السيرة النبوية عند أهل البيت (ع) المجلد الأول

--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الأول
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الأول
الطبعة الثانية - منقحة ومزيدة
1438 - 2017
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
شابك : 9786006612881
شماره كتابشناسى ملى : 4793168
عنوان ونام پديد آور : السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام / علي الكوراني العاملي
مشخصات نشر : قم ، دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 .
مشخصات ظاهري : 2 ج . / يادداشت : عربي .
يادداشت : چاپ دوم . / يادداشت : ج . 2 ( چاپ دوم : 1438 ق . = 2017 م . ) .
يادداشت : كتاب حاضر اولين بار در سال 1388 تحت عنوان " جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) " توسط انتشارات باقيات منتشر شده است .
عنوان ديگر : جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) .
موضوع : محمد ( ص ) . پيامبر اسلام . 53 قبل از هجريت - 11 ق . / موضوع : 632 . Muhammad . Prohpet . d
موضوع : سنت نبوي / موضوع : Wonts of the Prophet
موضوع : اسلام - - تاريخ - - ازآغاز تا 11 ق / موضوع : 632 Islam - - History - To
رده بندى ديويى : 93 / 297
رده بندى كنگره : 1396 9 ج 9 ك / 46 / Bp 24
سر شناسه : كورانى ، على ، 1944 - م . Kurani Ali
وضعيت فهرست نويسى : فيپا

  • *
    السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ( 1 )
    المؤلف : علي الكوراني
    الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
    الطبعة : الأولى .
    تاريخ النشر : ذي قعدة 1438 ه‍ ق - July 2017
    المطبعة : باقرى - قم المقدسة .
    عدد المطبوع : 3000 نسخة .
    شابك : 978 - 600 - 6612 - 88 - 1
    دار المعروف
    للطباعة والنشر
    مركز النشر والتوزيع :
    إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
    جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
    www . maroof . org
    Email : nashremaroof @ gmail . com
    --------------------------- 5 ---------------------------

مقدمة الطبعة الثانية

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
وبعد فقد وفقني الله تعالى لكتابة السيرة النبوية عند أهل البيت « عليهم السلام » ، وكتبت عن علي والزهرا ء صلوات الله عليهما ، وعن الإمام الحسن السبط ( عليه السلام ) ، وكذلك عن الأئمة زين العابدين ، والكاظم ، والجواد ، والهادي ، والعسكري ، وعدة مجلدات عن الإمام المهدي صلوات الله عليهم .
وقد طالبني بعض العلماء الأجلاء بأن أكمل هذه الدورة في سيرة النبي وأهل البيت الأطهار « عليهم السلام » ، فاستخرت الله تعالى وبدأت بتلبية طلبهم .
أسأله تعالى أن يهب لي التوفيق لإكمال هذا العمل المبارك ، وأن يجعله ذخراً ليوم وقوفي بين يديه عز وجل ، يوم يفوز به الفائزون بولاية النبي وآله الأطهار ( صلى الله عليه وآله ) .
كتبه بقم المشرفة : علي الكوراني العاملي
في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1436
--------------------------- 6 ---------------------------
.
--------------------------- 7 ---------------------------

تمهيد

أهمية السيرة النبوية

للسيرة النبوية أهمية خاصة عند المسلم ، فهي إيمانٌ وعلمٌ ، وفقهٌ للرسول والرسالة ، وتعريفٌ له بنبيه الذي ينتمي اليه ، ويتقرب إلى ربه بالاقتداء به ( صلى الله عليه وآله ) .
وأشهر كتاب وصل الينا في السيرة ما عُرف بسيرة محمد بن إسحاق بن يسار « توفي 151 » ثم اختصره وغيَّرَ فيه عبد الملك بن هشام « توفي 218 » فعُرف بسيرة ابن هشام ، وذكر في أوله أنه تارك من سيرة ابن إسحاق : « أشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها ، وأشياء بعضها يُشَنَّعُ الحديث به ، وبعضٌ يسوءُ بعض الناس ذكره » !
ومعناه أنه أراد كسب رضا العباسيين الذين ألف لهم كتابه ، والذين يزعمون أن جدهم العباس وارث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويزعم المنصور أنه رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في منامه : « وعقد له لواءً أسود وعممه بعمامة من ثلاثة وعشرين دوراً ، وأوصاه بأمته ، وقال له : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة » !
فأصدر المنصور أمره للمسلمين بتدوين رؤياه وقال : « ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب ، وتعلقوها في أعناق الصبيان » ! تاريخ بغداد : 1 / 85 ، تاريخ دمشق : 32 / 301 ، رواه ابن كثير في النهاية : 10 / 129 وحكم بصحة المنام !
على أن سيرة ابن إسحاق أيضاً فيها مشكلات ، فقد غَيَّر فيها في مراحل حياته ،
--------------------------- 8 ---------------------------
حيث كان أول أمره يتشيع للحسنيين ، ثم صار مع خصومهم العباسيين . وعاش في المدينة ، ثم نفي منها إلى البصرة ، وفارس ، ثم عاش في بغداد . ولهذا صار لكتابه روايات متعددة ، وقد اعتمد ابن هشام على رواية زياد البكائي دون غيرها ، بينما قال في مقدمة القطعة التي عثروا عليها في المغرب : « ولسيرة ابن إسحاق رواة غير البكائي ، وابن بكير ، وبكر بن سليمان ، وسلمة بن الفضل ، أوصلها مطاع الطرابيشي في كتابه : رواة المغازي والسير إلى واحد وستين راوياً » . « ابن إسحاق : موقع الوراق » .
ويظهر أن نسخ هؤلاء الرواة فيها « تعديلات » ابن إسحاق على كتابه ، وأنه حذف منه كثيراً من مناقب أهل البيت « عليهم السلام » ، وما يمس بني أمية وبني عباس !
ومن أمثلة ذلك حذف اسم العباس من أسرى بدر ، مع أنه متواتر ، وحذف ابن هشام لحديث الدار الذي نص على وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) ، عند نزول قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ .
لذلك ، فإن القيمة العلمية لسيرة ابن هشام وابن إسحاق منخفضة ، وعلى الباحث فحص روايتها ، ومقارنتها بالروايات الأخرى .

كانت الخلافة تحرق مصادر السيرة !

اتفقت المصادر على أن أول من صنف في السيرة : عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو قبطي : « هو أول من صنف في المغازي والسير » . الذريعة : 17 / 153 .
قال في الشيعة وفنون الإسلام / 84 : « الفصل الثامن في تقدم الشيعة في علم السير ، فأول من وضعه عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، صنف في ذلك على عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » . وكان أبوه أبو رافع « رحمه الله » مرجعاً : « كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول : ما صنع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم كذا ؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها » . تقييد العلم لابن عبد البر / 92 والإصابة لابن حجر : 4 / 125 .
فأين هذا الكنز الثمين : كتاب ابن أبي رافع « رحمه الله » ؟ لقد أحرقته الحكومات ، ولا تعجب فقد كان الإحراق من صلب سياساتهم !
--------------------------- 9 ---------------------------
قال الزبير بن بكار في الموفقيات / 222 ، وهو من علماء السلطة : « قدم سليمان بن عبد الملك إلى مكة حاجاً سنة 82 ه - ، فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومغازيه فقال له أبان : هي عندي قد أخذتها مصححةً ممن أثق به . فأمر سليمان عشرة من الكتاب بنسخها فكتبوها في رق ، فلما صارت إليه نظر ، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر ، فقال : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل ! فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم ، وإما أن يكونوا ليس هكذا ! فقال أبان : أيها الأمير لايمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق ، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا ! فقال سليمان : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه ، ثم أمر بالكتاب فحُرِق ! ورجع فأخبر أباه عبد الملك بن مروان بذلك الكتاب ، فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تَقْدِمْ بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها ! قال سليمان : فلذلك أمرت بتحريق ما نسخته » !
فالميزان عند الخليفة : أن يكون في الكتاب مدحٌ لبني أمية ، أما إذا كان فيه مدحٌ لآخرين فيقول لابنه : « وما حاجتك أن تَقْدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل » !
وترى في هذا النص أن الخلافة تتبنى سياسة التعتيم والتجهيل ، فقد قال لابنه : تُعَرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها ! وقد طبقها الابن وحرق ما كتبوه له !

كنوزٌ من السيرة وعلوم الإسلام أحرقتها السلطة !

حرصت الحكومات القرشية على إحراق كتب شيعة أهل البيت « عليهم السلام » وإبادتها ، ومع ذلك سلمت من نارهم ثروة كبيرة ، تغطي كثيراً من فصول السيرة النبوية وليس كلها ، ونراها أحياناً تستفيض بأوسع من السيرة الحكومية .
ويكفيك مثالاً على سياستهم في إبادة العلم : كُتب جابر بن يزيد الجعفي ، وكُتب أحمد بن عقدة ، وكُتب سليمان الأعمش ، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم ! فقد أحرقوا كتبهم أو فقدت من تلاميذهم في سنوات تشريدهم وتقتيلهم ! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث ، أي مئتي مجلداً !
--------------------------- 10 ---------------------------
قال مسلم في مقدمة صحيحه / 15 : « الجراح بن مليح يقول : سمعت جابراً يقول : عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر « الباقر ( عليه السلام ) » عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كلها » !
وقد أحضر المنصور سليمان الأعمش ليلاً ليمنعه من رواية مناقب علي ( عليه السلام ) وقال له : « فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله كم رويت من حديث علي بن أبي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء ؟ قلت : شئ يسير يا أمير المؤمنين ! قال : كم ؟ قلت : مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد ! قال : يا سليمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء ؟ فإن حلفت لا ترويه لأحد من الشيعة حدثتك به » ! فضائل علي ( ( ع ) ) لابن المغازلي / 226 .
وقال الشهيد نور الله التستري في الصوارم المهرقة / 214 : « إن أهل بغداد أجمعوا على أنه لم يظهر من زمان ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة ، من يكون أبلغ منه في حفظ الحديث . وأيضاً قال الدارقطني : سمعت منه أنه قال : قد ضبطت ثلاث مائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت وبني هاشم « عليهم السلام » ، وحفظت مائة ألف حديث بأسانيدها ! ونقل الذهبي عن عبد الغني بن سعيد أنه قال : سمعت عن الدارقطني قال : إن ابن عقدة يعلم ما عند الناس ، ولا يعلم الناس ما عنده !
وقال الثلاثة : إن ابن عقدة كان يقعد في جامع براثا من الكوفة ، ويذكر مثالب الشيخين عند الناس ، فلهذا تركوا بعض أحاديثه ، وإلا فلا كلام في صدقه » .
وقد اشتبه الراوي فمسجد براثا في بغداد ، ومسكن ابن عقدة الكوفة .
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : 3 / 840 : « قال الحاكم ابن البيِّع : سمعت أبا علي الحافظ يقول : ما رأيت أحفظ لحديث الكوفيين من أبي العباس بن عقدة .
وعن ابن عقدة قال : أنا أجيب في ثلاث مائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم . حدث بهذا عنه الدارقطني . وعن ابن عقدة قال : أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها . . وقال أبو سعد الماليني : أراد ابن عقدة أن ينتقل ، فكانت كتبه ست مائة حملة » . وذكر نحوه في وسائل الشيعة : 20 / 131 وذكر قول الشيخ الطوسي فيه : « أمره في الثقة والجلالة والحفظ أشهر من أن يذكر » .
--------------------------- 11 ---------------------------
وفي مجلة تراثنا : 21 / 180 : « أفرد الذهبي رسالة عن حياته ، مذكورة في مؤلفاته في مقدمة سير أعلام النبلاء باسم : ترجمة ابن عقدة . ترجم له أعلام العامة بكل تجلة وتبجيل ووثقوه ، وأثنوا على علمه وحفظه وخبرته وسعة اطلاعه ، وأرخوا ولادته ليلة النصف من المحرم سنة 249 ، ووفاته في 7 ذي القعدة سنة 332 . ومن المؤسف أن هذا الرجل العظيم لم يبق من مؤلفاته الكثيرة الكبيرة سوى وريقات توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق ، ضمن المجموعة رقم 4581 ، باسم : جزء من حديث ابن عقدة من الورقة : 9 - 15 » !
أما اليوم فلا تجد حتى الترجمة التي كتبها الذهبي لابن عقدة !
ويتضح حجم جريمة الحكومات في تضييع علم العترة « عليهم السلام » لوعرفت أن كل ألفي حديث تبلغ مجلداً تقريباً ، وأن صحيح بخاري ومسلم وبقية الكتب الستة مع حذف المكرر تبلغ : 9780 حديثاً ، وكل ما في الصحيحين : 2980 حديثاً .
http : / / www . ahlalhdeeth . com / vb / showthread . php ? t = 2586 9
فتكون أحاديث جابر بن يزيد الجعفي خمساً وثلاثين مجلداً ، أو سبعة أضعاف البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة . والعشرة آلاف حديث التي يرويها سليمان الأعمش في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحدها أكثر من مجموع الكتب الستة !
أما أحاديث أحمد بن عقدة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتبلغ خمسين مجلداً ، وأحاديثه عن أهل البيت « عليهم السلام » وبني هاشم ، مئة وخمسين مجلداً !
ولم تكتفِ السلطة بمصادرة الكتب وإحراقها ، حتى أفتى علماؤها بأن كل من روى شيئاً فيه نقد ولو بسيط لأبي بكر وعمر ، فحكمه أن يدفن حياً !
قال الذهبي في ميزان الإعتدال : 2 / 75 ، عن العلل لأحمد بن حنبل : 3 / 8 : « قال عبد الله بن أحمد : سألت ابن معين عنه » « زكريا بن يحيى الكسائي » « فقال : رجل سوء يحدث بأحاديث سوء . قلت : فقد قال لي : إنك كتبت عنه ؟ فحول وجهه وحلف بالله إنه لا أتاه ولا كتب عنه . وقال : يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها » !
وقال عنه ابن تيمية في منهاج السنة : 7 - 232 : « لا يحتج به باتفاق أهل العلم ، فإن
--------------------------- 12 ---------------------------
زكريا بن يحيى الكسائي قال فيه يحيى : رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها . قال ابن عدي : كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة » .
فهل يجوز أن تخسر أجيال الأمة ثروة عظيمة بسبب روايات تنتقد بعض الصحابة ؟ أمَا كان الواجب على علماء الأمة أن يرووها ويردوا عليها ؟ ! لكنهم صاروا أعداء العلم ، لأنهم أطاعوا سياسة التعتيم والتجهيل الأموي التي قال عنها الخليفة لابنه : « تُعَرِّف
أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها » !
فحضرة الخليفة الذي يحدد ما يسمح بمعرفته للناس ، ويحرق كل ما لم يعجبه !

القرآن مصدر للسيرة لكنهم ضيعوا أسباب نزوله !

كان جبرئيل ( عليه السلام ) ينزل بآيات القرآن فيبلغها النبي ( صلى الله عليه وآله ) للصحابة ، لكنهم لم يحفظوا أسباب نزولها وأوقاتها ! بل نرى أن الصحابة صلوا مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) على مئات الجنائز ، ثم اختلفوا هل كان يُكَبِّر على الجنازة أربع تكبيرات ، أو خمساً !
إن هذه الحالة من عدم الضبط في الأمة ، تستوجب وجود إمام بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنده علم الكتاب ليبينه للأجيال بعلمٍ ويقين ، لابظنون واحتمالات كما فعل الصحابة ! ولذا أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فأعدَّ علياً ( عليه السلام ) وصياً وخليفة وإماماً ، وعلمه علم الكتاب ، فجمعه بأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حياته ، وأكمل جمعه عند وفاته .
لكن قريشاً أبعدت علياً والعترة « عليهم السلام » عن السلطة ، ولم تقبل منهم حتى نسخة القرآن التي جاءهم بها علي ( عليه السلام ) ، خوفاً من أن تكون في غير مصلحتها : « فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة ! فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما ! فحمل الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة » ! المناقب : 1 / 320 .
فقد كان ( عليه السلام ) مأموراً من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يعرضه عليهم ، فإن لم يقبلوه احتفظ به عند الأئمة من ذريته « عليهم السلام » حتى يظهره المهدي ( عليه السلام ) ، وتركهم يجمعونه كما يريدون ، حتى لا يكون للأمة
--------------------------- 13 ---------------------------
قرآنان . راجع : تدوين القرآن / 182 ، ألف سؤال وإشكال : 1 / 243 .
ولهذا السبب تخبطت الأمة في علوم القرآن وأسباب نزول آياته ، فانظر من باب المثال إلى تهافت كلامهم في آخر آية نزلت ، مع أنهم كانوا يومها ألوفاً :
1 . روى أحمد : 1 / 36 في مسنده عن ابن المسيب أن عمر سئل عن آية الربا فلم يعرفها فقال إنها آخر آية ! « وإن رسول الله قبض ولم يفسرها » !
2 . وفي البخاري : 5 / 115 : « وآخر آية نزلت : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » .
3 . وفي البخاري : 5 / 182 : « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ، آخر ما نزل » . !
4 . وفي مستدرك الحاكم : 2 / 338 وصححه على شرط الشيخين : « آخر ما نزل من القرآن : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ » . يقصد الآيتين : 128 و 129 من سورة التوبة .
5 . وفي صحيح مسلم : 8 / 243 : « تَعْلمُ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً ؟ قلت نعم ، إذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفَتْح . قال : صدقت » .
6 . وفي الطبراني الكبير : 12 / 19 : « آخر آية أنزلت : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ » . يقصد الآية : 281 من سورة البقرة !
7 . وكأن السيوطي استحى من تهافت أحاديثهم الصحيحة في آخر ما نزل فأجملها في الإتقان : 1 / 101 ، ولم يعددها كما عدد الأقوال في أول ما نزل !
وهذا التناقض يوجب سقوط رواياتهم ، فلا يبقى للباحث في أسباب النزول إلا ما قاله أهل البيت « عليهم السلام » أو المجمع عليه وهو قليل ، كآية : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ، المجمع على نزولها بعد ثلاث سنين من البعثة ، وأن الدعوة قبلها كانت لبني هاشم خاصة حتى كفاه الله المستهزئين . وهي مقطع مهم في السيرة ، لأنها تعين سنة هلاك عدد من الفراعنة ، وتنفي وجود دعوة عامة قبل ذلك التاريخ .

شعر أبي طالب ( ( ع ) ) مصدر للسيرة

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعجبه أن يُرْوَى شعرأبي طالب وأن يُدَوَّن وقال : تَعَلَّمُوهُ وعلموه أولادكم فإنه كان على دين الله . وفيه علمٌ كثير » . وسائل
--------------------------- 14 ---------------------------
الشيعة : 17 / 331 ، إيمان أبي طالب للمفيد / 10 ومكاتيب الرسول للأحمدي : 1 / 378 .
وقد وصلنا منه نحو ألف بيت ، وهي تكشف حقائق مهمة من سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من قبل البعثة ، في كفالة عمه ، وآياته التي شاهدها الراهب بحيرا ، ومحاولة اليهود قتله ، ثم بِعثته وتكذيب قومه له ، إلى قرب هجرته ( صلى الله عليه وآله ) !
قال الصالحي الشامي في سبل الهدى : 2 / 142 : « وقال أبو طالب في هذه السفرة قصائد ، منها ما ذكره ابن إسحاق ، وأبو هفان في ديوان شعر أبي طالب . . الخ . » .
وأبو هفان أقدم من جمع شعر أبي طالب « رحمه الله » وشَرَحَه ، وهو عبد الله بن أحمد بن حرب بن مهزَّم البصري النحوي ، صاحب كتاب أشعار عبد القيس . « الذريعة : 14 / 195 وإيضاح المكنون : 2 / 49 » . وذكره النجاشي كتبه في رجاله / 218 ، وقال : « مشهور في أصحابنا وله شعر في المذهب . وبنو مهزم بيت كبير بالبصرة في عبد القيس » .
وقد اشتهر من شعر أبي طالب لاميته الرائعة ، التي أرخ فيها لهيجان طغاة قريش ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مطلع نبوته ، وقد مدحها العلماء حتى النواصب ، لكنهم لم يستشهدوا بها في تدوينهم السيرة النبوية ، لأنها تفضح زعماء قريش !
وأوردها ابن كثير في النهاية : 3 / 70 برواية ابن هشام ، ورد تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب ، وقال عنها : « قلت : هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً ، لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً ، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر » . ويقصد بالأموي المؤرخ الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي مولى الأمويين توفي سنة 195 ، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي . الديباج : 1 / 34 .
لكن أتباع السلطة أعرضوا عنها متعمدين لأنهم يبغضون علياً ( عليه السلام ) ، وقد يصل بغضهم بسببه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولاعذر لهم في ترك شعر أبي طالب حتى لو اعتبروه كافراً « رحمه الله » ، لأن شعره وثائق من شاهدٍ على أحداث السيرة .
--------------------------- 15 ---------------------------

أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) أدرى بسيرة جدهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأصدق

يشهد الجميع بأن الأئمة من أهل البيت « عليهم السلام » : علياً والحسنين وزين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي « عليهم السلام » أعرف بسيرة جدهم ( صلى الله عليه وآله ) وأصدق من غيرهم ، ومع ذلك يُعرضون عنهم متعمدين ويأخذون السيرة من رواة مغرضين ويجعلون قولهم ديناً يدينون به ! وكمثال على ذلك ما نسبوه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه اقتص من أشخاص قتلوا رعاة إبل الصدقة ، ففقأ عيونهم بمساميرمحماة ، ثم أحرقهم بالنار أو تركهم ينزفون !
فقد رواه بخاري عن أنس : 1 / 64 قال : « قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة « مرضوا من هوائها » فأمر لهم النبي بلقاح « نوق حلوبة » وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا ، فلما صحوا قتلوا راعي النبي ( صلى الله عليه وآله ) واستاقوا النعم ، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم ، فلما ارتفع النهار جئ بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسُمِّرَتْ أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون » !
وفي : 4 / 22 : « أمر بمسامير فأحميت فكحَّلهم بها ، وطرحهم بالحرة حتى ماتوا » !
وقد رووا استنكار أهل البيت « عليهم السلام » لهذه التهمة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنهم لم يقبلوا منهم !
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه سمَّرَ يد رجل إلى الحائط ! ومن ثَم استحل الأمراء العذاب » !
علل الشرائع : 2 / 541 ، راجع ألف سؤال وإشكال : 2 / 440 .
وقد أفتى الشافعي بجواز التعذيب . « الأم : 4 / 259 » قال : « وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح . . قال : والله ما سمل رسول الله عيناً ، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم » .
وهكذا جعلت السلطة أنس الصحابي كذاباً على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لإثبات مشروعية تعذيب مخالفيها ، وانتزاع الاعتراف منهم لقتلهم ! ولو قبلوا من أهل البيت « عليهم السلام » تبرئة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكذبوا رواة السلطة لكانوا علماء بحق !
--------------------------- 16 ---------------------------

هدف الكتاب وفروقه عن السيرة الرسمية

1 . اهتم علماؤنا بالسيرة وألفوا فيها كتباً وفصولاً . وكتب أخيراً العالم الصديق السيد جعفر مرتضى العاملي موسوعته : الصحيح من سيرة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، في أكثر من ثلاثين مجلداً ، حاكم فيها بتفصيل مسائل السيرة الرسمية عند حكومات الخلافة القرشية . لكن بقيت الحاجة إلى سيرة تركز على أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » وكلمات علماء مذهبهم . لذا قمت بتدوين أحداث السيرة متتبعاً أولاً رواية أئمة أهل البيت « عليهم السلام » ثم كلام علماء مذهبهم ، أو ما ارتضوه من رواية غيرهم .
وكان لابد أحياناً من محاكمة الرواية المشهورة بما يناسب الكتاب ، لتكتمل الصورة الناصعة لسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) منزهةً عن أهواء الحكام ، وتخليط رواتهم .
أما فروقها عن السيرة الحكومية الرسمية فتعرفه بمقارنة فهرسها بفهارس السِّيَر الرسمية ، لتجد أولاً التسلسل المنطقي والعمق العلمي والحداثة في كل فصل ، وتجد العنونة حيث لم يعنونوا ، وفروقاً في أسباب الأحداث ، وإظهاراً لحقائق كثيرة ، وكشفاً لتحريف الرواية الحكومية .
2 . نعتقد بعصمة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) عصمة شاملة قبل البعثة وبعدها ، في تبليغ الرسالة ، وفي أموره الشخصية ، بدليل : قوله تعالى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . وقول علي ( عليه السلام ) : ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم . فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) من طفولته نبياً ، أما في الأربعين فبعث رسولاً .
أما قوله تعالى : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى « الضحى : 6 ، 7 ، 8 » : فمعناه أن من نعم الله عليك أنه هيأ لك جدك عبد المطلب وعمك أبا طالب ( صلى الله عليه وآله ) فكفلاك في يتمك ونشأتك . ومن نعمه عليك أنه هداك من صغرك ، لكنك كنت متحيراً ضالاً فيما يجب عليك عمله ، فهداك بالرسالة إلى دعوة الناس إلى دينه . ووجدك عائلاً عليك نفقة بيتك ومن تريد مساعدتهم ، فأغناك بخديجة فوهبتك ثروتها ، كما وهبت سارة ثروتها لإبراهيم ( عليه السلام ) .
--------------------------- 17 ---------------------------
وأفرط بعض أتباع السلطة ففسروا : وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ، بأنه ( صلى الله عليه وآله ) كان كافراً والعياذ بالله ! ورده الرازي في تفسيره : 31 / 216 ، وفسره بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان ضالاً عن النبوة ، لأنه لم يكفر بالله تعالى طرفة عين . ومذهبنا أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً من صغره ، وكان يرافقة ملك من لدن أن كان فطيماً ، فلا بد أن يكون معنى الضلال الحيرة فيما يجب أن يفعله لهداية الناس ، وليس الحيرة في ربه عز وجل .
قال الشريف المرتضى « رحمه الله » في تنزيه الأنبياء « عليهم السلام » / 150 : « في معنى هذه الآية أجوبة : أولها : أنه أراد وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها ، أو عن شريعة الإسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق . لأن الضلال هو الذهاب والانصراف فلا بد من أمر يكون منصرفاً عنه » . وقال أهل البيت « عليهم السلام » إن معنى آوى : آوى إليك المؤمنين ، ومعنى فهدى : هداهم إليك » . تنزيه الأنبياء / 151 . عيون أخبار الرضا ( ( ع ) ) : 2 / 177 ، كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي / 92 ، أخذ أكثره من تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ( ( رحمه الله ) ) !
3 . نعتقد بإيمان آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى إسماعيل وإبراهيم وآدم « عليهم السلام » ، وأن أجداده وعمه أبا طالب كانوا على ملة إبراهيم ( عليه السلام ) الحنيفية ، ولم يكونوا مكلفين باليهودية ولا بالمسيحية .
4 . كان اليهود ينتظرون بعثة النبي الخاتم من الجزيرة ، وجاءت لذلك مجموعات منهم بعد عيسى ( عليه السلام ) ، وسكنت في وادي القرى ، وخيبر ، والمدينة ، ومكة ، وغيرها .
5 . في السابعة والثلاثين من عمره ( صلى الله عليه وآله ) كان يأتيه جبرئيل ( عليه السلام ) ويعلمه ، وفي الأربعين بدأ نزول الوحي عليه ، وكان في أفق مبين واضح كما نص القرآن ، ولم يكن في جو عُنفٍ وشكٍّ كما يرويه البخاري ، بل نعتبر ذلك من طعن قريش في نبينا ( صلى الله عليه وآله ) أو من جهالة الراوي .
6 . انتشر خبر بعثته ( صلى الله عليه وآله ) فاستشاط زعماء قريش غضباً ، واتخذوا قراراً بقتله قبل أن يسمعوا حجته ! لأنه نقض اتفاقية توزيع مناصب الشرف بين قبائل قريش ودعا إلى
--------------------------- 18 ---------------------------
زعامة بني هاشم ! ثم أمره الله تعالى أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وزيراً ووصياً ، فقام بذلك ، فزاد ذلك من غضب قريش واعتبروه نبأ عظيماً ، لأنه جعل وصيه من عشيرته بني هاشم !
فالمرحلة الأولى من الدعوة ، كانت خاصة ببني هاشم وتوحيدهم لحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومدتها ثلاث سنوات ، لم يَدْعُ فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) غيرهم ، حتى أهلك الله الفراعنة المستهزئين الخمسة وأوحى اليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ، فبدأ بالدعوة العامة .
وقد حرَّف رواة السلطة سِرِّيَّة الدعوة ، لأن سريتها انحصرت بمن كتموا إسلامهم خوفاً من قريش كعمار ، أو كتموه حرصاً على نجاح الدعوة كأبي طالب وحمزة .
أما النبوة وآيات القرآن وسوره فكانت علنية .
7 . ضخَّم رواة السلطة دار الأرقم وجعلوها مرحلة في دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لإثبات مناقب لبعض القرشيين ، وادعوا أن المسلمين خرجوا من دار الأرقم إلى المرحلة العلنية ، ولا وجود لمرحلة دار الأرقم أصلاً ، ولا لإسلام عمر وأبي بكر في الفترة الأولى .
8 . كانت الهجرة إلى الحبشة مرة واحدة ، ولم يرجع المسلمون خطأ كما زعموا لما مدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصنام قريش ، ووصفها بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتها ترجى .
9 . بيَّنا الرواية الصحيحة لمحاصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم في شعب أبي طالب ، ومدتها ، ورددنا ما ادعوه لبعض زعماء قريش أنهم عملوا لنقض صحيفة المحاصرة !
10 . بينا أن الصحيح أن وفاة أبي طالب وخديجة « عليهما السلام » كانت قبل هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بسنة وأشهر ، وليس بثلاث سنوات ، كما قيل .
11 . عرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) نفسه على نحو ثلاثين قبيلة ليحموه من قريش فيبلغ رسالة ربه ، وقبلت بعضه القبائل حمايته بشرط أن تكون لها الخلافة بعده فرفض ، وأخذ البيعة من الأنصار على أن يحموه وأهل بيته كما يحمون أنفسهم وذراريهم ولاينازعوهم الأمر .
--------------------------- 19 ---------------------------
12 . زاد الخطر على حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد وفاة عمه أبي طالب « رحمه الله » حتى اختبأ لفترة في الحجون ، وتصاعد عملهم لقتله حتى طوقوا بيته فخرج مهاجراً بدون أن يشعروا ، وأنام علياً ( عليه السلام ) مكانه . وفي طريقه ( صلى الله عليه وآله ) وجد أبا بكر وغلامه فأخذهما معه ، وجاء علي في اليوم التالي إلى الغار وجهزهم فهاجروا ، ومعهم دليلهم عبد الله بن أريقط الجهني .
13 . أدى علي ( عليه السلام ) أمانات النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة ، ونجا من محاولة اغتيال ، وكانت هجرته ببقية أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) الهجرة العلنية الوحيدة ، وبعثت له قريش مجموعة فرسان ليردوه ، فقتل قائدهم وانهزم الباقون . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في انتظاره في قباء ، ولما وصل اليه أخبره أن الله أنزل فيه وفي الفواطم آيات تمدحهم .
14 . طلب أبو بكر من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدخل المدينة ولاينتظر علياً ( عليه السلام ) في قباء ، فأصر على انتظاره ، فغضب أبو بكر وتركه في قباء وذهب إلى السنح ، ولم يحضر هو ولا عمر في قُباء ولا في دخول النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة .
15 . أرسى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسس دولته في المدينة ، وعقد معاهدات مع اليهود ، وآخى بين المسلمين واختار علياً ( عليه السلام ) فآخاه .
16 . كان انتصار المسلمين في بدر كاسحاً ، وقامت المعركة على أكتاف بني هاشم ، وكان بطلها الأكبر علي ( عليه السلام ) ، حيث قتل أكثر نصف السبعين فارساً ، وقتل المسلمون أقل من نصفهم . ونزلت آية تأكيد الخمس لبني هاشم ، وكان تشريع الخمس قبل بدر .
17 . نزلت سورة الأنفال بعد بدر وفيها ذم مرضى القلوب ، وتوبيخ بعضهم لفرارهم من الصف الأول ، واختلافهم على الغنائم ، واتهامهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه أخفى عباءة !
ولم يستفد الصحابة من توبيخهم في بدر فانهزموا في أحُد وتركوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) لسيوف المشركين ، وطعنوا في قيادته وإدارته وقالوا : لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ! وثبت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبو دجانة ونسيبة فجرحا ، وثبت عليٌّ ( عليه السلام ) وقاتل وحده حتى
دفع الله المشركين وهزمهم !
--------------------------- 20 ---------------------------
18 . وفي غزوة الأحزاب طالت محاصرة المشركين للمدينة نحو شهر ، فخاف المسلمون وفرَّ أكثرهم من المرابطة وتسللوا إلى المدينة بأعذار مختلفة ! حتى بقي مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات ليلة في حراسة الخندق اثنا عشر شخصاً فقط ! وتواطأ بعضهم مع المشركين فعبَّروا فرساناً منهم من نقطة من الخندق بقيادة فارس العرب عمرو بن ود العامري ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) الصحابة إلى مبارزته فخافوا ، فبرز اليه علي ( عليه السلام ) وقتله وقتل بعض رفاقه ، فهرب الباقون ووقع الرعب في المشركين ، وأرسل الله عليهم الريح فتمت هزيمتهم .
19 . في غزوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليهود بني قينقاع والنظير وقريظة ، كان بطل الإسلام عليٌّ ( عليه السلام ) فقتل عدداً من أبطالهم ، فخضعوا لشروط النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالجلاء عن المدينة .
20 . وكان لعلي ( عليه السلام ) أدوار في غزوة الحديبية ، فعتَّم عليها رواة السلطة ، وبيَّناها !
21 . وكانت خيبر قسمين : حصون النطاة وأهمها حصن ناعم ، وحصون الشق وأهمها حصن القموص . فحاصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حصن ناعم وهاجمه علي ( عليه السلام ) فدحا بابه وفتحه ، ثم أبقاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) هناك لترتيب وضعها ، واتجه إلى حصن القموص فحاصره لمدة شهر أو نحوه ، فكان المسلمون يهاجمونه يومياً تقريباً ويرجعون مهزومين ! حتى طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحضر علياً ( عليه السلام ) فأحضره وأخبرهم أنه سيفتح الحصن ، فهاجم علي ( عليه السلام ) الحصن وحده ودحا بابه الحديدي الثقيل ، وقتل بطلهم مرحباً ، وفتح الحصن !
22 . وفي غزوة حنين انهزم المسلمون ، وكانوانحو عشرة آلاف ، فثبت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنو هاشم فقط ، وقاتل علي ( عليه السلام ) وحده فقتل أربعين من حملة الرايات ، وحقق النصر !
ثم حاصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حصن الطائف ، وكان المسلمون يهاجمونه فلم يستطيعوا فتحه ، وكان علي ( عليه السلام ) في مهمة عسكرية ، فاتفق النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع ثقيف وأنهى حصار الطائف .
23 . بعد حنين أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن مرات ، فاستكمل فتحها وترتيب
--------------------------- 21 ---------------------------
أوضاعها ، وكانت له فيها جولات وبطولات ، أخفاها رواة السلطة .
24 . تتميز هذه السيرة بتسليط الضوء على خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإثبات أنها كانت مطروحة من أول بعثته لما أمره الله تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين ، ويطلب منهم وزيراً يبايعه على دعوته ليتخذه أخاً ووصياً ، فاستجاب له علي ( عليه السلام ) فأعلنه : « أخاه ووزيره ووصيه وخليفته من بعده » وأمرهم بطاعته ، فقال أبو لهب لأبي طالب : لقد أمرك بأن تطيع ابنك هذا !
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرض نفسه على القبائل لتحميه ، فاستجابت له عدة قبائل ، لكنها اشترطت أن تكون لها الخلافة بعده ، فلم يقبل .
ثم كانت الخلافة مطروحة عند منافسي علي ( عليه السلام ) فانقسم المسلمون في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى شيعة علي ومبغضيه ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يمدح علياً ( عليه السلام ) وشيعته ، ويذم من أبغضهم .
ثم كانت مطروحة بعد فتح مكة ، وكانت الشغل الشاغل لقريش وحلفائها اليهود ، فحاولوا اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) مراراً ، ليأخذوا دولته ويفرضوا خليفة منهم !
في الختام ننبه إلى أن مصادرنا هي من طبعة برنامجنا « مكتبة أهل البيت « عليهم السلام » - الإصدار الثاني » . وننبه إلى أنا قد نذكر الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) كاملة وهي في المصدر ناقصة .
نسأل الله تعالى بجاه أحب خلقه اليه محمد وآله الطاهرين ( صلى الله عليه وآله ) أن يتقبل منا هذا العمل ويشملنا بشفاعته صلوات الله عليه وآله المعصومين .
كتبه بقم المشرفة : علي الكَوْراني العاملي
غرة ربيع المولد 1429 ثم في ربيع المولد سنة 1436

  • *
    --------------------------- 22 ---------------------------
    .
    --------------------------- 23 ---------------------------

الفصل الأول

أول ما خلق الله نورالنبي « صلى الله عليه وآله »

1 . عوالم وجودنا قبل هذا العالم

إن وجودنا الفعلي ليس أول وجودنا ولا آخره ، فقد تظافرت الأدلة من القرآن والسنة وكشوف العلم ، على أنا كنا موجودين في عوالم قبل عالمنا هذا ، واشتهر منها عالم الذر الذي قال الله تعالى عنه : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا . .
وقد نصت الآيات والأحاديث على أن الله امتحن الناس في عالم الذر امتحاناً كاملاً شاملاً ، وأن عملنا في هذا العالم تطبيقٌ لما اخترناه بإرادتنا الكاملة هناك .
وورد أن الناس تعارفت أرواحهم في عالم الذر ، فائتلفوا أو اختلفوا .
ويسمى عالم الأظلة أيضاً ، وفي بعض الروايات عالم الأشباح النورانية ، وعالم الأنوار الأولى ، وأنه أول ظلال أو فَئْ خلقه الله تعالى من نور عظمته .
كما ورد اسم عالم الطينة ، بمعنى الأصل الذي خلق منه الناس .
كما أن قوله تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ، يشير إلى عالمٍ للإنسان حين كان شيئاً ولكن غير مذكور . راجع العقائد الإسلامية : 1 / 60 .
--------------------------- 24 ---------------------------

2 . خلق الله نور نبينا وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل هذا العالم

وأحاديثه في مصادرنا ومصادر غيرنا كثيرة ، وقد بحثها السيد الميلاني في المجلد الخامس من « نفحات الأزهار » ، ونورد منها :
أ . ما نص على أن الله تعالى خلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل خلق الخلق ، كما في الخصال / 481 عن علي ( عليه السلام ) : « إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار ، وقبل أن خَلَقَ آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى « عليهم السلام » . . .
وخلق الله عز وجل معه اثني عشر حجاباً : حجاب القدرة ، وحجاب العظمة ، وحجاب المنة ، وحجاب الرحمة ، وحجاب السعادة وحجاب الكرامة ، وحجاب المنزلة ، وحجاب الهداية ، وحجاب النبوة ، وحجاب الرفعة ، وحجاب الهيبة ، وحجاب الشفاعة . ثم حبس نور محمد ( صلى الله عليه وآله ) في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان ربي الأعلى ، وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان عالم السر ، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو قائم لا يلهو . . الخ . » .
فهو صريح بأنه ( صلى الله عليه وآله ) خلقه الله تعالى قبل كل شئ .
ب . ومنها أن عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) خلقوا مع نوره ( صلى الله عليه وآله ) ففي الكافي : 1 / 442 : « قال لي أبو جعفر ( عليه السلام ) : يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين ، فكانوا أشباح نور بين يدي الله . قلت : وما الأشباح ؟ قال : ظل النور ، أبدان نورانية بلا أرواح ، وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس فبه كان يعبد الله وعترته ، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ، ويصلون الصلوات ، ويحجون ويصومون » .
ج . ومنها أن نبينا ( صلى الله عليه وآله ) أول من أجاب في عالم الذر عندما خلق الله البشر ، وامتحنهم ، ففي بصائر الدرجات / 83 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن بعض قريش قال لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ قال : إني كنت
--------------------------- 25 ---------------------------
أول من أقرَّ بربي ، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين و : أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، وكنت أنا أول نبي قال بلى ، فسبقتهم بالإقرار بالله » .
د . ومنها : أن الله تعالى بعث نبينا ( صلى الله عليه وآله ) نبياً للناس في عالم الأظلة ، ففي تفسير العياشي : 2 / 126 ، عن زرارة وحمران ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) قالا : « إن الله خلق الخلق وهي أظلة فأرسل رسوله محمداً ( صلى الله عليه وآله ) فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه ، ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن في الأظلة ، وجحده من جحد به يومئذ ، فقال : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ » .
وفي بصائر الدرجات / 104 : « سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله تبارك وتعالى : هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى . قال : يعني به محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، حيث دعاهم إلى الإقرار بالله في الذر الأول » .
ه - . ومنها : أن النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) كانوا حول العرش ، وأنهم الكلمات التي تلقاها آدم ( عليه السلام ) ففي شرح الأخبار : 3 / 6 ، عن صفوان الجمال قال : « دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد ( عليه السلام ) وهو يقرأ هذه الآية : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، ثم التفت إليَّ فقال : يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم ( عليه السلام ) أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبحون الله ويقدسونه ، فقال آدم : يا رب من هؤلاء ؟ قال : يا آدم صفوتي من خلقي ، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ، خلقت الجنة لهم ولمن والاهم ، والنار لمن عاداهم . لو أن عبداً من عبادي أتى بذنوب كالجبال الرواسي ، ثم توسل إليَّ بحق هؤلاء لعفوت له . فلما أن وقع آدم في الخطيئة قال : يا رب بحق هؤلاء الأشباح اغفر لي ، فأوحى الله عز وجل إليه : إنك توسلت إلي بصفوتي وقد عفوت لك . قال آدم : يا رب بالمغفرة التي غفرت إلا أخبرتني من هم ؟ فأوحى الله إليه : يا آدم هؤلاء خمسة من ولدك ، لعظيم حقهم عندي اشتققت لهم خمسة أسماء من أسمائي ، فأنا المحمود وهذا محمد ، وأنا الأعلى وهذا علي ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا المحسن وهذا الحسن ، وأنا الإحسان وهذا الحسين » .
--------------------------- 26 ---------------------------
و . ومنها : أن الله تعالى خلق أربعة عشر معصوماً ( عليهم السلام ) من نور عظمته ، ففي المحتضر / 228 ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « إن الله عز وجل خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فهي أرواحنا . فقيل له : يا ابن رسول الله عُدَّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نوراً ؟ فقال : محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين ، تاسعهم قائمهم . ثم عدهم بأسمائهم وقال : نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونحن المثاني التي أعطاها الله تعالى نبينا محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، ونحن شجرة النبوة ، ومنبت الرحمة ، ومعدن الحكمة ، ومصباح العلم ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وموضع سر الله ، ووديعة الله جل اسمه في عباده ، وحرم الله الأكبر ، وعهده المسؤول عنه ، فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله ، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده ، عرفنا من عرفنا ، وجهلنا من جهلنا . نحن الأسماء الحسنى الذين لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا ، ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه .
إن الله تعالى خلقنا فأحسن خلقنا ، وصورنا فأحسن صورنا ، وجعلنا عينه على عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة عليهم بالرأفة والرحمة ، ووجهه الذي يؤتى منه ، وبابه الذي يدل عليه ، وخزان علمه ، وتراجمة وحيه ، وأعلام دينه ، والعروة الوثقى ، والدليل الواضح لمن اهتدى ، وبنا أثمرت الأشجار ، وأينعت الثمار ، وجرت الأنهار ، ونزل الغيث من السماء ، ونبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عبد الله تعالى ولولانا لما عرف الله تعالى ، وأيم الله لولا كلمة سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولاً يعجب منه أو يذهل منه الأولون والآخرون » .
ز . ومنها : أحاديث خلق نور علي ( عليه السلام ) مع نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد رواها الجميع ، ففي مناقب علي لأبي بكر بن مردويه / 285 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين ، فجزءٌ أنا وجزء علي » .
كما روى ابن مردويه بسنده عن الباقر ( عليه السلام ) عن آبائه عن جده ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : « كنت أنا وعلي
--------------------------- 27 ---------------------------
نوراً بين يدي الله تعالى من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله تعالى آدم سلك ذلك النور في صلبه ، فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب ، حتى أقره في صلب عبد المطلب ، فقسمه قسمين : قسماً في صلب عبد الله ، وقسماً في صلب أبي طالب ، فعلي مني وأنا منه ، لحمه لحمي ، ودمه دمي ، فمن أحبه فبحبي أحبه ، ومن أبغضه فببغضي أبغضه » .
ومثله الخصال للصدوق / 640 ، وأمالي الطوسي / 183 ، وفيه : « فجعل في عبد الله نصفاً ، وفي أبي طالب نصفاً ، وجعل النبوة والرسالة فيَّ ، وجعل الوصية والقضية في علي ، ثم اختار لنا اسمين اشتقهما من أسمائه ، فالله المحمود وأنا محمد ، والله العلي وهذا علي ، فأنا للنبوة والرسالة وعلي للوصية والقضية » .
ورواه العلامة في كشف اليقين / 11 ونهج الحق / 212 ، عن ابن مردويه وابن حنبل ، وابن المغازلي وفيه : « حتى قسمه جزءين ، فجعل جزءً في صلب عبد الله ، وجزءً في صلب أبي طالب فأخرجني نبياً ، وأخرج علياً ولياً » .
ح . ومنها أن الله تعالى خلق نور نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وخلق معه نور علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
« ففي الكافي : 1 / 441 » : « عن محمد بن سنان قال : كنت عند أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) فأجريت اختلاف الشيعة فقال : يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته ، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة « عليهم السلام » فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها ، وفوض أمورها إليهم ، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون ، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله
تبارك وتعالى .
ثم قال : يا محمد ، هذه الديانة التي من تقدمها مرق ، ومن تخلف عنها محق ، ومن لزمها لحق ، خذها إليك يا محمد » .
--------------------------- 28 ---------------------------

3 . أحاديث خلق نور النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مصادر السنيين

أ . روت عدداً منها مصادرهم وصححوا بعضها وضعفوا أكثرها ، وجردوه من ذكر العترة ! ففي مجمع الزوائد : 8 / 223 : « عن ميسرة العجر ، قال : قلت يا رسول الله متى كتبت نبياً ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد . رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح » .
ب . وأشهرها حديث : كنت أنا وعليٌّ نوراً بين يدي الرحمان ، رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة : 2 / 262 ، عن سلمان قال : « سمعت حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق‌الله آدم قسم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا وجزء علي » .
وقد اجتزأه ابن حنبل ، لأن نصه كما في تاريخ دمشق : 42 / 67 : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله ، مطيعاً ، يسبح الله ذلك النور ويقدسه ، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام . فلما خلق الله آدم رَكَزَ ذلك النور في صلبه ، فلم نَزل في شئ واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي » .
وهذا النص مجتزأ أيضاً ، فقد نقله في شرح النهج : 9 / 171 عن الفردوس وقال : « رواه أحمد في المسند ، وفي كتاب فضائل علي ، وذكره صاحب كتاب الفردوس ، وزاد فيه : ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب ، فكان لي النبوة ولعلي الوصية » .
ولا تجده في مسند أحمد فلا بد أنه حذف ، وبقي في مناقب الصحابة ، أما في الفردوس فنصه الموجود : 3 / 283 كرواية أحمد ، وكذا في الرياض النضرة للطبري / 392 !
ج - . ومنها حديث العرباض رواه أحمد : 4 / 127 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إني لعبد الله وخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت . وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن » . ورواه الحاكم : 2 / 418 و 600 و 608 ، صححه ، وكنز العمال : 11 / 409 ، 11 / 418 و 449 و 450 والدر المنثور : 1 / 139 و 5 / 184 و 207 و 6 / 213 .
وفي مجمع الزوائد : 8 / 223 : رواه أحمد بأسانيد ، والبزار والطبراني . . رجاله رجال الصحيح » .
د . ومنها : حديث : أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ، قال في كشف الخفاء : 1 / 265
--------------------------- 29 ---------------------------
« رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء ؟ قال : يا جابر ، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ، ولا جنة ولا نار ، ولا ملك ولا سماء ولا أرض ، ولا شمس ولا قمر ، ولا جني ولا إنسي ! فلما أراد الله أن يخلق الخلق قَسَم ذلك النور أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول القلم ، ومن الثاني اللوح ، ومن الثالث العرش ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول حملة العرش ، ومن الثاني الكرسي ، ومن الثالث باقي الملائكة ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء : فخلق من الأول السماوات ، ومن الثاني الأرضين ، ومن الثالث الجنة والنار . ثم قسم الرابع أربعة أجزاء : فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد : لا إله إلا الله محمد رسول الله . . الحديث . .
كذا في المواهب ، وقال فيها أيضاً : واختُلف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا ؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني : الأصح أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قدر الله مقاديرالخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء . فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش . . .
وقيل : الأولية في كل شئ بالإضافة إلى جنسه ، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري ، وكذا باقيها . وفي أحكام ابن القطان فيما ذكره ابن مرزوق عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام . . . قال الشبراملسي : ليس المراد بقوله من نوره ظاهره من أن الله تعالى له نور قائم بذاته لاستحالته عليه لأن النور لا يقوم إلا بالأجسام ، بل المراد خلق من نور مخلوقٍ له قبل نور محمد ، وأضافه إليه تعالى ، لكونه تولى خلقه . ثم قال : ويحتمل أن الإضافة بيانية ، أي خلق نور نبيه من نور
--------------------------- 30 ---------------------------
هو ذاته تعالى ، لكن لا بمعنى أنها مادة خلق نور نبيه منها ، بل بمعنى أنه تعالى تعلقت إرادته بإيجاد نور بلا توسط شئ في وجوده ، قال : وهذا أولى الأجوبة نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى : ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، حيث قال : أضافه إلى نفسه تشريفاً وإشعاراً بأنه خلق عجيب ، وأن له مناسبة إلى حضرة الربوبية » .
ه - . وروى في كنز العمال 12 / 427 ، حديث ابن عباس وشعر حسان قال : سئل النبي : « فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم ، لم يلتق أبواي قط على سفاح ، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة ، مصفى مهذباً ، ولا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما ، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي ، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري ، وبين كل نبي صفتي ، تشرق الأرض بنوري ، والغمام لوجهي ، وعلمني كتابه ، ورقى بي في سمائه ، وشق لي إسماً من أسمائه ، فذو العرش محمود وأنا محمد . ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر ، وأن يجعلني أول مشفع ، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي ، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . قال ابن عباس : فقال حسان :
من قبلها طبت في الظلال * وفي مستودع حيث يُخصف الورق
ثم سكنت البلاد لا بشرٌ * أنت ولا نطفة ولا علق
مطهر تركب السفين وقد * ألجم أهل الضلالة الغرقُ
تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق »
ومجمع الزوائد : 8 / 217 ، نحوه المناقب : 1 / 27 ، نسبو ه إلى العباس والصحيح أنه لحسان .

4 . ملاحظات على أحاديث نور النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . إن ابتداء خلق الكون بخلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) حقيقةٌ كبيرة في تكوين الكون وإدارته ، وتسمى الحقيقة المحمدية . وهي تدل على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مشروع خاص لا يقاس به أحد حتى الأنبياء « عليهم السلام » . ومعه عترته المعصومون علي وفاطمة والحسنان والتسعة من
--------------------------- 31 ---------------------------
ذرية الحسين « عليهم السلام » ، الذين خلق نورهم مع نوره أو اشتقه منه ، فهم جزءٌ لا يتجزأ من الحقيقة المحمدية . وهذا يفتح باباً لتفسير مقاماتهم « عليهم السلام » .
2 . لا يمكن لأحد أن ينفي أن الله تعالى بَدَأَ خلق الكون بنور محمد ( صلى الله عليه وآله ) لأن قدرتنا المعرفية لا تسمح لنا بالنفي أو الإثبات ! فلم نكن حاضرين عندما بدأ الله تعالى خلقه ، ولا وسائل عندنا لمعرفة ذلك ، إلا بما أخبرنا به الوحي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فيجب أن نعترف بأن معلوماتنا محدودة رغم تطور العلم وكشفه الكثير عن النور والأشعة ، واستفادة العلماء منها في الطب والحرب . ورغم اكتشاف آينشتاين نظرية النسبية الخاصة والعامة ، اللتين تجعلان الزمن ركناً في وجود المادة ، وتقدمان حقائق جديدة عن النور والحركة ، وعن تحولها إلى طاقة وبالعكس ، وإمكانية سفر الإنسان في المستقبل وفي الماضي !
إلا أنا مع كل ذلك ، لا نعرف كيف بدأ الله تعالى خلق الكون ، وغاية ما توصل اليه العلماء مرحلة الغيوم السديمية ، ثم وصلوا إلى أنه كان قبلها بحرغاز سائل .
فمسائل بدء الخلق ثم تنويعه وتطويره ، من الأسرار التي هي فوق قدرتنا !
3 . حاول أتباع الخلافة تحريف أحاديث خلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآله « عليهم السلام » ، فجعلوها في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة ومعاوية ، أو في قريش كلها ، لتشمل الذين اتخذوهم أئمة مقابل أهل البيت « عليهم السلام » . ثم حذفوا منها ما يشهد بإيمان آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأمهاته إلى إبراهيم ثم إلى آدم « عليهم السلام » ، كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور : 3 / 295 : « ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من بين أبويَّ ، لم يلتقيا على سفاح قط » .
وسبب حذفهم لها أنها تثبت وراثة النبي لآبائه المؤمنين « عليهم السلام » ووراثة عترته له ، فلا يبقى محل لزيد وعمرو ! وأشد نص عليهم حديث نور محمد ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) وإن رووه هم ، لأن فيه : « ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية » . فهو يعني أن علياً وصي النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر الله تعالى ، فتكون بيعة السقيفة مخالفة لوصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
--------------------------- 32 ---------------------------

رواياتهم التي تحاول تحريف أحاديث النور

قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 295 : « عن ابن عباس أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه . قال رسول الله : فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم ، وجعلني في صلب نوح ، وقذف بي في صلب إبراهيم ، ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من بين أبويَّ لم يلتقيا على سفاح قط » .
ورواه في ذيل تاريخ بغداد : 2 / 94 والخصائص : 1 / 66 ، وقال : « ويشهد لهذا ما أخرج الحاكم والطبراني عن خريم بن أوس قال : هاجرت إلى رسول الله منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك . . . » . وذكر شعر حسان . .
وقال القاضي عياض : 1 / 82 : « ويشهد بصحة هذا الخبر شعر العباس المشهور » .
ويلاحظ أن القسم الأول من الحديث كلام ابن عباس وقد جعلوه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فصارت قريش كلها بمن فيها أئمة الكفر كأبي جهل وأبي لهب ، نوراً قبل خلق آدم ( عليه السلام ) !
ولذا قال الحلبي في سيرته : 1 / 48 : « قوله : فأهبطني ، ينبغي أن لا يكون معطوفاً على ما قبله من قوله : إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى . . الخ . فيكون نوره من جملة نور قريش ، وإنه انفرد عن نور قريش ، وأودع في صلب نوح . . » !
ولهم تحريف آخر لمصلحة خلفاء قريش !
ففي تفسير الثعلبي : 7 / 111 والقرطبي : 12 / 286 : « قال رسول الله : إن الله تعالى خلقني من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر ، وخلق المؤمنين من أمتي من الرجال من نور عمر ، وخلق المؤمنات من أمتي من النساء من نور عائشة ، فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور ، فنزلت عليه : وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ » .
وقال في السيرة الحلبية : 1 / 241 : « وفي رواية : لما انتقل النور إلى سبابته قال يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شئ ؟ قال : نعم نور أخصاء أصحابه . فقال : يا رب اجعله
--------------------------- 33 ---------------------------
في بقية أصابعي ، فكان نور أبي بكر في الوسطى ، ونور عمر في البنصر ، ونور عثمان في الخنصر ، ونور علي في الإبهام . فلما أكل من الشجرة ، عاد ذلك النور إلى ظهره » !
وقال السيد الميلاني في نفحات الأزهار : 5 / 190 :
« حديث موضوع آخر في فضل الشيخين : قال السيوطي : أبو نعيم في أماليه . . عن أبي هريرة مرفوعاً : خلقني الله من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر من نور أبي بكر ، فخلق أمتي من نور عمر ، وعمر سراج أهل الجنة . قال أبو نعيم : هذا باطل . . وقال في الميزان : هذا خبر كذب ، ما حدث به واحد من الثلاثة ، وإنما الآفة عندي فيه المنبجي لا يعرف . . . فإذا كان هذا الحديث موضوعاً باعتراف أبي نعيم والذهبي والسيوطي وابن عراق ، فإن خبر خلق الثلاثة قبل آدم ( عليه السلام ) وكونهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) على يمين العرش ، كذب بالأولوية » .
أقول : ومثله في تاريخ دمشق : 30 / 164 : « قال : حدثني جبريل أن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين الأرواح ، وجعل ترابها من الجنة وماءها من الحيوان ، وجعل له قصراً في الجنة من درة بيضاء ، مقاصيرها فيها من الذهب والفضة البيضاء ، وإن الله تعالى آلى على نفسه ألا يسأله عن حَسَنة ولايسأله عن سيئة » !
هذا ، وقد كثرت مكذوباتهم في فضائل أبي بكر وعمر حتى زكمت أنوفهم ! قال في كشف الخفاء : 2 / 419 : « وباب فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات ، كحديث : إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة ! وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي بكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر » !
راجع : نفحات الأزهار : 5 / 13 و 11 / 208 والوضاعون للأميني / 387 .
4 . نلاحظ أن أخبار خلق نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) مغيبةٌ عند أتباع الخلافة ، فلا تسمعها في مساجدهم وخطبهم ، ولاتراها في مناهجهم التربوية . اللهم إلا ما أخذه منها
--------------------------- 34 ---------------------------
بعض الصوفية ، وبنوا عليه بناءاتهم . وهذا السلوك المتعمد في الإعراض عن ذكر مقامات النبي ( صلى الله عليه وآله ) موروث من طلقاء قريش الذين كانوا في زمنه ( صلى الله عليه وآله ) يسمون خيار الصحابة « عُبَّاد محمد » ! ويتهمونهم بالغلو فيه لأنهم يؤمنون بمقاماته ( صلى الله عليه وآله ) ويتعبدون بأوامره ونصوصه !
وقد ورثهم في عصرنا بدوٌ أجلاف متعصبون لقريش وبني أمية ، فقالوا « محمد طارش ومات » أي مبعوث أوصل رسالة وانتهى ، وهو الآن لا ينفع !
بل قال شيخهم « عصاي هذه أنفع من محمد » ! وقد ناقشني أحد مشايخهم في نسبة هذا الكلام لابن عبد الوهاب ، فقلت له لا بأس : أنت هل ترى أن عصاك أفضل أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) الآن ؟ فبَكِمَ ولم يجب !
وقد حرم هؤلاء القساة الجفاة زيارة قبره ( صلى الله عليه وآله ) ! وحكموا على المسلمين بالغلو والشرك لمجرد قولهم : « يا رسول الله إشفع لنا عند الله » !
وقد بحثنا ذلك في المجلد الخامس من العقائد الإسلامية ، والمجلد الثاني من ألف سؤال وإشكال ، وذكرنا أن طعن « القرشيات » في شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسوأ من طعن الإسرائيليات في أنبياء الله الماضين « عليهم السلام » .

  • *
    --------------------------- 35 ---------------------------

الفصل الثاني

جزيرة العرب في عصر النبي « صلى الله عليه وآله »

1 . أحوال العرب في عصر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . كان للعرب دول

كان للعرب في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دولة في اليمن ، وكانوا في جزيرة العرب قبائل لاتضمهم دولة ، وفي العراق قبائل بشكل دولة تحت نفوذ الفرس ، وفي الشام والأردن دولة تحت نفوذ الروم ، وكانوا في مصر أقلية تحت حكم القبط والروم .
ويمكن تقدير عدد العرب في كل الجزيرة بنصف مليون نسمة . لأن غاية ما أمكن لقريش أن تحشده من مكة لحرب الأحزاب أربعة آلاف مقاتل فلو حسبنا مقاتلاً من كل سبعة أشخاص يكون عددها في مكة وحولها أقل من أربعين ألفاً . وحشدت قبائل عرب الجزيرة نحو ثلاثين ألفاً ، فلا يزيد عددها عن نصف مليون نسمة ، وإن بالغنا قلنا مليون نسمة .
وكان عدد سكان المدينة في حرب الأحزاب نحو خمسة آلاف نسمة « الصحيح : 9 / 182 » وعند وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) اثني عشرألفاً ، وقد يكون عدد سكان المناطق القريبة من المدينة مثل عددها .
وذكر ابن حجر « فتح الباري : 81 / 15 » أن عدد الذين أرسلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في جيش أسامة ليبعدهم عن المدينة ثلاثة آلاف فيهم سبع مئة قرشي ! قال : « لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة ، منهم أبو بكر وعمر . . . وعند الواقدي أيضاً أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبع مائة من قريش » .
--------------------------- 36 ---------------------------
وهذا يعني أن عدة آلاف من طلقاء قريش جاؤوا إلى المدينة بعد فتح مكة ، فوصل عدد سكانها إلى اثني عشر ألفاً .
أما عرب اليمن فكانوا نحو مليون ، وعرب العراق والشام وفلسطين نحو مليون . فيكون مجموع العرب في الجزيرة وخارجها أقل من ثلاثة ملايين نسمة .

2 . الحالة الاقتصادية للعرب

كان اليمانيون يعيشون على الزراعة وتربية المواشي ، والتجارة وبعض الصناعات ، وكذا العرب في مصر والعراق والشام وفلسطين . وكان عرب الجزيرة في فقر شديد ، تكثر فيهم الغارات والنهب ، فليس في الجزيرة إلا واحات قليلة للزراعة ، ومراعٍ شحيحة للماشية . وكان لقريش تجارة بين الحجاز واليمن والشام ومصر ، في رحلتي الشتاء والصيف .

3 . أديان العرب قبل الإسلام

كان عرب الجزيرة والعراق وثنيين ، يعبدون أصناماً عديدة ، أهمها : هُبَل واللات والعُزَّى ومُنَاة ، وكان فيهم بقية من دين إبراهيم ( عليه السلام ) .
وكان فيهم أقلية يهودية ، في وادي القرى وتيماء وخيبر وضواحي المدينة ومكة .
وكانت وثنية اليمنيين غير حادة ، وفيهم أقلية يهودية في صنعاء وغيرها ، وأقلية مسيحية في نجران وحولها . أما عرب الشام وفلسطين ومصر ، فانتشرت فيهم المسيحية ، بحكم كونهم تحت النفوذ الروماني .
قال الإمام الصادق « الكافي : 4 / 212 » : « إن العرب لم يزالوا على شئ من الحنيفية : يصلون الرحم ، ويُقْرُون الضيف ، ويحجُّون البيت ، ويقولون اتقوا مال اليتيم فإن مال اليتيم عِقال ، ويكفُّون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة ، وكانوا لا يُمْلَى لهم إذا انتهكوا المحارم ، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه في أعناق الإبل فلا يجترئ أحد أن يأخذ من تلك الإبل حيثما ذهبت ، ولا يجترئ أحد أن يعلق من غير لحاء شجر الحرم ، أيهم فعل ذلك عوقب . وأما اليوم فأمليَ لهم ، ولقد جاء أهل
--------------------------- 37 ---------------------------
الشام فنصبوا المنجنيق على أبي قبيس ، فبعث الله عليهم سحابة كجناح الطير ، فأمطرت عليهم صاعقة ، فأحرقت سبعين رجلاً حول المنجنيق » .
ومعنى كلامه ( عليه السلام ) أن الله تعالى أملى للعرب بعد الإسلام فلم يعاقبهم إذا تعدوا على حرمة الحرم ، إلا في حالات قليلة ، منها عندما تحصن ابن الزبير في الحرم وهاجمه يزيد سنة 63 هجرية ، ثم هاجمه عبد الملك سنة 73 ، فعاقبهم الله تعالى بصاعقة ، فلم يتعظوا ولم ينتهوا وأغواهم الحجاج ، فتركهم الله في غيهم !
قال الطبري : 5 / 29 : « فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها « غلب صوتها » ! فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم ، فرفع الحجاج بَرْكة قبائه فغرزها في منطقته ، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ، ثم قال : إرموا ، ورمى معهم ! قال : ثم أصبحوا ، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً فانكسر أهل الشام ، فقال الحجاج : يا أهل الشأم لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة ، هذه صواعق تهامة ، هذا الفتح قد حضر فأبشروا ! إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم !
فصَعَقَتْ من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة ، فقال الحجاج : ألا ترون أنهم يصابون . وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة » !
وفي نهاية ابن كثير : 8 / 363 : « فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته ، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة فخطبهم الحجاج فقال : ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم ! فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته ! فعادوا إلى المحاصرة » !

