتب إليه في كل يوم بما يعمل به ويكون منه ، فانتهى ابن مسعدة إلى أمره وبلغ خبره علياً ( عليه السلام ) ، فندب المسيب بن نجبة الفزاري في كنف من الناس في طلبه ، فقال له : إنك يا مسيب من أثق بصلاحه وبأسه فسار المسيب حتى أتى الجناب ، ثم أتى تيماء .
    وانضم إلى عبد الله بن مسعدة قوم من رهطه من بني فزارة ، وانضم إلى ابن نجبة قوم من رهطه من بني فزارة ، فالتقى هو وابن مسعدة فاقتتلوا قتالاً شديداً وأصابت ابن مسعدة جراحات ، ومضى قوم من أصحابه إلى الشام منهزمين لايلوون عليه ، وبقي معه قوم منهم فلجأ ولجأوا إلى حائط حول حصن تيماء محيط به قديم ، فجمع المسيب حوله الحطب وأشعل فيه النار ، فناشدوه أن لا يحرقهم وكلم فيهم ، فأمر بإطفاء تلك النار ، وكان على الثلمة التي يخرج منها إلى طريق الشام عبد الرحمان بن أسماء الفزاري .
    فلما جنّ عليه الليل خلى سبيلهم فمضوا حتى لحقوا بمعاوية ، وأصبح المسيب فلم يجد في الحصن أحداً ، فسأله بعض أصحابه أن يأذن له في اتباع القوم فأبى ذلك . وقدم المسيب على علي ( عليه السلام ) وقد بلغه الخبر ، فحجبه أياماً ثم دعا به فوبخه وقال له : يا مسيب حابيت قومك وداهنت وضيعت ! فاعتذر إليه وكلمه وجوه أهل الكوفة في الرضاء عنه ، فلم يجبهم ، وربطه إلى سارية من سواري المسجد ، ويقال إنه حبسه ! ثم دعا به فقال له : إنه قد كلمني فيك من أنت أرجى عندي منه ، فكرهت أن يكون لأحد
    --------------------------- 223 ---------------------------
    منهم عندك يد دوني وأظهرالرضا عنه ، وولاه قبض الصدقة بالكوفة ، فأشرك في ذلك بينه وبين عبد الرحمان بن محمد الكندي ثم إنه حاسبهما فلم يجد عليهما شيئاً ، فوجههما بعد ذلك في عمل ولاهما إياه ، فلم يجد عليهما سبيلاً فقال : لو كان الناس كلهم مثل هذين الرجلين الصالحين ماضر صاحب غنم لو خلاها بلا راع ، وما ضر المسلمات لا تغلق عليهن الأبواب ، وما ضر تاجر لو ألقي تجارته بالعراء ) ! واليعقوبي ( 2 / 196 ) والطبري ( 4 / 103 ) .
    ملاحظات
    1 . من عجائب المقادير أن عبد الله بن مسعدة الفزاري هذا ، سُبِيَ وهو طفل ، فأعطاه النبي ( ( عليهما السلام ) ) إلى ابنته الزهراء ( عليها السلام ) فربته هي وعلي ( عليه السلام ) ثم أعتقته فكان جزاؤهما أن الفزاري صار من أشد الناس عداوة لعترة النبي ( ( عليهما السلام ) ) !
    قال ابن حجر في الإصابة ( 4 / 196 ) : ( وكان عبد الله في سبي بني فزارة فوهبه النبي لابنته فاطمة ( عليها السلام ) فأعتقته وكان صغيراً ، فتربى عندها ، ثم كان بعد ذلك عند معاوية ، وصار أشد الناس على علي ) !
    وفي تاريخ دمشق ( 12 / 238 ) : ( كان غلاماً ربته فاطمة وعلي ، وأعتقته ، فكان بعد ذلك مع معاوية ، أشد الناس على علي رضي الله تعالى عنه ) .
    وروي أن أم قرفة كانت جدة عبد الله بن مسعدة ، أو أمه . ( الإصابة : 4 / 196 ) .
    2 . سبب سبيه أن بني فزارة نصبوا العداء للنبي ( ( عليهما السلام ) ) وكان فيهم امرأة مسنة تسمى أم قرفة تجمع المغنيات فيغنين بذم النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وقد أعدت ثلاثين أو أربعين فارساً من ذريتها ، وقالت لهم أغيروا على المدينة واقتلوا محمداً ! فأغاروا هم وغيرهم على المدينة فردهم المسلمون ، وقتل منهم مسعدة أبو عبد الله ، وكان عائلته معه فسبوا ابنه وبنته وهما طفلان !
    قال ابن حجر في الإصابة ( 4 / 197 ) إن مسعدة قتله أبو قتادة في غارة فزارة على المدينة ، فأخذوا طفليه سبياً ، قال : دخل أبو قتادة على معاوية وعليه برد عدني وعند معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري فسقط رداء أبي قتادة على عبد الله بن
    --------------------------- 224 ---------------------------
    مسعدة فنفضها عنه بغضب ! فقال أبو قتادة من هذا يا أمير المؤمنين ؟ قال عبد الله بن مسعدة . قال : أنا والله دفعت بحصين أبي هذا بالرمح ، يوم أغار على سرح المدينة ! فسكت عبد الله بن مسعدة ) !
    يقول أنا طعنت أباه يوم أغاروا ، وكان ابنه عبد الله طفلاً فتركته أمه وهربت . وبعد غارتهم اعترض بنو فزارة طريق زيد بن حارثة وهو مسافر ، فنهبوا متاعه وآذوه ، فأمره النبي ( ( عليهما السلام ) ) بغزوهم فغزاهم ، وقتل أم قرفة .
    3 . كان عبد الله هذا أسود شديد السواد ، فخصه معاوية بجارية بيضاء ليبيض بها أولاده ! ففي تاريخ دمشق ( 12 / 238 ) : ( حدثني حديج خصي لمعاوية ، قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلتها عليه مجردة ( عارية ) وبيده قضيب ، فجعل يهوي به إلى متاعها ، ويقول هذا المتاع لو كان له متاع ! إذهب بها إلى يزيد بن معاوية . ثم قال : لا ، أدع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري فدعوته وكان آدم شديد الأدمة ( السمرة ) فقال : دونك هذه بيض بها ولدك ) . يعني جاؤوا لمعاوية بجارية عارية تماماً ، فضرب بخيزرانته على فرجها ، وقال نعم المتاع لمن عنده متاع ، أما هو فعاجز جنسياً ولذلك أعطاها إلى غلامه عبد الله بن مسعدة . وكان عبد الله قائداً مطيعاً لمعاوية .
    قال في الإصابة ( 4 / 197 ) : ( كان يؤمرعلى الجيوش في غزو الروم أيام معاوية ، وهو من صغارالصحابة ، ذكره البغوي وغيره في الصحابة ) .
    بل هو من صبيان بني أمية كمسلمة بن مخلد والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت .
    4 . سبب غضب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على المسيب بن نجبة الفزاري أنه كان يجب عليه أقلاً أن يأسر ابن مسعدة ومن معه بعد أن هرب جيشه وبقي في قلة ، وحاصرهم في حصن . وكان لعلي ( عليه السلام ) أسرى عند معاوية يحتاجون إلى مبادلة ، لكنه سهل له الهروب ، ولم يسمح لجنوده أن يتبعوه ليمسكوه !
  • *
    --------------------------- 225 ---------------------------
    الغارة الخامسة : غارة بُسرعلى الحرمين واليمن
    خلاصة الغارة برواية اليعقوبي
    وهي أشرس غارات معاوية ، وأكثرها فتكاً وتخريباً ونهباً وحرقاً وتقتيلاً !
    فقد بلغ قتلاها ثلاثون ألفاً ! قال اليعقوبي ( 2 / 197 ) : ( وجه معاوية بُسر بن أبي أرطاة من بني عامر بن لؤي ، في ثلاثة آلاف رجل ، فقال له : سر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها ، وأخف من مررت به ، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا ، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم ، وأنه لا براءة لهم عندك ولا عذر ، وسر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد ، وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة ، واجعلهم شرادات . ثم امض حتى تأتي صنعاء ، فإن لنا بها شيعة ، وقد جاءني كتابهم . فخرج بسر ، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية حتى قدم المدينة ، وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحى عن المدينة ، ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال : يا أهل المدينة ! مثل السوء لكم ، قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل وجعلكم أهله ، شاهت الوجوه . ثم ما زال يشتمهم حتى نزل !
    قال : فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج النبي ( ( عليهما السلام ) ) فقال : إني قد خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلال ! قالت : إذاً فبايع ، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلُب ، ويحضرون الأعياد مع قومهم . وهدم بسر دوراً بالمدينة ، ثم مضى حتى أتى مكة ، ثم مضى حتى أتى اليمن ، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس .
    وبلغ علياً الخبر ، فقام خطيباً فقال : أيها الناس إن أول نقصكم ذهاب أولي النُّهى والرأي منكم ، الذين يحدثون فيصدقون ويقولون فيفعلون ، وإني قد دعوتكم عوداً وبدأً ، وسراً وجهراً ، وليلاً ونهاراً ، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً ،
    --------------------------- 226 ---------------------------
    ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة !
    أما والله إني لعالم بما يصلحكم ، ولكن في ذلك فسادي ، أمهلوني قليلاً ، فوالله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم ويعذبه الله بكم !
    إن من ذل الإسلام وهلاك الدين ، أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجيبون ، وأدعوكم وأنتم لا تصلحون فتراعون ! هذا بسر قد صار إلى اليمن وقبلها إلى مكة والمدينة ! فقام جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أمير المؤمنين ! لا عدمنا الله قربك ، ولا أرانا فراقك ، فنعم الأدب أدبك ، ونعم الإمام والله أنت ، أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم !
    قال : تجهز فإنك ما علمتك رجل في الشدة والرخاء ، المبارك الميمون النقيبة ، ثم قام وهب بن مسعود الخثعمي فقال : أنا أنتدب يا أمير المؤمنين . قال : إنتدب بارك الله عليك . فخرج جارية في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين وأمرهما علي أن يطلبا بسراً حيث كان حتى يلحقاه ، فإذا اجتمعا فرأس الناس جارية ، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة حتى التقيا بأرض الحجاز ، ونفذ بسر من الطائف حتى قدم اليمن وقد تنحى عبيد الله بن عباس عن اليمن ، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثي ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه مالك بن عبد الله ، وقد كان عبيد الله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة قارظ الكنانية وهي أمهما ، وخلف معها رجلاً من كنانة ، فلما انتهى بسر إليها دعا ابني عبيد الله ليقتلهما ، فقام الكناني فانتضى سيفه وقال : والله لأقتلن دونهما فألاقي عذراً لي عند الله والناس فضارب بسيفه حتى قتل ! وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن : يا بسر ! هذا ، الرجال يقتلون فما بال الولدان ! والله ما كانت الجاهلية تقتلهم ، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء ! فقال بسر : والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف ! وقدم الطفلين فذبحهما ( بيده بخنجره ) ! فقالت أمهما ترثيهما :
    ها من أحس بنيَّيَّ اللذين هما * سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
    ها من أحس بنيي اللذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
    --------------------------- 227 ---------------------------
    ها من أحس بنيي اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف
    نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا * من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
    أنحى على ودجي ابني مُرهفةً * مشحوذة وكذاك الأمر مقترف
    من دل والهة حرى وثاكلة * على صبيين ضلا إذ غدا السلف
    ثم جمع بسر أهل نجران فقال : يا إخوان النصارى ! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمر أكرهه لأكثرن قتلاكم ! ثم سار نحو جيشان ، وهم شيعة لعلي ، فقاتلهم فهزمهم وقتل فيهم قتلاً ذريعاً ، ثم رجع إلى صنعاء .
    وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسراً ، فهرب منه في الأرض ولم يقم له ، وقتل من أصحابه خلقاً ، وأتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ مكة ، ومر بسر حتى دخل الحجاز لا يلوي على شئ ، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة بالبيعة ، فقالوا : قد هلك عليٌّ فلمن نبايع ؟ قال : لمن بايع له أصحاب عليٍّ بعده .
    حدثني أبو خالد الوالبي قال : قرأت عهد علي لجارية بن قدامة : أوصيك يا جارية بتقوى الله ، فإنها جموع الخير ، وسر على عون الله ، فالق عدوك الذي وجهتك له ، ولا تقاتل إلا من قاتلك ، ولا تجهز على جريح ، ولا تسخرن دابة وإن مشيت ومشى أصحابك ! ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم ، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم ، ولا تشتمن مسلماً ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه ، ولا تظلمن معاهداً ولا معاهدة ، واذكر الله ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً ، واحملوا رجالتكم ، وتواسوا في ذات أيديكم ، وأجدد السير ، وأجل العدو من حيث كان ، واقتله مقبلاً واردده بغيظه صاغراً ، واسفك الدم في الحق واحقنه في الحق ، ومن تاب فاقبل توبته . وأخبارك في كل حين بكل حال ، والصدق الصدق فلا رأي لكذوب . قال وحدث أبو الكنود أن جارية مر في طلب بسر فما كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شئ حتى انتهى إلى اليمن ونجران ، وهرب منه بسر ، وحرَّق تحريقاً ، فسمي محرقاً ) .
    وذكر المؤرخون أن أبا هريرة ساعد بسراً على ظلم أهل المدينة فنصبه والياً عليها
    --------------------------- 228 ---------------------------
    من قبل معاوية ! ولما قدم جارية بن قدامة هرب منه أبو هريرة !
    قال الطبري ( 4 / 107 ) وابن كثير ( 7 / 357 ) : ( هرب بسر وأصحابه منه واتبعهم حتى بلغ مكة فقال لهم جارية : بايعونا ، فقالوا : قد هلك أمير المؤمنين فلمن نبايع ؟ قال لمن بايع له أصحاب علي ، فتثاقلوا ثم بايعوا . ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه فقال جارية : والله لو أخذت أباسنَّوْر لضربت عنقه ، ثم قال لأهل المدينة : بايعوا الحسن بن علي فبايعوه ، وأقام يومه ثم خرج إلى الكوفة ، وعاد أبو هريرة فصلى بهم ) !
    ظروف غارة بسر بن أبي أرطاة
    قال الثقفي ( 2 / 598 ) : ( عن يزيد بن جابر الأزدي قال : سمعت عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري يحدث في خلافة عبد الملك بن مروان قال : لما دخلت سنة أربعين تحدث الناس بالشام أن علياً ( عليه السلام ) يستنفر الناس بالعراق فلا ينفرون معه ، وتذاكروا أن قد اختلفت أهواؤهم ووقعت الفرقة بينهم . قال : فقمت في نفر من أهل الشام إلى الوليد بن عقبة فقلنا له : إن الناس لا يشكون في اختلاف الناس على علي بالعراق ، فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم ، أو يصلح لصاحبهم منهم ما قد فسد عليه من أمرهم . قال فقال : بلى لقد قاولته على ذلك وراجعته وعاتبته حتى لقد برم بي واستثقل طلعتي ، وأيم الله على ذلك ما أدع أن أبلغه ما مشيتم به إلي ، فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه ومقالتنا له ، فأذن لنا فدخلنا عليه فقال : ما هذا الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد ؟
    فقلنا : هذا خبر في الناس سائر ، فشمر للحرب ، وناهض الأعداء ، واهتبل الفرصة ، واغتنم الغرة ، فإنك لا تدري متى تقدر من عدوك على مثل حالهم التي هم عليها ، وأن تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك ، واعلم والله أنه لولا تفرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك ، فقال لنا : ما أستغني عن رأيكم ومشورتكم ، ومتى أحتج إلى ذلك منكم أدعكم ، إن هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صاحبهم ، واختلاف أهوائهم ، لم يبلغ ذلك عندي بهم أن أكون أطمع في استئصالهم واجتياحهم إلى أن
    --------------------------- 229 ---------------------------
    أسير إليهم مخاطراً بجندي لا أدري علي تكون الدائرة أم لي ؟ فإياكم واستبطائي فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم وأبلغ في هلاكهم قد شننت عليهم الغارات في كل جانب ، فخيلي مرة بالجزيرة ، ومرة بالحجاز ، وقد فتح الله فيما بين ذلك مصر ، فأعز بفتحها ولينا وأذل به عدونا ، فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا ، يأتوننا على قلائصهم في كل يوم ، وهذا مما يزيدكم الله به وينقصهم ، ويقويكم ويضعفهم ، ويعزكم ويذلهم ، فاصبروا ولا تعجلوا ، فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها . فخرجنا من عنده ونحن نعرف الفضل فيما ذكر ) .
    وقال البلاذري ( 2 / 454 ) : ( والخامس من غارات معاوية الشعواء على المؤمنين الأبرياء . قالوا : كان عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عامل علي على اليمن اشتد على أهل صنعاء فيما يجب عليهم ، وطرد قوماً من شيعة عثمان عنها ، وكان سعيد بن نمران الهمداني على الجند ، فصنع مثل ذلك ، فتجمعت العثمانية وادعت أن الأمر قد أفضى إلى معاوية واجتمع الناس عليه ، فكتبا بذلك إلى علي فوجّه إليهما جبر بن نوف أباالودّاك بكتاب ينسبهما فيه إلى العجز والوهن ، فأرجف عبيد الله وسعيد بن نمران بأن يزيد بن قيس الأرحبي قد فصل من عند علي في جيش عظيم يريدهم ، وسألا أباالودّاك أن يحدث بذلك ويشيعه ، ففعل فكتبوا إلى معاوية
    معاوية إلا تسرع السير نحونا * نبايع علياً أو يزيد اليمانيا
    وإن كان فيما عندنا لك حاجة * فأرسل أميراً لا يكن متوانيا
    فبعث معاوية بسر بن أبي أرطاة ) .
    اعتمد معاوية المباغتة والغدر والهرب !
    في رواية الثقفي اضطراب وتقديم وتأخير ، وقد قومناها وجعلناها متسلسلة :
    قال ( 2 / 598 ) : ( بعث معاوية عند مخرجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطاة من بني عامر بن لؤي فبعثه في ثلاثة آلاف وقال : سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن يدخل في
    --------------------------- 230 ---------------------------
    طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنك تريد أنفسهم ، وأخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر ، حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم . ثم سر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد ، وأرهب الناس فيما بين المدينة ومكة ، واجعلهم شردات ، حتى تأتي صنعاء والجَنَد ، فإن لنا بهما شيعة وقد جاءني كتابهم !
    فخرج بسر بن أبي أرطاة في ذلك البعث حتى أتى دير مران فعرضهم فسقط منهم أربع مائة ومضى في ألفين وست مائة ، فقال الوليد بن عقبة : أرينا معاوية برأينا أن يسير إلى الكوفة ، فبعث الجيش إلى المدينة ، فمثلنا ومثله كما قال الأول : أريها السهى وتريني القمر !
    فبلغ ذلك معاوية فغضب عليه وقال : والله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق الذي لا يحسن التدبير ، ولا يدري سياسة الأمور . ثم إنه كف عنه .
    ثم سار بسر بن أبي أرطاة بمن معه من جيشه ، وكانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها ، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل فيركبون إبل هؤلاء ، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب من المدينة قال : وقد روي أن قضاعة استقبلتهم ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة وعامل علي على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ، فخرج عنها هارباً ودخل بسر المدينة ، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم وقال : شاهت الوجوه ، إن الله ضرب مثلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، وقد أوقع الله ذلك المثل بكم وجعلكم أهله ، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده ، فلم تشكروا نعمة ربكم ولم ترعوا حق أئمتكم ، وقتل خليفة الله بين أظهركم فكنتم بين قاتل وخاذل وشامت ومتربص . . ثم شتم الأنصار فقال : يا معاشراليهود وأبناء العبيد بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبدالأشهل ! أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان ، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة ، فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى ويقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده
    --------------------------- 231 ---------------------------
    وقال : عشيرتك وأنصار رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وليسوا بقتلة عثمان ، فلم يزل به حتى سكن ، فدعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوا ، ونزل بسر فأحرق دوراً ، أحرق دار زرارة بن جرول أحد بني عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الزرقي ، ودار أبي أيوب الأنصاري ، وفقد جابر بن عبد الله فقال : ما لي لا أرى جابراً يا بني سلمة ؟ لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر بن عبد الله الأنصاري فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها ، فأرسلت إلى بسر بن أرطاة ، فقال : لا أؤمنه حتى يبايع ، فقالت له أم سلمة : إذهب فبايع وقالت لابنها عمر : إذهب فبايع ، فذهبا فبايعا !
    عن وهب بن كيسان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : فأتاني قومي فقالوا : ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعتَ فحقنتَ دمك ودماء قومك ، فإن لم تفعل ذلك قُتِلت مقاتلونا وسُبِيَت ذريتنا ، قال : فاستنظرتهم الليل فأتيت أم سلمة زوجة النبي فأخبرتها الخبر ، فقالت : يا بني انطلق فبايع احقن دمك ودماء قومك ، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع ، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة . قال : فأقام بسر أياماً ثم قال لهم : إني قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا لذلك بأهل ! ما قوم قتل إمامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكف عنهم العذاب ، ولئن نالكم العفو مني في الدنيا فإني لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله في الآخرة ! وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإياكم وخلافه ، ثم خرج إلى مكة !
    عن الوليد بن هشام قال : فصعد منبر النبي ( ( عليهما السلام ) ) فقال : يا أهل المدينة أخضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوباً ! والله لا أدع في المسجد مخضوباً إلا قتلته ثم قال لأصحابه : خذوا بأبواب المسجد وهو يريد أن يستعرضهم . فقام إليه عبد الله بن الزبير وأبو قيس رجل من بني عامر بن لؤي ، فطلبا إليه حتى كف عنهم !
    وخرج من المدينة فأتى مكة فلما قرب منها هرب قثم بن العباس وكان عامل علي ( عليه السلام ) ، ودخل بسر مكة فشتمهم وأنبهم ، ثم خرج من مكة ، واستعمل عليها شيبة بن عثمان الحجبي .
    عن الكلبي : أن بُسراً لما خرج من المدينة إلى مكة فقتل في طريقه رجالاً وأخذ
    --------------------------- 232 ---------------------------
    أموالاً ، وبلغ أهل مكة خبره فتنحى عنها عامة أهلها ، وتراضى الناس بشيبة بن عثمان أميراً لما خرج قثم بن العباس عنها ، فخرج إلى بُسرقوم من قريش فتلقوه فشتمهم ، ثم قال : أما والله لو تركت ورأيي فيكم لما خليت فيكم روحاً تمشي على الأرض ! فقالوا : ننشدك الله في أهلك وعشيرتك فسكت ، ثم دخل فطاف بالبيت وصلى ركعتين ثم خطبهم فقال : الحمد لله الذي أعز دعوتنا ، وجمع ألفتنا ، وأذل عدونا بالقتل والتشريد ، هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق ، قد ابتلاه الله بخطيئته ، وأسلمه بجريرته ، فتفرق عنه أصحابه ناقمين عليه تولى الأمر معاوية الطالب بدم عثمان ، فبايعوا ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً ، فبايعوا . وفَقَد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده ، وأقام أياماً ثم خطبهم فقال : يا أهل مكة إني قد صفحت عنكم فإياكم والخلاف ، فوالله لئن فعلتم لأقصدن منكم إلى التي تبير الأصل وتَحْرُب المال وتُخرب الديار .
    وخرج بسر إلى الطائف فكتب المغيرة بن شعبة إلى بسر حين خرج من مكة متوجهاً إلى الطائف : أما بعد فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز ونزولك مكة ، وشدتك على المريب وعفوك عن المسئ ، وإكرامك لأولي النهى ، فحمدت رأيك في ذلك ، فدم على صالح ما أنت عليه ، فإن الله لن يزيد بالخيرأهله إلا خيراً ، جعلنا الله وإياك من الآمرين بالمعروف ، والقاصدين إلى الحق ، والذاكرين الله كثيراً .
    ووجه بُسررجلاً من قريش إلى تبالة وبها قوم من شيعة علي ( عليه السلام ) وأمره بقتلهم فأخذهم وكلم فيهم فقيل له : هؤلاء قومك فكف عنهم حتى نأتيك بكتاب من بسر بأمانهم ، فخرج منيع الباهلي إلى الطائف واستشفع إلى بسر فيهم وتحمل بقوم من الطائف عليه فكلموه فيهم ، وسألوه الكتاب بإطلاقهم فأنعم لهم ومطلهم بالكتاب حتى ظن أنهم قد قتلوا ، وأن كتابه لا يصل إليهم حتى يقتلوا ، فكتب إليهم . فأتى منيع منزله وقد كان نزل على امرأة بالطائف ورحله عندها فلم يجدها في منزلها فتوطأ على ناقته بردائه وركب فسار يوم الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قط فأتاهم
    ضحوة ، وقد أخرج القوم ليقتلوا واستبطأ كتاب بسر فيهم ، فقدم رجل منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه ، فقال الشاميون بعضهم لبعض : شمسوا سيوفكم
    --------------------------- 233 ---------------------------
    حتى تلين فهزوها ، فتبصر منيع بريق السيوف فلوح بثوبه ، فقال القوم : هذا راكب عنده خبر فكفوا وقام به بعيره ، فنزل عنه وجاء يشتد على رجليه فدفع الكتاب إليهم ، وكان الرجل المقدم الذي ضرب بالسيف فانقطع السيف أخاه ، وأمر بتخليتهم !
    قال : ولما دخل بسر الطائف وكلمه المغيرة قال له : صدقتني ونصحتني ، فبات فيها ثم خرج منها ، وخرج المغيرة فشيعه ساعة ثم ودعه وانصرف .
    قال : وكان بسر مضى حتى مر بأرض اليمامة فنزل بالماء ولم يكن أهل اليمامة دخلوا في طاعة أحد بعد عثمان وكانوا معتزلين أمر الناس مع القاسم بن وبرة أميرهم ، فلما مر بهم بسر وأراد مواقعتهم أتى ابن مجاعة بن مرارة فقال له : دع قومي لاتعرض لهم ، أخرج بي إلى معاوية حتى أصالحه على قومي ، فأخذه معه وذهب به إلى معاوية فصالحه عن قومه .
    عن الكناني قال : وخرج بسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله الأصغر بن عبد المدان ، وكان يقال له : عبدالحجر ، وابنه مالكاً ، وقال بعضهم : إنه لم يقتل عبد الله وقتل مالكاً ورجلاً آخر من بني عبد المدان ، فبكاهما شاعر قريش فقال :
    ولولا أن تعنفني قريش * بكيت على بني عبد المدان
    لهم أبوان قد علمت معد * على أبنائهم متفضلان
    وبلغنا أن عبد الله بن عبد المدان كان صهراً لعبيد الله بن العباس ، فأخذه بسر وقتله ، ودعا ابنه مالكاً وكان أدنى لأبيه في الشرف ، وكان يدعى لمالك باليمن فضرب عنقه ، ثم جمعهم وقام فيهم يتهدد أهل نجران فقال : يا معاشر النصارى وإخوان القرود ! أما والله لئن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل ، وتهلك الحرث ، وتُخرب الديار ، فمهلاً مهلاً ، وسار حتى أتى أرحب فقتل أباكرب وكان يتشيع ، ويقال : إنه كان سيد من بالبادية من همدان ، فقدمه وقتله ، وقتل قتلاً ذريعاً !
    وأتى صنعاء وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، وقد
    --------------------------- 234 ---------------------------
    استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة بن عبد الله بن الحارث بن حبيب الثقفي ، فمنع بُسراً من دخول صنعاء وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء ، فقتل فيها قوماً . وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد رجع إلى قومه فقال لهم : أنعى قتلانا . .
    شيوخاً وشبانا .
    وكان عبيد الله قد جعل ابنيه عند رجل من بني كنانة ، فلما انتهى بسر إليهما أراد أن يقتلهما فلما رأى ذلك الكناني دخل بيته وأخذ السيف وخرج إليه فقال له بسر : ثكلتك أمك والله ما كنا أردنا قتلك فلمَ عرَّضت نفسك للقتل ؟ قال : نعم أقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس ، ثم شد عليهم بالسيف حاسراً وهو يقول :
    آليت لا يمنع حافات الدار * ولا يموت مصلتاً دون الجار
  • إلا فتى أروع غير غدار
    فضارب بسيفه حتى قتل ! وقدَّم الغلامين فقتلهما ، فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن : هذه الرجال تقتلها فعلام تقتل الولدان ؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية ولا في الإسلام .
    والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الضَّرْع الضعيف والمُدَرْهَم ( الهرم ) الكبير ، ورفع الرحمة وقطع الأرحام لسلطان سوء !
    فقال بسر : والله لهممت أن أضع فيكن السيف ! قالت : والله إنه لأحب إلي إن فعلته وقالت جويرية أبياتها : ها من أحس بُنَيَّيَّ إلى آخر الأبيات المتقدمة . ويقال إنه ذبحهما على درج صنعاء ( بيده ) لارحم الله بسراً !
    وبلغني من حديث عبد الملك بن نوفل عن أبيه أن بسراً لما صمد صمد عبيد الله بن العباس بصنعاء ، فأقبل نحوهم فاجتمعت شيعة عثمان فأقبلوا نحو صنعاء . وذكر عن أبي الوداك قال : كنت عند علي ( عليه السلام ) حين قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه وعلى عبيد الله أن لا يكونا قاتلا بسراً ، فقال سعيد : والله قاتلت ولكن ابن عباس خذلني وأبى أن يقاتل ، ولقد خلوت به حين دنا منا بسر فقلت : إن ابن عمك لا يرضى مني ولا منك إلا بالجد في قتالهم ، وما نعذر ، قال : لا والله ما لنا بهم طاقة ولا
    --------------------------- 235 ---------------------------
    يدان ، فقمت في الناس وحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت : يا أهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإلي إلي فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالاً ضعيفاً ، وتفرق الناس عني وانصرفت ووجهت إلى صاحبي فحذرته موجدة صاحبه عليه وأمرته أن يتمسك بالحصن ويبعث إلى صاحبنا ويسأله المدد ، فإنه أجمل بنا وأعذر لنا ، فقال : لا طاقة لنا بمن جاءنا ، وأخاف تلك ، وزحف إليهم بُسر فاستقبلهم سعيد بن نمران فحملوا عليه فقاتل قتالاً كلا ولا ، ثم انصرف هو وأصحابه إلى عبيد الله !
    وحضر صنعاء ثم خرج منها حتى لقي أهل جيشان ، وهم شيعة لعلي فقاتلهم وهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً ، وتحصنوا منه ثم إنه رجع إلى صنعاء . وكان بسر إذا قرب من منزل تقدم رجل من أصحابه حتى يأتي أهل الماء فيسلم فيقول : ما تقولون في هذا المقتول بالأمس عثمان ؟ قال : إن قالوا : قتل مظلوماً لم يعرض لهم ، وإن قالوا : كان مستوجباً للقتل قال : ضعوا السلاح فيهم ، فلم يزل على ذلك حتى دخل صنعاء ، فهرب منه عبيد الله بن العباس وكان واليا لعلي ( عليه السلام ) عليها ، واستخلف عمرو بن أراكة فأخذه بسر فضرب عنقه ، وأخذ ابني عبيد الله فذبحهما على درج صنعاء ، وذبح في آثار هما مائة شيخ من أبناء فارس ، وذلك أن الغلامين كانا في منزل أم النعمان بنت بزرج ، امرأة من الأبناء ) .
    أقول : كان هروب والي اليمن عبيد الله بن عباس وصاحبه نمران ، فضيحة موصوفة ، فهي عار لا يزول عن بني العباس ، وبني نمران الهمدانيين .
    مسير جارية بن قدامة رضي الله عنه
    ثم روى الثقفي عن عدة مؤرخين فقال : ( فندب علي ( عليه السلام ) الناس فتثاقلوا عنه . . وقدم زرارة بن قيس الشاذي فخبر علياً بالعدة التي خرج فيها بسر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
    أما بعد أيها الناس فإن أول فرقتكم وبدء نقصكم ذهاب أولي النهى وأهل الرأي منكم ، الذين كانوا يلقون فيصدقون ، ويقولون فيعدلون ، ويدعون فيجيبون ،
    --------------------------- 236 ---------------------------
    وأنا والله قد دعوتكم عوداً وبدءً وسراً وجهاراً وفي الليل والنهار والغدو والآصال ، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً وإدباراً ، أما تنفعكم العظة والدعاء إلى الهدى والحكمة ، وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ، ولكني والله لا أصلحكم بإفساد نفسي ، ولكن أمهلوني قليلاً فكأنكم والله بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذبكم فيعذبه الله كما يعذبكم ، إن من ذل المسلمين وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجاب ، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار ، فتراوغون وتدافعون ، ما هذا بفعل المتقين ! إن بسر بن أبي أرطاة وجه إلى الحجاز وما بسر ، لعنه الله ! لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردوه عن شنته ، فإنما خرج في ست مائة أو يزيدون .
    قال : فسكت الناس ملياً لا ينطقون ، فقال : ما لكم أمخرسون أنتم لا تتكلمون ؟ فقام أبو بردة بن عوف الأزدي فقال : إن سرت يا أمير المؤمنين سرنا معك فقال : اللهم ما لكم ! لاسددتم لمقال الرشد ، أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج ! إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ترضون من فرسانكم وشجعانكم ، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين ، والنظر في حقوق الناس ، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى في الفلوات وشعف الجبال ! هذا والله الرأي السوء ! والله لولا رجائي عند لقائهم لوقد حُمَّ لي لقاؤهم لقربت ركابي ثم لشخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال ! فوالله إن فراقكم لراحة للنفس والبدن .
    فقام جارية بن قدامة فقال : أنا أكفيكهم يا أمير المؤمنين فقال : أنت لعمري لميمون النقيبة حسن النية صالح العشيرة ، وندب معه ألفين وقال بعضهم : ألفاً ، وأمره أن يأتي البصرة فيضم إليه مثلهم ، فشخص جارية وخرج معه يشيعه فلما ودعه قال : إتق الله الذي إليه تصير ، ولاتحتقرمسلماً ، ولا معاهداً ، ولا تغصبن مالاً ، ولا ولداً ، ولا دابةً ، وإن حفيتَ وترجلتَ ، وصل الصلاة لوقتها . فأمره أن يسير إلى البصرة فخرج منها في ألفين وندب معه الخثعمي من الكوفة ألفين فقال لهما : أخرجا في طلب بسر بن أبي أرطاة حتى تلحقاه فأينما لحقتماه فناجزاه ، فإذا التقيتما فجارية بن قدامة على الناس . فخرجا في طلب بسر فخرج وهب بن مسعود من الكوفة .
    --------------------------- 237 ---------------------------
    فقدم جارية البصرة فضم إليه مثل الذي معه ، ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن ، لم يغصب أحداً ولم يقتل أحداً إلا قوماً ارتدوا باليمن فقتلهم وحرقهم ، وسأل عن طريق بسر فقالوا : أخذ على بلاد بني تميم فقال : أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم .
    عن فضيل بن خديج قال : كان وائل بن حجرعند علي ( عليه السلام ) بالكوفة ، وكان يرى رأي عثمان ، فقال لعلي ( عليه السلام ) : إن رأيت أن تأذن لي بالخروج إلى بلادي وأصلح مالي هناك ، ثم لا ألبث إلا قليلاً إن شاء الله حتى أرجع إليك ، فأذن له علي وظن أن ذلك مثل ما ذكره ، فخرج إلى بلاد قومه وكان قيلاً من أقيالهم عظيم الشأن فيهم ، وكان الناس بها أحزاباً وشيعاً ، فشيعة ترى رأي عثمان وأخرى ترى رأي علي ، فكان وائل بن حجر هناك حتى دخل بُسر صنعاء فكتب إليه : أما بعد فإن شيعة عثمان ببلادنا شطر أهلها فاقدم علينا فإنه ليس بحضرموت أحد يردك عنها ولا ينصب لك فيها ، فأقبل إليها بسر بمن معه حتى دخلها فزعم أن وائلاً استقبل بسر بن أبي أرطاة بشنوءة ، فأعطاه عشرة آلاف ، وأنه كلمه في حضرموت فقال له : ما تريد ؟ قال : أريد أن أقتل ربع حضرموت قال : إن كنت تريد أن تقتل ربع حضرموت فاقتل عبد الله بن ثوابة ، إنه لرجل فيهم ، وكان من المقاولة العظام ، وكان له عدواً ، في رأيه مخالفاً !
    فجاءه بسر حتى أحاط بحصنه ، وهو حصن مما كان الحبش بَنَته أول ما قدمت ، وكان بناءً معجباً ، لم يُر في ذلك الزمان مثله ، فدعاه إليه فنزل ، وكان للقتل آمناً ، فلما نزل أتاه فقال : اضربوا عنقه ، قال له : أتريد قتلي ؟ قال : نعم ، قال : فدعني أتوضأ وأصلي ركعتين ، قال : إفعل ما أحببت ، فاغتسل وتوضأ ولبس ثياباً بيضاًوصلى ركعتين ثم قدم ليقتله فقال : اللهم إنك عالم بأمري ، فقدم فضرب عنقه وأخذ ماله ، وأخذ له مائة وخمسين عيناً !
    وكان له أخت وكان ذلك المال بينهما ، وكان لها منه الثلث ، فلما قتل وأخذ ماله قالت أخته : من بقي القتيل ويبكع الدية أي ويعطي الدية ، وهذه لغتهم ،
    --------------------------- 238 ---------------------------
    فبلغ قولها معاوية فرد عليها ثلث المال . وبلغ علياً ( عليه السلام ) مظاهرة وائل بن حجر شيعة عثمان على شيعته ومكاتبته بسراً ، فحبس ولديه عنده .
    عن عبد الرحمن بن عبيد : أن جارية بن قدامة أغذ السيرفي طلب بسر بن أبي أرطاة ما يلتفت إلى مدينة مر بها ولا أهل حصن ، ولا يعرج على شئ إلا أن يرمل بعض أصحابه من الزاد ، فيأمر أصحابه بمواساته ، أو يسقط بعير رجل أو تحفى دابته فيأمر أصحابه فيعقبونه . قال فمضى حتى انتهى إلى بلاد اليمن فهربت شيعة عثمان فلحقوا بالجبال واتبعتهم عند ذلك شيعة علي وتداعت عليهم من كل جانب وأصابوا منهم ، وخرج جارية في أثر القوم وترك المدائن أن يدخلها ، ومضى نحو بسر فمضى بسر من حضرموت حين بلغه أن الجيش قد أقبل ، وأخذ طريقاً على الجوف وترك الطريق الذي أقبل منه ، وبلغ ذلك جارية فاتبعه حتى أخرجه من اليمن كلها ، فلما فعل ذلك به أقام بجرش نحواً من شهر ، حتى استراح وأراح أصحابه .
    وأقبل جارية حتى دخل مكة وخرج بسر منها يمضي قبل اليمامة فقام جارية على منبر مكة فقال : يا أهل مكة ما رأيكم ومع من أنتم ؟ قالوا : كان رأينا معكم وكانت بيعتنا لكم ، فجاء هؤلاء القوم فدخلوا علينا فلم نستطع منهم ولم نقم لهم ، وكانت بيعتكم قبلهم ولكنهم قهرونا ، قال : إنما مثلكم مَثَل الذىن : إذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ، قوموا فبايعوا ، قالوا : لمن نبايع رحمك الله وقد هلك أمير المؤمنين علي رحمة الله عليه ولا ندري ما صنع الناس بعده ؟ قال : وما عسى أن يصنعوا إلا أن يبايعوا الحسن بن علي ، قوموا فبايعوا ثم اجتمعت عليه شيعة علي ( عليه السلام ) فبايعوا . وخرج منها فجاء ودخل المدينة وقد اصطلحوا على أبي هريرة يصلي بالناس ، فلما بلغهم مجئ جارية توارى أبو هريرة ، وجاء جارية حتى دخل المدينة فصعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه وذكر رسول الله فصلى عليه ثم قال : أيها الناس إن علياً رحمه الله يوم ولد ويوم توفاه الله ويوم يبعث حياً ، كان عبداً من عباد الله الصالحين ، عاش بقدر ، ومات بأجل ، فلا يهنأ الشامتين . هلك سيد المسلمين ، وأفضل المهاجرين ، وابن عم النبي ( ( عليهما السلام ) ) . أما والذي لا إله إلا هو لو أعلم الشامت منكم لتقربت إلى الله
    --------------------------- 239 ---------------------------
    عز وجل بسفك دمه ، وتعجيله إلى النار ، قوموا فبايعوا الحسن بن علي فقام الناس فبايعوا ، وأقام يومه ذلك ثم غدا منها منصرفاً إلى الكوفة ، وغدا أبو هريرة يصلي بالناس ! ( أي رجع من هروبه ) .
    قال : وأقبل جارية حتى دخل على الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فضرب على يده فبايعه وعزاه وقال : ما يجلسك ؟ سِرْ بنا إلى عدوك قبل أن يسار إليك !
    فقال : لو كان الناس كلهم مثلك سرت بهم ! p زعم معاوية أن الله تعالى فعل أفعال بُسر .
    قال الثقفي في روايته : ورجع بسر فأخذ على طريق السماوة حتى أتى الشام فقدم على معاوية فقال : يا أمير المؤمنين أحمد الله ، فإني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك ذاهباً وراجعاً ، لم ينكب رجل منهم نكبة !
    فقال معاوية : الله فعل ذلك لا أنت ! وكان الذي قتل بسر في وجهه ذاهباً وراجعاً ثلاثين ألفاً ، وحرق قوماً بالنار !
    وقد كان علي ( عليه السلام ) دعا قبل موته على بسر فيما بلغنا فقال : اللهم إن بُسراً باع دينه بدنياه ، وانتهك محارمك ، وكانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك ، اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله [ اللهم ليحل عليهم غضبك ، ولتنزل بهم نقمتك وليصبهم بأسك ورجزك الذي لاترده عن القوم المجرمين ] فما لبث بعد وفاة علي ( عليه السلام ) إلايسيراً حتى وسوس وذهب عقله !
    عن علي بن محمد بن أبي سيف : قال علي ( عليه السلام ) : اللهم العن معاوية وعمراً وبُسراً ، أما يخاف هؤلاء المعاد ؟ فاختلط بسر بعد ذلك فكان يهذي ويدعو بالسيف فاتخذ له سيفاً من خشب فإذا دعا بالسيف أعطي السيف الخشب فيضرب به حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق طلبه فيدفع إليه فيصنع به مثل ذلك حتى مات ، لا رحمه الله ) .
    --------------------------- 240 ---------------------------
    وصول والي اليمن عبيد الله بن عباس هارباً
    قال في نهج البلاغة ( 1 / 88 ) : ( ومن خطبة له ( عليه السلام ) وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد ، وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، لما غلب عليها بسر بن أبي أرطاة ، فقام ( عليه السلام ) إلى المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي ، فقال : ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها ! إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك الله ! وتمثل بقول الشاعر :
    لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وَضَرٍ من ذا الإناء قليل
    ثم قال ( عليه السلام ) : أنبئت بسراً قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته !
    اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً مني ، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء ، أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم :
    هنالك لو دعوت أتاك منهم * فوارس مثل أرمية الحميم
    ثم نزل ( عليه السلام ) من المنبر ) . والأرمية : السحاب ، أي يأتونك سراعاً كالسُّحب !
    ومعناه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دعا عليهم كما وجهه النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، ومعناه أن أمته تحول جمهورها بين يديه إلى تراب خامل ، لا يتقبل مطراً ولا ينبت نباتاً !
    روى ابن سعد ( 3 / 36 ) وغيره قوله ( عليه السلام ) : ( إني بتُّ الليلة أوقظ أهلي ، فملكتني عيناي وأنا جالس ، فسنح لي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فقلت : يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأوَد واللدد ! فقال لي : أدع الله عليهم . فقلت : اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم ، وأبدلهم شراً لهم مني ) !
    والأود : الإعوجاج ، واللدد : الخصومة والجدل .
    وفي العقد الفريد ( 3 / 124 ) : ( فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي ، وقلة رغبتهم في الجهاد ، فقال : أدع الله أن يريحك منهم ، فدعوت الله ) !
    --------------------------- 241 ---------------------------
    عن القاسم بن الوليد ، أن عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران قدما على علي ( عليه السلام ) وكان عبيد الله عامله على صنعاء ، وسعيد بن نمران عامله على الجَنَد ، خرجا هاربين من بسر بن أبي أرطاة وأصاب ابني عبيد الله بن العباس لم يدركا الحنث فقتلهما قال : وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يجلس كل يوم في موضع من المسجد الأعظم يسبح فيه بعد الغداة إلى طلوع الشمس ، فلما طلعت الشمس نهض إلى المنبر فضرب بإصبعيه على راحته وهو يقول : ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها .
    لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وَضَرٍ من ذا الإناء قليل
    ومن حديث بعضهم أنه قال : لو لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك
    الله . ثم رجع إلى الحديث ثم قال : أيها الناس ألا إن بسراً قد اطلع اليمن وهذا عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران قدما عليَّ هاربين ، ولا أرى هؤلاء القوم إلا ظاهرين عليكم لاجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم إياي ، إني وليت فلاناً فخان وغدر واحتمل فيئ المسلمين إلى معاوية ، ووليت فلاناً فخان وغدر وفعل مثله ، فصرت لا أئتمنكم على علاقة سوط ، وإن ندبتكم إلى عدوكم في الصيف قلتم : أمهلنا ينسلخ الحر عنا ، وإن ندبتكم في الشتاء قلتم : أمهلنا ينسلخ القر عنا !
    اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم من هو خير لي منهم ، وأبدلهم بي من هو شر لهم مني ، اللهم مث قلوبهم ميث الملح في الماء ! ثم نزل ) .
    عار الفرار على جبين أولاد العباس
    روى في الخصال / 454 : ( سمعت جعفر بن محمد يحدث عن أبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : سئل رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عن ولد عبد المطلب فقال : عشرة ، والعباس ) !
    --------------------------- 242 ---------------------------
    وقد فسر الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 259 ) قول النبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( عشرة والعباس ) فقال : ( توفي مولى لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أبا عبد الله ( عليه السلام ) وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك السنة ، فجلس لهم فقال داود بن علي : الولاء لنا . وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : بل الولاء لي . فقال داود بن علي : إن أباك قاتل معاوية ، فقال : إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته ، وقال : والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة ، فقال له داود بن علي : كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق ، فقال : أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق ! قال فقال هشام : إذا كان غداً جلست لكم ، فلما أن كان من الغد خرج أبو عبد الله ومعه كتاب في كرباسة ، وجلس لهم هشام ، فوضع أبو عبد الله الكتاب بين يديه فلما أن قرأه قال : ادعوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري ، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية ، فرمى بالكتاب إليهما فقال : تعرفان هذه الخطوط ؟ قالا : نعم ، هذا خط العاص بن أمية ، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش . وهذا خط حرب بن أمية . فقال هشام : يا أبا عبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم ؟ فقال : نعم ، قال : فقد قضيت بالولاء لك . قال : فخرج وهو يقول :
    إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرة
    قال فقلت : ما هذا الكتاب جعلت فداك ؟ قال : فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبد الله ، فأخذها عبد المطلب فأولدها فلاناً ، فقال له الزبير : هذه الجارية ورثناها من أمنا ، وابنك هذا عبدلنا ، فتحمل عليه ببطون قريش ، قال فقال : قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس ، ولايضرب معنا بسهم . فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه ، فهو هذا الكتاب ) .
    ومعناه : أن العباس وأولاده لا تحل لهم الخلافة لأنهم من الطلقاء ، ولأنهم عبيد لأبناء عبد المطلب : الزبيروأبي طالب وعبد الله ، الذين كانت أمه أمةً لأمهم المخزومية
    ( دلائل النبوة / 99 ) وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها ، فابنها ملك لهم تبعاً لأمه ، لأنهم أحلوها لأبيهم ولم يبيعوها .
    ومعروف عن ولد عبد المطلب أنهم لا يفرون ، وقد كان فرار قثم بن العباس والي
    --------------------------- 243 ---------------------------
    من مكة من بُسر ، وفرار عبيد الله والي اليمن عاراً على جبين العباسيين ! وقد حاول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وابن نمران الهمداني أن يثبِّتا عبيد الله في اليمن ليقاوم بسراً ، فلم تنفع محاولتهما بسبب جبنه !
    انهزام عبيد الله أمام نشاط مخالفيه في اليمن
    قال الثقفي في الغارات ( 2 / 593 ) : ( فلما اختلف الناس على علي ( عليه السلام ) بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر ، وكثرت غارات أهل الشام ، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان ، ومنعوا الصدقات وأظهروا الخلاف ، فبلغ ذلك عبيد الله بن العباس فأرسل إلى ناس من وجوههم فقال : ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ قالوا : إنا لم نزل ننكر قتل عثمان ونرى مجاهدة من سعى عليه فحبسهم ، فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم فثاروا بسعيد بن نمران فأخرجوه من الجند وأظهروا أمرهم وخرج إليهم من كان بصنعاء ، وانضم إليهم كل من كان على رأيهم ، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم إرادة أن يمنعوا الصدقة .
    فذكر من حديث أبي روق قال : والتقى عبيد الله وسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي فقال ابن عباس لابن نمران : والله لقد اجتمع هؤلاء وإنهم لنا لمقاربون ولئن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة فهلم فلنكتب إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخبرهم وعددهم وبمنزلهم الذي هم به فكتبا إلى علي : أما بعد ، فإنا نخبرأميرالمؤمنين أن شيعة عثمان وثبوا بنا وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره واتسق له أكثر الناس ، وإنا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين ومن كان على طاعته وإن ذلك أحمشهم وألبهم فتعبوا لنا وتداعوا علينا من كل أوب ، ونصرهم علينا من لم يكن له رأي فيهم ممن سعى إلينا إرادة أن يمنع حق الله المفروض عليه ، وقد كانوا لا يمنعون حقاً عليهم ولا يؤخذ منهم إلا الحق ، فاستحوذ عليهم الشيطان فنحن في خير وهم منك في قفزة ، وليس يمنعنا من مناجزتهم إلا انتظار الأمر من مولانا أمير المؤمنين أدام الله عزه وأيده وقضى بالأقدار الصالحة في جميع أموره . والسلام .
    --------------------------- 244 ---------------------------
    فلما وصل كتابهما ساء علياً ( عليه السلام ) وأغضبه فكتب إليهما : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، سلام عليكما ، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة ، وتعظمان من شأنها صغيراً ، وتكثران من عددها قليلاً ، وقد علمت أن نخب أفئدتكما ، وصغر أنفسكما ، وشتات رأيكما ، وسوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عنكما نائماً ، وجرأ عليكما من كان عن لقائكما جباناً ، فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم ، وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربهم ، فإن أجابو حمدنا الله وقبلنا منهم ، وإن حاربوا استعنا عليهم بالله ونابذناهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . والسلام عليكما .
    عن الكلبي أن علياً ( عليه السلام ) قال ليزيد بن قيس الأرحبي : ألا ترى إلى ما صنع قومك ؟ فقال : إن ظني يا أمير المؤمنين بقومي لحسن في طاعتك ، فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم ، وإن شئت فكتبت إليهم فتنظر مايجيبونك ، فكتب إليهم علي ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء ، أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يعقب له حكم ، ولا يرد له قضاء ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، وقد بلغني تحزبكم وشقاقكم وإعراضكم عن دينكم ، وتوثبكم بعد الطاعة وإعطاء البيعة والألفة ،
    فسألت أهل الحجى والدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به ، وما أحمشكم له ، فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شئ منه عذراً مبيناً ولا مقالاً جميلاً ، ولا حجة ظاهرة ، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم . واتقوا الله وارجعوا إلى الطاعة أصفح عن جاهلكم وأحفظ عن قاصيكم ، وأقوم فيكم بالقسط ، وأعمل فيكم بكتاب الله .
    وإن أبيتم ولم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان عريض الأركان ، يقصد لمن طغى وعصى فتطحنوا طحناً كطحن الرحى ، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ، وما ربك بظلام للعبيد ، ألا فلا يحمد حامد إلا ربه ، ولا يلم لائم إلا نفسه . والسلام عليكم .
    --------------------------- 245 ---------------------------
    ووجه الكتاب مع رجل من همدان ، فقدم رسول علي ( عليه السلام ) بالكتاب فلم يجيبوه إلى حين ، فقال لهم : إني تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس في جيش كثيف ، فلم يمنعه إلا انتظار ما يأتيه من قبلكم ، فشاع ذلك في شيعة عثمان فقالوا : نحن سامعون مطيعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله وسعيداً . قال : فرجع الرسول من عندهم إلى علي ( عليه السلام ) فأخبره خبر القوم ، وجاء على بقية ذلك أن معاوية قد سرح بسر بن أبي أرطاة ، قال عبد الله بن عاصم : حدثت أن تلك العصابة حين بلغهم أن علياً يوجه إليهم يزيد بن قيس بعثوا إلى معاوية يخبرونه وكتبوا إليه كتاباً فيه :
    معاوي إلا تسرع السير نحونا * نبايع علياً أو يزيد اليمانيا
    فلما قدم الكتاب إلى معاوية دعا بسر بن أبي أرطاة وكان قاسي القلب ، سفاكاً للدماء ، لارأفة عنده ولا رحمة ، فوجهه إلى اليمن وأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن ، وقال له : لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك ، حتى يروا أنهم لا نجاة لهم منك ، وأنك محيط بهم ، ثم اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي ، فمن أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا ) !
    وقال الثقفي ( 2 / 615 ) : ( وأتى صنعاء وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو ابن أراكة بن عبد الله بن الحارث بن حبيب الثقفي فمنع بسراً من دخول صنعاء وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل فيها قوماً . وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد ، رجع إلى قومه فقال لهم : أنعى قتلانا . شيوخاً وشباناً !
    وذكر عن أبي الوداك قال : كنت عند علي ( عليه السلام ) حين قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه وعلى عبيد الله أن لا يكونا قاتلا بسراً ! فقال سعيد : والله قاتلت ولكن ابن عباس خذلني وأبى أن يقاتل ، ولقد خلوت به حين دنا منا بسر فقلت : إن ابن عمك لا يرضى مني ولا منك إلا بالجد في قتالهم وما نعذر ،
    --------------------------- 246 ---------------------------
    قال : لا والله ما لنا بهم طاقة ولايدان ، فقمت في الناس وحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت : يا أهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين فإلي إلي فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالاً ضعيفاً وتفرق الناس عني وانصرفت ، ووجهت إلى صاحبي فحذرته موجدة صاحبه عليه ، وأمرته أن يتمسك بالحصن ويبعث إلى صاحبنا ويسأله المدد ، فإنه أجمل بنا وأعذر لنا ، فقال : لا طاقة لنا بمن جاءنا ، وأخاف تلك ! وزحف إليهم بسر فاستقبلهم سعيد بن نمران فحملوا عليه فقاتل قتالاً كلا ولا ، ثم انصرف هو وأصحابه إلى عبيد الله . .
    وحضر صنعاء ثم خرج منها حتى لقي أهل جيشان وهم شيعة لعلي ( عليه السلام ) فقاتلهم وهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً وتحصنوا منه ثم إنه رجع إلى صنعاء ) .
    وقال الثقفي في ( 2 / 621 ) : ( فهرب منه عبيد الله بن العباس وكان والياً لعلي عليها ، واستخلف عمرو بن أراكة فأخذه بسرفضرب عنقه . وأخذ ابني عبيد الله فذبحهما على درج صنعاء ، وذبح في آثارهما مائة شيخ من أبناء فارس ، وذلك أن الغلامين كانا في منزل أم النعمان بنت بزرج امرأة من الأبناء ) ثم ذكر الثقفي إرسال علي ( عليه السلام ) جارية بن قدامة بجيش .
    وننبه هنا إلى أنه تقدم الحديث عن فتح اليمن ، وأن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أرسل علياً إليها ثلاث مرات فأتم فتحها قبل حجة الوداع . وقد كتبنا بحثاً عن العباسيين وأهل البيت ، وبينا فيه نقاط الضعف في العباس وأولاده ، وطغيان من حكم منهم .
    مما حفظ عن الإمام ( ( ع ) ) في تلك الأيام
    قال الثقفي في الغارات ( 2 / 633 ) : ( عن عبد الرحمن بن نعيم عن أشياخ من قومه أن علياً ( عليه السلام ) كان كثيراً ما يقول في خطبته : أيها الناس إن الدنيا قد أدبرت وآذنت أهلها بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع ، ألا وإن المضمار اليوم والسباق غداً ، ألا وإن السبقة الجنة والغاية النار .
    ألا وإنكم في أيام مهل من ورائه أجل يحثه عجل ، فمن عمل في أيام مهله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أمله ، ألا وإن الأمل يسهي القلب ويكذب الوعد
    --------------------------- 247 ---------------------------
    ويكثر الغفلة ويورث الحسرة ، فاعزبوا عن الدنيا كأشد ما أنتم عن شئ تعزبون ، فإنها غَرور وصاحبها منها في غطاء مُعَنَّى .
    وافزعوا إلى قوام دينكم بإقامة الصلاة لوقتها ، وأداء الزكاة لحلها ، والتضرع إلى الله والخشوع له ، وصلة الرحم ، وخوف المعاد ، وإعطاء السائل ، وإكرام الضيف ، وتعلموا القرآن واعملوا به ، واصدقوا الحديث وآثروه ، وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم ، وأدوا الأمانة إذا ائتمنتم .
    وارغبوا في ثواب الله وخافوا عقابه ، فإني لم أرَ كالجنة نام طالبها ولم أرَ كالنار نام هاربها ! فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً من النار ، واعملوا بالخير تجزوا بالخير ، يوم يفوز أهل الخير بالخير ) .
    ملاحظات
    1 . كان بسر قاسي القلب فظاً سفاكاً للدماء ، فأوصاه معاوية : ( سرحتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها ، وأخِفْ من مررت به ، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا . . الخ ) . وهذا عمل الجبابرة ، ولذلك وصفه العديد من علماء السنة بالطاغية والجبار ولعنوه ، خاصة لذبحه طفلين لعبيد الله بن العباس ، والي اليمن . ولكنهم سكتوا عن معاوية الذي أمره بهذه الجرائم ، وقد يترضون عنه ! وهذا هو التناقض في إدانه المأمور وتبرئة الآمر !
    ولم أجد من دافع عن بسر إلا صاحب الإستيعاب ( 3 / 1009 ) قال : ( قد ذكرنا ما أحدثه بسر بن أرطاة في طفلي عبيد الله ابن عباس في حين دخوله اليمن في باب بسر ، وعسى الله أن يغفر له ، فإنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء ) .
    وهذا عجيب منه . أما نحن فنعتقد أن بُسراً لعنه علي ( عليه السلام ) ودعا عليه ، ومن لعنه المعصوم لا يغفر له ، لأن لعنه إخبار بأنه مطرود من رحمة الله تعالى .
    2 . من فظائع بسر أيضاً أنه سبى النساء المسلمات ! ففي الإستيعاب ( 1 / 161 ،
    وتاريخ الذهبي : 6 / 269 ، والوافي : 10 / 81 ) ( ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات ، فأُقِمْنَ في السوق ) ! أي باعوهن !
    --------------------------- 248 ---------------------------
    3 . كذب بُسرعلى رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ليخلص جنوده السراق من الحد الشرعي !
    قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 7 / 313 ) : ( عن بسر بن أرطاة : أنه وجد رجلاً يسرق في الغزو فجلده ولم يقطع يده وقال : نهانا رسول الله عن القطع في الغزو رواه أحمد وأبو داود والنسائي ) . وفي رواية : عن القطع في السفر ! ورده فقهاؤهم .
    4 . قال البلاذري ( 2 / 460 ) : إن عبيد الله بن العباس لقي بسراً في مجلس معاوية فسأل معاوية : ( أنت أمرت هذا اللعين بقتل ولديَّ ؟ فقال : والله ما فعلت ولقد كرهت ذلك ! فغضب بُسرلقولهما وألقى سيفه إلى معاوية وقال له : خذه عني ، ولكن أمرتني أن أخبط به الناس فانتهيت إلى أمرك ، ثم أنت تقول لهذا ما تقول ، وهو بالأمس عدوك وأنا نصيحك دونه وظهيرك عليه ! فقال : خذ سيفك فإنك ضعيف الرأي حين تلقى سيفاً بين يدي رجل من بني هاشم وقد قتلت ابنيه ! فأخذ سيفه وقال عبيد الله : ما كنت لأقتل بُسراً بأحد ابنيَّ ، هو ألأمُ وأوضعُ وأحقرُ من ذلك ، والله ما أرى أني أدرك ثارهما إلا بيزيد وعبد الله ابني معاوية ! فضحك معاوية وقال : ما ذنب يزيد وعبد الله ، فوالله ما أمرت ولا علمت ) !
    5 . وقال البلاذري : ( ثم إن بسراً بعد ذلك وسوس ، وكان يهذي بالسيف ، فجعل له سيف من خشب أو من عيدان ، وكانت الوسادة تدنى إليه فيضربها حتى يغشى عليه ، وربما أدني إليه زق فيضربه ، فلم يزل كذلك حتى مات في خلافة عبد الملك بن مروان ) .
    6 . وذكر البلاذري أن الإمام ( عليه السلام ) أرسل رسالة إلى والييه على اليمن ابن عباس وابن نمران : ( فوجه إليهما جبر بن نوف أباالوداك بكتاب ينسبهما فيه إلى العجز والوهن ) .
    7 . وقال البلاذري : وروي عن وائل بن حجر الحضرمي أنه كان عثمانياً فاستأذن علياً ، فذهب فمالأ بسراً ، وأعانه على شيعة عليّ ) !
    8 . قيل إن عدد جنود بسر كانوا ست مئة ، وقيل ألف وست مئة ، فقتلوا في مدة قليلة أكثر من ثلاثين ألفاً ، وأحرقوا ونهبوا ، وارعبوا أهل الحجاز وأهل اليمن ! وهذا يدل على أن البلدين لم يكن فيهما قوة تقاومهم ، وكانت اليمن قليلة السكان لأن أهلها ذهبوا إلى العراق والشام للفتوحات .
  • *
    --------------------------- 249 ---------------------------
    الغارة السادسة : غارة ابن شجرة على مكة
    قال البلاذري ( 4 / 461 ) : ( بعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ، من مذحج إلى مكة لإقامة الحج ، وكان على الموسم من قبل علي قثم بن العباس بن عبد المطلب وكان يزيد بن شجرة متألهاً متوقياً ، فلما أمره معاوية بالمسيرقال له : إن كان لايرضيك إلا الغشم وإخافة البرئ فابعث غيري ! فقال له معاوية : سر راشداً فقد رضيت رأيك . وكان عثمانياً ممن شهد صفين مع معاوية . فمضى ( ابن شجرة ) وكتم أمره فأتى وادي القرى ثم الجحفة ، ثم قدم مكة ، في غرة من ذي حجة ، فأراد قثم بن العباس التنحي عن مكة ، إذ لم يكن في مِنعة ، وكان أبو سعيد الخدري حاجاً وكان له وُدّاً فأشار عليه أن لا يفعل ، وبلغه أن معقل بن قيس الرياحي موافيه في جمع بعث بهم علي حين بلغه فصول ابن شجرة من الشام ! قالوا : وأمر ابن شجرة مناديه فنادى في الناس بالأمان وقال : إني لم آت لقتال وإنما أصلي بالناس ، فإن شئتم فعلت ذلك ، وإلا فاختاروا من يقيم لكم الحج والله ما مع قثم منعة ولو أشاء أن آخذه لأخذته ولكني لا أفعل ولا أصلي معه !
    وأتى أبا سعيد فقال له : إن رأيت والي مكة كره ما جئنا له ونحن للصلاة معه كارهون ، فإن شاء اعتزل الصلاة واعتزلها وتركنا أهل مكة يختارون من أحبّوا . فاصطلحوا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري ، فقال أبو سعيد : ما رأيت في أهل الشام مثل هذا ، ذهب إلينا قبل أن نطلب إليه .
    وقدم معقل يريد يزيد بن شجرة ، فلقي أخريات أصحابه بوادي القرى فأسر منهم ولم يقتل ، ثم صار إلى دومة الجندل وانصرف إلى الكوفة .
    عن أبي مخنف في إسناده قال : لما بلغ علياً توجيه معاوية يزيد بن شجرة ، دعا معقل بن قيس الرياحي فقال له : إني أريد أن أرسلك إلى مكة لترد عنها قوماً من أهل الشام قد وجه إليها . فقال معقل : أنا لهم فوجهني إليها فاستنفرعلي الناس معه فخطب فقال : الحمد لله الذي لايعز من غالبه ، ولا يفلح من كايده إنه بلغني أن خيلاً وجهت نحو مكة ، فيها رجل قد سمي لي ، فانتدبوا إليها رحمكم الله مع
    --------------------------- 250 ---------------------------
    معقل بن قيس ، واحتسبوا في جهادكم والإنتداب معه أعظم الأجر ، وصالح الذخر . فسكتوا ولم يجيبوه بشئ ! فقام معقل فقال : أيها الناس إنتدبوا فإنما هي أيام قلائل حتى ترجعوا إن شاء الله ، فإني أرجو أن لو قد سمعوا بنفيركم إليهم تفرقوا تفرق معزى الغز ، فوالله إن الجهاد في سبيل الله خير من المقام تحت سقوف البيوت ، والتضجيع خلف أعجاز النساء ! فقام الرباب بن صبرة بن هوذة الحنفي فقال : أنا أول منتدب ، ثم وثب طعين بن الحرث الكندي ، فقال : وإنك منتدب وانتدب الناس . فشخص معقل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة في ألف وتسع مائة ويقال سبع مائة وأعطاهم علي مائة مائة .
    وشخصَ يزيد بن شجرة من مكة لليلتين بقيتا من ذي الحجة ، وأغذ السير حتى خرج من أرض مكة والمدينة ، وهو يحمد الله على تمام حجه ، وأنه لم يقاتل في الحرم ، ولحق معقل أخريات أصحاب يزيد دون وادي القرى ، فأصاب منهم عشرة نفر ، وكره ابن شجرة أن يرجع للقتال فمضى إلى معاوية . . وقال البلاذري ( 4 / 489 ) : ( وجه ( معاوية ) الحرث بن نمر التنوخي على خيل مقدَّحة ( مضمرة ) فأمره أن يأتي الجزيرة فيسأل عمن كان في طاعة علي فيأتيه به فأخذ من أهل دارا ( قرب نصيبين ) سبعة نفر من بني تغلب ثم أقبل بهم إلى معاوية . فكتب معاوية إلى علي : إن في أيديكم رجالاً ممن أخذهم معقل بن قيس بناحية وادي القرى ، وفي أيدينا رجال من شيعتك أصبناهم فإن أحببت خلينا من في أيدينا وخليتم من في أيديكم . فأخرج علي النفرالذين قدم بهم معقل بن قيس وكانوا محتسبين ( معروفين ) فبعث بهم إلى معاوية مع سعد مولاه ، وأطلق معاوية السبعة الذين أخذوا بدارا ) .
    غارة ابن شجرة برواية ابن الأعثم
    رواها ( 4 / 220 ) بنحو رواية البلاذري بتفصيل ، وخلاصته : ( دعا معاوية أيضاً برجل من سادات أهل الشام يقال له يزيد بن شجرة الرهاوي فقال : يا يزيد ! إني أريد أن أوجه بك إلى مكة لتقيم للناس الحج بها وتنفي عامل علي بن أبي طالب ، وتأخذ لي هنا لك البيعة بالسمع والطاعة والبراءة من علي . فقال يزيد بن شجرة : أفعل يا أمير المؤمنين ! قال : فضم إليه معاوية ثلاثة آلاف فارس من وجوه أهل الشام . . وبمكة يومئذ قثم
    --------------------------- 251 ---------------------------
    بن العباس فقام في أهل مكة خطيباً ، وقال : أيها الناس ! إنه قد أظلكم جيش من ظلمة أهل الشام الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، يريدون الإلحاد في حرم الله ، فتسالمون أم تحاربون ؟ قال : فسكت الناس ولم يجبه أحد منهم بشئ ، فقال قثم : إنكم قد أعلمتموني بما في أنفسكم ، فأنا خارج عنكم إلى بعض هذه الشعاب فأكون هنالك إلى أن يقضي الله بما يحب ويرضى .
    قال : فقال له شيبة بن عثمان العبدري : هذا أنت الأمير ونحن الرعية سامعون لك مطيعون ، فإن قاتلت قاتلنا معك ، وإن كففت كففنا معك قال : فقال قثم بن العباس : هيهات يا أهل مكة ! المغرور من غررتموه ، إن الجنود لا تهزم بالوعد ، ولست أرى معك أحداً يدفع ولا يمنع . .
    فقال له أبو سعيد الخدري : أيها الأمير ! إن للحرم حرمة عظيمة ، فأقم ولا تبرح من مكة ، فإذا وافوك ورأيت قوة عليهم فاعمل برأيك ، وإن لم ترقوةً تنحيت من بين أيديهم ، فتكون قد أعذرت وقضيت ما عليك . قال : فأقام قثم بن العباس بمكة ، وبلغ ذلك علياًعنه وهو يومئذ بالكوفة ، فقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! قد بلغني أن معاوية قد وجه إلى الموسم بجند من أهل الشام الغلف القلوب ، الصم الأسماع ، الكمه الأبصار ، الذين يلبسون الحق بالباطل ، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق ، أولياء الشيطان الرجيم ، ووزراء الجبابرة المعتدين ، فسارعوا رحمكم الله إلى جهادهم مع التقي الأمين معقل بن قيس ، واحتسبوا في ذلك الأجر وصالح الذكر . . فانتدب له يومئذ ألف وسبع مائة رجل من فرسان العرب ، وفيهم يومئذ الريان بن ضمرة بن هودة الحنفي وأبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني ومن أشبههم من الناس .
    قال : فخرج القوم من الكوفة في أول يوم من ذي الحجة ، وقد فات الوقت ، وقدم يزيد بن شجرة إلى الحرم قبل التروية بيومين ، فنادى في الناس : أيها الناس ! أنتم آمنون ، فإننا لم نقدم ههنا لقتال ، وإنما قدمنا للحج فالناس كلهم في أمان إلا من قاتلنا ونازعنا وعرض في سلطاننا . قال : واتقى يزيد بن شجرة أن يكون
    --------------------------- 252 ---------------------------
    بين الناس قتال فقال لأصحابه : أنظروا أحداً من أصحاب رسول الله ! فقيل له : أبو سعيد الخدري ، فقال : عليَّ به فأتي به فسلم وجلس ، فقال له يزيد : أبا سعيد ! يرحمك الله إني إنما وجهت إليكم لأجمع ولا أفرق ، ولو شاء أن أفعل لفعلت ، لأنه ما عند أميركم امتناع ولا عند أهل البلد أيضاً ، ولو شئت أن آخذ أميركم أسيراً حتى أمضي به إلى الشام لفعلت ، ولكني أكره الإلحاد في الحرم ، فقولوا لأميركم أن يعتزل الصلاة بالناس فأعتزلها أنا أيضاً ، ويختار الناس رجلاًيصلي بهم .
    فقال له أبو سعيد : جزاك الله من رجل خيراً ! فما رأيت من أهل الشام رجلاً أحسن منك نية . قال : ثم أقبل أبو سعيد إلى قثم بن العباس ، فكلمه في أمر الصلاة ، فقال قثم : قد فعلت ذلك . وتراضت الناس بشيبة بن عثمان العبدري ، فصلى بأهل الموسم وأقام لهم الحج . فلما قضى الناس حجهم أقبل يزيد بن شجرة فقال : يا أهل الشام ! إعلموا أن الله تبارك وتعالى قد رزقكم خيراً وصرف عنكم شراً ، فانصرفوا الآن مأجورين سامعين مطيعين . قال : فصدرت أهل الشام عن مكة يريدون الشام ، وأقبلت خيل أمير المؤمنين علي لمواقعة أهل الشام ، فإذا قد لقيهم بعض الأعراب فأخبروهم بأن أهل الشام قد رحلوا عن مكة يريدون الشام ، قال : فنزل معقل بن قيس الطريق إلى مكة وعارضهم في المسير ، وأهل الشام قد نزلوا بواد يقال له وادي القرى فلما تقارب معقل بن قيس من وادي القرى قال : إن أهل الشام قد نزلوا على الماء بلا شك ، فإذا رأيتموهم فشدوا عليهم ، فإذا أنا قتلت فأميركم من بعدي أبو الطفيل عامر بن واثلة فإن أصيب فالريان بن ضمرة . . قال : وسارت الخيل حتى وافوا وادي القرى ، فإذا أهل الشام قد رحلوا ، وقد بقي منهم عشرة نفر قد كانوا تخلفوا لحوائج لهم ، فأخذهم أصحاب علي أسارى وأخذوا أموالهم وأسلحتهم ودوابهم . قال : وبلغ ذلك أهل الشام فقالوا لأميرهم يزيد بن شجرة : أيها الأمير ما ترى ؟ أترجع إلى إخواننا فتستنقذهم من أيدي أهل العراق ؟ فقال يزيد بن شجرة : لا أرى ذلك لكم رأياً لأني لا أدري أتكون لنا أم علينا . قال : فكاعت أهل الشام عن أهل العراق . فأقبل معقل بن قيس راجعاً إلى الكوفة ، فأخبرعلياً بما كان من أمرالقوم ، فقال علي لأصحابه :
    --------------------------- 253 ---------------------------
    إحبسوا هؤلاء الأسارى ، فإن لنا في يد معاوية أسارى ، فإذا أطلقهم أطلقنا نحن هؤلاء ، إن شاء الله ) .
    وروى المسعودي ( 4 / 203 ) والطبري ( 4 / 104 ) غارة ابن شجرة بأقل مما تقدم .
    ملاحظات
    1 . الرَّهاوي بفتح الراء المشدده نسبة قبيلة الرها المذحجية ، أما مدينة الرها فبضم الراء المشددة . ( الكامل : 3 / 379 ) وكان يزيد بن شجرة عثمانياً يسكن الشام .
    قال ابن حجر في الإصابة ملخصاً ( 6 / 250 ) : ( مختلف في صحبته . قال ابن منده : قال بعضهم : له صحبة ، ولا يثبت . وقال أبو زرعة : ليست له صحبة صحيحة . ومن يقول له صحبة مخطئ . قاله أبو حاتم . ثم ذكر تضعيفهم لحديثه في فضل الجهاد وثواب المجاهد ) .
    2 . وصفوه بالعابد الزاهد المجاهد ، وذكروا له مناقب . قال الحاكم ( 3 / 494 ) : ( مناقب يزيد بن شجرة الرهاوي رضي الله عنه . ووصفه بالصحابي وقال : مات بالروم في سنة ثمان وخمسين . وروى له حديثين زعم أنه سمعهما من النبي ( ( عليهما السلام ) )
    في فضل الجهاد وثواب المجاهد فيها مبالغات . وقد يكون الرهاوي كذب على النبي ( ( عليهما السلام ) ) أو كذبوا له ، لأنهم رووا حديثه عن غيره .
    وجعله الذهبي صحابياً متألهاً تقياً ( تاريخ الإسلام : 4 / 324 ) قال : ( وله صحبة ورواية وكان متألهاً متوقياً ) ! ولا يصح قول الذهبي مع بغضه لعلي ( عليه السلام ) وبغضه نفاق
    بنص النبي ( ( عليهما السلام ) ) ومع كونه قائداً لمعاوية قاتل عمار ، وإمام الدعاة إلى النار !
    3 . ومع ذلك تبقى لابن شجرة ميزة على قادة معاوية بأنه أقلهم سفكاً لدماء المسلمين ، وميزة في غارته أنه لم ينفذ وصية معاوية بأخذ البيعة من أهل مكة لمعاوية والبراءة من علي ( عليه السلام ) كما أمره معاوية !
    4 . خوف قثم بن العباس ونيته الفرار ، لولا منع أبي سعيد الخدري ، يؤكد رأينا
    في العباس وبنيه ، فهم في جبنهم وفرارهم على النقيض من بني عبد المطلب .
  • *
    --------------------------- 254 ---------------------------
    الغارة السابعة : غارة زهير بن مكحول على السماوة
    قال البلاذري ( 2 / 465 ) : ( بعث معاوية رجلاً من كلب يقال له زهير بن مكحول من بني عامر الأجدار ، إلى السماوة ، فجعل يُصَدِّق الناس ، فبلغ ذلك علياً فبعث ثلاثة نفر : جعفر بن عبد الله الأشجعي ، وعروة بن العشبة من كلب ، من بني عبد ود ، والجلاس بن عمير ، من بني عدي بن خباب الكلبي ، وجعل الجلاس كاتباً له ليصدقوا من كان في طاعته من كلب ، وبكر بن وائل ، فأخذوا على شاطئ الفرات حتى وافوا أرض كلب ، ووافوا زهير الأجداري فاقتتلوا ، فهزم زهير أصحاب علي ، وقتل جعفر بن عبد الله وأفلت الجلاس ، وأتى ابن العشبة علياً فعنفه وقال له : جبنت وتعصبت فانهزمت ! وعلاه بالدرة فغضب ولحق بمعاوية ، فهدم علي داره ، وكان زهير
    ( صاحب معاوية ) حمل ابن العشبة على فرس فلذلك اتهمه علي ) .
  • *
    الغارة الثامنة : غارة مسلم بن عقبة على دومة الجندل
    قالوا : وبعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى أهل دومة الجندل وكانوا قد توقفوا عن البيعة لعلي ومعاوية جميعاً ، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته ، وبلغ ذلك علياً فبعث إلى مالك بن كعب الهمداني أن خلف على عملك من تثق به وأقبل إلي ففعل واستخلف عبد الرحمان بن عبد الله الكندي فبعثه علي إلى دومة الجندل في ألف فارس ، فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه فاقتتلوا يوماً ثم انصرف مسلم منهزماً ، وأقام مالك أياماً يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا وقالوا : لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام . فانصرف مالك إلى الكوفة ) .
  • *
    الغارة التاسعة : غارة ابن أشيم على هيت
    ثم قال البلاذري : ( قالوا : وكان كميل بن زياد النخعي على هيت في جند من شيعة علي ( عليه السلام ) فلما أغار سفيان بن عوف على الأنبار ، كان كميل قد أتى ناحية قرقيسيا لمواقعة
    --------------------------- 255 ---------------------------
    قوم بلغه أنهم قد أجمعوا على أن يغيروا على هيت ونواحيها ، فقال : أبدؤهم قبل أن يبدؤوني فإنه يقال : إبدأه بالصراخ يفر فاستخلف على هيت وشخص بجميع أصحابه ، فلما قربهم جيش سفيان عبر أهل هيت ومن بقي بها من أصحاب كميل وكانوا خمسين رجلاً ، فأغضب ذلك علياً وأحفظه فكتب إليه : إن تضييع المرء ما وُلِّيَ وتكلفه ما كفيَ عجز حاضر ! وإن تركك عملك وتخطِّيك إياه إلى قرقيسيا خطأ وجهل ورأي شعاع . ووجد عليه وقال : إنه لا عذر لك عندي ) !
    وفي نهج البلاغة ( 3 / 117 ) : ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا الغارة : أما بعد فإن تضييع المرء ما ولي وتكلفه ما كفي لعجز حاضر ورأي متبر . وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ، وتعطيلك مسالحك التي وليناك ليس بها من يمنعها ولا يرد الجيش عنها لرأي شعاع ، فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك ، غير شديد المنكب ، ولا مهيب الجانب ، ولا ساد ثغرة ، ولا كاسر شوكة ، ولامغن عن أهل مصره ، ولا مجز عن أميره ) .
    ثم قال البلاذري : ( فكان كميل مقيماً على نجوم وغم لغضب علي ، فبينا هو على ذلك إذ أتاه كتاب شبيب بن عامر الأزدي من نصيبين في رقعة كأنها لسان كلب يعلمه فيه أن عيناً له كتب إليه يعلمه أن معاوية قد وجه عبد الرحمان بن قباث نحو الجزيرة وأنه لا يدري أيريد ناحيته أم ناحية الفرات وهيت . فقال كميل إن كان ابن قباث يريدنا لنتلقينه ، وإن كان يريد إخواننا بنصيبين ، لنعترضنه فإن ظفرت أذهبت موجدة أمير المؤمنين فأعتبت عنه وإن استشهدت فذلك الفوز العظيم ، وإني لممن رجوت الأجر الجزيل فأشير عليه باستيمارعليّ فأبى ذلك ونهض يريد ابن قباث في أربع مائة فارس ، وخلف رجالته وهم ست مائة في هيت ، وجعل يحبس من لحقه ليطوي الأخبار عن عدوه ، وأتاه الخبر بانحيازه من الرقة نحو رأس العين ومصيره إلى كفرتوثا وكان ينشد في طريقه كثيراً :
    --------------------------- 256 ---------------------------
    يا خير من جرّ له خير القدر * فالله ذو الآلاء أعلى وأبرّ
  • يخذل من شاء ومن شاء نصر
    ثم أغذّ السير نحو كفرتوثا ، فتلقاه ابن قباث ومعن بن يزيد السلمي بها في أربع مائة وألفين فواقعهما كميل ففضّ عسكرهما وغلب عليه وقتل من أصحابهما بشراً ، فأمرأن لا يتبع مدبر ولايجهز على جريح ، وقُتل من أصحاب كميل رجلان ، وكتب بالفتح إلى عليّ فجزاه الخيروأجابه جواباً حسناً
    قالوا : وأقبل شبيب بن عامر ، من نصيبين في ست مائة فارس ورجالة ، ويقال : في أكثر من هذا العدد ، فوجد كميلاً قد أوقع بالقوم واجتاحهم فهناه بالظفر وقال : والله لأتبعن القوم فإن لقيتهم لم يزدهم لقائي إلا هلاكاً وفلّاً ، وإن لم ألقهم لم أثن أعنة الخيل حتى أطأ أرض الشام . وطوى خبره عن أصحابه فلم يعلمهم أين يريد ، فسار حتى صار إلى جسر منبج فقطع الفرات ، ووجه خيله فأغارت ببعلبك وأرضها ، وبلغ معاوية خبر شبيب فوجه حبيب بن مسلمة للقائه ، فرجع شبيب فأغار على نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها ، ولا خيلاً ولا سلاحاً إلا أخذه ، وكتب بذلك إلى علي حين انصرف إلى نواحي نصيبين فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ
    مواشي الناس وأموالهم ، إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به ، وقال : رحم الله شبيباً ، لقد أبعد الغارة ، وعجل الإنتصار ) .
    المعتزلون من ربيعة !
    قال البلاذري ( 2 / 470 ) : ( وبعث علي رجلاً من خثعم يقال له : عبد الرحمان إلى ناحية الموصل والجزيرة لتسكين الناس ، فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا علياً ومعاوية ، فتشاتموا ثم تقاتلوا فقتلوه ، فأراد علي أن يوجه إليهم جيشاً ، فكلمته ربيعة فيهم وقالوا : هم معتزلون لعدوك داخلون في أهل طاعتك ، وإنما قتلوا الخثعمي خطأ ، فأمسك عنهم . وكان على هذه الجماعة من بني تغلب قرثع بن الحرث التغلبي ) .
    أقول : سكت عنهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأنهم معتزلون ، ولأن ربيعة توسطت لهم ، وكانت ربيعة عزيزة عليه ، مميزة في نصرته بين القبائل هي وهمدان اليمن .
    --------------------------- 257 ---------------------------
    الفصل الرابع والتسعون
    شهادة أمير المؤمنين ( ( ع ) )
  • - وعده بها النبي ؟ ص ؟
    وعده النبي ؟ ص ؟ بالشهادة
    قال له : أبشر فإن الشهادة من ورائك
    1 . في نهج البلاغة ( 2 / 49 ) : ( قام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عنها ؟ فقال ( عليه السلام ) : لما أنزل الله سبحانه قوله : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، علمت أن الفتنة لاتنزل بنا ورسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها ؟ فقال : يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي ! فقلت : يا رسول الله : أوَليس قد قلت لي يوم أُحُد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عني الشهادة فشق ذلك علي ، فقلت لي : أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟ فقال لي : إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر . فقال : يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ويأمنون سطوته ، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع !
    قلت : يا رسول الله ، بأي المنازل أنزلهم عند ذلك ، أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة ) .
    وقال في شرح النهج ( 9 / 205 ) ملخصاً : ( هذا الخبر مروي عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) رواه كثير من المحدثين أن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال له : إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب علي
    --------------------------- 258 ---------------------------
    جهاد المشركين ، قال : فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد ؟ قال : قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون للسنة . فقلت : يا رسول الله فعلامَ أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد ؟ قال : على الإحداث في الدين ، ومخالفة الأمر . فقلت : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله أن يعجلها لي بين يديك ، قال : فمن قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ! أما إني وعدتك الشهادة وستستشهد ، تضرب على هذه فتخضب هذه ، فكيف صبرك إذاً ! قلت : يا رسول الله ، ليس ذا بموطن صبر ، هذا موطن شكر قال : أجل أصبت ، فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصِم ، فقلت : يا رسول الله ، لو بينت لي قليلاً ! فقال : إن أمتي ستفتن من بعدي ، فتتأول القرآن وتعمل بالرأي ، وتستحل الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع ، وتحرف الكتاب عن مواضعه ، وتغلب كلمة الضلال ، فكن جليس بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور ، وقلبت لك الأمور ، تقاتل حينئذ على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى ! فقلت : يا رسول الله ، فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك ؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة ؟ فقال : بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل . فقلت : يا رسول الله ، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا ؟ قال : بل منا ، بنا فتح وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك . وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله .
    فإن قلت : فلم قال : علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا ؟ قلت : لقوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ .
    وقوله : حيزت عني الشهادة ، أي منعت ؟ وقوله : ليس هذا من مواطن الصبر : كلام عال جداً يدل على يقين عظيم وعرفان تام . ونحوه قوله : وقد ضربه ابن ملجم : فزت ورب الكعبة . والأهواء الساهية : الغافلة . والسحت : الحرام ، ويجوز ضم الحاء ) .
    2 . وقت الحديث حسب الرواية عند نزول سورة العنكبوت : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا . لكنها مكية ، وأجاب ابن أبي الحديد وغيره بأن أول العنكبوت نزل في المدينة ، وهو ضعيف . والصحيح رواية المفيد بأن وقت الحديث بعد سورة النصرالتي نزلت بعد
    --------------------------- 259 ---------------------------
    حجة الوداع . وكذا رواه فرات في تفسيره / 614 ، وغيره .
    ففي أمالي المفيد / 288 ، قال ( عليه السلام ) : ( لما نزلت على النبي ( ( عليهما السلام ) ) : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، قال لي : يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . . فإذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَاباً . يا علي : إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي ، كما كتب عليهم جهاد المشركين معي ، فقلت : يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد ؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني ! فقلت : فعلامَ نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ فقال : على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري ، واستحلالهم دماء عترتي ! قال : فقلت : يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن يعجلها لي ، فقال : أجل قد كنت وعدتك الشهادة ، فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا وأومأ إلى رأسي ولحيتي ؟ فقلت : يا رسول الله أما إذا بينت لي ما بينت ، فليس بموطن صبر ولكنه موطن بشرى وشكر ، فقال : أجل ، فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصمٌ أمتي . قلت : يا رسول الله أرشدني إلى الفلج ، قال : إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله ، والضلال من الشيطان . يا علي إن الهدى هو اتباع أمر الله دون الهوى والرأي ! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن ، وأخذوا بالشبهات واستحلوا الخمر بالنبيذ والبخس بالزكاة ، والسحت بالهدية ! قلت : يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك ، أهم أهل ردة أم أهل فتنة ؟ قال : هم أهل فتنة ، يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل . فقلت : يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا ؟ فقال : بل منا . بنا فتح الله وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله ) .
    إن الشهادة من ورائك . . كيف صبرك ؟
    3 . ورواه الطبراني بدون ذكر مناسبته ( المعجم الكبير : 11 / 295 ) : ( عن ابن عباس قال علي : يا رسول الله إنك قلت لي يوم أحد حين حيزت عني الشهادة واستشهد من
    --------------------------- 260 ---------------------------
    استشهد : إن الشهادة من ورائك ؟ قال : كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه ؟ فقال علي : أمَّا وقد بينت ما بينتَ ، فليس ذلك من مواطن الصبر ولكن هو من مواطن البشرى والكرامة ) .
    كما رواها السيوطي في جامعه ( 31 / 350 ) عن كتاب وكيع ، وكنز العمال ( 16 / 193 ) بأطول من رواية نهج البلاغة ، وقد أوردناها بعنوان أطول خطبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في البصرة ، وفيها : ( أبشر يا صديق فإن الشهادة من ورائك . فقلت : بأبي أنت وأمي ! بين لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها وعلى ما أجاهدهم بعدك ؟ فقال : إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً ، ثم قال لي : وتجاهد أمتي على كل من خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين ، إنما هو أمر من الرب ونهيه .
    فقلت : يا رسول الله ! فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة ، فقال : نعم ، إذا كان ذلك فاقتصر على الهدى ، إذا قومك عطفوا الهدى على العمى ، وعطفوا القرآن على الرأي فتأولوه برأيهم . . الخ . ) .
    كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه ؟
    4 . في الإحتجاج ( 1 / 290 ) : ( قلت : يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أحُد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عني الشهادة ، فشق ذلك عليَّ فقلت لي : أبشر يا صدِّيق فإن الشهادة من ورائك ؟ فقال لي ( ( عليهما السلام ) ) : فإن ذلك لكذلك ، فكيف صبرك . . . ثم قال : يا علي إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي ، ومخاصم يوم القيامة بين يدي الله تعالى فاعدد جواباً . فقلت : بأبي أنت وأمي بين لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها ؟ وعلى مَ أجاهدهم بعدك ؟ فقال : إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة . وجلاهم وسماهم رجلاً رجلاً ، ثم قال لي : وتجاهد أمتي على كل من خالف القرآن ، ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين ، إنما هو أمر من الرب ونهيه ) .
    وفي الإختصاص للمفيد / 158 : ( انصرف من أحُد وبه ثمانون جراحة ، تدخل الفتائل من موضع وتخرج من موضع ، فدخل عليه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عائداً وهو مثل المضغة على نطع ! فلما رآه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بكى ، فقال له : إن رجلاً يصيبه هذا في الله لحقٌّ على الله
    --------------------------- 261 ---------------------------
    أن يفعل به ويفعل ، فقال مجيباً له وبكى : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يَرَني وَلَّيْتُ عنك ولا فررتُ ، بأبي وأمي كيف حرمت الشهادة ؟ قال : إنها من ورائك إن شاء الله ، قال فقال رسول الله : إن أبا سفيان قد أرسل موعدةً بيننا وبينكم حمراء الأسد ، فقال : بأبي أنت وأمي والله لوحملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك . قال فنزل القرآن : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
    ونزلت الآية فيه قبلها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلابِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ .
    ينبعث أشقى الأولين والآخرين فيضربك :
    5 . وفي ينابيع المودة ( 1 / 166 ) : ( عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) خطبنا . فقال : أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة . وذكر فضل شهر رمضان . ثم بكى فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : يا علي أبكى لما يستحل منك في هذا الشهر ، كأني بك وأنت تريد أن تصلي وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة صالح ، يضربك ضربة على رأسك فيخضب بها لحيتك . فقلت : يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك ، فكيف صبرك إذن ؟ قلت : هذا من مواطن البشرى والشكر . ثم قال يا علي من قتلك فقد قتلني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن سبك فقد سبني ، لأنك مني كنفسي ، روحك من روحي ، وطينتك من طينتي . وان الله تبارك وتعالى خلقني وخلقك من نوره ، واصطفاني واصطفاك ، فاختارني للنبوة واختارك للإمامة ، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي . يا علي أنت وصيي ووارثي وأبوولدي وزوج ابنتي أمرك أمري ونهيك نهيي . أقسم بالله الذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية إنك لحجة الله على خلقه ، وأمينه على سره ، وخليفة الله على عباده ) .
    --------------------------- 262 ---------------------------
    كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس !
    6 . في نهج السعادة ( 5 / 369 ) عن القضاعي : قال علي ( عليه السلام ) : ( لقد خبرني حبيب الله وخيرته من خلقه ، وهو الصادق المصدوق عن يومي هذا ، وعهد إليَّ فيه فقال : يا عليُّ ، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس تدعو فلا تجاب ، وتنصح عن الدين فلا تعان ، وقد مال أصحابك وشنف لك نصحاؤك ، وكان الذي معك أشد عليك من عدوك ، إذا استنهضتهم صدوا معرضين وإن استحثثتهم أدبروا نافرين ، يتمنون فقدك لما يرون من قيامك بأمر الله عز وجل وصرفك إياهم عن الدنيا ) .
    عهد معهود وقضاء مقضي !
    7 . وفي مسند أحمد ( 1 / 91 ) : ( قدم علي رضي الله عنه على قوم من أهل البصرة من الخوارج فيهم رجل يقال له الجعد بن نعجة ، فقال له : إتق الله يا علي فإنك ميت ، فقال علي رضي الله عنه : بل مقتول ضربة على هذا تخضب منها هذه ! يعني لحيته من رأسه عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى . وعاتبه في لباسه فقال : ما لكم وللباس ، هو أبعد من الكبر ، وأجدر أن يقتدي بي المسلم ) .
    وفي صفة الصفوة ( 1 / 124 ) : ( عن أبي مجلز قال : جاء رجل من مراد إلى علي وهو يصلي في المسجد فقال : إحترس فإن ناساً من مراد يريدون قتلك . فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر عليه ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه . وإن الأجل جُنة حصينة ) .
    ضربة على رأسك تخضب منها لحيتك !
    8 . وفي الإرشاد للمفيد ( 1 / 322 ) : ( ومن ذلك ما رواه العلماء : أن جويرية بن مسهر وقف على باب القصر فقال : أين أمير المؤمنين ؟ فقيل له نائم ، فنادى : أيها النائم استيقظ ، فوالذي نفسي بيده لتضربن ضربة على رأسك تخضب منها لحيتك ، كما أخبرتنا بذلك من قبل . فسمعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فنادى : أقبل يا جويرية حتى أحدثك بحديثك فأقبل ، فقال : وأنت والذي نفسي بيده لتعتلن إلى العتل الزنيم ، وليقطعن يدك ورجلك ، ثم ليصلبنك تحت جذعِ كافر ! فمضى على ذلك الدهر حتى ولي زياد
    --------------------------- 263 ---------------------------
    في أيام معاوية ، فقطع يده ورجله ثم صلبه إلى جذع ابن مكعبر ، وكان جذعاً طويلاً فكان تحته ) .
    بأبي الوحيد الشهيد !
    9 . وفي كتاب سليم بن قيس / 136 : ( وحدثني علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : كنت
    أمشي مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في بعض طرق المدينة ، فأتينا على حديقة فقلت :
    يا رسول الله ، ما أحسنها من حديقة ! قال : ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها . ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت : يا رسول الله ، ما أحسنها من حديقة قال : ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها !
    حتى أتينا على سبع حدائق ، أقول : يا رسول الله ما أحسنها ويقول : لك في الجنة أحسن منها . فلما خلا له الطريق اعتنقني ، ثم أجهش باكياً فقال : بأبي الوحيد الشهيد ! فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي ، أحقاد بدر وترات أحد !
    قلت : في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك . فأبشر يا علي ، فإن حياتك وموتك معي ، وأنت أخي وأنت وصيي ، وأنت صفيي ووزيري ووارثي والمؤدي عني ، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي عني ، وأنت تبرئ ذمتي وتؤدي أمانتي ، وتقاتل على سنتي الناكثين من أمتي والقاسطين والمارقين ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه . فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه وهم بمنزلة العجل ومن تبعه ! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم : إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم ! يا علي ، ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون كرهاً ، فسلط الله الذين أسلموا كرهاً على الذين أسلموا طوعاً فقتلوهم ليكون أعظم لأجورهم . يا علي ، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه
    --------------------------- 264 ---------------------------
    الأمة ، ولو شاء لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه ، ولايُتنازع في شئ من أمره ، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله . ولو شاء عجل النقمة فكان منه التغيير حتى يُكذب الظالم ويُعلم الحق أين مصيره . ولكن جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار القرار : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . فقلت :
    الحمد لله شكراً على نعمائه ، وصبراً على بلائه ، وتسليماً ورضاً بقضائه ) .
    10 . في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 408 : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وقد مرمعه بحديقة حسنة فقال علي ( عليه السلام ) : ما أحسنها من حديقة ! فقال : يا علي لك في الجنة أحسن منها . إلى أن مر بسبع حدائق كل ذلك يقول علي ( عليه السلام ) : ما أحسنها من حديقة ! ويقول رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : لك في الجنة أحسن منها . ثم بكى رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بكاءً شديداً ، فبكى علي ( عليه السلام ) لبكائه ، ثم قال : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : يا أخي أبا الحسن ، ضغائن في صدور قوم يبدونها لك بعدي ! قال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك . قال : يا رسول الله إذا سلم ديني فلا يسوءني ذلك . فقال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : لذلك جعلك الله لمحمد تالياً ، وإلى رضوانه وغفرانه داعياً ، وعن أولاد الرشد والغي بحبهم لك وبغضهم عليك مميزاً منبئاً ، وللواء محمد يوم القيامة حاملاً ، وللأنبياء والرسل والصابرين تحت لوائي إلى جنات النعيم قائداً .
    يا علي ، إن أصحاب موسى اتخذوا بعده عجلاً وخالفوا خليفته ، وسيتخذ أمتي بعدي عجلاً ، ثم عجلاً ، ثم عجلاً ، ويخالفونك ! وأنت خليفتي على هؤلاء ، يضاهئون أولئك في اتخاذهم العجل ! ألا فمن وافقك وأطاعك فهو معنا في الرفيع الأعلى ، ومن اتخذ العجل بعدي وخالفك ولم يتب ، فأولئك مع الذين اتخذوا العجل زمان موسى ، ولم يتوبوا ) .
    أقول : أهم ما تضمنه هذا الحديث المعروف بحديث الحدائق ثلاثة أمور :
  • بشارة علي ( عليه السلام ) بأنه في الجنة وبعض ما له فيها .
  • اعتنقه النبي ( ( عليهما السلام ) ) وبكى بكاء شديداً لما يلاقيه بعده .
  • كشف أن قريشاً ستظهر ضغائنها وأحقادها على النبي ( ( عليهما السلام ) ) وتصبها على علي وتعزله
    --------------------------- 265 ---------------------------
    عن السلطة . ثم يقاتلها على تأويل القرآن وتقتله ، وفدَّاه بأبيه ( ( عليهما السلام ) ) !
    وقد روته العديد من مصادرهم لكن حذفوا منه ما لايرتضونه ! وأكثر من اختصره وبتره الحاكم ( 3 / 139 ) قال : ( عن أبي عثمان النهدي أن علياً رضي الله عنه قال : بينما رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) آخذ بيدي ونحن في سكك المدينة إذ مررنا بحديقة
    فقلت : يا رسول الله ما أحسنها من حديقة ؟ قال : لك في الجنة أحسن منها ) .
    وصححه هو والذهبي . ورواه أحمد في فضائل الصحابة ( 2 / 651 ) بلفظ : ( ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت : يا رسول الله ، ما أحسنها من حديقة فقال : لك في الجنة أحسن منها ، حتى أتينا على سبع حدائق أقول : يا رسول الله ، ما أحسنها ويقول : لك في الجنة أحسن منها »
    وحذف منه إشادة النبي ( ( عليهما السلام ) ) بعلي ( عليه السلام ) ، وحذف منه ضغائن قريش ، وما أمره به . أما البزار ( 2 / 293 ) فذكر أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) اعتنقه وبكى وحدثه إجمالاً عن ضغائن قريش ، قال : ( فلما خلا له الطريق اعتنقني ، ثم أجهش باكياً فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك إلا من بعدي ، قلت : في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك » وكذا رواه السيوطي في جامعه ( 30 / 210 ) والهيثمي في زوائد الموصلي ( 3 / 180 ) وابن حجر في المطالب العالية ( 16 / 101 ) والخوارزمي في مقتل الحسين ( عليه السلام ) ( 1 / 67 ) .
    وقال في هامش أبي يعلى : أخرجه الطبري ( 30 / 272 ) ، والحاكم ( 2 / 115 ) أخرجه البزار ( 2 / 293 ) ،
    وأبو يعلى ( 1 / 426 ) ، والحاكم ( 3 / 149 ) ، والخطيب ( 12 / 398 ) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية
    ( 1 / 243 ) .
    والنتيجة : أن الحاكم والذهبي صححا مطلع الحديث ، ووثق بقيته مجمع الزوائد وفسروا : أجهش النبي ( ( عليهما السلام ) ) بالبكاء ، ولم يقتربوا من ضغائن بدر وأحد الكافرة ولامن أصحابها ، ولاتسبيبها ظلمهم لعلي ( عليه السلام ) ظلماً أجهش له النبي ( ( عليهما السلام ) ) بالبكاء !
  • *
    --------------------------- 266 ---------------------------
    إخبار أمير المؤمنين ( ( ع ) ) بالمغيبات لإثبات صدق الإسلام
    قد يقال : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كشف أوراقه لمعاوية وللأمة ، فأخبر أنه سيُقتل وأن معاوية سيحكم الأمة ، فسبَّب ذلك شراسة عدوه ، وتباطؤ الأمة عن نصرته !
    والجواب : أن الإمام ( عليه السلام ) كان متعمداً لذلك ، لأنه يحقق هدفاً أكبر هو تثبيت الإسلام في قلوب الناس ديناً أنزله الله تعالى على رسوله الصادق الأمين ( ( عليهما السلام ) ) .
    ففوائد إخباره بما عهد اليه النبي ( ( عليهما السلام ) ) عن نفسه وعن الأمة ، أكبر من ضرره . وقد كان عمله هذا بتوجيه النبي ( ( عليهما السلام ) ) وعهده اليه .
    فهو يقول : أيها الناس إن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) رسول صادق ، ومن آيات صدقه أنه أخبر عن مغيبات وقعت وتقع ، ومن هذه المغيبات ظلامة عترته من بعده ، وظلم قريش لها طمعاً في سلطانه ، وأخبرني بأنك لاتموت حتى تسلمك الأمة قيادتها ، ثم تتألب عليك فتقاتلك بضغائنها وأحقادها على بني هاشم في بدر وأحد ، وستقاتلها على تأويل القرآن ، وتُقتل بضربة على رأسك تخضب منها لحيتك .
    وهو بذلك يقول : إن رسول الله حق ، ومن خالفه باطل ، وأنا على الحق ، ومن خالفني على الباطل ، والدليل على ذلك أني أخبركم عن مغيبات تقع حرفياً ، وهذا لا يكون إلا من علم الله تعالى ، الذي علمه لرسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، وعلمني إياه .
    إن هذه الإخبارات آيةٌ على صدق النبي ( ( عليهما السلام ) ) الذي أخبره بها ، وآيةٌ على أن علياً ( عليه السلام )
    على الحق ، وأن من عاداه وحاربه على الباطل كالذين عادوا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . وأنه ( عليه السلام )
    يعمل بالحق والهدى ، ومعاوية وأمثاله يعملون بالباطل والأحقاد والضغائن ،
    وبدافع الحسد للنبي ( ( عليهما السلام ) ) وعترته ( عليهم السلام ) والطمع في سلطانهم .
    فهل آية أقوى من إخباره عما سيكون ، حتى لو كان قتله وغلبة عدوه !
    قال المسعودي ( مروج الذهب : 2 / 418 ) : وكان علي رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل :
    تِلكم قريش تمناني لتقتلني * فلا وربك ما برُّوا وما ظفروا
    فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم * بذات ودقين لا يعفو لها أثر
    [ وسوف يورثهم فقدي على وجل * ذلّ الحياة بما خانوا وما غدروا ]
    --------------------------- 267 ---------------------------
    حالة الدولة قبيل شهادته ( ( ع ) )
    1 . انتصر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب الجمل فهابته قريش ، وولاة الدولة الإسلامية . ونقل العاصمة من المدينة إلى الكوفة ، ففرح بذلك أهل العراق واعتزوا بوجود أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بينهم ، والتفوا حوله وأطاعوه ، فتابع برنامجه في إعادة العهد النبوي ، بعدالته وعقلانيته . ورسخ الإسلام في نفوس الأمة كدين . وقضى على الفقر في الكوفة في أقل من سنة حتى لم يبق أحد إلا وهو يسكن في الظل ، ويأكل خبز البر ، ويشرب الماء العذب .
    2 . رتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وضع الولايات في العراق والحجاز واليمن ، وإيران ومصر ، فعزل الضعفاء والفاسدين ونصب أكفأ الموجودين ، فكانت سياسته مثالاً في قوتها واستنادها إلى شريعة الإسلام وسنة النبي ( ( عليهما السلام ) ) .
    3 . استشار المهاجرين والصحابة ورؤساء القبائل في معاوية فأشاروا عليه بحربه وإخضاعه ، لأنه فئة باغية ، خارجة على الخليفة الشرعي ، فتوجه إلى صفين ، وكان المسلمون أهل العراق نحو سبعين ألف مقاتل ، وبعد عشرة أيام من المعارك رجحت كفة الإمام ( عليه السلام ) ( فلم يجد معاوية من الموت منجى إلا الهرب فركب فرسه وقلب رايته ) بتعبيرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فاخترع له عمرو العاص رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن وحكمين من الطرفين .
    واتفق معاوية مع الأشعث رئيس كندة وكانت ثقلاً في جيش علي ( عليه السلام ) ، فأعلن الأشعث القبول بالتحكيم ، ونصحهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأبوا ! وقال لهم الأشتر أعطوني ساعات لأحقق لكم النصر ! فأبوا وأحاطوا بالإمام ( عليه السلام ) وهددوه وأجبروه على سحب قواته وإيقاف الحرب ، ثم فرضوا عليه أبا موسى الأشعري ممثلاً للعراقيين ، وهو عدو للإمام ( عليه السلام ) !
    4 . بمجرد أن وقعوا اتفاقية التحكيم في صفين ، ظهر الخوارج من الذين أجبروا الإمام ( عليه السلام ) على التحكيم ، فأعلنوا ندمهم وقالوا لقد كفرنا بقبولنا التحكيم ، وكفر علي معنا لأنه قبل ، وطلبوا منه أن يتوب ليعترفوا به إماماً وإلا خرجوا
    --------------------------- 268 ---------------------------
    عليه وقاتلوه ! وبذلك نشأت الخوارج ووقع الاختلاف في جيش الإمام ( عليه السلام ) بين مطيع له ومخالف ، وعسكر الخوارج في أماكن خارج الكوفة ، وناظرهم الإمام ( عليه السلام ) فرجع بعضهم ، وركب أكثرهم رأسه ! وأخذوا يعتدون على المسلمين ويقتلون من خالفهم ، فاضطر الإمام ( عليه السلام ) لقتالهم في معركة النهروان ، وانتصر عليهم نصراً كاسحاً .
    5 . اجتمعوا للتحكيم في دومة الجندل ، ولعب عمرو العاص على أبي موسى الأشعري
    فاتفق معه على أن يخلع كل منهما صاحبه ، ويختاروا غيرهما ، فصعد الأشعري المنبر وخلع علياً ( عليه السلام ) كما يخلع خاتمه ، ثم صعد عمرو العاص وثبت معاوية كما يثبت خاتمه ! واختلفا وتشاتما !
    وفرح معاوية بلعبة عمرو العاص ، واستند إليها في إثبات شرعيته ، وأنه صار الخليفة الشرعي للمسلمين ، وأخد البيعة من أهل الشام بذلك !
    6 . واصل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تحشيد أهل العراق لحرب معاوية ، واستغل معاوية اختلافهم ، فغزا مصر وضمها إلى الشام ، واستعمل سياسة الغارات على دولة الإمام ( عليه السلام ) ، فقام ببضع غارات على العراق والحجاز واليمن ، وتثاقل أهل العراق في الخروج لرد الغارات وجهاد معاوية ! وفي هذا الجو كانت شهادة الإمام صلوات الله عليه .
    7 . كان ( عليه السلام ) يشكو عدم طاعة الناس له ، ولم يرد إجبارهم ، فكان يقول : ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي ) !
    قال في نهج البلاغة ( 1 / 88 ) : ( وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد ، وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، لما غلب عليها بسر بن أبي أرطاة ، فقام ( عليه السلام ) إلى المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي ، فقال : ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها ! إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك ، فقبحك الله ! وتمثل بقول الشاعر :
    لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وضر من ذا الإناء قليل
    ثم قال ( عليه السلام ) : أنبئت بسراً قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق
    --------------------------- 269 ---------------------------
    وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته ! اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً مني ، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء ، أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم
    ( أي من بني تغلب المعروفين بالشجاعة ) :
    هنالك لو دعوت أتاك منهم * فوارس مثل أرمية الحميم
    ثم نزل ( عليه السلام ) من المنبر ) . والأرمية : السحاب ، أي يأتونك سراعاً كالسُّحب !
    ومعناه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دعا عليهم كما وجهه النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، فهو يودع أمته لما تحول جمهورها بين يديه إلى تراب خامل ، لا يتقبل مطراً ولا ينبت نباتاً !
    روى ابن سعد ( 3 / 36 ) قوله ( عليه السلام ) : ( إني بتُّ الليلة أوقظ أهلي ، فملكتني عيناي وأنا جالس ، فسنح لي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فقلت : يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأوَد واللدد ! فقال لي : أدع الله عليهم . فقلت : اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم ، وأبدلهم شراً لهم مني ) ! والأود : الإعوجاج ، واللدد : الجدل .
    وقال ( عليه السلام ) : ( فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين . لأدعونّ الله عليكم ، ثم لأسيرنّ إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة ! أأجلاف أهل الشام وأعرابها أصبر على نصرة الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم ؟ ما بالكم ، ما دواؤكم ؟ إن القوم أمثالكم لاينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة ! فقام إليه سعيد بن قيس الهمداني فقال : يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك . . ) .
    8 . كان الإمام ( عليه السلام ) يخبر عن شهادته ، ففي الإرشاد ( 1 / 13 ) : ( عن الأجلح عن أشياخ كندة قال : سمعتهم أكثر من عشرين مرة يقولون : سمعنا علياً ( عليه السلام ) على المنبر يقول : ما يمنع أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم ؟ ويضع يده على لحيته ) !
  • *
    --------------------------- 270 ---------------------------
    آخر خطبة خطبها أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    قال نوف البكالي الحميري ( نهج البلاغة : 2 / 103 ) : كانت آخرخطبة خطبها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة . وفي آخرها : ( وعقد للحسين ( عليه السلام ) في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم ، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كل مكان ) !
    وقد تقدمت في الفصل السادس والثمانين في وضع دولة الإمام ( عليه السلام ) بعد التحكيم ، وطابعها العام عقائدي في التوحيد والموعظة ، وفي آخرها دعوة إلى الجهاد .
    وروى الطبري في بشارة المصطفى / 32 ، خطبة أخرى ذكر أنها آخر خطبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،
    وطابعها العام بيان مقامه عند الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، ويظهر أنها قبل الخطبة التي رواها نوف البكالي . قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالكوفة عند منصرفه من النهروان ، وبلغه أن معاوية يسبه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وذكر ما أنعم الله على نبيه وعليه . ثم قال : لولا آية في كتاب الله ما ذكرت ما أنا ذاكره في مقامي هذا ، يقول الله عز وجل : وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ .
    اللهم لك الحمد على نعمك التي لا تحصى ، وفضلك الذي لا ينسى
    يا أيها الناس : إنه بلغني ما بلغني وإني أراني قد اقترب أجلي ، وكأني بكم وقد جهلتم أمري ، وإني تارك فيكم ما تركه رسول الله : كتاب الله وعترتي ، وهي عترة الهادي إلى النجاة ، خاتم الأنبياء وسيد النجباء والنبي المصطفى .
    يا أيها الناس : لعلكم لا تسمعون قائلاً يقول مثل قولي بعدي إلا مفتر ، أنا أخو رسول الله ، وابن عمه ، وسيف نقمته ، وعماد نصرته وبأسه وشدته ، أنا رحى جهنم الدائرة ، وأضراسها الطاحنة ، أنا مؤتم البنين والبنات ، وقابض الأرواح ، وبأس الله الذي لا يرده عن القوم المجرمين ، أنا مجدل الأبطال ، وقاتل الفرسان ، ومبيد من كفر بالرحمن ، وصهر خير الأنام ، أنا سيد الأوصياء ووصي خير الأنبياء ، أنا باب مدينة العلم وخازن علم رسول الله ووارثه ، وأنا زوج البتول سيدة نساء العالمين ، فاطمة
    --------------------------- 271 ---------------------------
    التقية النقية ، الزكية البرة المهدية ، حبيبة حبيب الله ، وخير بناته وسلالته ، وريحانة رسول الله ، سبطاه خيرالأسباط وولدي خيرالأولاد .
    هل ينكر أحد ما أقول ، أين مسلموا أهل الكتاب ؟ أنا اسمي في الإنجيل إليا ، وفي التوراة بريا ، وفي الزبور اري ، وعند الهند كابر ، وعند الروم بطريسا ، وعند الفرس جبير ، وعند الترك تبير ، وعند الزنج حيتر ، وعند الكهنة بوسي ، وعند الحبشة بتريك ، وعند أمي حيدرة ، وعند ظئري ميمون ، وعند العرب علي ، وعند الأرمن فريق ، وعند أبي ظهير . ألا وإني مخصوص في القرآن بأسماء ، إحذروا أن تغلبوا عليها فتضلوا في دينكم ، يقول الله عز وجل : وَكُونُوا مَعَ الصَّادقين . أنا ذلك الصادق ، وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . أنا ذلك المؤذن ، وقال الله تعالى : وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فأنا ذلك الأذان ، وأنا المحسن يقول الله عز وجل : وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ، وأنا ذو القلب يقول الله عز وجل : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ . وأنا الذاكر يقول الله عز وجل :
    الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ . ونحن أصحاب الأعراف أنا وعمي وأخي وابن عمي ، والله فالق الحب والنوى ، لا يلج النار لنا محب ولا يدخل الجنة لنا مبغض ، يقول الله عز وجل : وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاً بِسِيمَاهُمْ . وأنا الصهر يقول الله عز وجل : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ، وأنا الأذن الواعية يقول الله عز وجل : وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، وأنا السلم لرسول الله يقول الله
    عز وجل : وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ ، ومن ولدي مهدي هذه الأمة . ألاوقد جعلتُ محنتكم . ببغضي يعرف المنافقون ، وبمحبتي امتحن الله المؤمنين ، هذا عهد النبي الأمي إليَّ أنه لا يحبك يا علي إلامؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، وأنا صاحب لواء رسول الله في الدنيا والآخرة ، ورسول الله فرطي وأنا فرط شيعتي ، والله لاعطش محبي ولا خاف والله مواليَّ ، أنا ولي المؤمنين والله وليي ، يحب محبي أن يحبوا من أحب الله ، ويحب مبغضي أن يبغضوا من أحب الله .
    ألا وإنه قد بلغني أن معاوية سبني ولعنني ، اللهم اشدد وطأتك عليه وأنزل
    --------------------------- 272 ---------------------------
    اللعنة على المستحق . آمين رب العالمين ، رب إسماعيل وباعث إبراهيم إنك حميد مجيد ،
    ثم نزل ( عليه السلام ) عن أعواده ، فما عاد إليها حتى قتله ابن ملجم ) .
  • *
    المقتول في سبيل الله والشهيد
    فضل القتل في سبيل الله تعالى :
    قال الله تعالى : وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . َ
    الَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .
    وفي الكافي ( 5 / 53 ) بسند صحيح : ( أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب يوم الجمل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني أتيت هؤلاء القوم ودعوتهم واحتججت عليهم ، فدعوني إلى أن أصبرللجلاد وأبرز للطعان ! فلأمهم الهبل ، وقد كنت وما أهدد بالحرب ، ولا أرهَّب بالضرب ! أنصف القارة من راماها ، فلغيري فليبرقوا وليرعدوا ، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم وفرقت جماعتهم ، وبذلك القلب ألقى عدوي ، وأنا على ما وعدني ربي من النصر والتأييد والظفر ، وإني لعلى يقين من ربي وغير شبهة من أمري .
    أيها الناس : إن الموت لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب ، ليس عن الموت محيص ، ومن لم يمت يقتل ، وإن أفضل الموت القتل . والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على فراش !
    واعجباً لطلحة ألَّبَ الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعاً ، ثم نكث بيعتي ، اللهم خذه ولا تمهله ، وإن الزبير نكث بيعتي وقطع رحمي ، وظاهر عليَّ عدوي ، فاكفنيه اليوم بما شئت ) .
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : فوق كل ذي برٍّ برحتى يقتل في سبيل الله ، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر ) وفي رواية : ( وفوق كل ذي عقوق
    --------------------------- 273 ---------------------------
    عقوق ، حتى يقتل أحد والديه فليس فوقه عقوق » ( تحرير الأحكام : 2 / 129 ) .
    وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( إن علي بن الحسين ( عليه السلام ) كان يقول : قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرة دم في سبيل الله ) .
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 4 / 75 ) : ( قيل للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : ما بال الشهيد لا يفتن في قبره ؟ فقال : كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة )
    وقال ( عليه السلام ) : ( من قتل في سبيل الله لم يعرفه الله شيئاً من سيئاته ) . وقال أبو بصير قلت له ( عليه السلام ) : ( أي الجهاد أفضل ؟ قال : من عقر جواده وأهريق دمه في سبيل الله ) .
    ومن دعاء الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( وأسألك أن تجعل وفاتي قتلا في سبيلك تحت راية نبيك مع أوليائك . وأسألك أن تقتل بي أعدائك وأعداء رسولك وأسألك أن تكرمني بهوان من شئت من خلقك ولا تهني بكرامة أحد من أوليائك ) .
    وفي الإقبال ( 1 / 144 ) : ( وليلة القدر وحج بيتك الحرام وقتلاً في سبيلك فوفق لنا ) .
    من كرامة الشهيد الذي يموت في المعركة أنه لا يغسل :
    في الكافي ( 3 / 211 ) : ( عن زرارة ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال قلت له : كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه ؟ قال : نعم في ثيابه بدمائه ولا يحنط ولا يغسل ويدفن كما هو ، ثم قال : دفن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي أصيب فيها ورداه النبي ( ( عليهما السلام ) ) برداء فقصر عن رجليه فدعا له بإذخر فطرحه عليه وصلى عليه سبعين صلاة وكبر عليه سبعين تكبيرة ) .
    لكن الشهيد لا ينحصر بالمقتول في سبيل الله :
    في المحاسن ( 1 / 163 ) عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : ( ما من شيعتنا إلا صديق شهيد ، قال قلت : جعلت فداك أنى يكون ذلك وعامتهم يموتون على فراشهم ؟ فقال : أما تتلو كتاب الله في سورة الحديد : وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال فقلت : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله عز وجل قط ، قال : لو كان الشهداء ليس إلا كما تقول ، لكان الشهداء قليلاً ) .
    --------------------------- 274 ---------------------------
    درجات الناس يوم القيامة :
    قال الله تعالى : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
    فهذه أربع درجات ، ودلت أحاديث النبي ( ( عليهما السلام ) ) على أن العلماء قبل الشهداء . ففي قرب الإسناد / 64 ، قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : ( ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة فيشفعهم : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء ) .
    وفي الفقيه ( 4 / 399 ) قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين ، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء ) .
    فالدرجات يوم القيامة :
    1 - درجة النبي ( ( عليهما السلام ) ) وآله الطاهرين ( عليهم السلام )
    3 - درجة إبراهيم وآل إبراهيم ( عليهم السلام ) .
    5 - درجة بقية الأنبياء ( عليهم السلام ) .
    6 - درجة الصديقين .
    7 - درجة العلماء .
    8 - درجة الشهداء .
    9 - درجة الصالحين . وكل درجة من هذه التسع درجات عديدة . .
    المقام العظيم لعلي ( ( ع ) ) وشيعته يوم القيامة :
    في بصائر الدرجات / 104 : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : يا علي لقد مُثلتْ لي أمتي في الطين ، حتى رأيت صغيرهم وكبيرهم أرواحاً قبل أن يخلق الأجساد ، وإني مررت بك وبشيعتك فاستغفرت لكم . فقال علي : يا نبي الله زدني فيهم قال : نعم يا علي تخرج
    --------------------------- 275 ---------------------------
    أنت وشيعتك من قبورهم ووجوهكم كالقمر ليلة البدر ، وقد فرجت عنكم الشدايد ، وذهبت عنكم الأحزان ، تستظلون تحت العرش ، يخاف الناس ولا تخافون ، ويحزن الناس ولا تحزنون ، وتوضع لكم مائدة والناس في الحساب ) .
    وفيه عن مالك الجهني : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( يا مالك إن الميت منكم على هذا الأمر شهيد بمنزلة الضارب في سبيل الله . وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ما يضر رجلاً من شيعتنا أية ميتة مات ، أكله السبع ، أو أحرق بالنار ، أو غرق ، أو قتل ، هو والله شهيد ) .
    وفي قرب الإسناد للحميري / 102 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) :
    يبعث الله عباداً يوم القيامة تهلل وجوههم نوراً ، عليهم ثياب من نور ، فوق منابر من نور ، بأيديهم قضبان من نور ، عن يمين العرش وعن يساره ، بمنزلة الأنبياء وليسوا بأنبياء ، وبمنزلة الشهداء وليسوا بشهداء . فقام رجل فقال : يا رسول الله ، أنا منهم ؟ فقال : لا . فقام آخر فقال : يا رسول الله ، أنا منهم ؟ فقال : لا . فقال :
    من هم يا رسول الله ؟ قال : فوضع يده على منكب علي ( عليه السلام ) فقال : هذا وشيعته ) .
    وفي كامل الزيارات / 270 : قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين من الفضل لماتوا شوقاً وتقطعت أنفسهم عليه حسرات ، قلت : وما فيه ، قال : من أتاه تشوقاً كتب الله له ألف حجة متقبلة ، وألف عمرة مبرورة ، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر وأجر ألف صائم ، وثواب ألف صدقة مقبولة ، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله ، ولم يزل محفوظاً سنته من كل آفة أهونها الشيطان ، ووكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه . فإن مات سنته حضرته ملائكة الرحمة يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ، ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار له ، ويفسح له في قبره مد بصره ، ويؤمنه الله من ضغطة القبر ومن منكر ونكير أن يروعانه ، ويفتح له باب إلى الجنة ، ويعطى كتابه بيمينه ، ويعطى له يوم القيامة نوراً يضئ لنوره ما بين المشرق والمغرب ، وينادي مناد : هذا من زوار الحسين شوقاً إليه ، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين ( عليه السلام ) ) ! !
    --------------------------- 276 ---------------------------
    وسأل داود بن فرقد الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( كامل الزيارات / 341 ) : ( ما لمن زار الحسين ( عليه السلام )
    في كل شهر من الثواب ، قال : له من الثواب ثواب مائة ألف شهيد مثل شهداء بدر )
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أنتم خاصة الله اختصكم الله ، أنتم الشهداء وأنتم السعداء سعدتم عند الله ، وفزتم بالدرجات من جنات لايظعن أهلها ولا يهرمون ، ورضوا بالمقام في دار السلام مع من نصرتم ) ( كامل الزيارات / 421 ) .
    المقام العظيم لعلي ( ( ع ) ) وشيعته في مصادر السنيين :
    أورد الفخر الرازي ( 27 / 165 ) في آية : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ، بضعة عشر حديثاً عن الزمخشري ، وفيما قال : ( نقل صاحب الكشاف عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أنه قال :
    من مات على حب آل محمد مات شهيداً .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان .
    ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير .
    ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها .
    ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة .
    ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة .
    ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة .
    ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً .
    ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة .
    ثم قال الرازي : هذا هو الذي رواه صاحب الكشاف وأنا أقول : آل محمد ( ( عليهما السلام ) )
    هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ولاشك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات ،
    --------------------------- 277 ---------------------------
    وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل ) .
    وفي الدر المنثور للسيوطي ( 3 / 379 ) : ( أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي فأقبل عليٌّ فقال النبي : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، فكان أصحاب النبي إذا أقبل عليٌّ قالوا : جاء خير البرية .
    وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : عليٌّ خير البرية .
    وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لما نزلت : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لعلي : هو أنت وشيعتك يوم القيامة ، راضين مرضيين .
    وأخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول الله : ألم تسمع قول الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ : أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غُراً محجلين ) .
    وفي مجمع الزوائد ( 9 / 131 ) : ( أن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال : إن أول أربعة يدخلون الجنة أنا وأنت والحسن والحسين ، وذرارينا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرارينا ، وشيعتنا عن أيماننا ، وعن شمائلنا ) .
    وفي المعجم الكبير للطبراني ( 1 / 319 ) : ( وبإسناده أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال لعلي : أنت وشيعتك تردون علي الحوض رواءً مرويين ، مبيضة وجوهكم ، وإن عدوك يَرِدُون عليَّ ظماءً مُقْمَحين ) .
    لماذا كان أمير المؤمنين ( ( ع ) ) يأمل الشهادة في المعركة
    قال ( عليه السلام ) كما في نهج البلاغة ( 3 / 60 ) : ( فوالله لولا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة . . لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ، ولا ألتقي بهم أبداً ) .
    ( والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو ، لو قد حُمَّ لي لقاؤه لقربت ركابي ثم شخصت عنكم ، فلاأطلبكم ما اختلف جنوب وشمال ) . ( نهج البلاغة ( 1 / 232 ) .
    فكيف يأمل أن يستشهد في المعركة وهو يعلم أنه سيقتل غدراً ولا يقتل في معركة
    --------------------------- 278 ---------------------------
    صفين ولا غيرها ؟ ! وقد أخبر بذلك المسلمين فكانوا يتحدثون به .
    وفي ليلة الهرير بصفين ( الخوارزمي / 244 ) : ( فقد أهل العراق أمير المؤمنين وساءت الظنون وقالوا لعله قتل ! فعلا البكاء والنحيب ، ونهاهم الحسن عن ذلك وقال :
    إن علمت الأعداء ذلك منكم اجترؤوا عليكم ، وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخبرني بأن قتله يكون بالكوفة . وكانوا على ذلك إذ أتاهم شيخ يبكى وقال : قتل أمير المؤمنين ،
    وقد رأيته صريعاً بين القتلى ، فكثر البكاء ، فقال الحسن ( عليه السلام ) : يا قوم هذا الشيخ يكذب فلاتصدقوه ، وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : يقتلني رجل من مراد في كوفتكم هذه .
    وكان الأشتر يطلب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ذلك اليوم رايةً راية ، وقال لغلامه هاشم : أنظر هل رجع إلى موقفه وأنا أطلبه في العسكر ، فإن بشرتني برجوعه فلك كذا وكذا ، وكان علي ( عليه السلام ) حينئذ مع سعيد بن قيس الهمداني وهمدان فوارسه الخواص ، فوجده الأشتر عنده ، فرآه علي متغيراً باكياً ، فقال له : ماخبرك أفَقَدْتَ ابنك إبراهيم ، أم أصابك غير ذلك ؟ فقال الأشتر :
    كل شئ سوى الإمام صغير * وهلاك الأمير أمر كبير
    قد رضينا وقد أصيب لنا اليوم * رجال هم الحماة الصقور
    من رأى غرة الوصي علي * إنه في دجى الحنادس نور ) .
    فيقال : كيف ينسجم هذا مع قوله ( عليه السلام ) : ( لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو ، لو قد حم لي لقاؤه ، لقربت ركابي ) ؟
    والجواب : أن الإمام ( عليه السلام ) يؤمن بقول النبي ( ( عليهما السلام ) ) إيماناً مطلقاً ، لكنه يؤمن بالبداء أيضاً ، فلا يحتم على الله تعالى وعده له بالشهادة . وحيث وجب عليه القتال على التأويل ، فهو يقاتل بكل جد ، ويأمل الشهادة !
    كيف يعلم المعصوم الأمر ويعمل بخلاف علمه ؟ !
    هناك إشكالية تقول : ما دام المعصوم يعلم مثلاً أن فلاناً سيقتله ، فكيف يتصرف بخلاف علمه ، ويعامله كبريئ ولا يحبسه ، ولايحرس نفسه منه ؟ !
    وكيف يعلم النبي ( ( عليهما السلام ) ) مثلاً بأن فلاناً سيضل أمته ، ثم يعامله كبريئ ولا يقتله ،
    --------------------------- 279 ---------------------------
    ولايكشفه للناس جهاراً ويحذرهم منه !
    أو يعلم المعصوم بأن زوجته فلانة سوف تدس له السم ، ويعاملها كبريئة !
    والأصعب من ذلك كله : كيف يعلم أن هذا الطعام أو التمر أو العنب مسموم ، ثم يتناوله ويموت بسبب تناوله ، فيكون كقاتل نفسه ؟ !
    يتضح الجواب عليه بفهم الأمور التالية :
    1 . علم الغيب منه ما يستأثر الله به لنفسه ، فلا يظهر عليه أحداً ، ومنه ما يظهرعليه بعض عباده ، قال تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً . لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَئٍْ عَدَداً . وأعظم المرضيين عنده نبينا وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، فقد أعطاهم ما شاء من علم ما كان وما يكون .
    وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في البصرة يحدث عما يأتي عليها فقال ( نهج البلاغة ( 2 / 9 ) :
    ( يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل . يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام ، يومي بذلك إلى صاحب الزنج . . فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ، فضحك ( عليه السلام ) ، وقال للرجل وكان كلبياً : يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب ، وإنما هو تعلم من ذي علم . وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدد الله سبحانه بقوله : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ . فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيين مرافقاً . فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله ، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطم عليه جوانحي ) .
    2 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( البصائر / 221 ) : ( والله لقد أعطاني الله تبارك وتعالى تسعة أشياء لم يعطها أحد قبلي خلا محمداً ( ( عليهما السلام ) ) : فُتحت لي السبل ، وعُلمت الأنساب وأُجري لي السحاب ، وعُلمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب ، ولقد نظرت
    --------------------------- 280 ---------------------------
    في الملكوت بإذن ربي فما غاب عني ما كان قبلي ، ولا فاتني ما يكون من بعدي ، وبولايتي أكمل الله لهذه الأمة دينهم وأتم عليهم النعم ورضي لهم الإسلام ، إذ يقول : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا )
    وفي الكافي ( 1 / 255 ) : ( عن أبي جعفر ( الباقر ) ( عليه السلام ) قال : إن لله عز وجل علمين : علم لا يعلمه إلا هو ، وعلم علمه ملائكته ورسله ، فما علمه ملائكته ورسله ( عليهم السلام ) فنحن نعلمه ) .
    3 . عقيدتنا في المعصوم من عترة النبي ( ( عليهما السلام ) ) أن عنده الاسم الأعظم فلا ترد له دعوة ، بل أعطى الله لأهل البيت أعظم مما أعطى الأنبياء السابقين ( عليهم السلام ) .
    قال عبد الله بن بكير ( بصائر الدرجات / 232 ) : ( كنت عنده ( عليه السلام ) ( الإمام الصادق ) فذكروا سليمان ( عليه السلام ) وما أعطي من العلم وما أوتي من الملك ، فقال لي : وما أعطي سليمان بن داود ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم وصاحبكم الذي قال الله : قُلْ كَفى بِاللَّه شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَه عِلْمُ الْكِتابِ . كان والله عند علي ( عليه السلام )
    علم الكتاب ) .
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 261 ، وبصائر الدرجات / 149 ) : ( ورب الكعبة ورب البنية ، ثلاث مرات ، لو كنت بين موسى والخضر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأخبرتهما أني أعلم منهما ، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ، لأن موسى والخضر أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون ، وإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أعطي علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيمة ، فورثناه من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وراثةً ) .
    4 . ثم إن الاسم الأعظم لا يتحمله كل أحد ، فهو يحتاج إلى عقلية خاصة وأعصاب قوية ! ففي بصائر الدرجات / 230 : ( عن عمر بن حنظلة قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) إني أظن أن لي عندك منزلة . قال : أجل . قال قلت : فإن لي إليك حاجة . قال : وما هي ؟ قال قلت : تعلمني الاسم الأعظم . قال : وتطيقه ؟ قلت : نعم . قال : فادخل البيت ( الغرفة ) قال فدخل البيت فوضع أبو جعفر يده على الأرض ، فاظلمَّ البيت فأرعدت فرائص عمر ، فقال : ما تقول ، أعلمك ؟ فقال : لا .
    قال : فرفع يده فرجع البيت كما كان ) .
    --------------------------- 281 ---------------------------
    فلم يتحمل عمر بن حنظلة رضي الله عنه الظلمة الشديدة التي سببتها نية الإمام ( عليه السلام ) ووضعه يده الشريفة على الأرض ، وقد يكون دعا بدعاء ، فاقتنع ابن حنظلة بأنه لا طاقة لأعصابه بتلك الظلمة وجوها المخيف ، وعرف معنى سؤال الإمام ( عليه السلام ) : وتطيقه ؟ فرجع عن طلب الاسم الأعظم .
    5 . والمعصوم يعيش بالأسباب الطبيعية ، ولا يستعمل الاسم الأعظم إلا أن يؤمر روى الصدوق ( قدس سره ) في أماليه / 539 ، أن رجلاً جاء إلى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وشكى اليه فقره وديناً أثقله ، فلم يكن عند الإمام ( عليه السلام ) مال لأن الوليد كان صادر أمواله ، فأعطاه الإمام قرصيه قوت يومه ، وأمره أن يذهب إلى السوق ويشتري بهما شيئاً ، فوجد سمكة غير مرغوبة فاشتراها فوجد في جوفها لؤلؤتين ثمينتين : ( وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه وحسنت بعد ذلك حاله . فقال بعض المخالفين : ما أشد هذا التفاوت ! بينا علي بن الحسين لا يقدر أن يسد منه فاقة إذ أغناه هذا الغناء العظيم ! كيف يكون هذا وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم ! فقال ( عليه السلام ) : هكذا قالت قريش للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء ( عليهم السلام ) من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة ، مَن لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً ، وذلك حين هاجر منها !
    ثم قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه !
    إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه ، وترك الاقتراح عليه والرضا بما يدبرهم به ! إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لم يساوهم فيه غيرهم ، فجازاهم الله عز وجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم ، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم ) !
    فهذا يدل على أن إرادة المعصوم ( عليه السلام ) تابعة لإرادة الله تعالى ، وأنه لا يتصرف من نفسه ، ولا يستعمل ولايته التكوينية من نفسه ، بل يعمل بأمر من الله تعالى !
    فالأصل عنده أن يعيش بالأسباب العادية ، إلا إذا أمره الله تعالى بهاتف أو إلهام أو
    --------------------------- 282 ---------------------------
    أي طريق ، أن يعمل شيئاً أو يدعوه بشئ ! وهذا معنى تفوق النبي وآله ( ( عليهما السلام ) ) على غيرهم بأنهم لم يقترحوا على ربهم عز وجل شيئاً !
    6 . عقيدتنا أن النبي وآله ( ( عليهما السلام ) ) كانوا يعرفون آجالهم ، وأنهم سلموا لله تعالى بأن تجري مقاديره عليهم ، واختاروا ما اختاره لهم ورضوا به .
    وقد عقد الكليني ( قدس سره ) في الكافي ( 1 / 258 ) : ( باب أن الأئمة ( عليهم السلام ) يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم . روى فيه ثمانية أحاديث :
    منها : قول الصادق ( عليه السلام ) : أيُّ إمامٍ لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير ، فليس ذلك بحجة لله
    على خلقه .
    ومنها : عن الحسن بن الجهم قال قلت للرضا ( عليه السلام ) : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه ، وقوله لما سمع صياح الإوز في الدار : صوائح تتبعها نوائح ، وقول أم كلثوم : لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس ، فأبى عليها . وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ، وقد عرف ( عليه السلام ) أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف ، كان هذا مما لم يجز تعرضه ! فقال ( عليه السلام ) : ذلك كان ، ولكنه خُيِّر في تلك الليلة ، لتمضي مقادير الله عز وجل ) .
    يعني خيره الله تعالى بالإلهام أو بهتاف الملك ، أو بحديث النبي ( ( عليهما السلام ) ) له ، بين أن يحترس وأن يدفع الله عنه ابن ملجم ويحبط مؤامرته ، أو يترك الحراسة والأمر يجري بمقادير الله تعالى ، فاختار أن تجري المقادير ، وقدم نفسه للشهادة ! !
    وفي عيون المعجزات / 43 : ( روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كلما رأى عبد الرحمن بن ملجم المرادي قال لمن حوله : هذا قاتلي فقال له قائل : أفلا تقتله يا أمير المؤمنين فقال ( عليه السلام ) : كيف أقتل قاتلي ، كيف أرد قضاء الله ) .
    وفي صراط النجاة للسيد الخوئي والتبريزي ( 3 / 421 ) : ( سؤال : هناك إشكال يقول إن ظاهرالروايات أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يعلم بضرب ابن ملجم له ليلة القدر وبوفاته ، فكيف أقدم وخرج ؟ وهناك جواب معروف وهو أن الأئمة ( عليهم السلام ) وظيفتهم العمل بظواهرالأمور دون ما يقتضيه ما انكشف لهم . ولإزالة الشبهة المذكورة هل
    --------------------------- 283 ---------------------------
    لكم أن تتفضلوا بجواب آخر ؟
    فأجاب : إنما يحرم قتل النفس وإلقاؤها في التهلكة بالعنوان الأولي ، وأما بالعنوان الثانوي ، كما إذا توقف عليه حفظ الدين الحنيف ، فربما يجوز ذلك بل قد يجب ، فلولا أن الحسين ( عليه السلام ) قتل بسيوف الأعداء لاندرست آثار النبوة ولانمحى ما تحمله النبي ( ( عليهما السلام ) ) ووصيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من المشقة والتعب ، كما أن بقتل أبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ظهر خبث بواطن الخوارج ، وارتفعت الشبهة عن الجاهلين ، حيث أن الأذهان البسيطة ربما تغتر بكثرة صلاتهم وصيامهم ، وزيادة تعبدهم بظواهرالشريعة ، وقراءتهم وحفظهم للقرآن الكريم ، فعلم الناس بهذه الحادثة المؤلمة ، أنه لا دين لهم واقعاً ، وإنما لبسوا ثوب الدين للمقاصد الدنيوية ، والأغراض الشهوانية ، وأنهم من الجهلاء الذين لا يهتدون سبيلاً ، حيث أقدموا على قتل أفضل البرية من بعد الرسول الأعظم ( ( عليهما السلام ) ) خذلهم الله تعالى ) .
    وقال الشريف المرتضى ( رحمه الله ) في رسائله ( 3 / 131 ) : ( ليس من الواجب علم الإمام بوقت وفاته ، أو قتله على التعيين . وقد روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أخبار كثيرة كان يعلم أنه مقتول ، وأن ابن ملجم قاتله . ولا يجوز أن يكون عالماً بالوقت الذي يقتله فيه على التحديد والتعيين ، لأنه لو علم ذلك لوجب أن يدفعه عن نفسه ولا يلقي بيده إلى التهلكة ) .
    وجوابنا للشريف المرتضى رضي الله عنه : أن الروايات الصحيحة صريحة في أن الإمام ( عليه السلام ) يعلم وقت وفاته وسببها أيضاً . وأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خُيِّرَ فاختار أن تجري مقادير الله تعالى ، فألقى نفسه في الشهادة ، وليس في التهلكة .
    ولعل الشريف لم يطلع على الروايات الصريحة بذلك ، أو تأولها بدون موجب .
    فالصحيح الاحتمال الثاني الذي ذكره العلامة الحلي ( قدس سره ) في المسائل المهناوية / 146 ،
    فقد سئل : ( فكيف خرج ( عليه السلام ) في تلك الليلة ملقياً بيده إلى التهلكة ، وإن فعله ( عليه السلام )
    هو الحجة لكن نطلب وجهاً نجيب عن الشبهة ؟
    فأجاب ( قدس سره ) : يحتمل أن يكون ( عليه السلام ) أخبر بوقوع القتل في تلك ولم يعلم أنه في أي
    --------------------------- 284 ---------------------------
    وقت من تلك الليلة ، أو أنه لم يعلم في أي مكان يقتل ، أو أن تكليفه ( عليه السلام ) مغاير لتكليفنا فجاز أن يكلف ببذل مهجته الشريفة صلوات الله عليه في ذات الله تعالى ، كما يجب على المجاهد الثبات وإن أدى ثباته إلى القتل فلا يعذر في ذلك ) .