4 . كان العرب أميين

كان العرب أميين أي ليس لهم كتاب سماوي . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) « نهج البلاغة : 1 / 199 » : « أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ، ولايدَّعي نبوةً ولا وحياً ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى
--------------------------- 38 ---------------------------
منجاتهم ، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم . يحسر الحسير ، ويقف للكسير فيقيم عليه حتى يُلحقه غايته ، إلا هالكاً لا خير فيه ، حتى أراهم منجاتهم ، وبوأهم محلتهم ، فاستدارت رحاهم ، واستقامت قناتهم . وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها حتى تولت بحذافيرها ، واستوسقت في قيادها ، ما ضعفتُ ولا جبنتُ ، ولا خنتُ ولا وهنتُ . وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته » .
ومن خطبة له ( عليه السلام ) : « إن الله بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشرالعرب على شر دينٍ وفي شر دار ، متنخَّوْنَ بين حجارة خُشْن وحيات صُمّ ، تشربون الكدَر ، وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة » . نهج البلاغة : 1 / 66 .

5 . وكان العرب مجتمعاً محارباً

ففي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 281 : « قلت له : جعلت فداك ، لم سموا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد ، وأشباه ذلك ؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب فكانت تُهَوِّلُ على العدو بأسماء أولادهم ، ويسمون عبيدهم : فرج ومبارك وميمون ، وأشباه ذلك ، يتيمنون بها » .

6 . تكلم خمسة أنبياء بالعربية

روي أن الله تعالى بعث أربعة أنبياء يتكلمون العربية ، فعن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : « كان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له : أخبرني عن خمسة من الأنبياء تكلموا بالعربية ؟ فقال : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد ، صلوات الله عليهم » . الخصال / 319 .
وروي عن الباقر ( عليه السلام ) : « أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم ، وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت : يا إسماعيل هابي ابن ، أي أعطني حجراً ، فيقول له إسماعيل بالعربية : يا أبت هاك حجراً ، فإبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة » . التبيان : 1 / 463 .
--------------------------- 39 ---------------------------
وفي تحف العقول / 297 : « أول من شق لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم ( صلى الله عليه وآله ) وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه ، فهو أول من نطق بها وهو الذبيح » . وفتح الباري : 6 / 286 ، عن علي ( ( ع ) ) ، الجامع الصغير : 1 / 435 والقرطبي 1 / 283 .
أقول : لابد أن يكون معنى الحديث أن إسماعيل ( عليه السلام ) أول من تكلم من أولاد إبراهيم بالعربية ، وهي لغة محيطه من قبيلة جرهم وعرب الجنوب ، أما لغته قبلها فكانت كأبيه وإخوته البابلية أو السريانية ، ولغة أمه القبطية .
هذ ا ، وقد رويت أحاديث في تكون اللغات ، وهي مرسلة أو ضعيفة ، يقلُّ فيها الصحيح ، وزعم بعضها أن العربية لغة آدم ( عليه السلام ) ولغة أهل الجنة ، والمعقول أن تكون لغة أهل الجنة أبلغ من كل لغات الدنيا .

7 . إقرؤوا القرآن بألحان العرب

أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإعراب القرآن وقراءته بألحان العرب ، ففي الكافي : 2 / 614 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أعربوا القرآن فإنه عربي ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية . . . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق ، وأهل الكبائر ، فإنه سيجيئ من بعدي أقوام يُرَجِّعُون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة ، وقلوب من يعجبه شأنهم » !
وعن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، أن علي بن الحسين كان يقرأ القرآن : « فربما مرَّ به المارُّ فصُعق من حسن صوته ، وإن الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه ! قلت : ألم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن ؟ فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يُحَمِّل الناس من خلفه ما يطيقون » !
--------------------------- 40 ---------------------------

8 . أوجب الإسلام على عرب البادية الهجرة

وحرم عليهم التعرب بعد الهجرة ، ففي النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري / 26 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا رضاع بعد فطام ، ولا وِصال في صيام ، ولا يُتْمَ بعد احتلام ، ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا تعرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا طلاق قبل النكاح ، ولا عتق قبل ملك ، ولا يمين لولد مع والده ولا لمملوك مع مولاه ولا لمرأة مع زوجها ، ولا نذر في معصية ، ولا يمين في قطيعة رحم » .
وفي النوادر / 28 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لا يصلح للأعرابي أن ينكح المهاجرة ، يخرج بها من أرض الهجرة فيتعرب بها ، إلا أن يكون قد عرف السنة والحجة ، وإن أقام بهذا في أرض الهجرة فهو مهاجر » .

9 . الهجرة إلى طلب العلم

معنى الهجرة إلى طلب العلم : الهجرة إلى الأئمة « عليهم السلام » ، ففي معاني الأخبار / 265 : « عن حذيفة بن منصور قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : المتعرب بعد الهجرة ، التارك لهذا الأمر بعد معرفته » . وهو مأخوذ من قوله تعالى : وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ .
وفي معاني الأخبار / 157 : عن عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : « إن قوماً رووا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن اختلاف أمتي رحمة ؟ فقال : صدقوا ، قلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال : ليس حيث ذهبت وذهبوا ، إنما أراد قول الله عز وجل : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ . فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويختلفوا إليه فيتعلموا ، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ، إنما أراد اختلافهم من البلدان ، لا اختلافاً في دين الله ، إنما الدين واحد » .

10 . العروبة باللغة وليست بالنسب

نقل النبي ( صلى الله عليه وآله ) العروبة من النسب إلى اللغة ، فعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « صعد
--------------------------- 41 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر يوم فتح مكة فقال : أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ، ألا إنكم من آدم ( عليه السلام ) وآدم من طين ، ألا إن خير
عباد الله عبد اتقاه ، إن العربية ليست بأبٍ والد ، ولكنها لسانٌ ناطق ، فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه » . الكافي : 8 / 246 ودعائم الإسلام : 2 / 198 .

11 . وجَّه الإسلام عصبية العرب إلى التعصب للخير

فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور ، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل ، بالأخلاق الرغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة . فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر ، والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضل ، والكف عن البغي ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد في الأرض . واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال ، وذميم الأعمال ، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم . فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم ، وزاحت الأعداء له عنهم ، ومدت العافية فيه عليهم وانقادت النعمة له معهم . . .
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل ، فما أشد اعتدال الأحوال ، وأقرب اشتباه الأمثال ! تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم ، يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ! فتركوهم عالة مساكين إخوان دَبَر وَوَبَر ، أذلَّ الأمم داراً ، وأجدبهم قراراً ، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها ! فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرقة ، في بلاء أزْل ، وإطباق جهْل ! من بنات موءودة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة !
--------------------------- 42 ---------------------------
فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً ، فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فأصبحوا في نعمتها غرقين ، وعن خضرة عيشها فكهين ، قد تربعت الأمور بهم ، في ظل سلطان قاهر وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب . وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت فهم حكام على العالمين ، وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تُغمز لهم قناة ، ولا تُقرع لهم صفاة .
ألاوإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية . واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً ، وبعد الموالاة أحزاباً ، ما تتعلقون من الإسلام إلا اسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه تقولون النار ولا العار ، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه ، انتهاكاً لحريمه ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه وأمناً بين خلقه .
وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم ، إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم » . « نهج البلاغة : 2 / 150 » . وفي الكافي : 8 / 162 عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « إن الله يعذب الستة بالستة : العرب بالعصبية ، والدهاقين بالكبر ، والأمراء بالجور ، والفقهاء بالحسد ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرساتيق بالجهل » .

2 . أعلن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( ( ع ) ) سيد العرب !

قالت قبائل قريش لبني هاشم : « أما رضيتم يا بني قصي أنكم ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء ، حتى جئتمونا زعمتم نبي منكم » ! « مجمع الزوائد : 6 / 70 » . ثم صَبَّت قريش حقدها على علي ( عليه السلام ) لأنه بطل معارك النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقاتل فرسانها ، فكانت تسميه قتَّال العرب ! فأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يسميه « سيد العرب » !
فقد روى الحاكم : 3 / 124 ، وصححه : « عن سعيد بن جبير عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال :
--------------------------- 43 ---------------------------
أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب » . ورواه في مجمع الزوائد : 9 / 131 .
وروى في : 9 / 116 عن أنس أن رسول الله قال : « مَنْ سيد العرب ؟ قالوا أنت يا رسول الله ، فقال أنا سيد ولد آدم ، وعليٌّ سيد العرب » . والطبراني الأوسط : 2 / 127 .
وفي الطبراني الكبير : 3 / 88 : « قال رسول الله : يا أنس انطلق فادع لي سيد العرب يعني علياً ، فقالت عائشة : ألست سيد العرب ؟ قال : أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب . فلما جاء علي أرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الأنصار فأتوه فقال لهم : يا معشر الأنصار ، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه لكرامتي ، فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل » .
وفي تاريخ بغداد : 11 / 90 عن سلمة بن كهيل قال : « مرَّ علي أبي طالب على النبي وعنده عائشة فقال لها : إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب ! فقالت : يا نبي الله ألست سيد العرب ؟ فقال : أنا إمام المسلمين وسيد المتقين . إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب » .
وفي تاريخ دمشق : 42 / 305 ، عن أبي سعيد الخدري قال : « قال رجل يا رسول الله أنت سيد العرب ؟ قال : لا ، أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب ! وإنه لأول من ينفض الغبار عن رأسه يوم القيامة قبلي علي » .
وفي الخصال / 561 ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : « وأبناؤه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » .
أقول : أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك أن يؤكد مكانة علي ( عليه السلام ) ، ويرد الهجمة التي كانت تشنها قريش المشركة على بني هاشم وعلي ( عليه السلام ) ، لكن حملتها استمرت عليه بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع الأسف ! على يد المتأثرين بقريش من المسلمين .
فقد غصَّ أتباع الخلافة بحديث : علي سيد العرب ، لأنه يجعل علياً ( عليه السلام ) سيداً لقبائل قريش وزعمائها ، فحاولوا تضعيف الحديث كما فعل الهيثمي في مجمع الزوائد ، بحجة أن في سنده ابن عبد الله الأهتم ، وقال إنه شيعي ضعفه أبو داود !
وردَّ عليهم علماؤهم كالحافظ ابن الصديق المغربي في رسالته : إرغام المبتدع
--------------------------- 44 ---------------------------
الغبي بجواز التوسل بالنبي / 58 ، فذكر له عدة طرق ، وقال عن ابن الأهتم : « ذكره ابن أبي حاتم في الجرح ولم يجرحه . وهو بصري والبصريون أبعد الناس عن التشيع » .
أما الذهبي إمام السلفيين النواصب ، فاعترف في تاريخه : 3 / 635 بصحته مرغماً ! ورواه في ميزان الإعتدال : 4 / 115 عن حذيفة بن اليمان بسند صحيح ، قال : « لما تهيأ علي يوم خيبر للحملة قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي بأبي أنت ، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبرائيل عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم . الحديث بطوله » . ولم يكمل الذهبي رواية الحديث ، لأن فيه مديحاً لعلي ( عليه السلام ) بأنه كرار غير فرار تعريضاً بفلان وفلان ممن فرُّوا في خيبر !
لكن يظهر أن مزاج الذهبي كان سيئاً حيث روى بعضه وقال باطل « لسان الميزان : 4 / 289 »
وقال الصديق المغربي في رسالته في التوسل : « تحامل الذهبي على الحكم بوضع الحديث ، لفهمه أن الحديث يقتضي تفضيل علي على الشيخين ، وعلى أساس هذا الفهم رد هو وغيره كثيراً من الأحاديث في فضل علي ، وحكموا بوضعها أو نكارتها ، ولم يسلم من نقدهم بهذا الفهم إلا قليل . . بل يستنكرون الحديث الوارد في فضله ، ولو لم يكن في سنده شيعي » !
وقال : « حكم بوضعه في مقدمة كتبها لبعض الرسائل ، مستدلاً على وضعه بأن روح التشيع واضحة في الحديث ، ولا أدري أين هذا التشيع الذي وضح له من الحديث ! مع أن الحديث له شواهد وطرق ! وعلى قوله هذا وقاعدته الفارغة ، ينبغي ألا نقبل حديثاً في فضل علي ولو تواتر ، لا سيما إذا كان يخبر بفضل لعلي لا يوجد لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، كحديث : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ! وهكذا إذا اتبع الإنسان كلَّ جاهل ، وأجاب كلَّ صارخ ، ولم يُعمل النظر ويبحث عن الأقوال قبل قائلها ، فإنه يردُّ السنة الصحيحة جملة ، ويعطي مع ذلك السلاح لأعداء الدين وملاحدة العصر في رد ما لا يعجبهم ويوافق هواهم ، من حديث سيد المرسلين !
--------------------------- 45 ---------------------------
وقد أقر الحافظ العسقلاني الذهبي على وضعه ، فانظر لسان الميزان : 4 / 289 وقول الذهبي : موضوع ، غلوٌّ غير مقبول ! ذلك أن الحديث ورد من غير طريق
ابن علوان وعمر الوجيهي ، فرواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك . . » .
ثم ذكر له عدة طرق ، وبعضها صحيح على شرط الشيخين ، وذكر أحاديث مشابهة ردوها رغم صحتها ، لأنها تفضل علياً ( عليه السلام ) على غيره ! ورواه : ابن أبي شيبة : 7 / 474 ،
تاريخ بغداد : 11 / 90 ، تاريخ دمشق : 42 / 304 ، 64 / 192 ، بعدة طرق ، ذيل تاريخ بغداد : 5 / 60 ، السيرة الحلبية : 2 / 736 ونفحات الأزهار : 9 / 174 .
أما معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) إن علياً ( عليه السلام ) ينهض من قبره قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه يحمل لواءه يوم القيامة ، ويكون أمامه مقدمة لموكبه .

3 . وصف جاهلية العرب

1 . وصفها المغيرة بن شعبة لعامل كسرى

كما في صحيح بخاري : 4 / 63 : « حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً ، فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم ، فقال المغيرة : سل عما شئت ؟ قال : ما أنتم ؟ قال : نحن أناس من العرب ، كنا في شقاء شديد ، وبلاء شديد ، نمص الجلد والنوى من الجوع ، ونلبس الوبر والشعر ، ونعبد الشجر والحجر ، فبينا نحن كذلك ، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته ، الينا نبياً من أنفسنا ، نعرف أباه وأمه » .

2 . ووصفها جعفر بن أبي طالب للنجاشي

فقال : « كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه » ! أحمد : 1 / 2020 .
--------------------------- 46 ---------------------------

3 . ووصف علي ( ( ع ) ) جاهلية العرب

فقال كما في نهج البلاغة : 1 / 199 من خطبة له ( عليه السلام ) : « أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ، ولا يدَّعي نبوةً ، ولا وحياً ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى منجاتهم ، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم . يحسر الحسير ، ويقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته ، إلا هالكاً لا خير فيه حتى أراهم منجاتهم ، وبوأهم محلتهم ، فاستدارت رحاهم ، واستقامت قناتهم . وأيم الله لقد كنتُ من ساقتها ، حتى تولت بحذافيرها ، واستوسقت في قيادها ، ما ضعفتُ ولا جبنتُ ، ولا خنتُ ولا وهنتُ . وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته » .
ومن خطبة له ( عليه السلام ) : « إن الله بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شر دين ، وفي شر دار ، مُنِيخون بين حجارة خُشْن ، وحيات صُمّ ، تشربون الكدَر ، وتأكلون الجَشَب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم . الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة » .
وقد تقدم ذلك ، وفي خطبه وكلماته ( عليه السلام ) وصف مفصل لجاهلية العرب ، ووصف لعودتها بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !

4 . ووصفت الزهراء ( عليها السلام ) جاهلية العرب

في خطبتها البليغة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأسبوعين ، حيث ذكَّرتهم بنعمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليهم . وقد روت خطبتها مصادر الشيعة والسنة ، وجاء فيها قولها « عليها السلام » :
« ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمةً على إمضاء حكمه ، وإنفاذاً لمقادير رحمته ، فرأى الأمم فرقاً في أديانها ، عكفاً على نيرانها ، عابدةً لأوثانها ، منكرةً لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار عماها . . . وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القد ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال
--------------------------- 47 ---------------------------
وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً كادحاً لا تأخذه
في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال !
فلما اختار الله لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم . هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . . » . الإحتجاج : 1 / 131 .

4 . نشر كعب الأحبار أمنياته بهلاك العرب !

استطاع كعب الأحبار أن يقنع عمر بن الخطاب في خلافته بأن الإسلام كالبعير سيكبر عن قريب ويهرم وينتهي ! وأن قريشاً والعرب سيهلكون ويبادون ! وأن الكعبة ستهدم فلا تبنى أبداً ! ومكة تخرب فلا تعمر أبداً !
ففي مسند أحمد : 3 / 463 : « كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم : يا فلان كيف سمعت رسول الله ينعتُ الإسلام ؟ قال : سمعت رسول الله يقول : إن الإسلام بدأ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديسياً ثم بازلاً . فقال عمر بن الخطاب : فما بعد البزول إلا النقصان » ! البزول أقصى سن البعير -
الصحاح : 4 / 1321 .
--------------------------- 48 ---------------------------
وهكذا صارت فرية كعب الأحبار حديثاً نبوياً في أصح كتب الخلافة !
فقد روى أحمد : 1 / 23 ، عن عمر أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « سيخرج أهل مكة ثم لا يعبر بها إلا قليل ، ثم تمتلئ وتبنى ، ثم يخرجون منها فلا يعودون فيها أبداً » ! ورواه مسلم : 8 / 183 ورواه بخاري في صحيحه وعقد باباً : 2 / 159 باب هدم الكعبة !
وفي الفتن لنعيم بن حماد : 1 / 398 : « لاتستريبوا في هلكة قريش ، فإنهم أول من يهلك حتى أن النعل لتوجد في المزبلة فيقال خذوا هذه النعل إنها لنعل قرشي » . وقد بحثنا ذلك وردينا عليه ، في كتاب ألف سؤال وإشكال : 1 / 492 .

5 . ردَّ أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) على فرية كعب عن العرب

وقد ردَّ أهل البيت « عليهم السلام » فرية كعب بهلاك الأمة . فقد روى الصدوق « الخصال / 475 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أبشروا ثم أبشروا ، ثلاث مرات ، إنما مثل أمتي كمثل غيث لا يدرى أوله خير أم آخره ، إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً ، ثم أطعم منها فوج عاماً ، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً وأحسنها جَناً ! وكيف تهلك أمة أنا أولها ، واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولي الألباب ، والمسيح عيسى بن مريم آخرها ؟ ولكن يهلك بين ذلك نَتَجُ الهَرَج ، ليسوا مني ولست منهم » .

6 . زعموا أن العرب لا يكونون من الأبدال !

زعم رواة السلطة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لا يصل العربي إلى درجة الأولياء الأبدال ! قال القرطبي في تفسيره : 3 / 259 : « واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل هم الأبدال ، وهم أربعون رجلاً كلما مات واحد بدَّل الله آخر » .
وقال أبو داود في سننه : 2 / 30 عن عنبسة بن عبد الواحد القرشي الأموي : « كنا نقول إنه من الأبدال ، قبل أن نسمع أن الأبدال من الموالي » !
وقال في سؤالات الآجري : 1 / 204 : « سئل أبو داود عن عنبسة بن عبد الواحد القرشي قال : سمعت محمد بن عيسى يقول : كنا نرى أنه من الأبدال حتى سمعنا أن الأبدال
--------------------------- 49 ---------------------------
من الموالي . . عن عطاء قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الأبدال من الموالي ، ولا يبغض الموالي إلا منافق » . وتاريخ بغداد : 12 / 279 وتهذيب الكمال : 22 / 421 .
وصححه المناوي : 3 / 220 وقال : « من علامتهم أيضاً أنه لا يولد لهم . . . وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعها ، لكن لايُنكر تقوي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهل بالصناعة الحديثية ، أو معاند متعصب » .
وفي تهذيب الكمال : 7 / 264 : « كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال ، وعلامة الأبدال أن لا يولد لهم ، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له » !
وعدوا أكثر من عشرين من أئمتهم من غير العرب من الأبدال !
وزعم ابن عربي أن أصحاب المهدي ( عليه السلام ) كلهم من العجم ! قال في الفتوحات : 3 / 328 : « وهم من الأعاجم ما فيهم عربي ، لكن لا يتكلمون إلا بالعربية » !
لكن أئمة أهل البيت « عليهم السلام » ساوَوْا بين العرب والعجم ، ونصوا على أن أصحاب المهدي ( عليه السلام ) فيهم العرب والعجم ، قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) كما في غيبة الطوسي / 284 : « يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاث مائة ونيف عدة أهل بدر . فيهم النجباء من أهل مصر ، والأبدال من أهل الشام ، والأخيار من أهل العراق » .

7 . أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بظلم قريش لأهل بيته ( ( عليهم السلام ) )

روى ابن حماد : 1 / 310 عن عبد الله بن مسعود قال : بينما نحن عند رسول الله إذ جاء فتية من بني هاشم فتغير لونه ! قلنا : يا رسول الله ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه ، فقال : « إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وإن أهل بيتي هؤلاء سيلقون بعدي بلاء وتطريداً وتشريداً حتى يأتي قوم من هاهنا من نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه ، مرتين أو ثلاثاً ، فيقاتلون فينصرون ، فيعطون ما سألوا فلا يقبلوه ، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي ، فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً ، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج ، فإنه المهدي » . « ورواه ابن أبي شيبة : 15 / 235 ، بنحوه . وابن ماجة : 2 / 1366 ، رواه
--------------------------- 50 ---------------------------
ابن المنادي / 44 ، الحاكم : 4 / 464 » ، وفيه : « أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به ، ولا سكتنا إلا ابتدأنا ، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه ، فقلنا : ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه ، قال : إنا أهل بيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا ، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد ، حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلايعطونه ، ثم يطلبونه فلايعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون . فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبواً على الثلج ، فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، فيملك الأرض فيملؤها قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلماً » . ورواه البزار : 4 / 310 ، 354 ، الداني / 92 ، كابن شيبة بتفاوت يسير ، نحوه جامع السيوطي : 3 / 101 ، وزوائد ابن ماجة / 527 ، المعجم الأوسط : 6 / 327 والسنن في الفتن : 5 / 1029 ، بروايتين وفيه :
« بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ قال : يجئ قوم من هاهنا وأشار بيده نحو المشرق أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه ، مرتين أو ثلاثاً ، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه ، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها عدلاً كما ملؤوها ظلماً . فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج » .
وقال نقاد الحديث عن رواية زائدة التي فيها : واسم أبيه اسم أبي : إنها زيادة في الحديث زادها زائدة بن قدامة .
ورواه من مصادرنا : دلائل الإمامة / 233 و 235 ، بعدة روايات عن ابن مسعود ، كابن حماد بتفاوت يسير . ومناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان : 2 / 110 ، بنحوه عن ابن مسعود ، وملاحم ابن طاووس / 52 ، عن ابن حماد ، وفي / 161 ، عن فتن زكريا ، وكشف الغمة : 3 / 262 ، عن أربعين أبي نعيم . وفي / 268 ، عن البيان للشافعي . والعدد القوية / 90 ، كرواية دلائل الإمامة الثانية بتفاوت يسير ، والثالثة ، وإثبات الهداة : 3 / 595 ، عن كشف الغمة ، والبحار : 51 / 82 ، عن كشف الغمة ، و : 51 / 83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم . . الخ .
« لكن أدق نصوصه حديث الإمام الباقر ( عليه السلام ) الذي رواه النعماني / 273 ، عن أبي خالد
--------------------------- 51 ---------------------------
الكابلي ، عن الإام الباقر ( عليه السلام ) قال : كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه ، ثم يطلبونه فلا يعطونه ، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا ، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم . قتلاهم شهداء . أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر » .
والنتيجة : أن هذا الحديث المعروف بحديث الرايات السود ، متواتر بالمعنى ، لأنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة ، يعلم منها أن مضمونه صدر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخبر عن ظلامة أهل بيته « عليهم السلام » وأنها تستمر حتى يأتي قوم من المشرق يمهدون لمهديهم : فيظهر ويسلمونه رايتهم ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً .

8 . سينقذ الله العرب بيد أهل البيت ( عليها السلام )

أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن الله عز وجل سينقذ قريشاً والأمة بأهل بيته « عليهم السلام » ، ففي كمال الدين / 230 : « قال علي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله أَمِنَّا الهداة أم من غيرنا ؟ قال : بل منا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة ، بنا استنقذهم الله عز وجل من ضلالة الشرك ، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة ، وبنا يصحبون إخواناً بعد ضلالة الفتنة ، كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك . وبنا يختم الله كما بنا فتح الله » .
وفي أمالي المفيد / 288 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « لما نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، قال لي : يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، فإذا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَابًا . يا علي إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي ، فقلت : يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد ؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني !
فقلت : فعلامَ نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ فقال : على إحداثهم في دينهم ، وفراقهم لأمري ، واستحلالهم دماء عترتي ! قال فقلت : يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن
--------------------------- 52 ---------------------------
يعجلها لي ! فقال : أجل ، قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا ، وأومى إلى رأسي ولحيتي ؟ فقلت : يا رسول الله أما إذا بينت لي ما بينت فليس بموطن صبر ، ولكنه موطن بشرى وشكر . فقال : أجل فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصِم أمتي . قلت : يا رسول الله أرشدني الفلج ، قال : إذا رأيت قوماً قد عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان .
يا علي إن الهدى هو اتباع أمر الله دون الهوى والرأي ! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن ، وأخذوا بالشبهات ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ، والبخس بالزكاة ، والسحت بالهدية ! قلت : يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك ، أهم أهل ردة أم أهل فتنة ؟ قال : هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل !
فقلت : يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا ؟ فقال : بل منا ، بنا يفتح الله وبنا يختم وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة ، فقلت :
الحمد لله على ما وهب لنا من فضله » .
ومنها : في كنز العمال : 16 / 196 ، من وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا علي إن القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم ، ويزكون أنفسهم ، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ويأمنون عقابه ، ويستحلون حرامه بالمشتبهات الكاذبة ، فيستحلون الخمر بالنبيد ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع . . . إلى أن ينقذهم الله بنا أهل البيت عند ظهورنا . . يا علي : بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه ، وبنا أهلك الأوثان ومن يعبدها ، وبنا يقصم كل جبار وكل منافق ، حتى إنا لنقتل في الحق مثل من قُتل في الباطل . يا علي : إنما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعمت فوجاً عاماً ، ثم فوجاً عاماً ، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً ، وأحسنها فرعاً ، وأحلاها جنىً ، وأكثرها خيراً وأوسعها عدلاً ، وأطولها ملكاً » .
وكان الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 266 » : « إذا ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : بأبي وأمي وقومي وعشيرتي ! عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها ، والله عز وجل يقول في كتابه : وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ! فبرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنقذوا » .
--------------------------- 53 ---------------------------
وفي المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 374 ، والاحتجاج للطبرسي : 1 / 93 والإمامة والسياسة : 1 / 18 ، من حديث طويل عن السقيفة : « أن أبا بكر دعا علياً إلى البيعة فامتنع وقال : إني لأخو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يقولها غيري إلا كذاب ، وأنا والله أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، إنكم أخذتم هذا الأمر من العرب بالحجة وتأخذونه منا أهل البيت غصباً وظلماً ! احتججتم على العرب بأنكم أولى الناس بهذا الأمر منهم بقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الأمر ، فأنا أحتج عليكم بما احتججتم به على العرب ، فنحن والله أولى بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) منكم ، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله ، واعرفوا لنا من هذا الأمر ما عرفته لكم العرب ، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون !
فقال أبو عبيدة بن الجراح : يا أبا الحسن أبو بكر أقوى على هذا الأمر ، وأشد احتمالاً ، فارض به وسلم له ، وأنت بهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك ! فقال لهم علي : أنا أحق بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي ! أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الإمارة . وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار ، أنا أولى برسول الله حياً وميتاً ، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه ، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم ، أول من آمن به وصدقه ، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين ، وأعرفكم بالكتاب والسنة ، وأفقهكم في الدين ، وأعلمكم بعواقب الأمور ، وأذربكم لساناً وأثبتكم جناناً ، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر !
أنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم ، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار ، وإلا فبوؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون .
فقال عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً ! فقال علي : إحلب حلباً لك شطره ، أشدد له اليوم ليرد عليك غداً ! إذاً والله لا أقبل قولك ، ولا
--------------------------- 54 ---------------------------
أحفل بمقامك ولا أبايع ! فقال أبو بكر : مهلاً يا أبا الحسن ، ما نشك فيك ولا نُكرهك !
فقام أبو عبيدة إلى علي فقال : يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك ، ولكنك حدث السن ، وكان لعلي يومئذ ثلاث وثلاثون سنة ، وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك وهو أحمل لثقل هذا الأمر ، وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له ، فإن عمَّرك الله يسلموا هذا الأمر إليك ، ولا يختلف فيك اثنان . فقال علي ( عليه السلام ) : يا معشر قريش ، الله الله ، لا تخرجوا سلطان محمد ( صلى الله عليه وآله ) من بيته إلى بيوتكم ، فإنكم إن تدفعونا أهل البيت عن مقامه في الناس وحقه تؤزروا ! والله إنه لفينا لا فيكم ، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً ، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم . . وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي ، ففسح المجلس وقال : إن الله يقلب القلوب ، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة ، فانصرفوا يومهم ذلك » .

9 . تحذيرات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للعرب من الطغيان

روى البخاري : 4 / 109 ، 176 ، 8 / 104 : « عن زينب ابنة جحش أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دخل عليها فزعاً يقول : لا إله إلا الله ، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها ! قالت زينب فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث » .
وفي البخاري : 8 / 88 : « قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : هلكة أمتي علي يدي غَلَمَةٍ من قريش . فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة ! فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت ! فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام ، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم ! قلنا أنت أعلم » .
وفي مسند أحمد : 2 / 390 ، عن أبي هريرة قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « وَيْلٌ للعرب من شر قد اقترب ! فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، يبيع قوم دينهم
--------------------------- 55 ---------------------------
بعرض من الدنيا قليل المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر » .
وفي مسند أحمد : 1 / 319 : « إذا رأيت الأمَة ولدت ربتها أو ربها ، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان ، ورأيت الحفاة الجياع العالة ، كانوا رؤوس الناس ، فذلك من معالم الساعة وأشراطها . قال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة ؟ قال : العرب » .
وفي الكافي : 8 / 103 : « سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ؟ قال : ما تقولون في ذلك ؟ قلت : نقول : هم الأفجران من قريش : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، قال : هي والله قريش قاطبة . إن الله تبارك وتعالى خاطب نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فقال إني فضلت قريشاً على العرب ، وأتممت عليهم نعمتي وبعثت إليهم رسولي ، فبدلوا نعمتي كفراً ، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ » .

10 . رفض الأئمة ( ( عليهم السلام ) ) تعصب العرب ضد الشعوب الأخرى

مَيَّزَ الحكام القرشيون العرب على غيرهم من الشعوب ، واصر أهل البيت « عليهم السلام » على المساواة بينهم وجوز تزويجهم من بعضهم . واشتكى الموالي إلى علي ( عليه السلام ) ، فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 5 / 318 » : « أتت الموالي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالوا : نشكو إليك هؤلاء العرب إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية ، وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً ، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا لا نفعل ! فذهب إليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكلمهم فيهم فصاح الأعاريب : أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك ! فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول : يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون ، فاتجروا بارك الله لكم ، فإني قد سمعت رسول الله يقول : الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة ، وواحدة في غيرها » .
وفي الكافي : 5 / 345 : « لقي هشام بن الحكم بعض الخوارج فقال : يا هشام ما تقول في العجم ، يجوز أن يتزوجوا في العرب ؟ قال : نعم . قال : فالعرب يتزوجوا
--------------------------- 56 ---------------------------
من قريش ؟ قال : نعم ، قال : فقريش يتزوجوا في بني هاشم ؟ قال : نعم . قال : عمن أخذت هذا ؟ قال : عن جعفر بن محمد ( عليه السلام ) سمعته يقول : أتتكافأ دماؤكم ، ولا تتكافأ فروجكم » ؟ !
وقال الكاظم ( عليه السلام ) كما في الخصال / 123 : « الناس ثلاثة : عربي ومولى وعلج ، فأما العرب فنحن ، وأما المولى فمن والانا ، وأما العلج فمن تبرأ منا وناصبنا » .
وفي الكافي : 8 / 226 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : « كان عند أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) رجل من قريش فجعل يذكر قريشاً والعرب ، فقال له أبو الحسن ( عليه السلام ) عند ذلك : دع هذا ، الناس ثلاثة : عربي ومولى وعلج ، فنحن العرب ، وشيعتنا الموالي ، ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج ! فقال القرشي : تقول هذا يا أبا الحسن ، فأين أفخاذ قريش والعرب ؟ ! فقال أبو الحسن : هو ما قلت لك » !
الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 166 » : « نحن بنو هاشم ، وشيعتنا العرب وسائر الناس الأعراب . . . نحن قريش ، وشيعتنا العرب ، وسائر الناس علوج الروم » .
وقال الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 316 » : « والله لا يحبنا من العرب والعجم إلا
أهل البيوتات والشرف والمعدن ، ولا يبغضنا من هؤلاء وهؤلاء إلا كل دَنِسٍ مُلْصَق » .

  • *
    --------------------------- 57 ---------------------------

الفصل الثالث

اليهود في الجزيرة العربية

1 . هاجر اليهود إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود

هاجر جماعات من اليهود مع أحبارهم بعد المسيح ( عليه السلام ) إلى الجزيرة العربية ، بانتظار النبي الأخير الذي وعدهم أنبياؤهم « عليهم السلام » بأنه سيظهر فيها .
قال إسحاق بن عمار « الكافي : 8 / 310 » : « سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله تبارك وتعالى : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ؟ قال : كانوا قوماً فيما بين محمد وعيسى صلى الله عليهما ، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ويقولون : ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم ، وليفعلن بكم وليفعلن ، فلما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كفروا به » .
وفي الكافي : 8 / 308 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد ( صلى الله عليه وآله ) ما بين عير وأحد ، فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يسمى حَداد فقالوا : حداد وأحد سواء ، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر ، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم ، فمرَّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم أمرُّ بكم ما بين عير وأحد ، فقال له : إذا مررت بهما فآذنَّا بهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم : ذاك عير وهذا أحد ، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا : قد أصبنا بغيتنا ، فلا حاجة لنا في إبلك فاذهب حيث شئت ! وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر : أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا ، فكتبوا إليهم : أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا الأموال وما أقربنا منكم ، فإذا كان ذلك
--------------------------- 58 ---------------------------
فما أسرعنا إليكم . فاتخذوا بأرض المدينة الأموال ، فلما كثرت أموالهم بلغ تُبَّعٌ فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ، وكانوا يَرِقُّونَ لضعفاء أصحاب تُبَّع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير ، فبلغ ذلك تُبَّع فرقَّ لهم وآمنهم ، فنزلوا إليه فقال لهم : إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيماً فيكم فقالوا له : إنه ليس ذاك لك ، إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم : إني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره ، فخلف حيين الأوس والخزرج ، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود وكانت اليهود تقول لهم : أما لو قد بعث محمد ليخرجنكم من ديارنا وأموالنا ، فلما بعث الله عز وجل محمداً ( صلى الله عليه وآله ) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قول الله عز وجل : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ » .
أقول : يدل هذا الحديث على أن اليهود كانوا في المدينة قبل الأوس والخزرج ، وقد تحالفوا ، لكن الأنصار صاروا أقوى منهم لمحيطهم العربي ، فاحتاج اليهود إلى أن يتحالفوا معهم ويكونوا في جوارهم .
وفي المحتضر / 276 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « إن الله تعالى أخبر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بما كان من إيمان الأمم السابقة . وإن اليهود قبل ظهوره كانوا يستفتحون على أعدائهم بذكره والصلاة عليه ، وكان الله عز وجل أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمرٌ ودهمتهم داهية أن يدعوا الله بمحمد وآله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانوا يفعلون ذلك ويستنصرون به ، حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور النبي ( صلى الله عليه وآله ) بسنين كثيرة يفعلون ذلك ، ويكفون البلاء والداهية الدهياء » .
وفي تفسير القمي : 1 / 32 : « فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مجئ النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ويكون هجرته بالمدينة ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة ، يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات ، ويركب الحمار عُرْيَةً ، وهو الضحوك القتال ، يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى . يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر ، وليقتلنكم الله به يا معشر العرب قتل
--------------------------- 59 ---------------------------
عاد ، فلما بعث الله نبيه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ » .
وفي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 393 : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وكانت اليهود قبل ظهورمحمد ( صلى الله عليه وآله ) بعشر سنين تعاديهم أسد وغطفان ويقصدون أذاهم ، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين ، حتى قصدتهم في بعض الأوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة ، فتلقاهم اليهود وهم ثلاث مائة فارس ، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين فهزموهم وقطعوهم . . . فلما ظهر محمد ( صلى الله عليه وآله ) حسدوه ، إذ كان من العرب ، فكذبوه » !
وفي الدر المنثور : 1 / 88 : « كانت يهود بني قريظة والنضير قبل أن يبعث محمد يستفتحون الله به يدعون على الذين كفروا ويقولون : اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم ، فينصرون » ! والإستفتاح على العدو : طلب النصر عليه ، ويشمل الاستعانة عليه بأحد ، أو شيء ، أو دعاء .
وجبل حَدَد « معجم البلدان : 2 / 229 » « مطل على تيماء . . قال النابغة : ساق الرفيدات من جَوْشٍ ومن حَدَدِ » واحتمل المجلسي تصحيفه عن حداد ، وقد يكون الشاعر خففه .
هذا ، وقول أهل البيت « عليهم السلام » إن هجرة اليهود إلى الجزيرة كانت بعد المسيح ( عليه السلام ) يرد ما زعمه بعض الكتاب الغربيين من أنه كان في الجزيرة مواطنون يهود كأبناء إسماعيل ( عليه السلام ) . كما أن تُبَّعاً ملك اليمن والعرب ، كان بعد عيسى ( عليه السلام ) وقد أسكن الأنصار في المدينة ، فكثروا فهابهم اليهود وتحالفوا معهم .

2 . أخبر اليهود العرب بولادة النبي الموعود ( ( صلى الله عليه وآله ) )

اشتهر خبر الحاخام يوسف اليهودي من مكة ، ففي كمال الدين / 196 ، عن علي بن إبراهيم عن رجاله : « كان بمكة يهودي يقال له يوسف ، فلما رأى النجوم يقذف بها وتتحرك قال : هذا نبي قد ولد في هذه الليلة ، وهو الذي نجده في كتبنا
--------------------------- 60 ---------------------------
أنه إذا ولد وهو آخر الأنبياء ، رُجمت الشياطين وحجبوا عن السماء .
فلما أصبح جاء إلى نادي قريش فقال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا : لا . قال : أخطأكم والتوراة ، ولد إذاً بفلسطين ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ! فتفرق القوم فلما رجعوا إلى منازلهم أخبر كل رجل منهم أهله بما قال اليهودي فقالوا : لقد ولد لعبد الله بن عبد المطلب ابنٌ في هذه الليلة ، فأخبروا بذلك يوسف اليهودي فقال لهم : قبل أن أسألكم أو بعده ؟ قالوا : قبل ذلك ، قال : فاعرضوه عليَّ ، فمشوا إلى باب آمنة فقالوا : أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي ، فأخرجته في قماطه فنظر في عينيه ، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء بين كتفيه وعليها شعرات ، فلما نظر إليه وقع على الأرض مغشياً عليه ، فتعجب منه قريش وضحكوا منه فقال : أتضحكون يا معشر قريش ، هذا نبي السيف ، ليبيرنكم ، وقد ذهبت النبوة من بني إسرائيل إلى آخر الأبد . . الخ . » .
كما انتشر بين العرب خبر بَحِيرا الراهب الآتي ، وإخباره بنبوة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) وتحذيره عمه أبا طالب « رحمه الله » من خطر اليهود عليه ! ومن جهة أخرى : ملأت آذان الأوس والخزرج بشائر حلفائهم اليهود بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فكان ذلك سبب إيمانهم به . وروت المصادر قصة أسعد بن زرارة ، أحد زعماء الأوس ، لما ذهب إلى مكة ليتحالف مع قريش ضد الخزرج ، فرأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسلم :
قال الطبرسي في إعلام الورى : 1 / 138 : « وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم النضير وقريظة وقينقاع ، أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنكم به يا معشر العرب . .
فلما سمع أسعد هذا قال له : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . . . والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ويبشروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلا لطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له » !
--------------------------- 61 ---------------------------

3 . سبب معاداة اليهود للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه من بني إسماعيل !

صرح اليهود بأن سبب عدائهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه من غيرهم وهم يريدونه منهم ! وقد أغمي على الحاخام يوسف لما ولد ( صلى الله عليه وآله ) لأن النبوة كما قال : ذهبت من
بني إسرائيل إلى الأبد ! « وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل » ! أسباب النزول / 17 .
وطلبوا منه ( صلى الله عليه وآله ) أن يعلن أنه رسولٌ خاص لهم ليؤمنوا به !
ففي أمالي الصدوق / 254 ، عن علي ( عليه السلام ) : « جاء نفر من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا محمد ، أنت الذي تزعم أنك رسول الله ، وأنك الذي يوحى إليك كما أوحي إلى موسى بن عمران ؟ فسكت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ساعة ، ثم قال : نعم ، أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين .
قالوا : إلى من ، إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية : قُلْ « يا محمد » يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » .
ونشط اليهود من أول بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تعليم قريش الخطط لعدائه ( صلى الله عليه وآله ) وقتله ! فكانوا يتبادلون معهم المشورة . ففي تفسير الطبري : 15 / 238 : « بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء » .
وتطور تعاونهم حتى وصل إلى تحشيد الأحزاب لغزو المدينة واستئصال محمد وبني عبد المطلب ، بزعمهم . ثم واصلوا عملهم مع قريش بعد هزيمة الأحزاب ، وكانوا يضعون الخطط لقتله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ خلافته ، وإبعاد عترته !
لذا يجب علينا في دراسة السيرة رصد نشاط اليهود في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتأثيرهم على قادة قريش ، ورصد مجموعة الصحابة الذين كانوا يدرسون عندهم ، ويتصلون بهم وقد ابتكر لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) اسم « المُتَهَوِّكِين » وحذر المسلمين منهم !
--------------------------- 62 ---------------------------
وقوله تعالى يكشف اتفاقية سرية بين قريش واليهود ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ .
محمّد : 25 - 26 .
وقد بقي اليهود في جزيرة العرب خمسة قرون ، وتكلموا العربية ، وكان العرب يحترمونهم ويرجعون إليهم في مسائل التنبؤ بالمستقبل ، واستمر ذلك في الصحابة حتى بعد بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
فقد كانت عائشة زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبوها معجبين بالثقافة اليهودية !
روى مالك في الموطأ : 2 / 943 : « أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها ! فقال أبو بكر : إرقيها بكتاب الله » . فهي تثق بدعاء العجوز اليهودية أكثر مما تثق بنفسها وما علمها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وسواء قصد أبوها : إرقيها بكتاب الله ، القرآن ، أو التوراة ، فهو يعلن أن اليهودية بمستوى أن ترقي زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وقد قلد فقهاء السلطة عائشة وأفتوا بأنه يجوز للمسلم أن يسترقي اليهودي !
والخلاصة : أن اليهود كانوا مقربين ولهم كلمتهم في « دار الخلافة » في المدينة ، وفي « بلاط الخلافة » بالشام . وكان حاخاماتهم مستشارين ثقافيين وسياسيين للخليفة ، فأثروا في سياسة الدولة وفي ثقافة الأمة تأثيراً كبيراً !

4 . كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهداً مع اليهود للتعايش

عندما هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة ، كتب مع فئات اليهود معاهدة تعايش :
أما بنو قينقاع الصاغة ، فنقضوا الصلح ، فسار إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد عشرين يوماً من وقعة بدر ، فتحصنوا فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكمه فأوثقهم كتافاً ، ووهبهم لحليفهم المنافق عبد الله بن سلول ، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، فخرجوا إلى أذرعات الشام ، وكانوا ست مئة مقاتل .
وأما بنو النضير ، فتآمروا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ونزلت فيهم سورة الحشر ، فبعث
--------------------------- 63 ---------------------------
إليهم أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي ،
أن لا تخرجوا من دياركم ، فإن معي ألفين يموتون دونكم وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان ، فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك ! فكبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكبر أصحابه !
وأمر علياً ( عليه السلام ) بالمسير إليهم فحاصرهم وقتل نخبة فرسانهم ، ولم ينصرهم عبد الله بن أبيّ ، ولا بنو قريظة ، ولاحلفاؤهم من غطفان !
وبعد أيام من الحصار قالوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فخرجوا إلى وادي القرى والشام .
وأما بنو قريظة ، فبقوا على صلحهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى ذهب زعماؤهم إلى مكة وتحالفوا مع أبي سفيان لغزو المدينة في حرب الأحزاب ، ثم تجولوا على قبائل نجد والجزيرة يحثونهم على حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويعدونهم بتمر خيبر .
وعندما حاصرالأحزاب المدينة مزق بنو قريظة عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنهم طلبوا من الأحزاب رهائن حتى لا يذهبوا ويتركوهم وحدهم مقابل النبي ، فلم يعطوهم ، ولما انهزم الأحزاب سار إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحاصرهم حتى نزلوا على حكم حليفهم سعد بن معاذ ، فحكم بقتل من حرض منهم وكانوا ثلاث مئة .
وأما يهود خيبر ، فكانوا أكبر قوة لليهود ، وقد شاركوا في مؤامراتهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقصدهم في السنة السابعة للهجرة ، وأخضعهم وانتصرعليهم .

  • *
    --------------------------- 64 ---------------------------

الفصل الرابع

مكانة الكعبة عند العرب

1 . بَوَّأَ الله الكعبة لإبراهيم وذريته ( ( عليهم السلام ) ) وسماهم الأمة المسلمة

فقد استجاب الله دعاء إبراهيم وإسماعيل ( صلى الله عليه وآله ) لما بنىا البيت فقالا : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
وهذه الأمة من ذرية إسماعيل ( عليه السلام ) لا تنطبق إلا على النبي والأئمة من آله ( صلى الله عليه وآله ) . وقد روى الثقفي في الغارات : 1 / 200 ، رسالة علي ( عليه السلام ) لمعاوية ، وفيها : « ولكل نبي دعوة في خاصة نفسه وذريته وأهله . قال إبراهيم وإسماعيل ( صلى الله عليه وآله ) وهما يرفعان القواعد من البيت : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، فنحن الأمة المسلمة . وقالا : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ . فنحن أهل هذه الدعوة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منا ونحن منه ، بعضنا من بعض وبعضنا أولى ببعض في الولاية والميراث : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » .
وفي الكافي : 5 / 14 أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حصرالأمة المأذون لها بالدعوة في قوله تعالى : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ . بالأمة المسلمة من ذرية إبراهيم ( عليه السلام ) فقال : « ثم أخبر عن هذه الأمة ومن هي وأنها من ذرية إبراهيم وذرية إسماعيل « عليهما السلام » من سكان الحرم ، ممن لم يعبدوا غير الله قط ! الذين وجبت لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس » .
--------------------------- 65 ---------------------------
وفي كتاب سليم / 406 : « إنا أهل بيت دعا الله لنا أبونا إبراهيم ( عليه السلام ) فقال : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، فإيانا عنى الله بذلك خاصة . ونحن الذين عنى الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . . إلى آخر السورة ، فرسول الله الشاهد علينا ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحججه
في أرضه » .
وفي الكافي : 1 / 392 أن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال : هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية ! إنما أمروا أن يطوفوا بها ، ثم ينفروا إلينا فيُعْلِمونا ولايتهم ومودتهم ، ويعرضوا علينا نصرتهم ! ثم قرأ هذه الآية : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ » . أي لم يقل : إليها !
وفي تفسير العياشي : 2 / 233 ، عنه ( عليه السلام ) قال : « ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه ، وأن يلقونا حيث كنا ، نحن الأدلاء على الله » .
وفي دعائم الإسلام : 1 / 31 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « لم يكن من الأمم السالفة والقرون الخالية والأسلاف الماضية ولا سمع به أحد أشد ظلماً من هذه الأمة ، فإنهم يزعمون أنه لافرق بينهم وبين أهل بيت نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ولا فضل لهم عليهم ، فمن زعم ذلك من الناس فقد أعظم على الله الفرية وارتكب بهتاناً عظيماً وإثماً مبيناً ! وهو بذلك القول برئ من محمد وآل محمد حتى يتوب ويرجع إلى الحق بالإقرار بالفضل لمن فضله الله عز وجل عليه . . . فأصحاب دعوة إبراهيم وإسماعيل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة « عليهم السلام » ، ومن كان متولياً لهؤلاء من ولد إبراهيم وإسماعيل فهو من أهل دعوتهما ، لأن جميع ولد إسماعيل قد عبدوا الأصنام ، غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وكانت دعوة إبراهيم وإسماعيل لهم » .
يقصد ( عليه السلام ) أصول هذا الفرع وهو فرع عبد المطلب إلى إسماعيل « عليهم السلام » .
--------------------------- 66 ---------------------------

2 . أولياء الكعبة هم إبراهيم وذريته المنصوص عليهم ( ( عليهم السلام ) )

قال الله تعالى : جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْىَ وَالقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ . إِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . المائدة : 97 - 98 .
إِنَّ أَوَلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ . آل عمران : 96 - 97 .
وَإِذْ بَوَأْنَا لآبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ . لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ . وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ . الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالمُقِيمِى الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلادِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ . الحج : 25 - 37 .

3 . الإمامة عهد الله لإبراهيم وإسماعيل وبعض ذريتهما ( ( عليهم السلام ) )

قال الله تعالى : وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ . وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا
--------------------------- 67 ---------------------------
العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . الأنفال : 34 - 35 .
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ . البقرة : 124 - 131 .

4 . نصوص التوراة عن إسكان إبراهيم ذريته في مكة

تقول التوراة الموجودة إن سارة حسدت ضرتها هاجر ، فطلبت من إبراهيم ( عليه السلام ) أن يطردها مع طفلها ! فطردهما إلى برية سيناء ، ثم سكنا في برية فاران ، أي مكة !
وتؤكد توراتهم أن عهد الله تعالى بالإمامة والخلافة في الأرض ، إنما كان لإبراهيم وابنه إسحاق وذريته ، ولا يشمل إسماعيل وذريته أبداً !
تقول الفقرات / 25 - 30 من العهد القديم : « قال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك . فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحاق ، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده . وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً . اثني عشر رئيساً يلد . وأجعله أمة كبيرة . ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية . . . ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح ، فقالت
--------------------------- 68 ---------------------------
لإبراهيم : أطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق . فقبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه ، فقال الله لإبراهيم : لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك . في كل ما تقول لك سارة إسمع لقولها ، لأنه بإسحق يدعى لك نسل ، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك .
فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر ، واضعاً إياهما على كتفها والولد وصرفها ، فمضت وتاهت في برية بئر سبع ، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ومضت وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس ، لأنها قالت لا أنظر موت الولد فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت فسمع الله صوت الغلام ، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها : مالك يا هاجر لا تخافي ، لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو ، قومي إحملي الغلام وشدي يدك به ، لأني سأجعله أمة عظيمة . وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام ، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران ، وأخذت له أمةً زوجةً من أرض مصر » .
وفي نص آخر : « وبعد أن حملت سارة نظرت إلى سيدتها باحتقار ، لأنها كانت عاقراً ، فطردتها سيدتها ، ولاقاها ملاك الرب في الطريق وأمرها أن ترجع إلى سيدتها وإلى بيت إبراهيم ، ووعدها بأنها ستلد إبناً تسميه إسماعيل ، وأنه يكون أباً لجمهور من الناس وأنه سيسكن البرية كحمار وحشي » ! قاموس الكتاب المقدس / 74 تك : 16 5 - 14
وفي سفر التثنية / إصحاح : 33 : « وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته ، فقال : جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القدس ، وعن يمينه نار شريعة لهم » .
وفي سفر حيقوق / إصحاح : 3 : « الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبل فاران . سلاه . جلاله غطى السماوات . والأرض امتلأت من تسبيحه . وكان لمعان كالنور . له من يده شعاع . وهناك استتار قدرته » .
وسيناء : محل نزول الوحي على موسى . وسعير : محل بعثة عيسى . وفاران : جبال مكة
--------------------------- 69 ---------------------------
التي تلألأت بنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! وهي حجة واضحة لنبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي التوراة والإنجيل / 1140 موقع : arabicbible : « ستبيتين في صحاري بلاد العرب يا قوافل الددانيين . فاحملوا يا أهل تيماء الماء للعطشان واستقبلوا الهاربين بالخبز . لأنهم قد فروا من السيف المسلول والقوس المتوتر ومن وطيس المعركة . لأنه هذا ما قاله لي الرب : في غضون سنة مماثلة لسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار ، وتكون بقية الرماة الأبطال من أبناء قيدار قلة . لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم » .
هذا كل ما أوردته توراتهم عن سكن إسماعيل ( عليه السلام ) في مكة ، وقد أهملت عن عمد تجديد إبراهيم وإسماعيل « عليهما السلام » بناء الكعبة ! لأنه يكشف التخطيط الرباني للأمة الآخرة من ذرية إسماعيل « عليهم السلام » ، وإخبار بأن الله سينقل النبوة إليهم .

5 . وفرة أحاديث أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) في الكعبة وإبراهيم وإسماعيل ( ( عليهم السلام ) )

أما أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » فبينت مكانة الكعبة ، وأن أصلها كان قبل آدم ( عليه السلام ) ، وأنها نزلت على آدم ( عليه السلام ) ياقوتة حمراء وكانت قواعدها زبرجدة خضراء ، ثم عفيت بعد نوح ، فأمر الله تعالى إبراهيم ( عليه السلام ) أن يسكن عندها طفله إسماعيل وأمه هاجر « عليهما السلام » ، وبعث جبرئيل ( عليه السلام ) فاحتفر بئراً لشرابهم وشراب الحاج .
ثم أمر الله إبراهيم ( عليه السلام ) أن يجدد بناءها مع ابنه إسماعيل ( عليه السلام ) عندما صار يافعاً فجدداها ، وأمره أن يدعو الناس إلى حجها ، ويريهم مناسكهم ، فدعا الناس واستجابوا له وحج بهم ، ثم أمره الله تعالى أن يذبح إسماعيل فأطاعه ، وفداه الله بكبش كما قَصَّ القرآن .
وتزوج إسماعيل ( عليه السلام ) من قبيلة جرهم العربية ، ثم توفيت أمه هاجر « عليهما السلام » فدفنها في المسجد عند الكعبة ، وأمره الله أن يجعل حول قبرها حِجْراً لئلا يدوسه الناس ، وأدخله في المطاف !
كما بينت الأحاديث تقديس العرب للكعبة ، والتزامهم بالعمرة في رجب وبالحج في ذي الحجة . . إلى عشرات العناوين والتفصيلات عن الكعبة ومكانتها ،
--------------------------- 70 ---------------------------
وعن آل إبراهيم « عليهم السلام » . الكافي : 4 / 201 ، علل الشرائع : 2 / 586 وتفسير القمي : 1 / 60 .
وروت شبيهاً بها مصادر السنة كالبخاري : 4 / 114 . لكنها تأثرت بالإسرائيليات .

6 . عقيدة العرب بالكعبة

يتعجب الإنسان كيف استطاع إبراهيم صلوات الله عليه أن يجمع العرب على تقديس الكعبة والحج إليها ، مع أنه لم يكن حاكماً عليهم ولا كان يعيش بينهم !
فلا بد من القول بوجود إعجاز رباني في الأمر ، وجه العرب إلى البيت الذي بناه هذا القديس البابلي ، الذي أحرقه نمرود فلم يحترق !
وقد نصت على ذلك أحاديث النبي وأهل بيته ( صلى الله عليه وآله ) ، في تفسير قوله تعالى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ .
وقد أسمع الله دعوة إبراهيم ( عليه السلام ) حتى لمن كانوا في أصلاب آبائهم : قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي 4 / 205 » : « فقال : أيها الناس إني إبراهيم خليل الله ، إن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه ، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة ، وكان أول من أجابه من أهل اليمن » .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) « علل الشرائع 2 / 420 » : « صار بإزاء أبي قبيس فنادى في الناس بالحج ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، إلى أن تقوم الساعة » .
وروى نحوه الحاكم وصححه : 2 / 389 : « يا أيها الناس كتب عليكم الحج حج البيت العتيق ، فسمعه من بين السماء والأرض » .
وسرعان ما تحققت المعجزة وصارت مكة موسماً في ذي الحجة وفي رجب ، ومجمعاً لقبائل العرب وسوقاً رأوا فيه المنافع التي قال الله عنها : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ . وكان إسماعيل وأبناؤه ، وأصهاره من قبيلة جرهم ، يخدمون الحجاج ويعلمونهم الحج والعمرة .
--------------------------- 71 ---------------------------
وكان ملوك التبابعة يحترمون الكعبة ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي 4 / 215 » :
« إن تُبَّعًا لما أن جاء من قبل العراق وجاء معه العلماء وأبناء الأنبياء ، فلما انتهى إلى هذا الوادي لهذيل أتاه أناس من بعض القبائل فقالوا : إنك تأتي أهل بلدة قد لعبوا بالناس زماناً طويلاً حتى اتخذوا بلادهم حرماً وبَنِيَّتَهم رباً أو ربةً ! فقال : إن كان كما تقولون قتلت مقاتليهم وسبيت ذريتهم وهدمت بنيتهم . قال : فسالت عيناه حتى وقعتا على خديه ! قال : فدعى العلماء وأبناء الأنبياء فقال : أنظروني وأخبروني لما أصابني هذا ؟ قال : فأبوا أن يخبروه حتى عزم عليهم قالوا : حدثنا بأي شئ حدثت نفسك ؟ قال : حدثت نفسي أن أقتل مقاتليهم وأسبي ذريتهم وأهدم بنيتهم ! فقالوا : إنا لا نرى الذي أصابك إلا لذلك ، قال : ولم هذا ؟ قالوا : لأن البلد حَرَم الله والبيت بيت الله ، وسكانه ذرية إبراهيم خليل الرحمن . فقال : صدقتم فما مَخرجي مما وقعت فيه ؟ قالوا : تُحدث نفسك بغير ذلك ، فعسى الله أن يرد عليك ، قال : فحدث نفسه بخير ، فرجعت حدقتاه حتى ثبتتا مكانهما قال : فدعى بالقوم الذين أشاروا عليه بهدمها فقتلهم ، ثم أتى البيت وكساه وأطعم الطعام ثلاثين يوماً ، كل يوم مائة جزور ، حتى حملت الجفان إلى السباع في رؤوس الجبال ، ونثرت الأعلاف في الأودية للوحوش ، ثم انصرف من مكة إلى المدينة فأنزل بها قوماً من أهل اليمن من غسان وهم الأنصار » .
وكانت بعض قبائل العرب لا تحج البيت وهم الغساسنة في الشام وغيرهم ممن تنصروا ، ونصارى نجران ، وقسم من طئ على مشارف الشام ، وكان القياصرة ومن والاهم يبذلون جهداً ليثنوا العرب عن الحج إلى الكعبة .
وكان من أهداف طليحة الأسدي الذي ادعى النبوة ، وهاجم المدينة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بستين يوماً ، بعشرين ألف مقاتل ، فنهض علي ( عليه السلام ) وتلاميذه وهاجموهم ليلاً ، وقتل قائدهم وهزمهم .
وقال ( عليه السلام ) عن تلك الفترة : « حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام تدعو إلى محق دين محمد ( صلى الله عليه وآله ) وملة إبراهيم ( عليه السلام ) » .
--------------------------- 72 ---------------------------
أي يريدون إزالة الإسلام ، وحتى الحج إلى الكعبة الذي بقي من ملة إبراهيم ( عليه السلام ) ! كشف المحجة / 176 ، راجع قراءة جديدة في حروب الردة للمؤلف .
وكان قيصر يؤيد ردة بني أسد ومن معهم من طئ ، لأنه كان يتهيأ لحرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويُحَضِّرُ دولة الغساسنة ، وأبا عامر الفاسق وجماعته في المدينة ، والأكيدر الكندي في دومة الجندل ، وقد وثَّق ملك الشام الغساني علاقته بطيئ حتى تنصرعدي بن حاتم ، وأهدى قيصر سيوفاً ثمينة لصنمي طيئ ، فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً وجاء بأسرى من طيئ ! فلا بد أن قيصراً شجع طليحة على حملته !
ومع ذلك ، فإن أكثرية قبائل العرب وجمهرتها كانت تؤمن بالكعبة وتحج إليها .

7 . أما الأكاسرة الفرس فكان بعضهم يقدسون الكعبة

ذكر المسعودي في مروج الذهب : 1 / 265 وغيره من المؤرخين ، أن ساسان بن بابك ملك الفرس حج إلى الكعبة وكان يعتقد بها ، وكان يدعي أنه من ذرية إبراهيم ( عليه السلام ) ، قال : « وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا في صدرالزمان وجواهر ، وقد كان ساسان بن بابك هذا ، أهدى غزالَيْن من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً » . حتى غلبت خزاعة جرهماً فرمى الحارث بن مضاض الغزالين في زمزم ، ودفنها فضاع أثرهما ، حتى استخرجهما عبد المطلب ( عليه السلام ) .
وقد يكون ساسان أهدى إلى الكعبة لكسب قلوب قبائل العرب ، لأن الأكاسرة المتأخرين كانوا لا يقدسونها .

  • *
    --------------------------- 73 ---------------------------

الفصل الخامس

آباء النبي « صلى الله عليه وآله » موحدون لكن السلطة كَفَّرتهم !