    كيف عامل الإمام ( ( ع ) ) قاتله ابن ملجم
    1 . في مناقب ابن سليمان ( 2 / 37 ) : ( قال أبو الطفيل : جمع علي الناس للبيعة فجاء عبد الرحمن بن ملجم المرادي ليبايعه فرده مرتين أو ثلاثاً ثم بايعه ، ثم قال : ما يحبس أشقاها ! والذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذا ! ثم تمثل بهذين البيتين :
    [ أشدد ] حيازيمك للموت * فإن الموت آتيكا
    ولا تجزع من القتل * إذا حل بواديكا ) .
    وفي الروضة لشاذان / 43 و 104 : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما بايعه ابن ملجم : بالله إنك غير وفي ببيعتي ، ولتخضبن هذه من هذا ، وأشار بيده إلى كريمته وكريمه ! فلما هل شهر رمضان جعل يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال فلما مضت بعض الليالي قال : كم مضى من شهر رمضان ؟ قالوا له كذا وكذا يوم ، فقال لهما : في العشرالأواخر تفقدان أباكما ) !
    وفي طبقات ابن سعد ( 3 / 33 ) : ( وزاد غير أبي نعيم في هذا الحديث بهذا الإسناد عن علي بن أبي طالب : والله إنه لعهد النبي الأمي ( ( عليهما السلام ) ) إليَّ ) .
    وفي الرياض النضرة ( 3 / 237 ) : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لعلي : من أشقى الأولين يا علي ؟ قال : الذي عقر ناقة صالح ، قال : صدقت فمن أشقى الآخرين ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه ، وأشار إلى يافوخه ، فكان علي يقول لأهله : والله لوددت أن لو انبعث أشقاها ! أخرجه أبو حاتم والملاء في سيرته . وعن ابن سبع قال : سمعت علياً على المنبر يقول : ما ينتظر أشقاها ؟ عهد إليَّ رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لتخضبن هذه من هذا وأشار إلى لحيته ورأسه ! فقالوا : يا أمير المؤمنين ، خبرنا من هو حتى نبتدره . فقال : أنشد الله رجلاً قتل بي غير قاتلي ) .
    وقال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1125 و 1127 ) : ( ذكر النسائي من حديث
    --------------------------- 285 ---------------------------
    عمار بن ياسر عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أنه قال لعلي رضي الله عنه : أشقى الناس الَّذي عقرالناقة ، والَّذي يضربك على هذا ، ووضع يده على رأسه ، حتى يخضب هذه يعنى لحيته . وذكره الطبري وغيره أيضاً ، وذكره ابن إسحاق في السير وهو معروف من رواية محمد بن كعب القرظي ، عن يزيد بن جشم ، عن عمار بن ياسر وذكره ابن أبي خيثمة من طرق .
    وكان قتادة يقول : قتل علي على غير مال احتجبه ، ولا دنياً أصابها . .
    وكان علي رضي الله عنه كثيراً ما يقول : ما يمنع أشقاها ، أو ماينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا ، يقول : والله ليخضبن هذه من دم هذا ، ويشير إلى لحيته ورأسه ، خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير .
    قيل : فما يمنعك منه ؟ قال : إنه لم يقتلني بعد ! فقيل له : إن ابن ملجم يسم سيفه ويقول : إنه سيفتك بك فتكة يتحدث بها العرب ! فبعث إليه فقال له : لم تسمّ سيفك ؟ قال : لعدوي وعدوك . فخلَّى عنه وقال : ما قتلني بعد !
    ثم روى ابن عبد البر عن الحسن بن علي ( عليه السلام ) أنه سمع أباه في ذلك السحر يقول له : يا بني ، رأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في هذه الليلة في نومة نمتها فقلت : يا رسول الله ، ما ذا لقيت من أمتك من الأود واللَّدد ؟ قال : أدع الله عليهم ، فقلت : اللَّهم أبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي من هو شرّ مني ) !
    ( عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى ينبع عائداً لعلي بن أبي طالب وكان مريضاً بها حتى ثقل فقال له أبي : ما يقيمك بهذا المنزل ؟ ولومت لم يلك إلا أعراب جهينة . احتمل حتى تأتي المدينة ، فإن أصابك أجلك وليَك أصحابك وصلوا عليك . وكان أبو فضالة من أصحاب بدر ، فقال علي : إني لست ميتاً من وجعي هذا ، إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عهد إليَّ أن لا أموت حتى أؤمر ، ثم تختضب هذه يعني لحيته من دم هذه ، يعني هامته . ( كنز العمال : 13 / 186 ، وقال : البزار ، والحارث ، وأبو نعيم ، ورجاله ثقات ) .
  • *
    --------------------------- 286 ---------------------------
    الفصل الخامس والتسعون
    شهادة أمير المؤمنين ( ( ع ) ) ظروف الإغتيال والمخططون
    الإمام ( ( ع ) ) يتحدث عن مراحل حياته وشهادته
    تحدث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن مراحل حياته ، في نص فريد تضمن خلاصة سيرته وشهادته ، رواه الصدوق في الخصال / 365 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) وصححه الشيخ الأنصاري ( قدس سره ) في كتاب المكاسب ( 2 / 244 ) واستدل منه بمشورة عمر لعلي ( عليه السلام ) على مشروعية الفتوحات ، وهو مسند إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال :
    ( أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عند منصرفه عن وقعة النهروان ، وهو جالسٌ في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبيٌّ أو وصي نبي ! قال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ؟ قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده ، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء ، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ، وإلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم ؟
    فقال له علي ( عليه السلام ) : والله الذي لا إله غيره الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) ، لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه ، لتُقِرَّنَّ به ؟ قال : نعم . قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) ، لئن أجبتك لتُسْلِمَنَّ ؟ قال : نعم .
    --------------------------- 287 ---------------------------
    فقال له علي ( عليه السلام ) : إن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم ، أمر الأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الأوصياء في أعناق الأمم ممن يقول بطاعة الأنبياء ( عليهم السلام ) . ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء ( عليهم السلام ) في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء وقد أكمل لهم السعادة . قال له رأس اليهود : صدقت يا أمير المؤمنين فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمرك ؟ فأخذ علي ( عليه السلام ) بيده وقال : إنهض بنا أنبئك بذلك ، فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولمَ ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأمور بدت لي من كثير منكم !
    فقام إليه الأشتر فقال : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك ، فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهرالأرض وصي نبي سواك وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا ( ( عليهما السلام ) )
    نبياً سواه ، وأن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا ، فجلس علي ( عليه السلام )
    وأقبل على اليهودي فقال :
    الأول : امتحان الإيمان والتفرغ للدعوة
    يا أخا اليهود ، إن الله عز وجل امتحنني في حياة نبينا محمد ( ( عليهما السلام ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي ، بنعمة الله له مطيعاً قال : وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : أما أولاهن ، فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا ( ( عليهما السلام ) ) وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سناً ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبد المطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه وهجروه ونابذوه ، واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس ، مقصين له ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم تحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وحدي إلى ما دعا إليه مسرعاً مطيعاً موقناً ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج ،
    --------------------------- 288 ---------------------------
    وما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بما آتاه الله غيري وغير ابنة
    خويلد رحمها الله ! ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثاني : امتحان المبيت في فراش رسول الله ؟ ص ؟
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي ( ( عليهما السلام ) ) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، وإذ قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدراً ! فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار فأخبرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه ، فمضى ( عليه السلام ) لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي ( ( عليهما السلام ) ) فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ،
    ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثالث : امتحان المبارزة والقتال في بدر
    فقال : وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن ابني ربيعة وابن عتبة كانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر ، فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مع صاحبيَّ رضي الله عنهما ( حمزة وعبيدة ) وقد فعل ، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي ، واستشهد ابن عمي في ذلك رحمة الله عليه . ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    --------------------------- 289 ---------------------------
    الرابع : امتحان المبارزة والثبات في أحد
    فقال علي ( عليه السلام ) : وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استحاشوا من يليهم من قبايل العرب وقريش ، طالبين بثأر مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( عليهما السلام ) ) فأنبأه بذلك فذهب النبي ( ( عليهما السلام ) ) وعسكر بأصحابه في سدِّ أحُد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا إلينا حملة رجل واحد واستشهد من المسلمين من استشهد . وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة ، وبقيت مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي ( ( عليهما السلام ) ) وقتل أصحابه ! ثم صرف الله عز وجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) نيفاً وسبعين جراحة منها هذه وهذه ، ثم ألقى رداءه وأمرَّ يده على جراحاتي ، وكان مني في ذلك ما على الله عز وجل ثوابه إن شاء الله ، ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الخامس : امتحان مبارزة عمرو بن ود
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقةً بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( عليهما السلام ) ) فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرةً لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ورسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلا عتواً ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة ، وبسيفه مرة ،
    لا يقدم عليه مُقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه .
    --------------------------- 290 ---------------------------
    فأنهضني إليه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواكٍ إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ، فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لاتعدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك وبما كان مني فيهم من النكاية . ثم التفت ( عليه السلام )
    إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    السادس : امتحان مبارزة مرحب وفتح خيبر
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فإنا وردنا مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا احمرت الحدق ، ودعيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن إنهض ، فأنهضني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) إلى دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ، ثم التفت ( عليه السلام )
    إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    السابع : امتحان تبليغ سورة براءة
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول لله ( ( عليهما السلام ) ) لما توجه لفتح مكة ، أحب أن يُعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عز وجل آخراً ، كما دعاهم أولاً ، فكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ، ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضيَّ به فكلهم يرى التثاقل فيه ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلاً فوجهه به فأتاه جبرئيل فقال :
    --------------------------- 291 ---------------------------
    يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فأنبأني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة ، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( عليهما السلام ) ) وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ، ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم ! ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود ، هذه المواطن التي امتحنني فيه ربي عز وجل مع نبيه ( ( عليهما السلام ) ) فوجدني فيها كلها بمنه مطيعاً ، ليس لأحد فيها مثل الذي لي ، ولو شئت لوصفتُ ذلك ، ولكن الله عز وجل نهى عن التزكية .
    فقالوا : يا أمير المؤمنين : صدقت والله ، ولقد أعطاك الله عز وجل الفضيلة بالقرابة من نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ، وأسعدك بأن جعلك أخاه ، تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها ، والأهوال التي ركبتها ، وذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره ، ومما ليس لأحد من المسلمين مثله يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ومن شهدك بعده ، فأخبرنا يا أمير المؤمنين ما امتحنك الله عز وجل به بعد نبينا ( ( عليهما السلام ) ) فاحتملته وصبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه ، علماً منا به وظهوراً منا عليه إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك ، كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه . فقال ( عليه السلام ) :
    يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني بعد وفاة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن ، من غير تزكية لنفسي ، بمنه ونعمته صبوراً .
    الأول : فقد رسول الله ؟ ص ؟ بوفاته
    أما أولهن يا أخا اليهود ، فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة ، أحدٌ آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به ، غير رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، هو رباني صغيراً ، وبوأني كبيراً ، وكفاني العيلة ، وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ،
    --------------------------- 292 ---------------------------
    ووقاني المكسب . وعال لي النفس والولد والأهل ، هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحق عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ! وسائر الناس من غير بني عبد المطلب ، بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم .
    وحملت نفسي على الصبر عند وفاته ، بلزوم الصمت والإنشغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولا جزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) عليَّ ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً . ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثاني : أخذ الخلافة وعزل بني هاشم
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته ، وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أمره إذا حضرته والأميرعلى من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمر في حياة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ولا بعد وفاته . ثم أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفوَ قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل
    --------------------------- 293 ---------------------------
    شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن تمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثرالتأكيد ! فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( عليهما السلام ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم ، والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ! فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ! فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي ، مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة ، وفقد من لاخلف منه إلا الله تبارك وتعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها !
    ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الثالث : وصية أبي بكر لعمر رغم وعده لعلي ( ( ع ) )
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره على ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ، وسألني تحليله ، فكنت أقول : تنقضي أيامه ، ثم يرجع إليَّ حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية ، حدثاً في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الإسلام يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسراً
    --------------------------- 294 ---------------------------
    فيدعوني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ، ليؤدوا إليَّ بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول رويداً وصبراً لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة دماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل فقال كل قوم : منا أمير ، وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر . فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صيَّر الأمر بعده لصاحبه فكانت هذه أخت أختها ، ومحلها مني مثل محلها ، وأخذا مني ما جعله الله لي ، فاجتمع إلي من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) ممن مضى وممن بقي ممن أخره الله من اجتمع ، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في أختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الأول ، صبراً واحتساباً ويقيناً ، وإشفاقاً من أن تفنى عصبة تألفهم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) باللين مرة وبالشدة أخرى ، وبالنذر مرة ، وبالسيف أخرى ! حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكر والفرار والشبع والري ، واللباس والوطاء والدثار ، ونحن أهل بيت محمد ( ( عليهما السلام ) ) لا سقوف لبيوتنا ، ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد ، وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، ونطوي الليالي والأيام عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاءه الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ، ونحن على ما وصفت من حالنا ، فيؤثر به رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها ، دون بلوغها أو فناء آجالها ، لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على إحدى منزلتين إما متبع مقاتل ، وإما مقتول إن لم يتبع الجميع ، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، وقد علم الله أني منه بمنزلة هارون من موسى ، يحل به في مخالفتي والإمساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته . ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ، ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب ، أزيَد لي في حظي ، وأرفقَ بالعصابة التي وصفت أمرهم وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً . ولو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي ، لكنت أولى ممن طلبه ، لعلم من مضى من أصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومن بحضرتك منه بأني كنت
    --------------------------- 295 ---------------------------
    أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة ، وأكثر في هذا الدين مناقب وآثاراً ، لسوابقي وقرابتي ووراثتي ، فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لامخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، وقد قبض محمد ( ( عليهما السلام ) ) وإن ولاية الأمة في يده وفي بيته ، لا في يد الألى تناولوها ولا في بيوتهم ، ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال ، ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الرابع : شورى عمر وبيعة عثمان
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ، فلما أن أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ، ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه ، لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها ، وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت ، وأفضل ما أملت ، وكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوماً أنا سادسهم ، ولم يستوني بواحد منهم ، ولا ذكَر لي حالاً في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ! ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيَّرها شورى بيننا ، وصير ابنه فيها حاكماً علينا ، وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صيَّر الأمر فيهم ، إن لم ينفذوا أمره !
    وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبراً ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطب لنفسه وأنا ممسك ، حتى سألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الإمارة ، وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي ، والركون إلى الدنيا ،
    --------------------------- 296 ---------------------------
    والاقتداء بالماضين قبلهم ، إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوتُ بالواحد ذكَّرته أيام الله وحذرته ما هو قادمٌ عليه وصائرٌ إليه ، التمس مني شرطاً أن أصيِّرها له بعدي !
    فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول ( ( عليهما السلام ) ) ، وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ، ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان ، طمعاً في الشحيح معه فيها !
    وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط ، فضلاً عمن دونهم ،
    لا ببدر التي هي سنام فخرهم ، ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، ومن اختصه معه من أهل بيته ( عليه السلام ) !
    ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه !
    ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه ، ومشى ( يقصدابن عوف ) إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عامة ، يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من أختها وأفظع ، وأحرى أن لا يصبر عليها ! فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما أمَضَّ وأبلغَ منها ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجعٌ عما كان ركب مني ! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ، ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي ، أو يرد الله عز وجل عليَّ حقي . فوالله يا أخا اليهود ما منعني منها إلا الذي منعني من أختيها قبلها ، ورأيت الإبقاء على من بقي من الطائفة أبهجَ لي وآنسَ لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي ! ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل ، فأنزل الله فينا : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
    --------------------------- 297 ---------------------------
    قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر يا أخ اليهود وما بدلت تبديلاً ، وما سكَّتني عن ابن عفان وحثَّني على الإمساك عنه إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه فضلاً عن الأقارب ، وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك ، لم أنطق فيه بحرف من لا ، ولا نعم .
    ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره ، لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح في الأرض ، وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي ، وشديد عادة منتزعة ، فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    الخامس : عائشة وحرب الجمل
    فقال ( عليه السلام ) : وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن المبايعين لي لما لم يطمعوا في تلك مني ، وثبوا بالمرأة عليَّ ، وأنا وليُّ أمرها والوصيُّ عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري وتنبح عليها كلاب الحوأب ، وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي ( ( عليهما السلام ) ) ! حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم عازبة آراؤهم ، وهم جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، ويرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين ، كلتاهما في محلة المكروه ، ممن إن كففت لم يرجع ولم يعقل ، وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت ، فقدمت الحجة بالإعذار والإنذار ، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي ، والترك لنقضهم عهد الله عز وجل فيَّ ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع وذكرته فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً ، فلما أبوا إلا هي ركبتها
    --------------------------- 298 ---------------------------
    منهم فكانت عليهم الدبرة وبهم الهزيمة ولهم الحسرة ، وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أولاً ، من الإغضاء والإمساك ، ورأيتني إن أمسكت كنت معيناً لهم عليَّ بإمساكي على ما صاروا إليه وطمعوا فيه ، من تناول الأطراف وسفك الدماء وقتل الرعية ، وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال ، كعادة بني الأصفر ومن مضى من ملوك سبأ والأمم الخالية ، فأصير إلى ما كرهتُ أولاً وآخراً ، وقد أهملتُ المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ، ولم أهجم على الأمر إلا بعدما قدمت وأخرت ، وتأنيت وراجعت وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ يلتمسونه بعد أن عرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك أقدمت عليها فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيداً ، ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    السادس : معاوية وحرب صفين
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فتحكيمهم الحكمين ومحاربة ابن آكلة الأكباد ، وهو طليق معاند لله عز وجل ولرسوله والمؤمنين ، منذ بعث الله محمداً إلى أن فتح الله عليه مكة عنوة ، فأُخِذَت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم ، وفي ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالأمس أول من سلم عليَّ بإمرة المؤمنين ، وجعل يحثني على النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي ، ويجدد لي بيعته كلما أتاني ! وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد ردَّ إليَّ حقي وأقره في معدنه ، وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعاً ، وفي أمانة حملناها حاكماً ، كرَّ على العاصي بن العاص فاستماله فمال إليه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ، وحرام عليه أن يأخذ من الفيئ دون قسمه درهماً ، وحرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأها بالغشم ، فمن بايعه أرضاه ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلي ناكثاً علينا مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً ، والأنباء تأتيني والأخبار ترد عليَّ بذلك ، فأتاني أعور ثقيف فأشار عليَّ أن أوليه البلاد التي هو بها لأداريه بما أوليه منها ، وفي الذي أشار به الرأي في
    --------------------------- 299 ---------------------------
    أمر الدنيا ، لو وجدت عند الله عز وجل في توليتي له مخرجاً ، وأصبت لنفسي في ذلك عذراً ، فأعملت الرأي في ذلك ، وشاورت من أثق بنصيحته لله عز وجل ولرسوله ( ( عليهما السلام ) ) ولي وللمؤمنين ، فإن رأيه في ابن آكلة الأكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ويحذرني أن أدخل في أمر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً ، فوجهت إليه أخا بجيلة مرة وأخا الأشعريين مرة ، كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه ، فلما لم أره يزداد فيما انتهك من محارم الله إلا تمادياً ، وشاورت من معي من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) البدريين والذين ارتضى الله عز وجل أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم ، وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين ، فكل يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه مما نالت يده ، وإني نهضت إليه بأصحابي ، أنفذ إليه من كل موضع كتبي وأوجه إليه رسلي ، أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه ، والدخول فيما فيه الناس معي ، فكتب يتحكم عليَّ ويتمنى عليَّ الأماني ، ويشترط عليَّ شروطاً لا يرضاها الله عز وجل ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواماً من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) أبراراً ، فيهم عمار بن ياسر وأين مثل عمار ! والله لقد رأيتنا مع النبي ( ( عليهما السلام ) ) وما يعد منا خمسة إلا كان سادسهم ، ولا أربعة إلا كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم ! وانتحل دم عثمان ! ولعمر والله ما ألب على عثمان ولا جمع الناس على قتله إلا هو وأشباهه من أهل بيته ، أغصان الشجرة الملعونة في القرآن !
    فلما لم أجب إلى ما اشترط من ذلك كرَّ مستعلياً في نفسه بطغيانه وبغيه ، بحميرٍ لا عقول لهم ولا بصائر ، فموَّه لهم أمراً فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عز وجل بعد الإعذار والإنذار ، فلما لم يزده ذلك إلا تمادياً وبغياً لقيناه بعادة الله التي عودَنا من النصر على أعدائه وعدونا ، وراية رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بأيدينا ، لم يزل الله تبارك وتعالى يفلُّ حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه ، وهو مُعْلم رايات أبيه التي لم أزل أقاتلها مع رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في كل المواطن ، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب فركب
    --------------------------- 300 ---------------------------
    فرسه وقلب رايته ، لا يدري كيف يحتال فاستعان برأي ابن العاص ، فأشار عليه بإظهار المصاحف ورفعها على الأعلام والدعاء إلى ما فيها ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ! فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم ، وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم ! وظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكرٌ ومن ابن العاص معه ، وأنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا إجابته كرهت أم هويتُ شئت ُأو أبيت ، حتى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان ، أو ادفعوه إلى ابن هند برمته ! فجهدت علم الله جهدي ولم أدع علة في نفسي إلا بلغتها ، في أن يخلُّوني ورأيي فلم يفعلوا ، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس فلم يجيبوا ، ما خلا هذا الشيخ وأومأ بيده إلى الأشتر وعصبة من أهل بيتي ، فوالله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان ، وأومأ بيده إلى الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فينقطع نسل رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وذريته من أمته ، ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومأ بيده إلى عبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية ، فإني أعلم لولا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عز وجل ، فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الأمور وتخيروا الأحكام والآراء ، وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ، وما كنت أحكم في دين الله أحداً ، إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلك أردت أن أحكم رجلاً من أهل بيتي أو رجلاً ممن أرضى رأيه وعقله ، وأثق بنصيحته ومودته ودينه ، وأقبلت لا أسمي أحداً إلا امتنع منه ابن هند ، ولا أدعوه إلى شئ من الحق إلا أدبر عنه ، وأقبل ابن هند يسومنا عسفاً ، وما ذاك إلا باتباع أصحابي له على ذلك ! فلما أبوا إلا غلبتي على التحكم تبرأت إلى الله عز وجل منهم ، وفوضت ذلك إليهم ، فقلدوه امرءً فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها ، وأظهر المخدوع عليها ندماً !
    ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
    --------------------------- 301 ---------------------------
    السابع : الخوارج وحرب النهروان
    فقال ( عليه السلام ) : وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كان عهد إلي أن أقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بخلافهم عليَّ ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم لي بقتلهم بالسعادة ، فلما انصرفت إلى موضعي هذا ( يعني بعد الحكمين ) أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ ، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه !
    فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم :
    لا حكم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة وأخرى بحروراء ، وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً ، حتى عبرت دجلة ، فلم تمرَّ بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ، ومن خالفها قتلته ! فخرجتُ إلى الأوليين واحدة بعد أخرى أدعوهم إلى طاعة الله عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعهما غير ذلك ! فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لولاما فعلوا ركناً قوياً وسداً منيعاً ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه !
    ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى وكانوا من جلة أصحابي وأهل التعبدمنهم والزهد في الدنيا ، فأبت إلا اتباع أختيها والاحتذاء على مثالهما ، وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين وتتابعت إليَّ الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة أوجه السفراء والنصحاء وأطلب العتبى ، بجهدي بهذا مرة وبهذا مرة ، أومأ بيده إلى الأشتر ، والأحنف بن قيس ، وسعيد بن قيس الأرحبي ، والأشعث بن قيس الكندي ، فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت
    --------------------------- 302 ---------------------------
    منهم مخبر ! فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى ، له ثدي كثدي المرأة ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا ، بلى يا أمير المؤمنين .
    قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود !
    فقال ( عليه السلام ) : قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود وبقيت الأخرى وأوشك بها فكأنْ قَدْ ! فبكى أصحاب علي ( عليه السلام ) وبكى رأس اليهود وقالوا : يا أمير المؤمنين أخبرنا بالأخرى فقال : الأخرى أن تخضب هذه ، وأومأ بيده إلى لحيته ، من هذه ، وأومأ بيده إلى هامته ! قال : وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء ، حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً ! وأسلم رأس اليهود على يدي علي ( عليه السلام ) من ساعته ، ولم يزل مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأُخذ ابن ملجم لعنه الله ، فأقبل رأس اليهود حتى وقف على الحسن ( عليه السلام ) والناس حوله وابن ملجم بين يديه فقال له : يا أبا محمد أقتله قتله الله ، فإني رأيت في الكتب التي أنزلت على موسى ( عليه السلام ) أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرماً من ابن آدم قاتل أخيه ، ومن القدار عاقر ناقة ثمود ) !
    ملاحظات
    1 . يلاحظ الباحث المنصف قوة منطق الإمام ( عليه السلام ) في هذا النص ، وبلاغته ومصداقيته . فهو تسجيل دقيق لتاريخ الإسلام والخلافة ، يجب أن يكون مصدراً للمؤرخين في فهم سيرة النبي ( ( عليهما السلام ) ) وحروبه ، وما جرى بعده .
    2 . تضمن حديث الإمام ( عليه السلام ) حقائق ودقائق أهملها المؤرخون أو حرفوها في سيرة النبي ( ( عليهما السلام ) ) في أُحُد والخندق . وفي حرب علي ( عليه السلام ) مع الخوارج ، فقد نص على أنهم كانوا فرقتين ، وأنه خرج اليهما وقاتلهما ، أولاهما في النخيلة والثانية في النهروان . ولم يرو المؤرخون إلا معركته في النهروان !
    قال ( عليه السلام ) : ( ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة وأخرى بحروراء ، وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً ، حتى عبرت دجلة ، فلم تمرَّ بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ، ومن خالفها قتلته ! فخرجتُ إلى الأوليين واحدة بعد أخرى أدعوهم إلى طاعة الله
    --------------------------- 303 ---------------------------
    عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعهما غير ذلك ! فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لولا ما فعلوا ركناً قوياً وسداً منيعاً ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه ) !
    فقوله ( عليه السلام ) ( فقتل الله هذه وهذه ) يدل على معركتين ، فأين معركة النخيلة ؟ ! توجد إشارات لهذه المعركة ، وقد ذكرالخوارج بعد النهروان أبو العباس المبرد في الكامل ( 3 / 173 ) بذكرها ، فقال إنها كانت بعد النهروان ، قال : ( قال أبو العباس : وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان ، ممن فارق عبد الله بن وهب ، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب ، وممن كان أقام بالكوفة ، فقال : لا أقاتل علياً ولا أقاتل معه ، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا ، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم ، فقام منهم قائم يقال له المستورد ، من بني سعد بن زيد مناة ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ، ثم قال : إن رسول الله أتانا بالعدل تخفق راياته ، مقلباً مقالته ، مبلغاً عن ربه ، ناصحاً لأمته ، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة ، فرأى تعطيل إحداهما طعناً على الأخرى ، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً ، ثم قام بعده الفاروق ، ففرق بين الحق والباطل ، مسوياً بين الناس في إعطائه ، لا مؤثراً لأقاربه ، ولا محكماً في دين ربه ، وها أنتم تعلمون ما حدث ، والله يقول : وَفَضَّلَ الله المجَاهدينَ على القَاعدينَ أجراَ عظيماً ، فكل أجاب وبايع . فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً فأبوا ، فسار إليهم فقال له عفيف بن قيس : يا أمير المؤمنين ، لا تخرج في هذه الساعة فإنها ساعة نحس لعدوك عليك ، فقال له علي : توكلت على الله وحده ، وعصيت رأي كل متكهن ، أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَآخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً لم يفلت منهم إلا خمسة ، منهم المستورد ، وابن جوين الطائي ، وفروة بن شريك الأشجعي ، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري ، فقال : دعاهم إلى دين الله فجعلوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراًً ،
    --------------------------- 304 ---------------------------
    فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً . وفيهم يقول عمران بن حطان :
    إني أدين بما دان الشراة به . . . يوم النخيلة عند الجوسق الخرب
    وقال السيد الحميري :
    إني أدين بما دان الوصي به * يوم النخيلة من قتل المحلينا
    وبالذي دان يوم النهر دنت به * وشاركت كفه كفي بصفينا
    تلك الدماء معا يا رب في عنقي * ومثلها فاسقني آمين آمينا ) .
    وتقدم خبر الخريت من بني ناجية الذي خرج بعد النهروان ، في الأهواز وجبال إيران ، وكان أكبر المجموعات ، مضافاً إلى بضع مجموعات خرجوا بين الكوفة والمدائن ،
    فأنهى الإمام ( عليه السلام ) تمردهم .
    3 . في حديث الإمتحانات حقائق تفرد ببعضها ، من ذلك قوله : وارتفعت أصوات الناس بالضجة والبكاء ، حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً !
    والسؤال هنا : أن ذلك مشهد غريب ، فرئيس الدولة ينعى نفسه ويخبر أنه سيغتال قريباً ، فيبكي الناس ويفزعون ، فلماذا لا يحرسونه ولا يحترس هو ؟
    والجواب : أما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيعتقد أن ما أخبره به النبي ( ( عليهما السلام ) ) هو قضاء الله وقدره ، وأنه لو اجتمع الخلائق لما استطاعوا تغييره ! لذلك كان يتعامل مع شهادته بيد ابن ملجم على أنها أمر واقع ، وقد قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) إنه خير فاختار ، ولذلك خرج إلى المسجد بدون حراسة ، بل بدون سلاح !
    وأما عامة الناس ، فبعضهم يعتقد بعقيدة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فهو ينتظر أمره ولا يبادر إلى عمل شئ . وبعضهم عدو يفرح بينه وبين نفسه ، وبعضهم لا يفهم كلام الإمام ( عليه السلام ) ، وهو ينتظر الأحداث حتى تقع .
  • *
    --------------------------- 305 ---------------------------
    المشاركون والمخططون في جريمة قتل الإمام ( ( ع ) )
    الرواية الرسمية
    الرواية الرسمية لشهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنه تلاقى ثلاثة من الخوارج ، وتعاهدوا على أن يخلصوا الأمة من علي ومعاوية وعمرو العاص ، فتكفل ابن ملجم بقتل علي ( عليه السلام ) ، وتكفل البرك وهو الحجاج بن عبد الله الصريمي بقتل معاوية . وكان معهم غلام فارسي لبني حارثة اسمه زادويه ، وقد تسمى بعمرو بن بكر ، فقال : والله ما عمرو بن العاص بدونهما فأنا له ، فتعاقدوا على ذلك . ونجح ابن ملجم ، لكن فشل البُرك وزادويه .
    قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 6 / 113 ) تحت عنوان مقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( وأصح ما ورد في ذلك ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين ، قال بعد أسانيد ذكرها مختلفة متفرقة ، تجتمع على معنى واحد نحن ذاكروه : إن نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكة فتذاكروا أمر المسلمين ، فعابوهم وعابوا أعمالهم عليهم ، وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم ، وقال بعضهم لبعض : لو أنا شرينا أنفسنا لله عز وجل فأتينا أئمة الضلال وطلبنا غرتهم ، وأرحنا منهم العباد والبلاد ، وثأرنا بإخواننا الشهداء بالنهروان ! فتعاقدوا عند انقضاء الحج فقال عبد الرحمن بن ملجم : أنا أكفيكم علياً . وقال واحد : أنا أكفيكم معاوية . وقال الثالث : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، فتعاقدوا وتواثقوا على الوفاء ، وألا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي يتوجه إليه ولا عن قتله ، واتعدوا لشهر رمضان ، في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم علياً ) .
    وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 17 : ( قال أبوزهيرالعبسي : الرجلان الآخران ، البُرك بن عبد الله التميمي وهو صاحب معاوية ، والآخر عمرو بن بكر التميمي وهو صاحب عمرو بن العاص . فأما صاحب معاوية فإنه قصده فلما وقعت عينه عليه ضربه فوقعت ضربته في أليته وأُخذ فجاء الطبيب إليه
    --------------------------- 306 ---------------------------
    فنظر إلى الضربة ، فقال إسماعيل بن راشد في حديثه ، فقال : إن السيف مسموم فاختر إما أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربة فتبرأ ، وإما أن أسقيك دواء فتبرأ وينقطع نسلك . قال : أما النار فلا أطيقها ، وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما يقر عيني وحسبي بهما ، فسقاه الدواء ، فعوفي ، وعالج جرحه حتى التأم ولم يولد له بعد ذلك . وقال له البرك بن عبد الله : إن لك عندي بشارة ، قال : وما هي ؟ فأخبره بخبر صاحبيه ، وقال له : إن علياً يقتل في هذه الليلة فاحبسني عندك ، فإن قُتل فأنت وليُّ ما تراه في أمري ، وإن لم يقتل أعطيتك العهود والمواثيق أن أمضي فأقتله ثم أعود إليك فأضع يدي في يدك حتى تحكم في بما تراه !
    فحبسه عنده ، فلما أتاه أن علياً قد قتل ، خلى سبيله . هذه رواية إسماعيل بن راشد ، وقال غيره من الرواة : بل قتله من وقته ، قال : وأما صاحب عمرو بن العاص فإنه وافاه في تلك الليلة وقد وجد علة فأخذ دواء واستخلف رجلاً يصلي بالناس يقال له خارجة بن أبي حبيبة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فخرج للصلاة وشد عليه عمرو بن بكر فضربه بسيفه فأثبته ، وأخذ الرجل فأُتيَ به عمرو العاص فقتله ، ودخل من غد إلى خارجة وهو يجود بنفسه فقال له : أما والله أبا عبد الله ما أراد غيرك . قال عمرو : ولكن الله أراد خارجة وأما ابن ملجم فإنه قتل علياً تلك الليلة ) .
    ملاحظة على الرواية الرسمية
    تقول الرواية إن بعض رجال الخوارج اجتمعوا في الحج ، واتفقوا على قتل علي ( عليه السلام ) ومعاوية ، وهذا أمر طبيعي ، فقد كان مطروحاً في أوساط الخوارج تخليص الأمة من هؤلاء الثلاثة ، فاتفقوا على ذلك .
    لكن السؤال : لماذا نجحت الخطة في علي ( عليه السلام ) ولم تنجح في معاوية وعمرو ؟ ولماذا نرى أشخاصاً عديدين ساعدوا ابن ملجم في قتل علي ( عليه السلام ) ، ولا نقرأ عن شخص واحد ساعد البُرك على معاوية ، أو ساعد غلامه الفارسي على عمرو ؟ ! ثم نرى أن معاوية أطلق البُرك لما بشره بقتل علي ( عليه السلام ) ؟ !
    هنا احتمالان : أولهما ، أن تكون محاولة قتل معاوية وعمرو مكذوبة ، اخترعوها من أجل
    --------------------------- 307 ---------------------------
    التغطية على مؤامرة قتل علي ( عليه السلام ) . والثاني : أنها صحيحة ، لكنها تُركت للشخصين الموكلين بدون أي مساعدة ، فهي عمل من أعمال الخوارج المحضة . أما محاولة قتل علي ( عليه السلام ) فقد تلقفها معاوية والأشعث وتبنياها ، وهيأ لها الأشعث عناصر النجاح ، فقد نشط من صفين في العمل مع معاوية وأجبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على إيقاف الحرب ، وجاهر بعدائه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهدده مرة بأنه سيقتله ، فالتخطيط لقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مشترك بين الأشعث والخوارج ، وقد تولى الأشعث كِبْرَه ، واستعمل ابن ملجم أداة ، كما تستعمل الدول في عصرنا الإنتحاريين من التنظيمات المتطرفة ! وهذا هو الرأي المرجح عندي !
    ترجمة عبد الرحمن بن ملجم
    1 . يظهر أنه جاء من مصر وسكن الكوفة ، فقد شارك مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في صفين ، وشارك معه في معركة الخوارج في النهروان ، ودخل الكوفة قبل الإمام ( عليه السلام ) ليبشر المسلمين بالنصر على الخوارج !
    قال ابن الأعثم ( 4 / 275 ) : ( وأقبل عليٌّ نحو الكوفة ، وسبقه عبد الرحمن بن ملجم حتى دخل الكوفة ، فجعل يبشر أهلها بهلاك الشراة ) !
    وكان يتردد على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ففي الخرائج ( 1 / 181 ) : ( جاء ابن ملجم يستحمل علياً ( عليه السلام ) فقال : إحملني يا أمير المؤمنين قال : يا غزوان إحمله على الأشقر ، فجاء بفرس أشقر ، وأخذ بعنانه ، ثم قال علي ( عليه السلام ) :
    أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
    وعن أبي الطفيل : جاء ابن ملجم ليبايعه فرده ، ثم جاءه فرده ، ثم جاءه فرده ، ثم جاء فبايعه ثم قال : ليخضبن هذه من هذه يعني لحيته من رأسه ) !
    ونلاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يحبس ابن ملجم ، بل استبشر بقدومه كما يستبشر المسجون بمجئ من يطلقه من سجنه !
    2 . وكان يهودياً ، حليفاً لبني جبلة ثم لبني مراد ، ففي تاريخ دمشق ( 42 / 554 ) :
    ( عن جوين الحضرمي قال : عرض عليٌّ الخيلَ فمر عليه ابن ملجم فسأله عن
    --------------------------- 308 ---------------------------
    اسمه أو قال نسبه فانتهى إلى غير أبيه ، فقال له كذبت ! حتى انتسب إلى أبيه فقال : صدقت ، أما إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حدثني أن [ في ] قاتلي شَبَه اليهود هو يهودي ! فامضه ) .
    ورواه السيوطي في جامع الأحاديث ( 31 / 13 ) والبيهقي في شعب الإيمان ( 2 / 221 ) .
    وقال ابن الأعثم ( 4 / 277 ) إنه قال له : ( هل كان لك لقب في صغرك ؟ فقال : لا أعرف ذلك يا أمير المؤمنين ! قال علي : فهل لك حاضنة يهودية فقالت لك يوماً من الأيام : يا شقيق عاقر ناقة صالح ! قال : قد كان ذلك يا أمير المؤمنين ! قال : فسكت علي ( عليه السلام ) ! وركب وصار إلى منزله ) .
    وقال البلاذري ( 2 / 489 : ( وعداده في مراد ، وهو حليف بني جبلة من كندة ، ويقال : إن مراد أخواله ) .
    أقول : معناه أنه كان يخفي نسبه ويدعي لغير أبيه ، فألزمه أمير المؤمنين بالاعتراف بأصله ، ومعنى قوله ( عليه السلام ) : شبه اليهود . أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) أخبره أن فيه شَبَه اليهود في ملامحه ، ثم قال له : فامضه . أي إذهب فقد عرفناك يهودياً كما أخبر النبي ( ( عليهما السلام ) ) .
    وروى القطب الراوندي في الخرائج ( 1 / 181 ) : ( عن رجل من مزينة قال : كنت جالساً عند علي ( عليه السلام ) فأقبل إليه قوم من مراد ومعهم ابن ملجم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين طرأ علينا ، ولا والله ما جاءنا زائراً ولا منتجعاً ، وإنا لنخافه عليك فاشدد يدك به فقال له علي ( عليه السلام ) : أجلس ، فنظر في وجهه طويلاً ، ثم قال له : أرأيتك إن سألتك عن شئ وعندك منه علم هل أنت مخبري به ؟ قال : نعم ، وحلف عليه فقال : أكنت تراضع الغلمان وتقوم عليهم ، فكنت إذا جئت فرأوك من بعيد قالوا : قد جاءنا ابن راعية الكلاب ؟ قال : اللهم نعم ! فقال له علي ( عليه السلام ) : فمررت برجل وقد أيفعت ، فنظر إليك فأحد النظر فقال لك : يا أشقى من عاقر ناقة ثمود ؟ قال : نعم ! قال : فأخبرتك أمك أنها حملت بك في بعض حيضها ؟ فتعتع هنيئة ، ثم قال : نعم ، قد حدثتني بذلك ، ولو كنت كاتماً شيئاً لكتمتك هذه المنزلة . فقال له علي ( عليه السلام ) : قم فقام ، ثم قال : سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : إن قاتلك شبه اليهودي بل هو يهودي ) .
    ولم أعرف معنى : تُراضع الغلمان وتقوم عليهم ، لكنه يعني سلوكاً غير أخلاقي .
    --------------------------- 309 ---------------------------
    وفي المناقب ( 3 / 93 ) : ( روى أحمد بن حنبل عن الضحاك أنه قال النبي : يا علي أشقى الأولين عاقر الناقة ، وأشقى الآخرين قاتلك . وفي رواية : من يخضب هذه من هذا . قال الصنوبري :
    قال النبي له أشقى البرية يا * علي إذ ذكر الأشقى شقيان
    هذا عصى صالحاً في عقر ناقته * وذاك فيك سيلقاني بعصيان
    ليخضبن ذه من ذا أباحسن * في حين يخضبها من أحمر قاني .
    قال ابن عباس : كان من ولد قدار عاقر ناقة صالح ، وقصتهما واحدة ،
    لأن قدار عشق امرأة يقال لها رباب ، كما عشق ابن ملجم قطاماً ) .
    وقال ابن حجر في لسان الميزان ( 3 / 439 ) : ( عبد الرحمن بن ملجم المرادي ذاك المغتر الخارجي ليس بأهل أن يروى عنه ، وما أظن له رواية . كان عابداً قانتاً لله ، لكنه ختم له بشرفقتل أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه متقرباً إلى الله بدمه بزعمه ، فقطعت أربعته ( يداه ورجله ) ولسانه ، وسملت عيناه ، ثم أحرق . نسأل الله العفو والعافية .
    قال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر : عبد الرحمن بن ملجم المرادي أحد بني مدرك ، أي حي من مراد ، شهد فتح مصر واختط بها .
    يقال إن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه ، لأنه كان من قراء القرآن ، وكان فارس قومه المعدود فيهم بمصر ، وكان قرأ على معاذ بن جبل ، وكان من العُبَّاد ، ويقال إنه كان أرسل صبيغ بن عسل إلى عمر يسأل عن مشكل القرآن . وقيل إن عمر كتب إلى عمرو أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه ، فوسع له فكان داره إلى جنب دار ابن عديس ، وهو الذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكان قبل ذلك من شيعته . قال : وكل هذا من خبره أخذناه من الأخبار لابن عفير ، وربيعة الأعرج ، وغيرهم من علماء مصر بالأخبار ) .
    وقال السمعاني في الأنساب ( 1 / 451 ) : ( التدؤلي : بفتح التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وسكون الدال المهملة ، وهمزة الواو المضمومة في آخرها اللام ، هذه النسبة
    --------------------------- 310 ---------------------------
    إلى تدؤل وهو بطن من مراد ، من جملتهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي التدؤلي أحد بني تدؤل ، شهد فتح مصر واختط بها ) .
    3 . كان ابن ملجم فارساً ، وتقدم من تاريخ دمشق ( 42 / 554 ) أن علياً ( عليه السلام ) عرض الخيل فمر عليه فسأله فأعطاه فرساً ، ولعلها جائزة سبقه في مسابقة ! ومعناه أنه كان يسكن الكوفة . ولم تذكر الرواية نسبه الذي رده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولعله الذي ذكره الكلبي في نسب معد ( 1 / 336 ) : ( عبد الرحمان بن ملجم بن عمرو بن يزيد بن عنوة بن نفر بن
    حجية بن تدؤل ) .
    أو الذي ذكره البلاذري ( 2 / 488 ) عن الكلبي أيضاً : ( عبد الرحمان بن عمرو بن ملجم بن المكشوح ابن نفر بن كلدة من حمير ، وكان كلدة أصاب دماً في قومه من حمير ، فأتى مراد فقال أتيتكم تجوب بي ناقتي الأرض فسمي تجوب ) .
    فيظهر أنه يهودي من حمير ، وأن جده جاء إلى بني مراد . وفي حمير يهود تحالفوا معهم فصاروا حميريين ، وفيها حميريون تهودوا .
    وقد ألصق ابن ملجم نفسه ببني جبلة من كندة ، وكذلك الأشعث ! قال أبو العباس أحمد بن إبراهيم في المصابيح ( 1 / 335 ) : ( وكان ابن ملجم حليفاً لبني جبلة وابن أخت لهم ، وجبلة هو الذي ينتمي إليه الأشعث ، لأنه يدعي أنه أشعث بن قيس بن معدي كرب بن جبلة بن معاوية ) .
    وبهذا تعرف سر علاقة ابن ملجم بالأشعث ، ونزوله عنده في الكوفة ، فقد جمعهما وحدة الملتصق ببني جبلة من كندة ، وبغضهما لعلي ( عليه السلام ) ، فتعاونا قتله !
    4 . كان ابن ملجم في الخمسينات عندما اغتال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأنه كان أيام عمر شاباً ، وأوصى به لما سكن في مصر ، وهو الذي أرسل صبيغ بن عسل إلى عمر يسأله عن القرآن ( لسان الميزان : 3 / 440 ) فضرب عمر صبيغاً وكاد أن يقتله ، وكان صبيغ مثقفاً وأبوه يقرأ كتب التاريخ ، وقد فصلنا قصته في تدوين القرآن . .
    5 . كان ابن ملجم أهم الثلاثة الذين اتفقوا على قتل علي ( عليه السلام ) ومعاوية وعمرو ، فله علاقة بعمر وعمرو العاص ، وعلاقة خاصة بالأشعث ، فقد نزل في بيته ، وزوجه قطام
    --------------------------- 311 ---------------------------
    ليشحذ همته في جريمته ، كما يزوجون الإنتحاري أياماً قبل عمليته ! وقد انطلق إلى جريمته من بيت الأشعث ، فهومحور الجريمة في التنفيذ ، والأشعث محور الجريمة في التخطيط والتمويل والمتابعة .
    6 . لعن عامة المسلمين الشقي ابن ملجم ، لكن الخوارج والنواصب مدحوه !
    فقال شاعرهم عمران بن حطان :
    يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
    إني لأذكره يوماً فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا
    وأجابه بكر بن حماد ( الإستيعاب : 3 / 1128 ) :
    قل لابن ملجم والأقدارُ غالبةٌ * هَدَّمْتَ ويلك للإسلام أركانا
    قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ * وأولَ الناس إسلاماً وإيمانا
    وأعلمَ الناس بالقرآن ثم بما * سنَّ الرسول لنا شرعاً وتبيانا
    صهرَ النبي ومولاه وناصرَه * أضحت مناقبه نوراً وبرهانا
    وكان منه على رغم الحسود له * ما كان هارون من موسى بن عمرانا
    وكان في الحرب سيفاً صارماً ذكراً * ليثاً إذا لقي الأقران أقرانا
    ذكرت قاتله والدمع منحدرٌ * فقلت سبحان رب الناس سبحانا
    إني لأحسبه ما كان من بشر * يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
    أشقى مرادٍ إذا عُدَّت قبائلها * وأخسرُ الناس عند الله ميزانا
    كعاقر الناقة الأولى التي جلبت * على ثمود بأرض الحجر خسرانا
    قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها * قبل المنية أزماناً فأزمانا
    فلا عفا الله عنه ما تحمله * ولا سقى قبر عمران بن حطَّانا
    لقوله في شقي ظلَّ مجترماً * وبالَ ما ناله ظلماً وعدوانا
    يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
    بل ضربةٌ من غَوِيٍّ أوردته لظى * فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
    كأنه لم يرد قصداً بضربته * إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
    قال : وأخبرنا محمد بن الصباح . . عن محمد بن كعب ، عن عبد الله بن عمر ، قال : قال عمر لأهل الشورى : لله درهم إن ولَّوها الأصيلع ! كيف يحملهم على الحق ،
    --------------------------- 312 ---------------------------
    ولو كان السيف على عنقه . فقلت : أتعلم ذلك منه ولا توليه ؟ قال : إن لم أستخلف فأتركهم ، فقد تركهم من هو خير مني !
    عن الشعبي قال قال لي علقمة : تدري ما مَثَلُ عليٍّ في هذه الأمة ؟ قلت : ما مَثله ؟ قال : مَثَلُ عيسى ابن مريم ، أحبه قوم حتى هلكوا في حبه ، وأبغضه قوم حتى هلكوا في بغضه ! وقال بكر بن حماد :
    وهزّ عليٌّ بالعراقين لحيةً * مصيبتها جلَّت على كل مسلم
    وقال سيأتيها من الله حادثٌ * ويخضبها أشقى البرية بالدم
    فباكره بالسيف شُلَّت يمينه * لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم
    فيا ضربة من خاسر ضلَّ سعيه * تَبَوَّأ منها مقعداً في جهنمِ
    ففاز أمير المؤمنين بحظِّه * وإن طرقت فيها الخطوب بمعظم
    ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة * حلاوتها شيبت بصاب وعلقم
    وقال أبو الأسود الدؤلي وأكثرهم يرويها لأم الهيثم بنت العريان النخعية ، أولها :
    ألا يا عين ويحك أسعدينا * ألا تبكي أميرالمؤمنينا
    وأوردها ابن عبد البر ، وأورد أبياتاً للسيد الحميري ، وتأتيان في فصل الشعر .
    وقد استبدل قول أبي الأسود : ألا أبلغ معاوية بن حرب . بقوله : ألا قل للخوارج . . يريد إبعاد الجريمة عن معاوية ، مع أن علياً ( عليه السلام ) صرح بأن بني أمية سيقتلونه ، وكان الأشعث وراء ابن ملجم ، ومعاوية وراء الأشعث ! كما اختزل ابن عبد البر قصيدة الحميري فحذف تفضيله علياً ( عليه السلام ) على أبي بكر وعمر ! وستأتي .
    7 . مدح الناصبي عمران بن حطان ابن ملجم فأعطوه لقب صحابي ليحموه ! قال ابن حجر في الإصابة ( 5 / 232 ) : ( لم يذكره أحد في الصحابة إلا ما وقع في تعليقة القاضي حسين بن محمد الشافعي . . قال : صحابي لا تجوز لعنته ) !
    وقال في فتح الباري ( 10 / 244 ) : ( كان أحد الخوارج من العقدية بل هو رئيسهم ، وشاعرهم ، وهو الذي مدح ابن ملجم قاتل علي بالأبيات المشهورة . أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صادق اللهجة متديناً ! وقد قيل إن عمران تاب من بدعته وهو بعيد . وليس له في البخاري سوى هذا الموضع ) .
    --------------------------- 313 ---------------------------
    وقال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 526 : ( أعرض إخواننا أهل السنة عن مذهب الأئمة من أهل البيت ، فلم يعنوا بأقوالهم في أصول الدين وفروعه بالمرة ، ولم يرجعوا إليهم في تفسير القرآن العزيز وهو شقيقهم ، إلا دون ما يرجعون إلى مقاتل بن سليمان المجسم المرجئ الدجال ، ولم يحتجوا بحديثهم إلا دون ما يحتجون بالخوارج والمشبهة والمرجئة والقدرية !
    ولو أحصيت جميع ما في كتبهم من حديث ذرية المصطفى ( ( عليهما السلام ) ) ما كان إلا دون ما أخرجه البخاري وحده عن عكرمة البربري الخارجي المكذَّب ! وأنكى من هذا كله عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت النبوي ، إذ لم يرو شيئاً عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والزكي العسكري ، وكان معاصراً له ! ولا روى عن الحسن بن الحسن ، ولا عن زيد بن علي بن الحسين ، ولا عن يحيى بن زيد ، ولا عن النفس الزكية محمد بن عبد الله الكامل بن الحسن الرضا بن الحسن السبط ، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبد الله ، ولا عن الحسين الفخي بن علي بن الحسن بن الحسن ، ولا عن يحيى بن عبد الله بن الحسن ، ولا عن أخيه إدريس بن عبد الله ، ولا عن محمد بن جعفر الصادق ، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا ، ولا عن أخيه القاسم الرسي ، ولا عن محمد بن محمد بن زيد بن علي ، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن زين العابدين صاحب الطالقان ، المعاصر للبخاري . ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة ، وأغصان الشجرة الزاهرة . كعبد الله بن الحسن ، وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما من ثقل رسول الله
    وبقيته في أمته .
    حتى أنه لم يرو شيئاً من حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة ، مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطان ، القائل في ابن ملجم ، وضربته لأمير المؤمنين :
    يا ضربة من تقي ما أراد بها . . .
    --------------------------- 314 ---------------------------
    أما ورب الكعبة ، وباعث النبيين ، لقد وقفت هنا وقفة المدهوش ، وقمت مقام المذعور ، وما كنت أحسب أن الأمريبلغ هذه الغاية ! وقد باح العلامة ابن خلدون ، بسرها المكنون ، حيث قال في الفصل الذي عقده لعلم الفقه وما يتبعه من مقدمته الشهيرة بعد ذكر مذاهب أهل السنة ما هذا لفظه : وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها ، وفقه انفردوا به ، بنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح ، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم قال : وهي كلها أصول واهية !
    قال : وشذ بمثل ذلك الخوارج ، ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم ، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح ، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ، ولا نروي كتبهم ، ولا أثر لشئ منها في مواطنهم ، فكتب الشيعة في بلادهم ، وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن ، والخوارج كذلك ، ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة . هذا كلامه فتأمله واعجب ) !
  • *
    ترجمة قطام بنت شجنة التيمية
    1 . المشهور أنها بنت شجنة بن عدي بن عامر ، وقيل بنت الأخضر ، وقيل بنت الأصبغ التميمي الحنظلي . والظاهر أنها من تيم الرباب ، وقيل إنها من بني عجل بن لجيم . ومعنى قَطَام : القوية المشتهية للرجال . قال ابن فارس ( 5 / 103 ) : ( قطم يدل على قطع الشئ وعلى شهوة . يقولون قطم الفصيل الحشيش بأدنى فمه يقطمه . والرجل الشهوان اللحم قطم . وفَحْلٌ قَطِم : مشته للضراب ) .
    2 . تضاربت روايتهم في كيفية تعرف ابن ملجم عليها ، ووضع العوام فيها قصصاً . والمرجح أن الأشعث عرفه عليها وزوجه بها ليشحذ همته في جريمته ! فقطام من أدوات الأشعث ، وهذا أقوى من الرواية الشعبية التي رواها ابن الأعثم ( 4 / 275 ) بأن ابن ملجم مر على حيهم فرآها وشغف بها ، قال : ومر بدار من دور الكوفة فسمع فيها صوت زمر فقيل له : هذه دار فيها وليمة ، وخرجت النساء من تلك الدار ، وفيهن امرأة يقال لها قطام بنت الأصبغ ونظر إليها عبد الرحمن بن ملجم فأعجبه ما رأى من قدها وحسن مشيتها
    --------------------------- 315 ---------------------------
    فتبعها وقال : يا جارية ! أيِّمٌ أنت أم ذات بعل ؟ فقالت : بل أيِّم ، قال : فهل لك في زوج لا تذم خلائقه ولا تخشى بوائقه ؟ فقالت : إني لمحتاجة إلى ذلك ولكن لي أولياء أشاورهم في ذلك . . قالت : أوليائي أبوا أن ينكحوني إياك إلا على ثلاثة ألاف درهم وعبدوقينة ، قال : لك ذلك . قالت : وشرط آخر ، فقال : وما هذا الشرط ؟ قالت : قتل علي بن أبي طالب ، قال : فاسترجع المرادي ثم قال : ويحك ! من يقدر على قتل علي وهو فارس الفرسان ومغالب الأقران ، فقالت : لا تكثر علينا ، أما المال فلا حاجة لنا فيه ، ولكن قتل علي الذي قتل أبي ) !
    وإن صحت فقد يكون الأشعث أرسله إليهم يوم عرسهم ليرى قطاماً !
    ومثلها رواية الدرالنظيم / 416 ، قالت لجواريها : ( ألبسوني غلائلي الرقاق فإذا دخل عبد الرحمن فارفعوا الحجاب بيني وبينه فيكون أقضى لحاجتي ففعلن ذلك ، وأحضرت الطعام والشراب ، فأكثرت منه ، حتى قام وهو سكران ) .
    وروى البلاذري حرصها على قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كالأشعث ، قال ( 2 / 487 ) :
    ( ثم إنهم اعتمروا عمرة رجب ، فقدم ابن ملجم الكوفة وجعل يكتم أمره ، فتزوج قطام بنت علقمة من تيم الرباب وكان علي قتل أخاها ، فأخبرها بأمره ، وكان أقام عندها ثلاث ليال ، فقالت له في الليلة الثالثة : لشد ما أحببت لزوم أهلك وبيتك وأضربت عن الأمر الذي قدمت له ! فقال : إن لي وقتاً واعدت عليه أصحابي ولن أجاوزه .
    ثم إنه قعد لعليٍّ فقتله ، ضربه على رأسه ، وضرب ابن عم له عضادة الباب فقال علي حين وقع به السيف : فزت ورب الكعبة ) .
    ففي اليوم الثالث لعرسها وبخت عريسها ، لأنه لصق بعروسه ونسي هدفه ! فهي تعيش طلب الثأر والحقد ، أكثر من الأنوثة والزواج !
    ومعنى الرواية أن ابن ملجم جاء إلى الكوفة بعد عمرة رجب ، وتؤيدها رواية اليعقوبي ( 2 / 222 ) بأنه جاء إلى الكوفة في العشرين من شعبان .
    وتدل رواية مخطوطات عبد السلام هارون ( 2 / 162 ) على عجلة قطام : ( فقالت :
    --------------------------- 316 ---------------------------
    لاأتزوجك إلا على ثلاثة آلاف ، وقتل علي بن أبي طالب ، وبعد ذلك تزوجها
    وبنى بها ، فلما فرغ منها قالت : يا هذا ، إنك قد فرغت فاقرع ) !
    أي قالت له بعد أن قاربها : قم إلى عمليتك ! وهو سلوك غريب من عروس تدفع زوجها إلى عملية تعلم أنه لن يعود منها !
    وفي مقتل أمير المؤمنين للمؤرخ الأموي / 24 ، وكذا ابن أبي الدنيا ( 1 / 32 ) وكذا ذم الهوى لابن الجوزي ( 1 / 461 ) : ( قالت لابن ملجم : قد فرغت فافرغ ! فخرج ابن ملجم حتى أتى المسجد وضربت قطام قبتها في المسجد ، وألبسته السلاح ) .
    وقال ابن الأعثم ( 4 / 278 ) إنها سقته خمراً ، قال : ( كان عبد الرحمن بن ملجم تلك الليلة في منزل قطام بنت الأضبع ، فلما سمعت أذان علي رضي الله عنه قامت إليه وهو نائم وكان تناول نبيذاً فأيقظته وقالت : يا أخا مراد ! هذا أذان علي ، قم فاقض حاجتنا وارجع قريرالعين مسروراً ! ثم ناولته سيفه ) .
    لكن الجريمة كانت قبل الأذان ، ومهما يكن فلم يطعها ابن ملجم يومها لأنه يعرف أنه لا يرجع أبداً ! فذهبت معه إلى المسجد ، وعصبته ورفاقه بعصابات حرير فوق ثيابهم ، ليهربوا بعد الجريمة ويفلتوا من أيدي الناس !
    وقال الحاكم في المستدرك ( 3 / 143 ) : وفي ذلك قال الفرزدق :
    فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة * كمهر قطامٍ بين غير معجم
    ثلاثة آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ * وضرب علي بالحسام المصمم
    فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولافتك إلا دون فتك ابن ملجم
    3 . وذكرت روايتهم أنها كانت شريكة لابن ملجم في التدبير والتخطيط ، فقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد ( 9 / 140 ) وحسَّنه ، أنها قالت له : ( فإذا أردت ذلك فأخبرني حتى أطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك على أمرك ، فبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له وردان ، فكلمته فأجابها ، وأتى ابن ملجم رجلاً من أشجع يقال له شبيب بن نجدة فقال له : هل لك في شرف الدنيا والآخرة ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : قتل علي . قال : ثكلتك أمك لقد جئت شيئاً إداً ، كيف تقدر على قتله ؟ قال : أكمن له في
    --------------------------- 317 ---------------------------
    السحر فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه ، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا ، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وزبرج أهلها !
    قال : ويحك لو كان غير عليٍّ كان أهون عليَّ ، قد عرفت بلاءه في الإسلام وسابقته مع النبي ، وما أجدني أشرح لقتله . قال : أما تعلم أنه قتل أهل النهروان العباد المصلين ؟ قال : نعم . قال : نقتله بما قتل من إخواننا ،
    فأجابه . فجاؤوا حتى دخلوا على قطام وهي في المسجد الأعظم معتكفة فيه ، فقالوا لها : قد اجتمع رأينا على قتل علي . قالت : فإذا أردتم ذلك فأئتوني ضحى . فقال : هذه الليلة التي واعدت فيها صاحبي أن يقتل كل واحد منا صاحبه ، فدعت لهم بالحرير فعصبتهم وأخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها عليٌّ فخرج لصلاة الغداة فجعل يقول الصلاة الصلاة ، فشد عليه شبيب فضربه بالسيف فوقع السيف بعضادتي الباب أو بالطاق ، فشد عليه ابن ملجم فضربه على قرنه وهرب ) .
    وفي مناقب آل أبي طالب ( 3 / 91 ) : ( قال ابن إسحاق ، وابن شهاب : وقد عاونه وردان بن مجالد من تيم الرباب ، وشبيب بن بجرة ، والأشعث بن قيس ، وقطام بنت الأخضر ) .
    أقول : الخارجي العريق فيهم شبيب ، فقد كان قائداً في النهروان .
    4 . نسج العوام قصصاً شعبية عن قطام ، ومن ذلك رواية ابن الأعثم التي أخذنا منها ، وقالت إنه تعرف عليها لما رجع من النهروان ، ورواية البحار ( 42 / 266 ) التي قالت إن المسلمين قتلوها بعد مقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام )
    قال المجلسي ( 42 / 298 ) : ( وأقبلوا إلى قطام الملعونة الفاسقة الفاجرة ، فقطعوها بالسيف إرباً إرباً ، ونهبوا دارها ، ثم أخذوها وأخرجوها إلى ظاهرالكوفة وأحرقوهابالنار ، وعجل الله بروحها إلى النار ) .
    لكن الصحيح أنهم لم يقتلوها لرواية عمر بن شبَّة ( الأغاني : 15 / 189 ) وغيره ،
    أن كُثَيِّرعزة قدم الكوفة بعد سنين طويلة من قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأراد أن
    --------------------------- 318 ---------------------------
    يوبخ قطاماً ، فقرع بابها فقالت : من هذا ؟ فقال : كثيّر بن عبد الرحمن الشاعر ، فقالت لبنات عم لها : تنحين حتى يدخل الرجل فولجن البيت وأذنت له ، فدخل وتنحت من بين يديه ، فرآها وقد ولَّت فقال لها : أنت قطام ؟ قالت : نعم . قال : صاحبة علي بن أبي طالب ؟ قالت : صاحبة عبد الرحمن بن ملجم . قال : أليس فيك قُتل علي بن أبي طالب ؟ قالت : بل مات بأجله . قال : أما والله لقد كنتُ أحبّ أن أراك ، فلما رأيتك نبت عيني عنك فما احلوليت في خلدي ! قالت : والله إنك لقصير القامة ، عظيم الهامة ، قبيح المنظر ، وإنك لكما قال الأول : تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه ! فقال :
    رأت رجلاً أودى السّفار بوجهه * فلم يبق إلا منظرٌ وجناجنُ
    فإن أك معروق العظام فإنني * إذا وزن الأقوام بالقوم وازنُ
    وإني لما استودعتِني من أمانة * إذا ضاعت الأسرار للسردافنُ
    فقالت : أنت لله أبوك كثير عزة ؟ قال : نعم . قالت : الحمد لله الذي قصَّر بك ، فصرت لا تعرف إلا بامرأة ! فقال : الأمر كذلك ، فوالله لقد سار بها شعري ، وطار بها ذكري ، وقرب من الخليفة مجلسي ، وأنا لكما قلتُ :
    فإن خفيت كانت لعينك قرة * وإن تبد يوماً لم يَعُمَّكَ عارُها
    فما روضة بالحزن طيبة الثرى * يمجُّ الندى جثجاثها وعِرَارُها
    بأطيب من أردان عزة موهناً * وقد أوقدت بالمندل اللَّدن نارها
    فقالت : بالله ما رأيت شاعرا قطُّ أنقصَ عقلاً منك ، ولا أضعف وصفاً ، أين أنت من سيدك امرئ القيس حيث يقول :
    ألم ترياني كلَّما جئت طارقاً * وجدت بها طيباً وإن لم تطيّب
    فخرج وهو يقول : الحق أبلج لا يخيل سبيله . . والحق يعرفه ذووا الألباب ) .
    يقصد أن قطاماً أفحمته ، وقبل قولها بأن امرئ القيس أشعر منه .
  • *
    --------------------------- 319 ---------------------------
    ترجمة شبيب بن بَجَرة
    1 . شبيب بن بَجَرة الأشجعي الغطفاني ، وكان قائد ميمنة الخوارج في النهروان والبَجَرَة : السُّرة الناتئة والداهية ، والثاني هوالمناسب للعلم المذكر ، فهو بمعنى الداهية والأمر العظيم ، وكان شبيب من قادة الخوارج ، من جماعة حرقوص .
    قال خليفة بن خياط / 149 : ( قال أبو عبيدة : كانت الوقعة في شعبان سنة ثمان وثلاثين ، وعلى ميمنة الخوارج حرقوص بن زهير السعدي ، وعلى ميسرتهم شبيب بن بجرة الأشجعي ، ورايتهم مع شريح بن أوفى العبسي ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فقتل عبد الله بن وهب ، وارتث أبو بلال مرداس بن أدية فنجا ، وشبيب بن بجرة ، والمستورد بن علفة ، والبرك صاحب معاوية ، ووردان بن مجمع العكلي ، فنجوا ) .
    2 . ذكروا أن ابن ملجم هو الذي قصد شبيباً ودعاه إلى المشاركة فامتنع ، ثم اقتنع ، لكنه مقتنع من أساسه ، وقد يكون الأشعث اختاره للمهمة مع ابن ملجم ، كما اختارت قطام ورداناً من أقاربها تيم الرباب .
    3 . واتفق الرواة على أن شبيباً ضرب علياً ( عليه السلام ) مع ابن ملجم ، لكن ضربته وقعت في الطاق ، ووقعت ضربة ابن ملجم على رأس الإمام ( عليه السلام ) .
    وذكرت رواية أنهم قبضوا عليه وقتلوه ، لكن أكثر الروايات على أنه أفلت ، وأراد أن يتقرب إلى معاوية فتشاءم منه ، وأمر قبيلته أن ينفوه فنفوه ، حتى خرج على معاوية بعد ذلك ، فقتله والي الكوفة المغيرة بن شعبة .
    قال في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 95 ) : ( وأما شبيب بن بجرة ، فإنه خرج هارباً فأخذه رجل فصرعه وجلس على صدره ، وأخذ السيف من يده ليقتله ، فرأى الناس يقصدون نحوه ، فخشي أن يعجلوا عليه فوثب عن صدره وخلاه ، وطرح السيف عن يده ففاته ، فخرج هارباً حتى دخل منزله ، فدخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره ، فقال له : ما هذا ؟ لعلك قتلت أمير المؤمنين ! فأراد أن يقول : لا ، فقال : نعم ، فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه ثم دخل عليه فضربه حتى قتله ) .
    --------------------------- 320 ---------------------------
    لكن البلاذري قال ( 2 / 494 ) : ( ويقال : إن رجلاً من حضرموت لحق ابن بجرة فصرعه وأخذ سيفه فقال الناس : خذوا صاحب السيف ، فخاف أن ينقاؤوا عليه ولا يسمعوا منه ، فألقى السيف ومضى وهرب ابن بجرة ) .
    وهذا هو الصحيح قال البلاذري ( 5 / 166 ) : ( ثم إنه أتى معاوية وهو بالكوفة كالمتقرب اليه فقال له : إني وابن ملجم قتلنا علياً ، فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً فزعاً حتى دخل منزله ، وبعث إلى أشجع فقال : والله لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنه ببابي لأبيرنكم ، أخرجوه عن بلدكم !
    وكان شبيب إذا جن عليه الليل خرج فلم يلق صبيّاً ولا رجلاً ولا امرأة إلَّا قتله ، فلما ولي المغيرة الكوفة خرج عليه شبيب بالقف ( قرب الكوفة ) فبعث إليه المغيرة خيلاً عليها خالد بن عرفطة ، فواقعه فقتله وأصحابه ) .
    قال اليعقوبي ( 2 / 220 ) : ( قدم المغيرة الكوفة منصرفاً من عند معاوية ، وقد خرج شبيب بن بجرة الأشجعي الخارجي ، فلما علم أن قدم المغيرة هرب إلى معاوية فقال : أنا قاتل علي بن أبي طالب ، وكان شبيب مع ابن ملجم في الليلة التي ضرب فيها علياً ، فقال له معاوية : لا أراك ولا تراني ! فرجع إلى الكوفة فقاتل المغيرة ، فوجه إليه جيشاً فقتله ) .
    4 . وشبيب بن بجير هذا غير شبيب بن يزيد الخارجي زوج غزالة الذي هزم الحجاج ، واشتهرت غزالة بشجاعتها ، وأنها نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة فدخلت في ثلاثين فارساً ، فأخلى لها الحجاج الكوفة ! قال خليفة / 211 : ( ودخلت غزالة مسجد الكوفة وقرأت وردها في المسجد ، وصعدت المنبر ، وكانت نذرت ذلك ، وقال عمران بن حطان السدوسي يؤنب الحجاج :
    أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر
    هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر
    صدعت غزالة قلبه بفوارس * تركت مناظرة كأمس الدابر ) .
    والحمامة والنعامة الفتخاء : لينة الجناح .
    --------------------------- 321 ---------------------------
    وردان بن مجالد التيمي
    لم يشارك وردان في القتل مباشرة ، لكنه كان مسلحاً مع ابن ملجم وشبيب ، وقد هيأته قطام وعصبته معهما بالحرير ، فكأنه كان استطلاعاً لهما لاتنفيذياً ، ويظهر أنه من رجال قطام وأصدقائها . وتقدم من مجمع الزوائد ( 9 / 140 ) أنها قالت لابن ملجم : ( فإذا أردت ذلك فأخبرني حتى أطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك على أمرك ، فبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له وردان ) .
    وقال البلاذري ( 2 / 493 ) : ( كان مع ابن ملجم وشبيب رجلٌ يقال له وردان بن المجالد التيمي ، وهو ابن عم قطام بنت شجنة ، فهرب وتلقاه عبد الله بن نجبة بن عبيد ، أحد بني تيم الرباب أيضاً فقال له : مالي أرى السيف معك ، وكان معصباً بالحرير لكي يفلت إذا تُعلق به ، فلما سأله عن السيف لجلج وقال : قتل ابن ملجم وشبيب بن بجرة أمير المؤمنين ، فأخذ السيف منه فضرب به عنقه ، فأصبح قتيلاً في الرباب ) .
    البُرك : الحجاج بن عبد الله الصريمي التميمي
    1 . وهو من بني سعد من بني تميم ، فيكون بصرياً تلميذ حرقوص ،
    قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 417 ) : ( وانطلق البركُ الصريمي إلى معاوية فطعنه بخنجر في اليته وهو يصلي فأخذ وأوقف بين يديه ، فقال له : ويلك ما أنت ، وما خبرك ؟ قال : لا تقتلني ، وأخبره ، قال : إنا تبايعنا في هذه الليلة عليك وعلى عليّ وعلى عمرو ، فإن أردت فاحبسني عندك ، فإن كانا قتلا وإلا خليت سبيلي فطلبت قتل علي ولك علي أن أقتله وأن آتيك حتى أضع يدي في يدك ، فقال بعض الناس : قتله يومئذ ، وقال بعضهم : حبسه حتى جاءه خبر قتل علي فأطلقه ) .
    وقال البلاذري ( 2 / 490 ) : ( البُرك بن عبد الله التميمي ثم الصريمي ، صريم مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم . انطلق في ليلة ميعادهم فقعد لمعاوية ، فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بسيفه فأدبر معاوية ، فضرب
    --------------------------- 322 ---------------------------
    طرف أليته ففلقها ، ووقع السيف في لحم كثير ، وأُخِذ فقال : إن لك عندي خبراً ساراً : قد قتل في هذه الليلة علي بن أبي طالب وحدثه بحديثهم ! وعولج معاوية حتى برأ ، وأمر بالبرك فقتل . وقيل : ضرب البرك معاوية وهو ساجد ، فمذ ذاك جعل الحرس يقومون على رؤوس الخلفاء في الصلاة ، واتخذ معاوية المقصورة .
    وروى بعضهم أن معاوية لم يولد له بعد الضربة ، وأن معاوية كان أمر بقطع يد البرك ورجله ثم تركه ، فصار إلى البصرة فولد له في زمن زياد ، فقتله وصلبه وقال له : ولد لك وتركت أمير المؤمنين لا يولد له ) !
    وفي الجوهرة للبري ( 2 / 274 ) : ( فأطلقه بعدما قطع يده ورجله ، ثم قتله بعد ذلك زياد بن سمية بالكوفة ) .
    2 . قال في شرح النهج ( 6 / 114 ) : ( فحبسه عنده ، فلما أتى الخبرأن علياً قتل في تلك الليلة خلى سبيله . هذه رواية إسماعيل بن راشد . وقال غيره من الرواة : بل قتله من وقته ) .
    قال الطبري ( 4 / 114 ) : ( وبعث معاوية إلى الساعدي وكان طبيباً فلما نظر إليه قال : إختر إحدى خصلتين ، إما أن أحمى حديدة فأضعها موضع السيف ، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ منها ، فإن ضربتك مسمومة . فقال معاوية : أما النار فلا صبر لي عليها وأما انقطاع الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقربه عيني . فسقاه تلك الشربة فبرأ ولم يولد له ، وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل ، وقيام الشرط على رأسه ) .
    زاذويه الفارسي
    1 . وهو غلام البُرك ، ويظهر أنه كان صغير السن ، رباه سيده على الطاعة ، وأعده كما يربون أشبال الدواعش . قال المسعودي ( 2 / 417 ) : ( وانطلق زاذويه وقيل : إنه عمرو بن بكر التميمي ، إلى عمرو بن العاص ، فوجد خارجة قاضي مصر جالساً على السرير يطعم الناس في مجلس عمرو ، وقيل : بل صلى خارجة بالناس الغداة ذلك اليوم ، وتخلف عمرو عن الصلاة لعارض ، فضربه بالسيف ، فدخل عليه عمرو وبه رمقٌ ، فقال له خارجة : والله ما أراد غيرك ، فقال عمرو : ولكن الله أراد خارجة ،
    --------------------------- 323 ---------------------------
    وأوقف الرجل بين يدي عمرو ، فسأله عن خبره ، فقص عليه القصة وأخبره أن علياً ومعاوية قد قتلا في هذه الليلة ، فقال : إن قتلا أو لم يقتلا فلا بد من قتلك ، فبكى ! فقيل له : أجزعاً من الموت مع هذا الإقدام ! قال : لا والله ، ولكن غماً أن يفوز صاحباي بقتل علي ومعاوية ، ولا أفوز أنا بقتل عمرو ، فضربت عنقه وصلب ) .
    2 . قال في شرح النهج ( 6 / 114 ) : وأما صاحب عمرو بن العاص ، فإنه وافاه في تلك الليلة ، وقد وجد علة فأخذ دواء ، واستخلف رجلاً يصلي بالناس يقال له خارجة بن حنيفة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فخرج للصلاة ، فشد عمرو بن بكر فضربه بالسيف فأثبته ، وأخذ الرجل فأتيَ به عمرو بن العاص فقتله ، ودخل من غد إلى خارجة وهو يجود بنفسه ، فقال : أما والله يا أبا عبد الله ما أراد غيرك . قال عمرو : ولكن الله أراد خارجة ) .
    قال الطبري ( 4 / 114 ) : ( فانطلقوا به إلى عمرو يسلمون عليه بالإمرة فقال : من هذا ؟ قالوا : عمرو . قال : فمن قتلتُ ؟ قالوا : خارجة بن حذافة . قال : أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك ! فقال عمرو : أردتني وأراد الله خارجة ، فقدمه عمرو فقتله ) .
    كان الأشعث المخطط والمدير لقتل أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    1 . كتبنا الفصل الثاني والسبعين في ترجمة الأشعث رأس المنافقين ، وسلطنا الضوء على عداوته لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وبينا أنه يهودي ألصق نفسه بكندة وصار رئيسهم المطاع ، فهو كالمغيرة أبي خالد في بني مخزوم ، قال أبو العباس بن إبراهيم المتوفى / 352 ، في المصابيح ( 1 / 337 ) : ( كان الأشعث دعياً في بني كندة ) .
    وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لايثق به ، وعزله من رئاسة كندة وربيعة ، فانعزل من ربيعة لكن نفوذه في كندة بقي قوياً ، فجعله الإمام ( عليه السلام ) قائد ميمنة جيشه في صفين ، فتعمد الهزيمة لمصلحة معاوية ، فعالج الإمام ( عليه السلام ) الهزيمة ، وعزله عن الميمنة .
    ثم اتفق الأشعث مع معاوية وحرك الخوارج ضد الإمام ( عليه السلام ) فنصحهم الإمام ( عليه السلام ) ،
    لكنهم أحاطوا بالإمام ( عليه السلام ) وهددوه بالقتل ، وأجبروه على إيقاف الحرب .
    ثم قالوا : إنا كفرنا بتحكيمنا الرجال في الدين ، وكفرت معنا فاشهد على نفسك !
    --------------------------- 324 ---------------------------
    2 . ساءت علاقة الأشعث بالإمام ( عليه السلام ) بعد صفين ، فقد واجهه على المنبر وأخبر المسلمين بنفاقه ، وأن ابنه سيشترك في قتل ولده الحسين ( عليه السلام ) ! وأن الأشعث سيعمى ، ويأتيه عند موته عنقٌ من النارفيحرقه ! قال في خطبته :
    ( ويحُ الفرخ فرخ آل محمد ( ( عليهما السلام ) ) وريحانته وقرة عينه ابني هذا الحسين من ابنك الذي من صلبك ، وهو مع ملك متمرد جبار يملك بعد أبيه !
    فقام الأحنف بن قيس فقال له : يا أمير المؤمنين ما اسمه ؟ قال : نعم ، يزيد بن معاوية ، ويؤمر على قتل الحسين عبيد الله بن زياد على الجيش السائر إلى ابني من الكوفة ، فتكون وقعتهم بنهركربلاء في غربي الفرات ، فكأني أنظر مناخ ركابهم ومحط رحالهم ، وإحاطة جيوش أهل الكوفة بهم ، وإعمال سيوفهم ورماحهم وقسيهم في جسومهم ودمائهم ولحومهم ، وسبي أولادي وذراري رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، وحملهم على شرس الأقتاب وقتل الشيوخ والكهول والشباب والأطفال !
    فقام الأشعث بن قيس على قدميه وقال : ما ادعى رسول الله ما تدعيه من العلم ! من أين لك هذا ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ويلك يا عُنُق النار وويلٌ لابنك محمد من قوادهم إي والله ، وشمر بن ذي جوشن ، وشبث بن ربعي ، والزبيدي ، وعمرو بن حريث !
    فأسرع الأشعث وقطع الكلام وقال : يا ابن أبي طالب أفهمني ما تقول حتى أجيبك عنه ! فقال له : ويلك يا أشعث أما سمعت ؟ فقال يا ابن أبي طالب ما يساوي كلامك عندي تمرتين وولى !
    فقام الناس على أقدامهم ومدوا أعينهم إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليأذن لهم في قتله ، فقال لهم : مهلاًيرحمكم الله ، إني أقدر على هلاكه منكم ، ولا بد أن تحق كلمة العذاب على الكافرين ) . ( الهداية الكبرى / 184 ) .
    فذهب الأشعث غاضباً واعتزل في بيته ، وقاطع صلاة الجماعة والجمعة مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلا قليلاً ، وأغدق عليه معاوية الأموال فبنى داره الكبيرة ( الأشعثية ) وبنى فيها مسجداً ، فحرم علي ( عليه السلام ) الصلاة فيه لأنه مسجد ضرار ، فكان الأشعث يعطي
    --------------------------- 325 ---------------------------
    عطية لمن يصلي في مسجده !
    ولم يذكر المؤرخون كم أعطاه معاوية ، لكنهم ذكروا أنه أرسل اليه ذات مرة ( تاريخ حلب : 4 / 1915 ) : ( بخمس مائة فرس معلمة محذَّقة ، فقسمها الأشعث في قومه ) . أي مروضة مدربة ، وثمنها مبلغ كبير .
    وفي تاريخ دمشق ( 9 / 141 ) وتاريخ حلب ( 4 / 1915 ) قال أحدهم : ( صليت الفجر في مسجد الأشعث أطلب غريماً لي ، فلما صلى الإمام وضع رجل بين يدي حلة ونعلاً ، فقلت : إني لست من أهل هذا المسجد . فقال الأشعث بن قيس لا يخرج أحد من المسجد . قال فبعث إلى كل رجل بحلة ونعلين ) .
    3 . نشط الأشعث في تثبيط الناس ، قال البلاذري ( 2 / 383 ) : ( إن معاوية لما بويع وبلغه قتال عليٍّ أهل النهروان ، كاتب وجوه من معه مثل الأشعث بن قيس وغيره ، ووعدهم ومنَّاهم وبذل لهم حتى مالوا إليه وتثاقلوا عن المسير مع علي ، فكان يقول فلا يلتفت إلى قوله ، ويدعو فلا يسمع لدعوته ، فكان معاوية يقول : لقد حاربت علياً بعد صفين بغير جيش ولا عناء ) .
    وبلغ من كفر الأشعث ووقاحته أنه توعد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأنه سيقتله !
    ( قال أبو الفرج : إن الأشعث دخل على عليٍّ فكلمه فأغلظ عليٌّ له ، فعرض له الأشعث أنه سيفتك به ! فقال له علي : أبالموت تخوفني أو تهددني ! فوالله ما أبالي وقعت على الموت ، أو وقع الموت عليَّ ) ! ( شرح النهج : 6 / 117 ) .
    4 . ونزل عنده ابن ملجم ! ( وقدم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الكوفة لعشر بقين من شعبان سنة أربعين فلما بلغ علياً قدومه قال : أوَقَدْ وافَى ؟ أما إنه ما بقي عليَّ غيره ، وهذا أوانه ! قال : فنزل على الأشعث بن قيس الكندي فأقام عنده شهراً يستحدُّ سيفه ) . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 222 ) .
    5 . نشط الأشعث في التخطيط لابن ملجم وشبيب ووردان لاغتيال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وأنفق عليهم وزوج ابن ملجم بقطام ليشحذ همته ، وذهب معهم إلى المسجد يوم الجريمة يرصد الإمام ( عليه السلام ) !
    --------------------------- 326 ---------------------------
    وقد فضح حجر بن عدي الكندي ( رحمه الله ) الأشعث في قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) !
    قال ابن سعد ( 3 / 36 ) : ( وبات عبد الرحمن بن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها أن يقتل علياً في صبيحتها يناجي الأشعث بن قيس الكندي حتى كاد أن يطلع الفجر ، فقال له الأشعث : فضحك الصبح فقم ، فقام عبد الرحمن بن ملجم وشبيب بن بجرة فأخذا أسيافهما ثم جاءا حتى جلسا مقابل السدة التي يخرج منها علي . فلما خرج من الباب نادى أيها الناس الصلاة الصلاة كذلك كان يفعل في كل يوم ، يخرج ومعه درته يوقظ الناس فاعترضه الرجلان فقال بعض من حضر ذلك فرأيت بريق السيف وسمعت قائلاً يقول : لله الحكم يا علي لا لك ) . وتاريخ دمشق : 42 / 559 ، والبلاذري : 2 / 493 ، والمسعودي : 2 / 412 ، والذهبي في تاريخ الإسلام : 3 / 608 ، وشرح النهج : 6 / 117 ، ومقاتل الطالبيين / 20 . ومقتل أمير المؤمنين لابن أبي الدنيا : ( 1 / 26 )
    وروى الجميع أن قطاماً كانت معتكفة في المسجد ، وأنها عصبتهم بالحرير !
    قال في مقاتل الطالبيين / 20 : ( والأشعث في بعض نواحي المسجد ، فسمع حجر بن عدي الأشعث يقول لابن ملجم : النجاء النجاء لحاجتك ) !
    6 . كان الأشعث حريصاً على معرفة نجاح خطته في قتل الإمام ( عليه السلام ) ، فأرسل ابنه يستطلع ! قال ابن سعد ( 3 / 37 ) والبلاذري ( 2496 ) : ( وبعث الأشعث بن قيس ابنه قيس بن الأشعث صبيحة ضرب علي فقال : أي بني أنظر كيف أصبح أمير المؤمنين ؟ فذهب فنظر إليه ثم رجع فقال : رأيت عينيه داخلتين في رأسه ! فقال الأشعث : عيني دميغ ورب الكعبة ) .
    وقال ابن الأثير في النهاية ( 2 / 133 ) وابن منظور ( 8 / 424 ) : ( يقال رجل دميغ ومدموغ إذا خرج دماغه ) . ففرح بذلك الأشعث الملعون !
    7 . لكن لم يتهنأ الأشعث بقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقد هلك هو بعده بمدة يسيرة
    ( تهذيب التهذيب : 1 / 313 ، وتاريخ دمشق : 9 / 144 ) .
    قال الإمام الحسن ( عليه السلام ) صهر الأشعث : ( إن الأشعث بنى في داره مئذنة فكان يرقى إليها إذا سمع الأذان في أوقات الصلوات في مسجد جامع الكوفة ، فيصيح من على
    --------------------------- 327 ---------------------------
    مئذنته : يا رجل إنك لكاذب ساحر ! وكان أبي ( عليه السلام ) يسميه : عنق النار ، فسئل عن ذلك فقال : إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النار ممدودة من السماء فتحرقه فلايدفن إلا وهو فحمة سوداء ! فلما توفي نظر ساير من حضر إلى النار وقد دخلت عليه ، كالعنق الممدود حتى أحرقته ، وهو يصيح ويدعو بالويل والثبور ) . ( مناقب آل أبي طالب : 2 / 99 ) .
    وترك الأشعث فرخيه جعدة ومحمد بن الأشعث ، ليواصلا تآمر أبيهما على العترة النبوية ، ويشتركا في قتل الإمامين الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
  • *
    --------------------------- 328 ---------------------------
    الفصل السادس والتسعون
    أحداث شهادة أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    كان الإمام ( ( ع ) ) ينتظر ليلة شهادته وعروجه إلى ربه
    لما ورد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الكوفة قالوا له : أعددنا لك قصرالإمارة ، فرفض أن ينزل فيه ، واستأجر بيتاً عادياً قرب المسجد من جهة القبلة ، وكان له باب صغير يدخل منه إلى المسجد .
    وفي شهر رمضان كان ينتظر الليلة التي وعده بها حبيبه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، ففي الحديث الصحيح عن : ( الحسن بن الجهم قال قلت للرضا ( عليه السلام ) : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه ، وقوله لما سمع صياح الإوز في الدار : صوائح تتبعها نوائح ، وقول أم كلثوم : لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس ، فأبى عليها ، وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ! وقد عرف أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف ! كان هذا مما لم يجزتعرضه ! فقال ( عليه السلام ) : ذلك كان ولكنه خُيِّرَ في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عز وجل ) . ( الكافي : 1 / 259 ) .
    أي خيَّره الله تعالى في تلك الليلة بين أن يدفع عنه ما قُدر له من القتل ، أو يدفعه هو عن نفسه بالحراسة والحذر ومبادرة القاتل وحبسه ، وبين أن يختار القتل طائعاً فيخرج إلى مقتله بدون سلاح ، وأخبره الله تعالى أن هذا أفضل وأكثر أجراً ، فاختار ( عليه السلام ) أن تجري مقادير الله تعالى ، وبرز بدون سلاح !
    ومعنى قول الإمام الرضا ( عليه السلام ) : خُيِّرَ في تلك الليلة : أن الملائكة كلمته ، أو ألقى الله في قلبه ، أو رأى النبي ( ( عليهما السلام ) ) في المنام فأخبره ، أو رآه في اليقظة . وكل ذلك جائز ، وكان عادياً للإمام ( عليه السلام ) ، وله نظائر في سيرته ، وإن كان فهم وجه الحكمة فيه صعباً علينا ، لكن لا يجب على الله تعالى أن يفهمنا كل ما يعمله !
    --------------------------- 329 ---------------------------
    ومعنى : الليلة التي يقتل فيها : أنه ضرب في الليل قبل الفجر ، وكان في صلاة الليل ، أو نافلة الصبح ، قبيل أذان الفجر .
    مسح النبي ؟ ص ؟ الغبار عن وجهي وقال : قضيت ما عليك
    روى في المناقب ( 3 / 94 ) : ( قال لأم كلثوم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا بنية إني أراني قلَّما أصحبكم قالت : وكيف ذاك يا أبتاه ؟ قال : إني رأيت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في منامي وهو يمسح الغبار عن وجهي ويقول : يا علي لا عليك ، قد قضيت ما عليك ، قالت : فما مكثنا حتى ضرب تلك الليلة الضربة . وروى عن أبي صالح الحنفي قال : سمعت علياً ( عليه السلام ) يقول : رأيت النبي ( ( عليهما السلام ) ) في منامي فشكوت إليه ما لقيت من أمته من الأود واللدد ، وبكيت فقال : لا تبك يا علي ، والتفتَ فالتفتُّ فإذا رجلان مصفدان ، وإذا جلاميد تُرضخ بها رؤوسهما !
    وقالت أم موسى حاضنة فاطمة ابنته ( عليه السلام ) : سمعت علياً يقول لابنته أم كلثوم : يا بنية إني أراني قلَّما أصحبكم ، قالت : وكيف ذلك يا أبتاه ؟ قال : إني رأيت نبي الله ( ( عليهما السلام ) ) في منامي وهو يمسح الغبار عن وجهي ويقول : يا علي ، لا عليك قد قضيت ما عليك ! قالت : فما مكثنا إلا ثلاثاً حتى ضرب تلك الضربة فصاحت أم كلثوم ، فقال : يا بنية لا تفعلي ، فإني أرى رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يشير إليَّ بكفه : يا عليُّ هلمَّ إلينا ، فإن ما عندنا هو خير لك
    وكان ( عليه السلام ) يقضي شطراً من ليله في المسجد ، فلما كانت تلك الليلة بقي في البيت ساهراً ، وكان يكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها ، ثم يعاود مضجعه ) .
    ( والخوارزمي / 387 ، والإرشاد ( 1 / 15 ) وروضة الواعظين / 135 وإثبات الهداة ( 2 / 487 )
    سهر تلك الليلة وقليلاً من الليل ما هجع
    في خصائص الأئمة / 63 : ( عن أبي الحسن البصري قال : سهر علي ( عليه السلام ) في الليلة التي ضرب في صبيحتها فقال إني مقتول لو قد أصبحت ! فجاء مؤذنه بالصلاة فمشى قليلاً ، فقالت ابنته زينب : يا أمير المؤمنين مر جعدة يصلي بالناس ،
    --------------------------- 330 ---------------------------
    فقال : لا مفر من الأجل ، ثم خرج !
    وفي حديث آخر : جعل يعاود مضجعه فلاينام ، ثم يعاود النظر في السماءويقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها لليلة التي وعدت ، فلما طلع الفجرشد إزاره ، وهو يقول : أشدد . .
    حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا
    ولا تجزع من الموت * وإن حل بواديكا
    وخرج ( عليه السلام ) فلما ضربه ابن ملجم قال : فزت ورب الكعبة . لا إله إلا الله ) .
    أقول : تعبيرهم بصبيحتها وما شابه ، لأن الضربة كانت قرب طلوع الفجر .
    وتمثل الإمام ( ( ع ) ) بهذه الأبيات وهي لأنصاري
    3 . نسبوا هذا الشعر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال ابن الجوزي إنه لأبي أحيحة الأنصاري وإن الإمام ( عليه السلام ) تمثل به ( تذكرة الخواص : 1 / 159 ) ورويت بأكثر من بيتين ، وأطول رواياته بإضافة :
    ولا تغترّ بالدهر * وإن كان يواتيكا
    كما أضحكك الدهر * كذاك الدهر يبكيكا
    فإن الدرع والبيضة * يوم الروع يكفيكا
    فقد أعرف أقواماً * وإن كانوا صعاليكا
    مساريعاً إلى الخير * وللشر متاريكا
    وكلمة : أشدد ، زيادة في العروض ، وهومتعارف في الشعر ، وربما كانت مقدمة للبيت .
    وفي مروج الذهب ( 2 / 418 ) : ( وكان يكثر من ذكر هذين البيتين :
    [ أشدد ] حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا
    ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا
    وسمعا منه في الوقت الذي قتل فيه ، فإنه قد خرج إلى المسجد وقد عسر عليه فتح باب داره ، وكان من جذوع النخل ، فاقتلعه وجعله ناحية ، وانحل إزاره ، فشده وجعل ينشد هذين البيتين المتقدمين ) .
    والبيت الثالث في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 96 ) والعدد القوية / 238 ، وغيرهما .
    --------------------------- 331 ---------------------------
    كان ( ( ع ) ) يأكل ثلاث لقم في إفطاره وسحره
    ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وليلة عند عبد الله بن جعفر ، وكان لا يزيد على ثلاث لقم ، فقيل له في ذلك فقال : يأتيني أمرالله وأنا خميصٌ ، إنما هي ليال قلائل . ثم قيل له ، فقال : إنما هي ليلة أوليلتان ، فأصيب ( عليه السلام ) في آخر الليل !
    وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سهر تلك الليلة ، فأكثر الخروج والنظر في السماء وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها ، ثم يعاود مضجعه . وصلى في بيته ولم يخرج إلى المسجد لصلاة الليل على عادته فقالت له ابنته أم كلثوم : ما هذا الذي قد أسهرك ؟ فقال : إني مقتول لو قد أصبحت ! وأتاه مؤذنه ابن النباح فآذنه بالصلاة ، فمشى غير بعيد ثم رجع ، فقالت له أم كلثوم : مُرْ جعدة فليصل بالناس ، فقال : لا مفر من الأجل ، فخرج إلى المسجد فاستقبله الإوز في صحن الدار فصحن في وجهه فزجرتهن أم كلثوم فقال : دعوهن فإنهن صوائح تتبعها نوائح ! وتعلقت حديدة في ميزره فشد إزاره وهو يقول : أشدد حيازيمك . . ) ( المناقب : 3 / 93 ) .
    شهادته فريدة بين الأنبياء والأوصياء ؟ عهم ؟
    إن شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أغرب شهادة بين الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) ،
    فقد خرج من بيته إلى المسجد ولم يرض أن يخرج معه أحد ، ولا حمل سلاحاً ! وهذا أمرلايتحمله إلا أهله ، بل لايتحمل فهمه والإيمان به إلا من امتحن الله قلبه للإيمان ! وروى في ( المناقب : 3 / 93 ) أنه خرج متمثلاً بقوله في المعارك :
    خلوا سبيل الجاهد المجاهدْ * في الله ذي الكُتْب وذي المشاهدْ
    في الله لا يعبدُ غيرَ الواحدْ * ويوقظ الناس إلى المساجدْ
    وهي رواية تدل على أنه خرج إلى مبارزة من نوع فريد ، فقد اختارالشهادة بأمر ربه وقدم نفسه قرباناً طائعاً ، بدون أن يدافع عن نفسه !
    --------------------------- 332 ---------------------------
    فهويعلم أنه بعد أن يدخل في صلاة النافلة سيضربه الشقي ابن ملجم !
    ودخل المسجد ونادى على عادته : الصلاة الصلاة أيتها الجماعة . ودخل في صلاة النافلة في مكان عند محراب المسجد كان يصلي فيه نوافله .
    ضربه شبيب فأخطأه وضربه ابن ملجم فأصابه
    كان اللعين ابن ملجم وصاحبه شبيب ساهرين يرصدانه ، ويساعدهما وردان ابن عم قطام وقد عصبته معهما بالحرير ، وكان الأشعث يرصد معهم ، ولم يكن معصباً بحرير ، وقد أبعد نفسه قليلاً عن مسرح الجريمة !
    ولما دخل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) انتظراه حتى بدأ بصلاة النافلة وسجد ، فشد عليه شبيب وهو ساجد وضربه وهرب ، فوقع سيفه في طاق الجدار ، فشد عليه ابن ملجم وضربه على رأسه ، فانبثق الدم وخضب لحيته الشريفة ، وهرب ابن ملجم ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : فزت ورب الكعبة ، هذا ما وعد الله ورسوله ، لا يفوتنكم الرجل . ثم أخذ يكرر :
    لا إله إلا الله . لا إله إلا الله . وشدَّ الناس على ابن ملجم يرمونه بالحصباء ويصيحون ، فضرب ساقه رجل من همدان برجله ، وضرب المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وجهه فصرعه ، وأقبل به إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وهرب شبيب ، ودخل وردان بين الناس فنجا بنفسه ، ثم قبضوا عليه .
    حجر بن عدي يفضح الأشعث بن قيس
    قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 19 ) : ( ثم أتياها ومعهما الآخر ليلة الأربعاء لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم ، وتقلدوا أسيافهم ومضوا وجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الصلاة .
    وحضر الأشعث بن قيس في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه وكان حجر بن عدي رضي الله عنه في تلك الليلة بائتاً في المسجد ، فسمع الأشعث يقول لابن ملجم : النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح ، فأحس حجر بما أراد الأشعث
    --------------------------- 333 ---------------------------
    فقال له : قتلته يا أعور ! وخرج مبادرا ! ليمضي إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ويحذره الخبر ويحذره من القوم ، وخالفه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فدخل المسجد ، فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف ، وأقبل حجر والناس يقولون : قتل أمير المؤمنين ،
    قتل أمير المؤمنين ) !
    أمر الإمام ابنه الحسن ؟ عهما ؟ بالصلاة مكانه وليس جعدة
    لما سهرأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) تلك الليلة وأخبرزينب ( عليها السلام ) بأنها ليلة شهادته قالت له أن يرسل إلى جعدة ليصلي بالناس فأبى ( خصائص الأئمة / 63 ) .
    وروي أنه لما ضُربَ أمر جعدة أن يصلي بالناس ( كامل البهائي : 2 / 170 ) وكان جعدة محل ثقة الإمام ( عليه السلام ) ومن رجال المهمات الصعبة ، وقد بعثه فأكمل فتح خراسان إلى بخارى ، وكانت مستعصية . ( وقال له عتبة بن أبي سفيان : إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي ، لنسيت أباك ! » . ( الكشي : 1 / 281 ) .
    والصحيح أنه ( عليه السلام ) لما ضرب أمرالحسن ( عليه السلام ) بالصلاة كما نصت المصادر :
    قال في المناقب ( 3 / 96 ) : ( وأمر الحسن ( عليه السلام ) أن يصلي الغداة بالناس . وروي أنه دفع في ظهر جعدة فصلى بالناس الغداة )
    وقال ابن الأعثم ( 4 / 278 ) : ( وسقط عليٌّ ( عليه السلام ) لما به ، وتسامع الناس بذلك وقالوا : قتل أمير المؤمنين ودنت الصلاة ، فقام الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتقدم فصلى بالناس ركعتين خفيفتين ، ثم احتُمِل عليٌّ ( عليه السلام ) إلى صحن المسجد ) .
    ومحمد بن طلحة في مطالب السؤول / 318 . والدمشقي في جواهر المطالب ( 2 / 113 ) .
    وفي رواية المجلسي ( 42 / 283 ) : ( فلما سمع الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صرخات الناس ناديا : وا أبتاه واعلياه ليت الموت أعدمنا الحياة . فلما وصلا الجامع ودخلا وجدا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس ، وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس ، فلم يطق عليٌّ ( عليه السلام ) النهوض وتأخر عن الصف
    --------------------------- 334 ---------------------------
    وتقدم الحسن ( عليه السلام ) فصلى بالناس وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) يصلي إيماء من جلوس ، وهويمسح الدم عن وجهه وكريمته ، يميل تارة ويسكن أخرى ) .
    رواية ابن الأزدي في وصف قتل أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 20 ) : وذكر محمد بن عبد الله بن محمد الأزدي قال : إني لأصلي في تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصلون في ذلك الشهر من أوله إلى آخره ، إذ نظرت إلى رجال يصلون قريباً من السدة ، وخرج علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لصلاة الفجر ، فأقبل ينادي الصلاة الصلاة ، فما أدري أنادى ، أم رأيت بريق السيوف ، وسمعت قائلاً يقول : لله الحكم يا علي لا لك ولا لأصحابك . وسمعت علياً ( عليه السلام ) يقول : لا يفوتنكم الرجل ! فإذا علي ( عليه السلام ) مضروب ، وقد ضربه شبيب بن بجرة فأخطأه ووقعت ضربته في الطاق . وهرب القوم نحو أبواب المسجد وتبادر الناس لأخذهم ، فأما شبيب بن بجرة فأخذه رجل فصرعه وجلس على صدره ، وأخذ السيف من يده ليقتله به ، فرأى الناس يقصدون نحوه فخشي أن يعجلوا عليه ولايسمعوا منه ، فوثب عن صدره وخلاه وطرح السيف من يده ، ومضى شبيب هارباً حتى دخل منزله ، ودخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره ، فقال له : ما هذا ، لعلك قتلت أمير المؤمنين ؟ فأراد أن يقول : لا ، فقال : نعم ، فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه ثم دخل عليه فضربه حتى قتله . وأما ابن ملجم فإن رجلاً من همدان لحقه فطرح عليه قطيفة كانت في يده ثم صرعه وأخذ السيف من يده ، وجاء به إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأفلت الثالث فانسل بين الناس .
    فلما أدخل ابن ملجم على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نظر إليه ثم قال : النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني ، وإن سلمت رأيت فيه رأيي . فقال ابن ملجم : والله لقد ابتعته بألف وسممته بألف ، فإن خانني فأبعده الله ! قال : ونادته أم كلثوم : يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين ! قال : إنما قتلت أباك ! قالت : يا عدو الله إني لأرجو أن لا يكون عليه بأس ، قال لها : فأراك إنما تبكين عليَّ إذاً ! والله لقد ضربته ضربة لوقسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم ! فأخرج من بين يدي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإن الناس لينهشون لحمه بأسنانهم
    --------------------------- 335 ---------------------------
    كأنهم سباع ، وهم يقولون يا عدو الله ماذا فعلت أهلكت أمة محمد ، وقتلت خير الناس ، وإنه لصامت ما ينطق ) !
    أقول : المرجح عندنا أن ابن ملجم كان ساكتاً مخذولاً خائفاً ، كما يأتي وكل كلام ينقلونه عنه غير ذلك ، فهو من إشاعات الناس ، أو من وضع الرواة ليثبتوا لابن ملجم بطولة ورجولة !
    رواية ابن حاتم في وصف قتل أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    قال في الدر النظيم / 417 ، ملخصاً : ( فلما فرغ علي ( عليه السلام ) من الأذان ودخل المسجد وصف قدميه ( عليه السلام ) ليصلي وكان إذا سجد أطال سجوده ، فعمد عبد الرحمن لعنه الله إلى السيف فاستخرجه من غمده وهزه وعلا به هامته ( عليه السلام ) وهو ساجد ، فاستوى ( عليه السلام ) قائماً ثم نادى : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله وصدق المرسلون ! وأقبل يخضب شيبته بدمه ويقول : بهذا أخبرني حبيبي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) . قتلني المرادي ورب الكعبة ، هكذا ألقى حبيبي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، هكذا ألقى فاطمة ، هكذا ألقى أخي جعفر الطيار في الجنة ، هكذا ألقى حمزة سيد الشهداء !
    وارتفعت الضجة والرنة بالكوفة ، وخرج الناس ودخلوا مسجد الكوفة ونظروا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يجود بنفسه ، فلما نظر الحسن ( عليه السلام ) إلى أبيه وما نزل به قال : يا أبتاه نفسي لنفسك الفداء ، وخدي لخدك الفداء ، ليتني لم أشهد هذا اليوم ولم أره ! فلما أن سمع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مقالة الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نادى : أسندوني أجلسوني . ثم قال : أدن يا حسن مني ، أدن يا حسين مني ، فضمهما إلى صدره وأقبل يقبل بين عينيهما .
    وركب رجل من عبد القيس واستقبل عبد الرحمن لعنه الله وهو شاهر سيفه وهو يقطر دماً فصاح به صيحة فقال : ثكلتك أمك لعلك قاتل أمير المؤمنين ، فذهب يقول لا فقلب الله لسانه وفاه فقال : نعم ! فأخرج عمامته من رأسه فوضعها في عنقه وجعل يقوده خاضعاً ذليلاً حتى أوقفه بين يدي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) !
    --------------------------- 336 ---------------------------
    فلما نظر إليه قال له : يا عبد الرحمن فأجابه : لبيك وسعديك ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لا لبيك ولا سعديك ، شر أمير كنت لك ؟ ألم أكن أطعمك وألبسك مما ألبس وأفضلك في عطائك من مال بيت المسلمين على جميع أصحابي ! فقال : بلى والله يا أمير المؤمنين ، ها أنا ذا واقف بين يديك فافعل ما شئت !
    ثم إن علياً ( عليه السلام ) رجع إلى نفسه الطاهرة فتلا هذه الآية : وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً .
    ثم أمر بعبدالرحمن إلى السجن ، واتكأ على أولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن علي حتى دخل منزله .
    فلما نظرت اليه أم كلثوم لطمت خدها وهي تنادي : عزَّ على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عزَّ على فاطمة عزَّ عليَّ . . يا أباه على من خلفتنا حيارى كالغنم لا راعي لنا ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : على خير خلقه الحسن والحسين بعد جدهما رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأقبلت تقبل بين عينيه وعلي ( عليه السلام ) نائم مشغول بما هو فيه فضمها إلى صدره وقال لها : يا بنية يا أم كلثوم قد دنا اللحوق بجدك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، وأمك فاطمة ( عليها السلام ) ، فاحتسبي صبرك وعزاك بالله ) .
    فزت ورب الكعبة . . أطلقها الإمام ( ( ع ) ) لما ضربه ابن ملجم !
    اشتهرت هذه المقولة العظيمة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وهي تعبرعن يقينه وبصيرته وشخصيته الربانية ، وعن فرحته بختام حياته الرائع ، الذي أخبره به رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأخبره به جبرئيل ( عليه السلام ) عن الله تعالى .
    وهي مقولة بليغة لها عدة أبعاد ، ولم يقلها أحد قبل علي ( عليه السلام ) ، وقد تقدم توثيقها في عدد من المصادر ، وأفردنا لها هنا عنواناً لنؤكد عليها ، ونبين أن أنس بن مالك سرقها وأعطاها لخاله الشهيد ( رحمه الله ) ، ففرحت بكذبته السلطة ونشرت حديثه في البخاري ، وفي عشرات المصادر !
    فقد رواها من مصادرنا :
    الشريف الرضي في خصائص الأئمة / 63 ، قال : ( فلما ضربه ابن ملجم قال : فزت
    ورب الكعبة ) .
    وفي شرح الأخبار للقاضي المغربي ( 2 / 442 ) : ( وسمعت علياً ( عليه السلام ) يقول : فزت
    --------------------------- 337 ---------------------------
    ورب الكعبة ، لا يفوتكم الرجل ) .
    وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 385 و : 3 / 95 ) : ( وسمعت علياً ( عليه السلام ) يقول : فزت
    ورب الكعبة ، ثم قال : لا يفوتنكم الرجل ) .
    والطرائف لابن طاووس / 519 ، والأئمة الإثنا عشرلابن طولون ( 1 / 58 ) وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي / 411 وإثبات الهداة للحرالعاملي ( 3 / 374 ) .
    ومن مصادر غيرنا :
    قال البلاذري ( 2 / 499 و 2 / 487 ) : ( فلما ضربه ابن ملجم قال : فزت ورب الكعبة . فقال عليٌّ حين وقع به السيف : فزت ورب الكعبة ) .
    وفي الإمامة والسياسة ( 1 / 138 ) : فزت ورب الكعبة ، لا يفوتنكم الرجل .
    وفي الإستيعاب لابن عبد البر ( 3 / 1125 ) ( فقال علي رضي الله عنه ، فزت ورب الكعبة ، لا يفوتنكم الكلب ) . ومثله نهاية الأرب ( 20 / 209 ) ونحوه الحاوي للماوردي ( 13 / 113 ) وأسد الغابة ( 4 / 38 ) والوافي للصفدي ( 18 / 173 )
    وسبل الهدى للصالحي ( 11 / 306 ) وإحياء علوم الدين للغزالي ( 15 / 157 ) وتاريخ الخميس ( 2 / 282 ) وتاريخ دمشق ( 42 / 561 ) ومقتل أمير المؤمنين لابن أبي الدنيا ( 1 / 40 ) والمحن للقيرواني / 25 والدلالات السمعية للخزاعي ( 1 / 277 ) .
    سرق أنس بن مالك مقولة علي ( عليه السلام ) !
    كانت علاقة أنس بن مالك بعلي ( عليه السلام ) سيئة من أيام النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، فقد روى عنه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ( 3 / 130 ) : ( قال أنس : كنت أخدم رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فقُدم لرسول الله فرخ مشوي فقال : اللهم إئتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير ، قال فقلت : اللهم اجعله رجلاً من الأنصار فجاء علي فقلت : إن رسول الله على حاجة ، ثم جاء فقلت : إن رسول الله على حاجة ، ثم جاء فقال رسول الله : إفتح فدخل فقال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : ما حبسك عليَّ ؟ فقال : إن هذه آخر ثلاث كرات يردني أنس يزعم أنك على حاجة ! فقال :
    ما حملك على ما صنعت ؟ فقلت : يا رسول الله سمعت دعاءك فأحببت أن يكون
    --------------------------- 338 ---------------------------
    رجلاً من قومي ! فقال ( ( عليهما السلام ) ) : إن الرجل قد يحب قومه ! قال محمد بن الحجاج : يا أنس كان هذا بمحضر منك ؟ قال : نعم . قال أعطي بالله عهداً أن لا أنتقص علياً بعد مقامي هذا ، ولا أعلم أحداً ينتقصه إلا أشنت له وجهه ) !
    لكن أنساً كذب مع الأسف ، ففي نهج البلاغة ( 4 / 74 ) : ( وقال ( عليه السلام ) : لأنس بن مالك وقد كان بعثه إلى طلحة والزبير لما جاءا إلى البصرة يذكرهما شيئاً سمعه من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في معناهما ! فلوى عن ذلك فرجع إليه ، فقال : إني أنسيت ذلك الأمر ! فقال ( عليه السلام ) : إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة ! يعني البرص ، فأصاب أنساً هذا الداء فيما بعد في وجهه ، فكان لا يرى إلا مبرقعاً ) !
    فقد أرسله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في البصرة إلى طلحة والزبير ليشهد لهما بأن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال إنهما سيقاتلان علياً وهما له ظالمان ! فذهب اليهما ورجع وكتم شهادته ولم يقلها لهما !
    ثم كذب أنس مرة أخرى ، لما ناشد علي ( عليه السلام ) الصحابة أن يشهدوا أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فشهد بضعة عشر صحابياً وسكت أنس ! فقال له علي ( عليه السلام ) ( حلية الأولياء : 5 / 26 ) : ( ما منعك أن تقوم ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، كبرت ونسيت ، فقال : اللهم إن كان كاذباً فاضربه ببلاء حسن ، قال : فما مات حتى رأينا بين عينيه نكتة بيضاء لا تواريها العمامة ) ! فزاد برص وجهه حتى صار يلبس البرقع ! وعاش طويلاً فقد مات سنة 93 ، وعمره نحو المئة سنة .
    ( الإصابة لابن حجر : 1 / 277 ) .
    وفي الفضائل لابن شاذان / 164 : ( عن سالم بن أبي جعدة قال : حضرت مجلس أنس بن مالك بالبصرة وهو يحدث ، فقام إليه رجل من القوم فقال : يا صاحب رسول الله ما هذه النمثة التي أراها بك ؟ فإني حدثني أبي عن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أنه قال : البرص والجذام لا يبلو الله تعالى به مؤمناً ؟ قال : فعند ذلك أطرق أنس بن مالك إلى الأرض وعيناه تذرفان بالدمع ، ثم قال : دعوة العبدالصالح علي بن أبي طالب نفذت فيَّ ! فعند ذلك قام الناس من حوله وقالوا : يا أنس حدثنا ما كان السبب ؟ فقال لهم : ألهوا عن هذا ) ! !
    ثم كذب أنس لمصلحة بني أمية مع الأسف ، وأفتى لهم بجواز تعذيب المسجون
    --------------------------- 339 ---------------------------
    لكي يعترف ! قال الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) ( علل الشرائع : 2 / 541 ) : ( إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط ! ومن ثم استحل الأمراء العذاب ) !
    أي زعم أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) حبس رجلاً فلم يعترف فدق المسامير في يديه إلى الحائط !
    وله كذبات لمصلحة أمه الغميصاء ، فقد زعم أنها تدخل الجنة قبل النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : دخلتُ الجنة فسمعت خَشْفة ( حركة ) فقلت من هذا ؟ قالوا هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك ) ( مسلم : 7 / 145 ، وأحمد : 3 / 99 ،
    و 106 ، و 125 ، والطبقات : 8 / 430 ، وفضائل الصحابة للنسائي / 85 !
    بل روى أنس أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) رأى أمه في الجنة مرتين ! ( فيض القدير : 3 / 690 ) .
    ثم كذب على النبي ( ( عليهما السلام ) ) هو وأمه مع الأسف ! فقد روى البخاري ( 3 / 201 ) وكرر ذلك مرات عن أنس ، قال : ( كان رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يدخل على أمه بنت ملحان فتطعمه ، فدخل عليها رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فأطعمته وجعلت تُفَلِّي رأسه ! فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك ! قالت : فقلت وما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عُرِضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة ، أو مثل الملوك على الأسرة ، شك إسحاق ، قالت فقلت : يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك ، فقلت : وما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله كما قال في الأول ، قالت : فقلت يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم . قال : أنت من الأولين ، فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت .
    وروى البخاري : 8 / 73 : ( قالت : نام النبي يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ) !
    أقول : سميت الغميصاء لمرض في عينيها ، وكانت أرملة وزعمت أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) كان يأتي إلى بيتها وينام على ركبتها ، فتقلي رأسه من القمل ! وكأنَّ رأس النبي ( ( عليهما السلام ) )
    فيه قمل كرؤوس رجالهم ! ونسبت له أنه نام في بيتها قربها وهي أجنبية ، وهذا
    --------------------------- 340 ---------------------------
    لا يفعله أي مسلم متشرع ! لكن الشراح قبلوا حديثها وتخبطوا في شرحه ، وزعموا أن فيه منقبة لها ومنقبة لمعاوية لأنه أول من غزا في البحر ، وقد فندنا كلامهم من أصله !
    ( راجع السيرة النبوية عند أهل البيت ؟ عهم ؟ ط . أولى ( 3 / 331 ) .
    وشاهدنا هنا كذبة أنس لمصلحة خاله ، فقد أعجبته مقولة علي ( عليه السلام ) عند شهادته : فزت ورب الكعبة ، فقال إن خاله حرام بن ملحان قالها لما قتله المشركون في بئر معونة ! في صحيح البخاري ( 3 / 204 و : 5 / 43 ) : ( عن أنس رضي الله عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين ، فلما قدموا قال لهم خالي : أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا كنتم مني قريباً ، فتقدم فأمنوه فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه ، فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة . ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا أعرج صعد الجبل قال همام فأراه آخر معه فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم فكنا نقرأ أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد ) !
    يقول أنس : إن خالي قالها وأخذها منه علي ! ونزلت في خالي وجماعته آية ، فكنا نقرؤها من القرآن ، ثم نسخت ! وفرح المبغضون لعلي ( عليه السلام ) ونشروا رواية أنس ، فصارت في مصادرهم لخاله ، واسمه حرام بن ملحان ! وقد روى شهادة خاله ( رحمه الله ) اليعقوبي ( 2 / 72 ) قال : ( وهو يقرأ كتاب رسول الله ، فطعنه بالرمح فقال : الله أكبر فزت بالجنة . واقتتل القوم قتالاً شديداً ) .
    فجعلها أنس : فزت ورب الكعبة ، مع أنه قسم يستعمله المكيون وليس الأنصار .
    حملوا الإمام ( ( ع ) ) إلى منزله معصوب الرأس
    قال ابن الأعثم ( 4 / 278 ) : ( وتسامع الناس بذلك وقالوا قُتل أمير المؤمنين ! ودنت الصلاة فقام الحسن بن علي فتقدم فصلى بالناس ركعتين خفيفتين ثم احتمل علي إلى صحن المسجد وأحدق الناس به ، فقالوا : من فعل هذا بك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا تعجلوا ، فإن الذي فعل بي هذا سيدخل عليكم الساعة من هذا الباب ، وأومأ بيده إلى
    --------------------------- 341 ---------------------------
    بعض الأبواب ، قال : فخرج رجل من عبد القيس في ذلك الباب فإذا هو بابن ملجم ، وقد سدت عليه المذاهب فليس يدري إلى أين يهرب ، فضرب العبدي بيده إليه ثم قال : ويحك لعلك ضارب أمير المؤمنين ، فأراد أن يقول لا ، فقال : نعم ، فكببه وأدخله المسجد ، فجعل الناس يلطمونه من كل ناحية حتى أقعدوه بين يدي علي ، فقال له : أخا مراد ! بئس الأمير كنت لك ؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين ، قال : ويحك ! ما حملك على أن فعلت ما فعلت وأيتمت أولادي من بعدي ! قال : فسكت المرادي ولم يقل شيئاً ! فقال علي ( عليه السلام ) : وَكَانَ أمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً . قال : ثم أمر به علي إلى السجن وقال : إحبسوه فنعم العون كان لنا على عدونا ! فإذا أنامت فاقتلوه كما قتلني ، قال فكان عليٌّ ( عليه السلام ) يتفقده ويقول لمن في منزله : أرسلتم إلى أسيركم طعاماً ؟ فجاؤوا الإمام بشراب من اللبن ، فقال : احملوا لابن ملجم مثله لأنه خائف ، فصاح الناس به : أيها اللعين ، لم قتلت الإمام ؟ فقال : ما أنا الذي قتلته ! ) .
    أقول : هذا هو الصحيح في كلام ابن ملجم ، وضعف موقفه وسكوته ، وبه يتضح كذب ما روي من صلابته وبطولته .
    وفي أمالي الطوسي / 365 : ( عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان معه آخر فوقعت ضربته على الحائط .
    وأما ابن ملجم فضربه فوقعت الضربة وهو ساجد على رأسه على الضربة التي كانت ، فخرج الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخذا ابن ملجم وأوثقاه ، واحتمل أمير المؤمنين ، فأدخل داره ، فقعدت لبابة عند رأسه ، وجلست أم كلثوم عند رجليه ، ففتح عينيه فنظر إليهما فقال : الرفيق الأعلى خير مستقراً وأحسن مقيلاً ، ضربة بضربة ، أو العفو إن كان ذلك ) .
    وفي البحار ( 42 / 291 ) : ( يا بني إني رأيت جدك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة ، فشكوت إليه ما أنا فيه من الأود واللدد من هذه الأمة ،
    فقال لي : أدع عليهم ، فقلت : اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم ، فقال لي : قد استجاب الله دعاك سينقلك إلينا بعد ثلاث ) .
    --------------------------- 342 ---------------------------
    ضجت الكوفة وارتفع صراخ الناس وبكاؤهم
    قال المجلسي في البحار ( 42 / 22 ) : ( فلما سمع الناس الضجة ثار إليه كل من كان في المسجد ، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون ، من شدة الصدمة والدهشة ، ثم أحاطوا بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يشد رأسه بمئزره ، والدم يجري على وجهه ولحيته ، وقد خضبت بدمائه وهو يقول : هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا .
    قال الراوي : فاصطفقت أبواب الجامع ، وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل ( عليه السلام ) بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ : تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله نجوم السما وأعلام التقى ، وانفصمت والله العروة الوثقى ! قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى ، قتل والله سيد الأوصيا ، قتله أشقى الأشقيا .
    وروي أن المنادي جبرئيل ( عليه السلام ) ، وروي أنه هتاف الخضر ، أو الملائكة ( عليهم السلام )
    قال : فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرئيل لطمت على وجهها وخدها وشقت جيبها وصاحت : وا أبتاه واعلياه وا محمداه واسيداه ! ثم أقبلت إلى أخويها الحسن والحسين فأيقظتهما وقالت لهما : لقد قتل أبوكما فقاما يبكيان ، فقال لها الحسن ( عليه السلام ) : يا أختاه كفي عن البكاء حتى نعرف صحة الخبر كيلا تشمت الأعداء ، فخرجا فإذا الناس ينوحون وينادون : واإماماه وا أميرالمؤمنيناه ، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم ، كان أشبه الناس برسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فلما سمع الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صرخات الناس ناديا : وا أبتاه وا علياه ، ليت الموت أعدمنا الحياة .
    قال : ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس ، حتى المخدرات خرجن من خدرهن إلى الجامع ينظرن إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره ، وقد غسل الدم عنه وشد الضربة وهي تشخب دماً ، ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة ، وهو يرمق السماء بطرفه ، ولسانه يسبح الله ويوحده ، وهو يقول : أسألك يا رب الرفيع الأعلى . فأخذ الحسن ( عليه السلام ) رأسه في حجره فوجده
    --------------------------- 343 ---------------------------
    مغشياً عليه ، فعندها بكى بكاء شديداً ، وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده ،
    فسقط من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ففتح عينيه فرآه باكياً ، فقال له : يا بني يا حسن ما هذا البكاء ؟ يا بني لاروع على أبيك بعد اليوم ، هذا جدك محمد المصطفى ( عليه السلام ) وخديجة وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك ، فطب نفساً وقَرَّ عيناً ، واكفف عن البكاء ، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء !
    يا بني أتجزع على أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً ، ويقتل أخوك بالسيف هكذا ، وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما ) !
    جاؤوا بكبير الأطباء ففحص جرح أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1126 ) وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 23 ، والحموي في معجم البلدان ( 1 / 93 ) : ( جُمع الأطباء لعلي ( عليه السلام ) يوم جرح ، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمرو السكوني ، وكان يقال له أثير بن عَمْرِيَّا ، وكان صاحب كسرى ، يتطبب ، وهو الَّذي تنسب إليه صحراء أثير ، فأخذ أثير رئة شاة حارة فتتبع عرقاً منها ، فاستخرجه فأدخله في جراحة علي ( عليه السلام ) ثم نفخ العرق فاستخرجه ، فإذا عليه بياض الدماغ ، وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اعهد عهدك فإنك ميت ، فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك ، فدعا عليٌّ ( عليه السلام ) عند ذلك بصحيفة ودواة وكتب وصيته ) .
    وفي الأنوار العلوية للنقدي / 332 : ( قال حبيب بن عمرو : دخلت على سيدي ومولاي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعنده الأشراف من القبائل وشرطة الخميس ، وما منهم أحد إلا وماء عينيه يترقرق على سوادها حزناً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ورأيت الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن معهما من الهاشميين ، وما تنفس منهم أحدٌ إلا وظننت أن شظايا قلبه تخرج مع نفسه ، وقد أرسلوا خلف أثير بن عمرو الجراح ، وكان يعالج الجراحات الصعبة ، فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دعا برئة
    --------------------------- 344 ---------------------------
    شاة حارة ، فاستخرج منها عرقاً وأدخله في الجرح ، ثم نفخه ثم استخرجه ، وإذا عليه بياض الدماغ ! فقال الناس : يا أثيركيف جرح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فخرس أثير عن جوابهم وتلجلج !
    ثم قال : يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك ! فدعا علي ( عليه السلام ) عند ذلك بدواة وصحيفة ، وكتب وصيته :
    هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، صلوات الله وبركاته عليه ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين .
    أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي هذا ، بتقوى الله ربنا وربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، فإني سمعت رسول الله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ، وإن المبيرة حالقة الدين : إفساد ذات البين ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . أنظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوها ، يهوِّن الله عليكم الحساب . واللهَ اللهَ في الأيتام ، فلا تَغَيَّرَنَّ أفواهُهم بجفوتكم .
    والله الله في جيرانكم ، فإنها وصية نبيكم ( ( عليهما السلام ) ) ، فما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم الله . والله الله في القرآن ، فلايسبقنكم بالعمل به غيركم .
    والله الله في الصلاة ، فإنها عماد دينكم . والله الله في صيام شهر رمضان ، فإنه جنة من النار . والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم . والله الله في زكاة أموالكم ، فإنها تُطفئ غضب ربكم . والله الله في أهل بيت نبيكم ، فلا يُظلمُنَّ بين أظهركم الخ .
    وكانت هذه وصيته العامة صلوات الله عليه ، فعند ذلك يئس الناس من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقام لهم بكاء وعويل فسكتهم الحسن ( عليه السلام ) لكيلا تهيج النساء ، فسكتوا وصاروا ينشجون نشيجاً خفيفاً ) .
    --------------------------- 345 ---------------------------
    وصف محمد بن الحنفية احتضار أمير المؤمنين ( ( ع ) ) وشهادته
    روى المجلسي ( رحمه الله ) في البحار ( 42 / 259 ) قصة شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) برواية مفصلة ، من نسخة قديمة عن علي بن محمد البكري ، عن أبي مخنف لوط بن يحيى ، عن أشياخه وأسلافه قالوا . . . وأكثر مضامينها معقولة ، وردت في المصادر ، وهي تنفرد ببعض التفصيلات المهمة ، ولذا أوردنا روايتها :
    قال محمد بن الحنفية ( البحار : 42 / 290 ) : ( بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم إلى قدميه ، وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ، ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه ، ويخبرنا بأمره وتبيانه إلى حين طلوع الفجر ، فلما أصبح استأذن الناس عليه ، فأذن لهم بالدخول ، فدخلوا عليه وأقبلوا يسلمون عليه وهو يرد عليهم السلام ، ثم قال : أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني ، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم ، قال فبكى الناس عند ذلك بكاءً شديداً ، وأشفقوا أن يسألوه ، فقام إليه حجر بن عدي وقال :
    فيا أسفي على المولى التقي * أبوالأطهار حيدرة الزكي
    قتيلاً قد غدى بحسام نغلٍ * لعينٍ فاسقٍ رجسٍ شقيِّ
    فلما بصر به وسمع شعره قال له : كيف لي بك إذا دعيت إلى البراءة مني ، فما عساك أن تقول ؟ فقال : والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً وأضرمت لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك ، فقال : وفقت لكل خير يا حجر ، جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيك .
    ثم قال : هل من شربة من لبن ؟ فأتوه بلبن في قعب ، فأخذه وشربه كله ، فذكر الملعون ابن ملجم وأنه لم يخلف له شيئاً ، فقال ( عليه السلام ) : وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُوراً ، اعلموا أني شربت الجميع ولم أبق لأسيركم شيئاً من هذا ، ألا وإنه آخر رزقي من الدنيا ، فبالله عليك يا بني إلا ما أسقيته مثل ما شربت ، فحمل إليه ذلك فشربه .
    قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه : لما كانت ليلة إحدى وعشرين وأظلم الليل وهي الليلة الثانية من الكائنة ، جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ،
    --------------------------- 346 ---------------------------
    ثم قال لهم : الله خليفتي عليكم وهو حسبي ونعم الوكيل ، وأوصاهم الجميع منهم بلزوم الإيمان والأحكام التي أوصاه بها رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) .
    قال : ثم تزايد ولوج السم في جسده الشريف ، حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرَّتا جميعاً ، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه ، ثم أصبح ثقيلاً ، فدخل الناس عليه ، فأمرهم ونهاهم وأوصاهم ، ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب ، فنظرنا إلى شفتيه وهما يختلجان بذكر الله تعالى ، وجعل جبينه يرشح عرقاً وهو يمسحه بيده . فقال له الحسن : يا أبت أراك تمسح جبينك ؟ فقال : يا بني إني سمعت جدك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه ، وصار كاللؤلؤ الرطب ، وسكن أنينه ، ثم قال : يا أبا عبد الله ويا عون ، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم صغيراً وكبيراً واحداً بعد واحد ، وجعل يودعهم ويقول : الله خليفتي عليكم ، أستودعكم الله وهم يبكون .
    فقال له الحسن ( عليه السلام ) : يا أبه ما دعاك إلى هذا ؟ فقال له : يا بني إني رأيت جدك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة ، فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة ، فقال لي : أدع عليهم ، فقلت : اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم ، فقال لي : قد استجاب الله دعاك سينقلك إلينا بعد ثلاث ، وقد مضت الثلاث ، يا أبا محمد أوصيك ويا أبا عبد الله خيراً ، فأنتما مني وأنا منكما ، ثم التفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة ( عليها السلام ) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أحسن الله لكم العزاء ، ألا وإني منصرف عنكم ، وراحل في ليلتي هذه ، ولاحق بحبيبي محمد ( ( عليهما السلام ) ) كما وعدني . فإذا أنامت يا أبا محمد فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فإنه من كافور الجنة جاء به جبرئيل ( عليه السلام ) إليه ، ثم ضعني على سريري ، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير ، واحملوا مؤخره واتبعوا مقدمه ، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر ، فحيث قام سريري فهو موضع قبري ، ثم تقدم يا أبا محمد وصل علي وكبر علي سبعاً ، واعلم أنه لا يحل ذلك على أحد غيري إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه القائم المهدي ، من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق ، فإذا أنت صليت علي يا حسن فنح السرير
    --------------------------- 347 ---------------------------
    عن موضعه ، ثم اكشف التراب عنه فترى قبراً محفوراً ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة ، فأضجعني فيها ، فإذا أردت الخروج من قبري فافتقدني فإنك لا تجدني ، وإني لاحق بجدك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، واعلم يا بني ما من نبي يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما ، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره ، ثم أشرج اللحد باللبن وأهلَّ التراب عليَّ ثم غيِّب قبري .
    ثم أغمي عليه ساعة ، وأفاق وقال : هذا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وكلهم يقولون : عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون ، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : أستودعكم الله جميعاً ، سددكم الله جميعاً حفظكم الله جميعاً ، خليفتي عليكم الله وكفى بالله خليفة . ثم قال : وعليكم السلام يا رسل ربي . ثم قال : لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ . إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . وعرق جبينه وهو يذكر الله كثيراً ، وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهد الشهادتين ، ثم استقبل القبلة وغمض عينيه ومد رجليه ويديه وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثم قضى نحبه ( عليه السلام )
    قال : فعند ذلك صرخت زينب بنت علي ( عليه السلام ) وأم كلثوم وجميع نسائه ،
    وقد شقوا الجيوب ولطموا الخدود ، وارتفعت الصيحة في القصر ، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد قبض ، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجا أفواجاً ، وصاحوا صيحة عظيمة ، فارتجت الكوفة بأهلها وكثر البكاء والنحيب ، وكثرالضجيج بالكوفة وقبائلها ودورها وجميع أقطارها ، فكان ذلك كيوم مات فيه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) .
    فلما أظلم الليل تغير أفق السماء وارتجت الأرض وجميع من عليها ، وكنا نسمع جلبة وتسبيحاً في الهواء ، فعلمنا أنها من أصوات الملائكة فلم يزل كذلك إلى أن طلع الفجر ) .
    --------------------------- 348 ---------------------------
    ضُرب أمير المؤمنين ( ( ع ) ) ليلة 19 ، واستشهد ليلة 21 رمضان
    روى القاضي النعمان في شرح الأخبار ( 2 / 446 ) : ( عن الأصبغ بن نباتة ، قال : لما ضرب علي ( عليه السلام ) الضربة التي مات فيها ، كنا عنده ليلاً فأغمي عليه فأفاق فنظر إلينا ، فقال : ما يجلسكم ؟ فقلنا : حبك يا أمير المؤمنين . فقال : أما والذي أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود والفرقان على محمد رسول الله ( ( عليهما السلام ) )
    لا يحبني عبدإلا رآني حيث يسرُّه ، ولا يبغضني عبدإلا رآني حيث يكرهه .
    إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أخبرني أني أضرب في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان في الليلة التي مات فيها موسى ( عليه السلام ) ، وأموت في ليلة إحدى وعشرين تمضي من شهر رمضان ، في الليلة التي رفع فيها عيسى ( عليه السلام ) . قال الأصبغ : فمات والذي لا إله إلا هو ، فيها ) .
    قال الحسين بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) في عيون المعجزات / 42 : ( وروي أن الناس اجتمعوا حوله ، وأن أم كلثوم صاحت : وا أبتاه فقال عمرو بن الحمق : ليس على أمير المؤمنين باس ، إنما هو خدش ! فقال ( عليه السلام ) : إني مفارقكم .
    وروي أن أم كلثوم بكت فقال لها : يا بنية ما يبكيك ؟ لو تري ما أرى ما بكيت ! إن ملائكة السماوات السبع لمواكب بعضهم خلف بعض ، وكذلك النبيون ( عليهم السلام ) أراهم . وهذا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) آخذ بيدي يقول : انطلق يا علي ، فإن أمامك خير لك مما أنت فيه . ثم قال ( عليه السلام ) : دعوني وأهل بيتي أعهد إليهم فقام الناس إلا قليل من شيعته فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( ( عليهما السلام ) ) وقال : إني أوصي الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا أمرهما ، فقد كان النبي ( ( عليهما السلام ) ) نص عليهما بالإمامة من بعدي .
    وروي أنه ( عليه السلام ) لما اجتمع عليه الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال : كل امرئ ملاقٍ ما يفر منه ، والأجل تساق إليه النفس ! هيهات هيهات ! علم مكنون وسر خفي ! أما وصيتي لكم فالله تعالى لا تشركوا به شيئاً ، ولاتضيعوا سنة نبيه محمد ( ( عليهما السلام ) ) . أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم ما لم تشركوا . رب رحيم ودين قيم ، عليكم السلام إلى يوم اللزام .
    كنت بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عظة لكم ، وغداً مفارقكم .
    --------------------------- 349 ---------------------------
    ثم أوصى إلى الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسلم الاسم الأعظم ونورالحكمة ومواريث الأنبياء ( عليهم السلام ) وسلاحهم إليهما ) .
    الأصبغ بن نباتة يفوز بحديث من أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    في أمالي المفيد / 351 ، وأمالي الطوسي / 122 : ( عن الأصبغ بن نباتة العبدي قال : لما ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) غدونا عليه نفر من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة ، وجماعة معنا فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء فبكينا فخرج إلينا الحسن بن علي فقال : يقول لكم أمير المؤمنين : انصرفوا إلى منازلكم ، فانصرف القوم غيري ، واشتد البكاء من منزله فبكيت ، فخرج الحسن ( عليه السلام ) فقال : ألم أقل لكم انصرفوا ! فقلت : لا والله يا ابن رسول الله ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه . قال : فتلبث فدخل ولم يلبث أن خرج فقال لي : أدخل ، فدخلت على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء ، قد نزف واصفر وجهه ، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة ، فأكببت عليه فقبلته وبكيت ، فقال لي : لا تبك يا أصبغ فإنها والله الجنة ، فقلت له : جعلت فداك إني أعلم والله أنك تصير إلى الجنة وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين ، جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فإني أراني لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً ! فقال : نعم يا أصبغ ، دعاني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يوماً فقال لي : يا علي انطلق حتى تأتي مسجدي ثم تصعد على منبري ثم تدعو الناس إليك فتحمد الله عز وجل وتثني عليه وتصلي علي صلاة كثيرة ، ثم تقول : أيها الناس إني رسول رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) إليكم وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ، ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره !
    فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) صلاة كثيرة
    --------------------------- 350 ---------------------------
    ثم قلت : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره !
    قال : فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ولكنك جئت بكلام غير مفسر ، فقلت : أُبلغ ذلك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فرجعت إلى النبي فأخبرته الخبر فقال : إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري فاحمد الله واثن عليه وصل عليَّ ثم قل : أيها الناس ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ، ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم ) .
    أقول : أراد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بحديثه مع الأصبغ ، أن يركز في الأذهان ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأن النبي ( ( عليهما السلام ) ) لعن من لم يطعه فيهم !
    مراسم تغسيل الإمام ( ( ع ) ) وتكفينه
    في تهذيب الأحكام ( 6 / 107 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لما أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال للحسن والحسين صلوات الله عليهما : غسلاني وكفناني وحنطاني واحملاني على سريري ، واحملا مؤخره تكفيان مقدمه ، فإنكما تنتهيان إلى قبر محفور ولحد ملحود ولبن موضوع فألحداني وأشرجا اللبن عليَّ ، وارفعا لبنة مما يلي رأسي فانظرا ما تسمعان ، فأخذا اللبنة من عند الرأس بعد ما أشرجا عليه اللبن ، فإذا ليس في القبر شئ ، وإذا هاتف يهتف : أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان عبداً صالحاً فالحقه الله بنبيه ، وكذلك يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء ( عليهم السلام ) ، حتى لو أن نبياً مات في المشرق ومات وصيه في المغرب لألحق الله الوصي بالنبي ) .
    وفي البحار ( 42 / 461 و 294 ) : ( قال محمد بن الحنفية : أخذنا في جهازه ليلاً ، وكان الحسن يغسله والحسين يصبُّ الماء ، وكان جسده يتقلب كما يريد الغاسل يميناً وشمالاً ، وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك والعنبر .
    ثم نادى الحسن ( عليه السلام ) أخته زينب وقال : يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فأتته به ، فلما فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة وشوارعها من رائحة
    --------------------------- 351 ---------------------------
    طيبه ، ثم لفُّوه بخمسة أثواب كما أمر . ثم وضعوه على السرير ، وتقدم الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورفعا السريرمن مؤخره ، وإذا مقدمه قد ارتفع ولا يُرى حامله ، وكان حاملاه من مقدمه جبرئيل وميكائيل ! والله لقد نظرت إلى السرير وإنه ليمر بالحيطان والنخل فتنحني له خشوعاً !
    فلما انتهينا إلى قبره وإذا مقدم السرير قد وُضع ، فوضع الحسن ( عليه السلام ) مؤخره ، وصلى عليه والجماعة خلفه ، فكبر سبعاً كما أمر به أبوه ثم زحزحنا سريره وكشفنا التراب فإذا نحن بقبرمحفور ولحد مشقوق وساجة منقورة ، مكتوب عليها : هذا ما ادخره نوح النبي للعبدالطاهر المطهرعلي بن أبي طالب . فلما أرادوا نزوله سمعوا هاتفاً يقول : أنزلوه إلى التربة الطاهرة ، فقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه ، فدهش الناس عند ذلك وألحد أمير المؤمنين عند طلوع الفجر ، فدفناه فيها وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ) .
    أقول : لا تنافي بين الحنوط الذي أعطاه النبي ( ( عليهما السلام ) ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبين أن يأتي جبرئيل يومها بحنوط وكفن وغير ذلك مما يحتاج اليه في مراسم الدفن .
    أعد نبي الله نوح قبرعلي ؟ عهما ؟ تكريماً له
    1 . في هامش الغارات ( 2 / 845 ) : ( اشترى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة . وفي رواية أخرى : ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم وأشهد على شرائه ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : كوفان يرد أولها على آخرها ، يحشرمن ظهرها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، فاشتهيت أن يحشروا من ملكي !
    2 . وعن أم كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) : فأخذ الحسن ( عليه السلام ) المعول فضرب ضربة فانشق القبر عن ضريح فإذا هو بساجة مكتوب عليها بالسريانية : هذا قبر قبره نوح النبي ( عليه السلام ) لعلي وصي محمد ( ( عليهما السلام ) ) . قالت : فانشق القبر فلا أدري اندس أبي في القبر أم أسري به إلى السماء ، وسمعت ناطقاً يقول : أحسن الله لكم العزاء في سيدكم وحجة الله على خلقه ) . والتهذيب ( 6 / 106 ) ومزارالمفيد / 222 .