1 . لماذا أصر « الخلفاء » على تكفير آباء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

السبب : أنهم إذا اعترفوا بأن آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) مؤمنون ، فهم ورثة إسماعيل وإبراهيم « عليهما السلام » ، فيكون الوارث عبد المطلب ثم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم أبو طالب وعلي ( عليه السلام ) فلا يبقى لخلفاء قريش شئ ! لذلك اخترعوا أن يساووا بين آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآبائهم الذين قاوموه وكفروا به ، فقالوا إنهم جميعاً كفار ولا أحد أولى بوراثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فكل قرشي مثل كل هاشمي له الحق أن يرث سلطانه ( صلى الله عليه وآله ) !
وهم صادقون بحق آبائهم ، فتاريخهم غير مشرف وأكثرهم لعنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وقد وصل عدوانهم إلى أوْجِهِ فزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال إن آباءه كفار في النار ! وكذب عليه أنس فقال إن رجلاً سأله ، صحيح مسلم 1 / 133 : « يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : في النار . فلما قفى دعاه فقال : إن أبي وأباك في النار » !
وقال السهيلي في الروض الأنف : 1 / 194 : « وفي الصحيح أيضاً أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها ، فلم يأذن لي . وفي مسند البزار من حديث بريدة أنه حين أراد أن يستغفر لأمه ، ضرب جبريل في صدره وقال له : لا تستغفر لمن كان مشركاً ، فرجع وهو حزين » .
فانظر إلى هذه الخشونة التي وصفوا بها الله الرحمن الرحيم ، ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) !
--------------------------- 74 ---------------------------
والعجيب أن أكثرهم صحح أحاديث الطعن في آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يردَّها إلا قليل من علمائهم المتأخرين !
قال الصالحي في سبل الهدى : 1 / 260 : « قال السهيلي في الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم : وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم : لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات . وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وسئل القاضي أبو بكر بن العربي أحد الأئمة المالكية « رحمه الله » عن رجل قال : إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار ؟ فأجاب : بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . قال : ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار » !
وعلى قوله فمسلم صاحب الصحيح ملعون لأنه نسب ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ومن العجيب أن الطاعنين أنفسهم اعترفوا ببطلان قولهم ، حيث رووا أن الله تعالى اختار بني هاشم وميزهم على قريش ، ولا يمكن أن يختارهم وهم كفارٌ !
وقد عقد الهيثمي باباً في « مجمع الزوائد 8 / 215 » في كرامة أصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) روى فيه عن ابن عباس ووثقه أن معنى قوله تعالى : وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ : من صلب نبي إلى نبي حتى صرت نبياً . فدل ذلك على أن كل آبائه مؤمنون أنبياء ، ولو لأنفسهم ! ثم روى غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقول أحدهم : « إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن ! وقول أحدهم : إنما مثل محمد نخلة نبتت في الكَبا « المزبلة » ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أيها الناس من أنا ؟ قالوا أنت رسول الله ، قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب . ألا إن الله عز وجل خلق خلقه ، ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين ، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيرهم بيتاً
وخيرهم نفساً » .
وفي الدر المنثور : 3 / 294 والمستدرك : 4 / 73 والخصال / 36 : « قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما ، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة ، فكنت خير الثلاثة ، ثم اختار العرب من الناس ، ثم اختار قريشاً من العرب ، ثم اختار بني
--------------------------- 75 ---------------------------
هاشم من قريش ، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم ، ثم اختارني من بني عبد المطلب » .
ورد النبي ( صلى الله عليه وآله ) على حقد القرشيين رداً عنيفاً قاصماً ، فقال لهم وهو على المنبر : فليسألني الطاعن بأسرتي : إبنُ مَن هو ؟ ! فسأله صحابي عن أبيه ، فقال له : إن أباك فلان الراعي ! وكانت أول مرة يَجْبَهُ فيها أحداً بمثل هذا !
لكن القرشيين لا يرتدعون ولا تنكسر أعينهم ، فقد أصروا على الانتقاص من آبائه ( صلى الله عليه وآله ) لينفوا وراثتهم لإبراهيم ( عليه السلام ) ! راجع : العقائد الإسلامية : 3 / 275 .

2 . تفرد مذهبنا بعقيدة إيمان آباء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال المفيد في أوائل المقالات / 45 : « اتفقت الإمامية على أن آباء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب « عليهم السلام » مؤمنون بالله عز وجل موحدون له . واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار ، قال الله عز وجل : الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين ، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا . وأجمعوا على أن عمه أبا طالب مات مؤمناً ، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد ، وأنها تحشر في جملة المؤمنين » .
قال أبو حيان « البحر المحيط : 7 / 47 » : « ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي كانوا مؤمنين » .
وقد وافقنا غيره من علمائهم فصاروا رافضة في هذا الموضوع ، مثل الماوردي ، والرازي في كتابه أسرار التنزيل ، والسنوسي ، والقاضي عياض ، والتلمساني شارح الشفاء ، وألف السيوطي رسائل لإثبات إيمانهم . الصحيح : 2 / 186 .
والصحيح عندي أن آباءه ( صلى الله عليه وآله ) كانوا على دين إبراهيم ( عليه السلام ) ، وأن الله كلفهم بالحنيفية ولم يكلفهم باليهودية ولا المسيحية ، وقد ثبتوا على حنيفية إبراهيم ( عليه السلام ) ، بينما انحرفت عنها قبائل قريش الأخرى .
والأدلة على ذلك عديدة ، منها ما رواه الأصبغ بن نباتة « رحمه الله » قال : « سمعت
--------------------------- 76 ---------------------------
أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول : والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولاعبدمناف ، صنماً قط ! قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به » . كمال الدين / 174 .
ويؤيده ما رواه البخاري : 2 / 98 : « لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأبي طالب : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب !
فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب :
آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله تعالى فيه : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ » .
ومع أن رواية البخاري عندنا مكذوبة ، لكنا نستشهد باعترافها بأن أبا طالب قال إنه على ملة عبد المطلب ، أي ملة إبراهيم ( عليه السلام ) .
وفي تفسيرابن عطية : 4 / 293 : « أنا على ملة عبد المطلب والأشياخ » . « ونحوه تفسير الثعلبي : 5 / 100 وأسباب النزول / 178 » . ويبدو أن كلمة الأشياخ أضافها رواة السلطة وقصدهم بهم أشياخ قريش ، لا أشياخ أبي طالب بمعنى آبائه « عليهم السلام » .
وقد رووا أن أشياخ قريش سألوا أبا طالب : هل أسلم ؟ فكان يقول لهم : أنا على ملة عبد المطلب أو ملة إبراهيم ( عليه السلام ) ، ليخفف من عدائهم إذا قال لهم إنه أسلم .
ومما يدل على كذب رواية البخاري أن أبا جهل لم يحضروفاة أبي طالب ، وأن آية : مَا كَان لِلَّنِبيِّ . . لم تنزل يومها بل هي من سورة التوبة التي نزلت في رجوع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك في السنة التاسعة ، أي بعد وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) بأكثر من عشر سنين .
وفي كمال الدين / 171 : « كان عبد المطلب وأبو طالب « عليهما السلام » من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكانا يكتمان ذلك عن الجهال وأهل الكفر والضلال » .
وفي الكافي : 1 / 444 من خطبة للإمام الصادق ( عليه السلام ) : « تُبشر به كلُّ أمة مَن بعدها ،
--------------------------- 77 ---------------------------
ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر ، لم يخلطه في عنصره سفاح ، ولم ينجسه في ولادته نكاح ، من لدن آدم إلى أبيه عبد الله ، في خير فرقة ، وأكرم سبط ، وأمنع رهط ، وأكلأ حمل ، وأودع حِجْر » .

جَدَّا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هاشم وعبد المطلب

1 . تفوُّق هاشم جد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على قريش

فقد أسس هاشم ( عليه السلام ) رحلتي الشتاء والصيف . قال أبو نصر البخاري في كتابه سرّ السلسلة العلوية / 3 : « أول من رفع الله تعالى من قريش قبل النبوة أربعة : هاشم ، والمطلب ، وعبد شمس ، ونوفل . خرج هاشم في ألف من قريش إلى الشام ، فأخذ من قيصر ملك الروم عهداً لقريش ليتجروا في بلاده . وخرج المطلب إلى اليمن فأخذ من ملوك اليمن عهداً لهم ، وركب نوفل البحر فأخذ لهم من النجاشي عهداً » . « كان هاشم يُدعى القمر ، ويسمى زادُ الركب » . عمدة الطالب / 25 .
« وكان يقال لهاشم والمطلب : البدران لجمالهما » . الكامل لابن الأثير : 2 / 17 .
« وكان هاشم أول من سنَّ الرحلتين ، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن ، والى الحبشة فيكرمه النجاشي ، ويرحل في الصيف إلى الشام وبها مات ، وربما وصل إلى أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه . ومن خصال بني هاشم ما عبرعنها علي بن أبي طالب : خصصنا بخمس : فصاحة ، وصباحة ، وسماحة ، ونجدة ، وحظوة » . قبائل العرب لكحالة : 3 / 1207 ، في مصادره ابن خلدون : 2 / 328 والطبري : 5 / 23 و 9 / 48 .
وقد مَنَّ الله على قريش بفعل هاشم ( عليه السلام ) فقال : لإيلافِ قُرَيْشٍ . إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ .
لكن قريشاً لاتشكر نعم ربها ، ولذلك رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقرأ السورة فيقول : ويلُ أمكم قريش ، رحلةَ الشتاء والصيف ! في موضع : لإيلافِ قُريش » . تاريخ دمشق 23 / 228 ، الزوائد 7 / 143 ، كبير الطبراني 24 / 178 وأحمد 6 / 460 .
وأسس هاشم إطعام الحجيج : « إنما سمي هاشماً لهشمه الثريد للحاج ، وكانت
--------------------------- 78 ---------------------------
إليه الوفادة والرفادة ، وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي :
عمرو العلى هَشَم الثريد لقومه * ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عجافُ » .
« أصاب الناس سنة جدب شديد ، فخرج هاشم إلى الشام ، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام ، فاشترى دقيقاً وكعكاً ، وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر ، وجعله ثريداً وأطعم الناس حتى أشبعهم ، فسمى بذلك هاشماً ، وكان يقال له : أبو البطحاء وسيد البطحاء » . الطبري : 2 / 8 واليعقوبي : 1 / 245 .
وفي العدد القوية / 140 : « كان لهاشم خمسة بنين : عبد المطلب وأسد ونضلة وصيفي وأبوصيفي . وسُمِّيَ هاشماً لهشمه الثريد للناس في زمن المسغبة ، وكنيته أبو نضلة ، واسمه عمرو العلى . قال ابن الزِّبَعْرَى :
كانت قريشٌ بيضةً فتفلَّقَتْ * فالمخُّ خالصُها لعبد مُناف
الرايشون وليس يوجد رايشٌ * والقائلونَ هلمَّ للأضياف
والخالطونَ فقيرهم بغنيهم * حتى يكون فقيرهم كالكافي
عمرو العلى هشمَ الثريد لقومه * ورجالُ مكة مسنتون عجافِ

2 . أمية وهاشم يشبهان قابيل وهابيل

نصَّت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » على أن الله تعالى أمر آدم أن يوصي لابنه الأصغر هابيل « عليهما السلام » ، فأوصى له فحسده قابيل ، فتباهلا بالقربان فتقبل الله قربان هابيل دون قابيل ، فزاد حسد قابيل لأخيه حتى قتله !
ففي تفسير العياشي : 1 / 312 : « عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما ؟ فقال له : يا سليمان تقول هذا ! أما تستحيي أن تروى هذا على نبي الله آدم ! فقلت : جعلت فداك ففيمَ قتل قابيل هابيل ؟ فقال : في الوصية . ثم قال لي : يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل ، وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل فغضب فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية ! فأمرهما أن يقربا قرباناً
--------------------------- 79 ---------------------------
بوحيٍ من الله إليه ففعلا ، فقبل الله قربان هابيل ، فحسده قابيل فقتله !
فقلت : جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم ، هل كانت أنثى غير حواء ، وهل كان ذكر غير آدم ؟ فقال : يا سليمان إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل وكان بكر ولده ، ومن بعده هابيل ، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل ففعل ذلك آدم ، ورضي بها قابيل وقنع ، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء ، وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل ففعل ذلك .
فقُتل هابيل والحوراء حامل فولدت الحوراء غلاماً فسماه آدم هبة الله ، فأوحى الله إلى آدم أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم .
وولدت حواء غلاماً فسماه آدم شيث بن آدم ، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم أن يزوجها من شيث ابن آدم ، ففعل فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة ، فلما أدركت الجارية زوج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل فنسل آدم منهما . فمات هبة الله بن هابيل فأوحى الله إلى آدم أن ادفع الوصية واسم الله الأعظم ، وما أظهرتك عليه من علم النبوة ، وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم . فهذا حديثهم يا سليمان » .
أقول : إن حال هاشم وأخيه أمية شبيهة بحال قابيل وهابيل ، فقد اتفق المؤرخون على نُبل هاشم ( عليه السلام ) وتميزه ، وأن أباه عبد مناف أوصى له بمفتاح البيت ومواريث إسماعيل ( عليه السلام ) : « وكان مناف وصَّى إلى هاشم ، ودفع إليه مفتاح البيت وسقاية الحاج ، وقوس إسماعيل » . العدد القوية / 140 .
وقال الطبري : 2 / 13 : « ووليَ هاشم بعد أبيه عبد مناف ، السقاية والرفادة » . وروت المصادركلها أن أخاه أمية حسده وعاداه ، ودعاه إلى المنافرة ! ومعنى المنافرة أن يحتكم المتنافران إلى كاهن أو حكيم يقبلان بحكمه !
قال الطبري : 2 / 1 : « فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه ، فشمت به ناس من قريش ، فغضب
--------------------------- 80 ---------------------------
ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة ! فكره هاشم ذلك لسنه وقدره ، ولم تَدَعْهُ قريش وأحفظوه ، قال فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق ، تنحرها ببطن مكة ، والجلاء عن مكة عشر سنين . فرضي بذلك أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي ، فنفَّر هاشماً عليه « حكم لهاشم أنه أفضل » فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره ، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين ، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية . . وتوارث ذلك بنوهما » .
وروى الطبري : 2 / 13 ، أنهما تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة و « أن عبد شمس وهاشماً توأمان وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه ، فنحيت عنها فسال من ذلك دم ، فتطير من ذلك فقيل : تكون بينهما دماء » !
وروى ابن عساكر : 9 / 220 قصة المعمر اليماني مع معاوية : « قال معاوية : إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سن وقد رأى الناس ، يخبرنا عما رأى ، فقال بعض جلسائه : ذلك رجل بحضرموت ! فأرسل إليه فأتيَ به فقال له . . . فأخبرني هل رأيت هاشماً ؟ قال : نعم رأيته رجلاً طوالاً حسن الوجه ، بين عينيه غرة بركة . قال : فهل رأيت أمية ؟ قال : نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى ، يقال إن في وجهه لشراً أو شؤماً ! قال : فهل رأيت محمداً ؟ قال : من محمد ؟ قال : رسول الله ، قال : ويحك ألا فخَّمته كما فخمه الله فقلت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! قال : فأخبرني ما كانت صناعتك ؟ قال : كنت رجلاً تاجراً . قال : فما بلغت تجارتك ؟ قال : كنت لا أشتري عيباً ، ولا أرد ربحاً ! قال له : سلني ، قال : أسألك أن تدخلني الجنة » !
وقالوا : « مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة وذلك الثبت » . « معجم البلدان : 4 / 202 ، 3 / 40 » . وفي طبقات ابن سعد : 1 / 78 : « فاشتكى ، فأقاموا عليه حتى مات ، فدفنوه بغزة ، ورجعوا بتركته إلى وُلده » .
لكن الظاهر أن عمره « رحمه الله » كان في الستينات كما يشير قول الراوي : ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره . ويؤيد قولنا أنه أنشأ علاقات مع ملوك عصره ، وكانت له سفرات إلى الحبشة والشام واليمن ، ووصل إلى أنقرة فأكرمه قيصر .
--------------------------- 81 ---------------------------
والمرجح أن أعداءه سقوه السم لأنه أول رجل من أولاد إسماعيل ( عليه السلام ) كانت له زعامة مطلقة في العرب واحترام من ملوك عصره . وكان لحاسده أمية علاقات باليهود ، فقد يكون دبَّر سُمَّه على يد أصدقائه اليهود .
قال ابن قتيبة في المعارف / 319 : « كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين ، فوقع على أمَةٍ لِلَخْم يهودية من أهل صفورية يقال لها ترنا ، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي ، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستلحقه ، وكناه أبا عمرو ثم قدم به مكة ، فلذلك قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعقبة يوم أمر بقتله : إنما أنت يهودي من أهل صفورية » !
وفي رواية : « فقال عقبة : يا محمد ناشدتك بالله والرحم ! فقال له ( صلى الله عليه وآله ) : وهل أنت إلا علج من أهل صفورية ! لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له » .
وفي المنمق / 97 : « فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده ، فأولدها أبان ، وهو أبو معيط ! ويقال استحلق ذكوان أيضاً أبان » .
وروى ذلك ابن قتيبة في المعارف / 319 ، وقال : « ولَّاه عمر على صدقات بني تغلب . وولَّاه عثمان الكوفة ، بعد سعد بن أبي وقّاص ، فصلَّى بأهلها وهو سكران » ! راجع : الطبقات : 1 / 75 ، المنمق / 97 ، الطبري : 1 / 371 و 2 / 13 ، ابن الأثير : 2 / 16 ، النزاع والتخاصم / 49 ، إمتاع الأسماع : 10 / 6 ، سبل الهدى : 1 / 271 ، السيرة الحلبية : 1 / 7 ، المنتظم : 2 / 212 ، أعلام النبوة / 251 ، نهاية الإرب / 3253 ، أنساب الأشراف / 39 ، معجم ما استعجم : 3 / 837 ، العدد القوية / 140 وشيخ المضيرة / 159 .

3 . عبد المطلب عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء ( ( عليهم السلام ) )

تشهد سيرة آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) خاصةً عبد المطلب وأبي طالب ، بأنهم من كبار المؤمنين ، وأنهم الخط الوارث لإبراهيم وإسماعيل « عليهم السلام » ، فلم يعبدوا الأصنام ، بل كانوا يفتخرون بأنهم على ملة أبيهم إبراهيم وإسماعيل .
وقد ميزهم الله تعالى حتى في شكلهم فورَّثهم جمال إبراهيم ( عليه السلام ) ! ولما رأى
--------------------------- 82 ---------------------------
أبرهة عبد المطلب : « فجعل ينظر في وجهه ، فراقه حسنه وجماله وهيئته فقال له : هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال ؟ قال : نعم أيها الملك ، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء . فقال له أبرهة : لقد فقتم الملوك فخراً وشرفاً ، ويحق لك أن تكون سيد قومك . ثم أجلسه معه على سريره » . أمالي الطوسي / 80 .
وفي أمالي الطوسي / 682 : « سرير أبرهة لما دخل عليه عبد المطلب ، انحنى ومال » !
« أول من خضب بالسواد من العرب . وكان أبيض مديد القامة » . الأعلام : 4 / 154 .

4 . ورَّث عبد المطلب بهاءه إلى أولاده !

قال اليعقوبي : 2 / 11 : « كان لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد . وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال : رجال كأنهم جمالٌ جون « دُهْم » فقال : بهؤلاء تُمنع مكة !
وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة ، يلحفون الأرض بحبراتهم « جببهم الطويلة » ! فقال : يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء ، هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال » .
وفي المنمق / 34 : « لم يكن في العرب عدة بني عبد المطلب أشرف منهم ولا أجسم ليس منهم رجل إلا أشم العرنين ، يشرب أنفه قبل شفتيه ، ويأكل الجذع ويشرب الفرق » . « يأكل الخروف الصغير ، ويشرب سطل المخيض » .

5 . آيات عبد المطلب ( ( ع ) ) في زمزم

ظهر ماء زمزم لهاجر وإسماعيل « عليهما السلام » بمعجزة ، وكان نبعاً صغيراً ، ثم كثر الواردون عليه ، فشكى إسماعيل لأبيه « عليهما السلام » قلة الماء فأمره الله أن يحفر بئراً فحفره ، ونزل جبرئيل ( عليه السلام ) وأمره أن يسمي ويضرب في زوايا البئر الأربعة ، فضرب إبراهيم فانفجرت أربع عيون فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : « إشرب يا إبراهيم وادع لولدك فيها بالبركة ، وخرج إبراهيم وجبرئيل « عليهما السلام » جميعاً من البئر فقال له : أفض عليك يا إبراهيم وطف حول البيت ، فهذه سقيا سقاها الله ولد إسماعيل » . الكافي : 4 / 204 .
--------------------------- 83 ---------------------------
فزمزم سُقْيَا الله تعالى لبني إسماعيل ( عليه السلام ) خاصة ومنهم تصل إلى الناس .
وبعد قرون غاض ماء زمزم ، حتى أعاده الله تعالى على يد عبد المطلب ( عليه السلام ) ، فحسده زعماء قريش وأرادوا أن يأخذوه منه ! وأجبروه على الاحتكام إلى كاهنة في مشارف الشام فذهب معهم ، وفي الطريق نفد ماؤهم فأظهر الله له آية ونبع الماء من تحت خف ناقته ، فسلموا له لكن موقتاً ، كما سلم اليهود لمريم « عليها السلام » موقتاً !
قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 220 : « وأخرج الأزرقي والبيهقي في الدلائل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال إحفر طيبة . . . فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا : يا عبد المطلب إنها بئر إسماعيل ، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك فيها ، فقال : ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم . قالوا : فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك . قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم . قالوا : كاهنة من سعد هذيل . قال : نعم ، وكانت بأشراف الشام فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف ، وركب من كل ركب من قريش نفر ، والأرض إذ ذاك مفاوز ، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز ، بين الحجاز والشام فنيَ ماء عبد المطلب وأصحابه ، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة ، فاستسقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا : إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسنا مثل ما أصابكم ، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال : ماذا ترون ؟ قالوا : ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت . قال : فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه لما بكم الآن من القوة ، وكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه ، حتى يكون آخركم رجلاً ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً ! قالوا : سمعنا ما أردت . فقام كل رجل منهم يحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً ، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه : والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز ، ما نبتغي لأنفسنا حيلة ! عسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ، إرحلوا فارتحلوا حتى فرغوا ومن معهم من قريش ينظرون إليهم
--------------------------- 84 ---------------------------
وما هم فاعلون ، فقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها ، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب ! فكبَّرعبد المطلب وكبَّر أصحابه ثم نزل فشرب وشربوا واستقوا حتى ملؤوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل التي معه من قريش فقال : هلمَّ الماء ، قد سقانا الله تعالى ، فاشربوا واستقوا ! فقالت : القبائل التي نازعته : قد والله قضى الله لك يا عبد المطلب علينا ! والله لا نخاصمك في زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً ! فرجع ورجعوا معه ، ولم يمضوا إلى الكاهنة ، وخلوا بينه وبين زمزم » . روته عامة المصادر ، مثل ابن سعد : 1 / 83 ، اليعقوبي : 1 / 248 ، ابن إسحاق : 1 / 5 ، ابن هشام : 1 / 94 ، ابن كثير : 1 / 169 ، الحلبية : 1 / 55 وابن الأثير : 2 / 13 .
وقوله : فكبَّرعبد المطلب وكبَّر أصحابه . قد يكون بمعنى هتفوا تعجباً كالتكبير ، وقد يكون التكبير موجوداً من حنيفية إبراهيم ( عليه السلام ) فأظهره الإسلام .

6 . رؤيا عبد المطلب كرؤيا أشعيا النبي « عليهما السلام »

في الكافي : 4 / 219 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان في الكعبة غزالان من ذهب وخمسة أسياف ، فلما غَلبت خزاعةُ جِرْهَمَ على الحرم ألقت جرهمُ الأسياف والغزالين في بئر زمزم ، وألقوا فيها الحجارة وطموها وعَمَّوْا أثرها ، فلما غلب قصي على خزاعة لم يعرفوا موضع زمزم ، وعميَ عليهم موضعها ، فلما غلب عبد المطلب ( عليه السلام ) وكان يفرش له في فناء الكعبة ولم يكن يفرش لأحد هناك غيره ، فبينما هو نائم في ظل الكعبة فرأى في منامه أتاه آتٍ فقال له : إحفر بَرَّة ، قال : وما برة ؟ ثم أتاه في اليوم الثاني فقال : إحفر طيبة ، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال : إحفر المصونة ، قال : وما المصونة ؟ ثم أتاه في اليوم الرابع فقال : إحفر زمزم لا تُنزح ولا تُذم ، سَقْيُ الحجيج الأعظم ، عند الغراب الأعصم ، عند قرية النمل .
وكان عند زمزم حِجْرٌ يخرج منه النمل فيقع عليه الغراب الأعصم في كل يوم يلتقط النمل ، فلما رأى عبد المطلب هذا عرف موضع زمزم ، فقال لقريش : إني أمرت في أربع ليال في حفر زمزم ، وهي مأثرتنا وعزنا فهلموا نحفرها ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، فأقبل
--------------------------- 85 ---------------------------
يحفرها هو بنفسه ، وكان له ابن واحد وهو الحارث وكان يعينه على الحفر ، فلما صعب ذلك عليه تقدم إلى باب الكعبة ثم رفع يديه ودعا الله عز وجل ونذر له إن رزقه عشر بنين أن ينحر أحبهم إليه تقرباً إلى الله عز وجل ، فلما حفر وبلغ الطويَّ طويَّ إسماعيل ، وعلم أنه قد وقع على الماء ، كبَّر وكبرت قريش وقالوا : يا أبا الحارث هذه مأثرتنا ولنا فيها نصيب ، قال لهم : لم تعينوني على حفرها ، هي لي ولولدي إلى آخر الأبد » . ونحوه ابن إسحاق : 1 / 3 ، ابن هشام : 1 / 92 .
وفي الكافي : 4 / 220 عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « لما احتفر عبد المطلب زمزم وانتهى إلى قعرها ، خرجت عليه من إحدى جوانب البئر رائحة منتنة أفظعته ، فأبى أن ينثني ، وخرج ابنه الحارث عنه ، ثم حفر حتى أمعن فوجد في قعرها عيناً تخرج عليه برائحة المسك .
رؤيا عبد المطلب وهو في داخل زمزم :
ثم احتفر فلم يحفر إلا ذراعاً ، حتى تجلاه النوم فرأى رجلاً طويل الباع ، حسن الشعر ، جميل الوجه ، جيد الثوب ، طيب الرائحة ، وهو يقول : إحفر تغنم ، وجُدَّ تسلم ، ولا تدخرها للمقسم ، الأسياف لغيرك ، والبئر لك ، أنت أعظم العرب قدراً ، ومنك يخرج نبيها ووليها ، والأسباط النجباء الحكماء العلماء البصراء ، والسيوف لهم ، وليسوا اليوم منك ولا لك ، ولكن في القرن الثاني منك . بهم ينير الله الأرض ، ويخرج الشياطين من أقطارها ، ويذلها في عزها ويهلكها بعد قوتها ، ويذل الأوثان ، ويقتل عُبَّادها حيث كانوا ، ثم يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره ودونه في السن . . لا يعصيه حرفاً ، ولا يكتمه شيئاً ويشاوره في كل أمر هجم عليه .
وجد عبد المطلب أسيافاً بجنبه :
واستعيا عنها عبد المطلب « عن الحفر » فوجد ثلاثة عشر سيفاً مسندة إلى جنبه ، فأخذها وأراد أن يثب فقال : وكيف ولم أبلغ الماء ! ثم حفر فلم يحفر شبراً حتى بداله قرن الغزال ورأسه فاستخرجه ، وفيه طُبع : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله
--------------------------- 86 ---------------------------
علي ولي الله ، فلان خليفة الله « المهدي ( عليه السلام ) » .
فسأل الراوي الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : فلان متى كان قبله أو بعده ؟ قال : لم يجئ بعد ولا جاء شئ من أشراطه . فخرج عبد المطلب وقد استخرج الماء وأدرك وهو يصعد ، فإذا أسود له ذنب طويل يسبقه بِداراً إلى فوق ، فضربه فقطع أكثر ذنبه ثم طلبه ففاته ، وفلانٌ « المهدي ( عليه السلام ) » قاتله إن شاء الله .
تكملة الرؤيا في حجر الكعبة :
و [ كان ] من رأي عبد المطلب ( عليه السلام ) أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر ، ويضرب السيوف صفائح البيت ، فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة ، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول : يا شيبة الحمد أحمد ربك ، فإنه سيجعلك لسان الأرض وتتبعك قريش خوفاً ورهبة وطمعاً ، ضع السيوف في مواضعها .
ثم جاءه في منامه :
واستيقظ عبد المطلب فأجابه « الملاك » إنه يأتيني في النوم فإن يكن من ربي فهو أحب إليَّ ، وإن يكن من شيطان فأظنه مقطوع الذنب ، فلم ير شيئاً ولم يسمع كلاماً . فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان فقالوا له : نحن أتباع وَلدك ، ونحن من سكان السماء السادسة . السيوف ليست لك : تزوج في مخزوم تَقْوَ ، واضرب بعدُ في بطون العرب ، فإن لم يكن معك مال فلك حسب ، فادفع هذه الثلاثة عشرسيفاً إلى وُلْدِ المخزومية ولا يَبان لك أكثر من هذا ، وسيف لك منها واحد ، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً ، إلا أن يستجنه جبل كذا وكذا ، فيكون من أشراط قائم آل محمد .
فانتبه عبد المطلب وانطلق والسيوف على رقبته ، فأتى ناحية من نواحي مكة ، ففقد منها سيفاً كان أرقَّها عنده ، فيظهر من ثَمَّ .
ثم دخل معتمراً وطاف بها على رقبته والغزالين ، أحداً وعشرين طوافاً ، وقريش تنظر إليه وهو يقول : اللهم صدق وعدك فأثبت لي قولي ، وانشر ذكري وشد عضدي ، وكان هذا ترداد كلامه ، وما طاف حول البيت بعد رؤياه في البئر ببيت شعر حتى مات . ولكن قد ارتجز على بنيه يوم أراد نحر عبد الله ، فدفع الأسياف جميعها إلى بني
--------------------------- 87 ---------------------------
المخزومية إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبد الله ، فصارلأبي طالب من ذلك أربعة أسياف : سيف لأبي طالب ، وسيف لعلي ، وسيف لجعفر ، وسيف لطالب ، وكان للزبير سيفان ، وكان لعبد الله سيفان ، ثم عادت فصارت لعلي الأربعة الباقية : اثنين من فاطمة واثنين من أولادها ، فطاح سيف جعفر يوم أصيب فلم يُدْرَ في يد من وقع حتى الساعة . ونحن نقول : لا يقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا ، إلا صار فحماً .
قال : وإن منها لواحداً في ناحية يخرج كما تخرج الحية فيبين منه ذراع وما يشبهه فتبرق له الأرض مراراً ، ثم يغيب ، فإذا كان الليل فعل مثل ذلك ، فهذا دأبه حتى يجيئ صاحبه ، ولو شئت أن أسمي مكانه لسميته ، ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه ، فينسب إلى غير ما هو عليه » .

7 . شرح رؤيا عبد المطلب

قوله : وانتهى إلى قعرها : يدل على أن حفرها القديم كان معلوماً وقعرها واسعاً .
وخرج ابنه الحارث عنه : أي لم يتحمل الرائحة الكريهة ، فكأن الله أراد أن يبقى عبد المطلب وحده ، ليخصه بآياته . حتى تجلاه النوم : بعدما وجد عيناً برائحة المسك .
فرأى رجلاً طويل الباع : هو الملاك الذي رآه بعدها في حجر الكعبة ، وكأنه لا يأتي إلا في النوم : فأتاه الله بالنوم فغشيه وهو في حجر الكعبة ، فرأى ذلك الرجل بعينه .
ومنك يخرج نبيها ووليها والأسباط النجباء . . : هذه بشار ة لعبد المطلب
رضي الله عنه بالنبي والأئمة من ذريته ( صلى الله عليه وآله ) وقد سماه له محمداً ( صلى الله عليه وآله ) .
ومعنى : ليسوا اليوم منك ، أنهم ليسوا نفس أولادك الموجودين ، ولا أنهم يولدون لك مباشرة ، بل هم من ذريتك في القرن الثاني .
والسيوف لهم : رمز القوة والنصرة والتأييد الإلهي . وعددها ثلاثة عشر ، وهي رمز لأسهم هؤلاء من نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وسيف طالب يدل على إيمانه رضي الله
--------------------------- 88 ---------------------------
عنه ونصرته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وليس فيها سيف لعقيل « رحمه الله » .
يبقى بعده نسل من نسلك هو أخوه ووزيره : هذه بشارة له بولده علي ( عليه السلام ) .
واستعيا عنها : أي تعب فأراد ترك الحفر ، لكنه عاود الحفر فوجد غزال الذهب . وفيه طُبع : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي ولي الله ، فلان خليفة الله : هذه بشارة له بالنبي بإسمه ( صلى الله عليه وآله ) وعلي باسمه ( عليه السلام ) ، والمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً باسمه ( عليه السلام ) . وهو يدل على أن عبد المطلب سماه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بإلهام ربه عز وجل .
فإذا أسود له ذنب طويل : كانت زمزم واسعة ومنحدرها متدرج ، تشبه عين المغراس في المدينة ، وقد نزلت إليها في درج . ورأى عبد المطلب وهو صاعد منها ثعباناً أسود فضربه فقطع أكثر ذنبه ولم يُقتل ، وهو يرمز إلى أعداء أولاده « عليهم السلام » .
وقوله : وفلانٌ « المهدي ( عليه السلام ) » قاتله إن شاء الله : يظهر أنه من كلام الإمام الكاظم ( عليه السلام ) .
أن يبطل الرؤيا التي رآها في البئر : أراد عبد المطلب أن لا يعمل برؤياه ، وأن يستعمل السيوف في صنع باب الكعبة .
فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان : أي أتاه نفس الرجل ومعه جماعة ، وهم ملائكة ، ومعنى أنهم من السماء السادسة ، ومن أتباع النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنهم أنصار خاصون له سيأتون في المستقبل لنصرته ( صلى الله عليه وآله ) .
فقالوا له : تزوج في مخزوم تَقْوَ : أي تكلم هؤلاء الملائكة من أتباع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمروه أن يتزوج فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، أم عبد الله والد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأم شقيقيه أبي طالب والزبير ، وهذا يدل على مكانتها عند الله تعالى .
واضرب بعد في بطون العرب : أي تزوج غيرها أيضاً من قبائل العرب الأخرى .
فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية : وهي سهمهم من نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وسيف لك منها واحد ، سيقع من يدك فلا تجد له أثراً : هو سيف المهدي ( عليه السلام ) وكان أرق السيوف ، أي أمضاها ، وقد أمروه أن يحمل الأسياف ويخرج من مكة ، ففقد السيف في ناحية من مكة . وكأن خروج عبد المطلب من مكة رمز لهجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وفقدانه السيف ليجنه الجبل ويحفظه للمهدي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 89 ---------------------------
فيظهر من ثَمَّ : أي يظهر السيف من هناك لنصرة المهدي ( عليه السلام ) عند خروجه فيأخذه ، وهو رمز قوته التي يعطيه إياها الله تعالى ، وهو نفسه السيف الذي يخرج في جبل في مكة ويلمع ، ثم يغيب حتى يظهر صاحبه المهدي ( عليه السلام ) ، وقد ورد في علامة المهدي ( عليه السلام ) : « وخرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فقلت : ما تراث رسول الله ؟ قال : سيف رسول الله ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولأمته وسرجه ، حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمده ، ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة ويتناول القضيب بيده ، ويستأذن الله في ظهوره » . الكافي : 8 / 224 .
ولكن أخاف عليكم من أن أسميه فتسموه ، فينسب إلى غير ما هو عليه : أي أخاف أسمي الذي عنده السيف الآن ، وهو الإمام الكاظم ( عليه السلام ) نفسه ، لئلا يقال ذلك ، فيتصور السلطان أنه يريد الخروج عليه .
لا يقع سيف من أسيافنا في يد غيرنا إلا رجل يعين به معنا إلا صار فحماً : هذا يؤكد أن السيوف بمعنى نصرتهم « عليهم السلام » وفي كل واحد منها سر ، فإذا وقع في يد مخالف لهم ، بطل سره وتحول إلى فحم .
أقول : هذه الآيات والكرامات ، وهذه الرؤيا ، كافية لأن يعتقد المنصف بأن عبد المطلب ( عليه السلام ) من كبار الأولياء . لكن حسد قريش منعهم من الإقرار !
وفي الكافي : 1 / 447 قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « يبعث عبد المطلب أمة وحده ، عليه بهاء الملوك ، وسيماء الأنبياء « عليهم السلام » ، وذلك أنه أول من قال بالبداء » .
ومعناه أنه على درجة عالية من الإيمان والتسليم المطلق لله تعالى فيما يفعله حتى لو كان بخلاف توقعنا . فقد أنبأه الله أنه سيدفع جيش أبرهة ، فأخبر أهل مكة وأبرهة بذلك ، وفي نفس الوقت دعا ربه أن يدفع عن بيته ، ثم خاطبه قائلاً :
إن كنت تاركهم وقب‍ - - لتنا فأمرٌ ما بدا لك
أي إني مسلِّمٌ لأمرك ومؤمن بك ، حتى لو لم تفعل ما أخبرتني به !
--------------------------- 90 ---------------------------

8 . آية عبد المطلب مع ثقيف

روى المؤرخون جميعاً أنه كان لعبد المطلب بئر في الطائف يسمى ذا الهرم ، حفره بعد زمزم ، وكان مع بستانه بيد ثقيف ، فأخذوه وأنكروه ، ونافروه إلى سطيح الكاهن ، فظهرت له آية في الطريق كما ظهرت في مخاصمة قريش له في زمزم .
قال اليعقوبي : 1 / 248 : « وكان عبد المطلب لما حفر زمزم صار إلى الطائف فاحتفر بها بئراً يقال لها ذو الهرم ، فكان يأتي أحياناً فيقيم بذلك الماء ، فأتى مرة فوجد به حيين من قيس عيلان ، وهم بنو كلاب وبنو الرباب ، فقال عبد المطلب : الماء مائي وأنا أحق به ، وقال القيسيون : الماء ماؤنا ونحن أحق به . قال : فإني أنافركم إلى من شئتم يحكم بيني وبينكم ، فنافروه إلى سطيح الغساني ، وكان كاهن العرب يتنافرون إليه ، فتعاهد القوم وتعاقدوا على أن سطيحاً إن قضى بالماء لعبد المطلب فعلى كلاب وبني الرباب مائة من الإبل لعبد المطلب ، وعشرون لسطيح ، وإن قضى سطيح بالماء للحيين ، فعلى عبد المطلب مائة من الإبل للقوم وعشرون لسطيح ، فانطلقوا وانطلق عبد المطلب بعشرة نفر من قريش فيهم حرب بن أمية فجعل عبد المطلب لا ينزل منزلاً إلا نحر جزوراً وأطعم الناس ، فقال القيسيون : إن هذا الرجل عظيم الشأن جليل القدر شريف الفعل ، وإنا نخشى أن يطمع حاكمنا بهذا فيقضي له بالماء ، فانظروا لا نرضى بقول سطيح حتى نخبئ له خبأ ، فإن أخبرنا ما هو رضينا بحكمه وإلا لم نرض به . فبينا عبد المطلب في بعض الطريق إذ فني ماؤه وماء أصحابه ، فاستسقى القيسيين من فضل مائهم فأبوا أن يسقوهم ، وقالوا : أنتم الذين تخاصموننا وتنازعوننا في مائنا ، والله لا نسقيكم ! فقال عبد المطلب : أيهلك عشرة من قريش وأنا حي ! لأطلبن لهم الماء حتى ينقطع خيط عنقي وأُبلي عذراً ، فركب راحلته وأخذ الفلاة فبينا هو فيها ، إذ بركت راحلته وبصر به القوم ، فقالوا : هلك عبد المطلب ! فقال القرشيون : كلا والله لهو أكرم على الله من أن يهلكه وإنما مضى لصلة الرحم ، فانتهوا إليه وراحلته تفحص بكركرتها على ماء عذب رويٍّ ، قد ساح على ظهر الأرض ، فلما رأى القيسيون ذلك أهرقوا أسقيتهم ، وأقبلوا نحوهم ليأخذوا من الماء ، فقال القرشيون : كلا والله ،
--------------------------- 91 ---------------------------
ألستم الذين منعتمونا فضل ماءكم ؟ فقال عبد المطلب : خلوا القوم ، فإن الماء لا يمنع ! فقال القيسيون : هذا رجل شريف سيد ، وقد خشينا أن يقضى له علينا ، فلما وصلوا إلى سطيح قالوا : إنا قد خبأنا لك خبأ ، وأخذ إنسان منهم تمرة في يده فقال : فأخبرنا ما هو ؟ فقال : خبأتم لي ما طال فسمك ، ثم أينع فما هلك ، ألق التمرة من يدك . . قالوا : إقض بيننا ! قال : قد قضيت . اختصمتم أنتم وعبد المطلب في ماء بالطائف يقال له ذو الهرم ، فالماء ماء عبد المطلب ، ولا حق لكم فيه ، فأدوا إلى عبد المطلب مائة من الإبل وإلى سطيح عشرين ، ففعلوا .
وانطلق عبد المطلب ينحر ويطعم ، حتى دخل مكة ، فنادى مناديه : يا معشر أهل مكة إن عبد المطلب يسألكم بالرحم ، لما قام كل رجل منكم حدثته نفسه أن يغنيني عن هذا الغرم ، فأخذ مثل ما حدثته نفسه . فقاموا وأخذوا من بعير واثنين وثلاثة على قدر ما حدثت كل امرئ منهم نفسه ، وفضلت بعد ذلك جزائر ، فقال عبد المطلب لابنه أبي طالب : أي بني ! قد أطعمت الناس ، فانطلق بهذه الجزائر ، فانحرها على أبي قبيس ، حتى يأكلها الطير والسباع ، ففعل أبو طالب ذلك ، فأصابها الطير والسباع . قال أبو طالب :
ونطعم حتى يأكل الطير فضلنا * إذا جعلت أيدي المفيضين تَرْعُدُ » .
ورواه البلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 74 ، الميداني في مجمع الأمثال : 1 / 47 ، الحموي في معجم البلدان : 5 / 403 ، ابن حبيب في المنمق / 94 وابن سعد في الطبقات : 1 / 87 .

9 . آيات عبد المطلب ( ( ع ) ) في غزو أبرهة للكعبة

كعبة نجران بدل الكعبة
بنى نصارى نجران كنيسة ودعوا العرب إلى حجها . ففي معجم البلدان : 5 / 268 : « كعبة نجران هذه ، يقال بِيعَة بناها بنو عبد الملك بن الديان الحارثي على بناء الكعبة ، وعظموها مضاهاة للكعبة ، وسموها كعبة نجران ، وكان فيها أساقفة مقيمون ، وهم الذين جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ودعاهم إلى المباهلة » .
« كان لآل عبد المدان بن الديان سادة بني الحارث بن كعب ، وكان بناؤه مربعاً
--------------------------- 92 ---------------------------
مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعاً من الأرض ، يُصعد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة ، فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب ، ممن يحل الأشهر الحرم ، ولا يحجون الكعبة ، وتحجه خثعم قاطبة .
وكان أهل ثلاثة بيوتات يتبارون في البِيَع وزَيِّها : آل المنذر بالحيرة ، وغسان بالشام ، وبنو الحارث بن كعب بنجران ، ويعتمدون ببنائها المواضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه ، وكانوا يجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب . وكان على ذلك بنو الحارث إلى أن أتى الله بالإسلام ، فجاء النبيَّ ( صلى الله عليه وآله ) منهم العاقب والسيد وغيرهما للمباهلة ، فاستعفوا منها » . معجم ما استعجم : 2 / 603 .
وبنو عبد المدان كانوا حكام نجران وقساوستها ، وكانوا يهوداً فتنصروا .
كعبة صنعاء بدل الكعبة
وبنى أبرهة حاكم اليمن كعبةً بصنعاء ودعا الناس للحج إليها ، ثم قصد بجيشه الكعبة ليهدمها ! قال تعالى : ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ . !
قال في معجم البلدان : 3 / 427 و 494 : « بنى أبرهة بصنعاء القُلِّيْس وأخذ الناسَ بالحج إليه ، وبناه بناء عجيباً . . مدينة لم يَرَ الناس أحسن منها ، ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء ، وألوان الأصباغ ، وصنوف الجواهر ، وجعل فيها خشباً له رؤوس كرؤوس الناس ، ولكَّكَهَا بأنواع الأصباغ ، وجعل لخارج القبة بُرنساً ، فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها ، حتى تكاد تلمع البصر .
الصنعاني قال : رأيت مكتوباً على باب القُلَّيس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسْند : بنيتُ هذا لك من مالك ليذكر فيه اسمك ، وأنا عبدك .
ولما استتم أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب .
قال عبد الرحمن بن محمد : سميت القُلَّيس لارتفاع بنيانها وعلوها ، ومنه القلانس
--------------------------- 93 ---------------------------
لأنها في أعلى الرؤوس . . وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعاً من السخر ، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب ، من قصر بلقيس صاحبة سليمان ( عليه السلام ) ، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم ، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها ، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة ، ومنابر من العاج والآبنوس .
فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والآلات من الذهب والفضة ذات القيمة الوافرة والقناطير من المال ، لا يستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً ، إلى زمان
أبي العباس السفاح ، فذكر له أمرها فبعث إليها خاله الربيع بن زياد الحارثي عامله على اليمن ، وأصحبه رجالاً من أهل الحزم والجلَد ، حتى استخرج ما كان فيها من الآلات والأموال ، وخربها حتى عفى رسمها وانقطع خبرها ، وكان الذي يصيب من يريدها من الجن منسوباً إلى كَعِيتْ وامرأته ، صنمان كانا بتلك الكنيسة بنيت عليهما ! فلما كُسر كَعِيت وامرأته أصيب الذي كسرهما بجذام ، فافتتن بذلك رعاع اليمن وقالوا : أصابه كعيت » !
أقول : لعل قصر بلقيس كان في غير مأرب ، لأنهم قالوا إنه على بعد فراسخ من صنعاء أي قليلة ، ومأرب على فراسخ كثيرة ، كما يدل النص على طمع الدوانيقي وحرصه على جمع المال ، ولهذا سمي أبا الدوانيق .
وقد ذكروا أن رجلاً من العرب دخل كعبة أبرهة وأحدث فيها ، فغضب أبرهة وحلف أن يهدمَ الكعبة في مكة وخرج بجيشه إليها ، ولا يبعد أن تكون القصة مكذوبة من أبرهة لتبررغزوه للكعبة ليهدمها ويجبر العرب على حج قُلَّيْسِه ! راجع عن كعبة صنعاء : تاريخ الطبري : 1 / 550 ، تفسيره : 30 / 386 وابن خلدون : 2 ق : 1 / 61 .

10 . عبد المطلب وأصحاب الفيل

في الكافي : 4 / 216 عن هشام بن سالم ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما أقبل
--------------------------- 94 ---------------------------
صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة ، مروا بإبل لعبد المطلب فاستاقوها ، فتوجه عبد المطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه ، فاستأذن عليه فأذن له وقيل له : إن هذا شريف قريش أو عظيم قريش ، وهو رجل له عقل ومروة ، فأكرمه وأدناه ، ثم قال لترجمانه : سله ما حاجتك ؟ فقال له : إن أصحابك مروا بإبل لي فاستاقوها فأحببت أن تردها عليَّ ، قال : فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال : هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله ، يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي يعبده ! أما لو سألني أن أنصرف عن هَدِّه لانصرفت له عنه ! فأخبره الترجمان بمقالة الملك فقال له عبد المطلب : إن لذلك البيت رباً يمنعه ، وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها ،
فأمر بردها عليه .
ومضى عبد المطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم ، فقال له : محمود ! فحرك رأسه فقال له : أتدري لما جئ بك ؟ فقال برأسه : لا ، فقال : جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتفعل ؟ فقال برأسه : لا . قال : فانصرف عنه عبد المطلب .
وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم ، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع ، فأداروا به نواحي الحرم كلها ، كل ذلك يمتنع عليهم فلم يدخل ! وبعث الله عليهم الطيركالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها ، فكانت تحاذي برأس الرجل ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره ، حتى لم يبق منه أحد إلا رجل هرب ! فجعل يحدث الناس بما رأى إذا طلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال : هذا الطير منها ، وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها عليه فخرجت من دبره فمات » !
وفي الطبقات : 1 / 92 والطبري : 1 / 557 : « فأمر برد إبله عليه ، فلما قبضها قلدها النعال وأشعرها وجعلها هدياً وبثها في الحرم ، لكي يصاب منها شئ فيغضب رب الحرم ! وأوفى عبد المطلب على حراء ، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومطعم بن عدي ، وأبو مسعود الثقفي ، فقال عبد المطلب :
لاهُمَّ إن المرءَ يمنعُ * رحله فامنع حلالك
لا يغلبنَّ صليبهم * ومحالهم عدواً محالك
--------------------------- 95 ---------------------------
ونزل عبد المطلب من حراء ، فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له : أنت كنت أعلم » .
وفي كنز الفوائد / 81 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما ظهرت الحبشة باليمن وجَّه يكسوم ملك الحبشة بقائدين من قواده ، يقال لأحدهما أبرهة والآخر أرباط في عشرة من الفيلة كل فيل في عشرة آلاف ، لهدم بيت الله الحرام ، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم واختلفوا ، فقتل أبرهة أرباط واستولى على الحبش ، فلما قارب مكة طرد أصحابه عيراً لعبد المطلب بن هاشم ، فصار عبد المطلب إلى أبرهة ، وكان ترجمان أبرهة والمستولي عليه ابن داية لعبد المطلب ، فقال الترجمان لأبرهة : هذا سيد العرب وديَّانها فأجلَّه وأعظمه ، ثم قال لكاتبه : سله ما حاجته ؟ فسأله فقال : إن أصحاب الملك طردوا لي نعماً ! فأمر بردها ثم أقبل على الترجمان فقال : قل له عجباً لقوم سودوك ورأسوك عليهم حيث تسألني في عير لك ، وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك ، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت ! فقال : أيها الملك إن هذه العير لي وأنا ربها فسألتك إطلاقها ، وإن لهذه البَنِيَّة رباً يدفع عنها ! قال : فإني غاد لهدمها حتى أنظر ماذا يفعل ! فلما انصرف عبد المطلب حلَّ أبرهة بجيشه ، فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر : يا أهل مكة أتاكم أهل عكة بجحفل جرار يملأ الأندار ملء الجفار ، فعليهم لعنة الجبار ! فأنشأ عبد المطلب :
أيها الداعي لقد أسمعتني * كلَّمَا قُلْتَ وما بي من صَمَمْ
إن للبيت لرباً مانعاً * من يُرده بأثامٍ يصطلم
رامهُ تُبَّعُ في أجناده * حميرٌ والحيُّ من آل إرم
هلكت بالبغي فيه جرهمٌ * بعد طَسْمٍ وجَديسٍ وجُثَمْ
وكذاك الأمر فيمن كاده * ليس أمر الله بالأمر الأَمَم
نحن آلُ الله فيما قد خلا * لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
--------------------------- 96 ---------------------------
لم يزل لله فينا حجةٌ * يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينا شيمة * صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنا في كل دور كرة * نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدور إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته * فيه تبيان أحاديث الأمم
فلما أصبح عبد المطلب جمع بنيه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال : أنظر يا بني ماذا يأتيك من قبل البحر ؟ فرجع فلم ير شيئاً ، فأرسل واحداً بعد آخر من ولده ، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر . فدعا ولده عبد الله وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه ، فقال له : إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر ؟ فنزل مسرعاً فقال :
يا سيد النادي ، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً ، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى ! إن قلت غيماً قلته ، وإن قلت جهاماً خلته ، يرتفع تارةً ، وينحدر أخرى !
فنادى عبد المطلب : يا معشر قريش ، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده ، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر وفي رجليه حجران ، فكان الطائرالواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة ! كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره ! وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ » .
أقول : هذه الفقرة الوحيدة التي وصلت الينا من كلام عبد الله والد نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي تدل على أدبه وبلاغته سلام الله عليه ، فخطابه لأبيه عبد المطلب مميز بتعبيره واحترامه ، ثم وصف سرب طيور الأبابيل بأنها سحاب ، قد يكون غيماً فيه مطر ، أو جهاماً أي غيماً أفرغ مطره . العين : 3 / 397 .
ثم وصف سربها بأنه يسفل ثم يرتفع ، ثم وصفه بأنه يرتفع ثم ينحدر ، وهذا من أبلغ الوصف . وقد فهم عليه أبوه « عليهما السلام » ، وعرف أنها الطيور الموعودة له من ربه ، في منامه أو بهاتف من الملائكة هاتفه ، سلام الله عليهم .
--------------------------- 97 ---------------------------
وقالوا إنها أشبه بطائر السنونو ، قد تكون ملائكة عذاب على شكل طيور .
هذا ، وقد روى في البحار : 62 / 233 هلاك أبرهة فقال : « وأصيب أبرهة حتى تساقط أُنملةً أنملة ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ! حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزيره وطائرٌ يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي ، فقص عليه القصة ، فلما انتهى وقع عليه الحجر ، فخرَّ ميتاً بإذن الله بين يديه » !
ومعناه أن وزير أبرهة ذهب إلى أثيوبيا ليخبر النجاشي ، فتبعه طائر الأبابيل وصبر عليه حتى أكمل القصة للمك ، فرماه بالقنبلة الربانية ، وهي
حجر السِّجِّيل !

11 . تعاظم حسد قريش لعبد المطلب ( ( ع ) )

لما ظهرت آية الأبابيل بجيش أبرهة ، سطع اسم الكعبة وعبد المطلب في بلاد العرب وخارجها ، وتوافد العرب إلى الحج أكثر من السابق ، معتزين بحجهم إلى الكعبة ، متبركين بوارث إبراهيم ولي الله عبد المطلب « عليهما السلام » ، وتولى سقايتهم من زمزم التي وهبها له الله ، وضيافتهم بثريد أبيه هاشم المشهور . وصار عبد المطلب سيد العرب بلا منازع ، فزاد الحسد في صدور زعماء قريش !
وبعد سنتين من هلاك أبرهة حكم اليمن ابنه مسروق ، وبعد سنتين من حكمه نجح سيف بن ذي يزن باستقدام كتيبة من كسرى ، وقاتل مسروق بن أبرهة فقتله ، ودخل صنعاء فاتحاً ، وتَوَّجَ الجيش الفارسي ابن ذي يزن ملكاً على اليمن .
روى الصدوق « رحمه الله » في كمال الدين / 176 : « لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بسنتين ، أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة ، تمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه ،
فأتاه وفد من قريش ومعهم عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد الله بن جدعان ، وأسد بن خويلد بن عبد العزى ، ووهب بن عبد مناف ،
في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء » . في حديث طويل ، ذكر فيه
--------------------------- 98 ---------------------------
احترام سيف بن ذي يزن لعبد المطلب احتراماً خاصاً ، وإخباره بقرب عصر نبي في مكة وتمنى لو يدركه لينصره ، فقال له : « إذا ولد بتهامة ، غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الدعامة إلى يوم القيامة . فقال له عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبتُ بخبر ما آب بمثله وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته « جزيته » عن مَسَارِّه إياي ما ازدادَ به سروراً ، فقال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه ، اسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه ، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منا أنصاراً ليعز بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه . . فهل أحسست شيئاً مما ذكرته ؟ فقال : كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً ، فزوجته بكريمة من كرائم قومي اسمها آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام سميته محمداً ، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه . فقال ابن ذي يزن : إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك ، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً » . والمنمق / 426 . راجع : الأخبار الطوال / 63 ، اليعقوبي : 1 / 165 و 2 / 9 والطبقات : 5 / 533 .

12 . أسس حلف الفضول لمنع الاعتداء على الحجاج

أعداء النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) هم أعداء أجدادهم قبل الإسلام ! وقد قال ( صلى الله عليه وآله ) : « الناس معادن ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » . البخاري : 4 / 122 .
ورويناه عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) بلفظ أدق : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل » . الكافي : 8 / 177 .
وعندما تحسن وضع قريش الاقتصادي ، بفضل رحلتي الشتاء والصيف ، وتعاظم موسم الحج إلى الكعبة بعد آية أصحاب الفيل ، ازدحمت مكة في الموسم ، وكثرت تعديات القرشيين على الحجاج والتجار الوافدين إلى مكة !
وكانت المشكلة أمام عبد المطلب أنه إذا أراد منع الظلم وقفت قبيلة الظالم معه تناصره ! فرأى أن ينشئ حلفاً قبلياً ليمنع قبيلة الظالم أن تنصره ، فأسس حلف الفضول ، وكان أصل هذا الحلف لأخوال أبناء إسماعيل ( عليه السلام ) .
--------------------------- 99 ---------------------------
ففي أنساب الأشراف / 13 : « كان في جرهم رجال يردون المظالم ، يقال لهم فضيل وفضال ومفضل وفضل ، فتحالفوا على ذلك » .
وروى اليعقوبي أن قريشاً بدأت بتشكيل حلف ضد عبد المطلب ، وروى أن الحلفين عبد الطلب كان السابق ، مما يدل على أن الحلفين كانا متزامنين .
قال اليعقوبي : 1 / 248 : « ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر ، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم فقالوا : إمنعونا من بني
عبد مناف . . . فتطيَّب بنو عبد مناف وأسد وزهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر ، [ وخزاعة ] فسموا حلف المطيبين . فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم ، وبنو عبد الدار ، وبنو مخزوم ، وبنو جمح ، وبنو عدي ، فسموا اللعقة » .
قال ابن بكار : « كان بنو سهم وبنو جمح أهل بغي وعدوان ، فأكثروا من ذلك » . شرح النهج : 15 / 224 .
وكانت خزاعة هي ركن حلف عبد المطلب ، قال في المنمق / 87 : « وكتبوا كتاباً كتبه لهم أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة ، وكان بنو زهرة يكرمون عبد المطلب لصهره فكان الكتاب : هذا ما تحالف عليه عبد المطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك ، تحالفوا على التناصر والمؤاساة ، حلفاً جامعاً غير مفرق ، الأشياخ على الأشياخ ، والأصاغر على الأكابر ، والشاهد على الغائب ، تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت الشمس على ثبير ، وما حن بفلاة بعير . عقده عبد المطلب بن هاشم ، ورجال بني عمرو فصاروا يداً دون بني النضر ، فعلى عبد المطلب النصرة لهم على كل طالب وتر في بر أو بحر أو سهل أو وعر ، وعلى بني عمرو النصرة لعبد المطلب وولده على جميع العرب ، في الشرق أو الغرب أو الحزَن أو السهب ، وجعلوا الله على ذلك كفيلاً ، وكفى بالله حميلاً .
ثم علقوا الكتاب في الكعبة ، فقال عبد المطلب :
--------------------------- 100 ---------------------------
سأوصي زبيراً إن توافت منيتي * بإمساك ما بيني وبين بني عمرو
وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه * ولا يلحدن فيه بظلم ولاغدر
هم حفظوا الإلَّ القديم وحالفوا * أباك فكانوا دون قومك من فهر
وفي تصديق ذلك قول عمرو بن سالم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) حين أغارت عليهم بنو بكر فقتلوا من قتلوا من خزاعة :
لا هُمَّ إني ناشدٌ محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا » .
وجدَّد الزبير بن عبد الطلب حلف الفضول وحضره النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وروت ذلك عامة المصادر كمحمد بن حبيب في كتابه المنمق / 186 ، عن حكيم بن حزام قال : « كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وبينه وبين الفيل عشرون سنه ، ورسول الله صلى الله عليه يومئذ ابن عشرين سنة ، قالوا : وكان الفجار في شوال وكان الحلف في ذي القعدة ، وكان هذا الحلف أشرف حلف جرى ، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب ، وذلك أن الرجل من العرب أو غيرها من العجم ممن كان يقدم بالتجارة ربما ظُلم بمكة ، وكان الذي جرَّ ذلك أن رجلاً من بني زبيد قدم بسلعة فباعها من العاص بن وائل السهمي فظلمه ثمنها ، فناشده الزبيدي في حقه فلم يعطه ، فأتى الزبيدي الأحلاف : عبد الدار ومخزوماً وجمح وسهماً وعدياً ، فأبوا أن يعينوه وزبروه وزجروه ! فلما رأى الزبيدي الشر وافى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس ، وقريش في أنديتهم حول الكعبة وصاح :
يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرمٍ أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمَّتْ كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
قال فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال : ما لهذا مَتْرك ، فاجتمعت
بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان ، فصنع لهم طعاماً ، فتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام ، قياماً يتماسحون صعداً ، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله قائلين لنكونن
--------------------------- 101 ---------------------------
مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التأسي في المعاش . فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول ، وقال الزبير بن عبد المطلب فيه :
حلفتُ لنعقدنْ حلفاً عليهم * وإن كنا جميعاً أهلَ دار
نسميه الفضولَ إذا عقدنا * يعزُّ به الغريبُ لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار
« ذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً أو معتمراً ، ومعه ابنة له يقال لها القَتُول ، من أوضأ نساء العالمين ، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه ، فقال الخثعمي : من يعديني على هذا الرجل ؟ فقيل له عليك بحلف الفضول ، فوقف عند الكعبة ونادى : يالِ حلف الفضول ! فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون : جاءك الغوث فما لك ؟ ! فقال : إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً . فساروا معه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له : أخرج الجارية ويحك ، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه ! فقال : أفعل ولكن متعوني بها الليلة ! فقالوا :
قبحك الله ، ولا شخب لقحة ، فأخرجها إليهم » .
« وكان الزبير بن عبد المطلب شجاعاً أبياً ، وجميلاً بهياً ، وكان خطيباً شاعراً ، وسيداً جواداً . . وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته ، وكانت عند العاص بن وائل ، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي . وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء » . شرح النهج : 15 / 203 و 205 .
وقال اليعقوبي : 2 / 17 : « حضر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حلف الفضول وقد جاوز العشرين ، وقال بعد ما بعثه الله : حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما يسرني به حُمر النَّعم ، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت . وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة ، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر ، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بلَّ بحرٌ صوفة . وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب
--------------------------- 102 ---------------------------
طيباً فغمسوا أيديهم فيه . . . فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره ، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم » . وابن هشام : 1 / 85 والمنمق / 187 .
لقد أمضى النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا الحلف وتبناه ، ودعا به الإمام الحسين ( عليه السلام ) لما منعوا دفن أخيه عند جده ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم دعا به ما أراد معاوية أن يصادر أمواله . أنساب الأشراف / 13 .

13 . سن عبد المطلب سنناً فأجراها الله في الإسلام

روى في الخصال / 313 : « عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي إن عبد المطلب سَنَّ في الجاهلية خمس سُنن أجراها الله له في الاسلام ، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل : وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ . ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عز وجل : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ . الآية . . ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج ، فأنزل الله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ . الآية . وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عز وجل ذلك في الاسلام ، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط ، فأجرى الله ذلك في الاسلام .
يا علي إن عبد المطلب كان لايستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين أبي إبراهيم ( عليه السلام ) » .
وقال اليعقوبي « رحمه الله » : 2 / 10 : « وكان عبد المطلب جد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يكفله ، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع ، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً ، وسقاه زمزم وذا الهرم « بئر في الطائف » وحَكَّمته قريش في أموالها ، وأطعم في المَحْل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال . قال أبو طالب :
ونُطعمُ حتى تأكل الطيرُ فضلَنا * إذا جُعلت أيدي المفيضين ترعدُ
ورفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عز وجل ، ووفى بالنذر ، وسن سنناً نزل القرآن بأكثرها ، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي : الوفاء بالنذور ، ومائة من الإبل في الدية ، وألا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤودة ، والمباهلة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزناء ، والحد عليه ،
--------------------------- 103 ---------------------------
والقرعة ، وألا يطوف أحد بالبيت عرياناً ، وإضافة الضيف ، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحرم ، ونفي ذوات الرايات » .

14 . وهذا يكفي لمن كان له قلب !

لقد أغمضوا عيونهم عن كرامات عبد المطلب وآياته ، في حفر زمزم ، وفي هجوم أصحاب الفيل ، وإخباره بنبوة حفيده ( صلى الله عليه وآله ) ، وافتخار النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم حنين بنبوته وبجده عبد المطلب ! البخاري : 4 / 28 . وفي الواحدة منها كفاية لمن كان له قلب .
بل زعموا أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن أبيه ؟ فقال : إن أبي وأباك في النار . مسلم : 1 / 132 . وحاشا أباه من النار ، وحاشاه ( صلى الله عليه وآله ) من هذه الجلافة !

15 . عبد المطلب : إبراهيم الثاني

« وخرجوا هاربين يطلبون الشعاب ، ومنهم من طلب الجبال ، ومنهم من ركب البحر ، قال : فعند ذلك قالوا لعبد المطلب : ما يمنعك أن تهرب مع الناس ؟ قال : أستحيي من الله أن أهرب عن بيته وحرمه ، فوالله لا برحت من مكاني ولا نأيت عن بيت ربي ، حتى يحكم الله بما يشاء . . قال : فلما نظر عبد المطلب إلى الكعبة خالية قال : « اللهم أنت أنيس المستوحشين ولا وحشة معك ، فالبيت بيتك والحرم حرمك والدار دارك ، ونحن جيرانك ، تمنع عنه ما تشاء » . البحار : 15 / 66 .
ولما ظهرت آياته في حملة أصحاب الفيل ، سماه المنصفون من قريش إبراهيم الثاني : « فكانت قريش تقول : عبد المطلب إبراهيم الثاني » . تاريخ اليعقوبي : 1 / 10 .