    --------------------------- 352 ---------------------------
    من الكوفة إلى السهلة مشياً ثم على الناقة إلى النجف
    1 . قال في عيون المعجزات / 42 : ( وروي أنه قال لهما ( عليهم السلام ) : إذا فرغتما من أمري تناولامؤخرالجنازة فإن مقدمهايُحمل ، فإذا وقفت الجنازة وبرك الجمل إحفروا في ذلك الموضع ، فإنكما تجدان خشبة محفورة كان نوح ( عليه السلام ) حفرها لي فادفناني فيها . قال : ولما فرغا من شأنه تناولا مؤخر الجنازة وحمل مقدمها كما قال ( عليه السلام ) ، وحملاها إلى مسجد الكوفة المعروفة بالسهلة ، ووجدوا ناقة باركة هناك فحمل عليها وتبعوها إلى الغري ، فوقفت الناقة هناك ثم بركت وحكت بمشفرها الأرض ، فحفرا في ذلك المكان ، فوجدت خشبة محفورة كالتابوت ، فدفن فيها حيثما أوصى ( عليه السلام ) وبأنه يدفن بالغري حيث تبرك الناقة ، فإنه دفن فيه آدم ونوح ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففعلوا . وإن آدم ونوح وأميرالمؤمنين ( عليهم السلام ) دفنوا في قبر واحد ) .
    2 . وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 171 ) : ( سأل ابن مسكان الصادق ( عليه السلام ) عن القائم المايل في طريق الغري ؟ فقال : نعم إنهم لما جاؤوا بسرير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) انحنى أسفاً وحزناً على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
    وفي المنارة إذ حنّت عليك فما * لت آية حار منها كلّ معتجب
    كما روى عن الغزالي ، قال : ذهب الناس إلى أن علياً دفن على النجف ، وأنهم حملوه على الناقة فسارت حتى انتهت إلى موضع قبره فبركت ، فجهدوا أن تنهض فلم تنهض فدفنوه فيه . وأظلت الناس غمامة بيضاء وطيور بيض فلما دفن ذهبت الغمامة والطيور ) .
    ملاحظة
    تدل هذه الروايات على أنهم أخذوا جنازة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مشياً إلى السهلة أولاً ، وقد رفع مقدمة السرير جبرئيل وميكائيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانت السهلة أو مسجد سهيل مكاناً مقدساً ومصلى ، ولا تقل قداستها عن مسجد الكوفة إن لم تزد ، ولعلها كانت مسجد الكوفة الأول ، وقد يكونوا صلوا على جثمان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هناك ، ثم حملوا جثمانه الطاهر على ناقة أرسلها الله تعالى ، ومشوا خلفها فقصدت النجف وأناخت ، فحفروا ووجدوا القبر
    --------------------------- 353 ---------------------------
    الذي أعده له جده نبي الله نوح ( عليه السلام ) . والمسافة بين الكوفة والنجف تسعة كيلومتر ، وتحتاج إلى ساعة ونصف مشياً ، وكنا نقطعها مسرعين في نحو ساعة ، ولعلهم ركبوا الخيل خلف الناقة .
    فيكون برنامج تلك الليلة أن الإمام ( عليه السلام ) توفي في أوائل الليل ، فهرع الناس يعزون وجاء الخضر ( عليه السلام ) وعزى بالإمام ( عليه السلام ) ، ثم أمروا الناس بالانصراف ، فانصرفوا وهم يظنون أن مراسم الدفن ستكون في اليوم التالي .
    وقام الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعهما خاصةالإمام ( عليه السلام ) بمراسم تغسيله وتكفينه ، وحملوه إلى مسجد السهلة ، ثم إلى النجف ، ودفنوا الجثمان الطاهر ورجعوا إلى الكوفة قبل الفجر ، وصلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) بالناس صلاة الفجر وخطب وعزاهم ، وأخبرهم بأن مراسم دفن الإمام ( عليه السلام ) تمت حسب وصيته ، فتقبلوا دفنه ليلاً وإخفاءقبره بسبب الظروف الخاصة ، وعزوا الإمام الحسن ( عليه السلام ) وبايعوه .
    المكانة العظيمة لمسجد الكوفة ومسجد السهلة
    وردت في فضل السهلة ومحيطه روايات صحيحة في مكانته العظيمة وعراقته ، ففي كامل الزيارات / 30 ، والتهذيب ( 6 / 31 ) عن أبي بكر الحضرمي عن الباقر ( عليه السلام ) : قلت له : أيُّ بقاع الأرض أفضل بعد حرم الله عز وجل وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ؟ فقال : الكوفة يا أبا بكر ، هي الزكية الطاهرة ، فيها قبورالنبيين المرسلين وقبور غيرالمرسلين والأوصياء الصادقين ( عليهم السلام ) وفيها مسجد سهيل الذي لم يبعث الله نبياً إلا وقد صلى فيه ، ومنها يظهر عدل الله ، وفيها يكون قائمه والقوام من بعده ، وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين ) .
    وفي الكافي ( 3 / 494 ) أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال في خبر عمه زيد ( عليه السلام ) : ( أما والله لو أعاذ الله به حولاً لأعاذه . أما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي ( عليه السلام ) والذي كان يخيط فيه ، ومنه سار إبراهيم ( عليه السلام ) إلى اليمن بالعمالقة ، ومنه سار داود إلى جالوت ، وإن فيه لصخرة خضراء فيها مثال كل نبي . ومن تحت تلك الصخرة أخذت طينة كل نبي ، وإنه لمناخ الراكب . قيل : ومن الراكب ؟ قال : الخضر ( عليه السلام ) .
    --------------------------- 354 ---------------------------
    وفي رواية : لو أن عمي زيداً أتاه فصلى فيه واستجار الله لأجاره عشرين سنة ، فيه مناخ الراكب وبيت إدريس النبي ( عليه السلام ) وما أتاه مكروب قط فصلى فيه بين العشائين ودعا الله إلا فرج الله كربته . وروي أن مسجد السهلة حده إلى الروحاء )
    وفي مزار المشهدي / 132 : ( قال علي بن الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من صلى في مسجد السهلة ركعتين زاد الله في عمره سنين ) وفي نسخة سنتين .
    وورد في مسجد الكوفة
    في كامل الزيارات / 70 : ( عن أبي حمزة الثمالي ، أن علي بن الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتى مسجد الكوفة عمداً من المدينة ، فصلى فيه ركعتين ، ثم جاء حتى ركب راحلته وأخذ الطريق وقال ( عليه السلام ) : لا تدع يا أبا عبيدة الصلاة في مسجد الكوفة ولو أتيته حبواً ، فإن الصلاة فيه بسبعين صلاة في غيره من المساجد .
    عن خالد القلانسي قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : الصلاة في مسجد الكوفة بألف صلاة ) .
    وفي تهذيب الأحكام ( 3 / 250 ) : ( أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سأل هارون بن خارجة : كم بينك وبين مسجد الكوفة ؟ يكون ميلاً ؟ قلت : لا : قال : أفتصلي فيه الصلوات كلها ؟ قلت : لا . فقال : أما لو كنت حاضراً بحضرته لرجوت أن لا تفوتني فيه صلاة ، وتدري ما فضل ذلك الموضع ؟ ما من عبدصالح ولا نبي إلا وقد صلى في مسجدكم ، حتى أن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لما أسرى الله به قال له جبرئيل ( عليه السلام ) : أتدري أين أنت يا رسول الله الساعة ؟ أنت مقابل مسجد كوفان قال : فأستأذن لي ربي عز وجل حتى آتيه فأصلي فيه ركعتين ، فاستأذن الله عز وجل فأذن له ، وإن ميمنته لروضة من رياض الجنة ، وان وسطه لروضة من رياض الجنة وان مؤخره لروضة من رياض الجنة ، وان الصلاة المكتوبة فيه لتعدل بألف صلاة وان النافلة فيه لتعدل بخمس مائة صلاة ، وان الجلوس فيه بغير تلاوة ولاذكر لعبادة ولو علم الناس ما فيه لاتوه ولو حبواً )
    وفي الفقيه ( 1 / 231 ) أن جبرئيل قال للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : ( يا محمد هذه كوفان وهذا مسجدها ، أما إني قد رأيتها عشرين مرة خراباً ، وعشرين مرة عمراناً بين كل مرتين خمس مائة سنة » !
    --------------------------- 355 ---------------------------
    وفي قرب الإسناد / 180 : ( محمد بن خالد الطيالسي ، عن العلاء بن رزين قال : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : نصلي في المسجد الذي عندكم الذي تسمونه مسجد السهلة ، ونحن نسميه مسجد الشرى ؟ قلت : إني لأصلي فيه ، جعلت فداك . قال : إئته ، فإنه لم يأته مكروب إلا فرج الله كربته ، أو قال : قضى حاجته . وفيه زبرجدة فيها صورة كل نبي وكل وصي ) .
    وفي كشف الغطاء ( 3 / 77 ) : ( وما من مكروب أتاه وصلَّى فيه ركعتين بين العشاءين ، ودعا اللَّه عز وجل إلا فرج الله كربته . وقد استجرتُ به في سنة الطاعون مع ما يقرب من أربعين شخصاً على الظاهر ، وقد أفنى الخلق ، ثم بعد انقضائه ما فقد منهم أحد على الظاهر )
    أقول : أكثر هذه الأحاديث الشريفة صحيح السند ، وقد تضمنت حقائق ملفتة لا يتسع المجال لشرحها ، ونشير إلى أن الزمردة التي عليها صور جميع الأنبياء وأوصيائهم ( عليهم السلام ) ، وهم مئتان وثمانية وأربعون ألفاً ، لا بد أن تكون من نوع الحاسب في عصرنا ، لكي تسعهم .
    وغرضنا هنا أن الكوفة ثالث الحرمين مكة والمدينة ، وأهم ما فيها مسجد سهيل ومسجد الكوفة ، ويفهم من الروايات أن لكل منهما خصائص فمسجد الكوفة لصلاة الفريضة ، ومسجد السهلة للدعاء بالحاجات ، ودفع البلاء ، وطول العمر ، وزيارة الإمام المهدي صلوات الله عليه الذي يسكن في منطقته .
    كما أن الرواية التي جعلت حده الروحاء تعني الحيرة . قال الحموي في معجم البلدان ( 2 / 328 ) : ( ويقال لها الحيرة الروحاء ، قال عاصم بن عمرو :
    صبحنا الحيرة الروحاء خيلاً * ورجلا فوق أثباج الركاب )
    ربوة النجف قطعة من طور سيناء !
    في تهذيب الأحكام ( 6 / 34 ) عن أبي جعفر ( عليه السلام ) في حديث حدث به أنه كان في وصية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أخرجوني إلى الظهر فإذا تصوبت أقدامكم واستقبلتكم ريح فادفنوني وهو أول طور سيناء ، ففعلوا ذلك ) .
    --------------------------- 356 ---------------------------
    وقال في جواهر الكلام ( 20 / 89 ) : ( ودفن ( عليه السلام ) بالغري من نجف الكوفة بمشهده الآن ، الذي هو أول طور سيناء ، وقطعة من الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليماً ، وقدس عليه عيسى تقديساً ، واتخذ عليه إبراهيم خليلاً ، واتخذ محمداً ( ( عليهما السلام ) ) حبيباً ، وجعله للنبيين مسكناً ، وأنه ما سكن فيه بعد أبويه الطيبين آدم ونوح أكرم من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقبره ما بين صدر نوح ومفرق رأسه ، ومن زاره عارفاً بحقه غير متجبر ولا متكبر ، كتب الله له أجر مائة ألف شهيد ، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبعث من الآمنين ، وهون عليه الحساب ، واستقبله الملائكة ، فإذا انصرف شيعوه إلى منزله ، فإن مرض عادوه ، وإن مات شيعوه بالاستغفار إلى قبره ، ومن زاره عارفاً بحقه كتب الله له بكل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة ، وأنه ما تطعم النار قدماً تغبرت في زيارته ماشياً كان أو راكباً .
    وقال يونس بن أبي وهب القصري : دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله ( عليه السلام ) فقلت له : أتيتك ولم أزر قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : بئسما صنعت ، لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك ، ألا تزور من يزوره الله تعالى مع الملائكة ، وتزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون ! قلت : جعلت فداك ما علمت ذلك ، قال : فاعلم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عند الله تعالى أفضل من الأئمة كلهم ، وله ثواب أعمالهم ، وعلى قدر أعمالهم فضلوا . . الحديث .
    ومنه يستفاد كراهة ترك زيارته لمن تمكن منها . وقال الصادق ( عليه السلام ) : ما خلق الله خلقاً أكثر من الملائكة ، وأنه لينزل كل يوم سبعون ألف ملك ، ويأتون البيت المعمور فيطوفون به ، فإذا هم طافوا نزلوا فطافوا بالكعبة ، فإذا طافوا بها أتوا قبر النبي ( ( عليهما السلام ) ) فسلموا عليه ثم أتوا قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فسلموا عليه ثم أتوا قبرالحسين ( عليه السلام ) فسلموا عليه ثم عرجوا ، وينزل مثلهم إلى يوم القيامة . . الحديث !
    وقال ( عليه السلام ) : لايلوذ بقبره ذو عاهة إلا شفاه الله ، وما أتاه مكروب قط فصلى عنده ركعتين أو ركعات إلا نفس الله كربه وقضى حاجته . وإن أبواب السماء لتفتح عند دعاء الزائر لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فلا تكن عن الخير نواماً )
    --------------------------- 357 ---------------------------
    النبي أوالوصي ؟ عهم ؟ له وجود متعدد
    يتعجب البعض من اعتقادنا بحضورالنبي ( ( عليهما السلام ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) عند المؤمن في احتضاره ، أو في قبره فيقولون : كيف إذا تعدد المحتضرون في وقت واحد ؟
    فهم يقيسون نشأة البرزخ والملأ الأعلى على نشأتنا هذه ، مع أن لكل نشأة قوانينها ، بل إن وجود المعصومين ( عليهم السلام ) في هذه النشأة له قوانين غير قوانين وجودنا نحن وقد قرَّب تطور العلم فَهْم هذا الأمر ، فصار بإمكانك إقناع المخاطب بأن صفحة النت يشاهدها ملايين الناس في وقت واحد ، فلماذا تنكر حضور النبي والأئمة ( عليهم السلام ) عند الملايين ، في وقت واحد .
    قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) ( كمال الدين : 2 / 390 ) : ( إن الخضرشرب من ماء الحياة فهو حيٌّ لا يموت حتى ينفخ في الصور ، وإنه ليأتينا فيسلم فنسمع صوته ولا نرى شخصه . وإنه ليحضرما ذكر ، فمن ذكره منكم فليسلم عليه . وإنه ليحضرالموسم كل سنة فيقضي جميع المناسك ، ويقف بعرفة فيؤمن على دعاء المؤمنين . وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ، ويصل به وحدته ) .
    وقال الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ( الخرائج : 3 / 1174 ) : ( لأحمد بن إسحاق ، وقد أتاه ليسأله عن الخلف بعده ، فقال مبتدئاً : مَثَله مثلُ الخضر ، ومَثَلُهُ مَثَل ذي القرنين . إن الخضر شرب من ماء الحياة ، فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور ، وإنه ليحضر الموسم كل سنة ، ويقف بعرفة ، فيؤمن على دعاء المؤمنين ، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ، ويصل به وحدته .
    فله البقاء في الدنيا ، مع الغيبة عن الأبصار ) .
    أقول : فهذان حديثان صحيحان ينصان على حياة الخضر ( عليه السلام ) ، وينص أولهما على تعدد وجوده ، ولا يضربمقامه هذا القول بأنه ( عليه السلام ) ليس نبياً ، فقد جعله الله أستاذاً لموسى وهو من أولي العزم ( عليهم السلام ) ! فلا عجب أن يتعدد وجوده بقدرة الله تعالى .
    --------------------------- 358 ---------------------------
    كل وصي يذهب من قبره بجسده وروحه إلى نبيه ؟ عهما ؟
    روى ابن حاتم في الدر النظيم / 420 : ( عن المفضل بن عمر : قال أبو عبد الله ( الصادق ( عليه السلام ) ) : إنه لما كانت الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال لابنيه الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إني مفارقكم في ليلتي هذه ، فإذا أنا متُّ فخُطا ( إحفظا ) موضع فراشي من الأرض ، ثم احملاني وغسلاني مع من يعينكما على غسلي ، وكفناني وحنطاني ، وضعاني على السرير ، وخذا المؤخر واتبعا مقدمه ، حتى تأتيا به موضع الخطة ، فاحفرا لي قعرالأرض فإنه ستبدو لكما خشبة من ساج محفورة ، حفرها لي أبي نوح ( عليه السلام ) ، فضعاني فيها وأطبقا عليَّ اللبن وتمهلا علي قليلاً ، ثم خذا اللبن فإنه سيبين لكما أمري !
    قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ففعلا ذلك ، فلما حفرا موضع الخطة بدت لهما خشبة من ساج محفورة فوضعاه فيها ، ثم أطبقا عليه اللبن وتمهلا قليلاً وأخذا اللبن ، فلم يريا شيئاً ، فهتف بهما هاتف : إن الله تعالى قد رفع وليه إلى نبيه قال : فبكى الحسين ( عليه السلام ) ثم قال : أشهد والله لقد سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : لو أن نبياً توفي بالمشرق وتوفي وصيه بالمغرب ، لحمل الله ذلك الوصي إلى ذلك النبي ) .
    أقول : يظهر أن سفر الوصي إلى نبيه بعد موته ضروري لإعطائه مقامه ومنزلته في الآخرة . ثم يعيدون جسمه وروحه إلى قبره ، ثم يصعد إلى الجنة ويبقى في قبره أيضاً ، بل يكون وجوده الأصلي في الجنة ، وله حضور كامل عند قبره .
    الإمام يعيش مع رسول الله ؟ ص ؟ في الجنة وهو حاضر في قبره
    روى في كامل الزيارات / 206 : ( عن عبد الله بن بكير قال : حججت مع أبي عبد الله ( الصادق ( عليه السلام ) ) في حديث طويل ، فقلت : يا ابن رسول الله لونبش قبر الحسين بن علي ( عليه السلام ) هل كان يصاب في قبره شي ؟ فقال : يا ابن بكير ما أعظم مسائلك ! إن الحسين ( عليه السلام ) مع أبيه وأمه وأخيه في منزل رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومعه يرزقون ويحبرون ، وإنه لعن يمين العرش متعلق به يقول : يا رب أنجز لي ما وعدتني ، وإنه لينظر إلى زواره ، وإنه أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وما في رحالهم من أحدهم بولده ، وإنه لينظر
    --------------------------- 359 ---------------------------
    إلى من يبكيه فيستغفر له ، ويسأل أباه الاستغفار له ويقول : أيها الباكي لو علمت ما أعد الله لك لفرحت أكثر مما حزنت ، وإنه ليستغفر له من كل ذنب وخطيئة ) .
    أقول : هذا نص صحيح صريح في أن الحسين ( عليه السلام ) في الجنة ، وأنه في نفس الوقت حاضر في قبره يرى زواره ويدعو لهم . فلا بد من القول بتعدد وجوده ( عليه السلام ) ، أو بأنه مشرف من الملأ الأعلى والجنة على الدنيا ، وهذا معنى قوله تعالى : وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ . . فالمؤمنون الذين يرون أعمال المسلمين مع النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، هم عترته ( عليهم السلام ) .
    فمفهوم وجود المعصوم ومفهوم الزمان والمكان بالنسبة له ، يختلف عما هو عندنا في الدنيا . وليت الراوي أكمل حديث بكير الذي قال إنه طويل ولم يكمله !
    رفع الإمام ( ( ع ) ) إلى السماء لا ينقص من قداسة قبره ومكانته
    قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في صحيح ابن أبي الحلال ( الكافي : 4 / 567 ) : ( ما من نبي ولا وصي نبي يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام حتى ترفع روحه وعظمه ولحمه إلى السماء ، وإنما تؤتى مواضع آثارهم ويبلغونهم من بعيد السلام ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب ) .
    وقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته ، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه ، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة .
    وقال أبو هاشم الجعفري : بعث إليَّ أبو الحسن ( الهادي ( عليه السلام ) ) في مرضه وإلى محمد بن حمزة ، فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد أنه ما زال يقول : إبعثوا إلى الحير ، إبعثوا إلى الحير ، فقلت لمحمد : ألا قلت له : أنا أذهب إلى الحير ، ثم دخلت عليه وقلت له : جعلت فداك : أنا أذهب إلى الحير ؟ فقال : انظروا في ذاك ، ثم قال لي : إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي وأنا أكره أن يسمع ذلك . قال : فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال : ما كان يصنع بالحير وهو الحير ! فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي : أجلس حين أردت القيام ، فلما رأيته
    --------------------------- 360 ---------------------------
    أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي : ألا قلت له : إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت ! وأمره الله
    عز وجل أن يقف بعرفة وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها ! فأنا أحب أن يدعى لي حيث يحب الله أن يدعى فيها . قلت : جعلت فداك ، لو كنت أحسن مثل هذا
    لم أردَّ الأمر عليك ) .
    معنى : عظام آدم وبدن نوح وجسم علي ( ( ع ) ) !
    في الصحيح في كامل الزيارات / 90 ، قال المفضل بن عمر : ( دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقلت : إني اشتاق إلى الغري ، قال : فما شوقك إليه ، قلت له : إني أحب أن أزور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال : فهل تعرف فضل زيارته ؟ قلت : لا ، يا ابن رسول الله ، فعرفني ذلك ، قال : إذا أردت زيارة أمير المؤمنين فاعلم أنك زائر عظام آدم ، وبدن نوح ، وجسم علي بن أبي طالب ! قلت : إن آدم هبط بسرنديب في مطلع الشمس ، وزعموا أن عظامه في بيت الله الحرام ، فكيف صارت عظامه بالكوفة ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نوح ( عليه السلام ) وهو في السفينة أن يطوف بالبيت أسبوعاً ، فطاف بالبيت كما أوحى الله إليه ، ثم نزل في الماء إلى ركبتيه فاستخرج تابوتاً فيه عظام آدم ، فحمل التابوت في جوف السفينة حتى طاف بالبيت ما شاء الله تعالى أن يطوف ، ثم ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها ، ففيها قال الله للأرض : إبلعي ماءك ، فبلعت ماءها من مسجد الكوفة كما بدأ الماء من مسجدها ، وتفرق الجمع الذي كان مع نوح في السفينة ، فأخذ نوح التابوت فدفنه في الغري ، وهو قطعة من الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليماً ، وقدس عليه عيسى تقديساً ، واتخذ عليه إبراهيم خليلاً ، واتخذ عليه محمداً حبيباً ، وجعله للنبيين مسكناً ، والله ما سكن فيه أحد بعد أبويه الطاهرين آدم ونوح ، أكرم من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فإذا زرت جانب النجف فزر عظام آدم وبدن نوح وجسم علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، فإنك زائر الآباء الأولين ومحمداً ( ( عليهما السلام ) ) خاتم النبيين وعلياً سيد الوصيين ( عليه السلام ) ، فإن زائره تفتح له أبواب السماء عند دعوته ، فلاتكن عن الخير نواماً ) . والتهذيب ( 6 / 22 ) .
    --------------------------- 361 ---------------------------
    ملاحظات
    1 . معنى هذ الحديث الصحيح : أن الموجود في الأرض عظام آدم ( عليه السلام ) ، أما جسده
    وروحه فرفعا إلى السماء . والموجود في الأرض جثة نوح ( عليه السلام ) أما روحه فهي
    في السماء .
    أما علي ( عليه السلام ) فالموجود منه في الأرض جسمه ، وروحه في السماء ! والتعبير بجسمه مقابل البدن والجسد ، يعني وجود روح في جسمه ( عليه السلام ) من نوع ما . كما دل الحديث على أن إبراهيم وعيسى وموسى ونبينا صلوات الله عليهم ، لهم وجود في النجف ، وهو غريب ، لكنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً !
    وقد ذكروا وجوهاً واحتمالات للتفريق بين العظام والبدن والجسد والجسم والروح ، لكنها غير مقنعة ، بل فيها رجم بالغيب وأحكام جزافية ، على عوالم لا نعرف قوانينها ! فلابد من اليقين بها والاعتراف بأن علمنا قليل عن قوانين الروح والجسد وحياتهما بعد الموت في البرزخ وفي الجنة ، بل ماذا عرفنا عن روحنا التي بين جنبينا الآن ! وبما أنه ثبت أن الأرض لا تأكل أبدان الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فلا بد أن يكون بدن آدم ( عليه السلام ) رفع إلى السماء ، وكذا بدن كل نبي لا يوجد في قبره .
    2 . والمسألة الأصعب : لماذا لم يبق من آدم ويوسف ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الأرض إلا عظامهما ، ولماذا رفع جسداهما مع روحيهما إلى الجنة ؟ ولماذا بقي بدن آدم ورفع جسده وروحه ، وبقي جسم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي يعني جسداً فيه نوع من الروح ، وما هو نوع وجود نبينا والآباء الأولين صلوات الله عليهم ، في النجف .
    ومن ذلك قول الإمام الهادي ( عليه السلام ) في الزيارة الجامعة : ( بأبي أنتم وأمي ، ونفسي وأهلي ومالي ، ذكركم في الذاكرين ، وأسماؤكم في الأسماء ، وأجسادكم في الأجساد وأرواحكم في الأرواح ، وأنفسكم في النفوس ، وآثاركم في الآثار ، وقبوركم في القبور . فما أحلى أسماءكم ، وأكرم أنفسكم ، وأعظم شأنكم ، وأجل خطركم ، وأوفى عهدكم ، وأصدق وعدكم ) .
    فهي تعني أن لهم ( عليهم السلام ) وجوداً لذكرهم ، ووجوداً لأسمائهم ، ووجوداً لأجسادهم ،
    --------------------------- 362 ---------------------------
    ووجوداً لأرواحهم ، ووجوداً لأنفسهم ، وقبورهم ، وآثارهم . . ولكل واحد من هذه الوجودات قوانين ، وهي متناسقة فيما بينها
    فهي تدل على وجود قوانين لوجود الإنسان ، وعلى تميز المعصومين صلوات الله عليهم عن غيرهم في وجوداتهم وحضورهم . وفيها آراء كثيرة لكنها كلها ظنون ورجم بالغيب ، واليقين منها إنما هو ما دلت عليه آيات القرآن وأحاديث النبي والأئمة صلوات الله عليهم ، ومعها قطعي العقل لا ظنونه .
    فهرس مسائل مهمة في خلق الإنسان ومراحل وجوده
    نذكر هنا عدة مسائل تتعلق بأجساد الأنبياء والأوصياء وأرواحهم ( عليهم السلام ) وحياتهم في البرزخ وفي الجنة ، ووجودهم المتعدد في الجنة وفي الدنيا .
    المسألة الأولى :
    الطينة التي خلق منها الأنبياء ( عليهم السلام ) والمؤمنون ، فقد ورد فيها عدة أحاديث ، كالذي رواه في الكافي ( 2 / 7 ) عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال : ( إن الله عز وجل خلق النبيين من طينة عليين : قلوبهم وأبدانهم ، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة ، وخلق أبدان المؤمنين من دون ذلك .
    وخلق الكفار من طينة سجين قلوبهم وأبدانهم ، فخلط بين الطينتين ، فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن . ومن هاهنا يصيب المؤمن السيئة ، ومن هاهنا يصيب الكافر الحسنة ، فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه ، وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه ) .
    قال المجلسي في روضة المتقين ( 1 / 484 ) : ( وظاهر الأخبار مثل صحيحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : من خلق من تربة دفن فيها . ومثل ما رواه الكليني عن الحرث بن المغيرة قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : إن النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله عز وجل ملكاً فأخذ من التربة التي يدفن فيها فماثها أي خلطها في النطفة ، فلا يزال قلبه يحن أي يشتاق إليها حتى يدفن فيها ) !
    --------------------------- 363 ---------------------------
    وفي الكافي ( 6 / 376 ) عن الصادق ( عليه السلام ) : ( شيعتنا يحبون التمرلأنهم خلقوا من طينتنا ، وأعداؤنا يا سليمان يحبون المسكرلأنهم خلقوا من مارج من نار ) .
    المسألة الثانية :
    الطينة المستديرة من جسد الإنسان ، التي لا تبلى بعد الموت ، ويعاد منها خلقنا ، كالذي رواه في الكافي ( 3 / 251 ) عن الصادق ( عليه السلام ) : ( سئل عن الميت يبلى جسده ؟ قال : نعم حتى لا يبقى له لحم ولا عظم إلا طينته التي خلق منها ، فإنها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلقه منها كما خلقه أول مرة ) .
    المسألة الثالثة :
    أن كل إنسان يدفن في التربة التي خلق منها ، ففي روضة الواعظين / 490 :
    ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : لما خلق الله آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعد أن يرد فيها ما أخذ منها ، فما من أحد إلايدفن في التربة التي خلق منها ) .
    وفي مصنف عبد الرزاق ( 3 / 515 ) عن ابن عباس قال : ( يدفن كل إنسان في التربة التي خلق منها ) ويحكمون عليه بالرفع لأنه لا يقال بالرأي .
    وفي مجمع الزوائد ( 3 / 42 ) عن أبي سعيد أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) ( رأى جماعة يحفرون قبراً فسأل عنه فقالوا حبشياً قدم فمات ، فقال : لا إله إلا الله ، سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها ) .
    المسألة الرابعة :
    أن الله عز وجل خلق ملائكة تنقل جنائز الناس إلى تربتها التي تستحقها وهي التي خلقت منها . فقد ذكر الميرزا النوري في نفس الرحمن / 636 ، رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال فيها لأبي بصير : ( يا أبا محمد ، إن الله عز وجل خلق سبعين ألف ملك يقال لهم : النقالة ، ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ، فيأخذون أموات العباد ويدفنون كلاً منهم مكاناً يستحقه ، وأنهم يسلبون جسد الميت عن نعشه ويضعون آخر مكانه من حيث لا يدرون ولا يشعرون وما ذلك ببعيد وما الله بظلام للعبيد ) .
    --------------------------- 364 ---------------------------
    وقال النقدي في الأنوار العلوية / 432 : ( والروايات في هذا الباب مستفيضة والنقاله مشهورة ) ثم ذكر بعض القصص منها أن رجلاً عشاراً مات فدفن في النجف ، ومات رجل مؤمن فدفن في الخطوة موضع قريب البصرة فاتفق حفر قبر العشار فوجدوا فيه ذلك المؤمن ، ثم جاؤوا إلى قبر المؤمن فوجدوا العشار ) !
    المسألة الخامسة :
    أن أجساد الأنبياء وأوصيائهم ( عليهم السلام ) محرمة على الأرض أن تأكلها ومحرمة على الوحوش . ففي الحدائق الناضرة ( 9 / 354 ) : ( عن أبي الدرداء عن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال : أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ، وإن أحداً لا يصلي علي إلاعرضت عليَّ صلاته حتى يفرغ منها ! قال فقلت : وبعد الموت ؟ فقال : إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ( عليهم السلام ) ) . ومعناه أن نبينا ( ( عليهما السلام ) ) حي يرزق ، ورواه الحاكم ( 4 / 560 ) وصححه بشرط الشيخين . وقال النووي في روضة الطالبين ( 5 / 362 ) :
    ( إن الأرض لا تأكل لحوم الأنبياء ، للحديث الصحيح في ذلك ) .
    ونقل الشيخ المفيد في المسائل العكبرية / 31 ، وفي تفسيره / 203 ، إجماع الشيعة على أن لحوم الأنبياء محرمة على الوحش . وفسر قوله تعالى : وأَخافُ أَنْ يَأْكُلَه الذِّئْبُ وأَنْتُمْ عَنْه غافِلُونَ ، بأنه جرى على ظاهر الناس . والمرجح عندي أن يعقوب ( عليه السلام ) كان يعلم أولاده ادعاء أن أخاهم يوسف ( عليه السلام ) أكله الذئب ، لئلا يقتلوه .
    المسألة السادسة :
    أن أجساد نبينا ( ( عليهما السلام ) ) والأئمة من عترته ( عليهم السلام ) لا تبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام ، وترفع إلى الجنة ، ويبقى لهم وجود وإشراف في قبورهم !
    قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( بصائر الدرجات / 463 ) : ( قال النبي ( ( عليهما السلام ) ) يوماً لأصحابه : حياتي خير لكم ومماتي خير لكم . قال فقالوا يا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) هذا حياتك نعم فكيف مماتك ؟ فقال إن الله حرم لحومنا على الأرض أن يطعم منها .
    وفي رواية : ( وأما مفارقتي إياكم فإنه خير لكم ، فإن أعمالكم تعرض عليَّ كل اثنين وكل
    --------------------------- 365 ---------------------------
    خميس ، فما كان من حسن حمدت الله عليه ، وما كان من سيئ استغفرت الله لكم ) .
    قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 4 / 567 ) : ( ما من نبي ولا وصي نبي يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام حتى ترفع روحه وعظمه ولحمه إلى السماء ، وإنما تؤتى مواضع آثارهم ويبلغونهم من بعيد السلام ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب ) .
    وقال ابن سليمان الحلي في المحتضر / 46 : ( إن الإمام إذا مات لا يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام ثم ينتقل إلى الجنة مصاحباً للنبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وإنما يزار في مكانه الذي تشرف بدنه فيه ، وهو ( عليه السلام ) يرى زواره ويسمع كلامهم ولا يخفى عليه شئ منهم ) .
    في تهذيب الأحكام ( 6 / 106 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لا تمكث جثة نبي ولا وصي نبي في الأرض أكثر من أربعين يوماً » .
    المسألة السابعة :
    أن الوصي ينقل بدنه من قبره إلى نبيه ، ثم يعاد إلى قبره ، وقد تقدم قول الإمام الحسين ( عليه السلام ) ( الدر النظيم / 420 ) : ( سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : لو أن نبياً توفي بالمشرق وتوفي وصيه بالمغرب ، لحمل الله ذلك الوصي إلى ذلك النبي ) .
    تعزية أهل الكوفة بالإمام ( ( ع ) )
    تساءل العالم الجليل السيد علي الحائري : لماذا لم يَقم أهل الكوفة بتشييع الإمام ( عليه السلام ) ، أويأتوا إلى بيته ويطالبوا بتشييعه ، كما طالبوا بتشييع فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ؟ قال : هذا سرٌّ في مراسم دفن الإمام ( عليه السلام ) ، لم أجد له جواباً ، وقد سألت أستاذنا الشهيد الصدر ( رحمه الله ) فقال : نعم إنه سؤال لا جواب له .
    فقلت له وأقول : إن مجرى الأمور كان طبيعياً ، فقد ضجت الكوفة لما ضرب الإمام ( عليه السلام ) ، وتقاطر الناس إلى بيته ، وسمح الإمام الحسن ( عليه السلام ) لعدد من كبار أصحابه فزاروه جريحاً ، ورووا كلامه معهم .
    وقد روت المصادر أنهم تجمعوا خارج داره في اليومين التاسع عشر والعشرين من رمضان ، وكان الحسن يبلغهم أن الإمام ( عليه السلام ) يأمرهم بالانصراف ، فينصرفون ثم يعودون .
    --------------------------- 366 ---------------------------
    وفي هذين اليومين عرف الجميع أن الإمام ( عليه السلام ) أمر أن تكون مراسم دفنه ومكان دفنه سراً ، يتولاها خاصته فقط ، لأن بني أمية والخوارج يريدون نبش قبره ( عليه السلام ) وإهانته والانتقام منه !
    وقد تفهَّمَ الناس ذلك ، خاصة أنهم سمعوا من الإمام ( عليه السلام ) أن معاوية سيتسلط عليهم ! فتركوا الأمر للإمام الحسن ( عليه السلام ) .
    ولما توفي ( عليه السلام ) في أول ليلة الحادي والعشرين ، انتشر الخبر بسرعة فتقاطروا على بيته يعزون أهل بيته ويبكون ، وسمعوا الخضر ( عليه السلام ) لما جاء ورثاه ، ثم انصرف الناس
    إلى بيوتهم .
    وفي صلاة الفجر رأوا الإمام الحسن ( عليه السلام ) صلى بهم وخطب فيهم ونعى الإمام ( عليه السلام ) ، وأخبرهم بأنه تم دفنه في الليل حسب وصيته في المكان الذي أمر أن يدفن فيه ، فتقبلوا ذلك ، وبايعوه .
    ثم توافد الناس يعزون الإمام الحسن ( عليه السلام ) ويبايعونه ، ثم عقد الألوية على الجيش ، وتحرك نحو المدائن وصفين ، لمواصلة حرب معاوية .
    وقد أفاضت المصادر في وصف صلاة الإمام الحسن ( عليه السلام ) وخطبته صبيحة الليلة التي توفي فيها ( عليه السلام ) .
    ففي مناقب محمد بن سليمان ( 2 / 45 ) : ( عن حريث بن المخش قال : قتل علي صبيحة أحد وعشرين من رمضان قال : فسمعت الحسن بن علي يخطب وهو يذكر مناقب علي قال : قتل أبي في ليلة أسري بعيسى . . ) .
    وفي الإرشاد للمفيد ( 2 / 7 ) والفصول المختارة / 139 : ( عن أبي إسحاق السبيعي وغيره قالوا : خطب الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح الله على يديه . ثم جلس فقام عبد الله بن عباس بين يديه فقال :
    --------------------------- 367 ---------------------------
    معاشر الناس ، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه . فاستجاب له الناس وقالوا : ما أحبه إلينا ، وأوجب حقه علينا ! وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة ، وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة . فرتب العمال وأمر الأمراء ، وأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة ، ونظر في الأمور ) وإعلام الورى ( 1 / 406 ، ومجمع الزائد : 9 / 146 ، والأوسط : 2 / 336 ) والكبير : 3 / 82 .
    وقال ابن سعد في الطبقات ( 3 / 39 ) : ( فقال أيها الناس قد قبض الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون )
    وقال في ثمرات الأوراق للحموي ( 1 / 362 ) : ( ثم إن الحسن رضي الله عنه صلى الفجر وصعد المنبر فأراد الكلام فخنقته العبرة ثم نطق فقال : الحمد الله على ما أحببنا وكرهنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وإني أحتسب عند الله عز وجل مصابي بأفضل الآباء رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) القائل :
    من أصيب بمصيبة فليتسل بمصيبته فيَّ ، فإنها أعظم المصائب . . الخ . ) .
    أقول : فالنصوص متظافرة على أنهم رجعوا من دفن الإمام ( عليه السلام ) قبل الفجر ، وصلى الإمام الحسن بالناس الفجر ، ونعى أباه الإمام ( عليه السلام ) ، ودعا ابن عباس المسلمين إلى بيعته فتبادروا إلى بيعته . فكانت هذه مراسم أهل البيت ( عليهم السلام ) ومراسم المسلمين لتشييع إمامهم ( عليه السلام ) .
    أما أخبار ما جرى في ليلة وفاته ومراسم دفنه ، فقد ظهر للناس جزء منها يومها ، وبعد هلاك معاوية أخبر أهل البيت ( عليهم السلام ) الناس بما جرى ، وأنهم شيعوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى مسجد السهلة ، ثم إلى الغريين أو ظهر الكوفة ، وأخبروهم بما جرى له من الله من كرامات .
    أما الذين حضروا دفنه ( عليه السلام ) ، فذكرت الرواية أنه نزل في قبره الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعبد الله بن جعفر ، وتشير بعضها إلى أن زينب ( عليها السلام ) كانت معهم ، وكان معهم بضعة أشخاص من خاصته ، سلام الله عليه .
    --------------------------- 368 ---------------------------
    كرامة لأمير المؤمنين ( ( ع ) ) رواها الجميع
    روى الحاكم في المستدرك ( 3 / 113 ) : ( عن ابن شهاب قال : قدمت دمشق وأنا أريد الغزو ، فأتيت عبد الملك لأسلم عليه ، فوجدته في قبة على فرش بقرب القائم وتحته سماطان ، فسلمت ثم جلست ، فقال لي : يا ابن شهاب أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قتل علي بن أبي طالب ؟ فقلت : نعم فقال : هلم ، فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة فحول إليَّ وجهه فأحنى عليَّ فقال : ما كان ؟ فقلت : لم يرفع حجر من بيت المقدس إلا وجد تحته دم ! فقال : لم يبق أحد يعلم هذا غيري وغيرك ! لايسمعن منك أحد ! فما حدثت به حتى توفي ) .
    ورواه البيهقي في دلائل النبوة ( 6 / 441 ) والضحاك في الآحاد والمثاني ( 1 / 152 ) . والمحب الطبري في الرياض النضرة ( 3 / 237 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق : ( 42 / 567 ) والباعوني الدمشقي في جواهر المطالب : ( 2 / 98 ) والسيوطي في الخصائص ( 2 / 124 ) وابن سعد في الطبقات ( 5 / 350 ) .
    وابن عساكر ( 55 / 305 ) والقندوزي في ينابيع المودة ( 2 / 199 ) . وقال : ( أخرجه أحمد في المناقب ) .
    وقال مجير الدين الحنبلي في الأنس الجليل ( 1 / 285 ) : ( عن ابن شهاب إنه صبيحة قتل الحسين بن علي رضي الله عنه لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم ، وكذلك يوم قتل والده علي رضي الله عنهما ) .
    وقال السيوطي في كفاية الطالب ( 2 / 124 ) : ( وأخرج الحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن الزهري قال لما كان صباح قتل علي بن أبي طالب لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم ! وأخرج أبو نعيم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال : صبيحة يوم قتل علي ابن أبي طالب لم ترفع حصاة من الأرض إلا وتحتها دم عبيط ) !
    ومن مصادرنا :
    كامل الزيارات / 158 ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( بعث هشام بن عبد الملك إلى أبي فأشخصه إلى الشام ، فلما دخل عليه قال له : يا أبا جعفر أشخصناك لنسألك عن مسألة لم يصلح ان يسألك عنها غيري ، ولا أعلم في الأرض خلقاً ينبغي أن يعرف أو عرف هذه المسألة إن كان إلا واحداً ، فقال أبي : ليسألني أمير المؤمنين عما أحب ، فإن علمت أجبت
    --------------------------- 369 ---------------------------
    ذلك وإن لم أعلم قلت : لا أدري ، وكان الصدق أولى بي . فقال هشام : أخبرني عن الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب ، بما استدل به الغائب عن المصر الذي قتل فيه على قتله ، وما العلامة فيه للناس ، فإن علمت ذلك وأجبت فأخبرني هل كان تلك العلامة لغير علي في قتله ؟ فقال له أبي : يا أمير المؤمنين إنه لما كان تلك الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يرفع عن وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دم عبيط حتى طلع الفجر ، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها هارون أخو موسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها يوشع بن نون ، وكذلك كانت الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم إلى السماء ، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها شمعون بن حمون الصفا ، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها الحسين بن علي ( عليه السلام ) !
    قال : فتربد وجه هشام حتى انتقع لونه وهم أن يبطش بأبي ، فقال له أبي :
    يا أمير المؤمنين الواجب على العباد الطاعة لإمامهم والصدق له بالنصيحة ، وإن الذي دعاني إلى أن أجبت أمير المؤمنين فيما سألني عنه معرفتي إياه بما يجب له علي من الطاعة ، فليحسن أمير المؤمنين عليَّ الظن ، فقال له هشام : انصرف إلى أهلك إذا شئت ، قال : فخرج . فقال له هشام عند خروجه : أعطني عهد الله وميثاقه أن لا توقع هذا الحديث إلى أحد حتى أموت ، فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه ) !
    فالصحيح أن تلك الكرامة كانت في كل الأرض ، وأنها استمرت إلى الصبح .
    وسبب هذه الحساسية عند بني أمية من الحديث ، أنه يثبت أن علياً ( عليه السلام )
    وصي النبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وأنهم ظالمون غاصبون !
    وروى في مناقب آل أبي طالب : ( 2 / 170 ) ملخصاً : عن ابن عباس قال : ( قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : إن السماء والأرض لتبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحاً ، وإنها لتبكي على العالم إذا مات أربعين شهراً ، وإن السماء والأرض ليبكيان عليك يا علي إذا قتلت أربعين سنة ، قال ابن عباس : لقد قتل أمير المؤمنين بالكوفة ، فأمطرت السماء ثلاثة أيام دماً !
    --------------------------- 370 ---------------------------
    وقد روي أيضاً عن سعيد بن المسيب أنه لما قبض أمير المؤمنين لم يرفع من وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دم عبيط ) .
  • *
    موقف عائشة المشين لما استشهد أمير المؤمنين ( ( ع ) ) !
    1 . روت كافة المصادر شماتة عائشة بقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأنها أعطت هدية لمن بشرها ، وأنها مدحت ابن ملجم !
    قال الطبري ( 4 / 115 ) : ( ولما انتهى إلى عائشة قتل علي رضي الله عنه قالت :
    فألقت عصاها واستقرت بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
    فمن قتله ؟ فقيل : رجل من مراد ، فقالت :
    فإن يك نائيا فلقد نعاه * غلام ليس في فيه التراب
    فقالت زينب بنت أبي سلمة : ألعلي تقولين هذا ؟ ! فقالت : إني أنسى ، فإذا نسيت فذكروني ) !
    2 . وفي رواية الشافي ( 4 / 355 ) : فلما سمعت عائشة بنعيه استبشرت وقالت متمثلة : ولما استنكرت عليها زينب بنت أم سلمة : ضحكت وقالت : بسم الله إذا نسيت فذكريني » !
    3 . وفي تقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي / 411 : ( وقولها : وقد بشرها بعض عبيدها بقتل علي صلوات الله عليه : فإن يك نائياً فلقد نعاه . . ثم قالت للعبد : من قتله ؟ قال : عبد الرحمن بن ملجم . قالت : فأنت حر لوجه الله ، وقد سميتك عبد الرحمن . ثم تمثلت ببيت آخر :
    وألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عيناً بالإياب المسافر
    مجاهرة بعداوة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومغتبطة بقتله ) !
    4 . وقال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 355 ) : ( وهذه سخرية منها بزينب وتمويه عليها ، تخوفاً من شناعتها ، ومعلوم ضرورةً أن الناسي الساهي لا يتمثل بالشعر في الأغراض التي تطابق مراده ، ولم يكن ذلك منها إلا عن قصد ومعرفة )
    --------------------------- 371 ---------------------------
    وذكر له في نهج السعادة ( 8 / 507 ) مصادر متعددة ، وكذا في شرح إحقاق الحق
    ( 8 / 803 ) الإستيعاب ( 2 / 469 ) والطبقات ( 3 / 40 ) والموفقيات / 131 .
    5 . ورووا أنها سجدت شكراً لقتل علي ( عليه السلام ) ، وأعتقت عبداً وسمته عبد الرحمن !
    قال المفيد في الجمل / 83 : ( فقالت لها زينب بنت أبي سلمة : ألعلي تقولين هذا ؟ ! فتضاحكت ثم قالت : أنسى ، فإذا نسيت فذكروني ! ثم خرت ساجدة شكراً على ما بلغها من قتله ، ورفعت رأسها وهي تقول :
    فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عيناً بالإياب المسافرُ
    وقد رويَ عن مسروق أنه قال : دخلت عليها فاستدعت غلاماً باسم عبد الرحمن ، قالت عبدي ، قلت لها : فكيف سميته عبد الرحمن ؟ قالت : حباً لعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي ! وهذا كله صريح بالإصرار وفقد التوبة ) .
    6 . اشتهرت عائشة ببغضها لعلي وفاطمة وأولادهما ( عليهم السلام ) ، وشواهده كثيرة جداً في حياة النبي ( ( عليهما السلام ) ) وبعدها ، وكانت تغير موقفها منهم حسب الظرف وقد وقعت في تناقضات بسبب ذلك !
    فقد دخل أبوها فرآها تقول للنبي ( ( عليهما السلام ) ) : والله لقد علمتُ أن علياً وفاطمة أحب إليك مني ومن أبي ! فأهوى إليها ( ضربها ) فقال : يا بنت فلانة لا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله ) ( مجمع الزوائد : 9 / 201 ، وصححه ) .
    ثم وضعت حديثاً مقابل ذلك يزعم أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال في علي وعمه العباس : من أراد أن ينظر إلى رجلين من أهل النار ، فلينظر إليهما ! ( المراجعات / 325 ) .
    ومع عدائها لعلي ( عليه السلام ) شهدت أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قال فيه : إنه خير الخلق والخليقة وأقربهم إلى الله وسيلة ، كما تقدم في أحاديث الخوارج !
    وقالت كما روى ابن كثير وصححه : « رحم الله علياً لقد كان على الحق ، وما كان بيني وبينه إلا كما يكون بين المرأة وأحمائها » ( فتح الباري : 9 / 289 ) .
    ولما مرضت فاطمة ( عليها السلام ) بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) زارها نساء النبي ( ( عليهما السلام ) ) إلا عائشة فلم تزرها ، وهي التي قالت فيها : لا أعلم أحداً أصدق منها لهجة إلا أباها .
    --------------------------- 372 ---------------------------
    وكانت تحتجب عن الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهما مَحرم عليها ، وتُرضع من أحبت من الرجال ليدخلوا عليها .
    وسيطرت على قبر النبي ( ( عليهما السلام ) ) في ولاية أبيها ، وادعت أن مكان قبره كان غرفتها وقد أعطاها إياها النبي ( عليه السلام ) ، مع أنه لم يملك زوجاته غرفهن ! وطلب منها الإمام الحسن ( عليه السلام ) أن يدفن عند جده ( ( عليهما السلام ) ) فقالت : حباً وكرامة بقي مكان قبر ، ولا أريد أن أدفن فيه لأني أحدثت ! ولما توفي الحسن ( عليه السلام ) حركها مروان بن الحكم فجاءت راكبة على بغل والناس محتشدون لتشييعه وجنازته في المسجد ، فألقت بنفسها على الأرض وأخرجت شعرها وصاحت : أخرجوا ابنكم ، لا يدفن الحسن هنا حتى تجز هذه الناصية !
    وبعد هزيمتها في حرب الجمل أرادت أن تبقى في البصرة لتحضر لحرب جديدة على الإمام ( عليه السلام ) فأرجعها إلى بيتها ، فكاتبت معاوية تحثه على حرب علي ( عليه السلام ) ! إلى آخر أفعالها وأقوالها ، التي روتها مصادر السلطة المحبة لها !
  • *
    --------------------------- 373 ---------------------------
    الفصل السابع والتسعون
    مختارات من وصايا أمير المؤمنين صلوات الله عليه
    تعدد وصايا الإمام ( ( ع ) ) وتنوعها
    لأمير المؤمنين عدة وصايا لابنه الحسن ولابنه الحسين ( عليهم السلام ) ولهما معاً ، ولولده محمد بن الحنفية ، ووصايا للأمة وعامة الناس . ولعل مجموعها يبلغ مجلداً . وأطولها وصيته للإمام الحسن ( عليه السلام ) برواية دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ، وأشهرها وصيته للحسن والحسين ( عليه السلام ) لما ضرب ، ووصيته التي كتبها لما انصرف من صفين التي أولها : من الوالد الفاني المقر للزمان ، والمشهور أنها للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، والمرجح عندنا أنها لولده محمد بن الحنفية رضي الله عنه ، ونورد هنامختارات من وصاياه ، صلوات الله عليه .
    وصيته لولده الحسن ؟ عهما ؟
    1 . روى الكليني في الكافي ( 1 / 297 ) : ( عن سليم بن قيس قال : شهدت وصية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين أوصى إلى ابنه الحسن ، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ، ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح وقال لابنه الحسن : يا بنيَّ أمرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) )
    أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي ، كما أوصى إليَّ رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ودفع إليَّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين ، ثم أقبل على ابنه الحسين فقال : أمرك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أن تدفعها إلى ابنك هذا ، ثم أخذ بيد علي بن الحسين ،
    ثم قال لعلي بن الحسين : وأمرك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أن تدفعها إلى ابنك محمد بن علي ، واقرأه من رسول الله ومني السلام ) .
    --------------------------- 374 ---------------------------
    وفي كتاب سليم / 444 : ( ثم أقبل على ابنه الحسن ( عليه السلام ) فقال : يا بني ، أنت ولي الأمر وولي الدم بعدي ، فإن عفوت فلك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ، ولا تمثِّل ) .
    2 . وفي الدر النظيم لابن حاتم / 421 : ( عن أحمد بن عياش المقري ، قال : سمعت
    أم كلثوم بنت علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقول إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله دعا ابنيه الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأوصى إليهما ، وسلم إلى الحسن خاتمه ، وسلم إليه سيفه ذا الفقار ، وسلم إليه الجفرين الأبيض والأحمر ، وسلم إليه الجامعة ، وسلم إليه مصحف فاطمة ( عليها السلام ) ، ودفع إليه صحيفة مختومة فيها عهد إليه ، وأمره أن يقوم بالأمر بعده وأن يوصي عند موته إلى أخيه الحسين ( عليه السلام ) ، وأن يسلم ذلك كله إليه ، فقبل الحسن ذلك كله منه . ثم استأذن عليه الناس . وخرجت فلا أدري ما أوصاه به بعد ذلك ) .
    وصية أخرى لولده الحسن ؟ عهما ؟
    3 . روى في الكافي ( 1 / 280 ) والإمامة والتبصرة / 40 ، وأمالي الصدوق / 486 ، بسند صحيح :
    ( عن أبي عبد الله ( الصادق ( عليه السلام ) ) قال : إن الله عز وجل أنزل على نبيه ( ( عليهما السلام ) ) كتاباً قبل وفاته فقال : يا محمد هذه وصيتك إلى النجبة من أهلك ، قال : وما النجبة يا جبرئيل ؟ فقال : علي بن أبي طالب وولده ، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب فدفعه النبي ( ( عليهما السلام ) ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأمره أن يفك خاتماً منه ويعمل بما فيه ، ففك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاتماً وعمل بما فيه ، ثم دفعه إلى ابنه الحسن ( عليه السلام ) ففك خاتماً وعمل بما فيه ، ثم دفعه إلى الحسين ( عليه السلام ) ففك خاتماًفوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة ، فلا شهادة لهم إلا معك ، واشْرِ نفسك لله عز وجل ، ففعل .
    ثم دفعه إلى علي بن الحسين ( عليه السلام ) ففك خاتماً فوجد فيه أن : أطرق واصمت والزم منزلك ، واعبدربك حتى يأتيك اليقين ، ففعل .
    ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ( عليه السلام ) ، ففك خاتماً فوجد فيه : حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله عز وجل ، فإنه لا سبيل لأحد عليك ! ففعل .
    ثم دفعه إلى ابنه جعفر ففك خاتماً فوجد فيه : حدث الناس وأفتهم ، وانشر علوم أهل بيتك ، وصدق آباءك الصالحين ، ولا تخافن إلا الله عز وجل ، وأنت في حرز
    --------------------------- 375 ---------------------------
    وأمان ، ففعل . وهو يدفعها إلى رجل من بعده ، ويدفعها من بعده إلى من بعده ، ثم كذلك إلى قيام المهدي صلى الله عليه ) .
    وصية الإمام لمجموع أولاده ؟ عهم ؟
    4 . رواها في الكافي ( 1 / 290 ) بسند صحيح ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( فرض الله عز وجل على العباد خمساً ، أخذوا أربعاً وتركوا واحداً ، قلت : أتسميهن لي جعلت فداك ؟ فقال : الصلاة وكان الناس لا يدرون كيف يصلون ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد أخبرهم بمواقيت صلاتهم ، ثم نزلت الزكاة فقال : يا محمد أخبرهم من زكاتهم ما أخبرتهم من صلاتهم ، ثم نزل الصوم فكان رسول الله ( ( عليهما السلام ) )
    إذا كان يوم عاشورا بعث إلى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم ، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال ، ثم نزل الحج فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : أخبرهم من حجهم ما أخبرتهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم . ثم نزلت الولاية . وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة أنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي . وكان كمال الدين بولاية علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال عند ذلك رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) : أمتي حديثوا عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ، ويقول قائل ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني ، فأتتني عزيمة من الله عز وجل بتلة ، أوعدني إن لم أبلغ أن يعذبني ، فنزلت : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . فأخذ رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بيد علي ( عليه السلام ) فقال : أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله ، ثم دعاه فأجابه ، فأوشك أن ادعى فأجيب وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون فماذا أنتم قائلون ؟ فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت ، وأديت ما عليك فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين ، فقال : اللهم اشهد ، ثلاث مرات ، ثم قال : يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي فليبلغ الشاهد منكم الغائب ! قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : كان والله أمين الله على خلقه وغيبه ودينه الذي ارتضاه لنفسه ، ثم إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) حضره الذي
    --------------------------- 376 ---------------------------
    حضر ، فدعا علياً ( عليه السلام ) فقال : يا علي إني أريد أن أئتمنك على ما ائتمنني الله عليه من غيبه وعلمه ومن خلقه ومن دينه الذي ارتضاه لنفسه ، فلم يشرك والله فيها يا زياد أحداً من الخلق . ثم إن علياً ( عليه السلام ) حضره الذي حضره فدعا ولده وكانوا اثني عشر ذكراً ، فقال لهم : يا بَني إن الله عز وجل قد أبى إلا أن يجعل فيَّ سنة من يعقوب ، وإن يعقوب دعا ولده وكانوا اثني عشر ذكراً ، فأخبرهم بصاحبهم ، ألا وإني أخبركم بصاحبكم ، ألا إن هذين ابنا رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا ، ووازروهما فإني قد ائتمنتهما على ما ائتمنني عليه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) مما ائتمنه الله عليه من خلقه ومن غيبه ومن دينه الذي ارتضاه لنفسه . فأوجب الله لهما من علي ( عليه السلام ) ما أوجب لعلي ( عليه السلام ) من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) فلم يكن لأحد منهما فضل على صاحبه إلا بكبره ، وإن الحسين كان إذ حضرالحسن لم ينطق في ذلك المجلس حتى يقوم ، ثم إن الحسن حضره الذي حضره فسلم ذلك إلى الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
    ثم إن حسيناً حضره الذي حضره فدعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسين مبطوناً لا يرون إلا أنه لما به ، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، ثم صار والله ذلك الكتاب إلينا ) .
    وفي الخرائج ( 1 / 184 ) عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : جمع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بنيه وهم إثنا عشر ذكراً فقال لهم : إن الله أحب أن يجعل فيَّ سنة من يعقوب إذ جمع بنيه وهم إثنا عشر ذكراً فقال لهم : إني أوصي إلى يوسف فاسمعوا له وأطيعوا ، . وأنا أوصي إلى الحسن والحسين ، فاسمعوا لهما وأطيعوا . فقال له عبد الله ابنه : أدون محمد بن علي ؟ يعني محمد بن الحنفية ! فقال له : أَجُرْأَةً عليَّ في حياتي ! كأني بك قد وجدت مذبوحاً في فسطاطك لا يدرى من قتلك ! فلما كان في زمان المختار أتاه فقال : لست هناك ! فغضب فذهب إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة فقال : ولني قتال أهل الكوفة فكان على مقدمة مصعب ، فالتقوا بحروراء ، فلما حجرالليل بينهم أصبحوا وقد وجدوه مذبوحاً في فسطاطه ، لا يدرى من قتله ) !
    أقول : عبد الله هذا هو عمر الأطرف الذي رووا فيه تاريخ دمشق ( 45 / 304 ) :
    --------------------------- 377 ---------------------------
    ( قلت لعيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب : كيف سمى جدك علي عمر ؟ فقال : سألت أبي عن ذلك فأخبرني عن أبيه عن عمر بن علي بن أبي طالب قال : ولدت لأبي بعدما استخلف عمر بن الخطاب ، فقال له ( عليه السلام ) : ولد لي الليلة غلام فقال : هبه لي ، فقلت : هو لك . قال : قد سميته عمر ، ونحلته غلامي مورق . قال : فله الآن وُلْدٌ كثير بينبع ) .
    أقول : وهو الذي اشتكى للحجاج وعبد الملك على الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ليأخذ منه تولية صدقات علي ( عليه السلام ) ، فرأى الوقفية وقال له إن أباك جعلها لأولاد فاطمة ( عليها السلام ) ولست منهم ، ومع ذلك ساعده الحجاج حتى أخذها ! وكانت عاقبته قيادة جيش ضد المختار رضي الله عنه ، فقُتل بيد مجهول !
    وصيته لولديه الحسن والحسين ؟ عهم ؟
    5 . في نهج البلاغة ( 3 / 76 ) : ( ومن وصية له للحسن والحسين ( عليهم السلام ) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله : أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شئ منها زوي عنكما . وقولا بالحق واعملا للأجر . وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً . أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإني سمعت جدكما ( ( عليهما السلام ) ) يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام . والله الله في الأيتام فلا تغبوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم . والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم . والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم . والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم . والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا ! والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله . وعليكم بالتواصل والتباذل . وإياكم والتدابر والتقاطع . لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم .
    يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل
    --------------------------- 378 ---------------------------
    أمير المؤمنين ، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي ، أنظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يمثل بالرجل ، فإني سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ) .
    وفي رواية سليم بن قيس / 445 : ( ثم قال : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب : أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين . ثم إني أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي من المؤمنين ، بتقوى الله ربكم ، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، فإني سمعت رسول الله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم ، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين ، ولا قوة إلا بالله .
    أنظروا ذوي أرحامكم فصلوهم ، يهون الله عليكم الحساب .
    والله الله في الأيتام فلا تغِبُّوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، فقد سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة ،
    كما أوجب لآكل مال اليتيم النار .
    والله الله في القرآن ، لا يسبقكم إلى العمل به غيركم .
    والله الله في جيرانكم ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أوصى بهم .
    والله الله في بيت ربكم ، فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن يترك لم تناظروا . وإن أدنى ما يرجع به من أمه أن يغفر له ما قد سلف .
    والله الله في الصلاة ، فإنها خير العمل وإنها عمود دينكم .
    والله الله في الزكاة ، فإنها تطفئ غضب ربكم .
    والله الله في شهر رمضان ، فإن صيامه جنة من النار .
    والله الله في الفقراء والمساكين ، فشاركوهم في معيشتكم .
    والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان :
    --------------------------- 379 ---------------------------
    إمام هدى ، ومطيع له مقتد بهداه .
    والله الله في ذرية نبيكم ، فلايُظلمن بين أظهركم وأنتم تقدرون على الدفع عنهم .
    والله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يؤووا محدثاً ، فإن رسول الله أوصى بهم ولعن المحدث منهم ومن غيرهم والمؤوي للمحدث .
    والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم ، لاتخافن في الله لومة لائم ، فيكفيكهم الله . وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله .
    ولا تتركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيولي الله الأمر أشراركم وتدعون فلا يستجاب لكم .
    عليكم يا بني بالتواصل والتباذل والتبارّ ، وإياكم والنفاق والتقاطع والتدابر والتفرق : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم . أستودعكم الله وأقرؤ عليكم السلام . ثم لم يزل يقول : لا إله إلا الله ، حتى قبض ( عليه السلام ) في أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان ليلة إحدى وعشرين ، ليلة الجمعة ، سنة أربعين من الهجرة ) . ونهج البلاغة : 3 / 76 ، و 4 / 96 ) .
    وروى بعضها ابن شعبة في تحف العقول / 197 ، ورواها الطوسي في الغيبة / 194 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، وقال : هذه وصية أمير المؤمنين إلى الحسن ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : وهي نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي ، رفعها إلى أبان وقرأها عليه ، قال أبان : وقرأتها على علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقال : صدق سليم ( رحمه الله ) ) .
    وفي نهج البلاغة : ( 4 / 11 ) : ( قال ( عليه السلام ) لابنه الحسن : يا بني ، إحفظ عني أربعاً وأربعاً : لا يضرك ما عملت معهن : أغنى الغنى العقل . وأكبر الفقر الحمق . وأوحش الوحشة العجب . وأكرم الحسب حسن الخلق . إياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك . وإياك ومصادقة البخيل فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه ، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه . وإياك ومصادقة الكذاب فإنه
    --------------------------- 380 ---------------------------
    كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب ) .
    وقال ( عليه السلام ) لابنه الحسن : ( لا تدعون إلى مبارزة ، وإن دعيت إليها فأجب ، فإن الداعي باغ ، والباغي مصروع ) . ( نهج البلاغة : 4 / 52 )
    وصية لولده الحسن ؟ عهما ؟ برواية أمالي الطوسي
    7 . قال الطوسي في أماليه / 147 : ( عن أبي وجزة السعدي ، عن أبيه ، قال : أوصى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقال فيما أوصى به إليه :
    يا بني ، لافقر أشد من الجهل ، ولا عدم أعدم من العقل ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ولا حسب كحسن الخلق ، ولا ورع كالكف عن محارم الله ، ولا عبادة كالتفكر في صنعة الله عز وجل .
    يا بني : العقل خليل المرء ، والحلم وزيره ، والرفق والده ، والصبرمن خير
    جنود ه . يا بني ، إنه لابد للعاقل من أن ينظر في شأنه ، فليحفظ لسانه ، وليعرف أهل زمانه . يا بني ، إن من البلاء الفاقة ، وأشد من ذلك مرض البدن ، وأشد من ذلك مرض القلب ، وإن من النعم سعة المال ، وأفضل من ذلك صحة البدن ، وأفضل من ذلك تقوى القلوب .
    يا بني ، للمؤمن ثلاث ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها بين نفسه ولذتها فيما يحل ويجمل . وليس للمؤمن بد من أن يكون شاخصاً في ثلاث : مرمة لمعاش ، أو خطوة لمعاد ، أو لذة في غير محرم ) .
    وصيته للحسين ؟ عهما ؟ برواية ابن شعبة الحراني
    8 . رواها في تحف العقول / 88 : ( يا بني أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحق في الرضى والغضب ، والقصد في الغنى والفقر . وبالعدل على الصديق والعدو . وبالعمل في النشاط والكسل . والرضى عن الله في الشدة والرخاء . أي بني : ما شر بعده الجنة بشر ، ولا خير بعده النار بخير . وكل نعيم دون الجنة محقور . وكل بلاء دون النار عافية .
    --------------------------- 381 ---------------------------
    واعلم أي بني : أنه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره . ومن تعرَّى من لباس التقوى لم يستتر بشئ من اللباس . ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته . ومن سل سيف البغي قتل به . ومن حفر بئراً لأخيه وقع فيها . ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره . ومن كابد الأمور عطب . ومن اقتحم الغمرات غرق . ومن أعجب برأيه ضل . ومن استغنى بعقله زل . ومن تكبر على الناس ذل . ومن خالط العلماء وقر . ومن خالط الأنذال حقر . ومن سفه على الناس شتم . ومن دخل مداخل السوء اتهم . ومن مزح استخف به . ومن أكثر من شئ عرف به . ومن كثر كلامه كثر خطاؤه ، ومن كثر خطاؤه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار . أي بني : من نظر في عيوب الناس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه . ومن تفكر اعتبر ، ومن اعتبر اعتزل ، ومن اعتزل سلم . ومن ترك الشهوات كان حراً . ومن ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس .
    أي بني : عز المؤمن غناه عن الناس . والقناعة مال لا ينفد . ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير . ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه . أي بني : العجب ممن يخاف العقاب فلم يكف ، ورجا الثواب فلم يتب ويعمل . أي بني : الفكرة تورث نوراً . والغفلة ظلمة . والجهالة ضلالة . والسعيد من وعظ بغيره . والأدب خير ميراث . وحسن الخلق خير قرين . ليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى .
    أي بني : العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله ، وواحد في ترك مجالسة السفهاء . أي بني : من تزيا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاً ، ومن طلب العلم علم
    يا بني : رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق . ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب . والعفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى . كثرة الزيارة تورث الملالة والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم . وإعجاب المرء بنفسه يدل على ضعف عقله .
    --------------------------- 382 ---------------------------
    أي بني : كم نظرة جلبت حسرة . وكم من كلمة سلبت نعمة . أي بني : لا شرف أعلى من الإسلام . ولا كرم أعز من التقوى . ولا معقل أحرز من الورع . ولا شفيع أنجح من التوبة . ولا لباس أجمل من العافية . ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت . ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجل الراحة وتبوء خفض الدعة .
    أي بني : الحرص مفتاح التعب ومطية النصب . وداع إلى التقحم في الذنوب والشرَه جامع لمساوي العيوب . وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك . لأخيك عليك مثل الذي لك عليه . ومن تورط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب . التدبير قبل العمل يؤمنك الندم . من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطاء . الصبر جنة من الفاقة . البخل جلباب المسكنة . الحرص علامة الفقر . وصول معدم خير من جاف مكثر . لكل شئ قوت ، وابن آدم قوت الموت .
    أي بني : لا تؤيس مذنباً ، فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير ، وكم من
    مقبل على عمله مفسد في آخر عمره ، صائر إلى النار ، نعوذ بالله منها .
    أي بني : كم من عاص نجا . وكم من عامل هوى . من تحرى الصدق خفت عليه المؤن . في خلاف النفس رشدها . الساعات تنتقص الأعمار . ويل للباغين من أحكم الحاكمين ، وعالم ضمير المضمرين .
    يا بني : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد . في كل جرعة شرق ، وفي كل أكلة غُصص . لن تنال نعمة إلا بفراق أخرى . ما أقرب الراحة من النصب والبؤس من النعيم والموت من الحياة والسقم من الصحة . فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله . وبخ بخ لعالم عمل فجد وخاف البيات فأعد واستعد ، إن سئل نصح وإن ترك صمت ، كلامه صواب وسكوته من غير عي جواب . والويل لمن بلي بحرمان وخذلان وعصيان فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره ، وأزرى على الناس بمثل ما يأتي .
    واعلم أي بني : أنه من لانت كلمته وجبت محبته . وفقك الله لرشدك وجعلك من أهل طاعته بقدرته إنه جواد كريم ) .
    --------------------------- 383 ---------------------------
    وصيته للحسين ( ( ع ) ) برواية المستدرك
    في مستدرك نهج البلاغة / 150 : ( يا بني ، أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر وكلمة الحق في الرضا والغضب ، والعدل على الصديق والعدو ، والعمل في النشاط والكسل ، والرضا من اللَّه في الشدة والرخاء .
    أي بني : الفكرة تورث نوراً ، والغفلة تورث ظلمة ، والجدال ضلالة ، وليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى .
    أي بني : رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق ، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب ، والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم ، وكثرة الزيارة توجب الملالة ، وكم نظرة جلبت حسرة ، وكم كلمة سلبت نعمة ، ومن تورط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب ، والتدبر قبل العمل يؤمنك الندم ، والصبر جنّة من الفاقة ، والحرص علامة الفقر ، والبخل جلباب المسكنة . أي بني ، من تحرى الصدق خفت عليه المؤن ، وفي خلاف النفس رشدها ، والساعات تنقص الأعمار ، ولا تنال نعمة الا بفراق أخرى ، فطوبى لمن اخلص للَّه علمه وعمله ، وحبه وبغضه ، وأخذه وتركه ، وكلامه وصمته ، وفعله وقوله ، وبخ بخ لعالم عمل فجد ، وخاف البيات فأعد واستعد ، إن سئل نصح ، وإن ترك صمت ، كلامه صواب ، وسكونه من غير عي جواب ، والويل كل الويل لمن بلي بحرمان وخذلان فاستحسن لنفسه ما يكرهه لغيره ، وازرى على الناس بمثل ما يأتي .
    واعلم يا بني : أن من لانت كلمته وجبت محبته ، وفقك الله لرشده ، وجعلك من أهل طاعته انه جواد كريم ) .
    وصيته ( ( ع ) ) لولده محمد برواية الكليني والصدوق
    9 . روى الكليني عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال ( الكافي : 5 / 510 ) : ( في رسالة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الحسن ( عليه السلام ) : لا تملِّك المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها ، فإن ذلك أنعم لحالها ، وأرخى لبالها ، وأدوم لجمالها ، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة
    --------------------------- 384 ---------------------------
    ولا تعد بكرامتها نفسها ، واغضض بصرها بسترك واكففها بحجابك ولاتطمعها أن تشفع لغيرها فيميل عليك من شفعت له عليك معها ، واستبق من نفسك بقية ، فإن إمساكك نفسك عنهن وهن يرين أنك ذو اقتدار ، خير من أن يرين منك حالاً على انكسار )
    رواها الصدوق في الفقيه ( 4 / 384 ) وروى الكليني بعضها في الكافي ( 5 / 510 ) على أنهامن رسالة إلى ابنه الحسن ( عليه السلام ) ، ثم قال :
    ( وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وصيته لابنه محمد بن الحنفية رضي الله عنه :
    يا بني : إياك والاتكال على الأماني فإنها بضائع النوكى ، وتثبيطٌ عن الآخرة . ومن خير حظ المرء قرين صالح .
    جالس أهل الخير تكن منهم . باين أهل الشر ومن يصدك عن الله عز وجل وذكرالموت ، بالأباطيل المزخرفة والأراجيف الملفقة ، تبن منهم ، ولايغلبن عليك سوء الظن بالله عز وجل فإنه لن يدع بينك وبين خليلك صلحاً . أذكِ بالأدب قلبك كما تُذكي النار بالحطب ، فنعم العون الأدب للنحيزة ( الطبيعة ) والتجارب لذي اللب ، أضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض ، ثم اخترأقربها إلى الصواب ، وأبعدها من الإرتياب .
    يا بني : لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا كرم أعز من التقوى ، ولا معقل أحرز من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا وقاية أمنع من السلامة ، ولا كنز أغنى من القنوع ، ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت ، ومن اقتصرعلى بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة ، الحرص داع إلى التقحم في الذنوب . ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر ، عود نفسك الصبر ، فنعم الخلق الصبر ، واحملها على ما أصابك من أهوال الدنيا وهمومها ، فاز الفائزون ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، فإنه جنة من الفاقة . وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى الله الواحد القهار ، فإنك تلجئها إلى كهف حصين ، وحرز حريز ، ومانع عزيز ، وأخلص المسألة لربك ، فإن بيده الخير والشر ، والإعطاء والمنع ، والصلة والحرمان .
    وقال ( عليه السلام ) في هذه الوصية : يا بني : الرزق رزقان : رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم
    --------------------------- 385 ---------------------------
    تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك على هم يومك ، وكفاك كل يوم ما هو فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله عز وجل سيأتيك في كل غد بجديد ما قسم لك وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بغم وهم ما ليس لك ، واعلم أنه لن يسبقك إلى رزقك طالب ، ولن يغلبك عليه غالب ، ولن يحتجب عنك ما قدر لك ، فكم رأيت من طالب متعب نفسه مقتر عليه رزقه ، ومقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير وكل مقرون به الفناء ، اليوم لك وأنت من بلوغ غد على غير يقين ، ولرب مستقبل يوما ليس بمستدبره ومغبوط في أول ليلة قام في آخرها بواكيه ، فلا يغرنك من الله طول حلول النعم وإبطاء موارد النقم ، فإنه لو خشي الفوت عاجل بالعقوبة قبل الموت .
    يا بني : إقبل من الحكماء مواعظهم وتدبر أحكامهم ، وكن آخذ الناس بما تأمر به وأكف الناس عما تنهى عنه ، وأمر بالمعروف تكن من أهله ، فإن استتمام الأمور عند الله تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتفقه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكنهم ورثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر .
    واعلم أن طالب العلم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الطير في جو السماء والحوت في البحر ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به ، وفيه شرف الدنيا والفوز بالجنة يوم القيامة ، لأن الفقهاء هم الدعاة إلى الجنان والأدلاء على الله تبارك وتعالى وأحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك ، وارض لهم ما ترضاه لنفسك ، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، وحسن مع جميع الناس خلقك حتى إذا غبت عنهم حنوا إليك ، وإذا مت بكوا عليك ، وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا تكن من الذين يقال عند موته : الحمد لله رب العالمين .
    واعلم أن رأس العقل بعد الإيمان بالله عز وجل مداراة الناس ، ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لابد من معاشرته حتى يجعل الله إلى الخلاص منه سبيلا ،
    --------------------------- 386 ---------------------------
    فإني وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعاشرون ملء مكيال ثلثاه استحسان وثلثه تغافل ، وما خلق الله عز وجل شيئاً أحسن من الكلام ولا أقبح منه ، بالكلام ابيضت الوجوه ، وبالكلام اسودت الوجوه ، واعلم أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه ، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك ، فإن اللسان كلب عقور فإن أنت خليته عقر ، ورب كلمة سلبت نعمة ، من سيب عذاره قاده إلى كل كريهة وفضيحة ، ثم لم يخلص من دهره إلا على مقت من الله عز وجل وذم من الناس . قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه ، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ ، من تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفظعات النوائب ، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم ، والعاقل من وعظته التجارب ، وفي التجارب علم مستأنف ، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال ، الأيام تهتك لك عن السرائر الكامنة ، تفهم وصيتي هذه ولا تذهبن عنك صفحاً ، فإن خير القول ما نفع .
    إعلم يا بني : أنه لا بدلك من حسن الإرتياد ، وبلاغك من الزاد مع خفة الظهر ،
    فلا تحمل على ظهرك فوق طاقتك فيكون عليك ثقلاً في حشرك ونشرك في القيامة ، فبئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد .
    واعلم أن أمامك مهالك ومهاوي ، وجسوراً وعقبة كؤوداً لا محالة أنت هابطها ، وأن مهبطها إما على جنة أو على نار ، فارتد لنفسك قبل نزولك إياها . وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل زادك إلى القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمله ، وأكثر من تزوده وأنت قادر عليه ، فلعلك تطلبه فلا تجده ، وإياك أن تثق لتحميل زادك بمن لا ورع له ولا أمانة ، فيكون مثلك مثل ظمآن رأى سراباً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً فتبقى في القيامة منقطعاً بك .
    وقال ( عليه السلام ) في هذه الوصية : يا بني : البغي سائق إلى الحين ، لن يهلك امرء عرف قدره ، من حصن شهوته صان قدره . قيمة كل امرء ما يحسن ، الاعتبار يفيدك الرشاد ، أشرف الغنى ترك المنى ، الحرص فقر حاضر ، المودة قرابة مستفادة ، صديقك أخوك لأبيك وأمك وليس كل أخ لك من أبيك وأمك صديقك لا تتخذن عدو صديقك صديقا
    --------------------------- 387 ---------------------------
    فتعادي صديقك ، كم من بعيد أقرب منك من قريب ، وصول معدم خير من مثر جاف ، الموعظة كهف لمن وعاها ، من من بمعروفه أفسده ، من أساء خلقه عذب نفسه وكانت البغضة أولى به ، ليس من العدل القضاء بالظن على الثقة . ما أقبح الأشر عند الظفر ، والكآبة عند النائبة . المعضلة : القسوة على الجار ، والخلاف على الصاحب ، والحنث من ذي المروءة ، والغدر من السلطان . كفر النعم موق ، ومجالسة الأحمق شوم ، اعرف الحق لمن عرفه لك شريفاً كان أو وضيعاً ، من ترك القصد جار ، من تعدى الحق ضاق مذهبه ، كم من دنف قد نجا وصحيح قد هوى ، قد يكون اليأس إدراكا والطمع هلاكا ، استعتب من رجوت عتابه ، لا تبيتن من امرء على غدر ، الغدر شر لباس المرء المسلم ، من غدر ما أخلق أن لا يوفى له ، الفساد يبير الكثير ، والاقتصاد ينمى اليسير ، من الكرم الوفاء بالذمم ، من كرم ساد ، ومن تفهم ازداد ، امحض أخاك النصيحة وساعده على كل حال ما لم يحملك على معصية الله عز وجل زل معه حيث زال . لاتصرم أخاك على ارتياب ، ولا تقطعه دون استعتاب ، لعل له عذراً وأنت تلوم ، إقبل من متنصل عذره فتنالك الشفاعة . وأكرم الذين بهم تصول ، وازدد لهم طول الصحبة براً وإكراماً وتبجيلاً وتعظيماً فليس جزاء من عظم شأنك أن تضع من قدره ، ولا جزاء من سرك أن تسوءه ، أكثر البر ما استطعت لجليسك ، فإنك إذا شئت رأيت رشده . من كساه الحياء ثوبه اختفى عن العيون عيبه ، من تحرى القصد خفت عليه المؤن ، من لم يعط نفسه شهوتها أصاب رشده ، مع كل شدة رخاء ومع كل اكلة غصص ، لا تنال نعمة إلا بعد أذى ، لن لمن غاظك تظفر بطلبتك ، ساعات الهموم ساعات الكفارات والساعات تنفد عمرك ، لا خير في لذة بعدها النار ، وما خير بخير بعده النار ، وما شر بشر بعده الجنة ، كل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية ، لا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه ،
    فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه ، ولا يكونن أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته ، ولا على الإساءة إليك أقوى منك على الاحسان إليه .
    --------------------------- 388 ---------------------------
    يا بني : إذا قويت فاقو على طاعة الله عز وجل ، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله عز وجل ، وإن استطعت أن لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فافعل ، فإنه أدوم لجمالها وأرخى لبالها وأحسن لحالها ، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ، فدارها على كل حال وأحسن الصحبة لها فيصفو عيشك ، احتمل القضاء بالرضا ، وإن أحببت أن تجمع خير الدنيا والآخرة فاقطع طمعك مما في أيدي الناس ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . هذا آخر وصيته ( عليه السلام ) لمحمد بن الحنفية ) .
    وصيته الشاملة لولده محمد بن الحنفية رضي الله عنه
    10 . كتبها منصرفه من صفين بحاضرين وهي قرية قرب صفين ( نهج البلاغة : 3 / 37 )
    قال في مستدرك النهج / 257 : ( وذكر شيئاً منها ابن عبد ربه في العقد الفريد ، ورواها في كتاب منتخب كنز العمال مع اختلاف أيضاً في بعض الألفاظ . أقول روى أبو جعفر بن بابويه القمي أن هذه الوصية كتبها إلى ابنه محمد بن الحنفية ، وهي من أفصح الكلام إلخ ، والأصح الأشهر ما قدمناه ) .
    وقال المجلسي في روضة المتقين ( 13 / 80 ) : ( واعلم أن الأصحاب مختلفون في نسبة هذه الوصية إلى أبي محمد الحسن ( عليه السلام ) وإلى محمد بن الحنفية ، والظاهر من نهج البلاغة
    أنهما وصيتان ) .
    وسئل السيد الخوئي ( قدس سره ) ( صراط النجاة : 2 / 455 ) : ( في الوصية الواردة في نهج البلاغة : من الوالد الفان المقر للزمان . . احتج بعض المخالفين بقوله مخاطباً الإمام الحسن ( عليه السلام ) واصفاً له : عبدالدنيا ، وتاجر الغرور ، وصريع الشهوات ) احتج هذا المخالف بهذه الكلمات مدعياً أن كلام الإمام دليل على عدم عصمة الحسن ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن قول الله تعالى : لئن أشْرَكْتَ ليَحْبَطَنَّ عَمَلُك ، صيغة شرط لم يتحقق ، بينما كلمات النهج فيها اخبار فما هو القول الفصل ؟
    فأجاب السيد الخوئي ( قدس سره ) بقوله : إن المخاطب في الوصية المذكورة وإن كان ابنه الحسن المجتبى ( عليه السلام ) إلا أن المقصود منها جنس البشر ، ولا سيما بقرينة ما فيها من الأوصاف التي هي أوصاف للجنس لا للشخص ، وقد صرح بذلك ابن أبي الحديد في شرحه للنهج ، هذا مضافاً إلى عدم ثبوت كونها وصية لابنه الحسن ( عليه السلام ) والله العالم ) .
    --------------------------- 389 ---------------------------
    ونحن رجحنا أنها لولده محمد رضي الله عنه ، لأنها مضافاً إلى ما أجاب به
    السيد الخوئي ( قدس سره ) ، تضمنت أموراً لم تعهد في خطاباته العديدة لولده الحسن ( عليه السلام ) وما دام أسلوبها يختلف عن نمط كلامه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) فالمخاطب غيره .
    نص الوصية مع عناوين شارحة
    الولد والوالد ماران بالدنيا مروراً :
    ( من الوالد الفان ، المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، والظاعن عنها غداً !
    إلى المولود المؤمل مالايدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ورهينة الأيام ، ورمية المصائب ، وعَبْد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ، ونصب الآفات ، وصريع الشهوات ، وخليفة الأموات . ( يعني أن ابن الدنيا في معرض ذلك ) .
    الولد جزء الوالد بل كله :
    أما بعد ، فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني وجموح الدهرعليَّ وإقبال الآخرة إليَّ ، ما يزَعُني عن ذكر من سواي ، والاهتمام بما ورائي ، غيرأني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي ، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي ، وصرح لي محض أمري ، فأفضى بي إلى جدلايكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب ،
    إذ وجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني ،
    وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت إليك مستظهراً به إن أنا بقيت لك ، أو فنيت .
    تتحقق التقوى بإعمار القلب
    فإني أوصيك بتقوى الله أي بني ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله . وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به ؟ أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوه باليقين ، ونوره بالحكمة ، وذلله بذكر
    --------------------------- 390 ---------------------------
    الموت ، وقرره بالفناء ، وبصره فجائع الدنيا ، وحذره صولة الدهر ، وفحش تقلب الليالي والأيام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا ، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة ، وحلوا ديار الغربة ، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تكلف ، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال .
    وجوب القيام بالمسؤولية الاجتماعية
    وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في الله حق جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .
    وخض الغمرات للحق حيث كان ، وتفقه في الدين ، وعود نفسك التصبر على المكروه ، ونعم الخلق التصبر . وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك ، فإنك تلجؤها إلى كهف حريز ، ومانع عزيز . وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة ، وتفهم وصيتي ، ولا تذهبن عنها صفحاً ، فإن خير القول ما نفع . واعلم أنه لاخير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه .
    تعليم الآباء المبادرة لتربية أولادهم
    أي بني ، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ، ورأيتني أزداد وهناً ، بادرت بوصيتي إليك ، وأوردت خصالاً منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي ، وأن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا ، فتكون كالصعب النفور ، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما ألقي فيها من شئ قبلته . فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب ، وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه ، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه .
    --------------------------- 391 ---------------------------
    أخذ العبرة من الدنيا وتعليمها للولد
    أي بني ، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ، حتى عدت كأحدهم . بل كأني بما انتمى إلي من أمورهم ، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق ، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر ، ذو نية سليمة ونفس صافية ، وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله ، وشرائع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره .
    ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له ، أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة . ورجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك وصيتي هذه .
    تعليم الولد كيف يبني أفكاره
    واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك ، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكروا كما أنت مفكر ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لم يكلفوا . فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا ، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا بتورط الشبهات وعلو الخصومات . وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك وترك كل شائبة أولجتك في شبهة ،
    أو أسلمتك إلى ضلالة .
    فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتم رأيك فاجتمع ، وكان همك في ذلك
    --------------------------- 392 ---------------------------
    هماً واحداً ، فانظر فيما فسرت لك . وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك ، وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء ، وتتورط الظلماء . وليس طالب الدين من خبط أو خلط ، والإمساك عن ذلك أمثل .
    أهمية فهم فاعليات الله في الوجود
    فتفهم يا بني وصيتي ، وأعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة ، وأن الخالق هو المميت ، وأن المفني هو المعيد ، وأن المبتلي هو المعافي ، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد ، أو ما شاء مما لا نعلم ، فإن أشكل عليك شئ من ذلك فاحمله على جهالتك به ، فإنك أول ما خلقت خلقت جاهلاً ثم علمت .
    وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ، ثم تبصره بعد ذلك . فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك ، وليكن له تعبدك وإليه رغبتك ومنه شفقتك . واعلم يا بني أن أحداً لم ينبئ عن الله كما أنبأ عنه الرسول ( ( عليهما السلام ) ) ، فارض به رائداً ، وإلى النجاة قائداً ، فإني لم آلك نصيحة . وإنك لم تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت ، مبلغ نظري لك .
    وحدانية الله تعالى
    واعلم يا بني ، أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته . ولكنه إله واحد كما وصف نفسه . لا يضاده في ملكه أحد ، ولا يزول أبداً ولم يزل ، أول قبل الأشياء بلا أولية ، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية . عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر . فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره ، وقلة مقدرته ، وكثرة عجزه ، وعظيم حاجته إلى ربه في طلب طاعته ، والرهبة من عقوبته ، والشفقة من سخطه . فإنه لم يأمرك إلا بحسن ، ولم ينهك إلا عن قبيح .
    --------------------------- 393 ---------------------------
    مقايسة الدنيا بالآخرة
    يا بني ، إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها ، وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها فيها ، وضربت لك فيهما الأمثال ، لتعتبر بها وتحذو عليها . إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر ، نبا بهم منزل جديب ، فأموا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً فاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق ، وخشونة السفر ، وجشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشئ من ذلك ألماً ، ولا يرون نفقة مغرماً ، ولا شئ أحب إليهم مما قربهم من منزلهم ، وأدناهم من محلهم . ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب ، فليس شئ أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه ، إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه .
    ميزان التعامل مع الناس والهدف من العمل
    يا بني ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك . واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وأرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك .
    ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب . فاسع في كدحك ولا تكن خازناً لغيرك . وإذا أنت هديت لقصدك ، فكن أخشع ما تكون لربك واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة ، وأنه لاغنى لك فيه عن حسن الإرتياد . قدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر ، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك .
    وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمله إياه . وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه ،
    --------------------------- 394 ---------------------------
    فلعلك تطلبه فلا تجده . واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك ، واعلم أن أمامك عقبة كؤوداً ، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع ، وأن مهبطك بها لا محالة على جنة أو على نار . فارتد لنفسك قبل نزولك ووطئ المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب ، ولا إلى الدنيا منصرف .
    تعليم الولد الدعاء والتوبة
    واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة ، ولم يعاجلك بالنقمة ، ولم يعيرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى ، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة ، ولم يناقشك بالجريمة ، ولم يؤيسك من الرحمة . بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة ، وحسب سيئتك واحدة ، وحسب حسنتك عشراً ، وفتح لك باب المتاب . فإذا ناديته سمع نداءك ، وإذا ناجيته علم نجواك فأفضيت إليه بحاجتك ، وأبثثته ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستكشفته كروبك ، واستعنته على أمورك ، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيرُه من زيادة الأعمار وصحة الأبدان وسعة الأرزاق . ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته . فلا يقنطنك إبطاء إجابته فإن العطية على قدر النية . وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل . وربما سألت الشئ فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه عاجلاً أو آجلاً ، أو صرف عنك لما هو خير لك . فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته . فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله . فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له .
    واعلم أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنك في منزل قلعة ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو
    --------------------------- 395 ---------------------------
    منه هاربه ، ولا بد أنه مدركه ، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك .
    يا بني ، أكثر من ذكرالموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك .
    لا تغتر بنعومة الدنيا ورفاهيتها
    وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها ، وتكالبهم عليها ، فقد نبأك الله عنها ، ونعت لك نفسها ، وتكشفت لك عن مساويها ، فإنما أهلها كلاب عاوية ، وسباع ضارية ، يهر بعضها بعضاً ، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها . نعم معقلة ، وأخرى مهملة قد أضلت عقولها وركبت مجهولها ، سروح عاهة بواد وعث . ليس لها راع يقيمها ، ولا مقيم يسيمها . سلكت بهم الدنيا طريق العمى ، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى ، فتاهوا في حيرتها ، وغرقوا في نعمتها ، واتخذوها ربا ، فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها ! رويدا يسفر الظلام ، كأن قد وردت الأظعان .
    يوشك من أسرع أن يلحق . واعلم أن من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفاً ، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً .
    الإجمال في طلب الرزق والنبل في السلوك
    واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك ولن تعدو أجلك ، وأنك في سبيل من كان قبلك . فخفض في الطلب ، وأجمل في المكتسب فإنه رب طلب قد جر إلى حرب . فليس كل طالب بمرزوق ، ولا كل مجمل بمحروم .
    وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً ، ولا تكن عبدغيرك وقد جعلك الله حراً . وما خير خير لا ينال إلا بشر ، ويسر لا ينال إلا بعسر ، وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك
    --------------------------- 396 ---------------------------
    مناهل الهلكة . وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك ، وإن اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه ، وإن كان كل منه .
    وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك ، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء . وحفظ ما في يديك أحب إليَّ من طلب ما في يد غيرك . ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس . والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور . والمرء أحفظ لسره . ورب ساع فيما يضره . من أكثر أهجر . ومن تفكر أبصر . قارن أهل الخير تكن منهم . وباين أهل الشر تبن عنهم . بئس الطعام الحرام . وظلم الضعيف أفحش الظلم . إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً . ربما كان الدواء داء والداء دواء . وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح . وإياك واتكالك على المنى فإنها بضائع النوكى ، والعقل حفظ التجارب . وخير ما جربت ماوعظك . بادر الفرصة قبل أن تكون غصة . ليس كل طالب يصيب ، ولا كل غائب يؤوب . ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد . ولكل أمر عاقبة . سوف يأتيك ما قدر لك . التاجر مخاطر . ورب يسير أنمى من كثير . لاخير في معين مهين ولا في صديق ظنين . ساهل الدهر ما ذل لك قعوده . ولا تخاطر بشئ رجاء أكثر منه . وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج .
    التعامل مع الأصدقاء والأعداء
    إحمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة ، وعند صدوده على اللطف والمقاربة ، وعند جموده على البذل ، وعند تباعده على الدنو ، وعند شدته على اللين ، وعند جرمه على العذر حتى كأنك له عبدوكأنه ذو نعمة عليك . وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو أن تفعله بغير أهله . لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك . وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة .
    وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة . ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك . وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما . ومن ظن بك
    --------------------------- 397 ---------------------------
    خيراً فصدق ظنه ، ولاتضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه ، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه . ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك . ولا ترغبن فيمن زهد فيك . ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته . ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان ، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك ،
    فإنه يسعى في مضرته ونفعك . وليس جزاء من سرك أن تسوءه .
    مفردات من العقلانية والحكمة العملية
    واعلم يا بني أن الرزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك . ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى . إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك . وإن جزعت على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك . استدل على ما لم يكن بما قد كان فإن الأمور أشباه .
    ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه ، فإن العاقل يتعظ بالآداب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب . إطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين . من ترك القصد جار ، والصاحب مناسب ، والصديق من صدق غيبه والهوى شريك العناء .
    رب قريب أبعد من بعيد ، ورب بعيد أقرب من قريب . والغريب من لم يكن له حبيب . من تعدى الحق ضاق مذهبه . ومن اقتصر على قدره كان أبقى له . وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله . ومن لم يبالك فهو عدوك قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكاً . ليس كل عورة تظهر ولا كل فرصة تصاب . وربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده . أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته . وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل . من أمن الزمان خانه ، ومن أعظمه أهانه . ليس كل من رمى أصاب . إذا تغير السلطان تغير الزمان . سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار . إياك أن تذكر في الكلام ما يكون مضحكاً ، وإن حكيت ذلك عن غيرك .
    --------------------------- 398 ---------------------------
    تحذيره من عاطفة النساء
    وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن . واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن ، وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن ، وإن استطعت أن لايعرفن غيرك فافعل . ولاتملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ، ولاتَعْدُ بكرامتها نفسها . ولاتطمعها في أن تشفع لغيرها .
    التعامل مع العما ل والخدم
    وإياك والتغاير في غير موضع غيرة ، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم والبريئة إلى الريب . واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به ، فإنه أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك .
    صلة الأرحام والعشيرة
    وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير ، وأصلك الذي إليه تصير ، ويدك التي بها تصول . أستودع الله دينك ودنياك . وأساله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة . والسلام ) .
    ملاحظة على وصية الإمام ( ( ع ) ) لابنه محمد رضي الله عنه
    قال في شرح النهج ( 16 / 52 ) : ( قوله : كتبها إليه بحاضرين ، فالذي كنا نقرؤه قديماً كتبها إليه بالحاضرين ، على صيغة التثنية ، يعني حاضرحلب وحاضر قنسرين ، وهي الأرباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد . ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغيرلام ولم يفسروه ، ومنهم من يذكره بصيغة الجمع لابصيغة التثنية ، ومنهم من يقول بخناصرين ، يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها ، وقد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة ، سيما في البلاد والأرضين فلم أجدها ، ولعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع ) .
    ثم لم يظفر ابن أبي الحديد بتحديد لحاضرين ، ولا ظفرنا به !
    --------------------------- 399 ---------------------------
    وقد يقال : كيف نفسر قوله ( عليه السلام ) الذي ورد في رواية دعائم الإسلام : وإياكم وتصديق النساء ، فإنهن أخرجن أباكم من الجنة ، وصيرنه إلى نصب الدنيا .
    والجواب : أنه لا يمكن قبول ذلك ، لأنه موافق لقول اليهود ، والقرآن صريح في أن الذي أخرج آدم من الجنة هو إبليس ، قال تعالى : يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ . ( الأعراف : 27 )
    وقد يقال : فكيف نفسر قوله ( عليه السلام ) في النساء : وإياك ومشاورة النساء ، فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن . واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن . . الخ .
    وقد يجاب عنه : بأن هذا جارٍ مجرى الأعم الأغلب لشدة عاطفة المرأة ، وناظر إلى الظرف الاجتماعي الذي كان يجعل ثقل العمل على المرأة . فهذان العاملان يبرران هذه التوصيات بشأن المرأة . وهو جار مجرى النوع وليس الجميع ، ومجرى الاستحباب وليس الوجوب . ويدل عليه مثل قوله ( عليه السلام ) : وإن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل . أي حاول تقليل اختلاطهن .
    على أنه يحتمل أن يكون المقصود بالمرأة زوجة الحاكم وشبهه فهو يحذر أن يقبل أي تدخلها في الأمور ، لاحظ قوله ( عليه السلام ) : ( ولا تطمعها أن تشفع لغيرها ، فيميل عليك من شفعت له عليك معها ) .
  • *
    أطول وصية للإمام ( ( ع ) ) برواية دعائم الإسلام
    11 . قال في دعائم الإسلام ( 2 / 349 ) : ( عن علي بن الحسين ومحمد بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنهما ذكرا وصية علي ( عليه السلام ) فقالا :
    [ أ ] أوصى إلى ابنه الحسن وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثم دفع الكتب إليه والسلاح ، ثم قال له : أمرني رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي
    --------------------------- 400 ---------------------------
    رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ودفع إليَّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفع ذلك إلى أخيك الحسين .
    ثم أقبل على الحسين فقال : وأمرك رسول الله أن تدفعه إلى ابنك هذا ، ثم أخذ بيد ابنه علي بن الحسين فضمه إليه فقال له : يا بني ، وأمرك رسول الله أن تدفعه إلى ابنك محمد ، فاقرئه من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ومني السلام .
    ثم أقبل إلى ابنه الحسن فقال : يا بني أنت ولي الأمر وولي الدم ، فإن عفوت فلك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأتم .
    وكان قبل ذلك قد خص الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بوصية أسرَّها إليهما ، كتب لهمافيها أسماء الملوك في هذه الدنيا إلى يوم القيامة . ودفع إليهما كتاب القرآن وكتاب العلم .
    ثم لما جمع الناس قال لهما ما قال . ثم كتب كتاب وصية هو :
    [ ب ] بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به عبد الله علي بن أبي طالب لآخر أيامه من الدنيا ، وهو صائر إلى برزخ الموتى والرحيل عن الأهل والأخلاء . وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله وأمينه صلوات الله عليه وعلى آله ، وعلى إخوانه المرسلين وذريته الطيبين ، وجزى الله عنا محمداً أفضل ما جزى نبياً عن أمته . وأوصيك يا حسن وجميع من حضرني من أهل بيتي وولدي وشيعتي بتقوى الله . وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا . فإني سمعت رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم . وأوصيكم بالعمل قبل أن يؤخذ منكم بالكظم ، وباغتنام الصحة قبل السقم ، وقبل : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ .
    وأنى ومن أين ؟ وقد كنت للهوى متبعاً فيكشف عن بصره وتهتك له حجبه لقول الله عز وجل : فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ، أنى له البصر ، ألا أبصر قبل هذا الوقت الضرر قبل أن تحجب التوبة بنزول الكربة فتتمنى النفس أن لو ردت لتعمل بتقواها فلا ينفعها المنى .
    وأوصيكم بمجانبة الهوى ، فإن الهوى يدعو إلى العمى . وهوالضلال في الآخرة
    --------------------------- 401 ---------------------------
    والدنيا . وأوصيكم بالنصيحة لله عز وجل ، وكيف لاتنصح لمن أخرجك من أصلاب أهل الشرك وأنقذك من جحود أهل الشك ، فاعبده رغبة ورهبة ، وما ذاك عنده بضائع . وأوصيكم بالنصيحة للرسول الهادي محمد ( ( عليهما السلام ) ) ، ومن النصيحة له أن تؤدوا إليه أجره ، قال الله عز وجل : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ، ومن وفى محمداً أجره بمودة قرابته ، فقد أدى الأمانة ، ومن لم يؤدها كان خصمه ومن كان خصمه خَصَمَه ، ومن خصمه فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .
    [ ج ] يا أيها الناس ، إنه لا يحب محمد إلا الله ، ولا يحب آل محمد إلا لمحمد ومن شاء فليقلل ، ومن شاء فليكثر . وأوصيكم بمحبتنا والإحسان إلى شيعتنا ، فمن لم يفعل فليس منا . وأوصيكم بأصحاب محمد الذين لم يحدثوا حدثاً ، ولم يؤووا محدثاً ، ولم يمنعوا حقاً ، فإن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قد أوصانا بهم ، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم .
    وأوصيكم بالطهارة التي لا تتم الصلاة إلا بها ، وبالصلاة التي هي عمود الدين وقوام الإسلام ، فلا تغفلوا عنها ، وبالزكاة التي بها تتم الصلاة ، وبصوم شهر رمضان وحج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلاً ، وبالجهاد في سبيل الله ، فإنه ذروة الأعمال وعز الدين والإسلام ، والصوم فإنه جنة من النار ، وعليكم بالمحافظة على أوقات الصلاة ، فليس مني من ضيع الصلاة . وأوصيكم بصلاة الزوال فإنها صلاة الأوابين ، وأوصيكم بأربع ركعات بعد صلاة المغرب فلا تتركوهن وإن خفتم عدواً .
    وأوصيكم بقيام الليل من أوله إلى آخره ، فإن غلب عليكم النوم ففي آخره ، ومن منع بمرض فإن الله يعذر بالعذر . وليس مني ولا من شيعتي من ضيع الوتر ، أو مطل بركعتي الفجر . ولا يرد على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) من أكل مالاً حراماً ، لا والله لا والله لا والله ، ولا يشرب من حوضه ولا تناله شفاعته لا والله ، ولا من أدمن شيئاً من هذه الأشربة المسكرة ، ولا من زنا بمحصنة لا والله ، ولا من
    --------------------------- 402 ---------------------------
    لم يعرف حقي ولا حق أهل بيتي ، وهي أوجبهن لا والله ، ولا يرد عليه من اتبع هواه ، ولا من شبع وجاره المؤمن جائع ، ولا يرد عليه من لم يكن قواماً لله بالقسط .
    [ د ] إن رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) عهد إليَّ فقال : يا علي ، مُر بالمعروف وانْهَ عن المنكر بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فبقلبك ، وإلا فلا تلومن إلا نفسك . وإياكم والغيبة فإنها تحبط الأعمال .
    صلوا الأرحام ، وأفشوا السلام ، وصلوا والناس نيام . وأوصيكم يا بني عبد المطلب خاصة أن يتبين فضلكم على من أحسن إليكم ، وتصديق رجاء من أملكم ، فإن ذلكم أشبه بأنسابكم ، وإياكم والبغضة لذوي أرحامكم المؤمنين ، فإنها الحالقة للدين ، وعليكم بمداراة الناس فإنها صدقة ، وأكثروا من قول : لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وعلموها أطفالكم ، وأسرعوا بختان أولادكم فإنه أطهر لهم ، ولاتخرجن من أفواهكم كذبة ما بقيتم ، ولا تتكلموا بالفحش فإنه لا يليق بنا ولا بشيعتنا ، وإن الفاحش لا يكون صدِّيقاً ، وإن المتكبر ملعون والمتواضع عند الله مرفوع ، وإياكم والكبرفإنه رداء الله عز وجل ، فمن نازعه رداءه قصمه الله .
    واللهَ اللهَ في الأيتام فلا يجوعن بحضرتكم .
    واللهَ اللهَ في ابن السبيل فلا يستوحشن من عشيرته بمكانكم .
    والله الله في الضيف لا ينصرفن إلا شاكراً لكم ، والله الله في الجهاد للأنفس فهي أعدى العدو لكم فإنه قال تبارك وتعالى : إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي . وإن أول المعاصي تصديق النفس والركون إلى الهوى .
    والله الله لا ترغبوا في الدنيا فإن الدنيا هي رأس الخطايا ، وهي من بعد إلى زوال . وإياكم والحسد فإنه أول ذنب كان من الجن قبل الإنس ، وإياكم وتصديق النساء ، فإنهن أخرجن أباكم من الجنة وصيرنه إلى نصب الدنيا .
    وإياكم وسوء الظن فإنه يحبط العمل ، و : اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ .
    [ ه‍ ] وعليكم بطاعة من لاتعذرون في ترك طاعته ، وطاعتنا أهل البيت ، فقد
    --------------------------- 403 ---------------------------
    قرن الله طاعتنا بطاعته وطاعة رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، ونظم ذلك في آية من كتابه ، مناً من الله علينا وعليكم ، وأوجب طاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة الأمر من آل رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وأمركم أن تسألوا أهل الذكر ، ونحن والله أهل الذكر ، لا يدعي ذلك غيرنا إلا كاذباً . يصدق ذلك قول الله عز وجل : قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا . رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، ثم قال : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ . فنحن أهل الذكر فاقبلوا أمرنا وانتهوا عما نهينا . ونحن الأبواب التي أمرتم أن تأتوا البيوت منها ، فنحن والله أبواب تلك البيوت ، ليس ذلك لغيرنا ، ولا يقوله أحد سوانا .
    [ و ] أيها الناس : هل فيكم أحد يدعي قِبَلي جوراً في حكم ، أو ظلماً في نفس أو مال ، فليقم أنصفه من ذلك . فقام رجل من القوم فأثنى ثناء حسناً عليه وأطرأه وذكر مناقبه في كلام طويل . فقال علي ( عليه السلام ) : أيها العبدالمتكلم ! ليس هذا حين إطراء ، وما أحب أن يحضرني أحد في هذا المحضر بغير النصيحة ، والله الشاهد على من رأى شيئاً يكرهه فلم يعلمنيه ، فإني أحب أن أستعتب من نفسي قبل أن تفوت نفسي ، اللهم إنك شهيد وكفى بك شهيدا ، إني بايعت رسولك وحجتك في أرضك محمداً ( ( عليهما السلام ) ) أنا وثلاثة من أهل بيتي ، على أن لا ندع لله أمراً إلا عملناه ، ولا ندع له نهياً إلا رفضناه ، ولا ولياً إلا أحببناه ، ولا عدواً إلا عاديناه ، ولا نولي ظهورنا عدواً ، ولا نمل عن فريضة ، ولا نزداد لله ولرسوله إلا نصيحة . فقتل أصحابي رحمة الله ورضوانه عليهم وكلهم من أهل بيتي : عبيدة بن الحارث ( رحمه الله ) قتل ببدر شهيداً ، وعمي حمزة قتل يوم أحد شهيداً رحمة الله عليه ورضوانه ، وأخي جعفر قتل يوم مؤتة شهيداً رحمة الله عليه ورضوانه ، فأنزل الله فيَّ وفي أصحابي : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . أنا والله المنتظر ما بدلت تبديلاً ، ثم وعدنا بفضله الجزاء فقال : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ، وقد آن لي فيما نزل بي أن أفرح بنعمة ربي . فأثنوا عليه خيراً وبكوا .
    --------------------------- 404 ---------------------------
    [ ز ] فقال أيها الناس : أنا أحب أن أشهد عليكم أن لا يقوم أحد فيقول : أردت أن أقول فخفت ، فقد أعذرت بيني وبينكم ، اللهم إلا أن يكون أحد يريد ظلمي والدعوى علي بما لم أجن . أما إني لم أستحل من أحد مالاً ولم أستحل من أحد دماً بغير حله . جاهدت مع رسول الله بأمر الله وأمر رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، فلما قبض الله رسوله ، جاهدت من أمرني بجهاده من أهل البغي وسماهم لي رجلاً رجلاً ، وحضني على جهادهم وقال : يا علي تقاتل الناكثين وسماهم لي ، والقاسطين وسماهم لي ، والمارقين وسماهم لي . فلا تكثر منكم الأقوال ، فإن أصدق ما يكون المرء عند هذا الحال .
    فقالوا خيراً وأثنوا بخير وبكوا .
    فقال للحسن : يا حسن أنت ولي دمي وهو عندك ، وقد صيرته إليك ، يعني ابن ملجم لعنه الله ، ليس لأحد فيه حكم ، فإن أردت أن تقتل فاقتل وإن أردت أن تعفو فاعف ، وأنت الإمام بعدي ، ووارث علمي وأفضل من أترك بعدي ، وخير من أخلف من أهل بيتي ، وأخوك ابن أمك ، بَشَّركما رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) بالبشرى ، فأبشرا بما بشركما واعملا لله بالطاعة ، فاشكراه على النعمة . ثم لم يزل يقول : اللهم أكفنا عدوك الرجيم ، اللهم إني أشهدك أنك لا إله إلا أنت ، وأنك الواحد الصمد ، لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد ، فلك الحمد عدد نعمائك لدي وإحسانك عندي ، فاغفر لي وارحمني ، وأنت خير الراحمين .
    [ ح ] ولم يزل يقول : لا إله إلا الله وحدك لا شريك لك ، وأن محمداً عبدك ورسولك ، عدة لهذا الموقف وما بعده من المواقف ، اللهم أجز محمداً عنا خيراً ، واجز محمداً عنا خير الجزاء ، وبلغه منا أفضل السلام . اللهم ألحقني به ولا تحل بيني وبينه ، إنك سميع الدعاء ، رؤوف رحيم .
    ثم نظر إلى أهل بيته فقال : حفظكم الله من أهل بيت ، وحفظ فيكم نبيكم ، وأستودعكم الله ، وأقرأ عليكم السلام .
    ثم لم يزل يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى قبض صلوات الله عليه ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ) .
  • *
    --------------------------- 405 ---------------------------
    الفصل الثامن والتسعون
    زوجات الإمام ( ( ع ) ) وأولاده
    مجموع أولاده ( ( ع ) ) ثمانية وعشرون
    قال ابن شهرآشوب ( رحمه الله ) في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 89 ) : ( قال الشيخ المفيد في الإرشاد : أولاده سبعة وعشرون . وربما يزيدون على ذلك إلى خمسة وثلاثين ، ذكره النسابة العمري في الشافي ، وصاحب الأنوار .
    البنون خمسة عشر ، والبنات ثمانية عشر . فولده من فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الحسن والحسين والمحسن سقط ، وزينب الكبرى ، وأم كلثوم الكبرى
    ومن خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية محمداً . ومن أم البنين ابنة حزام بن الخالد الكلابية : عبد الله ، وجعفر الأكبر ، والعباس ، وعثمان .
    ومن أم حبيب بنت ربيعة التغلبية : عمر ، ورقية ، توأمان في بطن .
    ومن أسماء بنت عميس الخثعمية : يحيى ، ومحمد الأصغر ، وقيل : بل ولدت له عوناً . ومحمد الأصغر من أم ولد . ومن أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفية : نفيسة ، وزينب الصغرى ، ورقية الصغرى .
    ومن أم شعيب المخزومية : أم الحسن ، ورملة .
    ومن الهملاء بنت مسروق النهشلية : أبو بكر ، وعبد الله .
    ومن أمامة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله : محمد الأوسط . ومن محياة بنت امرئ القيس الكلبية جارية هلكت وهي صغيرة .
    وكان له : خديجة ، وأم هاني ، وتميمة ، وميمونة ، وفاطمة ، لأمهات أولاد .
    --------------------------- 406 ---------------------------
    وتوفي قبله : يحيى ، وأم كلثوم الصغرى ، وزينب الصغرى أم الكرام ، وجمانة وكنيتها أم جعفر ، وأمامة ، وأم سلمة ، ورملة الصغرى .
    وزوج ثماني بنات : زينب الكبرى من عبد الله بن جعفر ، وميمونة من عقيل بن عبد الله بن عقيل ، وأم كلثوم الصغرى من كثير بن عباس بن عبد المطلب ، ورملة من أبي الهياج عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ورملة من الصلت بن عبد الله بن نوفل بن الحارث ، وفاطمة من محمد بن عقيل . وفي الأحكام الشرعية عن الخزاز القمي : أنه نظر النبي ( ( عليهما السلام ) ) إلى أولاد علي وجعفر فقال : بناتنا لبنينا ،
    وبنونا لبناتنا .
    وأعقب له من خمسة : الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس الأكبر وعمر . وكان النبي ( ( عليهما السلام ) ) لم يتمتع بحرة وأمة في حياة خديجة ، وكذلك علي ( عليه السلام ) مع فاطمة . وفي قوت القلوب : أنه تزوج بعد وفاتها بتسع ليال ، وأنه تزوج بعشر نسوة . وتوفي عن أربعة : أمامة وأمها زينب بنت النبي ، وأسماء بنت عميس ، وليلى التميمية وأم البنين الكلابية ، ولم يتزوجن بعده .
    وخطب المغيرة بن نوفل أمامة ، ثم أبوالهياج بن أبي سفيان بن الحارث فروت عن علي ( عليه السلام ) : أنه لا يجوز لأزواج النبي والوصي أن يتزوجن بغيره بعده ، فلم تتزوج امرأة ولا أم ولد بهذه الرواية ) .
    وقال المفيد في الإرشاد ( 1 / 354 ) : ( فأولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى : الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكناة أم كلثوم ، أمهم فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بنت سيد المرسلين محمد خاتم النبيين ( ( عليهما السلام ) ) . ثم عَدَّدهم وقال : وفي الشيعة من يذكر أن فاطمة صلوات الله عليها أسقطت بعد النبي ( ( عليهما السلام ) ) ولداً ذكراً كان سماه رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وهو حمل محسناً ، فعلى قول هذه الطائفة أولاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثمانية وعشرون ، والله أعلم ) .
    ومعناه أن منهم من يحسبه من الأولاد مع أنه سقط ، وليس كلامه تشكيكاً في إسقاط المحسن ، بل في حسبانه من الأولاد .
    --------------------------- 407 ---------------------------
    وقال السيد مرتضى في الصحيح من سيرة الإمام علي ( عليه السلام ) ( 1 / 279 ) : ( وقد اختلفوا في عدد أولاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقيل : سبعة وعشرون وقيل : ثمانية وعشرون ، وقيل : ثلاثة وثلاثون ، وقيل : أربعة وثلاثون ، وقيل : خمسة وثلاثون ، وقيل : تسعة وثلاثون . ولعل سبب الاختلاف هو اختلاط الأسماء بالألقاب والكنى ) .
    الصحيح أن الذكور كانوا عند وفاته ؟ عهم ؟ اثني عشر
    وقد تقدمت الرواية الصحيحة في وصيته لأولاده ( الكافي : 1 / 290 ) أنه جمعهم وكانوا اثني عشر ، وفي رواية أن أحد أولاده مات في حياته ، ويظهر أنه مات أكثر من واحد ، والمهم أن الذين كانوا عند وفاته ( عليه السلام ) : ( وكانوا اثني عشر ذكراً فقال لهم : يا بَني إن الله عز وجل قد أبى إلا أن يجعل فيَّ سنة من يعقوب ، وإن يعقوب ( عليه السلام ) دعا ولده وكانوا اثني عشر ذكراً فأخبرهم بصاحبهم ، ألا وإني أخبركم بصاحبكم ) . وفي رواية الخرائج ( 1 / 182 و 184 ) ( إن الله أحب أن يجعل فيَّ سنة من يعقوب إذ جمع بنيه وهم إثنا عشر ذكراً فقال لهم : إني أوصي إلى يوسف فاسمعوا له وأطيعوا ، . وأنا أوصي إلى الحسن والحسين ، فاسمعوا لهما وأطيعوا . فقال له عبد الله ابنه : أدون محمد بن علي ؟ يعني محمد بن الحنفية ! فقال له : أجرأة علي في حياتي ! كأني بك قد وجدت مذبوحاً في فسطاطك ، لايُدرى من قتلك ! فلما كان في زمان المختار أتاه فقال : لست هناك ! فغضب فذهب إلى مصعب بن الزبيروهو بالبصرة فقال : ولني قتال أهل الكوفة فكان على مقدمة مصعب ، فالتقوا بحروراء فلما حجرالليل بينهم أصبحوا وقد وجدوه مذبوحاً في فسطاطه ، لا يدرى من قتله ) !
    وعبد الله هذا هو عمر الأطرف الذي طلب عمرأن يسميه ، فسماه باسمه . قال ابن عساكر ( تاريخ دمشق : 45 / 304 ) : ( قلت لعيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب : كيف سمى جدك علي عمر ؟ فقال : سألت أبي عن ذلك فأخبرني عن أبيه عن عمر بن علي بن أبي طالب قال : ولدت لأبي بعدما استخلف عمر بن الخطاب ، فقال له ( عليه السلام ) : ولد لي الليلة غلام فقال : هبه لي ، فقلت : هو لك . قال :
    --------------------------- 408 ---------------------------
    قد سميته عمر ، ونحلته غلامي مورق ) .
    ولعمر هذا أخبار في موالاة بني أمية مع الأسف ، وكان صديق الحجاج الطاغية ! وكانت عاقبته أنه قاد جيشاً ضد المختار رضي الله عنه ، فقُتل بيد مجهول !
    ولا يتسع الكتاب للإفاضة في ذكر أولاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وقد كتبنا سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) مستقلة ، وهي المجلد الثالث من جواهر التاريخ .
  • *
    --------------------------- 409 ---------------------------
    الفصل التاسع والتسعون
    من عيون الشعر العربي في أمير المؤمنين ( ( ع ) )
    زيارة الخضر لأمير المؤمنين ورثاؤه له ؟ عهما ؟
    1 . نفتتح هذا الفصل بزيارة الخضر فهو أول من زار أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورثاه : ثم الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم صعصعة بن صوحان ، وأبوالأسود الدؤلي رضي الله عنهما .
    وقد روى ( الكافي : 1 / 454 ، وغيره ) زيارة الخضر ( عليه السلام ) بسند صحيح وهي نص بليغ يغني علو متنه عن بحث سنده ، قال : ( الصحابي أسيد بن صفوان : لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ارتجَّ الموضع بالبكاء ، ودهش الناس كيوم قبض النبي ( ( عليهما السلام ) ) وجاء رجل باكياً وهو مسرعٌ مسترجعٌ وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة النبوة ، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : رحمك الله يا أبا الحسن ، كنت أول القوم إسلاماً ، وأخلصهم إيماناً ، وأشدهم يقيناً ، وأخوفهم لله ، وأعظمهم عناءً ، وأحوطهم على رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ،
    وآمنهم على أصحابه ، وأفضلهم مناقب ، وأكرمهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم من رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، وأشبههم به هدياً وخلقاً وسمتاً وفعلاً ، وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه .
    فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله وعن المسلمين خيراً . قويتَ حين ضعف أصحابه ، وبرزتَ حين استكانوا ، ونهضتَ حين وهنوا ، ولزمتَ منهاج رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) إذ همَّ أصحابه ، وكنت خليفته حقاً ، لم تُنازع ولم تَضرع برغم المنافقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين
    وصَغَر الفاسقين !
    فقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا ، ومضيت بنور الله إذ وقفوا ، فاتبعوك فهدوا . وكنت أخفضهم صوتاً ، وأعلاهم قنوتاً ، وأقلهم كلاماً ، وأصوبهم نطقاً ، وأكبرهم رأياً ،
    --------------------------- 410 ---------------------------
    وأشجعهم قلباً ، وأشدهم يقيناً ، وأحسنهم عملاً ، وأعرفهم بالأمور . كنت والله يعسوباً للدين أولاً وآخراً : الأول حين تفرق الناس ، والآخر حين فشلوا ! كنت للمؤمنين أباً رحيماً ، إذ صاروا عليك عيالاً ، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا ، وحفظت ما أضاعوا ، ورعيت ما أهملوا ، وشمرت إذ اجتمعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ أسرعوا ، وأدركت أوتار ما طلبوا ، ونالوا بك ما لم يحتسبوا .
    كنت على الكافرين عذاباً صباً ونهباً ، وللمؤمنين عمَداً وحصناً ، فطرت والله بنعمائها وفزت بحبائها ، وأحرزت سوابقها ، وذهبت بفضائلها ، لم تُفلل حجتك ، ولم يَزِغ قلبك ولم تضعف بصيرتك ، ولم تَجْبُنْ نفسك ولم تَخِرَّ .
    كنت كالجبل لا تحركه العواصف . وكنت كما قال : أمِن الناس في صحبتك وذات يدك ، وكنت كما قال : ضعيفاً في بدنك قوياً في أمر الله ، متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله ، كبيراً في الأرض جليلاً عند المؤمنين . لم يكن لأحد فيك مهمز ، ولا لقائل فيك مغمز ، ولا لأحد فيك مطمع ، ولا لأحد عندك هوادة ، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه ، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق ، والقريب والبعيد عندك في ذلك سواء ، شأنك الحق والصدق والرفق ، وقولك حكمٌ وحتم ، وأمرك حلمٌ وحزم ، ورأيك علمٌ وعزم فيما فعلت .
    وقد نهجت السبيل ، وسهلت العسير ، وأطفأت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوي بك الإسلام ، فظهر أمرالله ولو كره الكافرون ، وثبَتَ بك الإسلام والمؤمنون ، وسبقت سبقاً بعيداً ، وأتعبت من بعدك تعباً شديداً ، فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك في السماء ، وهدت مصيبتك الأنام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله قضاه ، وسلمنا لله أمره ، فوالله لن يصابَ المسلمون بمثلك أبداً . كنت للمؤمنين كهفاً وحصناً ، وقُنَّةً راسياً ، وعلى الكافرين غلظة وغيظاً ، فألحقك الله بنبيه ، ولا أحرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك .
    وسكت القوم حتى انقضى كلامه ، وبكى وبكى أصحاب رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ، ثم طلبوه فلم يصادفوه ) .
    وهذه الخطبة تعزية وزيارة ، وشهادة في حق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ونصها دليل على أنها
    --------------------------- 411 ---------------------------
    للخضر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلا يمكن أن تصدر إلا من شخص مستوعب ، عليم بالإسلام ومقام الإمام ( عليه السلام ) ودوره ، كالإمام الحسن ( عليه السلام )
    وتقدم استدلالنا على حياة الخضر بقول الإمام الرضا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( كمال الدين : 2 / 390 ) :
    ( إن الخضرشرب من ماء الحياة فهو حيٌّ لا يموت حتى ينفخ في الصور ، وإنه ليأتينا فيسلم فنسمع صوته ولا نرى شخصه . وإنه ليحضرما ذكر ، فمن ذكره منكم فليسلم عليه . وإنه ليحضر الموسم كل سنة فيقضي جميع المناسك ، ويقف بعرفة فيؤمن على دعاء المؤمنين . وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ، ويصل به وحدته ) .
    كما كتبنا في الفصل الستين أن الدعاء المعروف بدعاء كميل بن زياد رضي الله عنه هو دعاء الخضر ( عليه السلام ) ، ورجحنا أن يكون الإمام ( عليه السلام ) ترجمه من السريانية .
    روى ابن طاووس في الإقبال ( 3 / 331 ) عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ليلة النصف من شعبان : ( ما من عبديحييها ويدعوبدعاء الخضر ( عليه السلام ) إلا أجيب له ) .
    ثم ذكر أنه طلب الدعاء فأملاه عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . قال : أكتب : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ ، وبقوتك التي قهرت بها كل شئ ، وخضع لها كل شئ . . إلى آخر الدعاء ) .
    فعرف بدعاء كميل ، وقد اهتم به الشيعة ، فهم يعقدون المجالس في بلادهم المختلفة ليالي الجمعة لقراءته . وقد شرحه وترجمه عدد من علمائهم ومثقفيهم .
  • *
    رثاء أبي الأسود الدؤلي وصعصعة
    قال أبو الأسود الدؤلي ، كما في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 97 ) :
    ألا يا عين ويحك فاسعدينا * ألا أبكي أميرالمؤمنينا
    رزينا خير من ركب المطايا * وحثحثها ومن ركب السفينا
    ومن لبس النعال ومن حذاها * ومن قرأ المثاني والمئينا
    إذا استقبلت وجه أبي حسين * رأيت البدر راق الناظرينا
    --------------------------- 412 ---------------------------
    يقيم الحد لا يرتاب فيه * ويقضي بالفرايض مستبينا
    ألا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا
    أفي الشهر الحرام فجعتمونا * بخير الناس طراً أجمعينا
    ومن بعد النبي فخير نفس * أبو حسن وخير الصالحينا
    كأن الناس إذ فقدوا علياً * نعامٌ جالَ في بلد سنينا
    وكنا قبل مهلكه بخير * نرى فينا وصي المسلمينا
    فلا والله لا أنسى علياً * وحسن صلاته في الراكعينا
    لقد علمت قريش حيث كانت * بأنك خيرهم حسبا ودينا
    فلا تشمت معاوية بن حرب * فإن بقية الخلفاء فينا
    أقول : رواه في البحار ( 42 / 298 ) عن أبي مخنف بثلاثين بيتاً ، وأظن أن بعضهم أضاف على رواية ابن شهرآشوب المتقدمة بثلاثة عشربيتاً .
    وقال صعصعة بن صوحان :
    ألا من لي بأنسك يا أخيا * ومن لي أن أبثك ما لديا
    طوتك خطوب دهر قد توالى * كذاك خطوبه نشراً وطيا
    فلو نشرت قواك إلى المنايا * شكوت إليك ما صنعت إليا
    بكيتك يا علي لدَر عيني * فلم يغن البكاء عليك شيا
    كفى حزناً بدفنك ثم أني * نفضت تراب قبرك من يديا
    وكانت في حياتك لي عظات * وأنت اليوم أوعظ منك حيا
    فيا أسفاً عليك وطول شوقي * إلي لو أن ذلك رد شيا
  • *
    قطاف من شعر الكميت ؟ رح ؟
    الكميت بن زيد الأسدي رضوان الله عليه ، من كبار شعراء العرب ، وهو فقيه وفارس وشاعر ، قالوا فيه : لولا شعر الكميت لما حفظت لغة العرب ، واشتهرت قصائده الهاشميات ، وقد نظم أكثرها في مطلع شبابه .
    قال المسعودي ( 3 / 228 ) : ( لما قال الكميت بن زيد الأسدي الهاشميات ، قَدِم البصرة
    --------------------------- 413 ---------------------------
    فأتى الفرزدق فقال : يا أبافراس ، أنا ابن أخيك ، قال : ومن أنت ؟ فانتسب له فقال : صدقت فما حاجتك ؟ قال : نُفِث على لساني ، وأنت شيخ مضر وشاعرها ، وأحببت أن أعرض عليك ما قلت ، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته ، وإن كان غير ذلك أمرتني بستره وسترته علي ، فقال : يا ابن أخي ، أحسب شعرك على قدر عقلك ، فهات ما قلت راشداً ، فأنشده :
    طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطرَبُ * ولا لَعباً مني وذو الشيب يلعب
    قال : بلى فالعَبْ ، فقال :
    ولمْ يُلهِني دارٌ ولا رسمُ منزلٍ * ولم يتطرَّبْني بَنانٌ مُخضَّبُ
    قال : فما يطربك إذاً ؟ قال :
    وما أنا مِمَّن يزجُرُ الطير هَمُّه * أصاح غُرابٌ أو تعرَّض ثعلب
    قال : فما أنت ويحك ، وإلى من تسمو ؟ فقال :
    وما السانحات البارحاتُ عشيةً * أمرَّ سليمُ القرنِ أم مر أعْضَبُ
    قال : أما هذا فقد أحسنت فيه ، فقال :
    ولكن إلى أهل الفضائل والنُّهى * وخيرِ بني حوَّاء والخيرُ يُطلب
    قال : ومن هم ويحك ؟ قال :
    إلى النفَر البيض الذين بحبهم * إلى الله فيما نابني أتقرَّبُ
    قال : أرِحني ويحك ! من هؤلاء ؟ قال :
    بني هاشم رَهْطِ النبيِّ فإنني * بهِم ولهمْ أرضى مِراراً وأغضب
    قال : لله درُّك يا بنيَّ ، أصبت فأحسنت إذ عدلت عن الزعانف الأوباش ، إذاً لا يصرد سهمك ، ولا يُكذب قولك ، ثم مرَّ فيها فقال له : أظهر ثم أظهر ، وَكدِ الأعداء ، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي ) .
    وزار الكميت الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ( الروضة المختارة / 164 ) : ( فقال : إني قد مدحتك بما أرجوأن يكون لي وسيلة عند رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) ثم أنشده قصيدته : من لقلبٍ متيمٍ مستهامِ ، فلما أتى على آخرها قال له : ثوابك نعجز عنه ، ولكن ما
    --------------------------- 414 ---------------------------
    عجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مكافأتك ، وأراد أن يحسن إليه فقال له إن أردت أن تحسن إلي فادفع إلي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرك بها ، فنزع ثيابه ودفعها إليه ثم قال : اللهم إن الكميت جاد في آل رسول الله وذرية نبيك ( ( عليهما السلام ) ) بنفسه حين ضن الناس ، وأظهر ما كتمه غيره من الحق ، فأحيه وأمته شهيداً ، وأره الجزاء عاجلاً ، فإنا قد عجزنا عن مكافأته ! قال الكميت : ما زلت أعرف بركة دعائه ( عليه السلام ) ) .
    أقول : هذا دعاء عظيم من الإمام زين العابدين صلوات الله عليه ، يجعل الكميت من كبار أولياء الله تعالى والصديقين ، وقد استجاب الله قول الإمام فيه : فأحيه وأمته شهيداً ، فعاش حياة الشهداء ، وختم له بالشهادة .
    ثم زار الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( مروج الذهب : 3 / 228 ) ليلاً فأنشده فلما بلغ قوله :
    وقتيلٍ بالطَّفِّ غُودِر منهم * بين غوغاء أُمة وطغَام
    بكى أبو جعفر ثم قال : ياكميت ، لو كان عندنا مال لأعطيناك ، ولكن لك ما قال رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) لحسان بن ثابت : لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذَبَبْتَ عنا أهلَ البيت . ونهض عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه ، ثم جعل يدخل دور بني هاشم ، ويقول : يا بني هاشم ، هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صَمَتَ الناس عن فضلكم ، وعرَّض دمَه لبني أمية ، فأثيبوه بما قدرتم ، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم ، وأعلم النساء بذلك ، فكانت المرأة تبعث ما أمكنها ، حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها ، فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة ألف درهم ، فجاء بها إلى الكميت ، فقال : يا أباالمستهل أتيناك بجهد المُقِلِّ ، ونحن في دولة عدونا ، وقد جمعنا لك هذا المال وفيه حلي النساء كما ترى ، فاستعن به على دهرك ، فقال : بأبي أنت وأمي ، قد أكثرتم وأطبتم ، وما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، ولم أك لآخذ لذلك ثمناً من الدنيا ، فأردده إلى أهله ، فجهد به عبد الله أن يقبله بكل حيلة ، فأبى ) .
    واشتهرت هاشمياته ، وساعد والي العراق على شهرتها ، فقد أراد أن يحرض عليه الخليفة ( خزانة الأدب : 1 / 87 ) ( فقال : والله لأقتلنه ! ثم اشترى ثلاثين جارية في نهاية الحسن ،
    --------------------------- 415 ---------------------------
    فروَّاهن القصايد الهاشميات للكميت ، ودسهن مع نخاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهن ، فأنشدنه يوماً القصائد المذكورة ، فكتب إلى خالد وكان يومئذ عامله بالعراق : أن ابعث إلي برأس الكميت . فأخذه خالد وحبسه ، فوجه الكميت إلى امرأته ولبس ثيابها وتركها في موضعه وهرب من الحبس ، فلما علم خالد أراد أن ينكل بالمرأة فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا : ما سبيلك على امرأة لنا خدعت ، فخافهم وخلى سبيلها ) !
    وعاش مطارداً سنين ، ثم تصالح مع الخليفة ، ثم قتله والي العراق في سنة 126 ، فنال الشهادة . قال ابنه المستهل : ( حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه ثم أفاق ففتح عينيه ثم قال : اللهم آل محمد ، اللهم آل محمد ، اللهم آل محمد ثلاثاً ) .
    وقال الأميني في الغدير ( 2 / 181 ) أبيات الهاشميات 578 بيتاً : ( والمطبوع منها في ليدن سنة 1904 ، 536 بيتاً . والمشروحة بقلم الأستاذ محمد شاكر الخياط 560 بيتاً . والمشروحة بقلم الأستاذ الرافعي 458 بيتاً ) .
    قال الكميت ( رحمه الله ) :
    طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطرب * ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
    ولم يلهني دارٌ ولا رسم منزل * ولم يتطر بني بنانٌ مخضب
    ولا أنا ممن يزجر الطير همُّه * أصاحَ غرابٌ أم تعرض ثعلب
    ولا السانحاتُ البارحات عشية * أمرَّ سليم ُالقرن أم مر أعضب
    ولكن إلى أهل الفضائل والنهى * وخير بني حواء والخير يطلب
    إلى النفر البيض الذين بحبهم * إلى الله فيما نالني أتقرب
    بني هاشم رهط النبي فإنني * بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
    خفضت لهم مني جناحي مودة * إلى كنفٍ عطفاه أهل ومرحب
    وكنت لهم من هؤلاك وهؤلاء * مجناً على أني أذم وأقصب
    وأرمى وأرمي بالعداوة أهلها * وإني لأوذي فيهم وأؤنب
    فما ساءني قول امرئ ذي عداوة * بعوراء فيهم يجتديني فأجذب
    فقل للذي في ظل عمياء جُونةٍ * ترى الجور عدلاً أين لا أين تذهب
    --------------------------- 416 ---------------------------
    بأي كتاب أم بأية سنة * ترى حبهم عاراً علي وتحسب
    أأسلمُ ما تأتي به من عداوة * وبغض لهم لا جيرَ بل هو أشجب
    ستقرع منها سن خزيان نادم * إذا اليوم ضم الناكثين العصبصب
    فما لي إلا آل أحمد شيعة * وما لي إلا مشعب الحق مشعب
    ومن غيرهم أرضى لنفسي شيعة * ومن بعدهم لا من أجلُّ وأرجب
    أريبُ رجالاً منهم وتريبني * خلائق مما أحدثوهن أريب
    إليكم ذوي آل النبي تطلعت * نوازع من قلبي ظماء وألبب
    فإني عن الأمر الذي تكرهونه * بقولي وفعلي ما استطعت لأجنب
    يشيرون بالأيدي إلي وقولهم * ألا خاب هذا والمشيرون أخيب
    فطائفة قد كفرتني بحبكم * وطائفة قالوا مسئٌ ومذنب
    فما ساءني تكفير هاتيك منهم * ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
    يعيبونني من خبهم وضلالهم * على حبكم بل يسخرون وأعجب
    وقالوا ترابيٌّ هواه ورأيه * بذلك أدعى فيهم وألقب
    على ذاك إجْرِيَّايَ فيكم ضريبتي * ولو جمعوا طراً عليَّ وأجلبوا
    وأحمل أحقاد الأقارب فيكم * وينصب لي في الأبعدين فأنصب
    بخاتمكم غصباً تجوز أمورهم * فلم أر غصباً مثله يتغصب
    وجدنا لكم في آل حاميم آية * تأولها منا تقيٌّ ومُعرب
    وفي غيرها آياً وآياً تتابعت * لكم نصبٌ فيها لذي الشك منصب
    بحقكم أمست قريش تقودنا * وبالفذ منها والرديفين نُركب
    إذا اتضعونا كارهين لبيعة * أناخوا لأخرى والأزمة تجذب
    ردافاً علينا لم يسيموا رعية * وهمهمُ أن يمتروها فيحلبوا
    لينتتجوها فتنة بعد فتنة * فيفتصلوا أفلاءها ثم يركبوا
    أقاربنا الأدنون منكم لعلةٍ * وساستنا منهم ضباعٌ وأذؤب
    لنا قائدٌ منهم عنيفٌ وسائقٌ * يُقَحِّمنا تلك الجراثيم متعب
    وقالوا ورثناها أبانا وأمنا * وما ورثتهم ذاك أمٌّ ولا أب
    يرون لهم حقاً على الناس واجباً * سفاهاً وحق الهاشميين أوجب
    ولكن مواريث ابن آمنة الذي * به دان شرقيٌّ لكم ومغرِّب
    --------------------------- 417 ---------------------------
    فدى لك موروثاً أبي وأبوأبي * ونفسي ونفسي بعد بالناس أطيب
    بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة * فنحن بنو الإسلام ندعى وننسب
    حياتك كانت مجدنا وسناءنا * وموتك جدعٌ للعرانين موعب
    وأنت أمين الله في الناس كلهم * ونعتب لو كنا على الحق نعتب
    فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً * وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
    وبورك قبر أنت فيه وبوركت * به وله أهلٌ لذلك يثرب
    لقد غيبوا براً وصدقاً ونائلاً * عشية واراك الصفيح المنصب
    يقولون لم يورث ولولا تراثه * لقد شركت فيه بكيلٌ وأرحب
    وعكٌّ ولخمٌ والسَّكُونُ وحميرٌ * وكندةُ والحيان بكرٌ وتغلب
    ولانتشلت عضوين منها يحابر * وكان لعبد القيس عضو مؤرب
    ولانتقلت من خندف في سواهم * ولاقتدحت قيسٌ بها ثم أثقبوا
    ولا كانت الأنصار فيها أدلة * ولا غُيَّباً عنها إذا الناس غيب
    هم شهدوا بدراً وخيبر بعدها * ويوم حنين والدماء تصبب
    وهم راءموها غير ظئر وأشبلوا * عليها بأطراف القنا وتحدبوا
    فإن هي لم تصلح لقوم سواهم * فإن ذوي القربى أحق وأقرب
    فيا لك أمراً قد أشتَّت أموره * ودنياً أرى أسبابها تتقضب
    يروضون دين الحق صعباً مخرماً * بأفواههم والرائض الدين أصعب
    إذا شرعوا يوماً على الغي فتنة * طريقهم فيها عن الحق أنكب
    رضوا بخلاف المهتدين وفيهم * مخبأةٌ أخرى تصان وتحجب
    حنانيك رب الناس من أن يغرني * كما غرهم شرب الحياة المنضب
    إذا قيل هذا الحق لا ميل دونه * فأنقاضهم في الحي حسرى ولُغَّب
    وإن عرضت دون الضلالة حومة * أخاضوا إليها طائعين وأوثبوا
    وقد درسوا القرآن وافتلجوا به * فكلهم راض به متحزب
    فمن أين أو أنى وكيف ضلالهم * هدى والهوى شتى بهم متشعب
    فيا موقداً ناراً لغيرك ضوءها * ويا حاطباً في غيرحبلك تحطب
    ألم ترني من حب آل محمد * أروح وأغدو خائفاً أترقب
    كأني جان محدثٌ وكأنما * بهم أتقي من خشية العار أجرب
    --------------------------- 418 ---------------------------
    على أي جرم أم بأية سيرة * أعنف في تقريظهم وأؤنب
    أناسٌ بهم عزت قريش فأصبحوا * وفيهم خباء المكرمات المطنب
    مصفون في الأحساب محضون نجرهم * هم المحض منا والصريح المهذب
    خِضَمُّونَ أشرافٌ لهاميمُ سادةٌ * مطاعيمُ أيْسَارٌ إذا الناس أجدبوا
    إذا نشأت منهم بأرض سحابة * فلا النبت محظور ولا البرق خلب
    وإن هاج نبت العلم في الناس لم تزل * لهم تلعة خضراء منه ومذنب
    إذا ادلمَّست ظلماء أمرين حندس * فبدرٌ لهم فيها مضئ وكوكب
    لهم رُتَب فضلٌ على الناس كلهم * فضائل يستعلي بها المترتب
    مساميح منهم قائلون وفاعلٌ * وسَبَّاقُ غاياتٍ إلى الخير مسهب
    أولاك نبي الله منهم وجعفر * وحمزة ليث الفيلقين المجرب
    هم ما هم وتراً وشفعاً لقومهم * لفقدانهم ما يعذر المتحوب
    قتيل التِّجُوبي الذي استوأرت به * يساق به سوقاً عنيفاً ويجنب
    محاسن من دنياً ودين كأنما * بها حلقت بالأمس عنقاء مغرب
    فنعم طبيب الداء من أمر أمة * تواكلها ذو الطب والمتطبب
    ونعم ولي الأمر بعد وليه * ومنتجع التقوى ونعم المؤدب ) .