16 . نَذَر عبد المطلب ( ( رحمه الله ) ) أحد أبنائه قرباناً للكعبة !

كان عرب الجزيرة وعرب العراق يقدسون صنم العُزَّى أكثر من غيره ، ويقدمون له القرابين : « وكان للعزى منحرٌ ينحرون فيه هداياهم ، يقال له الغبغب . . . قال الشاعر : والراقصات إلى منى بالغبغب » . معجم البلدان : 4 / 185 .
وفي أحُد : « نادى المشركون بشعارهم : يا لَلعزى يا لَهُبل ، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً ، وولَّى من ولَّى منهم يومئذ ، وثبت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . الطبقات : 2 / 42 .
--------------------------- 104 ---------------------------
وكانت حروبٌ بين المناذرة التابعين للفرس في العراق ، والغساسنة التابعين للروم في الشام ، وكان المنذر بن ماء السماء وثنياً ، فأسرَ ابن ملك الغساسنة الحارث بن شمر في حربه معه ، فذبحه قرباناً للعزى ! خطط الشام : 1 / 67 .
وفي المفصل في تاريخ العرب : 11 / 239 : « وقد كان آل لخم ملوك الحيرة ، ينحرون الأسرى قرباناً للعزى . وقد زعم بعض المؤرخين السريان أن المنذر بن ماء السماء ضحى بأربع مائة راهبة للعزى » !
في هذا الجو ، نذر عبد المطلب « رحمه الله » لله تعالى إذا رزقه عشرة أبناء ، أن يذبح أحدهم قرباناً له هدياً للكعبة ، فكان عمله مقابلةً لعَبَدَة الأصنام والنصارى ودعوة لهم أن يعبدوا رب بيت إبراهيم ( عليه السلام ) ، ويقدموا قرابينهم له وليس للعزى !
أما الإشكال الذي نراه في عمله فسببه عدم معرفتنا لمستنده الشرعي في نذره أن يذبح ابنه ، ثم مستنده في طريقة وفائه به بالقرعة بينه وبين الإبل . لكن ما ثبت عن شخصيته ( عليه السلام ) وإيمانه العميق وإلهام الله تعالى إياه بحفر زمزم ، وظهور المعجزة له لما أرادت قريش أخذها منه ، وإخباره بآية أصحاب الفيل ، وغير ذلك من آياته يدل على أنه ما نذر ولا تحلل من نذره ، إلا بحجة من ربه تعالى .
روى في دعائم الإسلام : 2 / 522 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه تجب القرعة فيما أشكل وذكر القرعة في قصة يونس ( عليه السلام ) ، وفي كفالة مريم ( عليه السلام ) ، وقصة عبد المطلب : « نذر ذبح من يولد له فولد له عبد الله أبو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فألقى الله عليه محبته ، فألقى عليه السهام وعلى إبل ينحرها يتقرب بها مكانه ، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتى بلغت مائة ، فوقع السهم على الإبل فأعاد السهام مراراً وهي تقع على الإبل ، فقال : الآن علمت أن ربي قد رضي ونحرها » .

17 . افتخر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجديه « عليهما السلام » فقال : أنا ابن الذبيحين

روى الصدوق في العيون : 2 / 189 عن علي بن فضال أنه سأل الإمام الرضا ( عليه السلام ) عن معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنا ابن الذبيحين فقال : « يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل ،
--------------------------- 105 ---------------------------
وعبد الله بن عبد المطلب . أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم : فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ، ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت . سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ .
فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح ، يأكل في سواد ويشرب في سواد وينظر في سواد ، ويمشي في سواد ، ويبول ويبعر في سواد ، وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاماً ، وما خرج من رحم أنثى ، وإنما قال الله جل وعز له كن فكان ، ليفدي به إسماعيل ، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة . فهذا أحد الذبيحين .
وأما الآخر فإن عبد المطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة ، ودعا الله عز وجل أن يرزقه عشرة بنين ، ونذر لله عز وجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته فلما بلغوا عشرة قال : قد وفى الله لي فَلَأفِيَنَّ لله عز وجل ، فأدخل وُلده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبد الله أبي رسول الله وكان أحب ولده إليه ، ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبد الله ، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله ، فأخذه وحبسه وعزم على ذبحه ، فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك ، واجتمع نساء عبد المطلب يبكين ويصحن ، فقالت له ابنته عاتكة : يا أبتاه أعذر فيما بينك وبين الله عز وجل في قتل ابنك . قال : فكيف أعذر يا بنية فإنك مباركة ؟ قالت : أعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم فاضرب بالقداح على ابنك وعلى الإبل وأعط ربك حتى يرضى . فبعث عبد المطلب إلى إبله فأحضرها وعزل منها عشراً وضرب السهام فخرج سهم عبد الله ، فما زال يزيد عشراً عشراً حتى بلغت مائة ، فضرب فخرج السهم على الإبل ، فكبَّرت قريش تكبيرة ارتجت لها جبال تهامة ، فقال عبد المطلب : لا ، حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات ، فضرب ثلاثاً كل ذلك يخرج السهم على الإبل ، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير وأبو طالب وإخوانه من تحت رجليه ، فحملوه وقد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض ، وأقبلوا يرفعونه ويقبلونه ، ويمسحون عنه
--------------------------- 106 ---------------------------
التراب . وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل بالحزورة ، ولا يمنع أحد منها وكانت مائة » .
وأضاف الصدوق « رحمه الله » : « ولولا أن عبد المطلب كان حُجَّةً وأن عزمه على ذبح ابنه عبد الله شبيهُ بعزم إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل « عليهم السلام » ، لمَا افتخر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالانتساب إليهما ، لأجل أنهما الذبيحان في قوله ( عليه السلام ) : أنا ابن الذبيحين .
والعلة التي من أجلها رفع الله عز وجل الذبح عن إسماعيل هي العلة التي من أجلها رفع الذبح عن عبد الله وهي كون النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة « عليهم السلام » في صلبهما . فببركة النبي والأئمة ( صلى الله عليه وآله ) رفع الله الذبح عنهما ، فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم » .
وفي الفقيه : 4 / 368 : « يا علي أنا ابن الذبيحين . يا علي أنا دعوة أبي إبراهيم ( عليه السلام ) » .
وتدل الرواية عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) « الفقيه : 3 / 89 » على أن الله تعالى نهى عبد المطلب عن ذبح ولده وأمره بالقرعة ، وقد يكون ذلك بعد كلام عاتكة ، قال ( عليه السلام ) : « أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ، وهو قول الله عز وجل : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، والسهام ستة ، ثم استهموا في يونس ( عليه السلام ) لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة ، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال : فمضى يونس إلى صدر السفينة ، فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه .
ثم كان عند عبد المطلب تسعة بنين ، فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في صلبه ، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله ، فخرجت السهام على عبد الله فزاد عشراً ، فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشراً ، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبد المطلب : ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً ، فخرجت على الإبل فقال : الآن علمت أن ربي قد رضي ، فنحرها » .
ومعناه أن الله تعالى نهاه عن ذبحه بالإلهام ، وأمره أن يفديه بما استقرت عليه القرعة .
ونلاحظ في هذا الموضوع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ضحى في حجة الوداع بمئة ناقة ، وهي عدد فداء جده عبد الله ( عليه السلام ) ، وأشرك فيها علياً ( عليه السلام ) لشراكته في وراثة عبد المطلب « عليهم السلام » .
--------------------------- 107 ---------------------------

18 . الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق

زعم أهل الكتاب أن الذبيح إسحاق « عليهما السلام » ، وأن الله فداه وأرسل جبرئيل ( عليه السلام ) بكبش وأمره أن يذبحه بدله .
قال في تفسير الكاشف : 6 / 352 : « ولا مصدر لهذا القول إلا إسرائيليات كعب الأحبار ، وحسد اليهود لأبناء إسماعيل ، وليس هذا بكثير على بني إسرائيل » .
أقول : إن الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق « عليهما السلام » ، كثيرة :
الأول : أن توراتهم وتلمودهم ومصادرهم لم تذكر أن الذبيح إسحاق ( عليه السلام ) ، وإنما هو قول حاخاماتهم ، خاصة كعب الأحبار ، وقد نسبوه إلى عمر وعلي وابن عباس وغيرهم . وعدم ذكره في مصادرهم دليل على أن الذبيح ليس إسحاق ( عليه السلام ) وإلا لذكرته مصادرهم بشكل واسع ، وجعلوا مكانه مزاراً وافتخروا به . فالصحيح أنهم ادعوه بعد بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونزول القرآن بقصة ذبح إسماعيل « عليهما السلام » .
الثاني : صحح العلماء حديث : أنا ابن الذبيحين . رواه الحاكم : 2 / 554 ، صححه الذهبي ، السرخسي : 8 / 141 ، بدائع الصنائع : 5 / 85 ، تخريج الأحاديث : 3 / 177 . وفيض القدير : 3 / 762 .
الثالث : قال جمهور علماء المسلمين إن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق « عليهما السلام » .
قال العجلوني في كشف الخفاء : 1 / 199 : « إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب
عند علماء الصحابة والتابعين » .
وقال الطوسي في أماليه / 457 : « قال أبو المفضل « الشيباني » : اختلف الناس في الذبيح وقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنا ابن الذبيحين ، يعني إسماعيل وعبد الله أباه « عليهما السلام » . والعرب مجمعة أن الذبيح هو إسماعيل . وأنا أقول : اختلفت روايات العامة والخاصة في الذبيح من هو ؟ والصحيح أنه إسماعيل لمكان الخبر ، ولإجماع علماء أهل البيت « عليهم السلام » على أنه إسماعيل » .
الرابع : صحح الصدوق في معاني الأخبار / 391 : « عن داود بن كثير الرقي قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أيهما كان أكبر إسماعيل أو إسحاق ، وأيهما كان الذبيح ؟
--------------------------- 108 ---------------------------
فقال : كان إسماعيل أكبر من إسحاق بخمس سنين ، وكان الذبيح إسماعيل ، وكانت مكة منزل إسماعيل ، وإنما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل أيام الموسم بمنى . قال : وكان بين بشارة الله لإبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق « عليهم السلام » خمس سنين ، أما تسمع لقول إبراهيم ( عليه السلام ) حيث يقول : رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . إنما سأل الله عز وجل أن يرزقه غلاماً من الصالحين ، وقال في سورة الصافات : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، يعني إسماعيل من هاجر . فقال : ففدى إسماعيل بكبش عظيم . فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ثم قال : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ، يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق . فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل وأن الذبيح إسحاق ، فقد كذب بما أنزل الله عز وجل في القرآن من نبئهما » .
فقد استدل الإمام ( عليه السلام ) بنص الآيات وسياقها ، وأن الذبيح الغلام الذي دعا إبراهيم ( عليه السلام ) ربه أن يهبه له فوهبه وهو إسماعيل ، ثم رزقه بعده إسحاق فقال : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ، فكيف يبشره بأنه نبي ، ثم يأمره بذبحه !
وهذه آياته في سياقها : وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للَّجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَالْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ . الصافات : 99 - 113 .
وفي الكاشف : 6 / 352 : فإنه يدل بصراحة على أن المبشر به والساعي والذبيح صفات لموصوف واحد ، وهو الولد البكر لإبراهيم ، وبكر إبراهيم هو إسماعيل باتفاق المسلمين والنصارى واليهود ، فلقد جاء في التوراة الإصحاح 16 الآية 15
من سفر التكوين ما نصه بالحرف : « وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام » . أي إبراهيم .
وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور الإصحاح 17 الآية 17
--------------------------- 109 ---------------------------
وما بعدها : إن الله لما بشر إبراهيم بإسحاق من سارة سقط على وجهه ، وقال في قلبه : هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين ؟ إذا جمعنا بين الآيتين تكون حصيلتهما أن إسماعيل هوالولد البكر ، وأنه يكبر اسحق بأربعة عشر عاماً ، وبينا أن البكر هو الذبيح » .
الخامس : في كتاب أضواء على المسيحية للدكتور شلبي / 66 : « يقول برنابا : فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً : خذ ابنك البكر واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة . والبكر هو إسماعيل ( عليه السلام ) ، وقد ولد إسحاق ( عليه السلام ) بعده بسبع سنين » .
السادس : قوله تعالى : « وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاءً له على طاعته لله في ذبح ولده البكر ، فلا بد وهذه هي الحال ، أن يكون زمن إسحاق متأخراً عن زمن الذبيح » . تفسير الكاشف 6 / 352 .
السابع : قوله تعالى في الآية 71 من سورة هود : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ومِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ، فإن اللَّه بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد ، فكيف يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله ؟ وما ذا تقول سارة عندما تسمع الأمر بذبح وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده !
الثامن : نسبوا إلى علي ( عليه السلام ) من أن الذبيح هو إسحاق ، والصحيح أنه إسماعيل « عليهما السلام » . ففي أمالي الطوسي / 338 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، عن آبائه عن علي ( عليه السلام ) قال : الذبيح إسماعيل .
وبذلك يتضح أن القول بأن الذبيح إسحاق مكذوب ، أو تصحيف في الاسم .

19 . النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وارث عبد المطلب

اختار الله بني عبد المطلب من العالم :
كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجهر بأن الله تعالى اختار من العالم بني عبد المطلب فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « قسم الله تبارك وتعالى أهل الأرض قسمين فجعلني في خيرهما ، ثم قسم النصف الآخر على ثلاثة فكنت خير الثلاثة ، ثم اختار العرب من الناس ،
--------------------------- 110 ---------------------------
ثم اختار قريشاً من العرب ، ثم اختار بني هاشم من قريش ، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم ، ثم اختارني من بني عبد المطلب » . الخصال / 36 وغيره .
وكان ( صلى الله عليه وآله ) يفتخر بنبوته وجده عبد المطلب ( عليه السلام ) !
ففي حنين هرب المسلمون مع أنهم كانوا اثني عشر ألفاً ! وثبت النبي ( صلى الله عليه وآله )
وبنو هاشم ، وافتخر بنبوته وبجده عبد المطلب : « كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضايقه فما راعنا إلا كتائب الرجال ، فانهزم بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم مَن وراءهم ، وبقي علٌّي ( عليه السلام ) ومعه الراية ، فقال مالك بن عوف : أروني محمداً ، فأروه إياه فحمل عليه فلقيه أيمن بن عبيدة وهو ابن أم أيمن فالتقيا فقتله مالك . . فقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) في ركاب سرجه حتى أشرف عليهم وقال : الآن حمى الوطيس : أنا النبي لا كذبْ أنا ابن عبد المطلبْ » .
وفي صحيح بخاري : 4 / 28 : « نزل فجعل يقول : أنا النبي لاكذب أنا ابن عبد المطلب . قال فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه » .
وبنو عبد المطلب لا يفرون أبداً !
وعليهم قامت معارك الإسلام ! فقد كانوا أبطال بدر ، وثبتوا في أحُد وخيبر وغيرها ، في حين فرَّ الجميع . وفي حنين : « انهزموا بأجمعهم فلم يبق منهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا عشرة أنفس ، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن وثبت تسعة النفر الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كان انهزم ، فرجعوا أولاً فأولاً » . الإرشاد : 1 / 140 .
بعثه الله لبني عبد المطلب خاصة وللناس عامة :
قال لهم : « يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة ، فقال عز وجل : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمرويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن
--------------------------- 111 ---------------------------
أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » . الإرشاد : 1 / 49
ومسند الشاميين : 2 / 66 .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) مخولاً من بني عبد المطلب :
فعندما طلب أسرى خيبرمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يُطلق سراحهم ، قال لهم : « أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم . وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لله ولرسوله فردت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال » .
أمالي الصدوق / 591 .
وَعَدَهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) الشفاعة وكان يميزهم عن غيرهم :
قال ( صلى الله عليه وآله ) : « يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكني قد وعدت الشفاعة « قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : اشهدوا لقد وعدها » فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة ، أتروني مؤثراً عليكم غيركم » . التهذيب : 4 / 58 .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين ! كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء ، وضع كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين ، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فيقول : من مات من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) » . الكافي : 3 / 200 والتهذيب : 1 / 460 .
وأكرم الله بني هاشم فشرَّع لهم ميزانية خاصة :
وهي الخمس فقال تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ . ومع ذلك حرموهم منه !
قال ابن قدامة : 2 / 519 : « لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس . وعن أبي هريرة قال : أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : كِخْ كِخْ ، ليطرحها ! وقال : أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ! متفق عليه » .
--------------------------- 112 ---------------------------
وفي الكافي : 1 / 540 عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم ، عوضاً لهم من صدقات الناس ، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكرامةً من الله لهم عن أوساخ الناس ، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة . .
وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين ذكرهم الله فقال : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وهم بنو عبد المطلب الذكر منهم والأنثى ، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد » .
وحذرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يغتروا بنسبهم ويتركوا العمل :
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الصفا فقال : يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب إني رسول الله إليكم وإني شفيق عليكم ، وإن لي عملي ولكل رجل منكم عمله ، لا تقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله ، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبد المطلب إلا المتقون . ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ويأتون الناس يحملون الآخرة ، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم ، وفيما بيني وبين الله عز وجل فيكم » . الكافي : 8 / 182 .
وأتمَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) الحجة عليهم فأوصاهم بطاعة علي ( عليه السلام ) :
فعن الإمام زين العابدين ، في حديث وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « قال علي ( عليه السلام ) : فلقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإن رأسه ليثقل ضعفاً وهو يقول ويسمع أقصى أهل البيت وأدناهم : إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضي ديني وينجز موعدي . يا بني هاشم يا بني عبد المطلب ، لاتبغضوا علياً ، ولا تخالفوا أمره فتضلوا ، ولاتحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا » . أمالي الطوسي / 600 .
وكان حقد اليهود وقريش على كل بني عبد المطلب « عليهم السلام » :
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لحاخام يهودي : « وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً ، لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى
--------------------------- 113 ---------------------------
أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له » . الخصال / 368 .
وصححوا حديث أبناء عبد المطلب سادة أهل الجنة :
فقد رواه ابن ماجة 2 / 1368 عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي » . والحاكم : 3 / 211 ، وصححه على شرط مسلم ، وتاريخ بغداد : 9 / 434 وفيه : نحن سبعة بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة ، أنا وعلي أخي وعمي حمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي » . وتلخيص المتشابه : 1 / 197 ، الفردوس : 1 / 53 ، البيان للشافعي / 488 وغيرها .
وفي كتاب سُلَيْم بن قيس « رحمه الله » / 245 : « كانت قريش إذا جلست في مجالسها فرأت رجلاً من أهل البيت « عليهم السلام » قطعت حديثها ، فبينما هي جالسة إذ قال رجل منهم ما مثل محمد في أهل البيت إلا كمثل نخلة نبتت في كُناسة ! فبلغ ذلك رسول الله فغضب ثم خرج فأتى المنبر فجلس عليه حتى اجتمع الناس ، ثم قام
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال . . » . وأورد خطبة طويلة في فضله وفضل أهل بيته « عليهم السلام » جاء فيها : « ألا ونحن بنو عبد المطلب سادة أهل الجنة ، أنا وعلي وجعفر وحمزة والحسن والحسين وفاطمة والمهدي » . ورواه أمالي الصدوق / 384 ، غيبة الطوسي / 113 ، العمدة / 52 و 430 والطرائف : 1 / 176 .
وفي دلائل الإمامة / 256 ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : « كنا مع علي بالبصرة وهو على بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد اجتمع هو وأصحاب محمد فقال : ألا أخبركم بأفضل خلق الله عند الله يوم يجمع الرسل ؟ قلنا : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : أفضل الرسل محمد وإن أفضل الخلق بعدهم الأوصياء ، وأفضل الأوصياء أنا ، وأفضل الناس بعد الرسل والأوصياء الأسباط ، وإن خيرالأسباط سبطا نبيكم ، يعني الحسن والحسين . وإن أفضل الخلق بعد الأسباط الشهداء ، وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، قال ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين مخضبان بكرامةٍ خص الله عز وجل بها نبيكم ، والمهدي منا في آخر الزمان ، لم يكن في أمة من الأمم مهدي ينتظر غيره » .
--------------------------- 114 ---------------------------
أقول : كفى بهذا الحديث الشريف حجة ودليلاً على مكانة هؤلاء العظماء من أبناء عبد المطلب « عليهم السلام » ، فهو يفضح كل ما رووه من تفضيل زيد وعمرو عليهم !

20 . وكان عبد المطلب شاعراً ، وكذا أبو طالب ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وتقدمت له أبيات في غزو أبرهة للكعبة ، وكلها إيمان ويقين بالنصر ، وفيها نبوءة بنبوة حفيده ( صلى الله عليه وآله ) وبدولة العدل الإلهي على يد ولده المهدي ( عليه السلام ) ! قال :
نحن آلُ الله فيما قد خلا * لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
لم يزل لله فينا حجةٌ * يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينا شيمةٌ * صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنا في كل دور كَرَّةٌ * نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدورُ إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته * فيه تبيان أحاديث الأمم
وطير القدم مثلٌ ضربه عبد المطلب « رحمه الله » لأصحاب ولده الإمام المهدي ( عليه السلام ) الذين يجمعهم الله له في ليلة من أقاصي العالم ، ليكونوا وزراءه .
فقد روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله ، وتولى ما استطاع نصيحته ، أولئك يتقلبون في رحمة الله ، ومثلهم مثل طير يأتي بأرض الحبشة في كل صيفة يقال له « القَدَم » فيبيض ويفرخ بها ، فإذا كان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إليه وخرجوا معه من أرض الحبشة ، فإذا قام قائمنا اجتمع أولياؤنا من كل أوب ! ثم تمثل بقول عبد المطلب :
فإذا ما بلغ الدور إلى * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
بكتاب فصلت آياته * فيه تبيان أحاديث الأمم
مستدرك الوسائل : 13 / 137 وجامع أحاديث الشيعة : 17 / 297 .
وفي أمالي الصدوق / 243 : « قال الريان بن الصلت : أنشدني الرضا ( عليه السلام ) لعبد المطلب :
--------------------------- 115 ---------------------------
يعيب الناس كلهم زماناً * وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا * ولو نطق الزمان بنا هجانا
وأن الذئب يترك لحم ذئب * ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
لبسنا للخداع مسوك طيب * وويلٌ للغريب إذا أتانا »
وعيون أخبار الرضا 2 / 190 .

21 . أولاد عبد المطلب عشرة ، والعباس

قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) كما في الخصال / 452 : « سئل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن ولد عبد المطلب فقال : عشرة والعباس » ! وخيرهم : عبد الله ، وأبو طالب ، والزبير ، وحمزة . وذرية عبد الله وأبي طالب خير البشر ، وشذ من أبناء عبد المطلب أبو لهب إلى النار .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 11 : « وكان لعبد المطلب من الولد الذكور عشرة ، ومن الإناث أربع : عبد الله أبو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وأبو طالب وهو عبد مناف . والزبير وهو أبو الطاهر . وعبد الكعبة وهو المقوم . وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وهي أم أم حكيم البيضاء . وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبد المطلب . والحارث وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى . وقثم . وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة . وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله ، وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وهي أم صفية بنت عبد المطلب . والعباس ، وضرار ، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط . وأبو لهب وهو عبد العزى ، وأمه لُبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي . والغيداق وهو حجل وإنما سمى الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام ، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي . فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته » .
والسؤال هنا : ما معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : عشرة والعباس ؟
--------------------------- 116 ---------------------------
والجواب : أن العباس عبدٌ لثلاثة من إخوته من بني عبد المطلب ،
ولذا عدَّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحده ، لأنه عبد لإخوته ، لأن أمه أمةً لهم أحَلّواها لأبيهما عبد المطلب لتخدمه ، فحملت منه بالعباس .
ففي « الكافي : 8 / 259 » : « توفي مولى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يخلف وارثاً فخاصم فيه ولد العباس أبا عبد الله ( عليه السلام ) وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك السنة ، فجلس لهم فقال داود بن علي : الولاء لنا . وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : بل الولاء لي . فقال داود بن علي : إن أباك قاتل معاوية . فقال : إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فرَّ بخيانته . وقال : والله لأطوقنك غداً طوق الحمامة ، فقال له داود بن علي : كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق ، فقال : أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق !
قال فقال هشام : إذا كان غداً جلست لكم ، فلما أن كان من الغد خرج
أبو عبد الله ومعه كتاب في كرباسة ، وجلس لهم هشام ، فوضع أبو عبد الله ( عليه السلام ) الكتاب بين يديه ، فلما أن قرأه قال : أعدوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري ، وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية ، فرمى بالكتاب إليهما فقال : تعرفان هذه الخطوط ؟ قالا : نعم ، هذا خط العاص بن أمية ، وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش . وهذا خط حرب بن أمية ، فقال هشام : يا أبا عبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم ؟ فقال : نعم ، قال : فقد قضيت بالولاء لك ، قال : فخرج وهو يقول :
إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرهْ
قال فقلت : ما هذا الكتاب جعلت فداك ؟ قال : فإن نتيلة كانت أمةً لأم الزبير وأبي طالب وعبد الله ، فأخذها عبد المطلب فأولدها فلاناً ، فقال له الزبير : هذه الجارية ورثناها من أمنا ، وابنك هذا عبد لنا ، فتحمل عليه ببطون قريش ، قال فقال : قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس ، ولايضرب معنا بسهم . فكتب عليه كتاباً وأشهد عليه ، فهو هذا الكتاب » .
أقول : معنى ذلك أن العباس وأولاده مضافاً إلى أنهم من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ، فهم عبيد لأبناء عبد المطلب : الزبير ، وأبي طالب ، وعبد الله ، الذين كانت أم
--------------------------- 117 ---------------------------
العباس أمةً لأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم « دلائل النبوة / 99 » وقد أحلوها لأبيهم فتزوجها ، فَوُلْدُها تبعاً لها ملكٌ لهم ، لأنهم أحلوها لأبيهم ولم يبيعوها .
ونلاحظ أن المؤرخين « تاريخ دمشق 26 / 276 » قالوا إن أم العباس نتيلة بنت جناب ، ثم قالوا : وقيل أو يقال : ابنة مالك بن خباب بن كليب ، من بني النمر بن قاسط . وزعموا أن ابنها ضاع فنذرت أن تكسوا الكعبة حريراً . لكن هذه القصة لأم ضرار بن عبد المطلب ، سرقوها وجعلوها لأم العباس !
وقد رواها ابن حبيب في المنمق / 36 ، والبلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 90 ، قالا : « كان ضرار بن عبد المطلب من فتيان قريش ، جمالاً ، وعقلاً ، وهيبة ، وسخاء ، وإن أمه نتيلة أضلته فكاد عقلها يذهب جزعاً عليه ، وكانت كثيرة المال ، فجعلت تنشد في المواسم وتقول :
أضللت أبيض كالخصاف * للفتية الغرِّ بني مناف
ثم لعمري منتهى الأضياف * سنَّ لفهر سُنَّةَ الإيلاف
في القرِّ حين القر والأصياف
فجعلت لمن جاء به هنيدة ، ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها . فمر بها حسان بن ثابت حاجاً في نفر من قومه ، فرأى جزعها عليه فقال :
وأمّ ضرار تنشد الناس والهاً * فيالبني النجَّار ما ذا أضلَّتِ
ولو أن ما تلقى نتيلة غدوة * بأركان رضوى مثله ما استقلَّتِ
فأتاها به رجل من جذام فوفت له بجعلها وكست البيت ثياباً بيضاً وقالت :
الحمد لله وليِّ الحمدِ * قد ردَّ ذو العرش عليَّ وُلدي
من بعد أن جوَّلتُ في مَعَدِّ * أشكره ثم أفي بعهدي .
فقد أخذوا قصة أم ضرار بن عبد المطلب ونسبوها إلى أم العباس » !

  • *
    --------------------------- 118 ---------------------------

الفصل السادس

والده عبد الله ووالدته آمنة « عليهما السلام »

ومولده المبارك

1 . قلة الروايات عن والدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وسببه أن حكومات قريش قررت أن تنشر في المسلمين أن آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسرته كلهم كفار ، ومنعت أن يروي المسلمون سيرتهم ومناقبهم .
وقد بينا في مقدمة هذه السيرة ، أن الحكومات تبنت سياسة إبادة كنوز السيرة وعلوم الإسلام ، وإحراق كتب شيعة أهل البيت « عليهم السلام » ، ويكفي مثالاً على ذلك : كُتب جابر بن يزيد الجعفي ، وكُتب أحمد ابن عقدة ، وكُتب سليمان الأعمش ، وهم علماء موثقون عندنا وعندهم ! فقد أحرقوها أو فقدت في أيام تشريدهم وتلاميذهم ! وقد بلغت مؤلفاتهم نحو أربع مئة ألف حديث ، أي مئتي مجلداً !
قال مسلم في مقدمة صحيحه : 1 / 15 : « الجراح بن مليح يقول : سمعت جابراً يقول : عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر « الباقر ( عليه السلام ) » عن النبي صلى عليه وسلم كلها » !

2 . تكريم خاص لوالدي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسرته

في الكافي : 1 / 446 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « نزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إني قد حرمت النار على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك ، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب ، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب ، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب . وفي رواية ابن فضال : وفاطمة بنت أسد » .
--------------------------- 119 ---------------------------
وأضافت رواية الخصال / 293 : « وفي بيت آواك وهو عبد مناف بن عبد المطلب أبو طالب ، وفي أخ كان لك في الجاهلية . قيل : يا رسول الله من هذا الأخ ؟ فقال : كان أنسي وكنت أنسه ، وكان سخياً يطعم الطعام .
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : اسم هذا الأخ الجلاس بن علقمة » .
أقول : هؤلاء كلهم من أهل الجنة « عليهم السلام » ، وهذه الشفاعة كرامة خاصة أهداها الله إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بتكريمهم من أجله ورفع درجتهم في الجنة . وليس معناها كما تخيل البعض أنهم بدونها من أهل النار .

3 . افتخر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأمه وجداته ( ( عليهم السلام ) )

وقد روى في الكافي : 5 / 50 افتخار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمه وجداته ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناد : يا سوء صباحاه ! فسمعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الخيل ، فركب فرسه في طلب العدو ، وكان أول أصحابه لحقه :
أبو قتادة على فرس له ، كان تحت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر ، فطلب العدو فلم يلقوا أحداً ، وتتابعت الخيل فقال أبو قتادة : يا رسول الله إن العدو قد انصرف ، فإن رأيت أن نستبق ؟ فقال : نعم ، فاستبقوا فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سابقاً عليهم ، ثم أقبل عليهم فقال : أنا ابن العواتك من قريش ، إنه لهوَ الجواد البحر ، يعني فرسه » .
وقد افتخر بأمهاته ( صلى الله عليه وآله ) كما افتخر بجده عبد المطلب ( عليه السلام ) ، ولا يمكن أن يفتخر بمشركين أو مشركات من أهل النار .
وفسرالمحقق البحراني العواتك فقال في الحدائق : 22 / 356 : « جَمْعُ عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب ، وكان هذا الاسم لثلاث نسوة من أمهاته ( صلى الله عليه وآله ) : إحداهن عاتكة بنت هلال ، أم عبد مناف بن قصي ، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال ، أم هاشم بن عبد مناف ، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال ،
أم وهب أبي آمنة أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فالأولى من العواتك عمة الثانية ، والثانية عمة الثالثة . قيل : وبنو سليم كانوا يفتخرون بهذه الولادة . وقيل : العواتك في جدات
--------------------------- 120 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) تسع ، ثلاث من بني سليم وهن المذكورات ، والبواقي من غيرهم » .

4 . عبد الله والد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كبار أولياء الله

قال الفتال النيسابوي / 138 : « إعلم أن الطائفة المحقة قد اجتمعت على أن أبا طالب وعبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب « عليهم السلام » ، كانوا مؤمنين » .
وقد ركزالأئمة « عليهم السلام » المكانة الدينية لعبد الله وآمنة وعبد المطلب رضي الله عنهم . قال داود الرقي وهو من كبار أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 4 / 544 » : « دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ولي على رجل مال قد خفت تَوَاهُ « ذهابه » فشكوت إليه ذلك ، فقال لي : إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافاً وصل ركعتين عنه ، وطُف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن عبد الله طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين ، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين ، ثم ادع أن يرد عليك مالك .
قال ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا ، وإذا غريمي واقف يقول : يا داود حبستني ! تعال إقبض مالك » .

5 . تزوج والد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو في سنّ السابعة عشرة

« قال محمد بن مسعود الكازروني في كتاب المنتقى : ولد عبد الله لأربع وعشرين سنة مضت من ملك كسرى أنوشروان ، فبلغ سبع عشرة سنة ثم تزوج آمنة ، فلما حملت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) توفي ، وذلك أن عبد الله بن عبد المطلب خرج إلى الشام في عير من عيرات قريش يحملون تجارات ، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا ، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض ، فقال : أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار ، فأقام عندهم مريضاً شهراً ، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله ، فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض ، فبعث إليه عبد المطلب أعظم ولده الحارث فوجده قد توفي في دار النابغة ، فرجع إلى أبيه فأخبره ، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً
--------------------------- 121 ---------------------------
شديداً ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ حمل ، ولعبد الله يوم توفي خمس وعشرون سنة » .
بحار الأنوار : 15 / 124 .
ويؤيده ما تقدم عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في أصحاب الفيل : « فدعا ولده عبد الله وإنه لغلام حين أيفع ، وعليه ذؤابه تضرب إلى عجزه ، فقال له : اذهب فداك أبي وأمي فَاعْلُ أبا قبيس ، وانظر ماذا ترى يجئ من البحر » .
وعام الفيل هو عام ولادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهذا يعني أن أباه كان شاباً في أول شبابه ، فلا تصح رواية أنه كان ابن خمس وعشرين سنة أو ثلاثين . « فقال له : إذهب فداك أبي وأمي فاعلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجئ من البحر ؟ فنزل مسرعاً فقال : يا سيد النادي ، رأيت سحاباً من قِبل البحر مُقبلاً ، يُسْفِلُ تارةً ويرتفع أخرى ! إن قلت غيماً قلته وإن قلت جهاماً خلته ، يرتفع تارةً ، وينحدر أخرى !
فنادى عبد المطلب : يا معشر قريش ، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر » .
وقد كانت عادتهم التزويج المبكر ، ففي إكمال الدين / 196 : « لما بلغ عبد الله بن عبد المطلب زوجه عبد المطلب آمنة بنت وهب الزهري ، فلما تزوج بها حملت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وقال اليعقوبي : 2 / 9 : « وكان تزويج عبد الله بن عبد المطلب لآمنة بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين ، وقيل بضع عشرة سنة . وبين فداء عبد المطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة . . وكان بين تزويج أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأمه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر ، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر » .

6 . خطب عبد المطلب لابنه عبد الله ، وخطب لنفسه

روى المؤرخون أن عبد المطلب رضي الله عنه خطب في مجلس واحد آمنة بنت وهب لابنه عبد الله رضي الله عنه ، وخطب لنفسه بنت عمها هالة بنت أهيب .
ففي تاريخ دمشق : 3 / 418 : « أن عبد المطلب خرج إلى اليمن فلقيه رجل من
--------------------------- 122 ---------------------------
اليهود له علم ، فنظر إلى عبد المطلب فقال : أرني منك شيئين ، فقال عبد المطلب : وإني أريك ما لم يكن عورة ، فقال لا أريد العورة ، أريد أن أنظر إلى أنفك وإلى كفيك فقال : أنظر ، فقال له : أبسط كفيك فبسطهما فقال : أما في أحد كفيك ملك ، وأما أنفك فإن فيه النبوة ، ولا يتم ذلك إلا في بني زهرة ، هل لك في شاعة ؟ قال : لا . قال فتزوج في بني زهرة . قال : فلما رجع عبد المطلب تزوج هالة بنت وهيب ، وزوج عبد الله آمنة بنت وهب » .
قال الحاكم : 3 / 192 : « كانت في حجر عمها أهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وإن عبد المطلب بن هاشم جاء بابنه عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتزوج عبد الله آمنة بنت وهب ، وتزوج عبد المطلب هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وهي أم حمزة بن عبد المطلب في مجلس واحد ، وكان » حمزة « قريب السن من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخاه من الرضاعة » .
وروى ابن شاذان في الفضائل / 6 ، عن الواقدي أن عقيل بن أبي وقاص أجرى عقد قران عبد الله بآمنة « عليهما السلام » فقال لوهب : « يا أبا الوداح زوجتَ كريمتك آمنة من ابن سيدنا عبد المطلب على صداق أربعة آلاف درهم بيض هجرية جياد وخمس مائة مثقال ذهب أحمر ؟ قال : نعم . ثم قال : يا عبد الله قبلت بهذا الصداق يا أيها السيد الخاطب ، قال : نعم . ثم دعا لهما بالخير والكرامة ، ثم أمر وهب أن تقدم المائدة فقدمت مائدة خضرة ، فأتى من الطعام الحار والبارد والحلو والحامض فأكلوا وشربوا . قال ونثر عبد المطلب على ولده قيمة ألف درهم من النثار ، وكان متخذاً من مسك بنادق ، ومن عنبر ، ومن سكر ومن كافور . ونثر ذهب بقيمة ألف درهم عنبر » .
أقول : والرواية طويلة ، ذكرت أن عبد الله دخل بعروسه في ذلك اليوم ، ولا بد أن يكون المخاطب عم آمنة أهيب أخ وهب لأنه كان وليها ، وكان أبوها وهب توفي ، كما تقدم . على أن هذه الرواية ربما كانت موضوعة .
--------------------------- 123 ---------------------------

7 . حملت به أمه في منى في بيت أبيه عبد المطلب

في الكافي : 1 / 439 : « حملت به أمه في أيام التشريق ، عند الجمرة الوسطى ، وكانت في منزل عبد الله بن عبد المطلب » .
وقال السهيلي : 1 / 183 : « قال الزبير » بن بكار : « كان مولده في رمضان . وهذا القول موافق لقول من قال إن أمه حملت به في أيام التشريق . وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم ، وأنه ولد بعد مجئ الفيل بخمسين يوماً . وهو الأكثر والأشهر » .
والمتفق عليه أن ولادته ( صلى الله عليه وآله ) في ربيع الأول ، فلا يمكن أن يكون حمله في أيام التشريق في ذي الحجة . ولعل سبب الاشتباه أن عرس عبد الله كان في بيت أبيه عبد المطلب في منى عند الجمرة ، وهو البيت الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة ، فاشتبه الراوي وأضاف اليه الزمان ، وتصور أنه كان في أيام التشريق .
ويؤيد ما قلناه الرواياتُ التي ذكرت مكان الحمل به دون زمانه ، كقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) « الكافي 4 / 209 » : « أراد أن يذبحه ، أي إسماعيل في الموضع الذي حملت أم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند الجمرة الوسطى ، فلم يزل مضربهم يتوارثون به كابر عن كابر ، حتى كان آخر من ارتحل منه علي بن الحسين ( عليه السلام ) في شئ كان بين بني هاشم وبين بني أمية ، فارتحل فضرب بالعرين » .

8 . المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله

رووا أن كاهنةً رأت النور في غرة والد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فطلبت منه أن يتزوجها لتحمل منه ، ولعله خبر صحيح لأن توقع ولادة النبي الموعود كان منتشراً .
قال الطبري : 2 / 6 : « خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه ومر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مُر ، متهودة من أهل تُبالة ، قد قرأت الكتب ، فرأت في وجهه نوراً ، فقالت له : يا فتى هل لك أن تقع عليَّ الآن وأعطيك مائة من الإبل . . فمضى به فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة » .
--------------------------- 124 ---------------------------
وقال ابن سعد : 1 / 95 : « المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب : وقد اختلف علينا فيها ، فمنهم من يقول كانت قتيلة بنت نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي أخت ورقة بن نوفل . . وكانت تنظر وتعتاف » تتفرس « فمر بها عبد الله بن عبد المطلب فدعته يستبضع منها ، ولزمت طرف ثوبه ، فأبى . . ومنهم من يقول كانت فاطمة بنت مُرّ الخثعمية » .
وقال في الروض الأنف : 1 / 178 : « وفي غريب ابن قتيبة : أن التي عرضت نفسها عليه هي : ليلى العدوية » .

9 . توفي عبد الله في المدينة وهو شاب

قال ابن سعد : 1 / 99 : « خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة ، في عير من عيرات قريش يحملون تجارات ، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا ، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض ، فقال : أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار ، فأقام عندهم مريضاً شهراً ، ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله فقالوا : خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ، ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن النجار في الدار التي إذا دخلتها فالدويرة عن يسارك ، وأخبره أخواله بمرضه وبقيامهم عليه وما ولوا من أمره ، وأنهم قبروه . فرجع إلى أبيه فأخبره فَوَجَدَ عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وَجْداً شديداً » . وفي رواية أن أباه عبد المطلب أرسله إلى المدينة ليمتار لهم تمراً .

10 . ما ورثه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبيه وأمه « عليهما السلام »

قال البلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 96 : « ورث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أبيه أم أيمن واسمها بركة فأعتقها ، وخمسة أجمال أوارك « تأكل الأراك » وقطعة غنم ، وسيفاً مأثوراً وورقاً « سيفاً قديماً ونقداً » فكانت أم أيمن تحضنه ويسميها أمي . وقال بعض الرواة : ورث أم أيمن من أمه ، فأعتقها » .
--------------------------- 125 ---------------------------
وورث النبي عن أبيه غلامه شَقْران الذي شارك في تجهيزه . تاريخ دمشق : 4 / 271 .

11 . آمنة بنت وهب من كرائم العرب

قال الطبري : 2 / 5 : « فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة ، ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً ، فزوجه آمنة بنت وهب ، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً ، وهي لِبَرَّة بنت عبد العزى » .
وتقدم في رواية الصدوق « رحمه الله » « كمال الدين / 176 » أن سيف بن ذي يزن كان يتوقع ظهور النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه قال لعبد المطلب : « هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه ، اسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه ، وقد ولد سراراً والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منا أنصاراً ، ليعز بهم أولياؤه ، ويذل بهم أعداءه . . فهل أحسست شيئاً مما ذكرته ؟ فقال : كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً ، فزوجته بكريمة من كرائم قومي ، اسمها آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام سميته محمداً ، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه . فقال ابن ذي يزن : إن الذي قلتُ لك كما قلتُ لك ، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء » . والمنمق / 426 . راجع : الأخبار الطوال / 63 ، اليعقوبي : 1 / 165 و 2 / 9 ، الطبقات : 5 / 533 .

12 . تحدثت آمنة عن حملها برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال الصدوق في كمال الدين / 196 : « لما بلغ عبد الله بن عبد المطلب زوجه عبد المطلب آمنة بنت وهب الزهري ، فلما تزوج بها حملت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فروي عنها أنها قالت : لما حملت به لم أشعر بالحمل ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل ، فرأيت في نومي كأن آت أتاني فقال لي : قد حملت بخير الأنام ، فلما حان وقت الولادة خف علي ذلك حتى وضعته ، وهو يتقي الأرض بيده وركبتيه ، وسمعت قائلاً يقول : وضعت خير البشرفعوذيه بالواحد الصمد من شر كل باغ وحاسد . فولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول يوم الاثنين . فقالت آمنة : لما سقط إلى الأرض اتقى الأرض بيديه
--------------------------- 126 ---------------------------
وركبتيه ورفع رأسه إلى السماء ، وخرج مني نور أضاء ما بين السماء والأرض .
ورُميت الشياطين بالنجوم وحجبوا عن السماء ، ورأت قريش الشهب والنجوم تسير في السماء ففزعوا لذلك وقالوا : هذا قيام الساعة ، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة فأخبروه بذلك ، وكان شيخاً كبيراً مجرباً فقال : أنظروا إلى هذه النجوم التي تهتدوا بها في البر والبحر ، فإن كانت قد زالت فهو قيام الساعة وإن كانت هذه ثابته فهو لأمر قد حدث .
وأبصرت الشياطين ذلك فاجتمعوا إلى إبليس فأخبروه أنهم قد منعوا من السماء ورموا بالشهب ، فقال : أطلبوا فإن أمراً قد حدث ، فجالوا في الدنيا ورجعوا وقالوا : لم نر شيئاً ، فقال : أنا لهذا ، فخرق ما بين المشرق والمغرب فلما انتهى إلى الحرم وجد الحرم محفوفاً بالملائكة ، فلما أراد أن يدخل صاح به جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : إخسأ يا ملعون ، فجاء من قبل حراء فصار مثل الصَُّرد [ العصفور ] قال : يا جبرئيل ما هذا ؟ قال : هذا نبي قد ولد وهو خير الأنبياء ، قال : هل لي فيه نصيب ؟ قال : لا ، قال : ففي أمته ؟ قال : بلى ، قال : قد رضيت » .
وفي الكافي : 1 / 454 و 8 / 302 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان حيث طَلَقَتْ آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل معها حتى وضعت . لما ولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فُتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام ، فقالت إحداهما للأخرى : هل ترين ما أرى ؟ فقالت : وما ترين ؟ قالت : هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب ! فبينما هما كذلك إذا دخل عليهما أبو طالب فقال لهما : ما لكما من أي شئ تعجبان ؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت ، فقال لها أبو طالب : ألا أبشرك ؟ فقالت : بلى ، فقال : أما إنك ستلدين غلاماً يكون وصي هذا المولود » .
وفي الكافي : 1 / 452 : « إصبري سبتاً أبشرك بمثله إلا النبوة ، وقال : السبت ثلاثون سنة . وكان بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ثلاثون سنة » .
يدل هذا على أن أبا طالب وعبد المطلب يعلمان بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإمامة علي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 127 ---------------------------

13 . وُلِد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الجمعة

قال رواة السلطة إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولد يوم الاثنين ، وقال أهل البيت « عليهم السلام » : وُلِد يوم الجمعة فجراً ، ففي قرب الإسناد / 299 ، عن علي بن جعفر قال : « جاء رجل إلى أخي « موسى بن جعفر ( عليه السلام ) » فقال له : جعلت فداك ، إني أريد الخروج فادع لي . قال : ومتى تخرج ؟ قال : يوم الاثنين . فقال له : ولمَ تخرج يوم الاثنين ؟ قال : أطلب فيه البركة ، لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وُلد يوم الاثنين . فقال : كذبوا ! وُلد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم الجمعة ، وما من يوم أعظم شؤماً من يوم الاثنين ، يوم مات فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانقطع فيه وحي السماء ، وظُلمنا فيه حقنا !
ألا أدلك على يوم سَهْلٍ ألانَ الله تبارك وتعالى لداود فيه الحديد ؟ فقال الرجل : بلى جعلت فداك . قال : أخرج يوم الثلاثاء » .
وفي الحدائق الناضرة : 17 / 423 ملخصاً : « كان مولده بمكة في شعب أبي طالب يوم الجمعة بعد طلوع الفجر ، سابع عشر شهر ربيع الأول عام الفيل ، وهذا هو المشهور بين أصحابنا رضوان الله عليهم . وقيل لاثنتي عشرة مضت من الشهر ، وقيل اليوم العاشر منه ، وقيل الثاني . وبُعث ( صلى الله عليه وآله ) في اليوم السابع والعشرين من رجب ، وله أربعون سنة . وقُبض بالمدينة يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة . ونقل في الدروس قولاً بأنه قبض لاثنتي عشرة من شهر ربيع الأول ، واختاره الكليني . . وذكر جمع من أصحابنا منهم الشيخ في التهذيب والعلامة في المنتهى أنه قبض مسموماً » .
وقال الكليني في الكافي : 1 / 439 : « ولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف ، في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار ، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلي الناس فيه . . .
وتوفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين ، وماتت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو ابن أربع سنين ، ومات عبد المطلب وللنبي ( صلى الله عليه وآله ) نحو ثمان
--------------------------- 128 ---------------------------
سنين ، وتزوج خديجة ، وهو ابن بضع وعشرين سنة » .
« الدار التي اشتراها محمد بن يوسف أخو الحجاج من ورثة عقيل بن أبي طالب بمائة ألف دينار ، ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجداً يصلي فيه الناس ويزورونه ويتبركون به ، وبقي على حالته تلك ، فلما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ومنعوا من زيارته ! على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، وجعلوه مربطاً للدواب » . أعيان الشيعة : 1 / 219 والصحيح : 2 / 68 .
أقول : اسم المكان شعب أبي طالب « رحمه الله » ، أو شعب بني هاشم ، ويسمونه الآن شِعب علي ( عليه السلام ) ، وقد رأيتُه سنة 1961 ميلادية وكان واضح المعالم ، وفي يسار مدخله بيت عبد الله والد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو مكان مولده الشريف ، وكان يومها مكتبة باسم : مكتبة مكة ، ثم أراد مشايخهم هدمه فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين ، فأبقوخالياً إلى يومنا هذا سنة 1438 ، ينتظرون فرصة لهدمه !
ورأيت يومها بيت أبي طالب « رحمه الله » داخل الشعب إلى اليمين ، في مكان مرتفع ، وقد جعلوه مدرسة باسم : مدرسة النجاح ، ثم أزالوه مع البيوت ، وأزالوا أكثر الجبلين اللذين يقع الشعب بينهما .
وفي الجهة الغربية مقابل شعب أبي طالب ، بيت خديجة « عليها السلام » وكان في سوق الليل أو سوق الذهب ، ويسمى : مولد فاطمة الزهراء « عليها السلام » ، وجعلوه مدرسة للبنات ، ثم أزالوه فيما أزالوا ، بل أمعنوا في أذاهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فجعلوه مرافق !
فكأن لهؤلاء الوهابية عداوةً مع آثار النبي وآله الأطهار ( صلى الله عليه وآله ) فهم يبادرون إلى إزالتها حتى لو كانت مساجد أو مملوكة للناس ! لكنهم حافظوا على حصن عدو الإسلام اليهودي كعب بن الأشرف ، الذي حاول اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبقوه بسوره وساحته وبئره ، وغرفه العشرة ، بعهدة بلدية المدينة المنورة ، جنب حديقة البلدية العامة ! وتجد صورته في شبكة النت !
--------------------------- 129 ---------------------------

14 . بعض الآيات الربانية عند ولادته ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 300 » : « لما ولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) جاء رجل من أهل الكتاب « الحاخام يوسف » إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن هشام ، وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية ، وعتبة بن ربيعة ، فقال : أوُلدَ فيكم مولودٌ الليلة ؟ فقالوا : لا ، قال : فولد إذاً بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخزِّ الأدكن ، ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه ، قد أخطاكم والله يا معشر قريش ! فتفرقوا وسألوا فأخبروا أنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام ، فطلبوا الرجل فلقوه فقالوا : إنه قد ولد فينا والله غلام ! قال : قبل أن أقول لكم أو بعدما قلت لكم ؟ قالوا : قبل أن تقول لنا ، قال : فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه ، فانطلقوا حتى أتوا أمه فقالوا : أخرجي ابنك حتى ننظر إليه ، فقالت : إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان ، لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ، ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى ، وسمعت هاتفاً في الجو يقول : لقد ولدته سيد الأمة ، فإذا وضعته فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ، وسميه محمداً ، قال : فأخرجيه ، فأخرجته فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه فخرَّ مغشياً عليه ! فأخذوا الغلام فأدخلوه إلى أمه وقالوا : بارك الله لك فيه . فلما خرجوا أفاق فقالوا له : ما لك ويلك ؟ قال : ذهبت نبوة بني إسرائيل إلى يوم القيامة ، هذا والله من يُبيرهم ! ففرحت قريش بذلك ، فلما رآهم قد فرحوا قال : قد فرحتم ! أما والله ليسطون بكم سطوةً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب » .
وفي أمالي الصدوق / 360 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع ، فلما ولد عيسى ( عليه السلام ) حجب عن ثلاث سماوات . وكان يخترق أربع سماوات ، فلما ولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حجب عن السبع كلها ، ورميت الشياطين بالنجوم ، وقالت قريش : هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه ! وقال عمرو بن أمية ، وكان من أزجر أهل الجاهلية : أنظروا
--------------------------- 130 ---------------------------
هذه النجوم التي يهتدى بها ، ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف ، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شئ ، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها ، فهو أمرحدث !
وأصبحت الأصنام كلها صبيحة مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليس منها صنم إلاوهو منكبٌّ على وجهه ، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى ، وسقطت منه أربعة عشر شرفة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وفاض وادي السماوة ، وخمدت نيران فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ورأى المؤبذان « عالم المجوس » في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً ، قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم ، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه ، وانخرقت عليه دجلة العوراء ، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ، ثم استطار حتى بلغ المشرق ، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح مُنكَّساً ، والملك مُخْرَسّاً لا يتكلم يومه ذلك .
وانتزع عِلْمُ الكهنة وبطل سحر السحرة ، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها ، وعظمت قريش في العرب ، وسموا آل الله عز وجل . قال أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : إنما سموا آل الله عز وجل ، لأنهم في بيت الله الحرام . وقالت آمنة : إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده ، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ، ثم خرج مني نور أضاء له كل شئ ، وسمعت في الضوء قائلاً يقول : إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً ، وأتيَ به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه ، فأخذ فوضعه في حجره ، ثم قال :
الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الأردانِ
قد ساد في المهد على الغلمانِ
ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً .
قال : وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا : ما الذي أفزعك يا سيدنا ؟ فقال لهم : ويلكم ، لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة ، لقد حدث في الأرض حدث عظيمٌ ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم ، فأخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث ، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا : ما وجدنا شيئاً !
--------------------------- 131 ---------------------------
فقال إبليس : أنا لهذا الأمر . ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوفاً بالملائكة ، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع ، ثم صار مثل الصِّر وهو العصفور فدخل من قبل حراء فقال له جبرئيل : وراءك لعنك الله . فقال له : حرف أسألك عنه يا جبرئيل ، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض ؟ فقال له : ولد محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له : هل لي فيه نصيب ؟ قال : لا . قال : ففي أمته ؟ قال : نعم . قال : رضيت » .
وفي دعائم الإسلام : 2 / 142 في قوله تعالى في سورة الجن : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا : « عن علي ( عليه السلام ) قال : كنا مع رسول الله ذات ليلة إذ رمي نجم فاستضاء ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للقوم : ما كنتم تقولون في وقت الجاهلية إذا رأيتم مثل هذا ؟ قالوا : كنا نقول : مات عظيم وولد عظيم ، فقال : فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياة أحد ، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبَّح حملة العرش فقالوا : قضى ربنا بكذا ، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم فيقولون ذلك حتى يبلغ ذلك أهل السماء الدنيا . فتسترق الشياطين السمع ، فربما اعتقلوا شيئاً فأتوا به الكهنة ، فيزيدون وينقصون ، فتخطئ الكهنة وتصيب .
ثم إن الله منع السماء بهذه النجوم فانقطعت الكهانة فلا كهانة ، وتلا قول الله عز وجل : إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ . وقوله جل ثناؤه : وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَداً » .

15 . نَسَبٌ طاهرٌ شامخٌ إلى إبراهيم وآدم ( ( عليهم السلام ) )

في الصحيح : 2 / 63 : « هو أبو القاسم محمد ( صلى الله عليه وآله ) بن عبد الله ، بن عبد المطلب شيبة الحمد ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصي ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن نضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان .
قالوا : إن هذا هو المتفق عليه من نسبه الشريف ، أما ما فوقه ففيه اختلاف
--------------------------- 132 ---------------------------
كثير ، غير أن مما لا شك فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل ( عليه السلام ) .
وروي أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا » .
وفي نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب : 1 / 10 : « أما عمود نسب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فعلى ما ذكره ابن إسحاق في السيرة وتبعه عليه ابن هشام . . . ثم أكمل النسب فقال : بن عدنان ، بن أدد ، بن مقوم ، بن ناحور ، بن تارخ ، بن يعرب ، بن يشجب ، بن نابت ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن تارخ وهو آزر ، بن تاخور بن شارخ ، بن أرغو ، بن فالغ ، بن عابر ، بن شالخ ، بن أرفخشد ، بن سام ، بن نوح ، بن لامك ، بن متوشلخ ، بن أخنوخ وهو إدريس ، بن يرد ، بن مهلائيل ، بن قنين ، بن يافت بن شيث ، بن آدم ( عليه السلام ) . والاتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنان . وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل فيه خلاف كثير » .
وفي شعب الإيمان للبيهقي : 2 / 137 : « نسبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صحيحة إلى عدنان ، وما وراء ذلك فليس فيه شئ يعتمد . . وذلك لاختلاف النسابين في ذلك ، منهم من يزيد ومنهم من ينقص ، ومنهم من يُغَيِّر » .
أقول : اتفق المؤرخون على أسماء أجداد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عدنان ، وهم واحد وعشرون جداً ، ثم ذكروا ثمانية أجداد إلى إبراهيم ( عليه السلام ) ، وسبعاً وعشرين جداً إلى آدم ( عليه السلام ) ، لكن هذا لا يتفق مع المدة التي رووها ، وهي 600 سنة إلى عيسى ( عليه السلام ) ، ثم 1270 سنة إلى موسى ( عليه السلام ) ، ثم 500 سنة إلى إبراهيم ( عليه السلام ) ، خاصة إذا افترضنا لكل ثلاثة آباء قرناً .
وقد بنوا كلامهم وكتبهم على رواية اليهود بأن عمر الأرض سبعة آلاف سنة ! وروى العياشي : 1 / 31 عن الصادق ( عليه السلام ) أن الله أسكن في الأرض الملائكة والجن قبل آدم ، وأنه قدر لآدم عشرة آلاف عام . لكنها ضعيفة لا يعتمد عليها .
وروي عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنه قال لأبي حمزة الثمالي : « أتظن أن الله لم يخلق خلقاً سواكم ؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف آدم ، وألف ألف عالم ، وأنت والله في آخر تلك العوالم » . مشارق أنوار اليقين / 60 .
وأقوال المؤرخين في عمرالإنسان على الأرض كلها ظنونٌ ليس فيها علم ولا اطمئنان ، وكذا قول علماء الطبيعة إن عمرالإنسان على الأرض ملايين السنين .
--------------------------- 133 ---------------------------
ومعنى قوله ( صلى الله عليه وآله ) : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا ، أن ما بأيديكم بعد عدنان غيردقيق ، ولعل معناه أن معلوماتكم عن التاريخ خطأ ، وتصحيحها متشعب ولم يؤمر به النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! راجع الإختصاص / 50 ، البحار : 54 / 86 ، ابن خلدون : 2 ق : 1 / 3 و 298 ، الحاكم : 2 / 598 ، كشف الخفاء : 2 / 314 ، تفسير الرازي : 19 / 179
وقصة الحضارة مجلد : 34 .

16 . رضاع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أمه آمنة ( عليها السلام )

أكثر المؤرخون والمحدثون من الرواية في رضاع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وضاعت الحقيقة لتفاوت مروياتهم ووجود المكذوب فيها . فقالوا : إن أمه لم ترضعه لأنها كانت قليلة اللبن ، أو أرضعته أياماً قليلة ، ثم أرضعته ثويبة أمة أبي لهب أياماً ، ثم جاءت حليمة ! وقصدهم بذلك مدح أبي لهب والطعن في أسرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولذا قالوا : إن المرضعات زهدن فيه لأنه يتيم ، مع أنه جده عبد المطلب رئيس قريش والعرب ، ومطعم الحجيج ، والناس تتنافس للتعامل معه !
والصحيح أن أمه « عليها السلام » أرضعته مدة سنة أو أكثر ، ثم أعطته إلى حليمة لينشأ في باديتهم قرب الطائف ، كما كانت عادة أهل مكة .
قال الشهيد الثاني « رحمه الله » في شرح اللمعة : 5 / 165 والمسالك : 1 / 376 : « قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش ونشأت في بني سعد ، وارتضعت من بني زهرة » . فافتخر بالرضاع كما افتخر بالنسب ، وهذه القبائل أفصح العرب .
وفي الإختصاص / 187 ، أن أعرابياً سأله : « يا رسول الله من أَدَّبَكَ ؟ قال : الله أدبني وأنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، وربيت في حجرٍ من هوازن » .
ورواه من السنيين : النووي في المجموع : 18 / 227 ، ابن حجر في تلخيص الحبير : 4 / 13 والمهذب في فقه الشافعي للشيرازي : 3 / 145 .
فرضاعه الأول ( صلى الله عليه وآله ) من أمه آمنة بنت وهب « عليها السلام » هو الأصل والمؤثر في شخصيته . ورضاعه الثاني من حليمة تكميلٌ أو إضافة ! فقوله ( صلى الله عليه وآله ) : ارتضعت
--------------------------- 134 ---------------------------
من بني زهرة ، معناه رضاعاً كاملاً عرفاً ، لمدة سنة ونحوها .
وتتعجب من كثرة روايتهم : « أنا أفصح من نطق بالضاد ، بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد » . وقلة روايتهم حديث رضاعه من أمه ( صلى الله عليه وآله ) ، وكذلك كثرة روايتهم افتخاره بنشأته في بني سعد ، كالذي رواه الطبراني في الكبير : 6 / 36 : « عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنا النبي لا كذب ، أنا بن عبد المطلب ، أنا أعرب العرب ، ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر ، فأنى يأتيني اللحن » . والسيوطي في الصغير : 1 / 411 والخصائص : 1 / 63 والعجلوني : 1 / 206 وابن قتيبة في المعارف / 132 ، ابن منظور : 3 / 99 والفائق : 1 / 9 و 126 .
والظاهر أنه ( صلى الله عليه وآله ) كرر ذلك في مناسبات عديدة ، ليذعن العرب لنبوته ، ففي معاني الأخبار / 320 : « عن محمد بن إبراهيم التميمي قال : كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنشأت سحابة فقالوا : يا رسول الله هذه سحابة ناشئة . فقال : كيف ترون قواعدها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنها وأشد تمكنها ، قال : كيف ترون بواسقها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنها وأشد تراكمها . قال : كيف ترون جونها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنه وأشد سواده . قال : فكيف ترون رحاها ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسنها وأشد استدارتها . قال : فكيف ترون برقها أخفواً أم وميضاً أم يشق شقاً ؟ قالوا : يا رسول الله بل يشق شقاً ، فقال رسول الله : الحيا . فقالوا : يا رسول الله ما أفصحك ، وما رأينا الذي هو أفصح منك ! فقال : وما يمنعني من ذلك ، وبلساني نزل القرآن بلسان عربي مبين .
ثم روى الصدوق « رحمه الله » تفسيره عن أبي عبيد قال : « القواعد : هي أصولها المعترضة في آفاق السماء ، وأحسبها تشبه بقواعد البيت وهي حيطانه ، والواحدة قاعدة ، قال الله عز وجل : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ . وأما البواسق ففروعها المستطيلة إلى وسط السماء إلى الأفق الآخر ، وكذلك كل طويل فهو باسق ، قال الله عز وجل : وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ . والجُون هو الأسود اليحمومي وجمعه جُوَن . وأما قوله : فكيف ترون رحاها ، فإن رحاها استدارة السحابة في السماء ولهذا قيل : رحا الحرب ، وهو الموضع الذي يستدار فيه لها ، والخَفْوُ الاعتراض من البرق في نواحي الغيم وفيه لغتان ، ويقال : خفا البرق يخفو خفواً ويخفى خفياً . والوميض : أن يلمع قليلاً
--------------------------- 135 ---------------------------
ثم يسكن ، وليس له اعتراض ، وأما الذي يشق شقاً فاستطالته في الجو إلى وسط السماء ، من غير أن يأخذ يميناً ولا شمالاً . قال مصنف هذا الكتاب : والحيا : المطر » .