    وقال الكميت ( رحمه الله ) :
    أهوى علياً أمير المؤمنين ولا * ألوم يوماً أبا بكر ولا عمرا
    ولا أقول وإن لم يعطيا فدكاً * بنت النبي ولا ميراثه كفرا
    الله يعلم ماذا يأتيان به * يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
    إن الرسول رسول الله قال لنا * إن الإمام علي غير ما هجرا
    في موقف أوقف الله الرسول به * لم يعطه قبله من خلقه بشرا
    من كان يرغمه رغماً فدام له * حتى يرى أنفه بالترب منعفرا
    أقول : هذا أسلوب محاجة من الكميت ، وقد صح أنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام )
    عن الشيخين فأجابه بالنفي فقال : الله أكبر الله أكبر ، حسبي حسبي ! ( الكافي : 8 / 102 ) .
    --------------------------- 419 ---------------------------
    وصح أنه أنشد الإمام الباقر ( عليه السلام ) :
    إنّ المُصِرَّيْنِ على ذنبيهما * والمخفيا الفتنة في قلبيهما
    والخالعا العقدة من عنقيهما * والحاملا الوزر على ظهريهما
    كالجبت والطاغوت في مثليهما * فلعنة الله على روحيهما
    فضحك الباقر ( عليه السلام ) ( العقد النضيد / 165 والصراط المستقيم : 3 / 29 ، ومجمع‌البحرين : 3 / 217 ) .
    وقال الكميت ( رحمه الله ) :
    نفى عن عينك الأرق الهُجوعا * وهمٌّ يمتري منها الدموعا
    دخيل في الفؤاد يهيج سقماً * وحزناً كان من جذل مَنوعا
    لفقدان الخضارم من قريش * وخير الشافعين معاً شفيعا
    لدى الرحمن يصدع بالمثاني * وكان له أبو حسن قريعا
    حطوطاً في مسرته ومولى * إلى مرضاة خالقه سريعا
    وأصفاه النبي على اختيار * بما أعيا الرفوض له المذيعا
    ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا
    ولكن الرجال تبا يعوها * فلم أر مثلها خطراً مبيعا
    فلم أبلغ بها لعناً ولكن * أساء بذاك أولهم صنيعا
    فصار بذاك أقربهم لعدل * إلى جور وأحفظهم مضيعا
    أضاعوا أمر قائدهم فضلوا * وأقومهم لدى الحدثان ريعا
    تناسوا حقه وبغوا عليه * بلا ترة وكان لهم قريعا
    فقل لبني أمية حيث حلوا * وإن خفت المهند والقطيعا
    ألا أفٍّ لدهر كنت فيه * هِداناً طائعاً لكم مطيعا
    أجاع الله من أشبعتموه * وأشبع من بجوركم أجيعا
    ويلعن فذ أمته جهاراً * إذا ساس البرية والخليعا
    بمرضي السياسة هاشمي * يكون حَيَاً لأمته ربيعا
    وليثاً في المشاهد غير نكس * لتقويم البرية مستطيعا
    يقيم أمورها ويذب عنها * ويترك جدبها أبداً مريعا
    --------------------------- 420 ---------------------------
    وقال الكميت ( رحمه الله ) :
    مَنْ لقلبٍ متيمٍ مستهام * غيرِ ما صَبْوةٍ ولا أحلام
    بل هواي الذي أجنُّ وأُبدي * لبني هاشم فروع الأنام
    للقريبين من ندى والبعيدين * من الجور في عرى الأحكام
    والحماة الكفاة في الحرب إن لفَّ * ضرامٌ وقوده بضرام
    والغيوث الذين إن أمحل الناس * فمأوى حواضن الأيتام
    ساسة لا كمن يرى رعية النا * س سواءً ورعية الأنعام
    لا كعبدالمليك أو كوليد * أو كسليمان بعد أو كهشام
    فهم الأقربون من كل خير * وهم الأبعدون من كل ذام
    والوصي الذي أمال التجوبي * به عرش أمة لانهدام
    كان أهل العفاف والمجد والخير * ونقض الأمور والإبرام
    والوصي الولي والفارس المعلم * تحت العجاج غير الكهام
    كم له ثَمَّ كم له من قتيل * وصريع تحت السنابك دامي
    وخميسٍ يلفه بخميس * وفئامٍ حواه بعد فئام
    وعميد متوج حل عنه * عُقَد التاج بالصنيع الحسام
    قتلوا يوم ذاك إذا قتلوه * حَكَماً لا كغابر الحكام
    راعياً كان مسجحاً ففقدنا * ه وفقد المسيم هُلْك السوام
    نالنا فقده ونال سوانا * باجتداع من الأنوف اصطلام
    وأشتَّت بنا مصادر شتى * بعد نهج السبيل ذي الآرام
    لم أبع ديني المساوم بالوكس * ولا مغلياً من السوام
    أخلص الله لي هواي فما أغرق * نزعاً ولا تطيش سهامي
    ولهت نفسي الطروب إليهم * ولها حال دون طعم الطعام
    ليت شعري هل ثم هل آتينهم * أم يحولَن دون ذاك حمامي
    ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم * فيهم ملامة اللوام
    لا أبالي ولن أبالي فيهم * أبداً رغم ساخطين رغام
    فهم شيعتي وقسمي من الأمة * حسبي من سائر الأقسام
    إن أمت لا أمت ونفسي نفسان * من الشك في عمىً أو تعامي
    --------------------------- 421 ---------------------------
    وقال الكميت ( رحمه الله ) :
    ألا هل عمٍ في رأيه متأملُ * وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
    وهل أمةٌ مستيقظون لرشدهم * فيكشف عنه النعسة المتزمل
    فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى * مساويَهم لو كان ذا الميل يعدل
    وعُطلت الأحكام حتى كأننا * على ملة غير التي نتنحل
    كلام النبيين الهداة كلامُنا * وأفعال أهل الجاهلية نفعل
    رضينا بدنياً لا نريد فراقها * على أننا فيها نموت ونقتل
    ونحن بها مستمسكون كأنها * لنا جنة مما نخاف ومعقل
    أرانا على حب الحياة وطولها * يجد بنا في كل يوم ونهزل
    نعالج مرمَقّاً من العيش فانياً * له حاركٌ لا يحمل العبء أجزل
    فتلك أمور الناس أضحت كأنها * أمور مُضيعٍ آثرَ النوم بُهَّل
    فياساسةً هاتوا لنا من حديثكم * ففيكم لعمري ذو أفانينَ مقول
    أأهل كتابٍ نحن فيه وأنتمُ * على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
    فكيف ومن أنى وإذ نحن خِلفةٌ * فريقان شتى تسمنون ونهزل
    أنصلح دنيانا جميعاً وديننا * على ما به ضاع السوام المؤبل
    فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم * فحتى مَ حتى م العناء المطول
    رضوا بفعال السوء من أمر دينهم * فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا
    لهم كل عام بدعة يحدثونها * أزلوا بها أتباعهم ثم أوجلوا
    كما ابتدع الرهبان ما لم يجئ به * كتاب ولا وحي من الله منزل
    تحل دماء المسلمين لديهم * ويحرم طلع النخلة المتهدل
    فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى * عليهم وهل إلا عليك المعول
    وغاب نبي الله عنهم وفقده * على الناس رزءٌ ما هناك مجلل
    فلم أر مخذولاً أجلَّ مصيبة * وأوجبَ منه نصرة حين يخذل
    يصيب به الرامون عن قوس غيرهم * فيا آخراً أسدى له الغيَّ أولُ
    تهافت ذِبَّانُ المطامع حوله * فريقان شتى ذو سلاح وأعزل
    فإن يجمع الله القلوب ونلقهم * لنا عارض من غير مزن مكلل
    سرابيلنا في الروع بيض كأنها * أضا اللوب هزتها من الريح شمأل
    --------------------------- 422 ---------------------------
    على الجرد من آل الوجيه ولاحق * تذكرنا أوتارنا حين تصهل
    نكيل لهم بالصاع من ذاك أصوعاً * ويأتيهم بالسجل من ذاك أسجل
    ألا يفزع الأقوام مما أظلهم * ولما تجئهم ذات ودقين ضِئبل
    إلى مفزع لن ينجي الناس من عمى * ولا فتنة إلا إليه التحول
    إلى الهاشميين البهاليل إنهم * لخائفنا الراجي ملاذ وموئل
    إلى أي عدل أم لأية سيرة * سواهم يؤم الظاعن المترحل
    وفيهم نجوم الناس والمهتدى بهم * إذا الليل أمسى وهو بالناس أليل
    فيا رب عجل ما يؤمل فيهم * ليدفأ مقرور ويشبع مرمل
    فإنهم للناس فيما ينوبهم * غيوث حياً ينفي به المحل ممحل
    وإنهم للناس فيما ينوبهم * أكف ندى تجدي عليهم وتفضل
    لهم من هواي الصفو ما عشت خالصاً * ومن شعري المخزون والمتنخل
    فلا رغبتي فيهم تغيض لرهبة * ولا عقدتي من حبهم تتحلل
    نضحت أديم الود بيني وبينهم * بآصرة الأرحام لو يتبلل
    وإني على أني أُرى في تقية * أخالط أقواماً لقوم لمَِزيَلُ
    فدونكموها يآل أحمد إنها * مقللة لم يأل فيها المقلل
    مهذبة غراء في غب قولها * غداة غد تفسير ما قال مجمل
    وما ضرها أن كان في الترب ثاوياً * زهير وأودى ذو القروح وجرول
  • *
    قطاف من شعر السيد الحميري ؟ رح ؟
    1 . إسماعيل بن محمد بن يزيد بن وداع الحِمْيري ، الملقب بالسيد ، ولد عام 105 بعُمان ، ونشأ في البصرة ، وكان والده أباضياً يلعن علياً ( عليه السلام ) ! وكان هو بفطرته يحب علياً ( عليه السلام ) ويكره فعل أبويه . وربما ترك البيت ونام في المسجد حتى لا يسمع لعن الإمام ( عليه السلام ) ، ثم سكن الكوفة وأخذ الحديث عن سليمان الأعمش ، وغيره .
    وقد ألف المرزباني كتاب أخبار السيد ، وروى فيه أن السيد قال : والله طالما شتم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولعن في هذا البيت ! قلت : ومن فعل ذلك ؟ قال : أبواي كانا إباضيين !
    --------------------------- 423 ---------------------------
    قلت : فكيف صرت شيعياً ؟ قال : غاصت عليَّ الرحمة فاستنقذتني !
    وروي عنه أن أمه كانت توقظه ليصحح عقيدته حتى لا يموت على الضلال وولاية علي ( عليه السلام ) ! فيذهب إلى المسجد ، ثم شكى حاله لوالي البصرة مسلم بن عقبة ، وكان يميل إلى التشيع فأعطاه بيتاً . ( أعيان الشيعة : 12 / 408 ) :
    وهو شاعر مطبوع موهوب ، تميز شعره بالسلاسة والجزالة ، وهو شيعي جلد ، نصرأهل البيت ( عليهم السلام ) فكان شعره نوراً يسري في طول العالم الإسلامي وعرضه .
    قال المفيد في الفصول المختارة / 289 : ( أبو هاشم إسماعيل بن محمد الحميري الشاعر ( رحمه الله ) ، وكان من الكيسانية وله في مذهبهم أشعار كثيرة ، ثم رجع عن القول بالكيسانية وبرئ منه ودان بالحق ) .
    وقد وثقه العلامة فقال في الخلاصة / 58 : ( إسماعيل بن محمد الحميري . . ثقة ،
    جليل القدر ، عظيم الشأن والمنزلة ( رحمه الله ) ) .
    وفي اعتقادي أن أكثر ما استفاد السيد الحميري من ثقافة وإيمان ويقين ، فهو من أستاذه سليمان الأعمش رضي الله عنه ، والذي يقرأ الأعمش يلمس عمق يقينه وولاءه لأهل البيت ( عليهم السلام ) الذي انعكس في السيد الحميري رحمهما الله .
    2 . قال السيد الحميري ( رحمه الله ) :
    أقسم بالله وآلائه * والمرء عما قال مسؤول
    أن علي بن أبي طالب * على التقى والبر مجبول
    وأنه الهادي الإمام الذي * له على الأمة تفضيل
    يقول بالحق ويقضي به * وليس تلهيه الأباطيل
    كان إذا الحرب مَرَتها القنا * وأحجمت عنها البهاليل
    مشى إلى القرن وفي كفه * أبيض ماضي الحد مصقول
    مشي العِفِرْنَى بين أشباله * أبرزه للقُنَّص الغيل
    قال العتبي : أحسن والله ما شاء ! هذا والله الشعرالذي يهجم على القلب بلاحجاب !
    --------------------------- 424 ---------------------------
    3 . وقال ( رحمه الله ) ( أعيان الشيعة : 3 / 127 ) :
    أشهد بالله وآلائه * والمرء عما قاله يُسألُ
    أن علي بن أبي طالب * خليفة الله الذي يعدل
    وأنه قد كان من أحمد * كمثل هارون ولا مرسل
    لكن وصياً خازناً عنده * علم من الله به يعمل
    قد قام يوم الدوح خير الورى * بوجهه للناس يستقبل
    وقال من قد كنت مولى له * فذا له مولى لكم موئل
    لكن تواصوا بعلي الهدى * أن لا يولوه وأن يخذلوا ) .
    3 . وقال ( رحمه الله ) في مولد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
    ولدته في حرم الإله وأمنه * والبيت حيث فناؤه والمسجد
    بيضاء طاهرة الثياب كريمة * طابت وطاب وليدها والمولد
    في ليلة غابت نحوس نجومها * وبدت مع القمر المنير الأسعد
    ما لف في خرق القوابل مثله * إلا ابن آمنة النبي محمد
    4 . وقال السيد ( رحمه الله ) ( أعيان الشيعة : 3 / 413 ) :
    ولقد عجبت لقائل لي مرة * علَّامةٍ فهمٍ من الفقهاء
    سماك قومك سيداً صدقوا به * أنت الموفق سيد الشعراء
    ما أنت حين تخص آل محمد * بالمدح منك وشاعرٍ بسواء
    مدح الملوك ذوي الغنى لعطائهم * والمدح منك لهم بغير عطاء
    فأبشر فإنك فائزٌ في حبهم * لو قد وردت عليهم بجزاء
    ما يعدل الدنيا جميعاً كلها * من حوض أحمد شربة من ماء
    5 . وقال السيد ( رحمه الله ) في مقامات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
    ألا أيها العاني الذي ليس في الأذى * ولا اللوم عندي في علي بمحجم
    ستأتيك مني في علي مقالة * تسوؤك فاستأخر لها أو تقدم
    علي له عندي على من يعيبه * من الناس نصر باليدين وبالفم
    متى ما يرد عندي معاديه عيبه * يجد ناصراً من دونه غير مفحم
    --------------------------- 425 ---------------------------
    علي أحب الناس إلا محمداً * إليَّ فدعني من ملامك أو لمُِ
    علي وصي المصطفى وابن عمه * وأول من صلى ووحد فاعلم
    علي هو الهادي الإمام الذي به * أنار لنا من ديننا كل مظلم
    علي ولي الحوض والذائد الذي * يذبب عن أرجائه كل مجرم
    علي قسيم النار من قوله لها * ذري ذا وهذا فاشربي منه واطعمي
    خذي بالشوى ممن يصيبك منهم * ولا تقربي من كان حزبي فتظلمي
    علي غداً يُدعى فيكسوه ربه * ويدنيه حقاً من رفيق مكرم
    فإن كنت منه يوم يدنيه راغماً * وتبدي الرضا عنه من الآن فارغم
    فإنك تلقاه لدى الحوض قائماً * مع المصطفى الهادي النبي المعظم
    يجيزان من والاهما في حياته * إلى الروح والظل الظليل المكمم
    علي أمير المؤمنين وحقه * من الله مفروض على كل مسلم
    لأن رسول الله أوصى بحقه * وأشركه في كل فئ ومغنم
    وزوجته صديقة لم يكن لها * مقارنة غير البتولة مريم
    وكان كهارون بن عمران عنده * من المصطفى موسى النجيب المكلم
    أما والذي يُهوى إلى ركن بيته * بشعث النواصي كل وجناء عَيْهم
    يوافين بالركبان من كل بلدة * لقد ضل يوم الدوح من لم يسلِّم
    وأوصى اليه يوم ولى بأمره * وميراث علم من عرى الدين محكم
    فمه لا تلمني في علي فإنه * جرى حبه ما بين جلدي وأعظمي
    ولو لم تكن أعمى به وبفضله * عذرت ولكن أنت عن فضله عمي
    أليس بسلع قنع المسرف الذي * طغى وبغى بالسيف فوق المعمم
    وبدر وأحْدٍ فيهما من بلائه * بلاء بحمد الله غير مذمم
    ولله جل الله في فتح خيبر * عليه ومنه نعمة بعد أنعم
    مشى بين جبريل وميكال حوله * ملائكة شبه الهزبر المصمم
    ليشهدهم رب السماء جهاده * ويعلمهم إقدامه غير محجم
    فاعطوا بأيديهم صغاراً وذلة * وقالوا له نرضى بحكمك فاحكم
    فيا رب إني لم أرد بالذي به * مدحت علياً غير وجهك فارحم
    --------------------------- 426 ---------------------------
    6 . وقال ( رحمه الله ) في بيعة الغدير ( الغدير : 2 / 228 ) :
    وقام محمد بغدير خم * فنادى معلناً صوتاً نديَّا
    لمن وافاه من عرب وعجم * وحفوا حول دوحته حنيا
    ألا من كنت مولاه فهذا * له مولى وكان به حفيا
    إلهي عاد من عادى علياً * وكن لوليه ربي وليا
  • *
    نفسي فداء رسول الله يوم أتى * جبريل يأمر بالتبليغ إعلانا
    إن لم تبلغ فما بلغت فانتصب * النبي ممتثلاً أمراً لمن دانا
    وقال للناس من مولاكم قبلاً * يوم الغديرفقالوا أنت مولانا
    أنت الرسول ونحن الشاهدون على * أن قد نصحت وقد بينت تبيانا
    هذا وليكم بعدي أمرت به * حتماً فكونوا له حزباً وأعوانا
    هذا أبركم براً وأكثركم * علماً وأولكم بالله إيمانا
    هذا له قربة مني ومنزلة * كانت لهارون من موسى بن عمرانا
  • *
    7 . وقال ( رحمه الله ) في حضور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عند المحتضر :
    قول علي لحارث عجبٌ * كم ثم أعجوبة له جملا
    يا حار همدان من يمت يرني * من مؤمن أو منافق قُبَلا
    يعرفني طرفه وأعرفه * بعينه واسمه وما فعلا
    وأنت عند الصراط تعرفني * فلا تخَف عثرة ولا زللا
    أسقيك من بارد على ظمأٍ * تخاله في الحلاوة العسلا
    أقول للنار حين توقف للعرض * على جسرها ذَرِي الرجلا
    ذريه لا تقربيه إن له * حبلاً بحبل الوصي متصلا
    هذا لنا شيعة وشيعتنا * أعطاني الله فيهم الأملا
  • *
    --------------------------- 427 ---------------------------
    8 . واشتهرت قصيدته المذهبة في مدح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد أعجب بها الأدباء ، وشرحها عدة ، منهم الشريف المرتضى ، بطلب والده نقيب العلويين رحمهما الله .
    قال في أعيان الشيعة ( 1 / 170 ) : ( قال التوزي : لو أن شعراً يستحق أن لا ينشد إلا في المساجد لحسنه ، لكان هذا ، ولو خطب به خاطب على المنبر في يوم جمعة لأتى حسناً وحاز أجراً . وقال الناصبي مروان بن أبي حفصة لما سمع المذهبة : ما سمعت شعراً قط أفيض وأغزر معان ، وأفصح وأقوى من هذا !
    وقال له عدوه بشار بن برد : لولا أن الله شغلك بمدح أهل البيت لافتقرنا !
    وهي 111 بيتاً حسب ديوان السيد الحميري / 37 ، وقد أوردناها كاملة ، لأنها تضمنت عدة مناقب لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي :
    هلا وقفت على المكان المعشب * بين الطويلع فاللوى من كبكب
    فنجاد تُوضِحَ فالنضائد فالشظا * فرياض سنحةَ فالنقا من جَوْنب
    طال الثواء على منازل أقفرت * من بعد هند والرباب وزينب
    أدَمٌ حللن بها وهنَّ أوانسٌ * كالعين ترعى في مسالك أهضب
    يضحكن من طرب بهن تبسماً * عن كل أبيض ذي غروب أشنب
    حورٌ مدامعها كأن ثغورها * وهناً صوافي لؤلؤ لم تثقب
    أنْسٌ حللن بها نواعمُ كالدُّمى * من بين مُحصنة وبكرٍ خرعب
    لَعْسَاء واضحة الجبين أسيلة * وعث المؤزر جثلة المتنقب
    كنا وهن بنُضرة وغضارة * في خفض عيش راغد مستعذب
    أيام لي في بطن طيبة منزل * عن ريب دهر خائن متقلب
    فعفا وصار إلى البِلا بعد البنا * وأزال ذلك صَرْف دهر قُلَّب
    ولقد حلفت وقلت قولاً صادقاً * بالله لم آثمْ ولم أتريَّب
    من حمير أهل السماحة والندى * وقريشٍ الغر الكرام وتَغلب
    أين التطرب بالولاء وبالهوى * أإلى الكواذب من بروق الخلب
    أإلى أمية أم إلى شِيَع التي * جاءت على الجمل الخِدَبِّ الشَّوْقب
    تهوي من البلد الحرام فنبهت * بعد الهدوِّ كلاب أهل الحوأب
    يحدو الزبير بها وطلحة عسكراً * يا للرجال لرأي أمٍّ مُشجب
    --------------------------- 428 ---------------------------
    يا للرجال لرأي أمٍ قادها * ذئبان يكتنفانها في أذؤب
    ذئبان قادهما الشقا وقادها * للحين فاقتحما بها في منشب
    في ورطةٍ لحجا بها فتحملت * منها على قتب بإثم محقب
    أمٌّ تدب إلى ابنها ووليها * بالمؤذيات له دبيب العقرب
    أما الزبير فحاص حين بدت له * جأواء تبرق في الحديد الأشهب
    حتى إذا أمن الحتوف وتحته * عاري النواهق ذو نجاء ملهب
    أثوى ابن جرموز عمير شلوه * في القاع منعفراً كشلو التَّوْلب
    واغترَّ طلحةَ عند مختلف القنا * عبل الذراع شديد أصل المنكب
    فاختل حبة قلبه بمذلَّق * ريانَ من دم جوفه المتصبب
    في مارقين من الجماعة فارقوا * باب الهدى وحَيَا الربيع المخصب
    خير البرية بعد أحمد من له * مني الهوى والى بنيه تطربي
    أُمسي وأصبح معصماً مني له * بهوى وحبل ولاية لم يُقضب
    ونصيحة خلص الصفاء له بها * مني وشاهد نصرة لم يعزب
    ردت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
    حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هويَّ الكوكب
    وعليه قد حبست ببابل مرة * أخرى وما حبست لخلق مُغرب
    إلا ليوشع أو له من بعده * ولردها تأويل أمر معجب
    ولقد سرى فيما يسير بليلة * بعد العشاء بكربلا في موكب
    حتى أتى متبتلاً في قائم * ألقى قواعده بقاع مجدب
    تأتيه ليس بحيث تلقى عامراً * غير الوحوش وغير أصلع أشيب
    في مدمج زلق أشم كأنه * حلقوم أبيض ضيق مستصعب
    فدنا فصاح به فأشرف ماثلاً * كالنسر فوق شظية من مرقب
    هل قرب قائمك الذي بوأته * ماء يصاب فقال مامن مشرب
    إلا بغاية فرسخين ومن لنا * بالماء بين نقاً وقيٍّ سبسب
    فثنى الأعنة نحو وعثٍ فاجتلى * ملساءَ تبرق كاللجين المُذْهَب
    قال اقلبوها إنكم إن تقلبوا * ترووا ولا تروون إن لم تُقلب
    فاعصوصبوا في قلعها فتمنعت * منهم تمنع صعبة لم تركب
    --------------------------- 429 ---------------------------
    حتى إذا أعيتهم أهوى لها * كفاً متى تَرد المغالبَ تَغلب
    فكأنها كرة بكف حَزَوَّرٍ * عبل الذراع رحا بها في ملعب
    فسقاهم من تحتها متسلسلاً * عذباً يزيد على الألذ الأعذب
    حتى إذا شربوا جميعاً ردها * ومضى فَخِلْتَ مكانها لم يقرب
    أعني ابن فاطمة الوصي ومن يقل * في فضله وفعاله لم يكذب
    ليست ببالغة عشير عشير ما * قد كان أعطيه مقالة مطنب
    صهر النبي وجاره في مسجد * طهر بطيبة للرسول مطيب
    سيان فيه عليه غير مذمم * ممشاه إن جنباً وإن لم يجنب
    وسرى بمكة حين بات مبيته * ومضى بروعة خائف مترقب
    خير البرية هارباً من شرها * بالليل مكتتماً ولم يُستصحب
    باتوا وبات على الفراش ملفعاً * فيرون أن محمداً لم يذهب
    حتى إذا طلع الشميط كأنه * في الليل صفحة خد أدهمَ مغرب
    ثاروا لأخذ أخي الفراش فصادفت * غير الذي طلبت أكفُّ الخيب
    فوقاه بادرةَ الحتوف بنفسه * حذراً عليه من العدو المجلب
    حتى تغيب عنهم في مدخل * صلى الإله عليه من متغيب
    وجزاه خير جزاء مرسلِ أمةٍ * أدى رسالته ولم يتهيب
    فتراجعوا لما رأوه وعاينوا * أسد الإله مجالداً في منهب
    قالوا اطلبوه فوجهوا من راكب * في مبتغاه وطالبٍ لم يركب
    حتى إذا قصدوا لباب مغارة * ألفوا عليه نسيج غزل العنكب
    صنع الإله له فقال فريقهم * ما في المغار لطالب من مطلب
    ميلوا وصدهم المليك ومن يرد * عنه الدفاع مليكه لايعطب
    حتى إذا أمن العيون رمت به * خوص الركاب إلى مدينة يثرب
    فاحتل دار كرامة في معشر * آووه في سعة المحل الأرحب
    وله بخيبر إذ دعاه لراية * ردت عليه هناك أكرم منقب
    إذ جاء حاملها فأقبل متعباً * يهوي بها العدوي أو كالمتعب
    يهوي بها وفتى اليهود يشله * كالثور ولى من لواحق أكلب
    غضب النبي لها فأنبه بها * ودعا أخا ثقة لكهل منجب
    --------------------------- 430 ---------------------------
    رجلاً كلا طرفيه من سام وما * حام له بأب ولا بأبي أب
    من لا يفر ولا يرى في نجدة * إلا وصارمه خضيب المضرب
    فمشى بها قبل اليهود مصمماً * يرجو الشهادة لا كمشي الأنكب
    تهتز في يمنى يدي متعرض * للموت أروع في الكريهة محرب
    في فيلق فيه السوابغ والقنا * والبيض تلمع كالحريق الملهب
    والمشرفية في الأكف كأنها * لمع البروق بعارض متحلب
    وذووا البصائر فوق كل مقلص * نهد المراكل ذي سبيب سلهب
    حتى إذا دنت الأسنة منهم * ورموا فنالهم سهام المِقنب
    شدوا عليه ليرجلوه فردهم * عنه بأسمر مستقيم الثعلب
    ومضى فأقبل مرحب متذمراً * بالسيف يخطر كالهزبر المغضب
    فتخالسا مهج النفوس فأقلعا * عن جري أحمر سائل من مرحب
    فهوى بمختلف القنا متجدلاً * ودم الجبين بخده المتترب
    أجلي فوارسه وأجلي رجله * عن مقعص بدمائه متخضب
    فكأن زُوَّرَه العواكفَ حوله * من بين خامعةٍ ونَسرأهدب
    شعث لعافطة دعوا لوليمة * أو ياسرون تخالسوا في منهب
    فاسأل فإنك سوف تخبر عنهم * وعن ابن فاطمة الأغر الأغلب
    وعن ابن عبد الله عمرو قبله * وعن الوليد وعن أبيه الصقعب
    وبني قريظة يوم فرق جمعهم * من هاربين وما لهم من مهرب
    وموائلين إلى أزل ممنع * رأسي القواعد مشمخر حوشب
    رد الخيول عليهم فتحصنوا * من بعد أرعن جحفل متحزب
    إن الضباع متى تحس بنبأة * من صوت أشوس تقشعر وتهرب
    فدعوا ليمضي حكم أحمدفيهم * حكم العزيز على الذليل المذنب
    فرضوا بآخر كان أقرب منهم * داراً فمتوا بالجوار الأقرب
    قالوا الجوار من الكريم بمنزل * يجري لديه كنسبة المتنسب
    فقضى بما رضيَ الإله لهم به * بالحرب والقتل الملح المخرب
    قتل الكهول وكل أمرد منهم * وسبى عقائل بدناً كالربرب
    وقضى عقارهم لكل مهاجر * دون الألى نصروا ولم يتهيب
    --------------------------- 431 ---------------------------
    وبخم إذ قال الإله بعزمة * قم يا محمد بالولاية فاخطب
    وانصب أباحسنٍ لقومك إنه * هاد وما بلغت إن لم تنصب
    فدعاه ثم دعاهم فأقامه * لهمُ فبين مصدق ومكذب
    جعل الولاية بعده لمهذب * ما كان يجعلها لغير مهذب
    وله مناقب لا ترام متى يرد * ساع تناول بعضها يتذبذب
    إنا ندين بحب آل محمد * ديناً ومن يحببهم يستوجب
    منا المودة والولاء ومن يرد * بدلا بآل محمد لا يحبب
    ومتى يمت يرد الجحيم ولا يرد * حوض الرسول وإن يرده يضرب
    ضرب المحاذر أن تعرَّ ركابه * بالسوط سالفة البعير الأجرب
    وكأن قلبي حين يذكر أحمداً * ووصي أحمد نيط من ذي مخلب
    بذرى القوادم من جناح مصعد * في الجو أو بذرى جناح مصوب
    حتى يكاد من النزاع إليهما * يفري الحجاب عن الضلوع الصلَّب
    هبة وما يهب الإله لعبده * يزدد ومهما لا يهب لا يوهب
    يمحو ويثبت ما يشاء وعنده * علم الكتاب وعلم ما لم يكتب )
  • *
    9 . وقال ( رحمه الله ) في حرب الجمل :
    جاءت مع الأشقين في هودج * تزجي إلى البصرة أجنادها
    كأنها في فعلها هرة * تريد أن تأكل أولادها ) !
  • *
    10 . واشتهرت قصيدته : لأم عمرو . وقيل إن النبي ( ( عليهما السلام ) ) في المنام استنشده إياها :
    لأم عمرو باللوى مربع * طامسة أعلامه بلقع
    تروح عنه الطير وحشية * والأسْد من خيفته تفزع
    إلى أن يقول :
    عجبت من قوم أتوا أحمداً * بخطبة ليس لها موضع
    قالوا له لو شئت أعلمتنا * إلى من الغاية والمفزع
    --------------------------- 432 ---------------------------
    إذا توفيت وفارقتنا * وفيهم في الملك من يطمع
    فقال لو أعلمتكم مفزعاً * كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا
    صنيع أهل العجل إذ فارقوا * هارون فالترك له أودع
    وفي الذي قال بيان لمن * كان إذن يعقل أو يسمع
    ثم أتته بعد ذا عزمة * من ربه ليس لها مدفع
    أبلغ وإلا لم تكن مبلغاً * والله منهم عاصمٌ يمنع
    فعندها قام النبي الذي * كان بما يأمره يصدع
    يخطب مأموراً وفي كفه * كف عليٍّ ظاهراً يلمع
    رافعها أكرم بكف الذي * يَرفع والكف التي تُرفع
    يقول والأملاك من حوله * والله فيهم شاهد يسمع
    من كنت مولاه فهذا له * مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
    فاتهموه وخبَت فيهم * على خلاف الصادق الأصلع
    وضل قوم غاظهم فعله * كأنما آنافهم تُجدع
    حتى إذا واروه في قبره * وانصرفوا عن دفنه ضيعوا
    ما قال بالأمس وأوصى به * واشتروا الضر بما ينفع
    وقطعوا أرحامه بعده * فسوف يجزون بما قطعوا
    وأزمعوا غدراً بمولاهم * تباً بما كان به أزمعوا
    لاهم عليه يردوا حوضه * غداً ولا هو فيهم يشفع
    حوض له ما بين صنعا إلى * أيلة أرض الشام أو أوسع
    ينصب فيه علم للهدى * والحوض من ماء له مترع
    يفيض من رحمته كوثر * أبيض كالفضة أو أنصع
    حصاه ياقوت ومرجانة * ولؤلؤ لم تجنه إصبع
    بطحائه مسك وحافاته * يهتز منها مونق مربع
    أخضر ما دون الورى ناضر * وفاقع أصفر أو أنصع
    فيه أباريق وقِدحانه * يذب عنها الرجل الأصلع
    يذب عنها ابن أبي طالب * ذبك جربى إبل تَشرع
    والعطر والريحان أنواعه * ذاك وقد هبت به زعزع
    --------------------------- 433 ---------------------------
    ريح من الجنة مأمورة * ذاهبة ليس لها مرجع
    إذا دنوا منه لكي يشربوا * قال لهم تباً لكم فارجعوا
    دونكم فالتمسوا منهلاً * يرويكم أو مطعماً يُشبع
    هذا لمن والى بني أحمد * ولم يكن غيرهم يتبع
    فالفوز للشارب من حوضه * والويل والذل لمن يمنع
    والناس يوم الحشر راياتهم * خمس فمنها هالكٌ أربع
    فراية العجل وفرعونها * وسامريُّ الأمة المُشْنع
    وراية يقدمها أدلمٌ * عبدٌ لئيمٌ لكَع أكوع
    وراية يقدمها حبترٌ * للزور والبهتان قد أبدعوا
    وراية يقدمها نعثلٌ * لا [ يَبْردنَّ ] له مضجع
    أربعة في سقر أودعوا * ليس لهم من قعرها مطلع
    وراية يقدمها حيدر * ووجهه كالشمس إذ تطلع
    غداً يلاقي المصطفى حيدر * وراية الحمد له ترفع
    مولى له الجنة مأمورة * والنار من إجلاله تفزع
    إمام صدق وله شيعة * يرووا من الحوض ولم يمنعوا
    بذاك جاء الوحي من ربنا * يا شيعة الحق فلا فلا تجزعوا
    الحميري مادحكم لم يزل * ولو يقطع إصبع إصبع
    وبعدها صلوا على المصطفى * وصنوه حيدرٌ الأصلع »
    11 . وقال في آية : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ :
    بأبي أنت وأمي * يا أميرالمؤمنينا
    بأبي أنت وأمي * وبرهطي أجمعينا
    وبأهلي وبمالي * وبناتي والبنينا
    وفدتك النفس مني * يا إمام المتقينا
    وأمين الله والوارث * علم الأولينا
    ووصي المصطفى * أحمد خير المرسلينا
    وولي الحوض والذائد * عنه المحدثينا
    --------------------------- 434 ---------------------------
    أنت أولى الناس بالناس * وخير الناس دينا
    كنت في الدنيا أخاه * يوم يدعو الأقربينا
    ليجيبوه إلى الله * فكانوا أربعينا
    بين عم وابن عم * حوله كانوا عرينا
    فورثت العلم منه * والكتاب المستبينا
    طبت كهلاً وغلاماً * ورضيعاً وجنينا
    ولدى الميثاق طيناً * يوم كان الخلق طينا
    كنت مأموناً وجيهاً * عند ذي العرش مكينا
    في حجاب النور حياً * طيباً للطاهرينا
  • *
    12 . قال ابن عائشة : وقف السيد على بشار وهوينشد الشعر ، فأقبل عليه وقال :
    أيها المادح العباد ليعطى * إن لله ما بأيدي العباد
    فاسأل الله ما طلبت إليهم * وأرجُ نفع المنزِّل العواد
    لا تقل في الجواد ما ليس فيه * وتسمي البخيل باسم الجواد
    قال بشار من هذا ؟ فعرفه ، فقال : لولا أن هذا الرجل قد شغل عنا بمدح بني هاشم لشغلنا ! ولوشاركنا في مذهبنا لتعبنا [ لافتقرنا ] . ( أعيان الشيعة : 3 / 416 ) .
    13 . وقال السيد الحميري ( رحمه الله ) ( أسد الغابة : 4 / 40 ) :
    سائل قريشاً إذا ما كنت ذا عمهٍ * من كان أثبتهم في الدين أوتادا
    من كان أولها سلماً وأكثرها * علماً وأطيبها أهلاً وأولادا
    من كان أعدلهم حكماً وأقسطهم * فتياً وأصدقهم وعداً وايعادا
    من صدق الله إذ كانت مكذبة * تدعو مع الله أوثاناً وأندادا
    إن يصدقوك فلن يعدو أباحسن * إن أنت لم تلق للأبرار حسادا )
    أقول : اختزل ابن الأثير وابن عبد البر ( الإستيعاب : 3 / 1128 ) : قصيدة السيد الحميري هذه لأنه فضل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أبي بكر وعمر .
    ورواها المسعودي في مروج الذهب ، قال ( 3 / 14 ) : ( وحدث أبو جعفر محمد بن جرير
    --------------------------- 435 ---------------------------
    الطبري ، عن محمد بن حميد الرازي ، أبي مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قال : لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار النَّدْوَة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع معاوية في علي وشرع في سَبِّه ، فزحف سعد ثم قال : أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي ! والله لأن يكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس : والله لأن أكون صهراً لرسول الله ( ( عليهما السلام ) ) وأن لي من الولد ما لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! والله لأن يكون رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال لي ما قاله يوم خيبر : لأعطيَنَّ الراية غداً رجلا يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، ليس بِفَرَّار يفتح الله على يديه ، أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! والله لأن يكون رسول الله ( ( عليهما السلام ) ) قال لي ما قال له في غزوة تبوك : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ،
    إلا أنه لا نبي بعدي ، أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! ، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت ، ثم نهض ليقوم فضَرَطَ له معاوية ، وقال له : أقعد حتى تسمع جواب ما قلت ، ما كُنْتَ عندي قط ألأم منك الآن ، فهلا نصرته ، ولم قعدت عن بيعته ؟ فإني لو سمعت من النبي ( ( عليهما السلام ) ) مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعلي ما عشت !
    فقال سعد : والله إني لأحق بموضعك منك ، فقال معاوية : يأبى عليك ذلك بنو عذرة ، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة ، قال النوفلي : وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري :
    سائل قريشاً بها إن كنت ذا عَمَه * من كان أثْبَتَها في الدين أوتادا
    من كان أقدمها سلماً وأكثرها * علماً وأطهرها أهلا وأولادا
    من وحَّد الله إذ كانت مكذبة * تدعو مع الله أوثاناً وأندادا
    من كان يُقْدِمُ في الهيجاء إن نكلوا * عنها وإن بخلوا في أزمة جادا
    من كان أعدلها حكماً وأقسطها * حلماً ، وأصدقها وعداً وإيعادا
    --------------------------- 436 ---------------------------
    إن يَصْدُقُوك فلم يَعْدُوا أباحسن * إن أنت لم تلق للأبرار حسادا
    إن أنت لم تلق من تيم أخا صَلَفٍ * ومن عَدِيٍّ لحق الله جُحَّادا
    أو من بني عامر أو من بني أسد * رَهْطِ العبيد ذوي جهل وأوغادا
    أو رهط سعد وسعد كان قد علموا * عن مستقيم صراط الله صَدَّادا
    قوم تَدَاعَوْا زنيماً ثم سادهُمُ * لولا خمول بني زهرٍ لما سادا
    وكان سعد وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة ، ممن قعد عن علي بن أبي طالب ، وأبوا أن يبايعوه هم وغيرهم ممن ذكرنا من القُعَّاد عن بيعته وذلك أنهم قالوا : إنها فتنة ، ومنهم من قال لعلي : أعطنا سيوفاً نقاتل بها معك فإذا ضربنا بها المؤمنين لم تعمل فيهم ونبَتْ عن أجسامهم ، وإذا ضربنا بها الكافرين سرَتْ في أبدانهم ! فأعرض عنهم عليٌّ ، وقال : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) !
  • *
    14 . وقال ( رحمه الله ) في رثاء الحسين ( عليه السلام ) : ( أعيان الشيعة : 3 / 22 ) :
    أُمرُر على جدث الحسين * وقل لأعظمه الزكية
    يا أعظماً لا زلت من * وَطْفَاء ساكبةٍ رويه
    ما لذ عيش بعد رضك * بالجياد الأعوجيه
    قبر تضمن طيباً * آباؤه خير البرية
    آباؤه أهل الرياسة * والخلافة والوصية
    والخير والشيم المهذبة * المطيبة الرضيه
    فإذا مررت بقبره * فأطل به وقف المطية
    وابك المطهر للمطهر * والمطهرة الزكية
    كبكاء معولة غدت * يوماً بواحدها المنيه
    والعن صدى عمر بن * سعد والملمع بالنقيه
    شمر بن جوشنٍ الذي * طاحت به نفس شقيه
    جعلوا ابن بنت نبيهم * غرضاً كما تُرمى الدريه
    لم يدعهم لقتاله * إلا الجعالة والعطيه
    لما دعوه لكي تحك - * - م فيه أولاد البغية
    أولاد أخبث من مشى * مرحاً وأخبثهم سجيه
    فعصاهم وأبت له * نفس معززة أبيه
    --------------------------- 437 ---------------------------
    فغدوا له بالسابغات * عليهم والمشرفيه
    والبيض واليلب اليماني * والطوال السمهريه
    وهم ألوف وهو في * سبعين نفس هاشميه
    فلقوه في خلف لأحمد * مقبلين من الثنيه
    مستيقنين بأنهم * سيقوا لأسباب المنيه
    يا عين فابكي ما حييت * على ذوي الذمم الوفيه
    لا عذر في ترك البكاء * دماً وأنت به حرية ) .
    أقول : تعبيرالسيد ( رحمه الله ) بالأعظم الزكية للحسين ( عليه السلام ) على جري العرب ،
    فهم يقولون عن جثمانه وجنازته : عظامه ، بل يقولون رحم الله عظامه أي نفسه .
    وإلا فإن الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) لا تأكل أجسامهم الأرض ، ولا الوحوش .
    وقد تقدم الكلام في مسائل أبدانهم وأرواحهم ( عليهم السلام ) .
  • *
    15 . وقال ( رحمه الله ) في مدح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( ديوانه : 1 / 50 )
    علي أمير المؤمنين وعزهم * إذا الناس خافوا مهلكات العواقب
    علي هو الحامي المرجَّى بفعله * لدى كل يوم باسل الشر عاصب
    علي هو المرهوب والذائد الذي * يذود عن الإسلام كل مناصب
    علي هو الغيث الربيع مع الحىا * إذا نزلت بالناس إحدى المصائب
    علي هو العدل الموفق والرضا * وفارج لبس المبهمات الغرائب
    علي هو المأوى لكل مطرد * شريد ومنحوب من الشر هارب
    علي هو المهدي والمقتدى به * إذا الناس حاروا في فنون المذاهب
    علي هو القاضي الخطيب بقوله * يجيئ بما يعيى به كل خاطب
    علي هو الخصم القؤول بحجة * يردد بها قول العدو المشاغب
    علي هو البدر المنير ضياؤه * يضيء سناه في ظلام الغياهب
    علي أعز الناس جاراً وحامياً * وأقتلهم للقرن يوم الكتائب
    علي أعم الناس حلماً ونائلاً * وأجودهم بالمال حقاً لطالب
    علي أكفُّ الناس عن كل محرم * وأتقاهم لله في كل جانب
  • *
    --------------------------- 438 ---------------------------
    16 . كان السيد الحميري تلميذ سليمان الأعمش ( رحمه الله ) فطبعه سليمان بطابعه من اليقين ، والجدية في ولاء أهل البيت ( عليهم السلام ) والجهر بحقهم ، والبصيرة ، والشجاعة
    قال حفيد أبي الأسود الدؤلي : تذاكرنا السيد فجاء فجلس ، وخضنا في ذكر الزرع والنخل ساعة فنهض فقلنا : يا أباهاشم ممَّ القيام ؟ فقال :
    إني لأكره أن أطيل بمجلس * لا ذكر فيه لفضل آل محمد
    لا ذكر فيه لأحمد ووصيه * وبنيه ذلك مجلس نطف ردي
    إن الذي ينساهم في مجلس * حتى يفارقه لغير مسدد
  • *
    قطاف من شعر دعبل الخزاعي ؟ رح ؟
    1 . دعبل بن علي بن رزين الخزاعي ، قيل إنه من أولاد بديل بن ورقاء الخزاعي
    رضي الله عنه . وهو يشبه الكميت في إخلاصة لأهل بيت النبي ( ( عليهما السلام ) ) وتحمله من أعدائهم ، وكان مطارداً ثلاثين سنة أو أكثر ! ولد سنة 148 وتوفي سنة 246 وقد بلغ من العمر 98 سنة ، وقال حين حضره الموت :
    أعدَّ لله يوم يلقاه * دعبلُ أن لا إله إلا هو
    يقولها مخلصاً عساهُ بها * يرحمه في القيامة الله
    الله مولاه والنبي ومن * بعدهما فالوصي مولاه
    وفاطمٌ بضعة النبي ونجلا * ها من المرتضى وسبطاه
    خمسة رهط دعا الإله بهم * آدمُ من ذنبه فأرضاه
    2 . قال ( رحمه الله ) في مدح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
    ألا إنه طهرٌ زكيٌ مطهر * سريعٌ إلى الخيرات والبركات
    غلاماً وكهلاً خير كهلٍ ويافعٍ * وأبسطهم كفاً إلى الكربات
    وأشجعهم قلباً وأصدقهم أخاً * وأعظمهم في المجد والقربات
    أخو المصطفى بل صهره ووصيه * من القوم والستار للعورات
    كهارون من موسى على رغم معشر * سِفَالٍ لئامٍ شُفَّقِ البشرات
    فقال ألا من كنت مولاه منكم * فهذا له مولى بُعَيْدَ وفاتي
    أخي ووصيي وابن عمي ووارثي * وقاضي ديوني من جميع عداتي
    --------------------------- 439 ---------------------------
    3 . وقال دعبل ( رحمه الله ) :
    سلام بالغداة وبالعشي * على جدثٍ بأكناف الغريِّ
    ولا زالت عَزالي النوْء تُزجي * إليه صَبَابَةَ المُزن الروي
    ألا يا حبذا تربٌ بنجد * وقبرٌ ضم أوصال الوصي
    وصي محمد بأبي وأمي * وأكرم من مشى بعد النبي
    برئت إلى إلهي من أناس * يرون الفضل منه إلى الدعي
    لئن حجوا إلى البلد القصي * فحجي ما حييت إلى علي
    وإن زاروا هم الشيخين زرنا * علياً وابنه السبط الرضي
    ومالي لا أزورهما وأقضي * حقوق الطهر طه الهاشمي
    فقد كانا له نفساً وطيباً * ينيفهما على المسك الذكي
    أزورهما على رغم الأعادي * عكوفاً بالغداة وبالعشي
    ومالي في الزيارة للمغاني * فمن وادي المياه إلى الطوي
    تركن الدمع ينبع من فؤادي * كما نبع الدُفاع من الركي
    لقد شغل الدموع عن العواني * مصاب الأكرمين بني علي
    ألا تقف الدموع على حسين * وذكرى مصرع الحَبْر التقي
  • *
    4 . وقال دعبل ( رحمه الله ) :
    نطق القُرَانُ بفضل آل محمد * وولايةٍ لعليِّهم لم تجحدِ
    بولاية المختار من خير الورى * بعد النبي الصادق المتودد
    إذ جاءه المسكين حال صلاته * فامتد طوعاً بالذراع وباليد
    فتناول المسكين منه خاتماً * هبةَ الكريم الأجود بن الأجود
    فاختصه الرحمن في تنزيله * من حاز مثل فخاره فليعدد
    5 . وقال ( رحمه الله ) :
    سقياً لبيعة أحمد ووصيه * أعني الإمام وليَّنا المحسودا
    أعني الذي نصر النبي محمداً * قبل البرية ناشئاً ووليدا
    أعني الذي كشف الكروب ولم يكن * في الحرب عند لقائها رعديدا
    --------------------------- 440 ---------------------------
    أعنى الموحد قبل كل موحد * لا عابداً وثناً ولا جلمودا
    وهو المقيم على فراش محمد * حتى وقاه كائداً ومكيدا
    وهو المقدم عند حومات الوغى * ما ليس ينكر طارفاً وتليدا
    إن يدفعوه عن المقام فلم يكن * شانيه إلا حاقداً وحسودا
    6 . وقال دعبل ( رحمه الله ) :
    كأن سنانه أبداً ضمير * فليس له عن القلب انقلاب
    وصارمه كبيعته بخم * فموضعها من الناس الرقاب
    فأخذه المتنبي فقال :
    كأنّ الهام في الهيجا عيون * وقد طبعت سيوفك من رقاد
    وقد صُغْت الأسنة من هموم * فما يخطرن إلَّا في فؤاد
  • *
    7 . وقال دعبل ( رحمه الله ) يهجو مروان بن أبي حفصة :
    وهو مولى بني أمية ، ثم صار مولى بني العباس ، فنظم فيهم بيت شعر واحداً :
    أنى يكون وليس ذاك بكائن * لبني البنات وراثة الأعمام
    يقصد أن العباس هو الذي يرث النبي ( ( عليهما السلام ) ) لأنه عمه ، دون فاطمة بنته ( عليها السلام )
    وأبنائها الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فأعطاه خلفاء بني عباس جوائز عديدة كبيرة ، بلغت مئات الألوف ! ورد عليه جعفر بن عفان الطائي بقوله ( أنوار الربيع / 256 ) :
    لم لا يكون وإن ذاك لكائنٌ * لبني البنات وراثة الأعمام
    للبنت نصفٌ كاملٌ من ماله * والعم متروك ٌبغير سهام
    ما للطليق وللتراث وإنما * صلى الطليق مخافة الصمصام
    يقصد أن الإسلام يورث البنت دون الأعمام ، وأن العباس كان مع المشركين في بدر ، وأخذ أسيراً فلا حق له في النبي ( ( عليهما السلام ) ) وهجاه دعبل ( رحمه الله ) بقوله :
    قل لابن خائنة البعول * وابن الجوادة والبخيل
    أتذم أولاد النبي * وأنت من ولد النغول
    إن المذمة للوصي * هي المذمة للرسول
    أمودة القربى تحا * ولها بذم مستحيل !
    --------------------------- 441 ---------------------------
    8 . واشتهر دعبل بقصيدته التي أنشدها للإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وقد تضمنت مدحاً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وذماً للسقيفة وبيعة الفلتة ، ومنها :
    ألم تر للأيام ماجرَّ جورها * على الناس من نقص وطول شتات
    ومن دول المستهترين ومن غدا * بهم طالباً للنور في الظلمات
    فكيف ومن أنى يطالب زلفة * إلى الله بعد الصوم والصلوات
    سوى حب أبناء النبي ورهطه * وبغض بني الزرقاء والعبلات
    وهند وما أدت سمية وابنها * الكوافر في الإسلام والفجرات
    هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه * ومحكمه بالزور والشبهات
    ولم تك إلا محنة كشفتهم * بدعوى ضلال من هن وهنات
    تراثٌ بلا قربى وملكٌ بلا هدى * وحكمٌ بلا شورى بغير هداة
    رزايا أرتنا خضرة الأفق حمرة * وردت أجاجاً طعم كل فرات
    وما سهلت تلك المذاهب فيهم * على الناس إلا بيعة الفلتات
    وما نال أصحاب السقيفة إمرة * بدعوى تراث بل بأمر ترات
    ولو قلدوا الموصى اليه زمامها * لزمت بمأمون من العثرات
    أخا خاتم الرسل المصفى من القذى * ومفترس الأبطال في الغمرات
    فإن جحدوا كان الغدير شهيده * وبدر وأحْدٌ شامخ الهضبات
    وآي من القرآن تتلى بفضله * وإيثاره بالقوت في اللزبات
    وغُرُّ خِلالٍ أدركته بسبقها * مناقب كانت فيه مؤتنفات
    مناقب لم تدرك بكيد ولم تنل * بشئ سوى حد القنا الذربات
    نجيٌّ لجبريل الأمين وأنتم * عكوفٌ على العُزى معاً ومناة
  • *
    بكيت لرسم الدار من عرفات * وأذريت دمع العين بالعبرات
    وفك عرى صبري وهاجت صبابتي * رسوم ديار أقفرت وعرات
    مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
    لآل رسول الله بالخيف من منى * وبالركن والتعريف والجمرات
    ديار علي والحسين وجعفر * وحمزة والسجاد ذي الثفنات
    ديار لعبد الله والفضل صنوه * نجيِّ رسول الله في الخلوات
    --------------------------- 442 ---------------------------
    منازل وحي الله ينزل بينها * على أحمد المذكور في السورات
    منازل قوم يهتدى بهداهم * فتؤمن منهم زلة العثرات
    منازل كانت للصلاة وللتقى * وللصوم والتطهير والحسنات
    منازل جبريل الأمين يحلها * من الله بالتسليم والرحمات
    أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً * وقد مات عطشاناً بشط فرات
    إذن للطمت الخد فاطم عنده * وأجريت دمع العين في الوجنات
    أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي * نجوم سماوات بأرض فلاة
    قبور بكوفان وأخرى بطيبة * وأخرى بفخ نالها صلواتي
    وقبر بأرض الجوزجان محله * وقبر بباخمرا لدى الغربات
    وقبر ببغداد لنفس زكية * تضمنها الرحمن في الغرفات
  • *
    فأما الممضات التي لست بالغاً * مبالغها مني بكنه صفات
    نفوس لدى النهرين من أرض كربلا * معرسهم فيها بشط فرات
    توفوا عطاشاً بالفرات فليتني * توفيت فيهم قبل حين وفاتي
    إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم * سقتني بكأس الذل والفظعات
    أخاف بأن أزدارهم فيشوقنى * معرسهم بالجزع فالنخلات
  • *
    ستسأل تيم عنهم وعديها * وبيعتهم من أفجر الفجرات
    هم منعوا الآباء من أخذ حقهم * وهم تركوا الأبناء رهن شتات
    وهم عدلوها عن وصي محمد * فبيعتهم جاءت على الغدرات
    ملامك في أهل النبي فإنهم * أحبايَ ما عاشوا وأهل ثقاتي
    أحب قصي الرحم من اجل حبكم * وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
    لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها * وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
    ألم تر أني مذ ثلاثين حجة * أروح وأغدو دائم الحسرات
    أرى فيأهم في غير هم متقسماً * وأيديهم من فيئهم صفرات
    بنات زياد في القصور مصونة * وآل رسول الله في الفلوات
    --------------------------- 443 ---------------------------
    ديار رسول الله أصبحن بلقعاً * وآل زياد تسكن الحجرات
    وآل رسول الله تدمى نحورهم * وآل زياد آمنوا السربات
    وآل رسول الله تسبى حريمهم * وآل زياد ربة الحجلات
    وآل رسول الله نحف جسومهم * وآل زياد غُلَّظُ القصرات
    إذا وتروا مدوا إلى واتريهم * أكفاً عن الأوتار منقبضات
  • *
    فلولا الذي أرجوه في اليوم أوغد * تقطع قلبي إثرهم حسرات
    خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله والبركات
    يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات
    فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشري * فغير بعيد كل ما هو آت
    قال دعبل : لما انتهيت إلى قولي :
    إذا وُتروا مدوا إلى واتريهم * أكفاً عن الأوتار منقبضات
    فبكى الرضا ( عليه السلام ) ثم قال لي : أعد ، فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها فقال لي : أحسنت ثلاث مرات ، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه ولم تكن وقعت إلى أحد ، وأمر لي من منزله بحلي كثىر أخرجه إلى الخادم .
    فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم ، اشتراها مني الشيعة ، فحصل لي ماءة ألف درهم ، فكان أول مال استفدته .
    وطلب من الإمام ( عليه السلام ) ثوباً لكفنه ، فخلع جبة كانت عليه فأعطاه إياها ، وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل ، فلما خرج تبعه أحداثهم فأخذوها منه فصالحوه بثلاثين ألفاً وكُماً من بطانتها ، فرضي بذلك .
    وفي كمال الدين ( 2 / 273 وعيون أخبار الرضا ( 2 / 262 ) : ( لما انتهيت إلى قولي :
    خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله والبركات
    يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات
    بكى الرضا ( عليه السلام ) بكاء شديداً ، ثم رفع رأسه إلي فقال لي : يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم ؟ قلت :
    --------------------------- 444 ---------------------------
    لا يا مولاي ، إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يملأ الأرض عدلاً ، فقال : يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره . لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله عز وجل ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً . وأما متى فإخبار عن الوقت ، فقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه ( عليهم السلام ) أن النبي ( ( عليهما السلام ) ) قيل له : يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال : مثَله مثل الساعة التي لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة . وفي رواية الذريعة ( 23 / 347 ) : ( قال أبو الصلت : فلما سمع الإمام ذلك قام قائماً على قدميه وطأطأ رأسه منحنياً به إلى الأرض بعد أن وضع كفه اليمنى على هامته وقال : اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وانصرنا به نصراً عزيزاً .
    وقال دعبل : لما انتهيت إلى قولي :
    وقبر ببغداد لنفس زكيّة * تضمّنها الرّحمن في الغرفات .
    قال ( عليه السلام ) : أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك ؟ قلت : بلى ، فقال :
    وقبر بطوس يا لها من مصيبة * تَوَقَّدُ في الأحشاء بالحرقات
    إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً * يفرِّج عنا الهمَّ والكربات ) .
  • *
    قصيدة للناشي الصغير
    نسبوا قصيدته هذه إلى عمرو العاص ، لأنه كان إذا أغضبه معاوية مدح علياً ليغيظه ، وله فيه كلمات مدح وأبيات ، لكن القصيدة هذه للناشي الصغير ، وقد ولد 271 ، وتوفي 365 .
    والقصيدة هي : ( الغدير : 4 / 27 ) :
    بآل محمد عُرف الصوابُ * وفي أبياتهم نزل الكتاب
    همُ الكلمات والأسماء لاحت * لآدمَ حين عزَّ له المتاب
    وهم حجج الإله على البرايا * بهم وبحكمهم لايستراب
    بقية ذي العلى وفروع أصل * بحسن بيانهم وضُحَ الخطاب
    وأنوارٌ ترى في كل عصر * لإرشاد الورى فهمُ شهاب
    ذراري أحمد وبنو علي * خليفتِه فهم لبٌّ لباب
    --------------------------- 445 ---------------------------
    تناهوا في نهاية كل مجد * فطهرٌ خلقهم وزكوا وطابوا
    إذا ما أعوزَ الطلاب علم * ولم يوجدفعندهم يصاب
    محبتهم صراط مستقيم * ولكن في مسالكه عقاب
    ولا سيما أبو حسن علي * له في الحرب مرتبة تهاب
    كأن سنان ذابله ضمير * فليس عن القلوب له ذهاب
    وصارمه كبيعته بخم * معاقدها من القوم الرقاب
    عليُّ الدرُّ والذهب المصفى * وباقي الناس كلهم تراب
    إذا لم تبرَ من أعدا عليٍّ * فما لك في محبته ثواب
    إذا نادت صوارمه نفوساً * فليس لها سوا نعم جواب
    فبين سنانه والدرع سلم * وبين البيض والبيض اصطحاب
    هو البكَّاء في المحراب ليلاً * هو الضحاك إن جد الضِّراب
    ومن في خفه طرح الأعادي * حباباً كي يُلَسِّعَهُ الحباب
    فحين أراد لبس الخف وافى * يمانعه عن الخف الغراب
    وطار له فأكفأه وفيه * حباب في الصعيد له انسياب
    ومن ناجاه ثعبان عظيم * بباب الطهر ألقته السحاب
    رآه الناس فانجفلوا برعب * وأغلقت المسالك والرحاب
    فلما أن دنا منه علي * تدانى الناس واستولى العجاب
    فكلمه علي مستطيلاً * وأقبل لا يخاف ولا يهاب
    ودان لحاجر وانساب فيه * وقال وقد تغيبه التراب
    أنا ملك مسخت وأنت مولى * دعاؤك إن مننت به يجاب
    أتيتك تائباً فاشفع إلى من * إليه في مهاجرتي الإياب
    فأقبل داعياً وأتى أخوه * يؤمن والعيون لها انسكاب
    فلما أن أجيبا ظل يعلو * كما يعلو لدى الجد العقاب
    وأنبت ريش طاووس عليه * جواهر زانها التبر المذاب
    يقول لقد نجوت بأهل بيت * بهم يصلى لظى وبهم يثاب
    هم النبأ العظيم وفلك نوح * وباب الله وانقطع الخطاب
  • *
    --------------------------- 446 ---------------------------
    قصيدة الحسين بن الحجاج : يا صاحب القبة البيضا على النجف
    الحسين بن الحجاج النيلي البغدادي متوفى / 391 هجرية ، ويظهر من شعره أنه من ذرية الحجاج الطاغية ، والله يخرج الحي من الميت ! توفي سنة 391 بالنيل بالحلة ، وحمل تابوته إلى بغداد فدفن عند رجلي الإمامين الكاظمين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكتب على قبره بوصية منه : وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ !
    وصفوه بأنه من أعاظم الشعراء ، وأنه كان متصلباً في التشيع ، وله ديوان شعر كبير عدة مجلدات وأكثره هجاء وسخرية من خصوم أهل البيت ( عليهم السلام ) ومخالفيهم ، وقد اعتنى الشريف الرضي بشعره ، وجمع من ديوانه ما خلا السخف والمجون وسماه : الحسن من شعر الحسين . ورثاه بعد موته .
    وقال الحموي في معجم الأدباء : شاعر مفلق قالوا إنه في درجة امرئ القيس لم يكن بينهما مثلهما . وقد اخترع طريقة في الخلاعة والمجون لم يسبقه إليها أحد ! قدير على ما يريده من المعاني مع عذوبة الألفاظ وسلاستها !
    ورووا أن السلطان مسعود بن بويه لما بنى سور المشهد بالنجف ، دخل الحضرة الشريفة فوقف ابن الحجاج بين يديه وأنشده قصيدته : يا صاحب القبة البيضا . .
    فلما وصل إلى هجاء المخالفين منعه الشريف المرتضى من إكمالها ، فرأى ابن الحجاج في منامه تلك الليلة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يقول له : لا ينكسر خاطرك فقد بعثنا المرتضى يعتذر إليك فلا تخرج اليه ! ورأى المرتضى تلك الليلة النبي ( ( عليهما السلام ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) فلم يقبلوا عليه ، فعظم ذلك عنده وقال لهم : أنا عبدكم وولدكم فبم استحققت هذا ؟ قالوا : بما كسرت خاطر شاعرنا ابن الحجاج فتمضي اليه وتعتذر ، فمضى اليه وطرق الباب فقال له ابن الحجاج : يا سيدي ! الذي بعثك إليَّ أمرني أن لا أخرج إليك ، فدخل اليه واعتذر ! ومضى به إلى السلطان فقصا عليه القصة ، فأمره بإنشاد القصيدة فأنشدها ، وأنعم عليه وحباه . ( أعيان الشيعة : 5 / 427 ، والقصيدة / 433 ) .
    أقول : هذا يدلنا على أن السخرية من النواصب والتفنن في انتقاصهم ، كما كان يفعل
    ابن الحجاج ( رحمه الله ) ، له قيمة عالية عند الله تعالى . ومنه نقد الوهابية وانتقاصهم والسخرية
    --------------------------- 447 ---------------------------
    منهم ، ومن معبودهم الصبي الأمرد ! وأئمتهم ومشايخهم ! وخلاصة القصيدة :
    يا صاحب القبة البيضا على النجف * من زار قبرك واستشفى لديك شفي
    زوروا أبا الحسن الهادي لعلكمُ * تحظون بالأجر والإقبال والزُّلَف
    زوروا الذي تسمع النجوى لديه فمن * يزره بالقبر ملهوفاً لديه كفي
    إذا وصلت إلى أبواب قبته * تأمل الباب تِلْقَا وجهه وقف
    وقل سلام من الله السلام على * أهل السلام وأهل العلم والشرف
    إني أتيتك يا مولاي من بلدي * مستمسكاً من حبال الحق بالطرف
    لأنك العروة الوثقى فمن علقت * بها يداه فلن يشقى ولم يخف
    وإن شأنك شأنٌ غير منتقص * وإن نورك نور غير منكسف
    وإنك الآية الكبرى التي ظهرت * للعارفين بأنواع من الطرف
    كان النبي إذا استكفاك معضلة * من الأمور وقد أعيت لديه كفي
    وبايعوك بخم ثم أكدها * محمد بمقال منه غير خفي
    عافوك واطَّرحوا قول النبي ولم * يمنعهم قوله هذا أخي خلفي
    هذا وليكم بعدي فمن علقت * به يداه فلن يخشى ولم يخف
    خذها إليك أمير المؤمنين بلا * عيب يشين قوافيها ولا سخف
    فاستجلها من فتى الحجاج بنت ثنا * تشق كل فؤاد كافر دنف
    بحب حيدرة الكرار مفتخري * به شرفت وهذا منتهى شرفي
  • *
    قطاف من العلويات السبع لابن أبي الحديد المعتزلي
    1 . ابن أبي الحديد ، عبد الحميد بن محمد الشافعي المعتزلي ( 586 - 655 ، هجرية ) ولد بالمدائن ونشأ بها ، ودرس المذاهب الكلامية وانتمى إلى مذهب الاعتزال . وعرف بكتابه : شرح نهج البلاغة ، الذي ألفه للوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي وزير المعتصم بالله آخر ملوك العباسيين ، شرع في تأليفه سنة 644 وأتمه في آخر سنة 649 ، فقضى فيه أربع سنين وثمانية أشهر ، وأرسله إلى الوزير العلقمي ، فبعث إليه مائة ألف دينار ، وخلعة سنية وفرساً . وأشهر طبعاته في مصر بتحقيق الشيخ محمد أبي الفضل إبراهيم . ( الذريعة : 4 / 144 و : 14 / 111 )
    --------------------------- 448 ---------------------------
    وقد روى المؤرخون أن هولاكو المغولي لما دخل بغداد أخذ جماعة من العلماء ليقتلهم ، فتوسط لهم نصير الدين الطوسي الذي أسره هولاكو في إيران واستبقاه لأنه منجم وطبيب ، فحظي بمكانة عنده ، فقبل وساطته فيهم وأطلقهم ومنهم : أحمد ابن الدامغاني الحنفي صاحب الديوان ، وتاج الدين علي بن الدوامي الذي كان حاجب باب النوبي للمستعصم ، ونجم الدين أحمد بن عمران الباجسري أحد عمال الخليفة ، وقاضي القضاة عبد المنعم البندنيجي الشافعي ، وسراج الدين بن البجلي الشافعي ، وفخر الدين المبارك ابن المخرمي الحنبلي ، وعبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي ، وعبد الصمد بن أبي الجيش الحنبلي المقرئ المشهور ، فأطلقهم وعين ابن أبي الحديد مسؤولاً على مكتبات بغداد لحفظها فسلمت من حملة التخريب المغولي كلها ما عدا جامع الخليفة ومشهد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) فنهبوهما وخربوهما . ( أعيان الشيعة ( 9 / 86 ، والنجوم الزاهرة : 7 / 50 ) .
    2 . كما اشتهرت قصائده العلويات السبع في مدح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد نظمها سنة 611 ، وتبلغ أبياتها 403 بيتاً ، وشرحها جماعة من العلماء ، وأشهر طبعاتها باسم الروضة المختارة لصالح علي صالح الدمشقي طبع بيروت 1392 ، وأخذنا بعض قصائده من أدب الطف للعلامة الخطيب الشهيد السيد جواد شبر ( رحمه الله ) .