17 . نشأته في البادية ورضاعه من حليمة

تناقضت روايتهم في كيفية أخذ حليمة له ومدة إرضاعها إياه ! ولم أجد ما يطمأن اليه في ذلك عن أئمة أهل البيت « عليهم السلام » ، والمؤكد أن عبد المطلب « رحمه الله » سلمه إلى زوجها الحارث السعدي ، فأخذه إلى منازلهم في بادية الطائف ، وأرضعته حليمة مدة من الزمن ، وأعادته إلى جده فأكرمهم .
ومن المقولات الكاذبة قولهم إنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يتيماً فزهدت فيه المرضعات ، مع أنه حفيد عبد المطلب زعيم العرب ! وكذلك قولهم إن ثويبة أو ثويبية مولاة أبي لهب أرضعته ( صلى الله عليه وآله ) ! وغرضهم تخفيف العذاب عن أبي لهب « البخاري : 6 / 125 » لأنه حليف أعداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين حكموا من بعده !
وقال الكراجكي « رحمه الله » في كنز الفوائد / 72 : « وشرف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعه وخصها بتربيته ، وكانت ذات عقل وفضل ، فروت من آياته ما يبهر عقول السامعين ، وأغناها الله ببركته في الدنيا والدين ، وكان لا يرضع إلا من ثديها اليمين . قال ابن عباس : ألهم العدل حتى في رضاعه ، لأنه علم أن له شريكاً ، فناصفه عدلاً منه ( صلى الله عليه وآله ) ! قالت حليمة : ولم أر قط ما يُرى للأطفال ، طهارةً ونظافةً ، وإنما كان له وقت واحد ثم لا يعود إلى وقته من الغد ، وما كان شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً ، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه . . وكان بنوسعيد يرون البركات بمقامه معهم وسكناه بينهم ، حتى أنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ليمسها بيده ، فيزول ما بها وتعود إلى أحسن حالها ! ولم يزل كذلك إلى أن ردته حليمة إلى أهله ، فاشتمل عليه جده عبد المطلب يحبوه التُّحف ويمنحه الطُّرف ، ويعد قريشاً به ويخبرهم بما يكون من حاله ، إلى أن دنت وفاته فوضعه في حجر أبي طالب وأوصاه به ،
--------------------------- 136 ---------------------------
وأمره بحياطته ورعايته ، وعرفه ما يكون من أمره » .
وفي المناقب : 1 / 32 : « وروي عن حليمة أنه جلس محمد وهو ابن ثلاثة أشهر ، ولعب مع الصبيان وهو ابن تسعة ، وطلب مني أن يسير مع الغنم يرعى وهو ابن عشرة ، وناضل الغلمان بالنبل وهو ابن خمسة عشر ، وصارع الغلمان وهو ابن ثلاثين « شهراً » ثم رددته إلى جده » .
وحديث المناقب الآنف إنها أعادته وعمره ثلاثون شهراً أي سنتين ونصفاً . قريب من قول ابن الجوزي في عيون التاريخ : 1 / 18 : « ثم أرضعته حليمة بنت عبد الله السعدية ، وردته إلى أمه بعد سنتين وشهرين » .
لكن في رواية العدد القوية / 122 والمناقب : 1 / 149 عن كتاب العروس وتاريخ الطبري : « ثم أرضعته حليمة السعدية ، فلبث فيهم خمس سنين » .
وفي صفوة الصفوة / 27 : « وقال ابن قتيبة : لبث فيهم خمس سنين . . فكان عند أمه آمنة إلى أن بلغ ست سنين ، ثم خرجت به إلى المدينة إلى أخواله بني عدي بن النجار تزورهم به ومعها أم أيمن تحضنه فأقامت به عندهم شهراً ، ثم رجعت به إلى مكة ، فتوفيت بالأبواء ، فقبرها هنالك » .
وفي تاريخ الذهبي : 1 / 46 : « ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وأخذته معها إلى أرضها ، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين ، ثم ردته إلى أمه » .
وروى ابن سعد أنها جاءت به بعد أربع سنين لما جاء الملكان وشقا صدره ، ثم عادت به فبقي سنة ! لكن خبر شق الصدر عندنا مكذوب . والمرجح عندنا : أن أمه ( صلى الله عليه وآله ) أرضعته سنة أو نحوها ، ثم أخذته حليمة السعدية فبقي عندها في بني سعد نحو أربع سنين . ويحتمل أن تكون حليمة في مدة وجوده عندها ، تأتي به إلى أمه فيبقى أياماً أو شهراً ، ثم تأخذه ، لأن مكان حليمة قرب الطائف وهو على بعد يومين أو أقل من مكة ، وهذه مسافة قريبة يومها .
--------------------------- 137 ---------------------------

18 . وفاؤه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لحليمة وأولادها

رويَ أن حليمة السعدية توفيت قبل هجرته ( صلى الله عليه وآله ) فبكى لها .
وفي الكافي : 2 / 161 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتته أخت له من الرضاعة ، فلما نظر إليها سُرَّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها ، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها ، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها ، فقيل له يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل ؟ فقال : لأنها كانت أبرُّ بوالديها منه » .
وفي جواهر العقود : 2 / 161 : « روي أن وفد هوازن قدموا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكلموه في سبي أوطاس : فقال رجل من بني سعد : يا محمد ، إنا لو كنا ملَّحْنَا للحارث بن
أبي شمر « أي أرضعنا لملك الشام » أو للنعمان بن المنذر « ملك الحيرة » ثم نزل منزلك هذا منا لحفظ ذلك لنا ، وأنت خير المكفولين فاحفظ ذلك . وإنما قالوا له ذلك لأن حليمة التي أرضعت النبي كانت من بني سعد » .
وفي البحار : 22 / 262 : « لم يكن لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قرابة من جهة أمه إلا من الرضاعة فإن أمه آمنة بنت وهب لم يكن لها أخ ولا أخت . إلا أن بني زهرة يقولون : نحن أخواله لأن آمنة منهم ، ولم يكن لأبويه عبد الله وآمنة ولد غيره . . وكان له خالةٌ من الرضاعة يقال لها سلمى ، وهي أخت حليمة بنت أبي ذؤيب ، وله أخوان من الرضاعة عبد الله بن الحارث وأنيسة بن الحارث ، أبوهما الحارث بن عبد العزى بن سعد بن بكر بن هوزان » .
وسمتها الرواية الشيماء ، وسماها في الفضائل / 87 : حُرَّة ، وروى قصتها مع الحجاج ، قال : « لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي فمثلت بين يديه قال لها : الله جاء بك ، فقد قيل عنك إنك تفضلين علياً على أبي بكر وعمر وعثمان ؟ ! فقالت : لقد كذب الذي قال إني أفضله على هؤلاء خاصة ؟ قال : وعلى من غير هؤلاء ؟ قالت : أفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وعلى موسى وداود وسليمان وعيسى بن مريم ! فقال لها : ويلك أقول
--------------------------- 138 ---------------------------
لك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة من الأنبياء من أولي العزم من الرسل ؟ إن لم تأت ببيان ما قلت وإلا ضربت عنقك ! فقالت : ما أنا مفضلته على هؤلاء الأنبياء ، ولكن الله عز وجل فضله عليهم في القرآن . . الخ . » .
أقول : لعل هذه ابنة الشيماء أخت النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الرضاعة ، فلو كانت نفسها لكان عمرها في زمن الحجاج أكثر من مئة سنة !
هذا ، وقد رووا كثيراً من معجزاته ( صلى الله عليه وآله ) في رضاعه ونشأته في بني سعد ، وبعضها مقبول ، وأكثرها مرسل ، وبعضها مردود ، كحديث شق الصدر .

19 . زيارة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبري والديه عبد الله وآمنة ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كان قبر عبد الله والد نبينا ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة المنورة مزاراً إلى الأمس ، بناه المسلمون من قديم وآخرهم سلاطين مصر والدولة العثمانية ، وقد زرته في سنة 1964 وسنة 1965 ميلادية ، وكان بيتاً داخل سوق المدينة غربي المسجد ، وكانت واجهة بابه الخارجي وعتبته أحجاراً ، نقشت عليها كتيبة بالعربية والتركية . وقد أقفله مشايخ الوهابية يومها مقدمة لهدمه !
أما الآن فأزالوه ودخل مكانه في توسعة ساحة المسجد النبوي ، ولم يبق له أثر !
كما أن قبر والدته آمنة « عليها السلام » في الأبواء في طريق مكة ، كان مزاراً للأوفياء لنبيهم وأسرته ( صلى الله عليه وآله ) ، ويعرف مكانه اليوم باسم « الخريبة » في منطقة الفرع .
قال في مراصد الاطلاع : 1 / 19 : « الأبواء : قرية من أعمال الفرع من المدينة ، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً . وبالأبواء قبر آمنة أم النبي » .
وقد أفتى فقهاؤنا باستحباب زيارة قبروالديه ( صلى الله عليه وآله ) وهذا نص زيارة أمه آمنة « عليها السلام » :
« السلام عليك أيتها الطاهرة المطهرة ، السلام عليك يا من خصها الله بأعلى الشرف ، السلام عليك يا من سطع من جبينها نور سيد الأنبياء فأضاءت به الأرض والسماء . السلام عليك يا من نزلت لأجلها الملائكة وضربت لها حجب الجنة .
السلام عليك يا من نزلت لخدمتها الحور العين وسقنها من شراب الجنة وبشرنها
--------------------------- 139 ---------------------------
بولادة خير الأنبياء . السلام عليك يا أم رسول الله ، السلام عليك يا أم حبيب الله . فهنيئاً لك بما آتاك الله من فضله ، والسلام عليك وعلى رسول الله
ورحمة الله وبركاته » .
وشذ الوهابية عن كافة المسلمين فحرموا زيارة قبر أم النبي « عليها السلام » وعاقبوا من زاره !
ثم طغوا وفجَّروا القبر بالديناميت !
وكتب عبد الحسين البصري في شبكة الموسوعة الشيعية : 28 / 3 / 2000 موضوعاً بعنوان « ديناميت السلفية » ! قال فيه :
« للتاريخ فقط ، ولتبقى صفحة سوداء في وجة خوارج العصر ، نؤرخ لحدث وقع أصاب كبد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ألا وهو تفجير قبر آمنه بنت وهب أم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، الواقع في الأبواء وذلك في الثامن من مارس سنة 2000 ميلادي !
ألا لعنة الله على القوم الظالمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » .
ثم كتب في رد مزاعم الوهابيين بأن زيارة قبر آمنة « عليها السلام » شرك بالله تعالى !

20 . ظلم المسلمين لنبيهم في والديه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

قال الحموي في معجم البلدان : 1 / 79 : « وبالأبواء قبر آمنة بنت وهب أم النبي وكان السبب في دفنها هناك أن عبد الله والد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمراً فمات بالمدينة ، فكانت زوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره ، فلما أتى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما صارت بالأبواء منصرفةً إلى مكة ماتت بها ، ويقال إن أبا طالب زار أخواله بني النجار بالمدينة ، وحمل معه آمنة أم رسول الله ، فلما رجع منصرفاً إلى مكة ، ماتت آمنة بالأبواء » .
وقال ابن سعد : 1 / 116 : « فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً . فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك : لما نظر إلى أطَمِ بني عدي
--------------------------- 140 ---------------------------
بن النجار عرفه وقال : كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم ، وكنت مع غلمان من أخوالي نطيِّر طائراً كان يقع عليه . ونظر إلى الدار فقال : هاهنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب ، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار .
وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه ، فقالت أم أيمن : فسمعت أحدهم يقول هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته ، فوعيت ذلك كله من كلامه ،
ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك ، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة ، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت . فلما مرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عمرة الحديبية بالأبواء قال : إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ، فأتاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأصلحه وبكى عنده ، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
أقول : زعم أتباع مذاهب الخلافة أن والدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) كافرة وأنها في جهنم ! وزعموا أنه استأذن ربه في زيارة قبرها وهو في طريقه إلى الحديبية فأذن له ، فبكى وأجهش بالبكاء طويلاً وأبكى المسلمين معه ، لكنه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له ، وأبقاها في نار جهنم والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يرى عذابها !
ففي شرح مسند أبي حنيفة للقاري / 335 : « فمكث طويلاً ثم اشتد بكاؤه حتى ظننا أنه لا يسكن . . قال : استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، فاستأذنته في الشفاعة فأبى ! فبكيت رحمة لها » !
وفي تفسير الطبري : 11 / 58 : « وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ » !
وفي السيرة الحلبية : 1 / 173 : « وفي رواية إن جبريل ضرب في صدره قال :
لا تستغفر لمن مات مشركاً ، فما رؤى باكياً أكثر منه يومئذ » !
وقال محمد ناصر الألباني في أحكام الجنائز / 187 : « عن أبي هريرة قال :
--------------------------- 141 ---------------------------
زار النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي » ! وصحيح مسلم : 3 / 65 وأبو داود : 2 / 72 .
وهكذا صوروا الرحمن الرحيم عز وجل خشناً قاسياً ، لا يرحم عواطف نبيه الإنسانية تجاه والدته ، ولا يعبأ ببكائه وحرقته عليها ، ولايسمح له أن يقول : اللهم اغفر لها ! فالمهم عندهم أن يكون آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأمهاته في النار ! حتى لا يكونوا مؤمنين فيرثوا إسماعيل ( عليه السلام ) وتكون الخلافة في عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ومن تناقضهم أنهم كذبوا أنفسهم ، فرووا أن هذه الآية نزلت قبل الحديبية وأن سبب نزولها غير هذا ! ثم كذبوا أنفسهم في موضع آخر فرووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) شفع لعمه أبي طالب فنقله من قعر جهنم إلى ضحضاحها ! صحيح بخاري : 4 / 247 !
ثم كذبوا أنفسهم فرووا في قوله تعالى : فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ « قال ( صلى الله عليه وآله ) : أجورهم : يدخلهم الجنة ، ويزيدهم من فضله : الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ، ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا » . الدر المنثور : 2 / 249 .
وروى ابن ماجة : 2 / 1215 : « يُصَفُّ الناس يوم القيامة صفوفاً فَيَمُرُّ الرجل من أهل النار على الرجل فيقول : يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة ؟ قال : فيشفع له . ويمر الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهوراً ؟ فيشفع له » !
فتراهم عندما يصلون إلى والدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأجداده وعمه أبي طالب « عليهم السلام » يضيقون رحمة الله وشفاعة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) حتى لا تشملهم ، ويقلدون اليهود فينسبون إلى الله تعالى الشدة والقسوة على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) !
والسبب : أنهم بحاجة إلى تكفير أسرته ، ليرثوا سلطانه ، ويبعدوا عترته « عليهم السلام » !

21 . أم أيمن حاضنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخادمة فاطمة ( عليها السلام )

1 . كانت أم أيمن حاضنة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ورثها من أبيه فأعتقها : « وورث خمسة أجمال أوارك « يرعون الأراك » وقطيعة غنم ، وسيفاً مأثوراً « تاريخياً » وورِقاً « نقداً » . « المناقب : 1 / 147 والطبقات : 1 / 100 » . « كان اسمها بركة ، فأعتقها وزَوَّجها
--------------------------- 142 ---------------------------
عبيد الخزرجي بمكة ، فولدت له أيمن فمات زوجها فزوجها النبي ( صلى الله عليه وآله ) من زيد ، فولدت له أسامة ، أسود يشبهها ، فأسامة وأيمن أخَوَان لأم » . البحار : 22 / 263 .
كانت جارية سوداء نوبية « كتاب سليم / 389 » « فلما ولدت آمنة النبي بعدما توفي أبوه ، حضنته أم أيمن حتى كبر ، ثم أعتقها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم أنكحها زيد بن حارثة . توفيت بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخمسة أشهر » . قاموس الرجال : 12 / 193 .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة ، فليتزوج أم أيمن ، فتزوجها زيد بن حارثة ، فولدت له أسامة بن زيد » . الطبقات : 8 / 224 .
وكانت أم أيمن تخطئ في العربية : « قالت يوم حنين : سبت الله أقدامكم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان » . الطبقات : 8 / 225 .
2 . لما توفيت آمنة والدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعها من المدينة : « فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة ، وكانت تحضنه مع أمه ، ثم بعد أن ماتت » . الطبقات : 1 / 116 .
3 . في الطبقات : 1 / 117 وتاريخ دمشق : 3 / 85 : « قال عبد المطلب لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله : يا بركة لا تغفلي عن ابني ، فإني وجدته مع غلمان قريباً من السدرة ، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة .
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا قال : عليَّ بابني فيؤتى به إليه ، فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحياطته » .
4 . قالت أم أيمن عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ما رأيته شكى ، صغيراً ولا كبيراً ، جوعاً ولا عطشاً ! كان يغدو فيشرب من زمزم ، فأعرض عليه الغداء فيقول : لا أريده أنا شبعان » . « الطبقات : 1 / 168 » . وقالت : « رأيته وهو ابن ثمان سنين يبكي خلف سرير عبد المطلب ، حتى دفن بالحجون » . الطبقات : 1 / 119 والبحار : 15 / 162 .
5 . كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول لها : يا أُمَّهْ ، ويزورها في بيتها . « الطبقات : 8 / 223 » . ويثق بها ، فقد وضع عندها أمانات الناس : « فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن ، وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يردها » . الحدائق الناضرة : 21 / 433 .
--------------------------- 143 ---------------------------
6 . وكذبوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه كان يبول في إناء فشربت أم أيمن بوله ، قالوا أنه بال ذات مرة في قدح وكان تحت سريره ، قالت أم أيمن : « فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر ، فلما أصبح النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة . قلت : قد والله شربت ما فيها ! قال فضحك النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : لن تشتكي بطنك » . نيل الأوطار : 1 / 106 والمناقب : 1 / 108 .
وضعفه في مجمع الزوائد لكنه صحح مثله : 8 / 270 : « كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره فقام فطلبه فلم يجده فسأل فقال أين القدح قالوا شربته سُرَّة خادم أم سلمة ، التي قدمت معها من أرض الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد احتظرت من النار بحظار » .
وجوَّز ذلك الشافعي وغيره وحكموا بطهارة بول النبي ( صلى الله عليه وآله ) . المعتبر : 1 / 410 .
وروي أن أم أيمن : « ما مرضت حتى كان مرضها الذي ماتت فيه » . نيل الأوطار : 1 / 106 .
لكنها رواية مكذوبة ولعلها من أجل تبرير عمل بعضهم ! « راجع مسند الجعد / 41 » . لأن بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان فيه كنيف ، وفيه بيت للنار وللتنور ، أي مطبخ . وفيه غرفة كبيرة يستقبل فيها الناس تفتح على المسجد ، وفيه غرفة لابنته فاطمة « عليها السلام » ، وغرفة للخادم . قال علي ( عليه السلام ) « النوادر / 200 و 227 » : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا أراد أن يتنخع وبين يديه ناس ، غطى رأسه ثم دفنه ، وإذا أراد أن يبزق فعل مثل ذلك ، وكان إذا أراد الكنيف غطى رأسه » .
وقال ( عليه السلام ) : « علمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا دخلت الكنيف أن أقول : اللهم إني أعوذ بك من الخبيث والخبائث المخبث ، النجس الرجس الشيطان الرجيم » .
فقد كانت الكُنف منشرة ، ولهذا نردُّ حديث أنه كان يبول في إناء من فخار أو عيدان ، وأن فلانة أو فلانة شربت بوله ( صلى الله عليه وآله ) .
وكذا نردُّ حديث عائشة الذي يزعم أن بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان مدة بلا كنيف ! قالت : « البخاري : 3 / 155 » : « فخرجت أنا وأم مسطح قِبَل المناصع متبرزنا ، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر
--------------------------- 144 ---------------------------
العرب الأول في البرية » . فهذا يصح في بيت أبيها ، وليس في بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
روى البيهقي : 1 / 93 : « عن ابن عمر : دخلت بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مستقبل القبلة » . وقد توهم عبد الله في جهته .
ولهذا لا يصح ما رواه البخاري : 1 / 45 : « إن أزواج النبي كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح ، فكان عمر يقول للنبي أجب نساءك ، فلم يكن رسول الله يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة ، حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب » .
فهو موضوع لإثبات أن آية حجب نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) نزلت بطلب عمر : « وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ » .
7 . وهاجرت أم أيمن مع ابنها أيمن وصغيرها أسامة ، فقد واعدهم عليٌّ ( عليه السلام ) : « أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد ، إلى ذي طوى » فوافوه هناك ، ومعهم عدد من مستضعفي المسلمين . أمالي الطوسي / 469 وسبل الهدى : 3 / 267 .
8 . وكانت تعيش في المدينة مع زوجها زيد وتساعد الزهراء « عليها السلام » في عمل البيت ، ففي أمالي الطوسي / 669 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « زارنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد أهدت لنا أم أيمن لبناً وزبداً وتمراً ، فقدمناه فأكل منه ثم قام النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى زاوية البيت فصلى ركعات ، فلما كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً ، فلم يسأله أحد منا إجلالاً له ، فقام الحسين ( عليه السلام ) فقعد في حجره وقال له : يا أبت لقد دخلت بيتنا فما سررنا بشئ كسرورنا بدخولك ، ثم بكيت بكاء غمنا فلمَ بكيت ؟ فقال : يا بني أتاني جبرئيل آنفاً فأخبرني أنكم قتلى ، وأن مصارعكم شتى ! فقال : يا أبت فما لمن يزور قبورنا على تشتتها ؟ فقال : يا بني ، أولئك طوائف من أمتي يزورونكم يلتمسون بذلك البركة ، وحقيق عليَّ أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم ، ويسكنهم الله الجنة » .
9 . لما تزوجت فاطمة « عليها السلام » أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم أيمن فكانت تساعدها ، وروت عدة أحاديث في سيرتها ، وسيرة العترة الطاهرة « عليهم السلام » .
--------------------------- 145 ---------------------------
منها : عن ولادة الحسين ( عليه السلام ) وفضل تربته وأنها من بطحاء الجنة ، وأنها أطهر بقاع الأرض ، وأعظمها حرمة . السجود على الأرض للأحمدي / 140 والبحار : 98 / 114 .
ومنها : معجزة الرحى : وقد رواها الجميع وأن الزهراء « عليها السلام » شكت إلى أبيها ( صلى الله عليه وآله ) ما تلقى من الرحى . « المجموع 19 / 374 وشرح مغني ابن قدامة 8 / 146 » . وقالت : « مضيت ذات يوم إلى منزل سيدتي ومولاتي فاطمة لأزورها في منزلها وكان يوما حاراً من أيام الصيف ، فأتيت إلى باب دارها وإذا أنا بالباب مغلق ، فنظرت من شق الباب وإذا بفاطمة نائمة عند الرحى ورأيت الرحى تدور وتطحن البر ، وهي تدور من غير يد تديرها ، والمهد أيضاً إلى جنبها والحسين نائم فيه والمهد يهتز ولم أر من يهزه ! ورأيت كفاً تسبح لله قريباً من كف فاطمة . قالت أم أيمن : فتعجبت من ذلك فتركتها ومضيت إلى سيدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقلت : يا رسول الله إني رأيت اليوم عجباً ما رأيت مثله أبداً . فقال لي : ما رأيت يا أم أيمن ؟ فقلت : إني قصدت منزل فاطمة فلقيت الباب مغلقاً فإذا أنا بالرحى تطحن البر وهي تدور من غير يد ، ورأيت مهد الحسين يهتز من غير يد تهزه ورأيت كفاً يسبح لله قريباً من كف فاطمة ! فقال : يا أم أيمن اعلمي أن فاطمة صائمة ، وهي متعبة والزمان قيض ، فألقى الله عليها النعاس فنامت ، فسبحان من لا ينام ، فوكل الله ملكاً يطحن عنها قوت عيالها وأرسل ملكاً آخر ، يهز مهد ولدها الحسين لئلا يزعجها عن نومها ، ووكل الله تعالى ملكا آخر يسبح الله عز وجل قريباً من كف فاطمة ثواب تسبيحه لها ، لأن فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عز وجل فإذا نامت جعل الله ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة » . مدينة المعاجز : 4 / 47 .
10 . أكرم الله أم أيمن ببركة الزهراء « عليها السلام » : « خرجت إلى مكة لما توفيت فاطمة قالت : لا أرى المدينة بعدها ! فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها ، فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت : يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك ؟ قال : فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت » . المناقب : 1 / 116 .
11 . كانت طيبة بسيطة وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنها من أهل الجنة ، وكانت تعرف
--------------------------- 146 ---------------------------
إمامة علي ( عليه السلام ) ولا تعرف إمامة بقية الأئمة « عليهم السلام » .
وقد سألها النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوماً عن علي ( عليه السلام ) : « أثَم أخي ؟ قالت : وكيف يكون أخوك وقد أنكحته ابنتك ؟ قال : فإنه كذلك » . الطبقات : 8 / 23 .
وفي الكافي : 2 / 405 : « عن إسماعيل الجعفي قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله ؟ فقال : الدين واسع ، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم ! قلت : جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه ؟ فقال : بلى ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ، ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم . فقال : ما جهلت شيئاً ، هو والله الذي نحن عليه . قلت : فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر ؟ فقال : لا إلا المستضعفين . قلت : من هم ؟ قال : نساؤكم وأولادكم ، ثم قال : أرأيت أم أيمن ، فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه » .
يعني كانت قاصرة الذهن أو شبه قاصرة عن إدراك منظومة الأئمة « عليهم السلام » بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومع ذلك فهي من أهل الجنة لأن الله تعالى يطلب من الشخص قدر ما آتاه من الإدراك والتعقل : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا .
12 . أمَّرَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مرض وفاته أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم الذين قتلوا أباه زيداً . وكان أسامة في السابعة عشرة من عمره « الفصول للجصاص 1 / 159 » وأمره النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمسير ولعن من تخلف عنه ، وكان ذلك : « لأربع ليال بقين من صفر سنة 11 من الهجرة وعسكر بالجرف . فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين والأنصار إلا اشتد لذلك وتهيأ للخروج ، منهم أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص » . المراجعات / 368 مستدرك سفينة البحار : 5 / 36 و 209 .
وقال ابن حجر في فتح الباري : 8 / 115 ، وهو من كبار أئمة السلطة : « وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبو بكر وعمر في بعث أسامة ، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي ، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد ، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه : بدأ برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجعه
--------------------------- 147 ---------------------------
يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال : أغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك ، فقد وليتك هذا الجيش . فذكر القصة وفيها : لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر . . وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش » .
وكان هدف النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يخلي المدينة لعلي ( عليه السلام ) ويبعد عنها الطامعين في خلافته وقد عملوا للتأثير على أم أيمن ، فطلبت من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يؤخر إرسال أسامة لأنه قلق عليه فلم يقبل ( صلى الله عليه وآله ) وأكد أمره له بالمسير بالجيش .
ثم أشاعوا اعتراضهم على تأمير أسامة على شيوخ قريش والأنصار ، وهو شاب أسود ابن سبع عشرة سنة ! فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وخرج وهو مريض وصعد المنبر ومدح أسامة وأمره بالحركة ، ولعن من تخلف عنه !
فتحرك أسامة فعاد القرشيون إلى أم أيمن ، فأرسلت إلى ولدها أن لا يتحرك بجيشه لأن حال النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد ثقلت ! فاستغلوا بساطتها رحمها الله .
13 . لكنها عندما توفي النبي ( صلى الله عليه وآله ) استنكرت مسارعتهم إلى السقيفة وبيعتهم أبا بكر ، فجاءت إليهم وقالت : « يا أبا بكر ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد ! فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد » . كتاب سُليم / 157 و 389 .
14 . عندما صادروا تركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، واحتجت الزهراء « عليها السلام » على أبي بكر ، طلب منها شهوداً . قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « فجاءت فاطمة « عليها السلام » إلى أبي بكر ، فقالت يا أبا بكر منعتني عن ميراثي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأمر الله . فقال لها هاتي على ذلك شهوداً ، فجاءت بأم أيمن فقالت : لا أشهد حتى أحتج يا أبا بكر عليك بما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالت : أنشدك الله ألست تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن أم أيمن من أهل الجنة ؟ قال بلى . قالت : فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وَآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه ، فجعل فدك لفاطمة بأمر الله . وجاء علي ( عليه السلام ) فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتاباً بفدك ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟
--------------------------- 148 ---------------------------
فقال أبو بكر : إن فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبت لها بفدك ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه » . تفسير القمي : 2 / 155 ونحوه العياشي : 2 / 278 .
15 . كانت أم أيمن ثقة الزهراء « عليها السلام » قال الصادق ( عليه السلام ) : « لما نعي إلى فاطمة نفسها أرسلت إلى أم أيمن وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها » . علل الشرائع : 1 / 187 .
16 . « اشترى عبد المطلب أم أيمن من جيش أبرهة ، وتوفيت بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشهورقليلة فتح الباري : 7 / 70 وكانت في السبعينات . لكن رواة الخلافة أخروا وفاتها عشر سنين ليقولوا إنها رضيت على أبي بكر وعمر ومدحته وقالت يوم قتل : اليوم وَهَى الإسلام » . تاريخ البخاري الصغير : 1 / 88 وتاريخ دمشق : 4 / 302 .
17 . أيمن بن عبيد أفضل من أخيه أسامة بن زيد ، فقد استشهد أيمن دفاعاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حنين لما فرَّ عنه المسلمون ، وهاجمه عوف بن مالك زعيم هوازن ليقتله : فاعترضه أيمن : « فالتقيا فقتله مالك » . ولم يصل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . المناقب : 1 / 181 ، تاريخ دمشق : 4 / 257 ، ذخائر العقبى / 198 وكبير الطبراني : 1 / 288 .
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 140 ونحوه الإستيعاب : 2 / 813 : « فلم يبق منهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا عشرة أنفس ، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن « رحمه الله » وثبت تسعة النفر الهاشميون ، حتى ثاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كان انهزم . وقال العباس بن عبد المطلب في هذا المقام :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة * وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه * على القوم أخرى يا بني ليرجعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه * لما ناله في الله لا يتوجع
يعني به أيمن بن أم أيمن » .
18 . أما أسامة بن زيد ابن أم أيمن فعاش في كنف النبي وعترته ( صلى الله عليه وآله ) . وكان أسود قوي البنية وقد أمَّرَه النبي ( صلى الله عليه وآله ) على سرية ، ثم أمَّره في مرض وفاته على جيش من ثلاثة آلاف مقاتل ، وكان في الثامنة عشرة أو السابعة عشرة . وعاد من معسكره في الجرف بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يبايع أبا بكر حتى بايع علي ( عليه السلام ) . وتوفي أسامة زمن معاوية سنة 54 هجرية .

  • *
    --------------------------- 149 ---------------------------

الفصل السابع

في كفالة جده الحنون ، وبيت عمه الحنون « عليهم السلام »

1 . في كفالة جده الحنون عبد المطلب

في الكافي : 1 / 448 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كان عبد المطلب يُفرش له بفناء الكعبة ، لا يُفرش لأحد غيره ، وكان له وُلْدٌ يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه ، فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه ، فقال له عبد المطلب : دع ابني فإن المُلك قد أتاه » !
وفي رواية كمال الدين / 171 ، عن ابن عباس ، قال : « دعوا ابني فوالله إن له لشأناً عظيماً ، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم ، إني أرى غرته غرة تسود الناس ، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول : ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط ، ولا جسداً ألين منه ، ولا أطيب منه . ثم يلتفت إلى أبي طالب وذلك أن عبد الله وأبا طالب لأم واحدة ، فيقول : يا أبا طالب إن لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به ، فإنه فردٌ وحيدٌ ، وكن له كالأم ، لا يوصل إليه بشئ يكرهه ، ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعاً .
وكانت هذه حاله حتى أدركت عبد المطلب الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب ، ومحمد على صدره وهو في غمرات الموت ، وهو يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب أنظر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ، ولا ذاق شفقة أمه ، أنظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك ، فإني قد تركت بنيَّ كلهم وأوصيتك به ، لأنك من أم
--------------------------- 150 ---------------------------
أبيه . يا أبا طالب إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس وأعلم الناس به ، فإن استطعت أن تتبعه فافعل ، وانصره بلسانك ويدك ومالك ، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي . يا أبا طالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ، ولا أمه على حال أمه ، فاحفظه لوحدته ، هل قبلت وصيتي فيه ؟
فقال : نعم قد قبلت واللهُ عليَّ بذلك شهيد ، فقال عبد المطلب : فمدَّ يدك إليَّ فمد يده إليه فضرب يده على يده ثم قال عبد المطلب : الآن خفَّ عليَّ الموت !
ثم لم يزل يقبله ويقول : أشهد أني لم أقبل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ، ولا أحس وجهاً منك ، ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه !
فمات عبد المطلب وهو ( صلى الله عليه وآله ) ابن ثمان سنين ، فضمه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه لا يأتمن عليه أحداً » !
قال اليعقوبي : 2 / 12 ، « أوصى لأبي طالب برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبزمزم ، وقال له :
وصيك يا عبد مناف بعدي * بمفرد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد * فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد * فأنت من أرجى بَنِيَّ عندي
لدفع ضيم أو لشد عقد
وتوفي عبد المطلب ولرسول الله ثماني سنين ، ولعبد المطلب مائة وعشرون سنة وقيل مائة وأربعون سنة ، وأعظمت قريش موته ، وغُسل بالماء والسدر ، وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر ، ولُفَّ في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب ، وطرح عليه المسك حتى سترهُ ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام ، إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب !
واحتبى « جلس » ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبد المطلب ، واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية ، والوليد بن ربيعة المخزومي ، فادعى كل واحد الرئاسة » .
--------------------------- 151 ---------------------------

2 . استسقى به جده عبد المطلب فسقاهم الله تعالى

قال اليعقوبي : 2 / 12 : « كان أصحاب الكتاب لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد ، فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب ، فقال : أما والله لئن نَفَستني قريش الماء ، يعني ماءً سقاه الله من زمزم ، وذي الهرم « بئر » لتنفسني غداً الشرف العظيم ، والبناء الكريم ، والعز الباقي ، والسناء العالي ، إلى آخر الدهر ويوم الحشر ! وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع ففزعوا وقالوا : قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى ، فادع الله أن يسقينا ، وسمعوا صوتاً ينادي من بعض جبال مكة : معشر قريش إن النبي الأمي منكم ، وهذا أوان تَوَكُّفه ، ألا فانظروا منكم رجلاً عظاماً جساماً له سنٌّ يدعو إليه وشرفٌ يعظم عليه ، فليخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن ، وليدع الرجل وليؤمِّن القوم ، فخصبتم ما شئتم إذن وغُثتم !
فلم يبق أحد بمكة إلا قال : هذا شيبة الحمد ، هذا شيبة الحمد ! فخرج عبد المطلب ومعه رسول الله وهو يومئذ مشدود الإزار ، فقال عبد المطلب : اللهم سادَّ الخَلة ، وكاشف الكُربة ، أنت عالمٌ غير مُعلم ، مسؤولٌ غير مُبَخَّل ، وهؤلاء عُبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك ، يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع ، وأذهبت الزرع ، فاسمعنَّ اللهم ، وأمطرنَّ غيثاً مَريعاً مغدقاً . فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها ، وكظ الوادي بثجه » ، وفي ذلك يقول بعض قريش :
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا * وقد فقدنا الكرى واجلوَّذَ المطر
مناً من الله بالميمون طائرُهُ * وخيرِ من بُشرت يوماً به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به * ما في الأنام له عدلٌ ولا خَطَر
وقد اشتهرت رواية رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم ، وفيها : « قام فاعتضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه ، وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب ، ثم قال . . . فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء
--------------------------- 152 ---------------------------
بمائها . . . فسمعت شِيخان قريش وجلتها : عبد الله بن جدعان ، وحرب بن أمية ، وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب : هنيئاً لك سيد البطحاء » ! الدعاء للطبراني / 606 ، معجمه الكبير : 24 / 260 ، مجمع الزوائد : 2 / 214 ، شرح النهج : 7 / 271 وغيرها .
ومعنى : قد أيفع أو كرب : أنه كان صبياً يافعاً قارب البلوغ ، فكان يبدو كبير السن للناظر ، وإن كان سنه أصغر من ذلك ( صلى الله عليه وآله ) .
وكان جده يعتمد عليه في المهمات ! ففي الكافي : 1 / 447 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان عبد المطلب أرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رعاته في إبل قد ندَّت له ليجمعها فأبطأ عليه ، فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول : يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمرٌ ما بدا لك ! فجاء رسول الله بالإبل ، وقد وجه عبد المطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه . . ولما رأى رسول الله أخذه فقبله وقال : يا بني لاوجهتك بعد هذا في شئ ، فإني أخاف أن تُغتال فتقتل » .
وقال اليعقوبي : 2 / 10 : « رجع من بني سعد ابن أربع سنين أو خمس وهو في خلق ابن عشر وقوته » .

3 . عاش صباه وشبابه في بيت عمه الحنون أبي طالب ( ( ع ) )

« توفي عبد المطلب في شهر ربيع الأول وللنبي ( صلى الله عليه وآله ) ثماني سنين من عمره ، فكفله أبو طالب أحسن كفالة » . كنز الفوائد / 72 .
« فكان خير كافل ، وكان أبو طالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً . . وخرج به إلى بُصْرَى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين ، وقال : والله لا أكلك إلى غيري !
وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعاً ، يروى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما توفيت وكانت مسلمة فاضلة أنه قال : اليوم ماتت أمي ! وكفنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع في لحدها ، فقيل له : يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة ! قال : إنها كانت أمي ، إنْ كانت لتُجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعثهم وتدهنني ، وكانت أمي » . تاريخ اليعقوبي : 2 / 13 .
وفي أمالي الصدوق / 390 ، عن ابن عباس : « قال : يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا
--------------------------- 153 ---------------------------
فخر ، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك : من ربك ؟ فقولي : الله ربي ومحمد نبيي ، والإسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وابني إمامي ووليي . ثم قال : اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت . ورويَ أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي أدخل ، يا حسن أدخل ، فدخلا القبر ، فلما فرغ مما احتاج إليه قال له : يا علي أخرج ، يا حسن أخرج فخرجا ، ثم زحف النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى صار عند رأسها ، ثم قال : يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر ، فإن أتاك منكر ونكير فسألاك : من ربك ؟ فقولي : الله ربي ومحمد نبيي ، والإسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وابني إمامي ووليي » .
أقول : توفيت فاطمة بنت أسد « عليها السلام » في شوال في السنة الرابعة أو الخامسة ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) سبطه الحسن وعمره نحو سنتين ، لينزل في قبرها إيذاناً بمكانته ، ولعله إشارة إلى أن هذه بقعته ( عليه السلام ) . مستدرك سفينة البحار : 5 / 207 و 8 / 256 .
وفي الحدائق الناضرة : 22 / 634 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى المدينة على قدميها » !
وروى الحاكم : 3 / 108 : « لما ماتت فاطمة بنت أسد كفنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قميصه وصلى عليها وكبر عليها سبعين تكبيرة ، ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها ، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان وحثى في قبرها . فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد ! فقال : يا عمر إن هذه المرأة كانت أمي التي ولدتني ! إن أبا طالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة ، وكان يجمعنا على طعامه ، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيبنا فأعود فيه . وإن جبريل أخبرني عن ربي عز وجل أنها من أهل الجنة ، وأخبرني جبريل أن الله تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلون عليها » !
وعقد في مجمع الزوائد : 9 / 256 بابا : مناقب فاطمة بنت أسد رضي الله عنها .
--------------------------- 154 ---------------------------

4 . واستسقى به عمه أبو طالب فسقاهم الله تعالى

اشتهر قول أبي طالب « رحمه الله » في مدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قصيدته اللامية العصماء :
وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) طلب أن يُنشدوه القصيدة ، كما في بدائع الصنائع : 1 / 283 ، البخاري : 2 / 15 ، أحمد : 2 / 93 وأمالي المفيد / 301 ، قال : « جاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : والله يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط ، ولا غنم يغط ، ثم أنشأ يقول :
أتيناك يا خير البرية كلها * لترحمنا مما لقينا من الأزْلِ
أتيناك والعذراءُ يُدمى لُبانها * وقد شُغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الفتيُّ استكانةً * من الجوع ضعفاً ما يُمِرُّ وما يُحلي
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العاميِّ والعلهز الفَسْل
وليس لنا إلا إليك فرارن * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقال رسول الله لأصحابه : إن هذا الأعرابي يشكو قلة المطر وقحطاً شديداً !
ثم قام يجر رداءه حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وكان مما حمد ربه أن قال : الحمد لله الذي علا في السماء فكان عالياً ، وفي الأرض قريباً دانياً ، أقرب إلينا من حبل الوريد . ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ، مريئاً مريعاً ، غدقاً طبقاً ، عاجلاً غير رائث ، نافعاً غير ضائر ، تملأ به الضرع ، وتنبت به الزرع ، وتحيي به الأرض بعد موتها . فما رد يديه إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل والتفت السماء بأردافها ، وجاء أهل البطاح يضجون يا رسول الله : الغرق الغرق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم حوالينا ولا علينا ، فانجاب السحاب عن السماء ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : لله در أبي طالب ، لو كان حياً لقرَّت عيناه ، من ينشدنا قوله ؟ فقام عمر فقال : عسى أردت يا رسول الله :
وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبرُّ وأوفى ذمةً من محمد
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ليس هذا من قول أبي طالب ، بل من قول حسان بن ثابت ، فقام علي بن أبي طالب فقال : كأنك أردت يا رسول الله قوله :
--------------------------- 155 ---------------------------
وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه * ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ
يلوذُ به الهُلاَّكُ من آل هاشمٍ * فهم عنده في نعمةٍ وفواضل
كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً * ولما نطاعنْ دونه ونقاتل
ونُسلمه حتى نُصَرَّع حوله * ونَذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أجل . فقام رجل من بني كنانة فقال :
لك الحمد والحمد ممن شكرْ * سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوةً * وأشخص منه إليه البصر
ولم يك إلا كقلب الرداء * وأسرع حتى أتانا المطر
دفاق العزائل جم البعاق * أغاث به الله عَلْيَا مُضر
فكان كما قاله عمه * أبو طالب ذا رواء غزر
به الله يسقي صيوبَ الغمام * فهذا العيان وذاك الخبر
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بوأك الله يا كناني بكل بيت قلته بيتاً في الجنة » .
وستأتي لامية أبي طالب ، وقول ابن كثير إنها أبلغ من المعلقات السبع !
وقال ابن حجر في فتح الباري : 2 / 412 : « قال السهيلي : فإن قيل : كيف قال أبو طالب يستسقى الغمام بوجهه ، ولم يره قط استسقى ، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة ؟ وأجاب بما حاصله : أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي ( صلى الله عليه وآله ) معه غلام . . . وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها ، وهي أكثر من ثمانين بيتاً ، قالها لما تمالأت قريش على النبي ، ونَفَّروا عنه من يريد الإسلام » .
وفي خزانة الأدب : 2 / 61 : « قال السهيلي في الروض الأنف : إن أبا طالب قد شاهد من ذلك في حياة عبد المطلب ، ما دله على ما قال » .
وقول السهيلي والبغدادي صحيح ، فقد أجدبت قريش فشكت إلى عبد المطلب فاستسقى بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم أجدبت فشكت إلى أبي طالب فاستسقى بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ،
--------------------------- 156 ---------------------------
وإنما حذفوه من السيرة حسداً لأبي طالب « رحمه الله » وأولاده !
وقال عنها في المناقب : 1 / 119 : « والسبب في ذلك أنه كان قحط في زمن أبي طالب فقالت قريش : اعتمدوا اللات والعزى ، وقال آخرون اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى ، فقال ورقة بن نوفل : أنى تؤفكون وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل أبو طالب فاستسقوه ، فخرج أبو طالب وحوله أغيلمة من بني عبد المطلب ، وسطهم غلام كأنه شمس دِجَنَّة « مشرقة » تجلت عنها غمامة ، فأسند ظهره إلى الكعبة ولاذ بإصبعه ، وبصبصت الأغيلمة حوله ، فأقبل السحاب في الحال . فأنشأ أبو طالب اللامية » !
وروى آخرون هذه المعجزة بتفصيل ، كفخار بن معد في كتابه : الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب / 311 ، والصالحي في سبل الهدى : 2 / 137 ، والذهبي في تاريخه : 1 / 52 ، بسند صحيح عندهم ، عن أبان بن تغلب ، عن جلهمة بن عرفطة قال :
« إني لبالقاع من نِمْرة ، إذ أقبلت عيرٌ من أعلى نجد ، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير ، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة ، ثم نادى يا رب البنية أجرني ! وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء ، فقال : ما شأنك يا غلام فأنا من آل الله وأجير من استجار به ؟ قال : إن أبي مات وأنا صغير وإن هذا استعبدني وقد كنت أسمع أن لله بيتاً يمنع من الظلم ، فلما رأيته استجرت به . فقال له القرشي : قد أجرتك يا غلام قال : وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه . قال جلهمة : فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قِعْدَد الحي ، فقال : إن لهذا الشيخ ابناً يعني أبا طالب . قال : فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الحدود وأعلوا بها الكدان حتى انتهيت إلى المسجد الحرام ، وإذا قريش عزين ، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون فقائل منهم يقول : اعتمدوا اللات والعزى ! وقائل يقول : اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى . وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي : أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل ؟ قالوا له : كأنك عنيت أبا طالب ! قال : إيهاً . فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر ، عليه إزار قد اتشح به ، فثاروا إليه فقالوا : يا أبا طالب قحط الوادي وأجدب العباد ، فهلم فاستسق ، فقال : رويدكم
--------------------------- 157 ---------------------------
زوال الشمس وهبوب الريح ، فلما زاغت الشمس أو كادت ، خرج أبو طالب معه غلام كأنه دِجَنٌّ « سماءٌ لحسنه » تجلت عنه سحابة قتماء ، وحوله أغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بإصبعه الغلام ، وبصبصت الأغيلمة حوله ، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا ، وأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي والبادي ! وفي ذلك يقول أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ربيع اليتامى عصمة للأرامل
تطيف به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة * ووزان صدق وزنه غير عائل
أقول : كفى بهذا الحديث وهذه القصيدة دليلاً على إيمان أبي طالب ( عليه السلام ) بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من صغره ! ولكن الذهبي وأمثاله من أتباع القرشيين والأمويين أشربوا في قلوبهم الإعراض عن عترة نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ، بل كرههم » !

5 . حديث بَحِيَرا الراهب مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمه في الشام

قال علي بن يوسف الحلي « رحمه الله » في العدد القوية / 118 : « وخرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام وله تسع سنين ، وقيل اثنتا عشرة سنة » . وفي الخرائج : 1 / 71 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فلما انتهى به إلى بصرى وفيها راهب لم يكن يكلم أهل مكة إذا مروا به ، ورأى علامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الركب ، رأى غمامة تظله في مسيره ، ونزل تحت شجرة قريبة من صومعته فتثنت أغصان الشجرة عليه والغمامة على رأسه بحالها ، فصنع لهم طعاماً فاجتمعوا عليه وتخلف محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما نظر بحيرا إليهم ولم ير الصفة التي يعرف قال : فهل تخلف منكم أحد ؟ قالوا : لا واللات والعزى إلا صبي ، فاستحضره فلما لحظ إليه نظر إلى أشياء من جسده قد كان يعرفها من صفته فلما تفرقوا قال : يا غلام أتخبرني عن أشياء أسألك عنها ؟ قال : سل . قال : أنشدك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه ! وإنما أراد أن يعرف لأنه سمعهم يحلفون بهما ، فذكروا أن
--------------------------- 158 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال له : لا تسألني باللات والعزى ، فإني والله لم أبغض بغضهما شيئاً قط !
قال : فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه ؟ قال : فجعل يسأله عن حاله في نومه وهيئته وأموره ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخبره ، فكان يجدها موافقة لما عنده .
فقال له : إكشف عن ظهرك فكشف عن ظهره ، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الموضع الذي يجده عنده ، فأخذه الإفكل وهو الرعدة ، واهتز الديراني فقال : من أبو هذا الغلام ؟ قال أبو طالب : هو ابني . قال : لا والله لا يكون أبوه حياً . قال أبو طالب : إنه ابن أخي . قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وهو ابن شهرين . قال : صدقت . قال : فارجع بابن أخيك إلى بلادك واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأته وعرفوا منه الذي عرفت ليبغينه شراً ! فخرج أبو طالب فرده إلى مكة » .
وفي رواية كمال الدين / 187 : « لما بلغَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أراد أبو طالب أن يخرج إلى الشام في عير قريش ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتشبث بالزمام وقال : يا عم على من تخلفني لا على أمٍّ ولا على أب ؟ ! وقد كانت أمه توفيت فرقَّ له أبو طالب ورحمه وأخرجه معه . . . فلما نظر إليه بحيرى قال : من هذا الغلام ؟ قالوا : ابن هذا وأشاروا إلى أبي طالب . . فقال بحيرى : رُدَّ هذا الغلام إلى بلاده ، فإنه إن علمت به اليهود ما أعلم منه قتلوه ! فإن لهذا شأناً من الشأن ، هذا نبي هذه الأمة ، هذا نبي السيف » .
وفي قرب الإسناد / 213 ، من حديث للإمام الكاظم ( عليه السلام ) مع حاخامات اليهود : « قالوا : إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة وجعل لهم الملك والإمامة ، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا تتعداهم النبوة والخلافة والوصية ، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم ، ونلقاكم مستضعفين مقهورين لا تُرقب فيكم ذمة نبيكم ؟ ! فدمعت عينا أبي عبد الله ( عليه السلام ) ثم قال : نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق ، والظلمة غالبة ، وقليل من عباد الله الشكور ! قالوا : صدقت ، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليهم ؟ قلت : آيات كثيرة أعدها إن شاء الله . . .
ومن ذلك : أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش ، فلما كان بحيال بحيراء
--------------------------- 159 ---------------------------
الراهب نزلوا بفناء ديره ، وكان عالماً بالكتب وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي ( صلى الله عليه وآله ) به وعرف أوان ذلك ، فأمر فدعى إلى طعامه ، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها ، فقال : هل بقي في رحالكم أحد ؟ فقالوا : غلامٌ يتيم . فقام بحيراء الراهب فاطَّلع فإذا هو برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نائم وقد أظلته سحابة ! فقال للقوم : ادعوا هذا اليتيم ، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه ، وهو يسير والسحابة قد أظلته فأخبر القوم بشأنه ، وأنه سيبعث فيهم رسولاً ، وما يكون من حاله وأمره ! فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه ، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك ، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش » .
وفي كمال الدين / 182 : « لما فارقه بحيرى بكى بكاء شديداً وأخذ يقول : يا ابن آمنة كأني بك وقد رمتك العرب بوترها ، وقد قطعك الأقارب ! ولو علموا لكنت لهم بمنزلة الأولاد ، ثم التفت إليَّ وقال : أما أنت يا عم فارع فيه قرابتك الموصولة . . » .
وفي العدد القوية / 132 ، أن بحيرا قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا من بذكره تعمر المساجد ، كأني بك قد قدمت الأجناد والخيل الجياد ، وتبعك العرب والعجم طوعاً وكرهاً ، وكأني باللات والعزى قد كسرتهما ، وقد صار البيت العتيق لا يملكه غيرك ، تضع مفاتيحه حيث تريد ، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه ، معك مفاتيح الجنان والنيران ، ومعك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام ! أنت الذي لا تقوم الساعة حتى يدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قمئة ! فلم يزل يقبل رجليه مرة ويديه مرة ويقول : لئن أدركت زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند . أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين . والله لقد بكت له البيع والأصنام والشياطين ، فهي باكية إلى يوم القيامة ! وأنت دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية » !
أقول : روى ابن هشام قصة بحيرا : 1 / 116 وحذف منها ما يتعلق بإيمان أبي طالب ( عليه السلام ) !
وفي رواية ابن إسحاق : 2 / 55 : « فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن ، فأسرعْ به إلى
--------------------------- 160 ---------------------------
بلاده . فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام . فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيراً وتماماً ودريساً ، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء فأرادوه ، فردهم عنه بحيرا ، وذكرهم الله عز وجل وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته ، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه ، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال ، فتركوه وانصرفوا ! فقال أبو طالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما أرادوا منه أولئك النفر ، وما قال بحيرا :
إن ابن آمنة النبي محمداً * عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته * والعيس قد قلَّصن بالأزواد
فارفضَّ من عَيْنَيَّ دمعٌ ذارفٌ * مثلُ الجمان مفرَّقُ الأفراد
راعيت فيه قرابةً موصولة * وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومةٍ * بيض الوجوه مصالت الأنجاد
ساروا لأبعد طيةٍ معلومة * فلقد تباعدَ طيةُ المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا * لاقوا على شرفٍ من المرصاد
حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً * عنه وردَّ معاشر الحساد
قوماً يهوداً قد رأوا ما قد رأى * ظِل الغمام وعزَّ ذي الأكباد
ساروا لقتل محمد فنهاهم * عنه وأجهد أحسن الإجهاد
فثنى زبيرٌ بَحِيراً فانثنى * في القوم بعد تجادل وبعاد
ونهى دريساً فانتهى عن قوله * حبر يوافق أمره برشاد
وقال أبو طالب أيضاً :
ألم ترني من بعد همٍّ هممته * كأن لا يراني راجعاً لمعاد
بأحمد لما أن شددت مطيتي * برحلي وقد ودعته بسلام
بكى حَزَناً والعيس قد فصلت بنا * وأخذتُ بالكفين فضلَ زمام
--------------------------- 161 ---------------------------
ذكرتُ أباه ثم رقرقتُ عبرة * تجود من العينين ذات سجام
فقلت تروح راشداً في عمومة * مواسين في البأساء غير لئام
فرحنا مع العير التي راح أهلها * شآمي الهوى والأصل غير شآمي
فلما هبطنا أرض بصرى تشوفوا * لنا فوق دور ينظرون بسام
فجاد بحيرا عند ذلك حاشداً * لنا بشراب طيب وطعام
فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا * فقلنا جمعنا القوم غير غلام
يتيم ، فقال ادعوه إن طعامنا * كثير عليه اليوم غير حرام
فلما رآه مقبلاً نحو داره * يوقيه حر الشمس ظل غمام
حنا رأسه شبه السجود وضمه * إلى نحره والصدر أي ضمام
وأقبل ركب يطلبون الذي رأى * بحيرا من الأعلام وسط خيام
فثار إليهم خشية لعرامهم * وكانوا ذوي دهى معا وعرام
دريساً وتمَّاماً وقد كان فيهم * زبيراً وكل القوم غير نيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد * فردهم عنه بحسن خصام
بتأويله التوراة حتى تفرقوا * وقال لهم : ما أنتم بطغام
فذلك من أعلامه وبيانه * وليس نهار واضحٌ كظلام
وقال أبو طالب أيضاً :
بكى طرباً لما رآنا محمد * كأن لا يراني راجعاً لمعاد
فبتُّ يجافيني تهللُ دمعه * وقربته من مضجعي ووسادي
فقلت له قرب قعودك وارتحل * ولا تخشى مني جفوةً ببلادي
وخل زمام العيسى وارتحل بنا * على عزمة من أمرنا ورشاد
ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً * لذي رحم في القوم غير معاد
فرحنا مع العير التي راح ركبها * يؤمون من غوري أرض إباد
--------------------------- 162 ---------------------------
فما رجعوا حتى رأوا من محمد * أحاديث تجلو غم كل فؤاد
وحتى رأوا حبار كل مدينة * سجوداً له من عصبة وفراد
زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً * دريساً وهموا كلهم بفساد
فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا * له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا * وجاهدهم في الله كل جهاد
فقال ولم يملك له النصح رده * فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه * أخو الكتب مكتوب بكل مداد »
وابن عساكر : 3 / 10 ، سبل الهدى : 2 / 142 ودلائل النبوة : 2 / 29 وغيرها .

6 . شاعت نبوءة بحيرا عند العرب

قال الله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأنْجِيلِ . . « الأعراف : 157 » وقال : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الأنعام : 20 .
وقال : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يدي مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ . . الصف : 6 .
وقال : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ . . . ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخرج شَطْأَهُ . . . « آخر سورة الفتح » . وغيرها من الآيات .
وقد شاعت وذاعت قصص علماء النصارى واليهود في مكة والجزيرة ، واتفقت الرواية على أن بحيراء الراهب النصراني واسمه نسطور « تاريخ دمشق : 3 / 10 » قد آمن بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما رآه وكلمه وكان في الثانية عشرة من عمره أو دونها ، وأن أحبار اليهود أرادوا قتله ( صلى الله عليه وآله ) فنهاهم بحيراء كما ذكر أبو طالب في شعره ، وأقنعهم بأنهم إن أرادوا فسيمنعهم الله تعالى لأنه قضى أن يكون النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي الخرائج : 1 / 71 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فنشأ رسول الله في حجر أبي طالب ، فبينا هو غلام يجئ بين الصفا والمروة إذ نظر إليه رجل من
أهل الكتاب فقال : ما اسمك ؟ قال : اسمي محمد . قال : ابن من ؟ قال : ابن عبد الله .
--------------------------- 163 ---------------------------
قال : ابن من ؟ قال : ابن عبد المطلب . قال : فما اسم هذه وأشار إلى السماء ؟ قال السماء . قال : فما اسم هذه وأشار إلى الأرض ؟ قال : الأرض . قال فمن ربهما ؟ قال : الله . قال : فهل لهما رب غير الله ؟ قال : لا » .
أقول : إحفظ عندك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما نصت الآيات وتواترت الأحاديث والأخبار ، وأنهم بشروا به قبل ولادته ، وعرفوا يوم ولادته من علامات النجوم ، ثم عرفوه بصفته لما رأوه ، وأخبروا عمه أبا طالب وغيره ، وشاع ذلك وذاع في مكة وبين العرب !
يضاف إلى ذلك ما دل على أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً يرافقه ملك من طفولته ، وأن جده عبد المطلب وعمه أبا طالب « عليهما السلام » كان يعرفان أن سيبعث نبياً ، وسيكذبه قومه ويحاولون قتله فيهاجر ، ويحاربونه فينصره الله ويخضع له العرب .
إحفظ هذه الحقائق ، لأنك سترى أن رواة الحكومات يظهرونها أحياناً ، ويطمسونها أحياناً ! فقد طمسوها عند حديث عائشة في كيفية بدء الوحي ! وطمسوها لينفواوجود صحابة قرشيين منافقين ، بحجة أنه لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وآله ) دولة تجذب أحداً ليسلم طمعاً ، مع أن خبر نبوته ( صلى الله عليه وآله ) كان يستهوي مغمورين في قبائلهم لاتباعه طمعاً بموقع في دولته ! فهو ابن عبد المطلب زعيم العرب ، وقد شهد له علماء اليهود والنصارى بأنه سيحكم العرب ، وهو يعد الناس بأنه سيملك كنوز كسرى وقيصر ! فمن الطبيعي أن يطمع عديدون في موقع في دولته ليخرج من فقره ومهانته !
وهؤلاء الأشخاص أخطر على الإسلام من المنافقين العاديين ، لأنهم أصحاب طموح سياسي ، ولذلك سماهم الله تعالى « مرضى القلوب » وذكرهم في أوائل سور القرآن فقال في المدثر : وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً . . وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً . . « المدثر 31 » . ثم تحدث عنهم في اثنتي عشرة آية ! ووصفهم بأنهم وقحون ، يفرون في الحرب ، ويحملون النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولية الهزيمة ، لأنه لم يشركهم في القيادة !
--------------------------- 164 ---------------------------
قال عنهم في آيات أحُد : وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئْ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ! آل عمران : 154 .
وكاد القرآن أن يسميهم لما وصفهم بأنهم كانوا في مكة مستعجلين ليقاتل النبي قريشاً ببني هاشم الشجعان ليقطفوا هم الثمار ، لكنهم لما كتب القتال في بدر نكصوا وخوفوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) من قريش ! فذكَّرهم الله بنفاقهم في مكة وقال : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً . . النساء : 77 .
قال الطبري : 5 / 233 : « نزلت في قوم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد . . فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم » !
وفي برهان الزركشي : 1 / 422 : « فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ! هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا ، من القوم الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ » .
وقال ابن حجر : « نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص وهما من بني زهرة ، وقدامة بن مظعون ، والمقداد بن الأسود ، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال : لم أؤمر بالقتال ، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال ، كره بعضهم ذلك » ! أسباب النزول : 2 / 918 . والحاكم : 2 / 66 ، وصححه بشرط بخاري . ، وفسرها النسائي : 6 / 3 والبيهقي : 9 / 11 ، بابن عوف وأصحابه .
وكذبوا على المقداد « رحمه الله » فجعلوه منهم ، مع أنهم رووا قوله للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، ولكن إمض ونحن معك ! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله » . البخاري : 5 / 187 .
ومعناه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) غضب من أهل آية : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وليس من المقداد « رحمه الله » !
قال الرازي : 10 / 184 : « والأولى حمل الآية على المنافقين ، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله : وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين . . . فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً » .
--------------------------- 165 ---------------------------

الفصل الثامن

زواجه « صلى الله عليه وآله » بخديجة « عليها السلام »

سبب زواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بخديجة ( عليها السلام )

1 . سمعت خديجة بكراماته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخطبته

ففي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 155 : « كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد ، وكان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر ، فكانوا في حَمَارَّة القيظ يصيبهم حرتلك البوادي ، وربما عصفت عليهم فيها الرياح ، وسفت عليهم الرمال والتراب ، وكان الله تعالى في تلك الأحوال يبعث لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غمامة تظله فوق رأسه ، تقف بوقوفه وتزول بزواله ، إن تقدم تقدمت وإن تأخر تأخرت ، وإن تيامن تيامنت وإن تياسر تياسرت ، فكانت تكفُّ عنه حر الشمس من فوقه ، وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب ، تُسفيها في وجوه قريش ووجوه رواحلهم ، حتى إذا دنت من محمد ( صلى الله عليه وآله ) هدأت وسكنت ، ولم تحمل شيئاً من رمل ولا تراب ، وهبَّت عليه ريحٌ باردة لينة ، حتى كانت قوافل قريش يقول قائلها : جوار محمد أفضل من خيمة ! فكانوا يلوذون به ويتقربون إليه ، فكان الرَّوْح يصيبهم بقربه ، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه . وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء ، فإذا الغمامة تسير في موضع بعيد منهم » .
وفي شرح الأخبار : 1 / 183 : « ولما انتهى إليها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما قد فشا واستفاض عنه من الخبر ، أرسلت إليه في أن تعطيه مالاً يتجر لها به إلى الشام ، ففعل . . وربح في تلك التجارة ما لم
--------------------------- 166 ---------------------------
يربح أحد مثله ، فلما قدم بذلك على خديجة قالت لغلامها ميسرة : ما أعظم أمانة محمد وبركته ، ما ربحت في تجارة قط كربحي فيما أبضعته معه . فقال لها ميسرة : وأعظم من ذلك ما سمعته فيه ورأيته منه ! قالت : وما هو ؟ فأخبرها بخبر الراهب وخبر الغمامة » .
وفي سيرة ابن إسحاق : 2 / 59 وابن هشام : 1 / 121 : « فلما أخبرها ميسرة عما أخبرها به بعثت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك ، وسطتك فيهم ، وأمانتك عندهم ، وحسن خلقك ، وصدق حديثك » .
وفي مسارِّ الشيعة للمفيد / 49 : « وفي اليوم العاشر منه « ربيع الأول » تزوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخديجة بنت خويلد أم المؤمنين ، لخمس وعشرين سنة من مولده » .

2 . خطب أبو طالب خديجة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الكافي : 5 / 374 والفقيه : 3 / 397 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يتزوج خديجة بنت خويلد ، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش ، حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة ، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال : الحمد لرب هذا البيت ، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل ، وأنزلنا حرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه . ثم إن ابن أخي هذا يعني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به ، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه ، ولا عِدل له في الخلق ، وإن كان مقلاً في المال فإن المال رفدٌ جارٍ وظلٌّ زائل ، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها ، والمهر عليَّ في مالي ، الذي سألتموه عاجله وآجله . وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل .
ثم سكت أبو طالب ، وتكلم عمها وتلجلج وقَصُر عن جواب أبي طالب ، وأدركه القطع والبهر ! وكان رجلاً من القسيسين ، فقالت خديجة مبتدئة : يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود ، فلست أولى بي من نفسي ، قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر عليَّ في مالي ، فأمر عمك فلينحر ناقة فَلْيُولِمْ بها وادخل على أهلك ! قال
--------------------------- 167 ---------------------------
أبو طالب : اشهدوا عليها بقبولها محمداً ، وضمانها المهر في مالها ! فقال بعض قريش : يا عجباه ، المهر على النساء للرجال !
فغضب أبو طالب غضباً شديداً وقام على قدميه ، وكان ممن يهابه الرجال ويُكره غضبه ، فقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر ، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي ! ونحرأبوطالب ناقة ، ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأهله . وقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم :
هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت * لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجته خير البرية كلها * ومن ذا الذي في الناس مثل محمد
به بشر البران عيسى بن مريمٍ * وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرت به الكتاب قدماً بأنه * رسول من البطحاء هاد ومهتد »
أقول : نص الحديث على أن الشاعر قرشي ، لكن علماء الرجال ترجموا لعبد الله بن غنم الأشعري أو الأزدي ، ويظهر أنه صحابي وقد قال شعره بعد الإسلام .

3 . وهبت خديجة كل أموالها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وذلك كما وهبت سارة كل أموالها لإبراهيم « عليهما السلام » ، فقد فسر ابن عباس قوله تعالى : وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى : « فأغناك بمال خديجة ، ثم زادك من فضله فجعل دعائك مستجاباً ، حتى لودعوت على حجرأن يجعله الله لك ذهباً لنقل عينه إلى مرادك ، وأتاك بالطعام حيث لا طعام ، وأتاك بالماء حيث لاماء ، وأغاثك بالملائكة حيث لامغيث ، فأظفرك بهم على أعدائك » . معاني الأخبار / 53 . وعمدة القاري : 19 / 299 .
وفي البحار : 16 / 71 : « يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها ، وعبيدها ، وخدمها ، وجميع ما ملكت يمينها ، والمواشي ، والصداق ، والهدايا ، لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفسرالإمام الرضا ( عليه السلام ) آية : وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى « العيون : 2 / 177 » بأنه جعله مستجاب الدعوة ، والآية مطلقة تشمل مال خديجة والغنائم التي أحلها الله له ، وغيرها .
--------------------------- 168 ---------------------------

4 . وصار بيت خديجة ( عليها السلام ) بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

ويقع في الجهة المقابلة لشعب بني هاشم ، وهو في سوق الليل معروفٌ بمولد فاطمة « عليها السلام » ، وقد زرته في السبعينات ميلادية حتى هدمه الوهابية وأزالوه ، في حملتهم على آثار النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآثار الإسلام !
ولما كتبت قريش صحيفة مقاطعة بني هاشم ليسلموهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه اضطر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يترك بيته ويدخل مع بني هاشم في شعب أبي طالب ، وتحملت خديجة « عليها السلام » معه سنوات المحاصرة ، فأرسل الله جبرئيل ليقرئها السلام ويسليها عن فقدان بيتها ، ويبشرها بأن الله تعالى بني لها بيتاً في الجنة .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يذكرها كل عمره ويمدحها ، ولما فتح مكة نصب خيمته على قبرها ، فكانت عائشة تحسدها وتغار منها : « قالت : ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة » ! صحيح بخاري : 8 / 195 .
وفي فتح الباري : 7 / 102 : « عن هشام بن عروة : ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة ، حين بشرها النبي ببيت » .
وهذا ينسجم مع طبيعة المرأة واهتمامها ببيتها ، وحسدها لضرتها إذا كان بيتها أحسن ، فكيف إذا بناه الله تعالى لخديجة « عليها السلام » وأرسل جبرئيل ( عليه السلام ) يبشرها به ! فهو يستحق من عائشة أعلى درجات الحسد ، كما قالت !
ولم تذكر عائشة هنا صفة بيت خديجة ، لكنها بعد ذلك هونت من شأنه وقالت إنه بيت من قصب وسعف نخل ! فنسب بعض الرواة وصفه بأنه بيت من قصب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! لكن بعضهم أبقاه على النص النبوي بأنه من لؤلؤة ولا صخب فيه ولا نصب . فقد قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة « عليها السلام » : إن جبرئيل ( عليه السلام ) عهد إليَّ أن بيت أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون ، من لؤلؤة جوفاء لاصخب فيه ولا نصب » . شرح الأخبار : 3 / 17 .
وكذلك هي بيوت كبار الأولياء من ياقوت ومرجان ، ففي نظم درر السمطين للحنفي / 183 ، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : 1 / 666 عن أبي سعيد الخدري أن
--------------------------- 169 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « مر في السماء السابعة ، قال : فرأيت فيها لمريم ولأم موسى ، ولآسية امرأة فرعون ، ولخديجة بنت خويلد ، قصوراً من الياقوت ، ولفاطمة بنت محمد سبعين قصراً من مرجان أحمر ، مكللةً باللؤلؤ » .
وروى عددٌ من مصادرهم حديث بيت خديجة « عليها السلام » بدون قصب كما رويناه ! ففي فضائل الصحابة للنسائي / 75 : « بشر رسول الله خديجة ببيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب » . وسنن النسائي : 5 / 94 ، الجامع الصغير : 2 / 247
وتاريخ الذهبي : 1 / 238 .
لكن عائشة جعلت بيت خديجة كوخاً من قصب ! « بشر خديجة ببيت من الجنة من قصب ، لاصخب فيه ولا نصب » ! صحيح بخاري : 2 / 203 .
وبينت سبب القصب « فتح الباري : 1 / 27 » فقالت : « ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة ، فقال النبي : رأيت لخديجة بيتاً من قصب ، لاصخب فيه ولا نصب » .
وفي مسند أبي يعلى : 4 / 41 من حديث المعراج ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « سئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن ؟ فقال : أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب » !
وصحح في مجمع الزوائد : 9 / 416 : « ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن » !
فبيت خديجة « عليها السلام » من قصب لأنها لم تصلِّ ، وبيت عائشة من لؤلؤ لأنها صلَّت ! لكن الصلاة يا أمنا عائشة فرضت في أول البعثة ، وروى الجميع أن خديجة « عليها السلام » كانت تصلي مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أن توفيت قبيل هجرته ! فكيف قلت : لم تُصَلِّ !
إنها فضيحة حسد عائشة لخديجة « عليها السلام » على بيتها في الجنة ، فجعلته من قصب ، وأنكرت صلاة خديجة ، وأخرت تشريع الصلاة إلى ما بعد موت خديجة !
وجاء المعذرون ومنهم البخاري « فتح الباري : 7 / 104 » ليغطوا حسد عائشة ، فجعلوا معنى بيت القصب : قضبان الذهب ! لكن اللغة العربية تأبى ذلك ، فالقصب نبات ، ولم يرد وصفاً لقصور الجنة في أي حديث صحيح !
--------------------------- 170 ---------------------------

5 . كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يمدح خديجة ( عليها السلام )

وهدفه أن يعرِّف المسلمين قدرها ، وكانت عائشة تعلن حسدها لها ، فيغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليها ! ففي السيرة الحلبية : 3 / 401 : « قالت له وقد مدح خديجة : ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين ، قد أبدلك الله خيراً منها ! فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : والله ما أبدلني الله خيراً منها » !
وقال ابن إسحاق : 5 / 228 : « أهدي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جزور أو لحم ، فأخذ عظماً منها فتناوله بيده فقال له : إذهب به إلى فلانة » صديقة خديجة « فقالت له عائشة : لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة ! فقام رسول الله مغضباً فلبث ما شاء الله ، ثم رجع فإذا أم رومان فقالت : يا رسول الله ما لك ولعائشة إنها حَدَث وأنت أحق من تجاوز عنها ، فأخذ بشدق عائشة وقال : ألست القائلة : كأنما ليس على الأرض امرأة إلا خديجة ! والله لقد آمنت بي إذ كفر قومك ورزقت مني الولد وحرمتموه » !
وفي العمدة / 394 ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) طرد عائشة ! « فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قومي عني فقامت إلى ناحية من البيت » . ولعلها تكلمت بعد قيامها فأخذ بشدقها ! ولم تبين الرواية كيف أخذ بشدقها ، هل سدَّه ليسكتها ، أم ضغط عليه تأديباً لها !
وفي الخصال / 405 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول : والله يا بنت خديجة ما ترينَ إلا أن لأمك علينا فضلاً ، وأي فضل كان لها علينا ، ما هي إلا كبعضنا ! فسمع مقالتها لفاطمة ، فلما رأت فاطمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكت فقال : ما يبكيك يا بنت محمد ؟ قالت : ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت ! فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : مه يا حميراء فإن الله تبارك وتعالى بارك في الودود الولود ، وإن خديجة رحمها الله ولدت مني طاهراً وهو عبد الله وهو المطهر ، وولدت مني القاسم وفاطمة [ وأم كلثوم ورقية وزينب ] وأنت ممن أعقم الله رحمها ، فلم تلدي شيئاً » !
أقول : وضعنا أسماء البنات الثلاث بين معقوفين ، لأنه يوجد خلاف في أنهن بناته ( صلى الله عليه وآله ) أو ربائبه ، وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : أعقم الله رحمها ، يدل على أن الله تعالى حصر ذريته بفاطمة « عليها السلام » . لكن رغم توبيخ النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعائشة ونهيها واصلت حسدها لخديجة ! ولها
--------------------------- 171 ---------------------------
قصص في حساسيتها منها مع فاطمة « عليها السلام » ، لكن سلوك فاطمة الرباني فرض على عائشة احترامها فكانت تقول : « ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها » . الإستيعاب : 4 / 1896 ، الزوائد : 9 / 201 وصححه . « كان بينهما شئ فقالت عائشة : يا رسول الله سلها فإنها لا تكذب » . أبو يعلى : 8 / 153 .

6 . عائشة متهمة ولا تُقبل شهادة المتَّهَم

فلا يجوز قبول روايات عائشة في خديجة « عليها السلام » ، بعد اعترافها بحسدها المفرط لها ، ولا قول حكيم بن حزام المتعصب لعائشة ، قال : « كان عمر رسول الله يوم تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة ، وعمرها أربعون سنة . بينما قال ابن عباس : كان عمرها ثمانياً وعشرين سنة ، رواهما ابن عساكر ! وقال ابن جرير : كان ابن سبع وثلاثين سنة ، وكذا نقل البيهقي عن الحاكم ، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين ، وقيل خمساً وعشرين سنة » . سيرة ابن كثير : 1 / 265 .

7 . أحل الله لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من النساء ما شاء

لكنه لم يتزوج إلا لمصلحة الإسلام ولا تزوج على خديجة . ففي الكافي : 5 / 389 أن أبا بكر الحضرمي سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « عن قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ؟ كم أحل له من النساء ؟ قال : ما شاء من شئ . قلت : قوله عز وجل : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ؟ فقال : لا تحل الهبة إلا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأما لغير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلا يصلح نكاح إلا بمهر . قلت : أرأيت قول الله عز وجل : لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ؟ فقال : إنما عنى به لا يحل لك النساء التي حرم الله في هذه الآية : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ . . إلى آخرها ، ولو كان الأمر كما تقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له ، لأن أحدكم يستبدل كلما أراد ولكن ليس الأمر كما يقولون . إن الله عز وجل أحل لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم عليه في هذه الآية » .
--------------------------- 172 ---------------------------
ثم روى تسمية نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : « عائشة ، وحفصة ، وأم حبيب بنت أبي سفيان بن حرب ، وزينب بنت جحش ، وسودة بنت زمعة ، وميمونة بنت الحارث ، وصفية بنت حي بن أخطب ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وجويرية بنت الحارث . وكانت عائشة من تيم ، وحفصة من عدي ، وأم سلمة من بني مخزوم ، وسودة من بني أسد بن عبد العزى ، وزينب بنت جحش من بني أسد وعدادها من بني أمية ، وأم حبيب بنت أبي سفيان من بني أمية ، وميمونة بنت الحارث من بني هلال ، وصفية بنت حي بن أخطب .
ومات ( صلى الله عليه وآله ) عن تسع نساء وكان له سواهن التي وهبت نفسها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وخديجة بنت خويلد أم ولده ، وزينب بنت أبي الجون التي خدعت ، والكندية » .

8 . اشتهر وفاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لخديجة ( عليها السلام )

ونشرت ذلك عائشة وهي تتحدث عن غيرتها منها ، قال ابن البطريق في العمدة / 394 : « عن أم رومان « أم عائشة » قالت : كان لرسول الله جارة قد أوصته خديجة أن يتعاهدها ، فحضرعنده شئ من المأكل فأمر بإعطائها وقال : هذه أمرتني خديجة بأن أتعاهدها فقالت عائشة : وكنت أحسدها لكثرة ذكره لها » .
وعندما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أموال بني النضير ومنها فدك ، أمره الله أن يفي لخديجة فيعطي فدكاً لابنتها فاطمة « عليها السلام » . ونزل قوله تعالى : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ . « إن الله يأمرك أن تؤتى ذا القربى حقه . قال : يا جبرئيل ومن قرباي ، وما حقهم ؟ قال : أعط فاطمة حوائط فدك ، واكتب لها كتاباً . وهي من ميراثها من أمها خديجة » . قصص الأنبياء / 345 والمناقب : 1 / 122 .
وقد أجمع المسلمون على أن أموال بني النضير كانت خالصة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وفيها نزل قوله تعالى : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ . الكافي : 1 / 539 ، المعتبر : 2 / 633 والبخاري : 3 / 227 و 4 / 209 .
--------------------------- 173 ---------------------------

9 . وكانت خديجة أماً لعلي ( ( ع ) )

فقد ربته وأحبته كما أحبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووفت بذلك لفاطمة بنت أسد في تربيتها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أرسله النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوماً في مهمة فتأخر فتخوف عليه فذهبت خديجة تبحث عنه ! « وافتقد علياً ( عليه السلام ) ذات يوم فلم يعلم مكانه حتى أمسى فاشتد غمه به ، فرأت أثر الغم عليه خديجة رضوان الله عليها ، فقالت : يا رسول الله ما هذا الغم الذي أراه عليك ؟ قال : غاب علي منذ اليوم فما أدري ما صُنِع به . .
فخرجت خديجة في الليل تلتمس خبر علي ، فوافقته فأعلمته باغتمام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بغيبته ، وألفته مقبلاً إليه ، فسبقته تبشره فقام قائماً فحمد الله تعالى رافعاً يديه » . شرح الأخبار : 2 / 205 وتفسير فرات / 547 .
وفي مناقب ابن سليمان : 1 / 304 : « قالت خديجة : فمضيت فأخبرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإذا هو قائم يقول : اللهم فرج غمي بأخي علي ، فإذا بعلي قد جاء فتعانقا » .

10 . عظموا أمر عائشة على باقي نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة / 75 : « وعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه ، مع أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد ، وقالت له عائشة : إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها . وأذاعت سر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وقال لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة . ثم إنها خالفت أمر الله تعالى في قوله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ، وخرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً ( عليه السلام ) على غير ذنب ، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي كل وقت تأمر بقتله وتقول : أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ! فلما بلغها قتله فرحت بذلك ، ثم سألت : من تولى الخلافة ؟ فقالوا : علي ، فخرجت لقتاله على دم عثمان . فأي ذنب كان لعلي ( عليه السلام ) على ذلك ؟ وكيف استجاز طلحة والزبير مطاوعتها على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة » !
--------------------------- 174 ---------------------------

11 . أنفق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على المؤمنين من أموال خديجة ( عليها السلام )

ففي أمالي الطوسي / 463 : « إن رسول الله قال : ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال خديجة ، وكان رسول الله يفك من مالها الغارم والعاني ، ويحَمل الكَلَّ ، ويعطي في النائبة ، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة ، ويحمل من أراد منهم الهجرة .
وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف ، كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قريش مالاً ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) ينفق منه ما شاء في حياتها ، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها » .
وروى البخاري : 5 / 80 قول عمر لأسماء بنت عميس : « سبقناكم بالهجرة ، فنحن أحق برسول الله منكم ! فغضبت وقالت : كلا والله كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ! وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن كنا نُؤذى ونُخاف . قال لها ( صلى الله عليه وآله ) : ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان » .

12 . كانت خديجة ( عليها السلام ) أجمل زوجات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وقد ورَّثت حسنها لابنتها وأحفادها ، ففي المناقب : 3 / 170 عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) قال : « صوَّر الله عز وجل علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد ، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة « عليها السلام » ، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى « عليها السلام » » .

13 . بنات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أم ربائبه ؟

المشهور أن زينب وأم كلثوم بنات النبي ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة « عليها السلام » ويوجد قول قوي بأنهن بنات أخت خديجة ، وقد توفيت أمهن فربتهن خالتهن خديجة ، فعُرفن ببنات محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! وأن خديجة لم تتزوج قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن عمرها عند زواجها كان بضعاً وعشرين ، وكان عمرها لما ماتت خمسين سنة ، حسب رواية البيهقي .
--------------------------- 175 ---------------------------
وقد تبنى هذا الرأي بعض كتاب السيرة القدماء والمعاصرين فقال إنهن ربائب . قال في المناقب : 1 / 138 : « وروى أحمد البلاذري ، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في الشافي ، وأبو جعفر في التلخيص : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بها وكانت عذراء ، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع ، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة » .
وقد ألف الباحث السيد جعفر مرتضى كتاب : « بنات النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم ربائبه ؟ » تجده في : http : / / www . aqaed . com / shialib / books / all / banat / index . html
وذكر فيه تناقض روايتهم في تاريخ زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفي ولادة أولاده ، وزواج بناته ، فبعضها ذكر أنه ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بها قبل البعثة بثلاث سنين ، وبعضها قال إن أولاده منها ولدوا جميعاً بعد البعثة ، إلا ولده عبد المطلب ، وبعضها ذكر أن آية : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ، نزلت بعد موت ابنه القاسم ، الذي كان أكبر أولاده .
كما استدل بنصوص على أن زينب هي بنت أخت خديجة « عليها السلام » من زوجها أبي هند المخزومي ، ومنها نص كتاب الاستغاثة ، ونص المناقب المتقدم .
واستدل بقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : « يا علي ، أوتيتَ ثلاثاً لم يؤتهن أحدٌ ولا أنا : أوتيت صهراً مثلي ، ولم أوت أنا مثلي » ! فدل على أن علياً صهره الوحيد .
وقول ابن عمر في صحيح بخاري : 5 / 157 : « أما عثمان فكان الله عفا عنه ، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه ! وأما علي فابن عم رسول الله وختنه ، وأشار بيده فقال : هذا بيته حيث ترون » . فذكر الصهر لعلي ولم يذكره لعثمان !
ويؤيد هذا الرأي ما رواه الحاكم : 2 / 200 وصححه على شرط الشيخين : عن عروة ، عن خالته عائشة في زينب بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان زوجها الربيع بن العاص الأموي أسيراً في بدر ، فأرسلت فداءه فأطلقه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووعده الربيع أن يأذن لها بالهجرة ، فأذن لها وخرج بها من مكة زيد بن حارثة وأبو رافع وأخ زوجها فمنعته قريش ، وضرب ناقتها هبَّار بن الأسود ، فوقعت زينب وأسقطت جنينها ثم سمحت لها قريش فهاجرت . قال عروة إن عائشة روت القصة وقالت : « فكان
--------------------------- 176 ---------------------------
رسول الله يقول : هي أفضل بناتي ، أصيبت فيَّ . فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال : ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة « عليها السلام » ! فقال : والله ما أحب أنَّ لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها ! وأما بعدُ فلك أن لا أحدث به أبداً ! قال عروة : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ » .
ومعناه أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وبَّخ عروة على روايته أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال إن زينب أفضل بناته ، فتنصل عروة ووعد أن لايرويه ، مع أنه قول خالته عائشة ! ثم قال معتذراً عنها : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ . ومعناه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عبَّرعن زينب بابنته قبل أن تنزل آية تحريم تسمية المتبنى إبناً وقد نزل ذلك في سورة الأحزاب سنة خمس للهجرة ، أما بعدها فلم يقل عن زينب : بنتي لأنها كانت متبناة ! فهذا حديث صحيح بشرط الشيخين يشهد بأن زينب ربيبة ! فالقول بأنهن ربائب قوي علمياً ، لكنه يحتاج إلى مؤيدات أخرى لينهض في مقابل النصوص على أنهن بنات النبي ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة .
قال أبو الفتح الكراجكي في كتابه : التعجب من أغلاط العامة / 101 : « ومن عجيب أمرهم مثل هذا : قولهم : إن عثمان بن عفان ذو النورين ، واعتقادهم من نحلته هذا بأنه تزوج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول الله من خديجة بنت خويلد ، وقد اختلفت الأقوال فيهما ، فمن قائل : أنهما ربيبتاه وأنهما ابنتا خديجة من سواه . ومن قائل : إنهما ابنتا أخت خديجة من أمها ، وإن خديجة ربتهما لما ماتت أختها في حياتها ، وقال إن اسم أبيهما هالة . ومن قال إنهما ابنتا النبي يعلم أنهما ليستا كفاطمة البتول « عليها السلام » في منزلتها ، ولا يدانيانها في مرتبتها ، فيسمون عثمان لأجل تزويجه بهما ، ( مع ما روي من أنه قتل إحداهما ) : ذا النورين ، ولا يقولون : إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ذو النورين ، وهو أبو السبطين السيدين الإمامين الشهيدين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وشنفي العرش ، وريحانتي نبي الرحمة ، وولدي ابنته فاطمة البتول سيدة نساء العالمين ، والأئمة الهادين ، صلوات الله عليهم أجمعين » .
--------------------------- 177 ---------------------------

الفصل التاسع

ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب « عليه السلام »

1 . قالوا إن ولادة علي ( ( ع ) ) في الكعبة متواترة عندهم ، ثم أنكروها !

قال الحاكم في المستدرك : 3 / 483 ه : « تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، في جوف الكعبة » .
وقال في أعيان الشيعة : 1 / 323 : « ورد أنه ( عليه السلام ) ولد في جوف الكعبة أعزها الله ، في يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب ، وأن هذه فضيلة اختصه الله بها ، لم تكن لأحد قبله ولا بعده . وقد صرح بذلك عدد كبير من العلماء ورواة الأثر ، ونظمها الشعراء والأدباء ، وذلك مستفيض عند شيعة أهل البيت « عليهم السلام » ، كما أنه كذلك في كتب غيرهم ، حتى لقد قال الحاكم وغيره : تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد . الخ . » . قال السيد الحميري المتوفى سنة 173 :
ولدته في حرم الإله وأمنه * والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ
بيضاءُ طاهرة الثياب كريمةٌ * طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غابت نحوس نجومها * وبدا مع القمر المنير الأسعد
ما لفَّ في خرق القوابل مثله * إلا ابنُ آمنةَ النبيُّ محمدُ
وقال في الصحيح من سيرة الإمام علي ( عليه السلام ) : 1 / 98 : « لكن نفوس شانئي علي ( عليه السلام ) قد نفست عليه هذه الفضيلة التي اختصه الله بها ، فحاولت تجاهل كل أقوال العلماء والمؤرخين ورواة الحديث والأثر ، والضرب بها عرض الجدار ! حيث نجدهم وبكل جرأة ولا مبالاة ، يثبتون
--------------------------- 178 ---------------------------
ذلك لرجل آخر غير علي ( عليه السلام ) ، بل ويحاولون التشكيك في ما ثبت لعلي أيضاً ، حتى لقد قال في كتاب النور : حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة ، ولا يعرف ذلك لغيره ! وأما ما روي من أن علياً ولد فيها فضعيف عند العلماء » !
وقال المعتزلي في شرح النهج : 1 / 14 : « كثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة والمحدثون لا يعترفون بذلك ، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام » .
أقول : أول من ادعى ولادة حكيم في الكعبة ابن عمه الزبير بن بكار ، في كتابه : جمهرة نسب قريش : 1 / 353 ، قال : « دخلت أم حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل متمٌّ بحكيم بن حزام ، فضربها المخاض في الكعبة ، فأُتيت بنطع حيت أعجلتها الولادة ، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع » .
ويكفي لرده أنه لم يروه إلا الزبيريون ، وبغضهم لعلي ( عليه السلام ) مشهور للعام والخاص . قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 315 ، عن عبد الله بن الزبير : « وهو الذي بقي أربعين جمعة لا يصلي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في خطبته ، حتى التاث عليه الناس ، فقال : إن له أهل بيت سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك ، فلا أحب أن أقر عينهم بذكره » ! وهذا من غرائب النصب والحقد !

2 . رواية يزيد بن قعنب

وتدل شهادة الحاكم : 3 / 483 بأن ولادة علي ( عليه السلام ) في الكعبة متواترةٌ عند الجميع ، على أن السلطة غيبت نصوصها ، ونشرت بدلها كذبة ابن بكار الزبيري لمصلحة ابن عمه حكيم بن حزام ، وكلاهما من النواصب !
وقد ذكرنا في المقدمة أن السلطة أبادت أحاديث جابر بن يزيد الجعفي وكانت سبعين ألف حديث ، وأحاديث ابن عقدة وكانت أكثر من ثلاث مائة ألف حديث !
هذا ، وقد رويت كيفيات لولادته ( عليه السلام ) في الكعبة ، ولعل أصحها رواية يزيد بن قعنب ، التي رواها سعيد بن جبير عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن آبائه « عليهم السلام » ، قال ابن قعنب « أمالي الصدوق / 194 » : « كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى
--------------------------- 179 ---------------------------
بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق ، فقالت : رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) وأنه بني البيت العتيق ، فبحق الذي بنى هذا البيت ، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي . قال يزيد بن قعنب : فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه ، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط ، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عز وجل .
ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم قالت : إني فضلت على من تقدمني من النساء ، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عز وجل سراً في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطراراً ، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً ، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف : يا فاطمة سمه علياً فهو علي والله العلي الأعلى ، يقول : إني شققت اسمه من اسمي ، وأدبته بأدبي ، ووقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ، ويقدسني ويمجدني ، فطوبى لمن أحبه وأطاعه ، وويل لمن أبغضه وعصاه » !
ورُويت لولادته ( عليه السلام ) كيفية أخرى عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) عن زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة « مناقب ابن المغازلي / 25 » قال ( عليه السلام ) : « كنت جالساً مع أبي ونحن زائران قبرَ جدنا ( عليه السلام ) وهناك نسوان كثيرة ، إذ أقبلت امرأة منهن فقلت لها : من أنت يرحمك الله ؟ قالت : أنا زيدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة ، فقلت لها : فهل عندك شئ تُحدثينا ؟ فقالت : إي والله حدثتني أُمي أُم عمارة بنت عُبادة بن نَضْلَة بن مالك بن العَجلان الساعدي ، أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيباً حزيناً فقلت له : ما شأنك يا أبا طالب ؟ قال : إن فاطمة بنت أسد في شدة المخاض ، ثم وضع يديه على وجهه ، فبينا هو كذلك إذ أقبل محمد ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : ما شأنك يا عمِّ ؟ فقال : إن فاطمة بنت أسد تشتكي
--------------------------- 180 ---------------------------
المَخاضَ ، فأخذ بيده وجاء وهي معه فجاء بها إلى الكعبة فأجلسها في الكعبة ، ثم قال أجلسي على اسم الله ! قال فَطُلِقَت طَلقةً فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منُظّفاً لم أر كَحُسنِ وجهه ، فسماه أبو طالب علياً وحَمله النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أداه إلى منزلها ! قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) : فوالله ما سمعتُ بشئ قطُّ إلاّ وهذا أحسنُ منه » .
فرواية ابن قعنب تذكر أن فاطمة بنت أسد « عليها السلام » جاءت وحدها إلى الكعبة ، ودعت الله تعالى ، فانشق لها الجدار ودخلت .
وهذه الرواية تذكر أن أبا طالب جاء إلى المسجد الحرام فرآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فشكا له أن زوجته تشتكي المخاض ، فجاء بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الكعبة ، وولدت فيها .
ويمكن الجمع بينهما بأن دعاءها عند الكعبة عندما أتى بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وتوجد رواية بكيفية ثالثة ، وإذا لم يمكن الجمع بينها ، فالمرجح رواية ابن قعنب بن عتاب التميمي ، وقد وثقوه وذكروا أنه كان فارساً ، ويظهر أنه ابن عم الحر بن يزيد الرياحي ، الذي استشهد مع الحسين ( عليه السلام ) . أنساب الأشراف : 12 / 159 .
وفي المناقب : 3 / 59 : « عليٌّ ( عليه السلام ) أول هاشمي ولد من هاشميين ، وأول من ولد في الكعبة ، وأول من آمن ، وأول من صلى ، وأول من بايع ، وأول من جاهد ، وأول من تعلم من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأول من صنف » .

3 . دلالة ولادة علي في الكعبة

في ولادته ( عليه السلام ) في الكعبة إشارة ربانية مهمة إلى مكانته عند الله تعالى ، وإن كان هو ( عليه السلام ) أفضل من الكعبة الشريفة ، كما قال الشهيد نور الله التستري في إحقاق الحق / 198 : « على أن الكلام في تشرف الكعبة بولادته فيها ، لا في تشرفه بولادته في الكعبة ، فإنه ( عليه السلام ) هو الكعبة الحقيقية لأهل الانتباه ، وقبلة إقبال المقبلين إلى الله ، كما روى عنه ( عليه السلام ) أنه قال : نحن كعبة الله ، ونحن قبلة الله » . نهج الإيمان / 569 .

4 . اسم علي واسم حيدرة

في أمالي الطوسي / 3 : « عن مكحول قال : لما كان يوم خيبر خرج رجل من اليهود يقال له مرحب ، وكان طويل القامة عظيم الهامة ، وكانت اليهود تقدمه لشجاعته ويساره .
--------------------------- 181 ---------------------------
قال : فخرج في ذلك اليوم إلى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فما واقفه قرن إلا قال : أنا مرحب ، ثم حمل عليه فلم يثبت له . قال : وكانت له ظئر وكانت كاهنة ، وكانت تعجب بشبابه وعظم خلقته ، وكانت تقول له : قاتل كل من قاتلك وغالب كل من غالبك ، إلا من تسمى عليك بحيدرة ، فإنك إن وقفت له هلكت . قال : فلما كثر مناوشته ، وبَعُل الناس بمقامه شكوا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) سألوه أن يُخرج إليه علياً فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : يا علي إكفني مرحباً ، فخرج إليه أمير المؤمنين ، فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به ، فأنكر ذلك وأحجم عنه ، ثم أقدم وهو يقول : أنا الذي سمتني أمي مرحبا .
فأقبل علي ( عليه السلام ) بالسيف ، وهو يقول : أنا الذي سمتني أمي حيدره .
فلما سمعها منه مرحب هرب ولم يقف خوفاً مما حذرته منه ظئره ، فتمثل له إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود ، فقال : إلى أين يا مرحب ؟ فقال : قد تسمى عليَّ هذا القرن بحيدرة ! فقال له إبليس : فما حيدرة ؟ فقال : إن فلانة ظئري كانت تحذرني من مبارزة رجل اسمه حيدرة وتقول : إنه قاتلك .
فقال له إبليس : شوهاً لك ، لو لم يكن حيدرة إلا هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله ، تأخذ بقول النساء وهن يخطئن أكثر مما يصبن ، وحيدرة في الدنيا كثير ، فارجع فلعلك تقتله ، فإن قتلته سدت قومك ، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك . فرده فوالله ما كان إلا كفَوَاق ناقة حتى ضربه علي ( عليه السلام ) ضربة سقط منها لوجهه وانهزم اليهود وهم يقولون : قتل مرحب ، قتل مرحب ! » .
أقول : يظهر أن أمه سمته حيدرة وسماه أبوه علياً بتوجيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وحيدرة بالعربية الأسد ، وورد أن اسمه ( عليه السلام ) عند اليهود هيدار ، ففي الروضة لابن شاذان / 222 ، أن اسم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « في التوراة : ميد ميد ، واسم وصيه : إليا ، واسمه في الإنجيل : حمياطا ، واسم وصيه فيها : هيدار »
وفي معاني الأخبار / 58 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خطبة له : « اسمي في الإنجيل إليا ، وفي التوراة برئ ، وفي الزبور أري ، وعند الهند كبكر ،
--------------------------- 182 ---------------------------
وعند الروم بطريسا ، وعند الفرس جبتر ، وعند الترك بثير ، وعند الزنج حيتر ، وعند الكهنة بويئ ، وعند الحبشة بثريك ، وعند أمي حيدرة ، وعند ظئري ميمون ، وعند العرب علي ، وعند الأرمن فريق ، وعند أبي ظهير » .
وفي الفضائل لابن شاذان / 175 : « وقد رويَ عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : لعلي سبعة عشر إسماً . فقال ابن عباس أخبرنا ما هي يا رسول الله ؟ فقال : اسمه عند العرب علي ، وعند أمه حيدرة ، وفي التوراة إليا ، وفي الإنجيل بريا ، وفي الزبور قريا ، وعند الروم بطرسيا ، وعند الفرس نيروز ، وعند العجم شميا ، وعند الديلم فريقيا ، وعند الكرور شيعيا ، وعند الزبح حيم ، وعند الحبشة تبير ، وعند الترك حميرا ، وعند الأرمن كركر ، وعند المؤمنين السحاب ، وعند الكافرين الموت الأحمر ، وعند المسلمين وعد ، وعند المنافقين وعيد ، وعندي طاهر مطهر ، وهو جنب الله ، ونفس الله ، ويمين الله عز وجل » .
وربما وجد ارتباط بين هيدار وقيدار ، ففي قاموس الكتاب المقدس / 751 : « قيدار : اسم سامي ، معناه قدير أو أسود ، وهو ابن إسماعيل الثاني « تك 25 : 13 » وهو أب لأشهر قبائل العرب ، وتسمى بلادهم أيضاً : قيدار » .

5 . ولد علي ( ( ع ) ) قبل البعثة بعشر سنين

كان عمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمَّا بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) عشر سنين ، لكنه كان جسمه ببنية الخمسة عشر ، ووعقل أكبر من سنه بكثير ، ويكفي دليلاً عليه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كلفه بدعوة بني هاشم وإعداد الطعام لهم .
قال العلامة في تذكرة الفقهاء : 6 / 196 : « يوم الثالث عشر منه ، ولد مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الكعبة قبل النبوة باثنتي عشرة سنة » . والصحيح عشرة سنين .
وقال في الكافي : 1 / 452 : « ولد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقتل ( عليه السلام ) في شهر رمضان لتسع بقين منه ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة ، وهو ابن ثلاث وستين سنة ، بقي بعد قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثين سنة » .
وتواترت في مصادر السنيين رواية ابن عفيف الكندي ، قال : « أول شئ علمتُ
--------------------------- 183 ---------------------------
من أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قدمت مكة في عمومة لي ، فأرشدنا على العباس بن عبد المطلب ، فانتهينا إليه وهو جالس في زمزم فجلسنا إليه فبينا نحن عنده ، أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة ، له وفرة جعدة إلى أطراف أذنيه ، أشم أقنى الأنف براق الثنايا أدعج العينين ، كث اللحية دقيق المسربة ، شثن الكفين والقدمين ، عليه ثوبان أبيضان ، كأنه القمر ليلة البدر ، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه ، مراهق أو محتلم ، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها ، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه ، ثم استلمه الغلام ، واستلمت المرأة ، ثم طاف بالبيت سبعاً ، والغلام والمرأة يطوفون معه ، ثم استلم الركن ورفع يديه وكبر ، وقام الغلام عن يمينه ورفع يديه وكبر ، وقامت المرأة خلفهما ورفعت يديها وكبرت ، وأطال القنوت ثم ركع فأطال الركوع ، ثم رفع رأسه من الركوع فقنت وهو قائم ، ثم سجد وسجد الغلام والمرأة معه ، يصنعان مثلما يصنع يتبعانه . قال : فرأينا شيئاً لم نكن نعرفه بمكة فأنكرنا ، فأقبلنا على العباس فقلنا : يا أبا الفضل إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم ، أشئ حدث ؟ قال : أجل والله ، أما تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله ، والغلام علي بن أبي طالب ، والمرأة خديجة بنت خويلد . أما والله ما على ظهر الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة » . والطبراني الكبير : 10 / 183 ، شرح النهج : 13 / 225 ، شواهد التنزيل : 2 / 302 ، تاريخ دمشق : 3 / 265 ، سير الذهبي : 1 / 463 ، ما نزل من القرآن في علي لابن مردويه / 49 ، الحاكم : 3 / 183 ، الإستيعاب : 3 / 1096 ، الفصول المختارة / 273 .
وفي رواية أحمد : 1 / 209 أنه رآهم في موسم الحج في منى خرجوا من خيمة وصلَّوْا . وفي رواية : « وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر » .

6 . أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( ( ع ) ) وهو طفلٌ فرباه ليكون له عضداً

في المناقب : 2 / 29 : « ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب : إني أحب أن تدفع إليَّ بعض
--------------------------- 184 ---------------------------
ولدك يعينني على أمري ويكفيني ، وأشكر لك بلاك عندي .
فقال أبو طالب : خذ أيهم شئت ، فأخذ علياً ( عليه السلام ) » .
وقال علي ( عليه السلام ) : « وقد علمتم موضعي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة . وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ، ويمسني جسده ويشمني عرفه . وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه . وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل . ولقد قرن الله به ( صلى الله عليه وآله ) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ويعلمه محاسن أخلاق العالم ليله ونهاره . ولقد كنت أتبعه اتِّبَاع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به . ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة .
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير ، وإنك لعلى خير » . نهج البلاغة : 2 / 158 .
وهذا النص الصحيح يبطل قولهم إن أبا طالب « رحمه الله » كان فقيراً لا يملك قوت أولاده فأشفق عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) والعباس ، فأخذا بعض أولاده ليخففوا عائلته ! فأخذ محمد ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) وأخذ العباس جعفراً ! وقد أفاض رواة السلطة العباسية في ذلك ، وأخذته منهم بعض مصادرنا لأن ظاهره المديح !
وأصله رواية ابن هشام : 1 / 162 ، عن ابن إسحاق ، عن مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 ، قال : « كان من نعم الله على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما صنع الله له وأراده به من الخير ، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب في عيال كثير فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم : يا أبا الفضل إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه . فقال
--------------------------- 185 ---------------------------
العباس : نعم ، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ماشئتما . فأخذ رسول الله علياً فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه ، فلم يزل علي مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى بعثه الله نبياً فاتبعه وصدقه ، وأخذ العباس جعفراً ، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه » . والطبري : 2 / 57 ، الحاكم : 3 / 576 ، مجمع الزوائد : 8 / 153 ، الإستيعاب : 1 / 37 ، تفسير الثعلبي : 5 / 84 ، مجالس ثعلب / 15 ، تاريخ دمشق : 26 / 283 . وشرح النهج 13 / 198 . ومن مصادرنا : علل الشرائع : 1 / 169 ، كشف الغمة : 1 / 77 ، روضة الواعظين / 86 ، المناقب : 2 / 27 ، العمدة / 63 ، ذخائر العقبى / 58 ، عمدة الطالب / 59 وبحار الأنوار : 35 / 24 . . الخ .
فالرواية إنما هي قولُ مجاهد بن جبر ، مولى بني مخزوم ، وعنه أخذها الجميع ، وظاهرها مدح لعلي ( عليه السلام ) بأن فقر أبيه كان السبب في أن يربيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
بل رووا عنه ( عليه السلام ) أنه قال : « أبي ساد فقيراً ، وما ساد فقير قبله » . اليعقوبي : 2 / 14 .
لكن كيف كان أبو طالب فقيراً ، وهو يطعم الحجيج ويسقيهم ! وهو ابن عبد المطلب الذي وَرَّثَه سقاية الحجيج ورفادتهم ؟ !
وقد روى مادحوا العباس أن أبا طالب اقترض منه عشرة آلاف درهم ، وأنفقها على الحجيج ، وفي السنة الثانية اقترض أربعة عشر ألفاً . تاريخ دمشق : 26 / 283 . فالذي ينفق الألوف لايعجز عن نفقة بيته وهي لا تزيد عن 500 درهم في السنة !
ومما يردُّ كلامهم أيضاً أنَّا لم نسمع شيئاً عن طالب عند حمزة ، ولا عن جعفر
عند العباس ! ولا سمعنا شيئاً عن هذه الأزمة الشديدة على قريش ، التي تفرد بذكرها مجاهد ، الذي هو صاحب ابن عباس ، وهو عباسي الهوى !
إن غرضهم إثبات فقر أبي طالب « رحمه الله » وغنى العباس ، وإنفاقه عليه وعلى أولاده ، وأن يقولوا إن أبا طالب عجز عن نفقات الرفادة والسقاية التي ورثه إياها عبد المطلب ، فاشتراها منه العباس . وأن يجعلوا نشأة علي ( عليه السلام ) عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) مصادفة ! راجع : تاريخ دمشق : 26 / 283 ، المستطرف : 1 / 289 ، أخبار مكة :
--------------------------- 186 ---------------------------
2 / 106 ، ومجالس ثعلب / 15 .
والراوي الثاني لهذه القصة فهو ابن سلام ، قال : « لما أمْعَرَ أبو طالب قالت له بنو هاشم : دعنا فليأخذ كل رجل منا رجلاً من ولدك . قال : اصنعوا ما أحببتم إذا خليتم لي عقيلاً ، فأخذ النبي علياً . . فكان أبو طالب يُدان لسقاية الحاج حتى أعوزه ذلك ، فقال لأخيه العباس بن عبد المطلب وكان أكثر بني هاشم مالاً في الجاهلية : يا أخي قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولا بد لهذه السقاية من أن تقام للحاج ، فأسلفني عشرة آلاف درهم فأسلفه العباس إياها ، فأقام أبو طالب تلك السنة بها وبما احتال « هيأ » فلما كانت السنة الثانية وأفِد الموسم « قرب » قال لأخيه العباس : يا أخي إن الموسم قد حضر ولا بد للسقاية من أن تقام ، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم ، فقال : إني قد أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم ، ورجوتُ ألا يأتي عليك هذا الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها ، وأنت تطلب العام أكثر منها ، وترجو زعمت ألا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها ، فأنت عنها أعجز اليوم ! هاهنا أمرٌ لك فيه فرج : أدفع إليك هذه الأربعة العشر ألف ، فإن جاء موسم قابل ولم توف حقي الأول وهذا ، فولاية السقاية إليَّ ، فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذْ عجزت عنها ! فأنعم له أبو طالب بذلك فقال : ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة ولا أريد سائر بني هاشم ، ففعل أبو طالب وأعاره العباس الأربعة عشرالألف بمحضر منهم ورضاً ، فلما كان الموسم العام المقبل لم يكن بد من إقامة السقاية ، فقال العباس لأبي طالب : قد أفد الحج وليس لدفع حقي إلي وجه ، وأنت لا تقدر أن تقيم السقاية فدعني وولايتها أكفكها وأبريك من حقي ففعل ، فكان العباس بن عبد المطلب يليها وأبو طالب حيٌّ ثم تم لهم ذلك إلى اليوم » .
أقول : صاحب هذا الكلام محمد بن سلام الجمحي ، وهو من أتباع المتوكل ، توفي سنة 231 ، ولم يسنده إلى أحد حتى إلى مجاهد تلميذ ابن عباس ! والرواية موظفة لإثبات أن العباسيين اشتروا السقاية من أبي طالب ، بعد أن أوصى له بها عبد المطلب ! والصحيح : أنه لما توفي أبو طالب وهاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحمزة وعلي وجعفر ، بقي العباس في مكة فتصدى للسقاية ، ولما فتح النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة سكت عن السقاية !
--------------------------- 187 ---------------------------
بل رووا أنه ( صلى الله عليه وآله ) كره أن يشرب من سقاية العباس ، لأنه كان يضع في الماء عنباً أو زبيباً : « عطش النبي ( صلى الله عليه وآله ) حول الكعبة فاستسقى ، فأتي بنبيذ من السقاية فشمَّه فَقَطَّب ! فقال عليَّ بذَنوبٍ من زمزم ، فصب عليه ثم شرب » . فتح الباري : 10 / 34 .
ولما افتخر العباس بالسقاية ، نزل قوله تعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ » . الكافي : 8 / 203 .
والنتيجة : أن علياً ( عليه السلام ) ولد قبل زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنحو سنتين حسب رواية أبي رافع « المناقب 2 / 29 » : « ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب : إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني ، وأشكر لك بلاك عندي . فقال أبو طالب : خذ أيهم شئت ، فأخذ علياً ( عليه السلام ) » .
ويدل قوله ( عليه السلام ) : « وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ، ويمسني جسده ويشمني عرفه . وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه » . على أنه كان في السنة الثالثة أو نحوها .
وقالت أمه فاطمة رضي الله عنها كما في رواية ابن قعنب كشف اليقين / 23 : « فولدت علياً ولرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثون سنة ، فأحبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حباً شديداً وقال لي : إجعلي مهده بقرب فراشي . وكان ( صلى الله عليه وآله ) يلي أكثر تربيته ، وكان يطهرعلياً في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ويقول : هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي . وكان يحمله دائماً ، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها » .
ومعناه أنه ( صلى الله عليه وآله ) اهتم بعلي ( عليه السلام ) من أول ولادته ، فكان يربيه ويطعمه وهو مع أمه في بيت أبي طالب ، ثم طلبه من عمه أبي طالب ( عليه السلام ) وكان في نحو السنتين . ويكون عمره ( عليه السلام ) عند البعثة عشر سنين « فولدت علياً ولرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثون سنة » وعاش معه ثلاثاً وثلاثين ، وبعده ثلاثين سنة .
--------------------------- 188 ---------------------------

الفصل العاشر

مقدمات بعثة النبي « صلى الله عليه وآله »

1 . حكَّمَتْه قريش في وضع الحجر قبل بعثته ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الكافي : 4 / 217 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن قريشاً في الجاهلية هدموا البيت فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه وألقيَ في روعهم الرعب ، حتى قال قائل منهم : ليأتِ كل رجل منكم بأطيب ماله ، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام ، ففعلوا فَخُلِّيَ بينهم وبين بنائه ، فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه حتى كاد أن يكون بينهم شر ، فحكَّموا أول من يدخل من باب المسجد ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما أتاهم أمَرَ بثوب فبُسط ثم وضع الحجر في وسطه ، ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه ، ثم تناوله ( صلى الله عليه وآله ) فوضعه في موضعه ، فخصه الله به » .
وفي الكافي : 4 / 217 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أيضاً قال : « إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت ، وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه من جوهر ، وكان حائطها قصيراً ، وكان ذلك قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاثين سنة . . . فلما بلغ البناء إلى موضع الحجرالأسود تشاجرت قريش في موضعه ، فقال كل قبيلة : نحن أولى به نحن نضعه فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة ، فطلع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : هذا الأمين قد جاء ! فحكموه فبسط رداءه وقال بعضهم كساء طاروني كان له ، ووضع الحجر فيه ثم قال : يأتي من كل ربع من قريش رجل ، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ،
--------------------------- 189 ---------------------------
والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى ، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم ، وقيس بن عدي من بني سهم ، فرفعوه ووضعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في موضعه » . والبيهقي : 5 / 72 ، فتح الباري : 3 / 351 ، الطيالسي / 18 ، أوائل ابن أبي عاصم / 44 ، الإستيعاب : 1 / 35 ، التنبيه والإشراف / 197 ، تاريخ الذهبي : 1 / 66 ، النهاية : 5 / 171 والشفا : 1 / 134 .
وذكر اليعقوبي : 2 / 19 أن عمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان خمساً وعشرين سنة . « كانت قريش تسمى رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين » . ابن هشام : 1 / 124 .

2 . قبل الأربعين كان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نبياً وكان يصلي معه علي وخديجة « عليهما السلام »

بحث العلماء عبادة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) قبل بعثته ، وهل كان يعبد الله تعالى حسب شريعة عيسى ( عليه السلام ) أم لا ؟ « البحار 18 / 272 » والصحيح أنه ( صلى الله عليه وآله ) وأجداده « عليهم السلام » كانوا فرعاً مستقلاً ، مكلفين بحنيفية إبراهيم ( عليه السلام ) دون غيره من الأنبياء « عليهم السلام » ، وأن قريشاً انحرفت عن ملة إبراهيم ( عليه السلام ) وثبت عليها آباؤه وأخيار أسرته ( صلى الله عليه وآله ) ، ويدل عليه :
1 - قول الفتال النيسابوري في روضة الواعظين / 52 : « إعلم أن الطائفة قد اجتمعت على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان رسولاً نبياً مستخفياً ، يصوم ويصلي على خلاف ما كانت قريش تفعله ، مذ كلفه الله تعالى . فإذا أتت أربعون سنة أمرالله عز وجل جبرئيل ( عليه السلام ) أن يهبط إليه بإظهار الرسالة وذلك في يوم السابع والعشرين من شهر الله الأصم . فاجتاز بميكائيل ( عليه السلام ) فقال : أين تريد ؟ فقال له : قد بعث الله جل وعز نبياً نبي الرحمة وأمرني أن أهبط إليه بالرسالة فقال له ميكائيل : فأجئ معك قال له : نعم ، فنزلا ووجد رسول الله نائماً بالأبطح بين أمير المؤمنين وجعفر بن أبي طالب « عليهم السلام » فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، ولم ينبهه جبرئيل إعظاماً له ، فقال ميكائيل لجبرئيل : إلى أيهم بعثت ؟ قال : إلى الأوسط ، فأراد أن ينبهه فمنعه جبرئيل ثم انتبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأدى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى . فلما نهض جبرئيل ليقوم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بثوبه . ثم قال : ما اسمك ؟ قال له جبرئيل . ثم نهض رسول الله ليلحق بغنمه ، فما مر
--------------------------- 190 ---------------------------
بشجرة ولامدرة إلا سلمت عليه وهنأته . ثم كان جبرئيل ( عليه السلام ) يأتيه فلا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه ، فأتاه يوماً وهو بأعلى مكة فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجرت عين ، فتوضأ جبرئيل وتوضأ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم صلى الظهر وهي أول صلاة فرضها الله عز وجل ، وصلى أمير المؤمنين تلك الصلاة مع رسول الله ، ورجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في يومه إلى خديجة فأخبرها ، فتوضأت وصلت صلاة العصر من ذلك اليوم » .
2 - قال الأصبغ بن نباتة : « سمعت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولاهاشم ولا عبد مناف صنماً قط ! قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به » . كمال الدين / 174 .
3 - تدل آيات تجديد إبراهيم ( عليه السلام ) للكعبة وإسكانه إسماعيل وذريته « عليهم السلام » فيها ، على أنهم فرع مستقل عن بني إسرائيل ونبواتهم ، وامتداد مباشر لإبراهيم ليهدوا الناس إلى حج البيت والطواف به والصلاة عنده ، بانتظار النبي الموعود منهم : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . إبراهيم : 37 .
وقال تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . البقرة : 127 - 129 .
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .
البقرة : 135 - 136 . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا . . آل عمران : 68 .
4 - تقدم في الفصل الأول أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً قبل آدم ، فوضع الله نوره في صلب آدم ، ثم ما زال ينقله من صلب طاهر إلى رحم مطهر ، حتى أولده من أبويه المؤمنين الطاهرين عبد الله وآمنة « عليها السلام » .
--------------------------- 191 ---------------------------
5 - تقدم قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يصف النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ولقد قرن الله به ( صلى الله عليه وآله ) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ويعلمه محاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره » . فهو نص على أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان نبياً من فطامه على الأقل ، وأن كبيراً من الملائكة كان معه ينبؤه ويعلمه ، ثم بعث في الأربعين رسولاً .
6 - قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) في الرسول والنبي والمحدث « الكافي : 1 / 176 » : « الرسول الذي يأتيه جبرئيل قُبَلاً « مواجهةً » فيراه ويكلمه فهذا الرسول ، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ( عليه السلام ) ونحو ما كان رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أسباب النبوة قبل الوحي ، حتى أتاه جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله بالرسالة .
وكان محمد ( صلى الله عليه وآله ) حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيؤه بها جبرئيل ويكلمه بها قُبَلاً . ومن الأنبياء « عليهم السلام » من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه ، من غير أن يكون يرى في اليقظة . وأما المحدَّث فهو الذي يُحَدَّث فيسمع ، ولا يُعاين ، ولا يرى في منامه » .
7 - نصت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » على أن جبرئيل جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما كان في سن السابعة والثلاثين ، وأخبره أنه سيكون رسولاً ، وعلمه الوضوء والصلاة وأن خديجة وعلياً ( صلى الله عليه وآله ) صدقاه ، وكانا يصليان معه .
ففي إعلام الورى : 1 / 102 : « ذكر مبدأ المبعث : ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم ، وهو من أجلِّ رواة أصحابنا في كتابه : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتياً أتاه فيقول : يا رسول الله ، فينكر ذلك ، فلما طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب ، فنظر إلى شخص يقول له : يا رسول الله . فقال له : من أنت ؟ قال : جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً ، فأخبر رسول الله خديجة بذلك ، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبراليهودي ، وخبر بحيراء ، وما حدثت به آمنة أمه ، فقالت : يا محمد إني لأرجو أن تكون كذلك .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يكتم ذلك ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) وأنزل عليه ماء من السماء فقال : يا محمد قم توضأ للصلاة ، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه
--------------------------- 192 ---------------------------
واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين ، وعلمه السجود والركوع . فلما تم له أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها ، ولم ينزل عليه أوقاتها ، فكان رسول الله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت .
وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه ، فدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلي ، فلما نظر إليه يصلي قال : يا أبا القاسم ما هذا ؟ قال : هذه الصلاة التي أمرني الله بها ، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وصلى معه وأسلمت خديجة ، فكان لا يصلي إلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وخديجة خلفه .
فلما أتى لذلك أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله ومعه جعفر ، فنظر إلى رسول الله وعلي بجنبه يصليان ، فقال لجعفر : ياجعفرصل جناح ابن عمك فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر ، فلما وقف جعفر على يساره بدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من بينهما وتقدم » . وفي المناقب : 1 / 41 : « وأنشأ أبو طالب في ذلك يقول :
إن علياً وجعفراً ثقتي * عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ
والله لا أخذل النبيَّ ولا * يخذله من بَنِيَّ ذو حسب
لاتخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي »
وفي فوائد أبي الفتح الكراجكي « رحمه الله » / 116 : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف ، أو سمع من حوله رجفة راجف ، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً ، يخبر بذلك خديجة وعلياً ( صلى الله عليه وآله ) ويستسرهما هذه الحال ، فكانت خديجة تثبته وتصبره ، وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له : والله يا ابن العم ما كذب عبد المطلب فيك ، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك .
ولم يزل كذلك إلى أن أُمِرَ بالتبليغ ، فكان أول من آمن به من النساء خديجة « عليها السلام » ، ومن الذكور أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) » .
8 - وفي أمالي الطوسي / 260 : « عبد الله بن نجي قال : سمعت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يقول : صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يصلي معه أحد من الناس ثلاث سنين » . ورواه الشريف المرتضى في الفصول المختارة / 261 ، وروى عن معاذة العدوية قالت : « سمعت
--------------------------- 193 ---------------------------
علياً ( عليه السلام ) يخطب على منبر البصرة ، فسمعته يقول : أنا الصديق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم . وعن أبي البختري قال ( عليه السلام ) : صليت قبل الناس سبع سنين » .

3 . وروى الجميع أنه صلى وعلياً سبعاً قبل الناس

روت مصادر الشيعة والسنة بسند صحيح ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلى هو وخديجة وعلي سبع سنين قبل الناس . والظاهر أنه يقصد أربع سنوات قبل الرسالة ، وثلاث سنوات بعدها ، حتى أمره الله بالدعوة العامة .
روى الخطيب في المتفق : 3 / 141 عن أبي أيوب : « قال ( صلى الله عليه وآله ) : صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين ، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله » . وفي تاريخ دمشق : 42 / 39 : « ولم ترفع شهادة أن لا إله إلا الله من الأرض إلى السماء ، إلا مني ومن علي » .
كما رووا قول علي ( عليه السلام ) صليت قبل الناس بسبع سنين ، وطرقه تصل إلى حد التواتر فمن مصادرنا : رواه في الخصال / 401 : « أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ، صليت قبل الناس بسبع سنين » .
وفي روضة الواعظين / 85 : « اللهم إني لا أعلم أحداً أسلم قبلي من هذه الأمة غير نبيها ، صليت قبل أن يصلي أحد سبعاً . . . بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء . عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين ، إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، قلت يا رسول الله : ما هذا ؟ قال : أمرت به » .
وفي أمالي الطوسي / 341 ، عن الإمام الرضا عن آبائه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ بمكة قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن » .
وفي كشف اليقين / 167 : « ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل ، عن عبد الله بن عباس قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها غيري إلا كاذب مفتر ، ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين .
ومن مسند أحمد : عن ابن أبي ليلى قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الصديقون ثلاثة :
--------------------------- 194 ---------------------------
حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال : يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ . وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : أَتَقْتُلُونَ رجلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ . وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم » . والفصول المختارة / 260 ، الغدير : 2 / 314 و 3 / 121 والصحيح من السيرة : 4 / 45 . ومن مصادرغيرنا : ابن ماجة : 1 / 44 ، الحاكم : 3 / 111 وصححاه . ومجمع الزوائد : 9 / 102 ، بعدة روايات ، ابن أبي شيبة : 7 / 498 ، الضحاك في الآحاد والمثاني : 1 / 148 ، النسائي : 5 / 106 ، الثعلبي في تفسيره : 5 / 85 ، الطبري في الرياض النضرة : 2 / 209 وابن أبي عاصم في السنة / 584 .
وفي سنن النسائي : 5 / 107 : « ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَد الله بعد نبيها - مباشرة - غيري ، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بسبع سنين » .
وقال في شرح النهج : 13 / 200 : « أنا الصديق الأكبر ، وأنا الفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبي بكر ، وصليت قبل صلاته بسبع سنين . كأنه ( عليه السلام ) لم يرتض أن يذكر عمر ، ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه ، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً » !
أقول : كان نزول جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متعدداً قبل الأربعين ، إلى أن نزل بالقرآن في الأربعين ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يخبر علياً وخديجة « عليهما السلام » ويدعوهما إلى الإيمان بعد نزول جبرئيل ( عليه السلام ) . وفي المرة الأخيرة في غار حراء كان علي وخديجة معه ( صلى الله عليه وآله ) كما روى ذلك السنة والشيعة ، ودعاهما أيضاً بعده فآمنا .

4 . وروى الجميع ما يدل على نبوته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل رسالته !

ففي دلائل النبوة للبيهقي : 2 / 17 و 424 ومسلم : 7 / 58 : « عن علي رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة فخرج في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال له : السلام عليك يا رسول الله . . . قال رسول الله : إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن » .
وفي فيض القدير : 3 / 25 : « قيل هو الحجر الأسود ، وقيل البارز بزقاق المرفق ، وعليه أهل مكة سلفاً وخلفاً » . وأضافت رواية الترمذي : 5 / 253 وغيره : كان يسلم عليَّ ليالي بعثت . ويبدو أنها زياة من الراوي .
--------------------------- 195 ---------------------------

5 . زعموا أن إسرافيل نزل عليه قبل جبرئيل

اهتم رواة السلطة بأمرين جعلوهما أصلين في البعثة ، وأخضعوا لهما ما روي !
الأول : أن نبوته ورسالته ( صلى الله عليه وآله ) كانتا معاً ، وأنه قبل الأربعين كان شخصاً عادياً ! وافتروا عليه بأنه كان يذبح للأصنام ، ويأكل مما ذُبح لها !
وغاية ما رووه أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يتعبد قبيل البعثة في حراء ، ويرى الرؤيا الصادقة !
والثاني : جعلوا حديث عائشة في البخاري عن بدء الوحي ، وَحْياً منزلاً ، بكل ما فيه من عنف جبرئيل ( عليه السلام ) وعدم منطقيته ، وغطه وعكه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أي ضربه إياه حتى كاد يخنقه ، ثم تركه مذعوراً خائفاً شاكاً في نبوته ! فعاد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيته وهو يرتجف وشكى إلى زوجته فأخذته إلى قسيس من أقاربها ، فامتحنه وطمأنه بأنه نبي ! ثم زعمت الرواية أن الوحي انقطع عنه فعاد اليه الشك ، وحاول أن ينتحر مراراً من خوف الفضيحة ، لكن جبرئيل منعه !
وقد أعرضوا عن آيات القرآن وأنه رآه في أفق مبين ، لأنها تخالف حديث عائشة ، وأعرضوا عن أحاديث صلاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) قبل الناس سبع سنين وثلاث سنين ، مع أنها عندهم صحيحة ، لأنها تعارض رواية عائشة !
ثم اخترعوا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في الأربعين ، وكان ينزل عليه إسرافيل ( عليه السلام ) ثلاث سنين ، قبل أن ينزل جبرئيل ( عليه السلام ) !
قال ابن كثير في سيرته : 1 / 388 : « قال الإمام أحمد . . عن عامر الشعبي ، أن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلمه الكلمة والشئ ولم ينزل القرآن ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة ، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة .
فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي . . . وحديث عائشة لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا ، ثم وكل به إسرافيل فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل ، اختصاراً للحديث ، أو لم تكن وقفت
--------------------------- 196 ---------------------------
على قصة إسرافيل » . والإتقان : 1 / 128 ، الإستيعاب : 1 / 36 ، الدر المنثور 3 / 302 وعمدة القاري : 1 / 40 وغيرها .
فقبلوا كلام عامر الشعبي غير المسند لأنه ينسجم مع رواية عائشة !
وافترض الماوردي من عند نفسه : « ستة أحوال نُقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها » فعقد في أعلام النبوة / 308 ، فصلاً بعنوان : « تَدَرُّجُه ( صلى الله عليه وآله ) في أحوال النبوة » لكنه جعلها كلها مراحل للخروج من شكه بنبوته إلى اليقين !
قال : « تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ » ! وهو ككلام الشعبي تخيلٌ بلا دليل !
أما سبب اختيارهم لإسرافيل وميكائيل بدل جبرئيل « عليهم السلام » « عبد الرزاق : 3 / 599 » فمن أجل إرضاء اليهود الذين يعادون جبرئيل ( عليه السلام ) ، لأنه نزل بعذابهم !
روى ابن حجر في العجاب : 1 / 292 عن عمر ، أن اليهود قالوا له : « يا ابن الخطاب ما أحد أحب إلينا منك إنك تأتينا وتغشانا . . قالوا عدونا جبريل وسِلْمُنَا ميكائيل » !
ثم روى أن اليهود قالوا : « لو أن ميكائيل الذي ينزل عليكم اتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالنقمة والعذاب ، وهو لنا عدو » !