    وأشهرقصائده العينية التي كتبت بالذهب على ضريح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ومنها :
    يا رسمُ لا رسمتكَ ريحٌ زعزعُ * وسرت بليل في عراصك خروع
    لم ألف صدري من فؤادي بلقعاً * إلا وأنت من الأحبة بلقع
    يا برق إن جئت الغريَّ فقل له * أتراك تعلم من بأرضك مودعُ
    فيك ابن عمرانَ الكليمُ وبعده * عيسى يُقَفِّيه وأحمد يتبع
    بل فيك جبريلٌ وميكالٌ وإس - * رافيلُ والملأ المقدس أجمع
    بل فيك نور الله جل جلاله * لذوي البصائر يُستشف ويلمع
    فيك الإمام المرتضى فيك الوصي * المجتبى فيك البطين الأنزع
    الضارب الهام المقنع في الوغى * بالخوف للبهم الكماة يقنع
    والسمهرية تستقيم وتنحني * فكأنها بين الأضالع أضلع
    والمترع الحوض المدعدع حيث لا * واد يفيض ولا قليبٌ يترع
    --------------------------- 449 ---------------------------
    ومبدد الأبطال حيث تألبوا * ومفرق الأحزاب حيث تجمعوا
    والحبر يصدع بالمواعظ خاشعاً * حتى تكاد له القلوب تصدع
    حتى إذا استعر الوغى متلظياً * شربَ الدماء بغلة لا تنقع
    متجلبباً ثوباً من الدم قانياً * يعلوه من نقع الملاحم برقع
    زهد المسيح وفتكة الدهر التي * أودى بها كسرى وفُوِّزَ تُبَّع
    هذا ضمير العالم الموجود عن * عدم وسر وجوده المستودع
    هذي الأمانة لا يقوم بحملها * خلقاء هابطة وأطلس أرفع
    هذا هو النور الذي عذباته * كانت بجبهة آدم تتطلع
    وشهاب موسى حيث أظلم ليله * رفعت له لألاؤه تتشعشع
    يا من له ردت ذكاء ولم يفز * بنظيرها من قبل إلا يوشع
    يا هازم الأحزاب لا يثنيه عن * خوض الحمام مدجج ومدرع
    يا قالع الباب الذي عن هزه * عجزت أكفٌّ أربعون وأربع
    لولا حدوثك قلت إنك جاعل الأ * رواح في الأشباح والمستنزع
    لولا مماتك قلت إنك باسط الأ * رزاق تقدر في العطاء وتوسع
    ما العالم العلوي إلا تربة * فيه لجثتك الشريفة مضجع
    ما الدهر إلا عبدك القن الذي * بنفوذ أمرك في البرية مولع
    أنا في مديحك ألكنٌ لا أهتدي * وأنا الخطيب الهزبري المصقع
    أأقول فيك سميدعٌ كلا ولا * حاشا لمثلك أن يقال سميدع
    بل أنت في يوم القيامة حاكمٌ * في العالمين وشافع ومشفع
    ولقد جهلت وكنت أحذق عالم * أغرار عزمك أم حسامك أقطع
    وفقدت معرفتي فلست بعارف * هل فضل علمك أم جنابك أوسع
    لي فيك معتقد سأكشف سره * فليصغ أرباب النهى وليسمعوا
    هي نفثة المصدور يطفئُ بردها * حر الصبابة فاعذلوني أو دعوا
    والله لولا حيدر ما كانت الدنيا * ولا جمع البرية مجمع
    من أجله خلق الزمان وضُوئت * شهب كنسن وجَنُّ ليل أدرع
    علم الغيوب لديه غير مدافع * والصبح أبيض مسفر لا يدفع
    وإليه في يوم المعاد حسابنا * وهو الملاذ لنا غداً والمفزع
    --------------------------- 450 ---------------------------
    هذا اعتقادي قد كشفت غطاءه * سيضر معتقداً له أو ينفع
    يا من له في أرض قلبي منزل * نعم المراد الرحب والمستربع
    أهواك حتى في حشاشة مهجتي * نارٌ تشب على هواك وتلذع
    وتكاد نفسي أن تذوب صبابة * خلقاً وطبعاً لا كمن يتطبع
    ورأيت دين الاعتزال وإنني * أهوى لأجلك كل من يتشيع
    ولقد علمت بأنه لا بد من * مهديكم وليومه أتوقع
    تحميه من جند الإله كتائب * كاليم أقبل زاخراً يتدفع
    فيها لآل أبي الحديد صوارم * مشهورة ورماح خط شرع
    ورجال موت مقدمون كأنهم * أسد العرين الربد لا تتكعكع
    تلك المنى إما أغب عنها فلي * نفس تنازعني وشوق ينزع
    ثم ذكر مصيبة الإمام الحسين ( عليه السلام ) فقال :
    ولقد بكيت لقتل آل محمد * بالطف حتى كل عضو مدمع
    عقرت بنات الأعوجية هل درت * ما يستباح بها وماذا يصنع
    وحريم آل محمد بين العدى * نهب تقاسمه اللئام الرضع
    تلك الضعائن كالإماء متى تسق * يعنف بهن وبالسياط تقنع
    من فوق أقتاب الجمال يشلها * لكع على حنق وعبدأكوع
    مثل السبايا بل أذل يشق من - * هن الخمار ويستباح البرقع
    فمصفد في قيده لا يفتدى * وكريمة تسبى وقرط ينزع
    تالله لا أنسى الحسين وشلوه * تحت السنابك بالعراء موزع
    متلفعاً حمر الثياب وفي غد * بالخضر في فردوسه يتلفع
    تطأ السنابك صدره وجبينه * والأرض ترجف خيفة وتضعضع
    والشمس ناشرة الذوائب ثاكلٌ * والدهر مشقوق الرداء مقنع
    لهفي على تلك الدماء تراق في * أيدي أمية عنوة وتضيع
    بأبي أبو العباس أحمد إنه * خير الورى من أن يطل ويمنع
    فهو الولي لثارها وهو الحمول * لعبئها إذ كل عود يضلع
    الدهر طوع والشبيبة غضة * والسيف عضب والفؤاد مشيع
  • *
    --------------------------- 451 ---------------------------
    وله قصيدة في فتح خيبر ، منها :
    ألا إن نجد المجد أبيض ملحوبُ * ولكنه جم المهالك مرهوب
    هو العسل الماذي يشتاره امرؤٌ * بغاه وأطراف الرماح يعاسيب
    ذقِ الموت إن شئت العلى واطعم الردى * فنيل الأماني بالمنية مكسوب
    خض الحتف تأمن خطة الخف إنما * يبوخ ضرام الخطب والخطب مشبوب
    ألم تخبر الأخبار في فتح خيبر * ففيها لذي اللب الملب أعاجيب
    وفوز علي بالعلى فوزها به * فكل إلى كل مضاف ومنسوب
    حنانيك فاز العرب منك بسؤدد * تقاصر عنه الفرس والروم والنوب
    فما ماس موسى في رداء من العلى * ولا آب ذكراً بعد ذكرك أيوب
    أرى لك مجداً ليس يجلب حمده * بمدح وكل الحمد بالمدح مجلوب
    وفضلاً جليلاً إن ونى فضلُ فاضل * تعاقب إدلاجٌ عليه وتأويب
    عليك سلام الله يا خير من مشى * به بازلٌ عبر المهامه خرعوب
    ويا خير من يغشى لدفع ملمة * فيأمن مرعوب ويترف قرضوب
    وياذا المعالي الغر والبعض محسب * دليل على كل فما الكل محسوب
    ظننت مديحي في سواك هجاءه * وخلت مديحي أنه فيك تشبيب
    وقال له الرحمن ما قال يوسف * عداك بما قدمت لوم وتثريب
  • *
    وله قصيدة في فتح مكة ، منها :
    جللت فلما دق في عينك الورى * نهضت إلى أم القرى أيِّدَ القِرى
    هي الروض حسناً غير أنك إن تبر * لها مخبراً تسمج لعينيك منظرا
    عليها كماةٌ من لؤي بن غالب * يجرُّون أذيالَ الحديد تبخترا
    رميت أبا سفيان منها بجحفل * إذا قيس عداً بالثرى كان أكثرا
    يدبره رأي النبي وصارمٌ * بكفك أهدى في الرؤوس من الكرى
    طلعت على البيت العتيق بعارض * يمج نجيعاً من ظُبى الهند أحمرا
    فألقى إليك السلم من بعد ما عصى * جلندى وأعيى تبعاً ثم قيصرا
    --------------------------- 452 ---------------------------
    وأظهرت نور الله بين قبائل * من الناس لم يبرح بها الشرك نيرا
    وكسَّرت أصناماً طعنت حماتها * بسمر الوشيج اللدن حتى تكسرا
    رقيت بأسمى غارب أحدقت به * ملائك يتلون الكتاب المسطرا
    بغارب خير المرسلين وأشرف الأنام * وأزكى ناعل وطأ الثرى
    فسبح جبريل وقدس هيبة * وهلل إسرافيل رعباً وكبرا
    فيارتبة لو شئت أن تلمس السها * بها لم يكن ما رمته متعذرا
    ويا قدميه أي قدس وطأتما * وأي مقام قمتما فيه أنورا
    بحيث أفاءت سدرة العرش ظلها * بضوجيه فاعتدت بذلك مفخرا
    وحيث الوميض الشعشعانيُّ فائضٌ * من المصدر الأعلى تبارك مصدرا
    فليس سواعٌ بعدها بمعظم * ولا اللاتُ مسجوداً لها ومعفرا
    صدمت قريشاً والرماح شواجر * فقطعت من أرحامها ما تشجرا
  • *
    وردت حنيناً والمنايا شواخص * فذللت من أركانها ما توعرا
    فكم من دم أضحى بسيفك قاطراً * بها من كمي قد تركت مقطرا
    وكم فاجر فجرت ينبوع قلبه * وكم كافر في الترب أضحى مكفرا
    وكم من رؤوس في الرماح عقدتها * هناك لأجسام محللة العرا
    وأعجب إنساناً من القوم كثرةٌ * فلم يغن شيئاً ثم هرول مدبرا
    وضاقت عليه الأرض من بعد رحبها * وللنص حكم لا يدافع بالمرا
    وليس بنكر في حنين فراره * ففي أحد قد فر خوفاً وخيبرا
    رويدك إن المجد حلو لطاعم * غريب فإن مارسته ذقت ممقرا
    وما كل من رام المعالي تحملت * مناكبه منها الركام الكنهورا
    تنح عن العلياء يسحب ذيلها * همام تردى بالعلى وتأزرا
    فتى لم تُعَرِّقْ فيه تيم بن مرة * ولا عبداللات الخبيثة أعصرا
    ولا كان معزولاً غداة براءة * ولا عن صلاة أم فيها مؤخرا
    ولا كان في بعث ابن زيد مؤمراً * عليه فأضحى لابن زيد مؤمرا
    ولا كان يوم الغار يهفو جنانه * حذاراً ولا يوم العريش تسترا
    إمام هدى بالقرص آثر فاقتضى * له القرص رد القرص أبيض أزهرا
    --------------------------- 453 ---------------------------
    يزاحمه جبريل تحت عباءة * لها قيل كل الصيد في جانب الفرا
    حلفت بمثواه الشريف وتربة * أحال ثراها طيبُ رياه عنبرا
    لأستنفذن العمر في مِدَحي له * وإن لامني فيه العذول فأكثرا
  • *
    وله قصيدة في وصفه ( عليه السلام ) ، منها :
    لمن ظعَنٌ بين الغميم فحاجر * بزغن شموساً في ظلام الدياجر
    حلفت برب القعضبية والقنا * المثقف والبيض الرقاق البواتر
    وبالسابحات السابقات كأنها * من الناشرات الفارقات الأعاصر
    وعُوج مُرِنات وصفر صوائب * وفلك بآذي العباب مواخر
    لقد فاز عبدللوصي ولاؤه * وإن شابه بالموبقات الكبائر
    وخاب معاديه ولو حلقت به * قوادم فتخاء الجناحين كاسر
    هو النبأ المكنون والجوهر الذي * تجسد من نور من القدس زاهر
    وذو المعجزات الواضحات أقلها * الظهور على مستودعات السرائر
    ووارث علم المصطفى وشقيقه * أخاً ونظيراً في العلى والأواصر
    ألا إنما التوحيد لولا علومه * كعرضة ضليل أو كنهبة كافر
    ألا إنما الأقدار طوع يمينه * فبورك من وتر مطاع وقادر
    هو الآية العظمى ومستنبط الهدى * وخِيرة أرباب النهى والبصائر
    رمى الله منه يوم بدر خصومه * بذي فذذ في آل بدر مبادر
    وقد جاشت الأرض العريضة بالقنا * فلم يُلْفَ إلا ضامر فوق ضامر
    فلو نتجت أم السماء صواعقاً * لما شج منها سارح رأس حاسر
    فكان وكانوا كالقطامي ناهضُ * البغاث فصرى شلوه في الأظافر
    سرى نحوهم رسلاً فسارت قلوبهم * من الخوف وخداً نحوه في الحناجر
    كأن ظبات المشرفية من كرىً * فما يبتغي إلا مَقر المحاجر
    فلا تحسبن الرعد رجس غمامة * ولكنه من بعض تلك الزماجر
    ولا تحسبن البرق ناراً فإنه * وميض أتى من ذي الفقار بفاقر
    ولا تحسبن المزن تهمي فإنها * أنامله تهمي بأوطف هامر
    --------------------------- 454 ---------------------------
    تعاليت عن مدح فأبلغ خاطب * بمدحك بين الناس أقصر قاصر
    صفاتك أسماء وذاتك جوهر * برئ المعاني من صفات الجواهر
    يجل عن الأعراض والأين والمتى * ويكبر عن تشبيهه بالعناصر
    إذا طاف قوم بالمشاعر والصفا * فقبرك ركني طائفاً ومشاعري
    وإن ذخر الأقوام نسك عبادة * فحبك أوفي عدتي وذخائري
    بني الوحي هل أبقى الكتاب لناظم * مقالة مدح فيكم أو لناثر
    إذا كان مولى الشاعرين وربهم * لكم بانياً مجداً فما قدر شاعر
    فأقسم لولا أنكم سبل الهدى * لضل الورى عن لاحب النهج ظاهر
    ولو لم تكونوا في البسيطة زلزلت * وأخرب من أرجائها كل عامر
    سأمنحكم مني مودة وامق * يغض قلى عن غيركم طرف هاجر
  • *
    ومن قصيدة له في أوصافه ( عليه السلام ) :
    الصبر إلا في فراقك يجمل * والصعب إلا عن ملالك يسهل
    قسماً بترب نعاله فمحاجري * أبداً بغير غباره لا تُكحل
    لأخالفن عواذلي لو أنه * مما يظل على هواه ويعدل
    ولأهتكن على الهوى ستر الحيا * إن الفضيحة في المحبة أجمل
    لولاه لم أرد الحياة ولم أقل * طلب الثراء من القناعة أجمل
    استعذب التعذيب فيه كأنما * جرع الحميم هي البرود السلسل
    لا فرج الرحمن كربة عاشق * طلب السلو وخاب فيما يسأل
    يا كرخ جاد عليك مدرار الحيا * وسقى ثراك من الرواعد مسبل
    إن كان جسمي عنك أصبح راحلاً * كرهاً فقلبي قاطن لا يرحل
    ما رمت بعدك بالمدائن صبوة * إلا ثنى الثاني هواك الأول
    أنا عاذر إن طل بعد طلاك لي * حب دم أو غازلتني المغزل
    عج بالغري على ضريح حوله * ناد لأملاك السماء ومحفل
    فمسبح ومقدس وممجد * ومعظم ومكبر ومهلل
    والثم ثراه المسك طيباً واستلم * عيدانه قُبَلاً فهن المندل
    --------------------------- 455 ---------------------------
    وانظر إلى الدعوات تصعد عنده * وجنود وحي الله كيف تنزل
    واغضض وغض فثم سرأعجم * دقت معانيه وأمر مشكل
    وقل السلام عليك يا مولى الورى * نصاً به نطق الكتاب المنزل
    وخلافة ما إن لها لو لم تكن * منصوصة عن جيد مجدك معدل
    عجباً لقوم أخروك وكعبك العالي * وخد سواك أضرع أسفل
    إن تمس محسوداً فسؤددك الذي * أعطيت محسود المحل مبجل
    يا أيها النبأ العظيم فمهتد * في حبه وغواة قوم ضلل
    يا أيها النار التي شب السنا * منها لموسى والظلام مجلل
    يا فلك نوح حيث كل بسيطة * بحر يمور وكل بحر جدول
    يا وارث التوراة والإنجيل والفر * قان والحكم التي لا تعقل
    لولاك ما خلق الزمان ولا دَجى * غبَّ ابتلاج الفجر ليل أليل
    يا قاتل الأبطال مجدك للعدى * من غرب مخذمك المهند أقتل
    إن كان دين محمد فيه الهدى * حقاً فحبك بابه والمدخل
    لولاك أصبح ثلمة لا تتقى * أطرافها ونقيصة لا تكمل
    صلى عليك الله من متسربل * قمصاً بهن سواك لا يتسربل
    وجزاك خيراً عن نبيك إنه * الفاك ناصره الذي لا يخذل
    سمعاً أمير المؤمنين قصائداً * يعنو لها بشر ويخضع جرول
    الدر من ألفاظها لكنه * درٌّ له ابن الحديد يفصل
    هي دون مدح الله فيك وفوق ما * مدح الورى وعلاك منها أكمل
  • *
    قطاف من شعر الشيخ كاظم الأزري ؟ رح ؟
    ولد الشيخ كاظم بن الحاج محمد الأزري التميمي في أسرة بغدادية عريقة ، سنة 1143 ، وما زالت داره التي ولد فيها قائمة في محلة رأس القرية .
    وكان سريع الخاطر ، حاضر النكتة ، وقاد الذهن ، قوي الذاكرة ، نظم الشعر ولم يبلغ العشرين قصير القامة مع سمنة ، لا يفارقه السلاح خشية من أعدائه .
    وأشهر شعره قصيدته الهائية ، وكانت أكثر من ألف بيت ، وقد أكلت الأرضة
    --------------------------- 456 ---------------------------
    قسماً منها ، ونورد منها ما يتعلق بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( أعيان الشيعة : 9 / 11 ) :
    يبدأ الأزري بمدح النبي ( ( عليهما السلام ) ) بالغزل والحنين ، ثم فيقول :
    كل يوم للحادثات عوادٍ * ليس يقوى رضوى على ملتقاها
    كيف يرجى الخلاص منهن إلا * بذمام من سيد الرسل طه
    معقل الخائفين من كل خوف * أوفرُ العرب ذمةً أوفاها
    مصدر العلم ليس إلا لديه * خبر الكائنات من مبتداها
    هو ظل الله الذي لو أوته * أهل وادي جهنم لحماها
    ما تناهت عوالم العلم إلا * وإلى ذات أحمد منتهاها
    أيُّ خلقٍ للهِ أعظم منه * وهو الغاية التي استقصاها
    قلَّب الخافقين ظهراً لبطن * فرأى ذات أحمدٍ فاجتباها
    من ترى مثله إذا شاء يوماً * محو مكتوبة القضاء محاها
    لست أنسى له منازل قدس * قد بناها التقى فأعلى بناها
    ورجالاً أعزةً في بيوت * أذن الله أن يُعز حماها
    سادة لا تريد إلا رضى الله * كما لا يريد إلا رضاها
    ما أبالي ولو أهيلت على الأرض * السماوات بعد نيل ولاها
    من يباريهم وفى الشمس معنى * مجهد متعب لمن باراها
    ورثوا من محمد سبق أولا * ها وحازوا ما لم تحز أخراها
    ملأت كفه العوالم فضلاً * فلهذا استحال وجهٌ خلاها
    بأبي الصارم الإلهي يبري * عنق الأزْمَة الشديد براها
    بشرت أمه به الرسل طراً * طرباً باسمه فيابشراها
    نوهت باسمه السماوات والأرض * كما نوهت بصبح ذكاها
    وغدت تنشر الفضائل عنه * كل قوم على اختلاف لغاها
    وتنادت به فلاسفة الكهان * حتى وعى الأصم نداها
    وصفوا ذاته بما كان فيها * من صفات كمن رأى مرءاها
    طربت لاسمه الثرى فاستطالت * فوق علوية السما سفلاها
  • *
    --------------------------- 457 ---------------------------
    لم يزالوا في مركز الجهل حتى * بعث الله للورى أزكاها
    فأتى كامل الطبيعة شمساً * تستمد الشموس منه سناها
    جاء من واجب الوجود بما * يستصغر الممكنات أن يخشاها
    إنما الكائنات نقطة خط * بيديه نعيمها وشقاها
    كل ما دون عالم اللوح طوع * ليدي فضله الذي لا يضاهى
    لا تُجل في صفات أحمد فكراً * فهي الصورة التي لن تراها
    تلك نفس عزت على الله قدراً * فارتضاها لنفسه واصطفاها
    من تسنى متن البراق ليطوي * صحف أفلاكها به فطواها
    ليت شعري هل ارتقى ذروة * الأفلاك أم طأطأت له فرقاها
    وهو سرالسجود في الملأ * الأعلى ولولاه لم تعفر جباها
    وهو الجوهر المجرد منه * كل نفس مليكها زكاها
    ما حباه الله الشفاعة إلا * لكنوز من جاهه زكاها
    لا تخف من أسى القيامة هولاً * كشف الله بالنبي أساها
  • *
    ملك شد أزره بأخيه * فاستقامت من الأمور قناها
    أسد الله ما رأت مقلتاه * نار حرب تشب إلا اصطلاها
    فارس المؤمنين في كل حرب * قطب محرابها إمام وغاها
    لم يخض في الهياج إلا وأبدى * عزمة يتقي الردى إياها
    ذاك رأس الموحدين وحامي * بيضة الدين من أكف عداها
    جمع الله فيه جامعة الرسل * وآتاه فوق ما آتاها
    وإذا ما انتمت قبائل حيَّ * الموتِ كانت أسيافه آباها
  • *
    وبه استفتح الهدى يوم بدر * من طغاة أبت سوى طغواها
    صب صوب الردى عليهم همامٌ * ليس يخشى عقبى التي سوَّاها
    يوم جاءت وفي القلوب غليلٌ * فسقاها حسامه ما سقاها
    ظهرت منه في الوغى سطواتٌ * ما أتى القوم كلهم ما أتاها
    --------------------------- 458 ---------------------------
    يوم غصت بجيش عمرو بن ود * لهوات الفلا وضاق فضاها
    وتخطى إلى المدينة فرداً * بسرايا عزائم ساراها
    فدعاهم وهو ألوف ولكن * ينظرون الذي يشب لظاها
    أين أنتم عن قسور عامري * تتقي الأسْد بأسه في شراها
    فابتدى المصطفى يحدث عما * تؤجر الصابرون في أخراها
    قائلاً إن للجليل جناناً * ليس غير المجاهدين يراها
    أين من نفسه تتوق إلى * الجنات أو يورد الجحيم عداها
    من لعمرو وقد ضمنت على * الله له من جنانه أعلاها
    فالتووا عن جوابه كسوام * لا تراها مجيبة من دعاها
    وإذا هم بفارس قرشي * ترجف الأرض خيفة إذ يطأها
    قائلاً مالها سوايَ كفيلٌ * هذه ذمةٌ عليَّ وفاها
    ومشى يطلب الصفوف كما * تمشي خماص الحشا إلى مرعاها
    فانتضى مشرفيه فتلقى * ساق عمرو بضربة فبراها
    والى الحشر رنة السيف منه * يملأ الخافقين رجع صداها
    يا لها ضربة حوت مكرمات * لم يزن ثقلَ أجرها ثقلاها
    هذه من علاه إحدى المعالي * وعلى هذه فقس ما سواها
  • *
    وبأحْد كم فل آحاد شوس * كلما أوقدوا الوغى أطفاها
    يوم دارت بلا ثوابت إلا * أسد الله كان قطب رحاها
    كيف للأرض بالتمكن لولا * أنه قابض على أرجاها
    رب سمر القنا وبيض المواضي * سبحت باسم بأسه هيجاها
    يوم خانت نبالة القوم عهداً * لنبي الهدى فخاب رجاها
    وتراءت لها غنائم شتى * فاقتفى الأكثرون إثر ثراها
    وجدت أنجم السعود عليه * دائرات وما درت عقباها
    فئة ما لوت من الرعب جيداً * إذ دعاها الرسول في أخراها
    وأحاطت به مذاكي الأعادي * بعدما أشرفت على استيلاها
    فترى ذلك النفير كما تخبط * في ظلمة الدجى عشواها
    --------------------------- 459 ---------------------------
    يتمنى الفتى ورود المنايا * والمنايا لو تشترى لاشتراها
    كلما لاح في المهامه برق * حَسِبَتْهُ قنا العدى وظباها
    لم تخلها إلا أضالع عجف * قد براها السرى فحل براها
    لا تلمها لحيرة وارتياع * فقدت عزها فعز عزاها
    إن يفتها ذاك الجميل فعذراً * إنما حلية الرجال حجاها
    لدغتها أفعالها أي لدغ * رب نفس أفعالها أفعاها
    قد أراها في ذلك اليوم ضرباً * لو رأته الشبان شابت لحاها
    وكساها العار الذميم بطعنٍ * من حلى الكبرياء قد أعراها
    يوم سالت سيل الرمال ولكن * هب فيها نسيمه فذراها
    ذاك يوم جبريل أنشد فيه * مِدَحاً ذو العلى له أنشأها
    لا فتى في الوجود إلا علي * ذاك شخص بمثله الله باهى
  • *
    لا ترم وصفه ففيه معان * لم يصفها إلا الذي سواها
    من رآه رأى تماثيل قدس * عن ثناء الاله لا تتلاهى
    وسمت في ضميره حضرة القد * س فأنى يفوته ذكراها
    ما حوى الخافقان إنس وجن * قصبات السبق التي قد حواها
    ألفته بكر العلى فهي تهوى * حسن أخلاقه كما يهواها
    شق من ذكره العلي له اسماً * فهو ذات العلياء جل ثناها
    ملأ الأرض بالزلازل حتى * زاد من أرؤس الكماة رباها
    لا تخل سيفه سوى نفخة الصور * يسل الأرواح من أشلاها
    فكأن الأنفاس قد عاهدته * بجفاء النفوس مهما جفاها
  • *
    كم شرى أنفس الملوك الغوالي * بالعوالي فأرخصت مشتراها
    واستحالت من الصوارم حمرا * كفتاة توردت وجنتاها
    فأبان الأعناق عن مركز * الأبدان حتى كأن ناف نفاها
    وأعاد الأجسام قفرا من الأرواح * يبكي على الأنيس صداها
    --------------------------- 460 ---------------------------
    كم عقول أطاشها وهي لو تر * مى نجوم الدجى لحطت سهاها
    وعيون لم يقذها صرف دهر * مذ رماها ببأسه أقذاها
    قاد تلك الملوك قود المواشي * وعلى صفحة القلوب كواها
  • *
    وله يوم خيبرفتكات * كبرت منظراً على من رآها
    يوم قال النبي إني لأعطي * رايتي ليثها وحامي حماها
    فاستطالت أعناق كل فريق * ليروا أي ماجد يعطاها
    فدعا أين وارث العلم * والحلم مجير الأيام من بأساها
    أين ذو النجدة الذي لو دعته * في الثريا مروعة لبَّاها
    فأتاه الوصي أرمد عين * فسقاه من ريقه فشفاها
    ومضى يطلب الصفوف فولت * عنه علماً بأنه أمضاها
    وبرى مرحباً بكف اقتدار * أقوياء الأقدار من ضعفاها
    ودحا بابها بقوة بأس * لو حمتها الأفلاك منه دحاها
    عائذ للمؤملين مجيب * سامع ما تُسِرُّ من نجواها
    إنما المصطفى مدينة علم * وهو الباب من أتاه أتاها
    وهما مقلتا العوالم يسراها * علي وأحمد يمناها
  • *
    من غدا منجداً له في حصار * الشعب إذ جد من قريش جفاها
    يوم لم يُرْعَ للنبي ذمام * وتواصت بقطعه قرباها
    فئة أحدثت أحاديث بغيٍ * عجل الله في حدوث بلاها
    ففدى نفس أحمد منه بالنف - * - س ومن هول كل بؤس وقاها
    كيف تنفك بالملمات عنه * عصمة كان في القديم أخاها
    عزمة قصرت أولو العزم عنها * أين أولى الجياد من أخراها
    عزمة عرضها السماوات والأرض * أحاطت بصبحها ومساها
  • *
    --------------------------- 461 ---------------------------
    وإذا لم تحط بمعناه علماً * فاسأل العرب من أطلَّ دماها
    وغزاها في كل دوّ ببأس * لو تعاصت غول الفلا لعصاها
    وسقاها صُم الأنابيب حتى * شرقت شوسها بكأس رداها
    لم ترد مورداً من الماء إلا * ورأت ظل شخصه تلقاها
    كيف لاتتقي مضارب قوم * يُصعق الموت من سماع صداها
    كلما حلت العقود أصابت * ناظماً ينظم القنا في كلاها
    ومن اقتاد بالحبال قريشاً * بعد ما طاول الجبال إباها
    وأراها اليوم الذي ما رأته * فلهذا ألقت إليه عصاها
    ملأت منهم الثرى ظلمات * وبنورية الحسام جلاها
    عسعسوا كالدجى ولكن أصابوا * نيرات يجلو الظلام ضحاها
    أحكم الله صنعة الدين منه * بفتى ألحمت يداه سداها
    لا تقس بأسه ببأس سواه * إنما أفضل الظبي أمضاها
    جس نبض الطلى فلم ير إلا * مرهف الحد برأها فبراها
    كلما ضلت المنية عنه * جعلته دليلها فهداها
  • *
    كم لكفيه في صدور صدور * طعنة يسبق القضاء قضاها
    لست أنسى للدهر رمد أماق * ما جلا غير ذي الفقار جلاها
    كم عتاة أذلها بعد عز * وعفاة بعد العفا أغناها
    لو ترى المرهفات تشكو إليه * حالها وهو راحم شكواها
    لرأيت الدماء يسبح فيها * من أعالي الجبال شم ذراها
    فاض منها ما لم يفض من سحاب * لو رآها السحاب لاستجداها
    كل يوم يجرد الطعن منه * همة تمسح الكماة يداها
  • *
    أعلم الناس بالوغى كم معان * من طعانٍ على يديه ابتدأها
    كيف تخفى صناعة الحرب عنه * وجميع الذرات قد أحصاها
    عزمات تحفها عزمات * كل يمنى تنحط عن يسراها
    --------------------------- 462 ---------------------------
    عزمات مؤيدات بروحٍ * لا ترى الخلق ذرةً من هباها
    رائد لا يرود إلا العوالي * طاب من زهرة القنا مجتناها
    جاء بالسيف هادياً للبرايا * حيث لم يثنها الهدى فثناها
    من تلقى يد الوليد بضرب * حيدري بري اليراع براها
    وسقى منه عتبة كأس بؤس * كان صرفاً إلى المعاد احتساها
    ورأى تيه ذي الخمار فردَّا * هُ من الذل بردةً ما ارتداها
    لست أنسى له شياطين حرب * بإلهيِّ بأسه أخزاها
    ذاك من ليس تنكر الحرب منه * بارقات يجلو الظلام ضحاها
    كم رمى راحة فشلت وكانت * قُلة ليس يلتوي عطفاها
    وله من أشعة الفضل شمس * ودت الشمس أن تكون سماها
  • *
    أعد الفكر في معانيه تنظر * كيف يحيي الأجسام بعد فناها
    واسأل الأنبياء تنبئك عنه * أنه سرها الذي نباها
    وكذا فاسأل السماوات عنه * من أطاعت لوحيه يوحاها
    ومن استل للحوادث رأياً * كسنا المبرقات يفري دجاها
    وامتطى الكاهل الذي قد أمرَّت * قدرة الله فوقه يمناها
    ذاك يحيي الموتى وإن كان يردي * كل نفس أخنى عليها خناها
    كم نفوس تصحها علل الفقر * ولو نالها الغنى أطغاها
    حسب أهل الضلال منه نبال * هي مرمى وبالها وبلاها
    قائم في زكاة كل المعالي * دائم دأبه على إيتاها
    لو سرت في الثرى بقية طل * من نداه لروضت حصباها
  • *
    كم أدارت يداه أفلاك مجد * مستمر على الزمان بقاها
    ذاك من جنة المعالي كطوبى * كل شئ تظله أفياها
    ذاك ذو الطلعة التي تتجلى * خفرات الجمال دون اجتلاها
    إي وعينيه لا أكاليل فضل * لملوك الملوك إلا احتذاها
    --------------------------- 463 ---------------------------
    لذ إلى جودهِ تجد كيف يهدي * حلل المكرمات من صنعاها
    كم له من روائح وغواد * مدد الفيض كان من مبداها
    كم له شمس حكمة تتمنى * غرة الشمس أن تكون سماها
    لم تزل عنده مفاتيح كشف * قد أماطت عن الغيوب غطاها
    ربُّ حاليْ أوامر ونواهٍ * ليس يرضى القضاء دون رضاها
  • *
    ومن المهتدي بيوم حنين * حين غاوي الفرار قد أغواها
    حيث بعض الرجال تهرب من بيض * المواضي والبعض من قتلاها
    حيث لا يلتوي إلى الإلف إلف * كل نفس أطاشها ما دهاها
    من سقاها في ذلك اليوم كأساً * فائضاً بالمنون حتى رواها
    أعجب القوم كثرة العد منها * ثم ولت والرعب حشو حشاها
    وقفوا وقفة الذليل وفروا * من أسود الشرى فرار مهاها
    وعلي يلقى الألوف بقلب * صور الله فيه شكل فناها
    إنما تفضل النفوس بجد * وعلى قدره مقام علاها
  • *
    لودعت كفه بغير حراب * أجل الخلق لاستجاب دعاها
    لو تراه وجوده مستباحٌ * قبل كشف العفاة سر عفاها
    خِلْتَ من أعظم السحائب سحباً * سقت الروض قبل ما استسقاها
    وهو للدائرات دائرة السعد * ألا ساء حظ من ناواها
    همم لا ترى بها فلك الأفلا * ك إلا كحبة في فلاها
    لم يدع ذلك الطبيب كلوماً * قد أساءت بالدهر إلا أساها
    وأياديه لم تقس بالأيادي * أين ماء العيون من أصداها
  • *
    صادق الفعل والمقالة يحوي * غرةً مثل حسنه حسناها
    كم رمى بهمة بلحظة طرف * كان ميقات حتفه مرماها
    خاط للعنكبوت نسج الردينيِّ * وأبياتُ عزمه أوهاها
    --------------------------- 464 ---------------------------
    وأقام الجهول بالسيف رغماً * هل تقوم الدنيا بغير ظباها
    باسط عن يد الإله يميناً * يرسل الرزق للعباد عطاها
    قابض عن جلاله بجلاد * لو بدت صورة الردى أرداها
  • *
    رب صعب من جامحات العوادي * قاده من يمينه إيماها
    قد أعاد الهدى وغير عجيب * أن يعيد الأشياء من أبداها
    بأبي منشئ الحوادث كم صو * رة حتف بزجره أنشأها
    كانت العرب قبل قوة يمنا * هُ عروقاً لاتلتوي فلواها
    وأراها طعناً يفل عرى الصبر * وضرباً يحل عقد عراها
    فاستعاذت من ذاك بالهرب * الأقصى لتنجو به فما أنجاها
    لا تخل مهرب الجبان ينجيه * إذا مدت المنايا خطاها
    جر طغواهم الوبال عليهم * رب قوم أذلها طغواها
    كان ملء الثرى ضلال وبغي * لكن السيف منهما أخلاها
    لم تفه ملة من الشرك إلا * فض بالصارم الإلهي فاها
    وطواها طي السجل همام * نشر الحرب علمه وطواها
    لم يدع سيفه حشا قط إلا * وبفوارة الغليل حشاها
    سل كماة الأبطال من كل حي * غير ذاك الكمي من أفناها
    كم عرا مشكل فحل عرا * ليس للمشكلات إلا فتاها
  • *
    هل أتت هل أتى بمدح سواه * لا ومولى بذكره حلاها
    فتأمل بعمَّ تنبئك عنه * نبأ كل فرقة أعياها
    وبمعنى أحب خلقك فانظر * تجد الشمس قد أزاحت دجاها
  • *
    واسأل الأعصر القديمة عنه * كيف كانت يداه روح غذاها
    وهو علامة الملائك فاسأل * روح جبريل عنه كيف هداها
    بل هو الروح لم يزل مستمداً * كل دهر حياته من قواها
    --------------------------- 465 ---------------------------
    أي نفس لا تهتدي بهداه * وهو من كل صورة مقلتاها
  • *
    وتفكر بأنت مني تجدها * حكمة تورث الرقود انتباها
    أوما كان بعد موسى أخوه * خير أصحابه وأكرم جاها
    ليس تخلو إلا النبوة منه * ولهذا خير الورى استثناها
    وهو في آية التباهل نفس * المصطفى ليس غيره إياها
    ثم سل إنما وليكم الله * ترَ الاعتبار في معناها
    آية خصت الولاية لله * وللطهر حيدر بعد طه
    آية جاءت الولاية فيها * لثلاث يعدو الهدى من عداها
    وبسد الأبواب أي افتتاح * لكنوز الهدى ففز بغناها
  • *
    من تولى تغسيل سلمان إلا * ذات قدس تقدست أسماها
    ليلة قد طوى بها الأرض طياً * إذ نأت داره وشط مداها
    وابن عفان حوله لم يجهز * ه ولا كف عنه كف أذاها
    لست أدري أكان ذلك مقتاً * من علي أم عفة ونزاها
    فلكٌ لم يزل يدور به الحق * وهل للنجوم إلا سماها
  • *
    وبخم ما ذا جرى يوم خم * تلك أكرومة أبت أن تضاهى
    ذاك يوم من الزمان أبانت * ملة الحق فيه عن مقتداها
    كم حوى ذلك الغدير نجوماً * ما جرت أنجم الدجى مجراها
    إذ رقى منبر الحدائج هاد * طاول السبعة العلى برقاها
    موقفاً للأنام في فلوات * وعرات بالقيظ يشوي شواها
    خاطباً فيهم خطابة وحيٍ * يرث الدين كله من وعاها
    أيها الناس لا بقاء لحي * آن من مدتي أوان انقضاها
    إن رب الورى دعاني لحال * قبل أن يخلق الورى أقضاها
    أن أولي عليكم خير مولى * كلما اعتلت الأمور شفاها
    --------------------------- 466 ---------------------------
    سيداً من رجالكم هاشمياً * صافحته العلى فطاب شذاها
    صالح المؤمنين سر هداها * عظم الذكر نفسه فكناها
    صاحب الهمة التي لو أرادت * وطأت عاتق السهى قدماها
    فتفكرت في ضمائر قوم * وهي مطوية على شحناها
    وتطيرت من مقالة قوم * قد غلا بابن عمه وتباهى
    فأتتني عزيمة من إلهي * أوعدتني إن لم أبلغ سطاها
    فهداني إلى التي هي أهدى * وحباني بعصمة من أذاها
    أيها الناس حدثوا اليوم عني * وليبلغ أدنى الورى أقصاها
    كل نفس كانت ترانيَ مولى * فلتر اليوم حيدراً مولاها
    رب هذي أمانةٌ لك عندي * وإليك الأمين قد أداها
    وال من لا يرى الولاية إلا * لعلي وعاد من عاداها
    فأجابوا بخٍ بخٍ وقلوب القو * م تغلي على مغالي قلاها
    لم تسعهم إلا الإجابة بالقول * وإن كان قصدهم ما عداها
    ثم لما مضى القضاء بروحانية * الكون وانقضى رياها
    وجدوا فرصة من الدهر لاحت * فأصابت قلوبهم مشتهاها
    قل لمن أول الحديث سفاهاً * وهو إذ ذاك ليس يأبى السفاها
    أترى أرجح الخلائق رأياً * يمسك الناس عن مجاري سراها
    راكباً ذروة الحدائج ينبي * عن أمور كالشمس رأد ضحاها
  • *
    أيها الراكب المجد رويداً * بقلوب تقلبت في جواها
    إن تراءت أرض الغريين فاخضع * واخلع النعل دون وادي طواها
    وإذا شمت قبة العالم * الأعلى وأنوار ربها تغشاها
    فتواضع فثم دارة قدس * تتمنى الأفلاك لثم ثراها
    قل له والدموع سفح عقيق * والجوى تصطلي بنار غضاها
    يا ابن عم النبي أنت يد الله * التي عم كل شئ نداها
    أنت قرآنه القديم وأوصافك * آياته التي أوحاها
    خصَّك الله في مآثر شتى * هي مثل الأعداد لا تتناهى
    --------------------------- 467 ---------------------------
    ليت عيناً بغير روضك ترعى * قذيت واستمر فيها قذاها
    أنت بعد النبي خير البرايا * والسما خير ما بها قمراها
    لك ذات كذاته حيث لولا * أنها مثلها لما آخاها
    قد تراضعتما بثدي وصال * كان من جوهر التجلي غذاها
    يا علي المقدار حسبك لاهو * تيةٌ لا يحاط في علياها
    أي قدس إليه طبعك ينمى * والمراقي المقدسات ارتقاها
    لك نفس من جوهر اللطف صيغت * جعل الله كل نفس فداها
    هي قطب المكونات ولولا * ها لما دارت الرحى لولاها
    لك كف من أبحر الله تجري * أنهر الأنبياء من جدواها
    حزت ملكاً من المعالي محيطاً * بأقاليم يستحيل انتهاها
    ليس يحكي دريَّ فخرك درٌّ * أين من كدرة المياه صفاها
    كل ما في القضاء من كائنات * أنت مولى بقائها وفناها
  • *
    يا أباالنيرين أنت سماء * قد محا كل ظلمة قمراها
    لك بأس يذيب جامدة * الكونين رعباً ويجمد الأمواها
    زان شكل الوغى حسامك * والرمح كما زان غادة قرطاها
    ما تتبعت معشراً قط إلا * وأناخ الفنا بعقر فناها
    كلما أحفت الوغى لك خيلاً * أنعلتها من الملوك طلاها
    قدتها قود قادر لم ترعه * أمم غير ممكن إحصاها
  • *
    لك ذات من الجلالة تحوي * عرش علم عليه كان استواها
    لم يزل بانتظارك الدين حتى * جردت كف عزمتيك ظباها
    فجعلت الرشاد فوق الثريا * ومقام الضلال تحت ثراها
    فاستمرت معالم الدين تدعو * لك طول الزمان فاغنم دعاها
    إنما البأس والتقى والعطايا * حلبات بلغتَ أقصى مداها
    لك من آدم القديم مراعٍ * أمة بعد أمة ترعاها
  • *
    --------------------------- 468 ---------------------------
    يا أخا المصطفى لديَّ ذنوب * هي عين القذى وأنت جلاها
    يا غياث الصريخ دعوة عاف * ليس إلاك سامع نجواها
    كيف تخشى العصاة بلوى المعاصي * وبك الله منقذ مبتلاها
    لك في مرتقى العلى والمعالي * درجات لا يرتقى أدناها
    عرفت ذاتك القديمة مولاك * فوحدت في القديم الإلها
    أين معناك من معاني أناس * كان معبودها اتباع هواها
  • *
    يا خليلي إن لله خلقاً * حسبها النار في غد تصلاها
    سبحوا في الضلال سبحاً طويلاً * وعلى الرشد أكرهوا إكراها
    إن تناسيتما السقيفة والقوم * فإني والله لا أنساها
    يوم خطت صحيفة الغي * يمليها عليها خداعها ودهاها
    ما اجتماع المهاجرين مع الأنصار * فيها وقد علت غوغاها
    حيث قالوا منا ومنكم أمير * ووزير يدير قطب رحاها
    وأرادوا لها تدابير سعد * فارتضاها بعض وبعض أباها
    أتراها درت بأمر عتيق * فلماذا في الأمر طال مراها
    إن تكن بيعة الصحابة ديناً * لم يحل عن محلها أتقاها
    كيف لم يسرع الوصي إليها * وهو باب العلوم بل معناها
    كيف لم تقبل الشهادة من * أحمد فيه بأنه أقضاها
    بيعة أورثت جميع البرايا * فتنة طال جورها وجفاها
    بل هي الفلتة التي زعموها * كفي المسلمون شر أذاها
  • *
    يا ترى هل درت لمن أخرته * عن مقام العلى وما أدراها
    أخرت أشبه الورى بأخيه * هل رأت في أخ النبي اشتباها
    كيف لم تأمن الأمين عليها * وهو في كل ذمة أوفاها
    ولو أن الأصحاب لم تعد رشداً * كان رشداً فرارها من عداها
    أنبيٌّ بلا وصي تعالى * الله عما يقوله سفهاها
    --------------------------- 469 ---------------------------
    زعموا أن هذه الأرض مرعى * ترك الناس فيه ترك سداها
    كيف تخلو من حجة وإلى من * ترجع الناس في اختلاف نهاها
    قد علمتم أن النبي حكيم * لم يدع من أموره أولاها
    أم جهلتم طرق الصواب من * الدين ففاتت أمثالكم مثلاها
  • *
    هل ترى الأوصياء يا سعد إلا * أقرب العالمين من أنبياها
    أو ترى الأنبيا قد اتخذوا المشرك * دهراً بالله من أوصياها
    أم نبي الهدى رأى الرسل ضلت * قبله فاقتفى خلاف اقتفاها
    أوَما ينظرون ماذا دهتهم * قصة الغار من مساوي دهاها
    يوم طافت طوائف الحزن حتى * أوهنت من جنى عتيق قواها
    إن يكن مؤمناً فكيف عدته * يوم خوف سكينة وعداها
    إن للمؤمنين فيها نصيباً * وهي يوم الوبال أقصى وقاها
    كم وكم صحبة جرت حيث لا * إيمان والله في الكتاب حكاها
    وكذا في براءة لم يبسمل * حيث جلت بذكره بلواها
    أين هذا من راقد في فراش * المصطفى يسمع العدى ويراها
    فاستدارت به عتاة قريش * حيث دارت بها رحى بغضاها
    وأرادت به مكايد سوء * فشفى الله داءها بدواها
    ورأت قسوراً لو اعترضته * الإنس والجن في وغى أفناها
    مد كف الردى فلو لم تكفكف * عنه آثار بغيها لمحاها
    نظرت نظرة إليه فلاقت * قدرة الله لا يرد قضاها
    فتولت عنه وللرعب فيها * فلك دائر على أعضاها
  • *
    بأبي من غدا يؤدي أمانات * أخيه حتى أتم أداها
    بأبي من حمى بطعن العوالي * حرم المصطفى وصان خباها
    رتبة سل بها العظيمين جبريل * وميكال كيف قد خدماها
    صاح ما هؤلاء في الناس إلا * كعيون داء العمى أعياها
    --------------------------- 470 ---------------------------
    ألها منظر لإدراك مرأى * أم لها مسمع لمن ناجاها
    أهم خير أمة أخرجت للناس * هيهات ذاك بل أشقاها
    أتراها من ولد آدم حقاً * أم سوام كانت لهم أشباها
    أي مرمى من الفخار قديماً * أو حديثاً أصابه شيخاها
    أي أكرومة ولو أنها قلَّت * ودقت إليهما منتماها
    ألزهدٍ في الجاهلية عما * عهدته الأيام من جهلاها
    أم لذكر أناف أم لعهود * في ذمام الإسلام قد حفظاها
  • *
    إن يكونا كزعمهم أسدي بأس * فأي الفرايس افترساها
    كيف لم يظفروا ولا بجريح * ويد الليث جمة جرحاها
    إن تكن فيهما شجاعة قرم * فلماذا في الدين ما بذلاها
    ذخراها لمنكر ونكير * أم لأجناد مالك ذخراها
    لم يجيبا نداء أحمد إلا * لأمور من كاهن عقلاها
    علما أن أحمداً سيليها * وإذا مات أحمد ولياها
    فأجابت لرغبة لا لرشد * كلمات الإسلام إذ سمعاها
    نكثا بيعة الذي بايعته * من ملوك السبع الأولى عظماها
    أهو المختفي بظل عريش * حيث ظل الكماة كان قناها
    أم هو القائل الملح أقيلوني * منها فإنني أأباها
    لو حوى قلب بنته لم ترعه * من صفاح اليهود وقع شباها
    يوم جاءت تقود بالجمل العس - * - كر لا تتقي ركوب خطاها
    فألحت كلاب حوأب نبحاً * فاستدلت به على حوباها
    يا ترى أي أمة لنبي * جاز في شرعه قتال نساها
    أي أم للمؤمنين أساءت * ببنيها ففرقتهم سواها
    شتتتهم في كل شعب وواد * بئس أم عتت على ابناها
    نسيت آية التبرج أم لم * تدر أن الرحمن عنه نهاها
    حفظت أربعين ألف حديث * ومن الذكر آية تنساها
    ذكرتنا بفعلها زوج موسى * إذ سعت بعد فقده مسعاها
    --------------------------- 471 ---------------------------
    قاتلت يوشعاً كما قاتلته * لم تخالف حمراؤها صفراها
    واستمرت تجر أردية اللهو * الذي عن إلهها ألهاها
    فبإحراق مالك سوف تجزى * من لظى مالك أشر جزاها
  • *
    لا تلمني يا سعد في مقت قوم * ما وفت حق أحمد إذ وفاها
    أوَما قال عترتي أهل بيتي * احفظوني في برها وولاها
    نازعوه حياً وخانوه ميتاً * يا لتلك الحظوظ ما أشقاها
    كيف أقصت أخا نزار وآوت * من أعادي محمد أعداها
    تعست جبهة الجبان تنافي * كل خير لا خير فيمن رجاها
    أحديث القيان يكرهه الرجس * وللمصطفى يلذ غناها
    ليته حين قال لولا علي * وبدت آية الهدى فاقتفاها
    لكن الجهل لم يدعه بصيراً * أي عين رأت عقيب عماها
    إي وحق الإسلام لولا علي * ما قضاها فتى ولا أفتاها
    قد أطلت على العوالم منه * حكمة الله لم يسعها فضاها
    تتجلى به منيرات فضل * كالدراري سيارة في سماها
    لم يذوقوا الهدى ولو طعموه * عرفوا للنبي قدراً وجاها
  • *
    نقضوا عهد أحمد في أخيه * وأذاقوا البتول ما أشجاها
    وهي العروة التي ليس ينجو * غير مستعصم بحبل ولاها
    لم ير الله للنبوة أجراً * غير حفظ الوداد في قرباها
    لست أدري إذ رُوِّعت وهي حسرى * عاند القوم بعلها وأباها
    يوم جاءت إلى عدي وتيم * ومن الوجد ما أطال بكاها
    فدعت واشتكت إلى الله شجواً * والرواسي تهتز من شكواها
    فاطمأنت لها القلوب وكادت * أن تزول الأحقاد ممن حواها
    تعظ القوم في أتم خطاب * حكت المصطفى به وحكاها
    أيها القوم راقبوا الله فينا * نحن من روضة الجليل جناها
    --------------------------- 472 ---------------------------
    نحن من بارئ السماوات سرٌّ * لو كرهنا وجودها ما براها
    بل بآثارنا ولطف رضانا * سطح الأرض والسماء بناها
    وبأضوائنا التي ليس تخبو * حوت الشهب ما حوت من ضياها
    واعلموا أننا مشاعر دين الله * فيكم فأكرموا مثواها
    ولنا من خزائن الغيب فيض * ترد المهتدون منه هداها
    إن تروموا الجنان فهي من الله * إلينا هدية أهداها
    أيها الناس أي بنت نبي * عن مواريثه أبوها زواها
    كيف يزوي عني تراثي عتيق * بأحاديث من لدنه افتراها
    هذه الكتب فاسألوها تروها * بالمواريث ناطقاً فحواها
    وبمعنى يوصيكم الله أمر * شامل للعباد في قرباها
    كيف لم يوصنا بذلك مولانا * وتيماً من دوننا أوصاها
    هل رآنا لا نستحق اهتداء * واستحقت تيم الهدى فهداها
    أم تراه أضلنا في البرايا * بعد علم لكي نصيب خطاها
    أنصفوني من جائرين أضاعا * ذمة المصطفى وما رعياها
    وانظروا في عواقب الدهر كم * أمست عتاة الرجال من صرعاها
    مالكم قد منعتمونا حقوقاً * أوجب الله في الكتاب أداها
    وحذوتم حذو اليهود غداة * اتخذوا العجل بعد موسى إلها
    قد سلبتم من الخلافة خوداً * كان منا قناعها ورداها
    وسبيتم من الهدى ذات خدر * عز يوماً على النبي سباها
    إن رضيتم من دوننا خلفاء * لا اشتفت من قلوبكم مرضاها
    أو أبيتم عهود أحمد فينا * لا وقيتم من الرزايا سطاها
    تدعون الإسلام إفكاً وزوراً * كذبت أمهاتكم بادعاها
    أي شئ عبدتم إذ عبدتم * أن يولى تيم على آل طه
    هذه البردة التي غضب الله * على كل من سوانا ارتداها
    فخذوها مقرونة بشنار * غير محمودة لكم عقباها
    وألبسوها لباس عار ونارٍ * قد حشوتم بالمخزيات وعاها
    لم نسلكم لحاجة واضطرار * بل ندل الورى على تقواها
    --------------------------- 473 ---------------------------
    كم لنا في الوجود رشحة جود * يعجز السبعة البحار غناها
    علم الله أننا أهل بيت * ليس تأوي دنية مأواها
    لو سألنا الجليل إلقاء عدن * أو مقاليد عرشه ألقاها !
  • *
    سعد دعني وهجو سود المعاني * أكبر الحمد في معاني هجاها
    كيف تُنْفَى ابنة النبي عناداً * لانفى الله من لظى من نفاها
    ولأي الأمور تدفن سراًَ * بضعة المصطفى ويعفى ثراها
    فمضت وهي أعظم الناس وجداً * في فم الدهر غصة من جواها
    وثوت لا يرى لها الناس مثوى * أي قدس يضمه مثواها
    ثم همت ببعلها كل كف * واستمدت له رقاق مداها
    أمة قاتلت إمام هداها * يا ترى أين زال عنها حياها
    كم أرادت إطفاء نار حسام * صاغه الله ثَمْرةً لحشاها
    بأبي من له مطاعن كف * لا يداوى من الردى كلماها
  • *
    إن ذات العلوم تنمى جميعاً * لعلي وكان روح نماها
    وكذا كل حكمة مكنته * من أعالي سنامها فامتطاها
    ومتى يذكر الندى فهو لطف * إن محيي الموتى به أحياها
    ولأقدامه تزول الرواسي * والمقادير تقشعر حشاها
    ومرامي الأسرار سدد سهم * الله منه له فما أخطاها
    كم له من مواهب مردفات * هي كالشمس لا يحول ضياها ) .
  • *
    وقال ( رحمه الله ) مادحاً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد بدأ بشكوى الزمان ومصائبه ، ثم تخلص إلى الاستغاثة به ( عليه السلام ) . ( ديوان الأزري / 178 ) :
    جللٌ عَرَى فارتاع كل فؤاد * فمن المجير من الزمان العادي
    نُوب على نوب يشيب لذكرها * فود الأجنة ساعة الميلاد
    هن الرواجف لا يقيم قناتها * إلا الولي أخو النبي الهادي
    --------------------------- 474 ---------------------------
    المنقع الأيام من غلل الأسى * بروائح من غوثه وغواد
    والمجتلي كرب العفاة بنائل * مسح القذى عن طرف كل هواد
    والكاشف الجلل الأحم بمعوز * شمس الضحى منه إلى استمداد
    كهف الطريدة من مجامع روعها * أمن المسالم خوف كل معاد
    المثقب الزندين يوم سماحة * يحيي بها ويميت يوم جلاد
    طلاع كل ثنية من حكمة * يفتر عنها ثغر كل رشاد
    حامي حمى الثقلين أنت وليها * في حالي الإشقاء والإسعاد
    إن كنت ترضى أن يطول وبالها * فرضاك نعم الروض للمرتاد
    نزلت بك الآمال وهي مطاشة * فأفض عليها منك فيض سداد
    تشكو إليك قطيعة الزمن الذي * جعل القيود قلائد الأجياد
    أمن المروءة ترك مثلك مثلهم * متفرقين تفرق الأضداد
    هيهات لم يلق النزيل عصيهم * إلا لتورق أيبس الأعواد
    وجبت رعايتهم عليك لقصدهم * وعلى الكرام رعاية القصاد
    باتوا ومرقد كل شخص لوعة * تستل من جفنيه كل رقاد
    وجدوا الذي أورت به آثامهم * والنار لا تورى بغير زناد
    تبعوا الهوى فأثار نقع فسادهم * وكذا الهوى هو رأس كل فساد
    فاستنشقوا من ريح روحك نكهة * كانت مكان الروح للأجساد
    واعتادهم مرض القضاء فعوذوا * آمالهم بجميلك المعتاد
    نقعت موارده غليل عليلهم * وجلا ممسكه قذى الأنكاد
  • *
    يا محييَ الأموات يا ملك الردى * وافى يجر مساحب الأجناد
    أولست داحي بابها ومزلزلاً * من كل أرض أعظم الأطواد
    أولست رائع جنها ومبيدها * بشهاب كوكب عزمك الوقاد
    أولست معطي كل نفس أمنها * يوم القيامة من أذى الميعاد
    أولست ساقيها غداً من كوثر * والماء ممتنع على الوراد
    يا من شذاه يقي النفوس من الأذى * ويخلد الأرواح في الأجساد
    حسب المؤمل منك أنك منقذ * ما كان بين نواجذ الآساد
    --------------------------- 475 ---------------------------
    ولئن وهبت لها الحياة فربما * فجرت بالأمواه قلب جماد
  • *
    قطاف من شعر السيد حيدر الحلي ( ( ع ) )
    السيد حيدر ، بن سليمان بن داود ، بن سليمان بن داود . . ينتهي نسبه إلى الحسين ذي الدمعة ، بن زيد الشهيد ، بن زين العابدين بن الإمام الحسين ( عليهم السلام ) . ولد في الحلة
    سنة 1246 ه‍ ونشأ بها يتيماً فتولى تربيته عمه السيد مهدي ، وعامله كأحد أولاده ، وورثه معهم ، وتوفي ( رحمه الله ) سنة 1304 ه‍ .
    وكان أمير الشعراء أحمد شوقي معجباً بالشعر العراقي الفراتي ، فقد زاره أحد الأدباء العراقيين ، فقال له إقرأ لي من الشعر العراقي فقرأ له ، فقال : إقرأ لي من الشعر الفراتي ، إقرأ قصيدة السيد حيدر الحلي عثر الدهر . . فقرأ له :
    عثر الدهر ويرجو أن يقالا * تربت كفُّك من راجٍ مَحالا
    أي عذرٍ لك في عاصفةٍ * نسفت من لك قد كانوا الجبالا
    أنزوعاً بعدما جئت بِها * تنزع الأكباد بالوجد اشتعالا !
    لا أقالتني المقادير إذا * كنتُ ممن لك يا دهر أقالا
    أزُلالَ العفو تبغي وعلى * آل حوض الله حرَّمتَ الزُّلالا
    المطاعين إذا شبت وغىً * والمطاعيم إذا هبت شمالا
    وقفوا والموت في قارعة * لو بها أُرسي ثهلان لمالا
    أرخصوها للعوالي مُهَجاً * قد شراها منهم الله فغالى
    وقال ( رحمه الله ) من قصيدة يرثي بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( ديوانه : 1 / 26 ) :
    قم ناشد الإسلام عن مصابه * أصيب بالنبي أم كتابه
    أم أن ركب الموت عنه قد سرى * بالروح محمولاً على ركابه
    بل قضى نفس النبي المرتضى * وأُدرج الليلة في أثوابه
    مضى على اهتضامه بغصة * غص بها الدهر مدى أحقابه
    عاش غريباً بينها وقد قضى * بسيف أشقاها على اغترابه
    --------------------------- 476 ---------------------------
    لقد أراقوا ليلة القدر دماً * دماؤها انصببن بانصبابه
    تنزل الروح فوافى روحه * صاعدة شوقاً إلى ثوابه
    فضج والأملاك فيها ضجة * منها اقشعر الكون في إهابه
    وانقلب السلام للفجر بها * للحشر إعوالاً على مصابه
    الله نفس أحمد من قد غدا * من نفس كل مؤمن أولى به
    غادره ابن ملجم ووجهه * مخضب بالدم في محرابه
    وجه لوجه الله كم عفره * في مسجد كان أباترابه
    قتلتم الصلاة في محرابها * يا قاتليه وهو في محرابه
    فليبك جبريل له ولينتحب * في الملأ الأعلى على مصابه
  • *
    يا أيها المحجوب عن شيعته * وكاشف الغُمَّى على احتجابه
    كم تغمد السيف لقد تقطعت * رقاب أهل الحق في ارتقابه
    فانهض لها فليس إلاك لها * قد سئم الصابر جرع صابه
    واطلب أباك المرتضى ممن غدا * منقلباً عنه على أعقابه
    لله كم جرعة غيظ ساغها * بعد نبي الله من أصحابه
    إن الألى على النفاق مردوا * قد كشفوا بعدك عن نقابه
    وغادروا حق أخيك مضغة * يلوكها الباطل في أنيابه
    وظل راعي إفكهم يحلب من * ضرع لبون الجور في وطابه
    عادوا بها بعدك جاهلية * مذ قتلوا الهادي الذي تهدى به
    فيا لها غلطة دهر بعدها * لا يحمد الدهر على صوابه
    هذا أمير المؤمنين بعدما * ألجأهم للدين في ضرابه
    صلى عليه الله من مضطهد * قد أغضبوا الرحمن في اغتصابه
    وقال ( رحمه الله ) يمدح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
    أمير المؤمنين أغث صريخاً * ألم بجنب قبرك مستغيثا
    أتاك يحث ناجية المطايا * وصرف الدهر يطلبه حثيثا
  • *
    --------------------------- 477 ---------------------------
    قطاف من شعر السيد رضا الهندي ؟ رح ؟
    السيد رضا الموسوي الهندي ( قدس سره ) ولد في النجف الأشرف سنة 1290 ، وكان على درجة عالية من الذكاء والفطنة وسرعة البديهة ، وقد أجازه من أساتذته المرجع الشيخ محمد طه نجف بالاجتهاد المطلق سنة 1322 واشتهربقصيدته الكوثرية التي ينشدها الشيعة في محافلهم ، وقد ترجمها السيد النوري إلى الفارسية وقالوا إن بلاغة ترجمتها الفارسية لا تقل عن العربية . وهذه قصيدته من ديوانه / 20 :
    أَمُفَلَّجُ ثَغرك أم جوهرْ * ورحيق رضابك أم سكرْ
    قد قال لثغرك صانعه * إنا أعطيناك الكوثر
    والخال بخدك أم مسك * نقطت به الورد الأحمر
    أم ذاك الخال بذاك الخد * فتيتُ الند على مجمر
    عجباً من جمرته تذكو * وبها لا يحترق العنبر
    يا من تبدو لي وفرته * في صبح محياه الأزهر
    فأجن به بالليل إذا * يغشى والصبح إذا أسفر
    إرحم أرقاً لو لم يمرض * بنعاس جفونك لم يسهر
    تَبْيَضُّ لهجرك عيناه * حزناً ومدامعه تحمرّ
    يا للعشاق لمفتون * بهوى رشأٍ أحوى أحور
    إن يبد لذي طرب غنى * أو لاح لذي نسك كبر
    آمنتُ هوى بنبوته * وبعينيه سحر يؤثر
    أصفيتُ الود لذي ملل * عيشي بقطيعته كدر
    يا من قد آثر هجراني * وعلي بلقياه استأثر
    أقسمت عليك بما أولتك * النضرة من حسن المنظر
    وبوجهك إذ يحمر حياً * وبوجه محبك إذ يصفر
    وبلؤلؤ مبسمك المنظوم * ولؤلؤ دمعي إذ ينثر
    أن تترك هذا الهجر فليس * يليق بمثلي أن يهجر
    فاجل الأقداح بصرف الراح * عسى الأفراح بها تنشر
    واشغل يمناك بصب الكاس * وخل يسارك للمزهر
    --------------------------- 478 ---------------------------
    فدم العنقود ولحن العود * يعيد الخير وينفي الشر
    بكر للسكر قبيل الفجر * فصفو الدهر لمن بكر
    هذا عملي فاسلك سبلي * إن كنت تقر على المنكر
    فلقد أسرفت وما أسلفت * لنفسي ما فيه أعذر
    سودت صحيفة أعمالي * ووكلت الأمر إلى حيدر
  • *
    هو كهفي من نوب الدنيا * وشفيعي في يوم المحشر
    قد تمت لي بولايته * نعمٌ جمت عن أن تشكر
    لأصيب بها الحظ الأوفى * وأُخصَّصَ بالسهم الأوفر
    بالحفظ من النار الكبرى * والأمن من الفزع الأكبر
    هل يمنعني وهو الساقي * أن أشرب من حوض الكوثر
    أم يطردني عن مائدة * وضعت للقانع والمعتر
  • *
    يا من قد أنكر من آيات * أبي حسن ما لا ينكر
    إن كنت لجهلك بالأيام * جحدت مقام أبي شبر
    فاسأل بدراً واسأل أحُداً * وسل الأحزاب وسل خيبر
    من دبر فيها الأمر ومن * أردى الأبطال ومن دمر
    من هد حصون الشرك ومن * شاد الإسلام ومن عمر
    من قدمه طه وعلى * أهل الإيمان له أمر
    قاسوك أباحسن بسواك * وهل بالطود يقاس الذر
    أنى ساوَوْك َبمن ناوَوْك * وهل ساووا نعليْ قنبر
    من غيرك من يدعى للحرب * وللمحراب وللمنبر
    وإذا ذكر المعروف فما * لسواك به شئ يذكر
    أفعال الخير إذا انتشرت * في الناس فأنت لها مصدر
  • *
    --------------------------- 479 ---------------------------
    أحييت الدين بأبيض قد * أودعت به الموت الأحمر
    قطباً للحرب يدير الضر * ب ويجلو الكرب بيوم الكر
    فاصدع بالأمر فناصرك ال * - بتار وشانؤك الأبتر
    لو لم تؤمر بالصبر وكظم ال * غيظ وليتك لم تؤمر
    ما نال الأمر أخو تيم * وتناوله منه حبتر
    لكن أعراض العاجل ما * علقت بردائك يا جوهر
    أنت المهتم بحفظ الدين * وغيرك بالدنيا يغتر
    أفعالك ما كانت فيها * إلا ذكرى لمن اذكر
    حججاً ألزمت بها الخصماء * وتبصرة لمن استبصر
  • *
    آيات جلالك لا تحصى * وصفات كمالك لا تحصر
    من طول فيك مدائحه * عن أدنى واجبها قصر
    فاقبل يا كعبة آمالي * من هدى مديحي ما استيسر
  • *
    وقال ( رحمه الله ) في عيد الغدير :
    أي عيد مثل هذا اليوم فينا * رضي الله به الإسلام دينا
    بلغ الهادي به ما أنزل الله * في شأن أميرالمؤمنينا
    قائلاً إن علياً وارثي * ووزيري وإمام المسلمينا
    أيها الناس أطيعوا واسمعوا * إنني لست على الغيب ضنينا
    لست من تلقاء نفسي قلته * إنما أتبع الوحي المبينا
    فاستجابوا قوله الشافي الذي * هاج من بعضهمُ الداء الدفينا
    إن نوى أعداؤه العصيان والغد * ر إنا قد أجبنا طائعينا
    إنه من ينقلب ليس يضر الله * شيئاً وسيجزي الشاكرينا
    رضي الله علياً هادياً * بعد طه فسمعنا ورضينا
    هو حبل الله لم يختلف الناس * لو كانوا به معتصمينا
    قد أطعناه يقيناً إنه * في غد من لهب النار يقينا
    --------------------------- 480 ---------------------------
    ويميناً بهداه برةٌ * تمنع المؤلي بها من أن يمينا
    لا نبالي بعد أن لذنا به * أن لقينا بولاه ما لقينا
    قد بدا الحق لنا فيه كما * لابن عمران بدا في طور سينا
    وصمونا فيه بالرفض وذو الحل - * - م لا يعنيه قول الجاهلينا
    عيرونا غير أن العارفينا * لم يروا من موضع للعار فينا
    أي عيب في الذي خاف من اليم * فاختار بأن يأوي السفينا
    من صبا للعاجل الفاني فإنا * نؤثر الباقي عليه ما بقينا
    بأبي من أظهر الحق وما * زال للهادي ظهيراً ومعينا
    ثم بعد المصطفى قد قاتل * الناكثين القاسطين المارقينا
  • *
    أبيات لصفي الدين الحلي ( ديوانه : 1 / 118 ) :
    أمير المؤمنين أراك إما * ذكرتك عند ذي حسب صغا لي
    وإن كررت ذكرك عند نغل * تكدر ستره وبغى قتالي
    فصرت إذا شككت بأصل مرء * ذكرتك بالجميل من المقال
    فليس يطيق سمع ثناك إلا * كريم الأصل محمود الخلال
    فها أنا قد خبرت بك البرايا * فأنت محك أولاد الحلال
    وقال ( رحمه الله ) :
    فوالله ما اختار الإله محمداً * حبيباً وبين العالمين له مثل
    كذلك ما اختار النبي لنفسه * علياً وصياً وهو لابنته بعل
    وصيره دون الأنام أخاً له * وصنواً وفيهم من له دونه الفضل
    وشاهد عقل المرء حسن اختياره * فما حال من يختاره الله والرسل
  • *
    من قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي
    وهي على مذهبه في تبرير عمل عائشة وطلحة والزبير وإن أخطأوا ! قال :
    يا جبلاً تأبى الجبال ما حمَل * ماذا رمت عليك ربّة الجَمل
    --------------------------- 481 ---------------------------
    أثأر عثمان الذي شجاها * أم غُصةٌ لم ينتزع شجاها
    قضية من دمه تبنيها * هبّت لها واستنفرت بنيها
    ذلك فتقٌ لم يكن بالبال * كيد النساء موهن الجبال
    وإنّ أم المؤمنين لامرأهْ * وإن تك الطاهرة المبرأهْ
    أخرجها من كنِّها وسنِّها * ما لم يُزل طول المدى من ضغنها
    وشرُّ من عداك من تقيه * ومُلقي السلاح تلتقيه
    جهزها طلحة والزبير * ثلاثة فيهم هدى وخير
    صاحبة الهادي وصاحباه * فكيف يمضون لما يأباه
    يا ليت شعري هل تعدوا وبغوا * أم دم ذي النورين بالحق بغوا
    جاءت إلى العراق بالبنينا * قاضي حق الأم محسنينا
    فانصدعت طائفتين البصرة * فريقُ خَذلٍ وفريقُ نُصره
    أو ذادة البيعة والذمام * وقادة الفتنة والزمام
    وانتهك الحي دماء الحيِّ * من أجل ميت غابرٍ وحيِّ
    وجاء في الأُسْد أبو تراب * على متون الضمَّر العِراب
    يرجو لصدع المؤمنين رأباً * وأمّهم تدفعه وتأبى
    وعجز الرأي وأعيا الحِلمُ * وخُطبت بالمرهفات السِلمُ
    من كل يوم سافك الدِماء * تعوذ منه الأرض بالسماءِ
    ظل الخِطام من يدٍ إلى يدٍ * كالتاج للأصيد بعد الأصيد
    مستلَماً توهى الغيوث دونه * وبالدماء أنهراً يفدونه
    حتى أراد اللهُ إمساك الدم * في كرم لسيفه المقدم
    وظفرت ألوية الإمام * وألقت البصرة بالزمام
    فرُدَّت الأم إلى مقرِّها * مبالَغاً في نقلِها وبرِّها
    ( من دول العرب وعظماء الإسلام تأليف شوقي / 54 ) .
  • *
    تم المجلد الخامس من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام )
    وبه تم الكتاب والحمد لله رب العالمين .
  • *
    --------------------------- 482 ---------------------------
    --------------------------- 483 ---------------------------
    الفهرس الموضوعات
    --------------------------- 484 ---------------------------
    --------------------------- 485 ---------------------------
    --------------------------- 486 ---------------------------
    --------------------------- 487 ---------------------------
    --------------------------- 488 ---------------------------
    --------------------------- 489 ---------------------------
    --------------------------- 490 ---------------------------
    --------------------------- 491 ---------------------------
    --------------------------- 492 ---------------------------
    --------------------------- 493 ---------------------------
    --------------------------- 494 ---------------------------
    --------------------------- الغلاف 2 ---------------------------
    يتضمن هذا المجلد سيرة أمير المؤمنين عليه السلام بعد التحكيم ، وغضب أهل العراق من خيانة الحكمين . واستنهاض الإمام عليه السلام للأمة وتثبيط الأشعث للناس . وكذلك غزو معاوية لمصر ، وشهادة محمد بن أبي بكر ثم مالك الأشتر رضي الله عنهما .
    وكذلك حرب الإمام عليه السلام للخوارج في النهروان وغيرها .
    ثم شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ومراسم تشييعه ، وبيعة المسلمين للإمام الحسن عليه السلام .
    دار المعروف
    للطباعة والنشر
    إيران - قم - شارع مصلى القدس - رقم 682
    تلفون : 2532939140 ( 0 ) 0098
    < / لغة النص = عربي >
    < / الكتاب >