  • *
    --------------------------- 197 ---------------------------

الفصل الحادي عشر

كيف بدأت بعثة النبي « صلى الله عليه وآله »

1 . رواية أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) عن البعثة وابتداء الوحي

كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعتكف لعبادة ربه عز وجل في جبل حراء في ضاحية مكة ، وهو محل اعتكاف أجداده الطاهرين « عليهم السلام » ، وله قمتان متصلتان بقمته الدنيا وفيها غار حراء ، والعليا لا يمكن صعودها مشياً ، وفيها لون أبيض يميز الجبل .
ويمتاز غار حراء بأن المصلي فيه يرى الكعبة ، مع أنها في وادٍ بين جبال ، لأنه أعلى من الجبال التي حولها ، فكأنه مخلوقٌ للعبادة مع استقبال الكعبة ومشاهدتها !
ويسمى المُعْتَكِفُ في جبل حراء مُتَحَنِّفاً أي عابداً لله على ملة إبراهيم الحنيفية ، والحنيف المائل إلى الخير ، ويقابله الجنيف المائل إلى الشر .
وقال بعضهم يتحنث بالثاء ، لكن اللغويين قالوا : « لا أعرف يتحنث إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم ( عليه السلام ) » . عمدة القاري : 1 / 49 .
ويعتزل المعتكف الناس شهراً أو أياماً ، يعبد الله تعالى ويتأمل في آلائه . وكان عبد المطلب ( عليه السلام ) يعتكف بحراء ، وكان نبينا ( صلى الله عليه وآله ) يعتكف شهراً في السنة ، ويعود إلى مكة فلا يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة .
قال في فتح الباري : 12 / 213 : « مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الإعتكاف . . إنما لم ينازعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره ، لأن جده عبد المطلب أول من
--------------------------- 198 ---------------------------
كان يخلو فيه من قريش ، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه ، فتبعه على ذلك من كان يتأله ، فكان ( صلى الله عليه وآله ) يخلو بمكان جده وسلَّمَ له ذلك أعمامه » .
وروي أن إبراهيم ( عليه السلام ) بنى الكعبة من أربعة جبال ، ففي تاريخ دمشق : 2 / 348 : « فلما كان إبراهيم أراه الله تعالى مكانة البيت ، فاتَّبع منه أثراً قديماً ، فبناه من طور زيتا ، وطور سينا ، ومن جبل لبنان ، ومن أحد ، وجعل قواعده من حراء » .
وأقسم أبو طالب « رحمه الله » بالمتعبدين بحراء والزائرين له ، فقال في لاميته :
ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
أعوذ برب الناس من كل * طاعن علينا بسوء أو مُلِحٍّ بباطل
وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكةٍ * وبالله إن الله ليس بغافل
سيرة ابن هشام : 1 / 154 و 176
وأوضح نص في بدء بعثته ( صلى الله عليه وآله ) ما قاله علي ( عليه السلام ) في أطول خطبه التي تسمى القاصعة : « ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة . ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وإنك لعلى خير » . نهج البلاغة : 2 / 157 ومصادر نهج البلاغة : 3 / 23 .
وقوله ( عليه السلام ) : ولقد سمعت رنة الشيطان . . يظهر أن ذلك في أول بعثته ( صلى الله عليه وآله ) أيام اعتكافه وأن علياً ( عليه السلام ) كان حاضراً معه كما روي ، وقد يكون ذلك في مرة أخرى بعدها .
قال الجاحظ في العثمانية / 305 : « فجاور في حراء في شهر رمضان ، ومعه أهله خديجة ، وعلي بن أبي طالب ، وخادم » .
وفي السيرة الحلبية : 1 / 383 : « كان يخرج لجواره ومعه أهله ، أي عياله التي هي خديجة ، إما مع أولادها أو بدونهم » .
وفي دلائل البيهقي : 2 / 14 وإمتاع الأسماع : 3 / 24 : « وخرج معه بأهله » .
--------------------------- 199 ---------------------------
لكن بعضهم تعمد تغييب علي ( عليه السلام ) حتى عن أخذ الزاد له ! قال البخاري : 8 / 67 : « ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها » .
ومعنى رنة إبليس : صوت حزنه ورعبه . وروي أنه : « رنَّ أربع رنات : يوم لعن ويوم أهبط إلى الأرض ، ويوم بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويوم الغدير » . قرب الإسناد / 9 .
وأضاف لها في الخصال / 263 : « وحين أنزلت أم الكتاب » .
وفي الطبراني الكبير : 12 / 9 : « لما افتتح النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة رنَّ إبليس » .
وفي شرح النهج : 13 / 209 عن علي ( عليه السلام ) ، أن الشيطان رنَّ : « صبيحة الليلة التي أسري فيها بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو بالحجر ، ولما بايعه الأنصار ليلة العقبة » .
وقال أهل البيت ( عليهم السلام ) إن الوحي بدأ في أفق مبين ، لا لبس فيه ولاخوف ، واستمر كذلك تصديقاً لقوله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ . وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ .
ففي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 155 : « وأما تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما ترك التجارة إلى الشام ، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات ، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده ، وينظر من قُلله إلى آثار رحمة الله عز وجل ، وأنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته ، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض ، والبحار والمفاوز والفيافي ، فيعتبر بتلك الآثار ، ويتذكر بتلك الآيات ويعبدالله حق عبادته .
فلما استكمل أربعين سنة ، نظر الله عز وجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب ، وأجلها وأطوعها وأخشعها وأخضعها ، فأذن لأبواب السماء ففتحت ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) ينظر إليها ، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) ينظر إليهم ، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد ( صلى الله عليه وآله ) وغمرته ، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور ، طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه ، وقال : يا محمد إقرأ . قال : وما أقرأ ؟ قال : يا محمد : إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ . إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ . عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ .
ثم أوحى إليه ربه عز وجل ما أوحى إليه ، ثم صعد جبرئيل إلى العلو .
--------------------------- 200 ---------------------------
ونزل محمد ( صلى الله عليه وآله ) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله ، وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض ، وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ، ونسبتهم إياه إلى الجنون ، وأنه يعتريه شيطان ، وكان من أول أمره أعقل خليقة الله وأكرم براياه ، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم .
فأراد الله عز وجل أن يشرح صدره ويشجع قلبه ، فأنطق الجبال والصخور والمدر ، وكلما وصل إلى شئ منها ناداه : السلام عليك يا محمد ، السلام عليك يا ولي الله ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، أبشر فإن الله عز وجل قد فضلك وجمَّلك وزيَّنك وأكرمك ، فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين . لا يحزنك قول قريش : إنك مجنون وعن الدين مفتون ، فإن الفاضل من فضَّله رب العالمين ، والكريم من كرَّمه خالق الخلق أجمعين ، فلا يضيقن صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك ، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات ، ويرفعك إلى أرفع الدرجات » .
وهذا وأمثاله أحاديث صريحة في أن بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت في أفق مبين ، وبصيرة ويقين ، فلا رعب فيها ولا غط ، ولا ريب ولا شك ، ولا ورقة بن نوفل ، ولا عدَّاساً ، ولا نسطوراً ، ولا شكاً في النبوة وذهاباً إلى الجبل للانتحار ! فكل ذلك مكذوبات من المشركين ، وإن قبلتها عائشة ومن صدقها !
فانظر إلى هذه الصورة الرائعة المنسجمة مع القرآن والعقل وأفعال الله تعالى الحكيمة ، وقارنها بالأساطير التي سطرتها الكتب ، التي عظموها وعصموها !
كما تدل على أن الصلاة كانت قياماً وسجوداً بلا ركوع ، ثم أمر الله بالركوع ، ثم فرضت على المسلمين بصيغتها الفعلية في المعراج ، في السنة الثانية .

2 . طامات عائشة التي تبنتها السلطة

قالت عائشة : إن الوحي بدأ في جَوٍّ عنيف مبهم ، بعكس قول أهل البيت « عليهم السلام » ! وقد افتتح البخاري صحيحه بروايتها وكررها في كتابه أربع مرات ! ولا يمكننا قبولها لأنها
--------------------------- 201 ---------------------------
تخالف القرآن والعقل ، وتقول إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان شاكاً في نبوته ! وأنه أمره بأمر غير معقول ، ثم اعتدى عليه الملاك وغطه بعنف وخنقه وكاد أن يقتله !
قال بخاري في صحيحه : 8 / 67 : « عن عائشة أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح ، فكان يأتي حِرَاء فيتحنَّث فيه ، وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها ، حتى فَجَأَه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : إقرأ ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا بقارئ ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ! ثم أرسلني فقال : إقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجَهد ! ثم أرسلني فقال : إقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ! فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد ! ثم أرسلني فقال : إقرأ باسم ربك ! ثم أرسلني فقال : إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . . حتى بلغ مَا لَمْ يَعْلَمْ .
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمِّلوني زمِّلوني ، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال يا خديجة مالي ؟ ! وأخبرها الخبروقال : قد خشيت على نفسي ! فقالت له : كلا ، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكَل ، وتُقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها ، وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة : أي ابن عم إسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : ابنَ أخي ماذا ترى ؟ فأخبره النبي ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك ؟ فقال رسول الله : أومُخْرِجِيَّ هم ؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقه أن توفي !
وفَتَر الوحي فترةً حتى حزن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي
--------------------------- 202 ---------------------------
يتردى من رؤس شواهق الجبال ! فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه ! تبدَّى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاًفيسكن لذلك جأشه وتقرُّ نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ! فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له مثل ذلك » !
قال النووي : 3 / 199 والعيني : 1 / 50 : « غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه وغمزه ، كله بمعنى واحد » ! راجع كتابنا : ألف سؤال وإشكال : 2 / 180 - مسألة : 140 .

3 . الموقف الشرعي من رواية عائشة

1 - أيهما نصدق : قول الله تعالى : وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ ، أم قول عائشة إنه رآه في أفق مرعب وشك مريب ، فاحتاج إلى نصراني ليهدئ من رعبه وشكه ؟ !
2 - وكيف نصدق الغط والخنق ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يعرف جبرئيل ولا فهم كلامه ! فعاد إلى مكة مرعوباً شاكياً إلى زوجته « عليها السلام » ، فطمأنته ، لكنه بقي شاكاً فأخذته إلى طبيب هوالقسيس ورقة بن نوفل وعرضته عليه ، كما تأخذ المرأة زوجها إلى فوال ، فطمأنها بأنه نبي فاطمأنت !
لكن الوحي انقطع عنه فعاد اليه شكه وإحباطه ، فقرر أن ينتحر ، وذهب مراراً لينفذ قراره من فوق الجبل ! لكن جبرئيل جاءه من بعيد ، ومنعه من الانتحار ، لكنه عاود محاولات الانتحار مراراً !
فأين هذا من قوله تعالى : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدعو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي . وقوله تعالى : إِنِّي لايَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ . وما هذا الرعب ، والشك ، وقرار الانتحار !
3 - بشرت الأنبياء « عليهم السلام » بنبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، وتواترت الأخبار بأن اليهود والنصارى وأسرته عرفوا نبوته ! فكيف لم يعرفها هو حتى بعد نزول الوحي عليه ؟ !
4 - روينا « الكافي 5 / 374 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن أبا طالب تكلم في خِطبة خديجة « عليهما السلام » ولما أراد ورقة أن يتكلم : « تلجلج وقَصُرعن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر » ! فأين شخصية ورقة الضعيفة مما زعمته له رواية عائشة .
--------------------------- 203 ---------------------------
5 - ألا يكفي لرد هذه الرواية ما صححوه من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عبَدَ الله مع عليٍّ سبع سنين قبل بعثته ، وأنه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد ! مجمع الزوائد : 8 / 223 ، أحمد : 4 / 66 و 5 / 59 و 379 ، الحاكم : 2 / 609 ، ابن شيبة : 8 / 438 ، الطبراني الأوسط : 4 / 2727 ، الكبير : 12 / 73 ، آحاد الضحاك : 5 / 347 ، الدر المنثور : 5 / 184 ، العجلوني : 2 / 129 و 132 ، الأحوذي : 10 / 56 ، المغني : 3 / 124 فتح القدير : 4 / 267 والباقلاني / 58 .
6 - الوضع المنطقي لجبرئيل ( عليه السلام ) لما نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أن يسلم عليه ويعرفه أنه رسول ربه عز وجل إليه ، وأنه اختاره رسولاً وأنه سينزِّل عليه قرآناً ، ثم يشرح له مهمته . وأن يكون ذلك في جو اطمئنان ويقين وخشوع ، كما نصت رواية أهل البيت « عليهم السلام » ، وليس بالتعامل الخشن الذي نسبوه إلى الله تعالى ، والذي يشبه أكاذيب اليهود عن عنف ربهم مع أنبيائه « عليهم السلام » ! العنف الذي يشبه روايات كهَّان العرب المصابين بالعُصاب عندما يأتيهم جِنِّيُّهُم !
7 - كيف يأمره جبرئيل ( عليه السلام ) بأن يقرأ ولا يفسر له ما يقرأ ؟ وهل رأيت عاقلاً يأمر أحداً بأمر لا يفهمه ولا يفسره له ، بل يضربه ويخنقه إن لم يفعل ؟ !
8 - وكل هذه الطامات في كفة ، وعزم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن ينتحر في كفة ! فكيف يقبلون هذه الفرية على النبي ( صلى الله عليه وآله ) كقوله وحاشاه : « لا تتحدث بهذا قريش عني أبداً ! فلأعمدنَّ إلى حالق من الجبل ، ولأطرحن نفسي منه فلأقتلنها ولأستريحن ! فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عني فانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها فقالت : يا أبا القاسم أين كنت ، فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي » . إلى آخر هذه الخرافة التي تبنتها عائشة فحيرت فيها أتباعها !
9 - كان تبنيهم لهذه الرواية سبباً لافتراء أعداء الإسلام على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه كان يشك في نبوته ، وإن القسيس ورقة بعثه نبياً ، وليس الله تعالى !
--------------------------- 204 ---------------------------
10 - حاولوا أن ينفوا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قرر الانتحار ، فوجدوا في حديث البخاري عبارة : « حتى حزن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى » فقالوا إن قوله : فيما بلغنا ، قول الزهري وليس قول عائشة ! فتح الباري : 12 / 316 .
فجعلوه في رقبة إمامهم الزهري ، لينقذوا إمامتهم عائشة ! لكن ابن مردويه رواه قطعة واحدة عن عائشة بدون « فيما بلغنا » كما شهد ابن حجر ! ثم ذكر ابن حجر / 118 ، روايات أخرى في أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذهب لينتحر ! راجع الطبقات : 1 / 196 ، الطبري : 2 / 47 ، تفسيره : 30 / 317 ، تفسير الصنعاني : 3 / 327 وابن كثير : 4 / 265 .
لقد افتضحوا فنسبوا إلى نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) مالايقبلون نسبته إلى أنفسهم وأئمتهم ! ونسبوا إلى ربهم أنه ظالمٌ يبعث إلى نبيه بأسلوب مبهم مرعب ! فتعالى عما يصفون !
وأخيراً يتضح لك خطأ قولها : « وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب » . والإنجيل لم يكن بالعبرية ، بل بالسريانية .

4 . رووا نحو ما روينا ، وأعرضوا عنه لأجل عائشة !

ففي دلائل البيهقي : 2 / 160 عن محمد بن إسحاق ، قال : « وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء به ، ثم إن جبريل أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء مزن ، فتوضأ جبريل ومحمد ، ثم صليا ركعتين وسجدا أربع سجدات ، ثم رجع النبي قد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من الله ، فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة ، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً .
قال ابن إسحاق : ثم إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي : ما هذا يا محمد ؟ فقال رسول الله : دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله ، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وكفر باللات والعزى ! فقال علي : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم ، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أبا طالب . وكره
--------------------------- 205 ---------------------------
رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره ، فقال له : يا علي إذا لم تُسلم فاكتم ، فمكث علي تلك الليلة .
ثم إن الله تبارك وتعالى أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غادياً إلى رسول الله حتى جاءه فقال : ماذا عرضت عليَّ يا محمد ؟ فقال له رسول الله : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد ، ففعل عليٌّ وأسلم . فمكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب ، وكتم علي إسلامه ولم يظهره .
وأسلم ابن حارثة ، فمكثا قريباً من شهر يختلف علي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله قبل الإسلام » . وتاريخ الذهبي : 1 / 135 ، أسد الغابة : 4 / 16 ، سيرة ابن كثير : 1 / 428 ، وسبل الهدى : 2 / 300 .
وهذه تؤيد رواية أهل البيت « عليهم السلام » ، وتبطل رواية عائشة ! وروى شبيهاً بها القرطبي : 17 / 87 ، وتنوير الحوالك : 16 / 17 وفيه : « فرفعت رأسي فإذا جبريل صافٌّ قدميه بين السماء والأرض يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ، فجعلت لا أصرف بصري إلى ناحية إلا رأيته كذلك » !
لكنهم لا يحبون هذه الأحاديث ، لأنها تكذب العنف والغط والخنق ! فقد أشربوا في قلوبهم تصديق هذه التخيلات الإسرائيلية وعُصَاب الكُهَّان !
ثم ضخموا فترة انقطاع الوحي ، لتتوافق مع هذه التخيلات !

  • *
    --------------------------- 206 ---------------------------

الفصل الثاني عشر

المرحلة الأولى دعوة بني هاشم خاصة

1 . نزل خبر بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كالصاعقة على زعماء قريش !

انتشر في مكة خبر أن محمداً أعلن نبوته ، فكان كالصاعقة على زعماء قريش لأن برأيهم حركة من بني هاشم لفرض رئاستهم على قريش والعرب ، وانقلابٌ على صيغة التوافق في تقسيم مناصب الشرف ، وهي : رئاسة قريش ، ورايتها ، وسقاية الحجاج ورفادتهم ! وتركزت أنظارهم على أبي طالب شيخ بني هاشم ، لمعرفة موقفه ، وهو صاحب شخصية قوية ، وكان يومها في نحو الخامسة والسبعين ، لأنه توفي قبيل الهجرة وعمره سبع وثمانون . الطبقات : 1 / 124 .
وزاد من تخوفهم أنهم سمعوا من اليهود ومن عبد المطلب أن نبياً سيبعث من ذريته ، وكان يتوقع أن يكون حفيده محمداً ، وأوصى به إلى أبي طالب وشدد عليه الوصية بحفظه وإكرامه ، فرباه أبو طالب وآثره على أولاده . وقد اشتهر حب أبي طالب له ، وتغنى في شعره بفضله وآياته ، وشهادة بحيرا الراهب بأنه نبي .
ويبدو أن علياً ( عليه السلام ) أخبر أباه بأن الملاك نزل على محمد ( صلى الله عليه وآله ) فذهب أبو طالب إلى بيت النبي وسأله : « يا ابن أخي ، آللهُ أرسلك ؟ قال : نعم . قال : فأرني آية . قال : أدع لي تلك الشجرة ، فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم انصرفت . فقال أبو طالب : أشهد أنك صادق ، يا علي صِلْ جناح ابن عمك » . أمالي الصدوق / 711 .
--------------------------- 207 ---------------------------
وحرص زعماء قريش على معرفة حقيقة موقف أبي طالب ، وتخوفوا لما بلغهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمره ربه أن يدعو عشيرته الأقربين فدعا بني هاشم ، وأخبرهم أن الله بعثه إليهم خاصة ثم إلى الناس عامة ، وأمره أن يتخذ منهم من يبايعه على نصرته أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة ، فاستجاب له الفتى علي ( عليه السلام ) ، فأعلنه أخاه ووزيره وخليفته ، وأمر بني هاشم بطاعته ! وكان ذلك نبأ عظيماً على زعماء قريش كما وصفه الله تعالى في سورة النبأ ، حيث اعتبروا أن بني هاشم أعلنوا مشروعهم في النبوة ، وقرروا حماية محمد ، وقد اتخذ وزيراً ووصياً له منهم .
لقد قرر زعماء قريش بالإجماع قتل محمد لأن عمله خيانة عظمى ، فيجب على عمه أن يسلمه إليهم ليقتلوه !
ولم يتضمن قرارهم أن يسألوه عن دليله أو معجزته ! فلا يهمهم أن يكون عنده ذلك أو لا يكون ! لأن مجرد ادعائه النبوة مؤامرة على بقية القبائل !
وكان قرارهم غريباً فيه جلافة البداوة وخباثة اليهود ! لكن الشيطان زينه لهم فذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه تسليم ابن أخيه لهم ليقتلوه !
فغضب أبو طالب وأعلن حمايته له وحذرهم إن مَسُّوا منه شعرةً ! فسكتوا لأنهم يعرفون شجاعة بني هاشم ، وأنهم لايُسَلِّمونهم محمداً إلا بحرب !
لكنهم لم يتراجعوا فقاموا بشن حملات افتراء وسخرية من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقرآنه ووصيه الذي اختاره ، فكانوا يقولون : « هذا صفي محمد من بين أهله ، ويتغامزون بعلي ( عليه السلام ) » . « المناقب : 3 / 8 » . وأخذوا يعملون لاغتياله ( صلى الله عليه وآله ) ويرصدون من يستجيب لدعوته ! وفي المقابل قام أبو طالب « رحمه الله » بتوحيد بني هاشم لحمايته ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعل حول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث حلقات أمنية كما يدل حديث إسلام أبي ذر « رحمه الله » ، فعندما طلب اللقاء بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) حقق معه أبو طالب ( عليه السلام ) وواعده اليوم الثاني ، وفي اليوم الثاني أخذه إلى حمزة ، فحقق معه وسلمه إلى جعفر « عليهما السلام » ، فحقق معه جعفر وسلمه إلى علي ( عليه السلام ) ، فحقق معه ، ثم أدخله على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
--------------------------- 208 ---------------------------

2 . استمرت العاصفة ثلاث سنين حتى أهلك الله المستهزئين

استمرت هذه المرحلة الصعبة الخطرة ثلاث سنين ، حتى أزاح الله من طريق رسوله ( صلى الله عليه وآله ) عتاة المستهزئين في يوم واحد ، وأمره أن يصدع بالدعوة .
فقد قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) كمال الدين / 328 : « ما أجاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحدٌ قبل علي بن أبي طالب وخديجة « عليها السلام » ، ولقد مكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة ثلاث سنين مختفياً خائفاً يترقب ، ويخاف قومه والناس » .
وفي تفسير القمي : 1 / 377 : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ « الحجر : 94 - 95 » فإنها نزلت بمكة بعد أن نُبِّئ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بثلاث سنين . . . أنزل الله عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ . . . دخل أبو طالب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلي وعليٌّ ( عليه السلام ) بجنبه وكان مع أبي طالب جعفر ، فقال له أبو طالب : صِلْ جناح ابن عمك ، فوقف جعفر على يسار رسول الله فبدر رسول الله من بينهما ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلي وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به . فلما أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ . والمستهزؤون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن طلاطلة الخزاعي » .
وفي تفسير العياشي : 2 / 253 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إكتتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة سنين ليس يظهر ، وعلي معه وخديجة . ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب » .
وفي سيرة ابن إسحاق : 2 / 126 : « ثم إن الله تعالى أمر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أن يصدع بما جاء به ، وأن ينادي الناس بأمره ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وكان ربما أخفى الشئ واستسر به ، إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه » .
وفي سيرة ابن هشام : 1 / 169 : « وكان بين ما أخفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه ، ثم قال الله تعالى له : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ » .
--------------------------- 209 ---------------------------
وفي الإستيعاب لابن عبد البر : 1 / 34 : « ثم نبأه الله تعالى وهو ابن أربعين سنة ، وكان أول يوم أوحى الله تعالى إليه فيه يوم الاثنين ، فأسر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمره ثلاث سنين أو نحوها ، ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه ، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه » .
وروى الصدوق وغيره أن هذه المرحلة كانت خمس سنين ، ففي كمال الدين / 344 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اكتتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة مختفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر أمره ، وعلي ( عليه السلام ) معه وخديجة ، ثم أمره الله عز وجل أن يصدع بما أمر به ، فظهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأظهر أمره » . والمناقب : 1 / 150 ونحوه غيبة الطوسي / 332 .
وقد يكون المعنى أن اختفاءه ( صلى الله عليه وآله ) انتهى بعد ثلاث وصدع بدعوته علناً ، ثم استمر الخوف عليه من الإغتيال خمس سنين .
فالمجمع عليه أنه ( صلى الله عليه وآله ) في السنين الثلاث الأولى لم يدع غير بني هاشم . ولم أجد نصاً يذكر أنه جلس في المسجد في هذه المدة ، فقد هدده عتاة المستهزئين بأنه إن دعا الناس فسيقتلونه ، وأخيراً أنذروه إلى يوم معين ليعلن تراجعه عن نبوته ( صلى الله عليه وآله ) وإلا قتلوه ، فكفاه الله شرهم وقتلهم ، وأنزل عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ !
وبسبب ما تقدم قالت بعض الأحاديث السنية والشيعية إن سنوات البعثة في مكة عشر سنوات ، فاستثنت الثلاث الأولى ، لأنها خاصة ببني هاشم .
ففي الكافي : 5 / 7 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن الله عز وجل بعث رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بالإسلام إلى الناس عشر سنين ، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال . فالخير في السيف وتحت السيف . والأمر يعود كما بدأ » . يقصد ظهور المهدي ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) .

3 . الإنجازات الرسولية في هذه المرحلة

1 . توالى نزول القرآن ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتلوه على المسلمين ، ويوصله إلى المشركين فيستهزئون به ، وكانت بعض الآيات تنزل جواباً لهم .
2 . آمن له علي وخديجة « عليهما السلام » وعمه أبو طالب وابنه جعفر وعمه حمزة ومولاه
--------------------------- 210 ---------------------------
زيد رضي الله عنهم ، وأمره الله أن يدعو عشيرته الأقربين ويتخذ منهم وصياً ، ففعل .
3 . أخبرعن نبوته فشاع خبرها ، واستنفرت قريش ضده ، وبدأت حملتها .
4 . نهض أبو طالب ( عليه السلام ) لنصرته ، وحشد معه كل بني هاشم ، وشذ منهم أبو لهب ، واستخفى النبي ( صلى الله عليه وآله ) من فراعنة قريش وشياطينهم .
5 . آمن له أفراد من قبائل قريش وغفار والحلفاء والعبيد ، سراً على تخوف .
6 . كان للنبي ( صلى الله عليه وآله ) لقاءات بزعماء قريش لإقامة الحجة عليهم ، لكنها قليلة .

4 . معنى السرية في المرحلة الأولى للدعوة

السرية التي يضخمونها في هذه المرحلة ، إنما كانت في أسماء المسلمين الجدد الذين لا يستطيعون إعلان إسلامهم خوفاً من قريش ، أو الذين أمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإخفاء إسلامهم لمصلحة الدعوة ، كأبي طالب وحمزة .
أما النبوة فلم تبق سرية لأنه خبرها انتشر من أول يوم ، ومكة صغيرة : 40 ألفاً . كما أن نزول القرآن كان متواصلاً والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يتلوه ويوصل آياته إلى قريش وغيرها . وقد نزلت في هذه السنوات سور عديدة .
قال ابن النديم في الفهرست / 28 ، والزركشي في البرهان : 1 / 193 : « أول ما نزل من القرآن بمكة : إِقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ ، ثم نون ، ثم والقلم ، ثم يا أيها المزمل ، ثم المدثر ، ثم تبت يدا أبي لهب ، ثم إذا الشمس كورت ، ثم سبح اسم ربك الأعلى ، ثم والليل إذا يغشى ، ثم والفجر ، ثم والضحى ، ثم ألم نشرح ، ثم والعشر ، ثم والعاديات ، ثم إنا أعطيناك الكوثر ، ثم ألهاكم التكاثر ، ثم أرأيت الذي ، ثم قل يا أيها الكافرون ، ثم سورة الفيل ، ثم الفلق ، ثم الناس ، ثم قل هو الله أحد ، ثم والنجم إذا هوى ، ثم عبس » .
وردَّت بعض السور مقولات المشركين ، ووصفت عاصفتهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما بلغهم خبر نبوته ! ففي سورة القلم نقرأ قوله تعالى : فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ . وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . . .
وفي سورة المزمل نقرأ : وَاصْبِرْ عَلَى مَايَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً . وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
--------------------------- 211 ---------------------------
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً . . .
وفي سورة المدثر : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً . سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا . .
وفي سورة التكوير جواب الذين قالوا إنه ( صلى الله عليه وآله ) مجنون : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ . وَمَاصَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ . وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ المُبِينِ . وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ . وَمَاهُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ .
وفي المرسلات جواب من سخروا من الصلاة : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ . فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ .
وفي سورة قاف جواب تكذيبهم للنبوة : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَئٌ عَجِيبٌ . فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ .

5 . آية المستهزئين تكشف تخبط رواة السلطة وكذبهم !

اتفق المفسرون والمحدثون على أن آيات : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ . نزلت بعد ثلاث سنين من البعثة ، فبدأ النبي ( صلى الله عليه وآله ) مرحلة جديدة هي مرحلة الإعلان والصدع بالدعوة لكل الناس ، بعد أن أزال الله من طريقه العقبة الأساسية وأهلك المستهزئين الخمسة في يوم واحد !
فكل نص مبني على وجود أحد منهم بعد ذلك التاريخ خطأ أو مكذوب ! وبه يظهر عوار عدد من نصوص رواة السلطة :
فمنها : روايتهم التي تتنافى مع الخطر الشديد والحيطة التي كان فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تلك الفترة ، مثل إيمان أبي بكر وغيره ، لأنه لو صح ذلك لرووا ردة فعل قريش كردة فعلها على إسلام أبي ذر ، وخالد بن سعيد ، وعمار بن ياسر ووالديه ، وخباب بن الأرت ، وغيرهم ممن أسلم في تلك الفترة !
ومنها : زعمهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صدع بدعوته العامة من السنة الأولى ، وأنه عندما أمره الله في سورة الشعراء : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . . صعد على الصفا ونادى
--------------------------- 212 ---------------------------
كل قريش يا آل فلان ويا آل فلان . . الخ . والصحيح أنه دعا بني هاشم فقط ، وأن دعوته العامة بدأت بعد ثلاث سنين ، بعد هلاك المستهزئين .
ومنها : تضخيم دار الأرقم ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يلتقي فيها بالمسلمين قبل السنة الثالثة ، وقد جعلوا أحداثاً وقعت بعد السنة الثالثة في دار الأرقم ، ومنها سورة عبس التي ربطوها بابن أم مكتوم مع أنها نزلت قبل إسلامه !
ومنها أن عمر جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في دار الأرقم وأعز الله به الإسلام بعد ذلته ، وتكاملوا أربعين رجلاً فخرجوا يتحدون قريشاً ، فخافت قريش وسكتت !
ومنها : خطأ ما رواه بخاري : 4 / 242 من حماية العاص بن وائل لعمرعندما أسلم لأن العاص أحد المستهزئين الستة الذين هلكوا في السنة الثالثة ، وعمر أسلم في السنة السادسة بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة ، كما نص عليه ابن هشام : 1 / 229 وغيره ، قال : « كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الحبشة » . وكان هلاك المستهزئين ومنهم العاص بن وائل ، قبل ذلك بسنوات !
ومنها : أن من المتفق عليه أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، كان أحد المستهزئين وهلك في السنة الثالثة ، لكنهم رووا أنه بكى على أولاده الذين قتلوا في بدر ! قال ابن هشام : 2 / 474 : « وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده : زمعة بن الأسود ، وعقيل بن الأسود ، والحارث بن زمعة وكان يحب أن يبكى على بنيه . . . الخ . » . والطبري : 2 / 161 ، ابن كثير : 2 / 480 . راجع : الصحيح : 3 / 171 .
ومنها : تخليطهم أو كذبهم في سبب نزول السور والآيات ، فتراهم يذكرون اسم أحد المستهزئين الخمسة في سورة نزلت بعد سورة الحجرمع أنه هلك عند نزولها ! بل ذكروا بعضهم في معركة بدر وبعدها !
لذلك وجب أن نرد روايات أسباب النزول إلا قليلاً منها كآية : واصْدَعْ بمَا تُؤمر المتقدمة . . فقد أجمعوا على أنها نزلت في السنة الثالثة ، وأن سورة صاد نزلت بعد أن صدع ( صلى الله عليه وآله ) بدعوته ، وجاء زعماء قريش إلى أبي طالب « رحمه الله » فدعاهم إلى الإسلام !
ففي الكافي : 2 / 649 بسند صحيح عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « أقبل أبو جهل بن هشام
--------------------------- 213 ---------------------------
ومعه قوم من قريش ، فدخلوا على أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا ، فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن إلهه ، قال فبعث أبو طالب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدعاه ، فلما دخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم ير في البيت إلا مشركاً فقال : السلام على من اتبع الهدى ، ثم جلس ، فخبَّره أبو طالب بما جاؤوا له ، فقال : أوَهَل لهم في كلمة خير لهم من هذا ، يسودون بها العرب ويطؤون أعناقهم ؟ فقال أبو جهل : نعم ، وما هذه الكلمة ؟ فقال : تقولون لا إله إلا الله . قال : فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هُرَّاباً ، وهم يقولون : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ! فأنزل الله تعالى في قولهم : صاد . وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ . . » .
فالذي جاء إلى أبي طالب هو أبو جهل الذي ورث زعامة بني مخزوم بعد هلاك الوليد بن المغيرة ، وبعد مجيئه نزلت سورة صاد جواباً على كلامه ، فلا تصح الروايات التي تذكر أن الوليد كان حياً عند نزولها .
ومنها : خلطهم في الروايات التي تذكر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يذهب إلى أفنية قريش ويدعوهم إلى الإسلام قبل هلاك المستهزئين ، كالذي رواه الحاكم : 3 / 577 وأبو يعلى : 12 / 176 ومجمع الزوائد : 6 / 14 وصححه : « جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به ، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل . . . فقال له أبو طالب : يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم ، فإن رأيت أن تكف عنهم ؟ فحلق ببصره إلى السماء فقال : والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار . فقال أبو طالب : والله ما كذب ابن أخي قط ، إرجعوا راشدين » .
فالحديث مسوق لتعذير قريش في شكايتها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والوقت المزعوم لهذا الحديث قبل انتهاء الثلاث سنوات ، وهذا لا يصح ، لأنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يذهب إلى نواديهم قبل ذلك أبداً ، بل نشك في ذهابه إليهم بعدها ، لأنه كان يدعو إلى ربه في
--------------------------- 214 ---------------------------
المسجد وحوله ، وكان يقصد القبائل في موسم الحج ، ويطلب منهم النصرة .
وأخيراً ، فإن سبب جعلهم بعض هؤلاء الخمسة أحياء بعد هلاكهم أن أولادهم وأقاربهم صاروا حكاماً وشركاء في دولة « الخلافة » كعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وزمعة بن الأسود من أسد عبد العزى ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأقارب الحارث بن طلاطلة الخزاعي ، فأراد الرواة إظهار مكانة آبائهم حتى في كفرهم ، فكذبوا ، ولا حافظة لكذوب !

6 . تخبط الكتَّاب المعاصرين في مراحل الدعوة تبعاً لرواة السلطة

اشتهر عند الكتَّاب المعاصرين تقسيم مراحل دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة إلى المرحلة السرية ، ثم مرحلة دار أبي الأرقم ، ثم مراحل الاضطهاد والهجرة إلى الحبشة والمدينة . فقلدوا الحكومات التي غيبت مراحل هامة من السيرة لتحذف أدوار بني هاشم والعترة النبوية « عليهم السلام » ! غيبوا المرحلة الأولى حيث بعثه الله تعالى إلى بني هاشم خاصة ، مع أنهم أنفسهم رووا قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة » . تفسير ابن كثير : 3 / 363 وتفسير مقاتل : 2 / 466 .
وروينا : « مكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاثة عشر سنة ، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لا يظهر حتى أمره الله أن يصدع بما أمر به ، فأظهر حينئذ الدعوة » . غيبة الطوسي / 333 .
كما أهمل كتَّاب السيرة مرحلة ما قبل محاصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم في شعب أبي طالب وما بعدها ، وكان الحصار في السنة الخامسة ، واستمر بضع سنوات !
كما أهملوا مرحلتين تقدمتا في حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) من مصادرهم : « صَلَّتْ الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبع سنين ، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله » .
وقول علي ( عليه السلام ) : « صليت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل الناس ثلاث سنين ، وسبع سنين » .
وكذا مرحلة ما قبل الإسراء والمعراج في السنة الثانية للبعثة ، وما بعدها .
ومرحلة ما قبل وفاة أبي طالب « رحمه الله » وما بعدها ، حيث فقد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ناصره وحاميه
--------------------------- 215 ---------------------------
القوي ، اضطر أن يذهب إلى الطائف ليطلب من ثقيف حمايته من قريش ، ثم كان أحياناً يختبئ مع علي ( عليه السلام ) من قريش في الحجون .
ومرحلة ما قبل بيعة الأنصار سراً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في موسم الحج ، وما بعدها . . .
وكذا مرحلة الثلاث سنين التي زعموا أن الله بعث فيها إسرافيل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعلمه ويوجهه ، ولم ينزل عليه قرآناً حتى أنزله مع جبرئيل ( عليه السلام ) .
أهملوا كل ذلك وغيبوه ، وركزوا على مرحلة السرية بمفهوم خاطئ ، ومرحلة دار أبي الأرقم بتضخيم خيالي ! كما كذبوا في انتعاش النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإسلام أبي بكر وإنفاقه عليه عند فقره ! وقوة الإسلام بعمر وإعزازه بعد ذلته ! مع أن راوياً واحداً لم يرو أن أبا بكر أوصل صاع طحين إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سنوات الحصار يوم وصل بهم الأمر إلى أن أكلوا ورق الشجر من الجوع ، ومص أطفالهم الرمل من العطش ! ولا رووا أين كان عمر عند تهديد قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) واستنفارها بعد أبي طالب لقتله ، حتى اضطر لطلب حماية ثقيف ، واضطر لأن يختبئ في الحجون !
إن إهمالهم لهذه المراحل ، خاصة مرحلة دعوة الأقربين ، واختراعهم أدواراً افترضوها لزيد وعمرو . . يضع يدك على غرضهم من التحريف ، ويجعلك تشك فيما يروونه من أدوار مناقبية لمن صاروا حكاماً فيما بعد ، ويجعلك تدقق في النصوص لتكشف الأدوار التي غيبوها لعلي وحمزة وجعفر وغيرهم من بني هاشم ، ومعهم كبار الصحابة السابقون الأولون : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وأبو سلمة ، وخالد بن سعيد ، وخباب ، ومصعب ، وسلمان ، رضوان الله عليهم !

  • *
    --------------------------- 216 ---------------------------

الفصل الثالث عشر

دعوة النبي « صلى الله عليه وآله » عشيرته واستنفار قريش ضدهم

1 . بعد بعثته أمره الله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ

بعد بعثت مباشرة أمره الله بدعوة بني هاشم ، وأنزل عليه من سورة الشعراء : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ . . . وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ . وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ أَلشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ أَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ . فَلاتَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ . وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَأَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِئٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ .
فجمعهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكانوا أربعين رجلاً ، ودعاهم إلى الإسلام واختار منهم وزيره ووصيه وخليفته ، كما أمره ربه . وفي هذه المدة دوَّى خبر البعثة في أندية قريش حتى جاءهم خبر اجتماع بني هاشم وأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) طلب منهم وزيراً يبايعه على نصرته ، فاستجاب له ابن عمه علي فاتخذه وزيراً ووصياً وخليفة ! فرأوا ذلك نبأً عظيماً يؤكد أن نبوة بني هاشم مشروع هاشمي لحكم العرب ، فقرروا بالإجماع العمل لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وقد عبَّر صاحب الصحيح : 3 / 59 بتعبير يوهم أن دعوة العشيرة الأقربين كان في المرحلة العلنية ، قال : « بعد السنوات الثلاث الأولى بدأت مرحلة جديدة وخطيرة وصعبة هي مرحلة الدعوة العلنية إلى الله تعالى . وقد بدأت أولاً على نطاق ضيق نسبياً حيث نزل عليه
--------------------------- 217 ---------------------------
قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ » . انتهى .
لكن آية إنذار العشيرة نزلت في أول البعثة ، وأثارهم اختياره وصياً منهم ! وكفى بحديث إسلام أبي ذر دليلاً على خطورة السنوات الأولى على حياته ( صلى الله عليه وآله ) . أما آية المستهزئين فنزلت بعد ثلاث سنين .

2 . غَيَّبَتْ الحكومات حديث الدار

وقد روته المصادر الأصلية ، وصححه علماء الجرح والتعديل ، وألفوا فيه كتباً وفصولاً ، وعرف باسم حديث الدار ، وحديث الوصية ، لكن أتباع الحكومات أفتوا بأنه : يجب إنكاره ، ومنعه من التداول تحت طائلة العقوبة القصوى !
قال المفيد « رحمه الله » في الإرشاد : 1 / 49 : « أجمع على صحته نُقاد الآثار ، حين جمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً يومئذ ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة ، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُد من البُر ، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن ، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذعة « الذبيحة » في مقام واحد ، وشرب الفرق « السطل » من الشراب في ذلك المقام .
وأراد ( صلى الله عليه وآله ) بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهارالآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه . ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملَّوا منه ، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه فبهرهم بذلك ، وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه .
ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب : يا بني عبد المطلب ، إن الله بعثني إلى الخلق كافة ، وبعثني إليكم خاصة ، فقال عز وجل : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار ، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي
--------------------------- 218 ---------------------------
من بعدي . فلم يجب أحد منهم ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأرمصهم عيناً ، فقلت : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : أجلس ، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا ، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى ، فقال : أجلس . ثم أعاد على القوم مقالته ثالثةً فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر ، فقال : أجلس ، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يا أبا طالب ، ليهنك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميراً عليك !
وهذه منقبة جليلة اختص بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين ولا الأنصار ، ولا أحد من أهل الإسلام ، وليس لغيره عِدْلٌ لها من الفضل ولامقارب على حال » .
وفي رواية روضة الواعظين / 52 : « قال لهم : إني بعثت إلى الأسود والأبيض والأحمر ، وإن الله عز وجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وإني لا أملك لكم من الله حظاً إلا أن تقولوا : لا إله إلا الله . فقال أبو لهب لعنه الله : لهذا دعوتنا ؟ !
ثم تفرقوا عنه ، فأنزل الله تعالى : تبَّتْ يَدَا أبي لهبَ وتَبْ . . الخ . ثم دعاهم دفعة ثانية فأطعمهم وسقاهم كالدفعة الأولى ، ثم قال لهم : يا بني عبد المطلب : أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها ، وما بعث الله نبياً إلا جعل له وصياً وأخاً ووزيراً فأيكم يكون أخي ووزيري ووصي ووارثي وقاضي ديني ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو أصغر القوم سناً : أنا يا رسول الله ، فلذلك كان وصيه .
ورويَ أنه جمعهم خمسة وأربعون رجلاً منهم أبو لهب ، فظن أبو لهب أنه يريد أن ينزع عما دعاهم إليه فقام إليه ، فقال له : يا محمد ، هؤلاء عمومتك وبنوعمك قد اجتمعوا فتكلم واعلم أن قومك ليست لهم بالعرب طاقة ، فقام ( صلى الله عليه وآله ) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الرائد لا يكذب أهله . والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم حقاً خاصة والى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن كما تعلمون ، ولتجزون بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءً ، وإنها الجنة أبداً
--------------------------- 219 ---------------------------
والنار أبداً . إنكم أول من أُنذرتم » .
فقد طلب منهم أن يؤمنوا به ، وأن يبايعه رجل على نصرته ويتفرغ معه للدعوة ، فيتخذه وزيراً وأخاً ووصياً وخليفةً . وكان أبو طالب وحمزة يومها مسلمين لكنهما سكتا لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرهما أن يكتما إيمانهما ، فلو أعلنا لأعلنت قريش الحرب عليهم .
أما جعفر فكان مسلماً ، ولعله سكت ليجيب علي ( عليه السلام ) لأنه يعلم ميل النبي ( صلى الله عليه وآله ) اليه ، فلما أعلن عليٌّ قبوله أعلنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزيراً وخليفة ، فأخبربذلك أنه
يعيش بعده !
لكن المخالفين للنبي في أهل بيته ، لا يحبون رؤية وجه الحديث ولا سماع صوته !
لأنه نصٌّ على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) اتخذ علياً ( عليه السلام ) بأمر ربه وصياً وخليفة ! وهو ينقض ما بنوا عليه أمرهم بعد وفاته من أنه لم يوص إلى أحد وتَرَكَ الأمر لهم !
لذا منعوا رواية هذا حديث الدار أو حرفوه ، كالطبري حيث رواه في تاريخه : 2 / 217 بنص المفيد المتقدم ، ثم كتمه في تفسيره : 19 / 148 فقال : « فأيكم يؤازرني على هذا الأمرعلى أن يكون أخي وكذا وكذا ! قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً ، وأخمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك . فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع » !
وتبعه ابن كثير في تفسيره : 3 / 364 والنهاية : 3 / 53 فلم ينقل من تاريخ الطبري كما هي عادته ، واختار تفسيره لأن الحديث فيه محرف !
أما ابن تيمية فقال في منهاج السنة / 299 : « فإن هذا الحديث ليس في شئ من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل : لا في الصحاح ولا في المسانيد . والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به ، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف ، مثل تفسيرالثعلبي والواحدي والبغوي ، بل وابن جرير وابن أبي حاتم ، لم يكن مجرد رواية واحد
--------------------------- 220 ---------------------------
من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم ، فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف ، فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف . وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والسمين ، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة » .
لكن ابن تيمية معروف بأنه ينفي الواضحات ويرد الأحاديث الصحيحة ، ويكفي في هذا الحديث أنه رواه عدد وفير من أئمة الحديث مثل : ابن إسحاق ، والنسائي ، والبزار ، وسعيد بن منصور ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في المستدرك ، وابن حنبل ، وابن مردويه ، وأبي حاتم ، والطحاوي ، وأبي نعيم ، والبغوي ، والمقدسي ، وابن عساكر ، والبيهقي في الدلائل . . الخ .
وقد أشكل بعضهم بوجود الراوي أبي مريم الأنصاري فيه ، وهوعن عبد الغفار بن القاسم ، وهو شيخ شعبة بن الحجاج الذي يلقبونه بأمير المؤمنين في الحديث وكان يوثقه ويمدحه .
وأشكل بعضهم بربيعة بن ناجذ الأزدي في طريق له ، لكن وثقه الألباني في صحيحته : 4 / 582 . راجع تناقضات الألباني : 2 / 212 وحديث الدار للميلاني والصحيح : 3 / 158 .
وأما محمد حسنين هيكل فأورده سليماً في كتابه : حياة محمد ، في الطبعة الأولى في صفحة 104 ، ثم حرفه في الطبعة الثانية صفحة 139 ، لقاء شراء الوهابية ألف نسخة من كتابه بخمس مائة جنيه ! راجع : فلسفة التوحيد والولاية / 179 للشيخ مغنية .

3 . خلافة علي ( ( ع ) ) كانت محسومة من أول البعثة

وقد اتضح ذلك من آية : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، ومن حديث الدار .
وكانت محسومة من يوم كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرض نفسه على قبائل العرب ، ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه ، فيطلبون منه أن تكون لهم خلافته ، فيجيبهم إن الأمر لله وقد اختار له أهلاً ، وعليهم أن لا ينازعوا الأمر أهله !
قال ابن هشام : 2 / 289 : « أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل ،
--------------------------- 221 ---------------------------
وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء . قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه » .
وكانت الخلافة محسومة بعشرات الأحاديث النبوية ، التي صرح فيها بمكانة علي ( عليه السلام ) وأوصى به الأمة بعده .
وكانت محسومة برفعه بيده في حجة الوداع وقوله : من كنت مولاه فعلي مولاه !
وكانت محسومة بأعماله وأقواله العديدة ، في مرض وفاته . لكن قريشاً لا تريد أن تَقنع ، ثم أتباعها الذين عاندوا مثلها ، أو أحسنوا فيها الظن .

4 . النبأ العظيم وصية محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لابن عمه

اتفق الرواة على أن سورة النبأ نزلت في الثلاث سنوات الأولى ، ويؤيد ذلك أنها لاتتضمن إلّا عن التساؤل عن النبأ العظيم الذي حيرهم ! قال تعالى : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . كَلا سَيَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ . أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا . وَالجِبَالَ أَوْتَادًا . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً . وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا . . الخ . « النبأ : 1 - 9 » فقد كانت البعثة عند نزولها في أولها ، وكان زعماء قريش يتساءلون عن النبأ العظيم ، وهو عندهم أن بني هاشم انشقوا على قريش ، وادعى ابنهم النبوة واختار ابن عمه خليفةً له ، ولم يحسب لهم حساباً ، وكأن غير بني هاشم لا وجود لهم !
فزعماء بطون قريش لا يهمهم مضمون دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولامعجزاته ، لأنهم لا يفهمون من النبوة إلا أنها انشقاق بني هاشم على قريش !
كما أنهم حساسون فيمن يستخلفه للنبوة ، هل هو من بني هاشم أو من غيرهم ؟ وقد أرادوا التأكد ، فكلفوا أبا سفيان بأن يستطلع الأمر ، كما روى في المناقب 2 / 276 عن تفسيرالقطان ، بسند صحيح عندهم ، عن وكيع ، عن سفيان ،
--------------------------- 222 ---------------------------
عن السدي ، عن عبد خير ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ ؟ قال : يا صخر ، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى ! قال : فأنزل الله تعالى : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب بهما ! ثم قال : كَلَّا . وردَّ عليهم : سَيَعْلَمُون : خلافته بعدك أنها حق . ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُون : يقول : يعرفون ولايته وخلافته إذ يُسألون عنها في قبورهم فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا ومنكر ونكير يسألانه عن الولاية لأمير المؤمنين بعد الموت يقولان للميت : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك ، ومن إمامك ؟ » !
وفي الكافي : 1 / 207 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال له الثمالي : « جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ . قال فقال : هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، كان أمير المؤمنين يقول : ما لله عز وجل آيةٌ هي أكبر مني ، ولا لله من نبأٌ أعظم مني » .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 9 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : يا علي أنت حجة الله ، وأنت باب الله ، وأنت الطريق إلى الله ، وأنت النبأ العظيم ، وأنت الصراط المستقيم » .
وفي المناقب : 2 / 277 : « قال السوسي :
إذا نادت صوارمه سيوفاً * فليس لها سوى نعمٍ جواب
طعام سيوفه مهج الأعادي * وفيض دم الرقاب لها شراب
وبين سنانه والدرع صلحٌ * وبين البيض والبيض اصطحاب
هو النبأ العظيم وفلك نوح * وباب الله وانقطع الخطاب
وفي المزار للمفيد / 78 : « السلام عليك يا سيد الوصيين ، السلام عليك يا حجة الله على الخلق أجمعين ، السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعنه مسؤولون » . وفي عيون المعجزات / 136 : « من ألقابه ( عليه السلام ) : النبأ العظيم » .
وورد عن أهل البيت « عليهم السلام » أن معنى : كَلا سَيَعْلَمُونَ . أنهم سيعلمون عند ظهور الإمام المهدي ( عليه السلام ) ، ثم يعلمون يوم القيامة أن الإسلام حق بإمامة العترة « عليهم السلام » .
--------------------------- 223 ---------------------------
راجع : معجم أحاديث الإمام المهدي ( ( ع ) ) : 5 / 377 وتفسير القمي : 2 / 401 .
أقول : هذا هو التفسير الصحيح للنبأ العظيم ، وهذا الذي أرَّق القرشيين وتساءلوا عنه واختلفوا فيه ، وتداولوا الموقف منه . وليس النبأ العظيم الآخرة ، كما زعم بعضهم فإن لسان حال المشركين : فليقل محمد إنه يوجد خمسون آخرة ! ولا هو القرآن ، فلينزل عليه خمسون قرآناً ! ولا هو سب أصنامهم ، فإنما هي أحجار نصبوها ، وهم مستعدون أن يبيعوها بثمن جيد !
بل ليس النبأ العظيم النبوة بنفسها ، فهم مستعدون لأن « يقبلوا » النبوة على صعوبتها عليهم ، لكن بشرط أن يعطيهم القيادة بعده !
أما قيادة بني هاشم بعده ، فهي الكفر العظيم والنبأ العظيم !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « النَّبَأ العَظِيم : الولاية » . الكافي : 1 / 418 .
وقد فسرأتباع الخلافة النبأ العظيم بالقيامة أو القرآن ، بدون مستند إلا أقوال مفسري الدولة الأموية ! فقال مجاهد هو القيامة وروي عن قتادة ، وقال قتادة هو القرآن ، وروي عن ابن زيد ، والحسن البصري ! « عبد الرزاق : 3 / 342 والطبري : 30 / 4 » . فتراهم أبعدوا تساؤل قريش واختلافهم عن أحداث البعثة !
ونلاحظ أنهم رووا ربطها بالبعثة ، لكنهم أعرضوا عنها ! قال الطبري : 30 / 3 : « عن الحسن قال : لما بعث النبي جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ النَّبَإِ العَظِيمِ ، يعني الخبر العظيم » !
والعجيب أن بعض مفسرينا ترددوا بين التفسيرين ! قال في جوامع الجامع : 3 / 710 : « وهو نبأ يوم القيامة والبعث ، أو أمر الرسالة ولوازمها » .
ووافق بعضهم مفسري الحكومات ، ففي الميزان : 17 / 223 النبأ العظيم في سورة صاد بالقرآن ، قال : « وهو أوفق بسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن » ثم فسره في سورة النبأ : 20 / 163 بالقيامة وقال : « في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي ( عليه السلام )
وهو من البطن » .
وتبعه صاحب تفسير الأمثل : 14 / 555 و 19 / 317 وعقد عنواناً : « الولاية والنبأ
--------------------------- 224 ---------------------------
العظيم » ذكر فيه أن تفسير النبأ العظيم بالولاية من الباطن ، وأورد بعض رواياته وحاول أن يجمع بينه وبين تفسير النبأ العظيم بالمعاد !
وقد فاتهم أن الذي كان يؤرق زعماء قريش ويتساءلون عنه إنما هو نبأ بعثة النبي واتخاذه وصياً من بني هاشم ، فهذا هو الظاهر الأنسب بالسياق ، وليس من الباطن ! أما القرآن والقيامة وكل عقائد الإسلام ، فكانت أقل وقعاً عليهم من النبوة والوصاية ، فكيف تصير ظاهراً ، وتصير النبوة والإمامة بعدها باطناً .
بل كيف تكون أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » الصريحة المستفيضة تفسيراً بالباطن ؟ !

  • *
    --------------------------- 225 ---------------------------

الفصل الرابع عشر

أبو طالب « عليه السلام » يوحد بني هاشم لحماية النبي « صلى الله عليه وآله »

1 . أبو طالب يقف في وجه قريش بقوة

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي 1 / 449 » : « إن مَثَلَ أبي طالب مثلُ أصحاب الكهف ، أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين . قيل له : إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافراً ؟ فقال : كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب » !
أقول : تواترت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » بإسلام أبي طالب رضي الله عنه ، وشعره صريح بإسلامه ، وقد صنف العلماء في إيمانه رسائل وكتباً مفردة . وتقدم أنه كان يؤمن بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل بعثته وينتظر ذلك ، وعندما بعثه الله تعالى آمن به ، وواجه عاصفة قريش ضده ، فقد جاء زعماء قريش اليه يطلبون منه أن يتراجع محمد ( صلى الله عليه وآله ) عن نبوته ، أو يسلمه إليهم ليقتلوه !
فردهم أبو طالب وهددهم ، وأقنع بني هاشم بحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) من قريش ، مستفيداً من نفوذه وشجاعة بني هاشم ومجدهم ، وقد استخدم شاعريته في بعث حميتهم ، ولعل أول شعر قاله في ذلك :
« حتى متى نحن على فترةٍ * يا هاشماً والقومُ في جَحْفَلِ
تدعونَ بالخيل على رقبة * منَّا لدى خوفٍ وفي معزل
--------------------------- 226 ---------------------------
كالحرة السوداء تغلو بها * سرعانها في سبسبٍ مَجهل
عليهم الترك على رعلةٍ * مثل القطا الساري للمنهل
يا قوم ذودوا عن جماهيركم * بكل مفضال على مسبل
حديد خمس لهزٌ خده * مآرثُ الأفضل فالأفضل
عريض ستٍّ لهبٌ خصرُهُ * يصان بالتذليق في مجدل
فكم قد شهدت الحرب في فتية * عند الوغى في عَثْيَر القسطل
لا متنحينَ إذا جئتهم * وفي هياج الحرب كالأشبل
فلما استجاب لأبي طالب بنو هاشم وبنو المطلب ، وثق بأمره في نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجهر في مقاومة بطون قريش ، وقال :
منعنا الرسول رسول المليكْ * ببيض تلألا كلمع البروقْ
بضرب يذيب بدون النهاب * حذار الوتائر والخنفقيق
أذب وأحمي رسول المليك * حماية عم عليه شفيق
وما إن أدب لأعدائه * دبيب البكار حذار الفنيق
ولكن أزير لهم سامياً * كما زار ليث بغيل مضيق
ولما رأى من قومه ما سره من حدبهم معه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيهم ليشتد لهم رأيهم فيه ، فقال :
إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخر * فعبدمنافٍ سِرُّها وصَمِيمُها
وإن حصلت أشرافُ عبدمنافها * ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً * هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثُّها وسمينُها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامة * إذا ما ثنوا صَعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يومِ كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها
--------------------------- 227 ---------------------------
المناقب والمثالب للقاضي النعمان المغربي / 86 ، سيرة ابن إسحاق : 2 / 129 وغيره .
2 . وشذ أبو لهب فحاول أبو طالب تحريك شهامته فقال :
« عجبت لحلمٍ يا ابن شيبةحادثٍ * وأحلام أقوامٍ لديك سخافِ
يقولون شايعْ من أراد محمداً * بسوء وقم في أمره بخلاف
أصاميم إمَّا حاسدٌ ذو خيانة * وإمّا قريب منك غير مُصاف
فلا تتركن الدهر منه ذمامه * وأنت امرؤٌ من خير عبد مناف
ولا تتركنه ما حييت وأطعمن * وكن رجلاً ذا نجدة وعفاف
تذود العدى من ذروة هاشمية * ألا فهمُ في الناس خير إلاف
فإن له قربى لديك قريبة * وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم من صميمها * إلى أبحر فوق البحور طواف
وزاحم جميع الناس عنه وكن له * وزيراً على الأعداء غير مخاف
فإن غضبت منه قريش فقل لها * بني عمنا هل قومكم بضعاف
فما بالنا تعشون منا ظلامة * وما بال أرحام هناك جوافي
وما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا * ولا نحن فيما ساءهم بخفاف
ولكننا أهل الحفائظ والنهى * وعز ببطحاء الحطائم واف »
ابن إسحاق : 4 / 189 .
لكن أبا لهب ساء توفيقه فانضم إلى أعداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فذمه أبو طالب !
قال ابن إسحاق : 2 / 131 : « أقبل أبو طالب على أبي لهب حين ظافر عليه قومه ونصب العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع من نصب له ، وكان أبو لهب للخزاعية ، وكان أبو طالب وعبد الله أبو رسول الله والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، فغمزه أبو طالب بأم له يقال لها سماحيج ، وأغلظ له في القول :
مستعرضُ الأقوام يخبرْهم * عذري وما أن جئت من عذر
--------------------------- 228 ---------------------------
فاجعل فلانة وابنها عوضاً * لكرائم الأكفاء والصهر
واسمع نوادرمن حديث صادق * تهوين مثل جنادل الصخر
إنا بنو أم الزبير وفحلها * حملت بنا للطيب والطُّهر
حرَّمت منا صاحباً ومؤازراً * وأخاً على السراء والضر »
« ثم قال أبو طالب في شعر قاله حين أجمع لذلك من نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والدفاع عنه ، على ما كان من عداوة قومه وفراقهم له :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوَسَّدَ في التراب دفينا
فاجهد لأمرك ما عليك غضاضة * أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح * فلقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه * من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةَ أو حذاري سبةً * لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فلما قالت قريش لقد سفه أحلامنا وعاب ديننا وسب آباءنا ، فوالله لا نُقِرُّ بهذا أبداً ! وقام أبو طالب دون رسول الله وكان أحب الناس إليه ، فشمر في شأنه ونادى قومه قال قصيدة يعوِّر فيها منهم . ويقصد لاميته . ابن إسحاق : 2 / 136 .

أبو لهب يحاول اغتيال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

« قالت قريش لأبي لهب : إن أبا طالب هو الحائل بيننا وبين محمد ، ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ، وأنت برئ من دمه ونحن نؤدي الدية وتسود قومك ، قال : فإني أكفيكموه ، فنزل أبو لهب إليه وتسلقت امرأته الحائط حتى وقفت على رسول الله فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه وكانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شئ حتى انفجر الصبح وفرغ النبي من الصلاة ! فقال أبو لهب : يا محمد أطلقنا ، قال : لا أطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني ، قالا : قد فعلنا ، فدعا ربه فرجعا » . المناقب لابن شهرآشوب : 1 / 115 .
--------------------------- 229 ---------------------------

هلك أبو لهب بعد هزيمة قريش في بدر

قال أبو رافع : « أقبل أبو لهب بعد بدر يجر رجليه ، فقال الناس هذا أبو سفيان بن حرب قد قدم ، فاجتمع عليه الناس فقال له أبو لهب : هلم إلي يا ابن أخي فعندك لعمري الخبر ، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له : يا ابن أخي خبرني خبر الناس قال : نعم والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يضعون السلاح فينا حيث شاؤوا ! ووالله مع ذلك ما لمت الناس لقيَنا رجالٌ بيضٌ على خيل بلق لا والله ما تليق شيئاً يقول ما تبقي شيئاً . .
فوالله ما مكث إلا سبعاً حتى مات ، ولقد تركه إبناه في بيته ثلاثاً ما كيد فناؤه حتى أنتن ، وكانت قريش تتقي هذه القرحة يعني العدسة كما تتقي الطاعون ، حتى قال لهما رجل من قريش : ويحكما ألا تستحيان إن أباكما في بيته قد أنتن لا تدفنانه ! فقالا : إنا نخشى عدوى هذه القرحة ! فقال انطلقا فأنا أعينكما عليه ، فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه ، ثم إنهم احتملوه إلى أعلى مكة فأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة » ! تاريخ دمشق : 67 / 171 .

3 - عرضوا على أبي طالب أن يأخذ شاباً بدل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

قال ابن إسحاق : 2 / 133 : « ثم إن قريشاً حين عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعدواتهم ، مشوا اليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغنا : يا أبا طالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد ، جمالاً وشباباً ونهادة ، فهو لك نصره وعقله ، فاتخذه ولداً لا تنازع فيه ، وخل بيننا وبين ابن أخيك ، هذا الذي فارق دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومه وسفه أحلامهم ، فإنما رجل كرجل ، لنقتله ، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مغبة . فقال لهم أبو طالب : والله ما أنصفتموني ! تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه ! هذا والله لا يكون أبداً ، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره !
--------------------------- 230 ---------------------------
فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف : لقد أنصفك قومك يا أبا طالب ، وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم ! فقال أبو طالب للمطعم بن عدي : والله ما أنصفتموني ، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ ، فاصنع ما بدا لك ، أو كما قال أبو طالب !
فحقب الأمر عند ذلك وجمعت للحرب ، وتنادى القوم ونادى بعضهم بعضاً فقال أبو طالب عند ذلك ، وإنه يعرض بالمطعم ويعم من خذله من بني عبد مناف ، ومن عاداه من قبائل قريش ، ويذكر ما سألوه فيما طلبوا منه :
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظي من حياطتكم بكر
من الخور حبحابٌ كثير رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر
تخلف خلف الورد ليس بلاحقٍ * إذا ما على الفيفاء تحسبه وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
يلي لهما أمر ولكن تجرجما * كما جرجمت من رأس ذي العلق الصخر
هما أغمزا للقوم في أخويهما * وقد أصبحا منهم أكفهما صفر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً * هما نبذانا مثلما نبذ الجمر
فأقسمت لا ينفك منهم مجاور * يجاورنا ما دام من نسلنا شفر
هما اشتركا في المجد من لا أخاله * من الناس إلا أن يرس له ذكر
وليداً أبوه كان عبداً لجدنا * إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيمٌ ومخزومٌ وزهرةُ منهمُ * وكانوا لنا مولى إذا ابتغيَ النصر
فقد سفهت أحلامهم وعقولهم * وكانوا كجفر شرما جهلت جفر » .
ورواها ابن هشام : 1 / 173 وقال : « تركنا منها بيتين أقذع فيهما » . والمناقب والمثالب للقاضي المغربي / 87 . وذكر في الغدير : 7 / 361 الأبيات الثلاثة التي حذفها ابن هشام :
وما ذاك إلا سؤدد خصنا به
إلهُ العباد واصطفانا له الفخر
رجال تمالوا حاسدين وبغضةً
لأهل العلى فبينهم أبداً وتر
وليد أبوه كان عبداً لجدنا
إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
--------------------------- 231 ---------------------------
يقصد أن الوليد بن المغيرة كان عبداً لهاشم ، وأمه رومية وأبوه ليس المغيرة ! وقد صدقه القرآن فقال عن الوليد : وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ .
وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت في الوليد ، ففي تفسير الجلالين / 758 ، وابن إسحاق : 2 / 140 : « دعيٌّ في قريش وهو الوليد بن المغيرة ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة » . وفي رواية أنه أكبر من أبيه بثمانية عشرة سنة .
وفي المناقب : 1 / 52 : روى ابن بابويه في كتاب النبوة عن زين العابدين ( عليه السلام ) : « أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنده فقالوا : نسألك من ابن أخيك النَّصَف ، قال : وما النصف منه ؟ قالوا : يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه ، ولا يقاتلنا ولا نقاتله . ألا إن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء ! فقال : يا ابن أخي ، أسمعت ؟ قال : يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي ! إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم ، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان ، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .
فقالوا : قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء . فنزل « فيما بعد » : قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ . فقالوا : قل له أرسله الله إلينا خاصة أم إلى الناس كافة ؟ قال : بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود ، ومن على رؤس الجبال ، ومن في لجج البحار ولأدعون فارس والروم : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا . فتجبرت قريش واستكبرت وقالت : والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ، ولقلعت الكعبة حجراً حجراً ! فنزل « فيما بعد » وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَئْ . وقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيل » .
--------------------------- 232 ---------------------------

4 . من هو عمارة الذي أرادوا أن يعطوه بدل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟

هو عمارة بن الوليد بن المغيرة ، فأبوه الوليد رئيس المستهزئين بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ورئيس قبيلة مخزوم ، والوحيد الذي وصفه الله تعالى في القرآن بالزنيم !
فقد بلغ من كيده أنه أخذ ابنه عمارة إلى أبي طالب ليعطيه إياه بدل محمد ، ويعطيهم محمداً ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلونه ! وكان عمارة يومها متزوجاً وله أولاد !
وتصور ابن عبد البر أنه ابن الوليد بن الوليد فيكون ابن أخ خالد « الإستيعاب : 4 / 1557 » لكنه ابن الوليد الأب ، وأخ خالد ، كما نص عليه في شرح النهج : 6 / 304 . وكان عمارة جميلاً فاتكاً ماجناً ، وذكر ابن حبيب في المنمق / 130 ، أن عمر بن الخطاب كان يخدمه في سفره فأراد أن يقتله فهرب عمر منه . وكان عمارة يشبه عمرو بن العاص في دهائه ومجونه ، وقد أرسلتهما قريش إلى النجاشي يطلبان منه إرجاع المسلمين المهاجرين إليهم !
قال ابن أبي شيبة : 8 / 465 : « وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً ، وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً » . وذكر قصتهما لما سافرا في البحر فشربا خمراً ، وأراد عمارة زوجة عمرو وألقاه في البحر ليغرقه ، فنجا عمرو وعاد إلى السفينة ، وأخذ يخطط لقتل عمارة ، فأرسل إلى أبيه العاص : « أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم ، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته ، فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل ، مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال : إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم ، وكلاهما فاتك صاحب شر ، غير مأمونين على أنفسهما ، ولا أدري ما يكون منهما ، وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته ، فقد خلعته .
فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم : وأنت تخاف عمراً على عمارة ! ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين ، قال قد فعلت ! فخلعوهما وبرئ كل قوم من صاحبهم وما يجرى منه » . شرح النهج : 6 / 304 .
ثم أوقع ابن العاص بعمارة عند النجاشي ، وأثبت للنجاشي أنه يخونه في جاريته فعاقبوه وقيل سحروه ، فهام على وجهه مع الوحوش حتى مات !
قال العلامة في تحرير الأحكام : 5 / 397 : « والسحر الذي يجب به القتل هو ما يعدُّ في
--------------------------- 233 ---------------------------
العرف سحراً ، كما نقل الأموي في مغازيه أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في إحليل عمارة بن الوليد ، فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى إمارة عمر بن الخطاب فأمسكه إنسان فقال : خَلِّنِي وإلا مِتُّ ! فلم يُخله فمات من ساعته » !
والأموي : المؤرخ صاحب الأوزاعي الوليد بن مسلم مولى الأمويين توفي سنة 195 ، له مصنفات في الحديث والتاريخ والمغازي . الديباج : 1 / 34
وهدية العارفين : 2 / 500 .

5 - سورة المدثر تَفضح رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة !

أبرز من تصدى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) من قريش خمسة فراعنة سماهم الله تعالى « المستهزئين » رئيسهم وعقلهم الوليد بن المغيرة المخزومي ، كان يجمعهم ويضع لهم الخطط ، وقد ناقشواالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فأقام لهم الأدلة على نبوته وأراهم المعجزات التي طلبوها ، فلم يزدهم ذلك إلا كفراً وعتواً ! وكثرمجيؤهم إلى أبي طالب ليسلمهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ! فرفض كلامهم بشدة ، وحشَد بني هاشم لحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وتوالى نزول القرآن فاعتبروه تحدياً لهم وسبّاً لآلهتهم . ولما قرب موسم الحج للسنة الثانية من البعثة قام الوليد بتوحيد موقفهم أمام العرب الوافدين !
« ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً . قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول فيه . قال : بل أنتم فقولوا ، أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا : فنقول مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تَخَالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر .
--------------------------- 234 ---------------------------
قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، قد رأينا السُّحَّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لَعَذِقٌ وإن فرعه لجُناه ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته .
فلما أقبلت العرب خرجوا يجلسون على طرقها يحذرون منه كل من قدم ويقولون : حدث عندنا ساحر ، فإياكم أن يهلككم بسحره ! وأنزل الله عز وجل في ذلك في الوليد بن المغيرة : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لاتُبْقي وَلاتَذَرُ . لَوَاحَةٌ لِلْبَشَرِ . عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ . « المدثر 11 - 30 » . فلم يزالوا يقولون ذلك لكل من جاء من ناحية من نواحي بلاد العرب ، حتى صدروا عن الحج وأغروهم به واستنصروهم عليه ، فوعدهم كثير منهم النصرة ، وانتشر ذلك من أمرهم في العرب . وخاف أبو طالب دهماءها واجتماعها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للحمية في دينها ، وتحريض قريش عليه واستنفارهم إليه ، وأشفق من ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إشفاقاً شديداً ، فلم يرَ في دفع ذلك عنه إلا إصلاح جانب العرب له .
وكان إظهار أبي طالب ما يظهره من التمسك بدين العرب تقيّة عليه وذباً عنه ، لأنه لو أظهر الإسلام كما أظهره حمزة لرفضته العرب ولم تلتفت إليه . . . وكان أبو طالب سيداً من سادات العرب ، تعرف له حقه ولا تكاد تدخل فيما يسوءه ، ولا تظاهره إلاّ بالمعروف وهو على دينها ، فقال شعره الذي استعطف العرب به وتودد إلى أشرافها فيه ، ليصرفهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبرهم أنه على دينهم لم يبدّله » . المناقب والمثالب / 92 ، لأبي حنيفة النعمان المغربي المتوفى : 363 ، الاكتفاء : 1 / 218 ، للكلاعي الأندلسي المتوفى : 634 . وابن إسحاق : 2 / 131 وكلها تصرح بأن أبا طالب كان مسلماً .
--------------------------- 235 ---------------------------

6 - أبو طالب يطلق لاميته في بلاد العرب

قال ابن كثير في النهاية : 3 / 70 : « قال ابن إسحاق : ولما خشي أبو طالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله ، ولا تاركه لشئ أبداً ، حتى يهلك دونه » .
ثم أورد ابن كثير القصيدة برواية ابن هشام ، ورد على تشكيك بعضهم في نسبة بعض أبياتها إلى أبي طالب ، قال : « قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها . قلتُ : هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً ، لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلقات السبع ، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً ، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر » .
أقول : يظهر أن أبا طالب « رحمه الله » أطلق لاميته في السنة الثانية للهجرة قبل موسم الحج رداً على إعلام قريش الكاذب وتحريضهم العرب على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد جعل بعض كتَّاب السيرة وقتها بعد محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب ، أو عندما عرضت قريش عليه شاباً بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يصح ذلك .
قال ابن حجر في فتح الباري : 3 / 442 : « وأبيض يستسقى الغمام بوجهه . . . وهذا البيت من قصيدة لأبي طالب ، ذكرها ابن إسحاق بطولها ، وهي أكثر من ثمانين بيتاً ، قالها لما تمالأت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونفَّروا عنه من يريد الإسلام » .
وقال العصامي في سمط النجوم / 231 : « قلت : لم أظفر من هذه القصيدة إلا بنحو السبعة والثمانية الأبيات في غالب كتب السير ، ولم أزل أطلبها حتى ظفرت بغالبها من تاريخ العلامة الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المسمى دول الإسلام ، فنقلتها منه ولله الحمد » .
وقوله عجيب ، لأن الذهبي أورد منها في تاريخه : 1 / 162 تسعة عشر بيتاً فقط ! فلا بد أنهم حذفوا بقيتها من نسخته المطبوعة !
وقال ابن أبي الحديد : 2 / 315 بعد أن أورد جملة من شعر أبي طالب : « فكل هذه
--------------------------- 236 ---------------------------
الأشعار قد جاءت مجئ التواتر ، لأنه إن لم يكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك ، وهو تصديق محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ومجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي ( عليه السلام ) الفرسان منقولة آحاداً ، ومجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته ، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم وحلم الأحنف . قالوا : واتركوا هذا كله جانباً : ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قِفَا نَبْكِ . فإن جاز الشك فيها أو في شئ من أبياتها ، جاز الشك في : قفا نبك » .
وقال الأميني في الغدير : 7 / 340 : « هذه القصيدة ذكر منها ابن هشام في سيرته : 1 / 286 أربعة وتسعين بيتاً وقال : هذا ما صح لي من هذه القصيدة . وذكر ابن كثير اثنين وتسعين بيتاً في تاريخه : 3 / 53 وفي رواية ابن هشام ثلاثة أبيات لم توجد في تاريخ ابن كثير . وأضاف الأميني : وذكرها أبو هفان العبدي في ديوان أبي طالب ، في مائة وأحد عشر بيتاً ، ولعلها تمام القصيدة » .
وفي إرشاد الساري : 2 / 227 : « قصيدة جليلة بليغة من بحر الطويل ، وعدة أبياتها مائة وعشرة أبيات ، قالها لما تمالأ قريش على النبي ونفروا عنه من يريد الإسلام » .
وفي عمدة القاري : 3 / 434 : « قصيدة طنانة ، وهي مائة بيت وعشرة أبيات أولها :
خليلي ما أُذْني لأول عاذلِ بصغواءَ في حق ولا عند باطل
وذكر منها البغدادي في خزانة الأدب : 1 / 252 اثنين وأربعين بيتاً مع شرحها . . . وذكر الآلوسي بعضها في بلوغ الإرب في أحوال العرب : 1 / 237 وذكر كلمة ابن كثير المتقدمة ، وقال : هي مذكورة مع شرحها في كتاب : لب لباب لسان العرب .
وذكر منها السيد زيني دحلان أبياتاً في السيرة النبوية « هامش الحلبية : 1 / 88 » وقال : قال الإمام عبد الواحد السفاقسي في شرح البخاري : إن في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنه كان يعرف نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا الراهب وغيره من شأنه ، مع ما شاهده من أحواله ، ومنها الاستسقاء به في صغره ومعرفة أبي طالب بنبوته ( صلى الله عليه وآله ) جاءت في كثير من الأخبار ، زيادة على أخذها من شعره .
قال الأميني : أنا لا أدري كيف تكون الشهادة والاعتراف بالنبوة ، إن لم يكن منها
--------------------------- 237 ---------------------------
هذه الأساليب المتنوعة المذكورة في هذه الأشعار ! ولو وجد واحد منها في شعر أي أحد أو نثره ، لأصفق الكل على إسلامه ، لكن جميعها لا يدل على إسلام أبي طالب ! فاعجب واعتبر » . انتهى .
وقال العسكري في كتابه : أبو طالب حامي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) / 108 : « وخرجها أبو هفان العبدي توفي : 257 فيما جمعه من شعر أبي طالب ، وهو معروف بديوان أبي طالب ( عليه السلام ) من / 2 إلى / 12 ، طبع النجف الأشرف في مائة واحد عشر بيتاً ، وخرجناها في كتابنا : الشهاب الثاقب لرجم مكفر أبي طالب ( عليه السلام ) ، نقلاً من كتب عديدة وفيها زيادة على جميع من ذكر القصيدة ، وما ذكرناه مائة وستة عشرة بيتاً » .
وقال صاحب الصحيح من السيرة : 15 / 52 : « وما دام أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحب لهذه القصيدة أن تذكر في محافل أهل الإيمان ، فإنني أحب أن أثبتها هنا ليرغم بها أنف الشانئ والناصب ، ولتقر بها عين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعين أبي طالب ، وعين ابنه أسد الله الغالب ، وعين من هو لشفاعته طالب » . وأوردها بمئة وثمانية عشر بيتاً .
ونحن نوردها برواية ابن هشام : 1 / 176 : لأنها الرواية الرسمية ، ونثبت أهم ما لم يورده من نسخة الصحيح بين معقوفين .
قال : « فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسَلِّمٍ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا تاركه لشئ أبداً ، حتى يهلك دونه ، فقال :
[ خليليَّ ما أُذني لأول عاذلِ * بصغواء في حقٍ ولا عند باطلِ ]
[ خليليَّ إن الرأيَ ليس بشركة * ولا نهنهٍ عند الأمور التلاتل ]
وَلَمّا رَأَيْت القَوْمَ لا وُدّ فِيهِمْ * وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ العُرَى وَالوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالعَدَاوَةِ وَالأَذَى * وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ العَدُوّ المُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً * يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ
--------------------------- 238 ---------------------------
صَبَرْت لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ * وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْت عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي * وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابِهِ بِالوَصَائِل
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ * لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ * بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا * مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِل
تَرَى الوَدْعَ فِيهَا ، وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً * بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالعَثَاكِلِ
أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ * عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةِجج * وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ * وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ
وَبِالبَيْتِ حَقّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ * وَبِاَللهِ إنّ اللهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالحَجَرِ المُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ * إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالأَصَائِلِ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً * عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وَأَشْوَاطِ بَيْنَ المَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا * وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثِلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ * وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ
وَبِالمَشْعَرِ الأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ * إلالٍ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ القَوَابِل
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الجِبَالِ عَشِيّةً * يُقِيمُونَ بِالأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالمَنَازِلِ مِنْ مِنًى * وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ
وَجَمْعٍ إذَا مَا المُقْرَبَاتُ أَجَزْنه * سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ
وَبِالجَمْرَةِ الكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا * يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالجَنَادِلِ
وَكِنْدَةَ إذْ هُمْ بِالحِصَابِ عَشِيّةً * تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائل
حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا اخْتَلَفَا لَهُ * وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الوَسَائِلِ
وَخَطْمِهِمُ سُمْرَ الرّمَاحِ وَشَرْحَهُ * وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النّعَامِ الحَوَامِلِ
--------------------------- 239 ---------------------------
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مَعَاذٍ لِعَائِذِ * وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللهَ عَاذِلِ
يُطَاعُ بِنَا أَمْرُ العِدَا وَدّ أَنّنَا * تُسَدّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةَ * وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا * وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصرَّع حَوْلَهُ * وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمْ * نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ * مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الأَنْكَبِ المُتَحَامِلِ
[ أبيت بحمد الله ترك محمد * بمكة أسلمه لشر القبائل ]
[ وقال لي الأعداء قاتل عصابة * أطاعوه ، وابغه من جميع الغوائل ]
[ نقيم على نصر النبي محمد * نقاتل عنه بالظبى والعواسل ]
وَإِنّا لَعَمْرُ اللهِ إنْ جَدّ مَا أَرَى * لَتَلْتَبِسَن أَسْيَافُنَا بِالأَمَاثِلِ
بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعٍ * أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلاً مُجَرّماً * عَلَيْنَا وَتَأْتِي حِجّةٌ بَعْدَ قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لا أَبَا لَك سَيّدًا * يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
[ وما ترك قوم لا أباً لك سيداً * يحوط الذمار غير ذرب مواكل ]
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ * ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ * فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ * إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ
[ جزت رحم عنا أسيداً * وخالداً جزاء مسيء لا يؤخر عاجل ]
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ * وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا ، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ * وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ * وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
--------------------------- 240 ---------------------------
فَإِنْ يُلْفَيَا ، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا * نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبى غَيْرَ بُغْضِنَا * لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ * فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا * بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ * مِنْ الأرض بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمَجَادِلِ
وَسَائِلْ أَبَا الوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتنَا * بِسَعْيِك فِينَا مُعْرِضًا كَالمُخَاتِلِ
وَكُنْت امْرِئِ مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ * وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْت بِجَاهِلِ
[ فلست أباليه على ذات نفسه * فعش يا ابن عمي ناعماً غير ماحل ]
فَعُتْبَةُ لا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ * حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ
[ وقد خفت إن لم تزدجرهم وترعووا * تلاقي ونلقى منك إحدى البلابل ]
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا * كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ * وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ * شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
[ وأعلم أن لا غافل عن مساءة * كذاك العدو عند حق وباطل ]
[ فميلوا علينا كلكم إن ميلكم * سواء علينا والرياح بهاطل ]
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَةٍ * وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ
وَلا يَوْمَ خَصْمٍ إذْ أَتَوْك أَلِدّةً * أُولِي جَدَلٍ مِنْ الخُصُومِ المَسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً * وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً * عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً * لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا * بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ * وَآلِ قُصَيّ فِي الخُطُوبِ الأَوَائِلِ
--------------------------- 241 ---------------------------
[ وكان لنا حوض السقاية فيهم * ونحن الذرى منهم وفوق الكواهل ]
[ فما أدركوا زحلاً ولا سفكوا دماً * وما خالفوا إلا شرار القبائل ]
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا * عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
[ وحث بنو سهم علينا عديَّهم * عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل ]
[ يعضُّون من غيظ علينا أكفهم * بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل ]
[ وشأيظ كانت في لؤي بن غالب * نفاهم إلينا كل صقر حلاحل ]
فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمُ خَيْرُ قَوْمِكُمْ * فَلا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُم * وَجِئْتُمْ بِأَمْرِ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثاً حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ * أَلانَ حِطَابٌ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ
لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا * وَخِذْلانُنَا ، أوَ تَرْكُنَا فِي المَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْماً نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ * وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ * نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ حُلاحِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى * وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا * وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا بِالتّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلاً قُصَيّا عَظِيمَةٌ * إذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي المَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْباً خِلالَ بُيُوتِهِمْ * لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ المَطَافِلِ
[ فإنْ تكُ كعبٌ من لؤيٍّ تجمعت * فلا بد يوماً مرة من تزايل ]
[ وإن تكُ كعبٌ من كعوبٍ كبيرة * فلابد يوماً أنها في مجاهل ]
[ وكنا بخير قبل تسويد معشر * هم ذبحونا بالمدى والمقاول ]
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا * بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ * لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ
سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلابِ بْنِ مُرّةَ * بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ خَاذِلِ
--------------------------- 242 ---------------------------
[ بني أسد لا تُطْرِقَنَّ على القذى * إذا لم يقل بالحق مقول قائل ]
[ ونعم ابن أخت القوم غير مكذب * زهير حساماً مفرداً من حمائل ]
وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ * وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهُمُ * وَنَحْنُ الكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالكَوَاهِلِ
شَبَابٌ مِنْ المُطَّيّبِينَ وَهَاشِمِ * كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلاً وَلا سَفَكُوا دَمًا * وَلا حَالَفُوا إلا أشَرّ القَبَائِلِ
بِضَرْبِ تَرَى الفِتْيَانَ فِيهِ * كَأَنّهُمْ ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ
بَنِي أُمّةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكيّة * بَنِي جمَحَ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ
وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةِ * بِهِمْ نُعِيَ الأَقْوَامُ عِنْدَ البَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ * زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمّ مِنْ الشّمّ البَهَالِيلِ يَنْتَمِي * إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ المَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْت وَجْدًا بِأَحْمَدَ * وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبّ المُوَاصِلِ
فَلا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالاً لأهْلِهَا * وَزَيْنًا لِمَنْ وَالاهُ رَبّ المَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاسِ أَيّ مُؤَمّلٍ * إذَا قَاسَهُ الحُكّامُ عِنْدَ التّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشِ * يُوَالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
فَوَاَللهِ لَوْلا أَنْ أَجِئَ بِسُبّةِ * تُجَرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي المَحَافِلِ
لَكُنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ * مِنْ الدّهْرِ جِدّاً غَيْرَ قَوْلِ التّهَازُلِ
[ وداستكم منا رجال أعزةٌ * إذا جردوا أيمانهم بالمناصل ]
[ رجال كرام غير مِيلٍ نماهمُ * إلى العز آباء كرام المخاصل ] »
[ وقفنا لهم حتى تبدد جمعهم * وحُسِرَ عنا كل باغ وجاهل ]
[ شباب من المطَّلِّبين وهاشم * كبيض السيوف بين أيدي الصياقل ]
[ بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم * ضواري أسود فوق لحم خرادل ]
--------------------------- 243 ---------------------------
[ ولكننا نسلٌ كرام لسادة بهم * يعتلي الأقوام عند التطاول ]
[ سيعلم أهل الضغن أيِّي وأيهم * يفوز ويعلو في ليال قلائل ]
[ وأيهم مني ومنهم بسيفه يلاقي * إذا ما حان وقت التنازل ]
[ ومن ذا يمل الحرب مني ومنهمُ * ويحمد في الآفاق في قول قائل ]
لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لا مُكَذّبٌ * لَدَيْنَا ، وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ * تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ ]
[ كأني به فوق الجياد يقودها * إلى معشر زاغوا إلى كل باطل ]
حَدِبْت بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْته * وَدَافَعْت عَنْهُ بِالذّرَى وَالكَلاكِلِ
فَأَيّدَهُ رَبّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ * وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ بَاطِلِ
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ * إلَى الخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ المَحَاصِلِ
فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبةً * فَلا بُدّ يَوْماً مَرّةً مِنْ تَزَايُلِ »
[ وجُدْتُ بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ] » ج
ورواها القاضي النعمان المغربي في المناقب والمثالب / 92 ، بمئة وسبعة أبيات ، وقال : « وفشا شعر أبي طالب هذا في العرب وأمْرُ رسول الله وقيام بني عبد شمس ومن أطاعها عليه ، وانتصاب بني هاشم ومن تولاها دونه ، وعلموا قديماً ما بين الفئتين من البغضاء وحسد بني عبد شمس بني هاشم . . . فتوقف من كانوا أغروه من قبائل العرب برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكذب أكثرهم مقالهم فيه ، وذكر أهل يثرب ما كانت اليهود خبَّرتهم وحدَّثتهم به من ظهور نبي فيهم ، قد أزف وقت ظهوره وإخبارهم عن شأنه وأموره ، فلما بلغهم أمر رسول الله تطلعت أعينهم إليه » .
وقال في شرح الأخبار : 3 / 225 : « وكان إظهار أبي طالب ما أظهر من التمسك بدين العرب والرغبة فيه ، مع تصديقه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإقراره بنبوته ، مما أيد الله به أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) لأنه لو أظهر الإسلام لرفضته العرب ، ولم يعضده من عضده منهم على نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
--------------------------- 244 ---------------------------
وقد شرح قصيدة أبي طالب بعض العلماء شرحاً موجزاً ، كالسهيلي في الروض الأنف : 2 / 16 ، وهو من حفاظ القرن السادس . تذكرة الحفاظ للذهبي : 4 / 1348 .
وشرحها صاحب خزانة الأدب : 2 / 53 ، عبد القادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة 1093 وأورد منها أربعين بيتاً ، وقال : « وقد أحببت أن أوردها هنا منتخبة مشروحة بشرح يوفي المعنى ، محبة في النبي صلى الله عليه » .
وشرح ابن إسحاق بعض مفرداتها كما نقل ابن هشام : 1 / 181 قال : « والغياطل : من بني سهم بن عمرو بن هصيص ، وأبو سفيان : ابن حرب بن أمية . ومطعم : ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف . وزهير : ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب . قال ابن إسحاق : وأسيد ، وبكره : عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي . وعثمان : ابن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله التيمي . وقنفذ : ابن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة . وأبو الوليد : عتبة بن ربيعة . وأبيّ : الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة بن كلاب . قال ابن هشام : وإنما سمى الأخنس لأنه خنس بالقوم يوم بدر ، وإنما اسمه أبيّ . وهو من بني علاج وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقدة . والأسود : ابن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب . وسبيع : ابن خالد ، أخو بلحارث بن فهر . ونوفل : ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي وهو ابن العدوية ، وكان من شياطين قريش ، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله في حبل حين أسلما ، فبذلك كانا يسميان القرينين ، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر . وأبو عمرو : قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف . وقوله : وقوم علينا أظنة ، بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة . فهؤلاء الذين عدد أبو طالب في شعره من العرب » !
لكن أبا طالب « رحمه الله » ذكر غيرهم أشخاصاً وقبائل !
ثم روى ابن هشام قوله ( صلى الله عليه وآله ) عندما استسقى في المدينة : « لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره ، فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول الله أردت قوله :
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ . . . ثِمَالَ اليَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ ؟ قال أَجل » .
وفي عمدة القاري : 7 / 31 : « لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه » .
--------------------------- 245 ---------------------------

7 - ملاحظات حول لامية أبي طالب ( ( رحمه الله ) ) وشعره

أ . يبلغ شعر أبي طالب « رحمه الله » الذي وصل إلينا نحو ألف بيت ، وهو ثروة مهمة لم يعطه العلماء حقه في تدوين السيرة وتوثيقها ! وقد رأيت قول الناصبي ابن كثير : « هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً ، لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعاً » !
فلماذا لم يدرسوها ويعتمدوها ؟ ! ولا يذكرون شعر أبي طالب ( عليه السلام ) إلا عند الضرورة وباختصار ، تقرباً وخوفاً من الحكومات ! ثم زعموا أنه مات كافراً لينفوا وراثته لعبد المطلب ، فنفيُ الوراثة وتكفير آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسرته أمرٌ مهم عندهم ، لأنها تنقض أساس خلافة السقيفة !
ب . يكشف شعر أبي طالب « رحمه الله » عن أمور وأحداث في السيرة النبوية لم يسجلها الرواة والمؤلفون ، أو عتَّموا عليها ، فمنها أن قريشاً قررت إجلاء بني هاشم من مكة إن لم يسلموهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ! وعملوا لتنفيذ ذلك فأحبطه أبو طالب :
كذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا * وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلٍ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ * وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلائِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةً * وَنَظْعَنُ إلا أَمْرُكُمْ فِي بَلابِل
وذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أبى غَيْرَ بُغْضِنَا * لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ * فَنَاجَ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللهِ مَا إنْ يَغُشّنَا * بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
وأبو عمرو المنافق هو : قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، وهذا يدل على أن حساد بني هاشم من أقربائهم كبني نوفل وأمية ، كانوا مع قرار نفيهم !
ج . ومن ذلك أن أبا طالب « رحمه الله » أشار في شعره إلى أعمال عدائية قامت بها قبائل أو شخصيات معينة ، لم يكشفها الرواة ! لاحظ قوله « رحمه الله » :
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ * إلَى بُغْضِنَا إذ جَزّآنَا لآكِلِ
--------------------------- 246 ---------------------------
[ جزت رحم عنا أسيداً وخالداً * جزاء مسئ لا يؤخرعاجل ]
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ * وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ القَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا ، وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهُمْ * وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ * وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
فَإِنْ يُلْفَيَا ، أَوْ يُمْكِنُ اللهُ مِنْهُمَا * نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ المُكَايِلِ
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا * كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ * وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ المُنَاصِحِ أَنّهُ * شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
[ وأعلم أن لا غافلٌ عن مساءة * كذاك العدو عند حق وباطل ]
[ فميلوا علينا كلكم إن ميلكم * سواء علينا والرياح بهاطل ]
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَة * وَلا مُعْظِمٌ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ القَوْمَ سَامُوك خُطّةً * وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِ
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً * عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِيسُ شَعِيرَةً * لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلامُ قَوْمٍ تَبَدّلُو * بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالغَيَاطِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا * عَلَيْنَا العِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
[ وحث بنو سهم علينا عديَّهم * عدي بن كعب فاحتبوا في المحافل ]
[ يعضُّون من غيظ علينا أكفهم * بلا ترةٍ بعد الحمى والتواصل ]
[ وشأيظ كانت في لؤي بن غالب * نفاهم إلينا كل صقر حلاحل ]
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِأَ الحَصَى * وَأَلأمَ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ
ولم أجد تعبير « شر من وطأ الحصى » قبل وصف أبي طالب به لعدي ، وهم قبيلة عمر ، وكانوا قلة لكن لهم دور في عداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
--------------------------- 247 ---------------------------
ولاحظ قوله « رحمه الله » في قصيدة أخرى :
وليد أبوه كان عبداً لجدنا * إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم * فكانوا لنا مولى إذا بغي النصر
فقد سفهت أحلامهم وعقولهم * فكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
والوليد هو أبو خالد بن الوليد ، أحد المستهزئين الخمسة سنن البيهقي 9 / 8 وقد أخبر أبو طالب أن أمه رومية ، كانت أمَةً لهاشم !
د . ولاحظ قوله « رحمه الله » في المعجزة التي ظهرت في أبي جهل : « لما جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو ساجد ، وبيده حجر يريد أن يرميه به ، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه » !
أفيقوا بني غالب وانتهوا * عن الغي من بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذن خائفٌ * بوائقَ في داركم تلتقي
تكون لغيركم عبرةً * ورب المغارب والمشرق
كما ذاق من كان من قبلكم * ثمودٌ وعادٌ فمن ذا بقي
غداة أتاهم بها صرصرٌ * وناقة ذي العرش قد تستقي
فحل عليهم بها سخطةٌ * من الله في ضربة الأزرق
غداة يعض بعرقوبها * حساماً من الهند ذا رونق
وأعجب من ذاك في أمركم * عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من خبثه * إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه * على رغمة الجائر الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى * لغي الغواة ولم يَصدق »
كنز الفوائد / 75 ، أبو طالب حامي الرسول / 21 ، ابن إسحاق : 4 / 192 ولم يجزم بنسبتها إلى أبي طالب !
فلا بد من تتبع الأحداث التي أرخها أبو طالب رضي الله عنه ، أو أشار إليها ، وفيها مفردات جديدة في السيرة ، أهملها الرواة أو جهلوها ، فينبغي بحث نصوصها ومؤيداتها ، أو ما يعارضها في السيرة الحكومية الرسمية .
--------------------------- 248 ---------------------------

الفصل الخامس عشر

الإسراء والمعراج

1 - آيات الإسراء والمعراج

قال الله تعالى : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ . الإسراء 1 .
وقال تعالى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالآفُقِ الأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى . النجم 1 - 18 .
فمطلع سورة الإسراء في الإسراء ، أما المعراج فآياته في سورة النجم .
وقال المفسرون واللغويون : السُّرى هو السير بالليل فقط « لسان العرب 4 / 389 » لكن قوله تعالى : أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ، يدل على أن الإسراء مطلق السير ، ولذا قال : لَيْلاً .
وتبلغ أحاديث الإسراء والمعراج في مصادر الطرفين مئات الصفحات ، وغرضنا هنا إيراد مختارٍ منها ، يعطي تصوراً شاملاً عن المعراج ، ثم نشير إلى بعض الروايات المكذوبة فيه .

2 - كان الإسراء والمعراج بالجسد والروح

مذهب عامة الشيعة أن معراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان بروحه وجسده . قال المجلسي في روضة المتقين : 2 / 218 : « وأما المعراج فأخباره أكثر من أن تحصى ، وإنكاره كفر . . ثم حمل على عائشة
--------------------------- 249 ---------------------------
ومعاوية ، لأنهما أنكرا المعراج بالجسم وجعلاه بالروح » !
وقال النويري في نهاية الأرب : 16 / 293 : « اختلف العلماء على ثلاث مقالات ، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح وأنه رؤيا منام . وذهبت طائفة إلى أن الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح . والذي عليه الأكثرون وقال به معظم السلف أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة . قال القاضي عياض بن موسى بن عياض : وهذا هو الحق ، وهو قول ابن عبّاس وجابر وأنس وحذيفة . . وهو قول الطبري ، وابن حنبل ، وغيرهما ، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلَّة يطول علينا شرحها . قال القاضي عياض : وعليه تدل الآية ، إذ لو كان مناماً لقال : بروح عبده ، ولم يقل : بِعَبْدِه . وقوله : ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغى . ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة » .

3 - برنامجٌ رباني لإعداد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

الإسراء : سَفَر النبي ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى الكوفة ، ثم إلى جبل الطور وبيت المقدس ، إشارةً إلى أنه وارث آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى « عليهم السلام » .
والمعراج : عروجه ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء ، وكان ذلك في أوائل البعثة ، وكأنه برنامج إعداد للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن يريه ربه ما شاء من ملكوته وآياته الكبرى .
ففي أمالي الصدوق / 213 : « عن ثابت بن دينار قال : سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال : تعالى الله عن ذلك . قلت : فلمَ أسرى بنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء ؟ قال : ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه . قلت : فقول الله عز وجل : ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ؟ قال : ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دنا من حجب النور ، فرأى ملكوت السماوات ، ثم تدلى ( صلى الله عليه وآله ) فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى » .
وفي الإحتجاج : 1 / 327 أن حَبْراً قال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « هذا سليمان قد
--------------------------- 250 ---------------------------
سخرت له الرياح فسارت به في بلاده ، غُدُوُّها شهر ورواحها شهر ؟ قال له ( عليه السلام ) : لقد كان ذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) أعطي ما هو أفضل من هذا ، إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام ، في أقل من ثلث ليلة ، حتى انتهى إلى ساق العرش فدنى بالعلم فتدلى من الجنة على رفرف أخضر ، وغشيَ النور بصره ، فرأى عظمة ربه عز وجل بفؤاده ، ولم يرها بعينه ، فكان كقاب قوسين بينه وبينها ، أو أدنى » .
أقول : هذا يدل على أن التدلي كان مرات ، ومن عدة أمكنة ، لمشاهدة ملكوت الأرض ، ولمشاهدة آيات الله وعظمته فيها .

4 - عُرِج بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مئة وعشرين مرة !

قال العيني في عمدة القاري : 4 / 39 : « قيل إن الإسراء كان مرتين ، مرة بروحه مناماً ، ومرة بروحه وبدنه يقظة . ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً ، حتى قال إنه أربع إسرا آت . وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة ، ووفَّق أبو شامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد ، فجعله ثلاث إسرا آت ، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق ، ومرة من مكة إلى السماوات على البراق أيضاً . ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات » .
وقال ابن عباس : « كان المعراج مرتين ، بعد النبوة بسنتين ، فالأول معراج العجائب والثاني معراج الكرامة » . المناقب : 1 / 153 .
ورجح في الصحيح من السيرة : 3 / 25 أنه مرتان ، طبق رواية الكافي : 1 / 443 لكن سندها غير تام ، بينما صح عن أهل البيت « عليهم السلام » أنه مرات ، فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « عرج بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء مائة وعشرين مرة . ما من مرة إلا وقد أوصى الله النبي ( صلى الله عليه وآله ) بولاية علي والأئمة « عليهم السلام » من بعده ، أكثر مما أوصاه بالفرايض » .
بصائر الدرجات / 99 ، الخصال / 600 ، المحتضر / 44 والفوائد الطوسية / 140 .
ومما يدل على أن المعراج وقع أيضاً في أواخر نبوته ( صلى الله عليه وآله ) ، ما رواه الصدوق في الأمالي / 696 ،
--------------------------- 251 ---------------------------
عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث أسري به إلى السماء ، لم يمر بخلق من خلق الله إلا رأى منه ما يحب ، من البِشْر واللطف والسرور به ، حتى مر بخلق من خلق الله فلم يلتفت إليه ولم يقل له شيئاً ، فوجده قاطباً عابساً فقال : يا جبرئيل ، ما مررت بخلق من خلق الله إلا رأيت البشر واللطف والسرور منه إلا هذا ، فمن هذا ؟ قال : هذا مالك خازن النار ، وهكذا خلقه ربه ! قال : فإني أحب أن تطلب إليه أن يريني النار . فقال له جبرئيل : إن هذا محمداً رسول الله ، وقد سألني أن أطلب إليك أن تريه النار . قال : فأخرج له عنقاً منها فرآها ، فما افترَّ ضاحكاً حتى قبضه الله عز وجل » .
ونحوه في كتاب الحسين بن سعيد / 99 وفيه : « فكشف له طبقاً من أطباقها » .
فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه لم يضحك بعده حتى توفي فهو في أواخر حياته الشريفة ، ومعراجه الأول كان في أوائل بعثته ، وقد ضحك بعده في مناسبات عديدة .

5 - الإسراء والمعراج من عقائد الإسلام

في أمالي الصدوق / 738 : « دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد الله تعالى ذكره ، ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق به ، والإقرار بأنبياء الله ورسله وحججه وملائكته وكتبه ، والإقرار بأن محمداً هو سيد الأنبياء والمرسلين . . وبمعراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء السابعة ، ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وبمناجاة الله عز وجل إياه ، وأنه عرج به بجسمه وروحه على الصحة والحقيقة لا على الرؤيا في المنام ، وأن ذلك لم يكن لأن الله عز وجل في مكان هناك ، لأنه متعال عن المكان ، ولكنه عز وجل عرج به تشريفاً له وتعظيماً لمنزلته ، وليريه ملكوت السماوات كما أراه ملكوت الأرض ، ويشاهد ما فيها من عظمة الله عز وجل وليخبر أمته بما شاهد في العلو من الآيات والعلامات » .
وفي رسالة الإعتقادات للصدوق « رحمه الله » / 79 : « واعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان
--------------------------- 252 ---------------------------
وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد دخل الجنة ، ورأى النار ، حين عرج به » .
إن المعراج حدثٌ ضخمٌ ، ومفرداته كثيرة ، وقد تبلغ موضوعاته مائتي عنوان ، وهذا طبيعي ، لأنه جولة في الأرض على ربوع الأنبياء السابقين « عليهم السلام » ، وجولاتٌ في السماوات السبع ، أرى الله فيها رسوله ( صلى الله عليه وآله ) آيات ملكوته الكبرى . أراه جميع الأنبياء « عليهم السلام » ، والجنة بأعلى نعيمها ، وطرفاً من النار والمعذبين فيها .
وأراه مشاهد ستحدث من مستقبل أمته ، وأراه الأئمة من ذريته « عليهم السلام » ، وعلمه علم ما يكون . وفي كل واحد من هذه المواضيع : عناوين ، وفروع ، وتفاصيل .
وقد أفاضت مصادرنا في رواية أحاديث المعراج التي بينت مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة من عترته « عليهم السلام » ، ومقام شيعتهم وما يجري عليهم من اضطهاد ، وما أعد الله لهم من نصر في نهاية المطاف ، ودرجات عالية في الآخرة .

6 - هل المسجد الأقصى مسجد القدس أو البيت المعمور ؟

يوجد رأي نادر للباحث السيد جعفر مرتضى ، ذكره في رسالة عن البيت المعمور ، وفي كتابه الصحيح من السيرة : 3 / 147 مفاده : أن المقصود بالمسجد الأقصى في آية الإسراء هو البيت المعمور في السماء وليس مسجد بيت المقدس ، وأن المسجد الذي يدخله المؤمنون مرتين هو المسجد الحرام ، قال :
« الظاهر أن المراد به هو المسجد الحرام ، أما المسجد الأقصى الذي حصل الإسراء إليه ، والذي بارك الله حوله ، فهو في السماء » .
واستدل على ذلك برواية أن النبي صلى بالأنبياء « عليهم السلام » في المسجد الأقصى ، وهو البيت المعمور : « انتهى جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الأقصى ، فلما دنا منه أتى جبرئيل عيناً فتوضأ منها ثم قال يا محمد توضأ » . اليقين لابن طاووس / 294 .
وفي تفسير القمي : 2 / 243 ونوادر المعجزات / 66 : « عن إسماعيل الجعفي قال : كنت في المسجد الحرام قاعداً وأبو جعفر ( عليه السلام ) في ناحية ، فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ، ثم قال : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى . .
--------------------------- 253 ---------------------------
وكرر ذلك ثلاث مرات ، ثم التفت إليَّ فقال : أي شئ يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي ؟ قلت : يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس ، فقال : لا ، ليس كما يقولون ، ولكنه أسريَ به من هذه وأشار بيده إلى الأرض ، إلى هذه وأشار بيده إلى السماء ، وقال : ما بينهما حرم . قال : فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جبرئيل في هذا الموضع تخذلني ؟ فقال : تقدم أمامك ، فوالله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك . فرأيت من نور ربي وحال بيني وبينه السبحة . قلت : وما السبحة
جعلت فداك ؟ فأومئ بوجهه إلى الأرض وأومى بيده إلى السماء وهو يقول جلال
ربي ثلاث مرات . قال يا محمد ! قلت : لبيك يا رب قال : فيم اختصم الملأ الأعلى ؟ قال : قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني .
قال فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي . قال : فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته . قال : يا محمد فيمَ اختصم الملأ الأعلى ؟ قال قلت : يا رب في الدرجات والكفارات والحسنات .
فقال : يا محمد قد انقضت نبوتك وانقطع أُكلك ، فمن وصيك ؟ فقلت : يا رب قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أطوع لي من علي ؟ فقال : ولي يا محمد . فقلت : يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر في خلقك أحداً أشد حباً لي من علي بن
أبي طالب . قال : ولي يا محمد ، فبشره بأنه راية الهدى وإمام أوليائي ونورٌ لمن أطاعني ، والكلمة التي ألزمتها المتقين ، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني ، مع ما أني أخصه بما لم أخص به أحداً . فقلت : يا رب أخي وصاحبي ووزيري ووارثي ، فقال إنه أمر قد سبق أنه مبتلى ومبتلى به ، مع ما أني قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته ، أربعة أشياء عقدها بيده ولا يفصح بها عقدها » .
أقول : في هذا الحديث عناصر قوة ، لكن فيه عناصر خلل توجب التوقف فيه ، أهمها ما يوافق المخالفين في التجسيم ، أو ما يوهم التجسيم .
ومنها وجود روايات تعارضه وتدل على أن المسجد الأقصى مسجد
--------------------------- 254 ---------------------------
بيت المقدس ، منها ما رواه في الكافي : 3 / 491 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « جاء رجل إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو في مسجد الكوفة فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فرد عليه ، فقال : جعلت فداك إني أردت المسجد الأقصى ، فأردت أن أسلم عليك وأودعك ، فقال له : وأي شئ أردت بذلك ؟ فقال : الفضل جعلت فداك ، قال : فبع راحلتك وكل زادك ، وصلِّ في هذا المسجد فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة ، والنافلة عمرة مبرورة ، والبركة فيه على اثني عشر ميلاً ، يمينه يمن ويساره مكر ، وفي وسطه عين من دهن ، وعين من لبن ، وعين من ماء شراب للمؤمنين ، وعين من ماء طهر للمؤمنين . منه سارت سفينة نوح ، وكان فيه نسر ويغوث ويعوق ، وصلى فيه سبعون نبياً وسبعون وصياً ، أنا أحدهم . وقال بيده في صدره : ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج ، إلا أجابه الله
وفرج عنه كربته » .
فلو صحت الرواية التي تسمي البيت المعمور في السماء المسجد الأقصى أوبيت المقدس ، فدلالتها على تعدد المسجد الأقصى أولى من دلالتها على البدلية .
لذلك نستقرب أن يكون المسجد الأقصى اسماً للبيت المعمور وبيت المقدس معاً .

7 - علَّمه الله في المعراج علم ما يكون

في الكافي : 1 / 251 : « قال رجل لأبي جعفر ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله لا تغضب عليَّ قال : لماذا ؟ قال : لما أريد أن أسألك عنه ، قال : قل . قال : ولا تغضب ؟ قال : ولا أغضب . قال : أرأيت قولك في ليلة القدر تنزل الملائكة والروح فيها إلى الأوصياء يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد علمه ؟ أو يأتونهم بأمر كان رسول الله يعلمه ؟ وقد علمت أن رسول الله مات وليس من علمه شئ إلا وعلي ( عليه السلام ) له واع !
قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : مالي ولك أيها الرجل ومن أدخلك علي ؟
قال : أدخلني عليك القضاء لطلب الدين . قال : فافهم ما أقول لك : إن رسول الله لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جل ذكره علم ما قد كان وما سيكون ، وكان
--------------------------- 255 ---------------------------
كثير من علمه ذلك جملاً ، يأتي تفسيرها في ليلة القدر . وكذلك كان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر ، كما كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال السائل : أوما كان في الجمل تفسير ؟ قال : بلى ، ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي وإلى الأوصياء « عليهم السلام » : إفعل كذا وكذا ، لأمر قد كانوا علموه ، أمروا كيف يعملون فيه ؟
قلت : فسر لي هذا . قال : لم يمت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا حافظاً لجمله وتفسيره . قلت : فالذي كان يأتيه في ليالي القدر علم ما هو ؟ قال : الأمر واليسر فيما كان قد علم . قال السائل : فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا ؟ قال : هذا مما أمروا بكتمانه ، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه إلا الله عز وجل . قال السائل : فهل يعلم الأوصياء ما لا يعلم الأنبياء ؟ قال : لا ، وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه . قال السائل : فهل يسعنا أن نقول إن أحداً من الوصاة يعلم ما لا يعلم الآخر ؟ قال : لا لم يمت نبي إلا وعلمه في جوف وصيه ، وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم الذي يحكم به بين العباد .
قال السائل : وما كانوا علموا ذلك الحكم ؟ قال : بلى قد علموه ، ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شئ منه حتى يؤمروا في ليالي القدر كيف يصنعون إلى السنة المقبلة . قال السائل : يا أبا جعفر لا أستطيع إنكار هذا ؟ قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : من أنكره فليس منا . قال السائل : يا أبا جعفر أرأيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) هل كان يأتيه في ليالي القدر شئ لم يكن علمه ؟ قال : لا يحل لك أن تسأل عن هذا ، أما علم ما كان وما سيكون ، فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه ، أما هذا العلم الذي تسأل عنه فإن الله عز وجل أبي أن يطلع الأوصياء عليه
إلا أنفسهم .
قال السائل : يا ابن رسول الله كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة ؟ قال : إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرة ، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه » .
--------------------------- 256 ---------------------------
أقول : لاغرابة في أن يكون الله تعالى علَّم نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأراه في معراجه كثيراً من المستقبل ! لأن كل ما سيحدث في هذا الكون مخزون في علم الله تعالى الذي أحاط بكل شئ ، ونحن نرى في المنام أموراً من المستقبل ، ثم تحدث كما رأيناها تماماً ، فكأن ذلك المنام لقطة من المستقبل المخزون !
كما يدلنا هذا الحديث الشريف العميق على أن تعليم الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ولأوصيائه « عليهم السلام » له نظام وأصول ، في توقيته ، وتدرجه ، وإمضائه ، والسماح ببيانه ، بما يحفظ لهم الاختيار ، ويحفظ المسار الصحيح لتبليغهم رسالات ربهم . قال تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا . لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدداً . الجن : 26 - 28 .

8 - كان الإسراء إلى المدينة وكوفان والطور وبيت المقدس

في الكافي : 8 / 279 : « عن المفضل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس « السفاح » فلما انتهينا إلى الكناسة قال : هاهنا صلب عمي زيد « رحمه الله » ، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين ، فنزل وقال : إنزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي خطه آدم ( عليه السلام ) ، وأنا أكره أن أدخله راكباً . قال قلت : فمن غيَّره عن خطته ؟ قال : أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح ( عليه السلام ) ، ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان ، ثم غيَّره بعدُ زياد بن أبي سفيان . فقلت : وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح ( عليه السلام ) ؟ فقال لي : نعم يا مفضل ، وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ، مما يلي غربي الكوفة ، قال : وكان نوح ( عليه السلام ) رجلاً نجاراً فجعله الله عز وجل نبياً وانتجبه ، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء .
قال : ولبث نوح ( عليه السلام ) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزؤون به ويسخرون منه ، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلايَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا . فأوحى الله عز وجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها ، فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده ، فأتى بالخشب من بُعد حتى فرغ منها .
--------------------------- 257 ---------------------------
قال : المفضل ثم انقطع حديث أبي عبد الله ( عليه السلام ) عند زوال الشمس فقام فصلى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد ، فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين ، وهو موضع دار ابن حكيم وذاك فرات اليوم ، فقال لي : يا مفضل ، هاهنا نصبت أصنام قوم نوح ( عليه السلام ) : يغوث ويعوق ونسراً .
ثم مضى حتى ركب دابته فقلت : جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها ؟ قال : في دورين ، قلت : وكم الدورين ؟ قال : ثمانين سنة . قلت : وإن العامة يقولون : عملها في خمس مائة عام ، فقال : كلا كيف والله يقول : وَوَحْيِنَا .
قال قلت : فأخبرني عن قول الله عز وجل : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ، فأين كان موضعه وكيف كان ؟ فقال : التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد . فقلت له : فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم . ثم قلت له : وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور ؟ فقال : نعم إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية ، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً ، وفاض الفرات فيضاً ، والعيون كلهن فيضاً ، فغرقهم الله عز ذكره ، وأنجى نوحاً ومن معه في السفينة . فقلت له : كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها ؟ فقال : لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها ، وطافت بالبيت أسبوعاً ، ثم استوت على الجودي ، وهو فرات الكوفة . فقلت له : إن مسجد الكوفة قديم ؟ فقال : نعم ، وهو مصلى الأنبياء « عليهم السلام » ولقد صلى فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أسري به إلى السماء ، فقال له جبرئيل : يا محمد هذا مسجد أبيك آدم ، ومصلى الأنبياء « عليهم السلام » ، فانزل فصل فيه فنزل فصلى فيه . . ثم إن جبرئيل عرج به إلى السماء » .
وفي رواية في تفسير القمي : 2 / 3 أن جبرئيل ( عليه السلام ) أنزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة فصلى فيها ، وأخبره أنها مهاجره ، وصلى في طور سيناء عند قبر موسى ( عليه السلام ) ، وفي بيت لحم مولد عيسى ( عليه السلام ) .
أقول : « روى الطبري : 3 / 145 أن سلمان وحذيفة كانا رائدي جيش فتح العراق فارتادا لهم مكاناً لنزولهم ، فخرج سلمان حتى أتى الأنبار ، فسار في غربي الفرات
--------------------------- 258 ---------------------------
لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة . وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، والكوفة على حصباء ، وكل رملة حمراء يقال لها سهلة ، وكل حصباء ورمل هكذا متخلطين فهو كوفة ، فأتيا عليها وفيها دَيْرَات ثلاثة : دير حرقة ودير أم عمرو ودير سلسلة ، وخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة » .
وفي فتوح البلاذري : 2 / 354 أن سلمان الفارسي قال : « الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها » .
ولا بد أن يكون عمله « رحمه الله » بتوجيه علي ( عليه السلام ) باب مدينة علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

9 - استنفر أبو طالب ليلة الإسراء لأنه افتقد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كانت مدة المعراج الأول أقل من ثلث ليلة ، حسب رواية الاحتجاج : 1 / 327 . وكان وقته الثلث الأخير من الليل ، كما في الخرائج : 1 / 85 .
وفي تفسير العياشي ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي أسريَ به فيها بمكة . وكان أبو طالب أمرعلياً وجعفراً وحمزة بالتناوب لحراسته ، وكان يتفقد مكانه في الليل ! ولما لم يجده خاف أن يكون القرشيون قتلوه ، فبعث من يبحث عنه ، واستدعى شباب بني هاشم ووزع عليهم سيوفاً قصيرة أو شفاراً ، وأمرهم أن يكون كل واحد منهم بجانب زعيم قرشي فإذا أمرهم فليقتل كل منهم من بجنبه من الزعماء ، وأولهم أبو جهل ! مناقب ابن شهرآشوب : 1 / 156 وروضة الواعظين / 59 .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 26 : « قال لهم : إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم ، وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولاتنتظروني . فوجدوه على باب
أم هانئ ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرَّفهم ما كان منه ! فأعظموا ذلك وجلَّ في صدورهم ، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لا يؤذون رسول الله ، ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه أبداً » .
وفي الخرائج للراوندي : 1 / 85 : « لما رجع من السُّرى نزل على أم هاني بنت أبي طالب
--------------------------- 259 ---------------------------
فأخبرها فقالت : بأبي أنت وأمي والله لئن أخبرت الناس بهذا ليكذبنَّك من صدَّقَك ، وكان أبو طالب قد فقده تلك الليلة فجعل يطلبه وجمع بني هاشم ، ثم أعطاهم المُدى ، وقال لهم : إذا رأيتموني قد دخلت وليس معي محمد فليضرب كل رجل منكم جليسه ، والله لا نعيش نحن ولا هم وقد قتلوا محمداً .
فخرج في طلبه وهو يقول : يا لها عظيمة إن لم يواف رسول الله مع الفجر ، فتلقاه على باب أم هاني حين نزل من البراق فقال : يا ابن أخي ، انطلق فادخل بين يديَّ المسجد ، وسلَّ سيفه عند الحجر وقال : يا بني هاشم أخرجوا مُداكم . فقال : لو لم أره ما بقي منكم شِفْر ٌ « أحد » أو عشنا ، فاتقته قريش منذ يوم أن يغتالوه .
ثم حدثهم محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس . قال : إنما دخلته ليلاً ، فأتاه جبرئيل فقال : أنظر إلى هناك ، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه ، ثم نعت لهم ما كان لهم من عير ما بينهم وبين الشام » .
لكن ابن سعد : 1 / 202 جعل الحادثة عندما جاء زعماء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يعطوه رجلاً بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ونزلت سورة صاد فاشمأزوا منها ! قال : « فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب ، ثم قال : ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني فإذا دخلت المسجد فلينظركل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية يعني أبا جهل ، فإنه لم يغب عن شر ، إن كان محمد قد قتل ! فقال الفتيان نفعل » .
وفي الغدير : 7 / 350 ، عن الحجة لفخار بن معد ، عن ابن الجوزي عن الواقدي : « كان أبو طالب بن عبد المطلب لا يغيب صباح النبي ولا مساءه ، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن يغتالوه ، فلما كان ذات يوم فقده فلم يره . . . فلما وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده : أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كل واحد منهم ما في يده ، فلما رأوا السكاكين قالوا : ما هذا يا أبا طالب ؟ قال : ما ترون ، إني طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم ، فأمرت
--------------------------- 260 ---------------------------
هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم : إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذني فيه ولو كان هاشمياً ! فقالوا : وهل كنت فاعلاً ؟ فقال : إي ورب هذه وأومى إلى الكعبة ! فقال له المطعم بن عدي بن نوفل وكان من أحلافه : لقد كدت تأتي على قومك ؟ قال : هو ذلك . ومضى به وهو يقول :
إذهب بُنَيَّ فما عليك غضاضةٌ * إذهب وقَرَّ بذاك منك عيونا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
وذكرت ديناً لا محالة إنه * من خير أديان البرية دينا
فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والإستعطاف ، وهو لا يحفل بهم » !
أقول : لا يبعد أن يكون عمل أبي طالب « رحمه الله » قد تكرر منه لحماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتهديد قريش .

10 - رأت قريش آيات المعراج فزادت كفراً وعتواً

في أمالي الصدوق / 533 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق ، فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء « عليهم السلام » وصلى بها ، ورده فمرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعه بِعِيرٍ لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه ، فشرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك الماء وأهرق باقيه ! فلما أصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لقريش : إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس ، وأراني آثار الأنبياء « عليهم السلام » ومنازلهم ، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم ، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك . فقال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة منه فسلوه كم الأساطين فيها والقناديل ؟ فقالوا : يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه ؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه ! فلما أخبرهم قالوا : حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت . فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تصديق ذلك أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فلما كان من الغد
--------------------------- 261 ---------------------------
أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة ، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق ، فسألوهم عما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : لقد كان هذا ، ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أهريق الماء ! فلم يزدهم ذلك إلا عتواً » !
وفي الكافي : 8 / 262 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « ثم قال : هذه عير بني فلان تقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق أو أحمر ، قال : وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردها ، قال : وبلغ مع طلوع الشمس ، قال قرطة بن عبد عمرو : يا لهفاً ألا أكون لك جذعاً ، حين تزعم أنك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك » !
ونحوه في الخرائج : 1 / 141 ، عن علي ( عليه السلام ) ، وفيه : « فلما كان اليوم الثالث خرجوا إلى باب مكة لينظروا صدق ما أخبر به محمد ( صلى الله عليه وآله ) قبل طلوع الشمس ، فهم كذلك إذا طلعت العير عليهم بطلوع الشمس في أولها الجمل الأحمر ! فتعجبوا من ذلك ! وسألوا الذين كانوا مع العيرفقالوا مثل ما قال محمد ( صلى الله عليه وآله ) في إخباره عنهم . فقالوا : هذا أيضاً من سحر محمد » !
وفي تفسير العياشي : 2 / 137 في قول الله عز وجل : وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ، قال : « فأجابهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كل ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلا قليل ، وهو قول الله تبارك وتعالى : وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ . ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : نعوذ بالله أن لا نؤمن بالله وبرسوله . آمنا بالله وبرسوله ( صلى الله عليه وآله ) » .

11 - صفة البُراق الذي حمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في معراجه

روى في الكافي : 8 / 376 : « أتى جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالبراق أصغرمن البغل وأكبر من الحمار ، مضطرب الأذنين ، عينيه في حافره ، وخطاه مد بصره ، إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه وطالت رجلاه ، فإذا هبط طالت يداه وقصرت رجلاه ، أهدب العرف الأيمن ، له جناحان من خلفه » .
في أمالي الصدوق / 534 : « رجلاها أطول من يديها ، خَطْوُها مدُّ البصر ، فلما
--------------------------- 262 ---------------------------
أراد النبي أن يركب امتنعت فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : إنه محمد ، فتواضعت حتى لصقت بالأرض . قال فركب فكلما هبطت ارتفعت يداها وقصرت رجلاها ، وإذا صعدت ارتفعت رجلاها وقصرت يداها ، فمرت به في ظلمة الليل على عيرٍ مُحَمَّلة ، فنفرت العير من دفيف البراق ، فنادى رجل في آخر العير غلاماً له في أول العير : يا فلان ، إن الإبل قد نفرت » !
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 35 ومسند زيد بن علي / 497 ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : « هي دابة من دواب الجنة ، ليست بالطويل ولا بالقصير ، فلو أن الله أذن لها لجالت الدنيا في جرية واحدة ، وهي أحسن الدواب لوناً » .
وفي الخرائج : 1 / 84 : « فوقفه على باب خديجة ودخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فمرح البراق ، فخرج إليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : أسكن فإنما يركبك أحب خلق الله إليه » . وفي روضة الواعظين / 53 : « ومضى إلى بيت المقدس ، ثم إلى السماء الدنيا ، فتلقته الملائكة فسلمت عليه ، وتطايرت بين يديه ، حتى انتهى إلى السماء السابعة » .
وفي مسند زيد بن علي / 449 : « قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : لما بدأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بتعليم الأذان أتى جبريل بالبراق فاستصعب عليه : ثم أتاه بدابة يقال لها براقة فاستصعبت عليه ، فقال لها جبريل أسكني براقة ، فما ركبك أحد أكرم على الله منه فسكنت ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فركبتها حتى انتهت إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى ، فخرج ملك من وراء الحجاب ، فقال الله أكبر الله أكبر ، قال فقلت : يا جبريل ومن هذا الملك ، قال : والذي أكرمك بالنبوءة ما رأيت هذا الملك قبل ساعتي هذه ! فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، فنودي من وراء الحجاب : صدق » .
وفي صحيح البخاري : 4 / 77 : « وأتيتُ بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا ، قيل من هذا ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قيل : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحباً به » .
ويفهم من دعاء إقبال الأعمال : 2 / 51 أن الله تعالى علم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بعض أسمائه الحسنى فسخر له البراق : وباسمك الذي سخرت به البراق لمحمد صلواتك عليه وآله .
--------------------------- 263 ---------------------------

12 - النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيركب البراق يوم القيامة

روى الحاكم : 3 / 153 ، والطوسي والصدوق في أماليهما / 35 / 275 ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « وأبعث على البراق ، خطوها عند أقصى طرفها ، وتبعث فاطمة « عليها السلام » أمامي » .
وفي الخصال / 203 : « عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما في القيامة راكب غيرنا ونحن أربعة ، فقام إليه العباس بن عبد المطلب فقال : من هم يا رسول الله ؟ فقال : أما أنا فعلى البراق ووجهها كوجه الإنسان وخدها كخد الفرس ، وعرفها من لؤلؤ مسموط ، وأذناها زبرجدتان خضراوان ، وعيناها مثل كوكب الزهرة ، تتوقدان مثل النجمين المضيئين ، لها شعاع مثل شعاع الشمس ، ينحدر من نحرها الجمان ، مطوية الحلق طويلة اليدين والرجلين ، لها نفس كنفس الآدميين ، تسمع الكلام وتفهمه ، وهي فوق الحمار ودون البغل .
قال العباس : ومن يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : وأخي صالح على ناقة الله عز وجل التي عقرها قومه ، قال العباس : ومن يا رسول الله ؟ قال : وعمي حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، سيد الشهداء على ناقتي العضباء ، قال العباس : ومن يا رسول الله ؟ قال : وأخي علي على ناقة من نوق الجنة ، زمامها من لؤلؤ رطب عليها محمل من ياقوت أحمر ، قضبانه من الدر الأبيض ، على رأسه تاج من نور عليه حلتان خضراوان ، بيده لواء الحمد وهو ينادي : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله . فيقول الخلائق ما هذا إلا نبي مرسل أو ملك مقرب ، فينادي مناد من بطنان العرش : ليس هذا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا حامل عرش ، هذا علي بن أبي طالب وصي رسول رب العالمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين » ! ونحوه أمالي الطوسي / 258 .
وقال الصدوق في الخصال : هذا حديث غريب لما فيه من ذكر البراق ووصفه ، وذكر حمزة بن عبد المطلب .
وفي أمالي الصدوق / 275 : « لن يركب إلا أربعة : أنا وعلي وفاطمة وصالح نبي الله » .
--------------------------- 264 ---------------------------
أقول : تفاوتت الرواية في عد الركبان فبعضها عد منهم الزهراء « عليها السلام » فيكونون خمسة ، ومنهم عدهم أربعة فيكون المقصود الرجال . ولم تبين الرواية مكان ركوبهم أو زمانه . على أن أسانيدها ليست قوية .

13 - ركب إبراهيم ( ( ع ) ) البراق والمهدي ( ( ع ) ) سيركبه

روى القمي في تفسيره : 1 / 60 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن الله تعالى حمل إبراهيم على البراق إلى مكة . وروي أن المهدي ( عليه السلام ) يأتيه جبرئيل بالبراق فيركبه من المدينة إلى مكة : « فيأخذ بيده ويصافحه ويسلم عليه ويقول له : قم ويجيؤه بفرس يقال له البراق فيركبه ثم يأتي إلى جبل رضوى ، فيأتي محمد ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) فيكتبان له عهداً منشوراً يقرؤه على الناس ، ثم يخرج إلى مكة والناس يجتمعون بها . قال : فيقوم رجل منه فينادي : أيها الناس هذا طلبتكم قد جاءكم يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول الله . قال : فيقوم هو بنفسه فيقول : أيها الناس أنا فلان بن فلان ، أنا ابن نبي الله ، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله . فيقومون إليه ليقتلوه فيقوم ثلاث مائة وينيف على الثلاث مائة فيمنعونه ، منه خمسون من أهل الكوفة ، وسائرهم من أفناء الناس لا يعرف بعضهم بعضاً ، اجتمعوا على غير ميعاد » .
معجم المهدي : 3 / 198 .

14 - قميص المعراج وقميص أحُد من ماريث الأنبيا ( ( عليهم السلام ) )

في الكافي : 1 / 236 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما عرض على عمه العباس قبول ديونه وعداته فاعتذر ، ثم عرضها على علي ( عليه السلام ) فقبلها ، فأمر بإحضارها ، وفيه : « يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية . . . والقميصين : القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي جُرح فيه يوم أحد . . . فقال : إقبضها
في حياتي » .
أقول : يظهر من أحاديث المعراج أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ركب على وسيلة خاصة ، وأنه استعمل الاسم الأعظم ، وأنه لبس قميصاً خاصاً .
--------------------------- 265 ---------------------------

15 - معنى سدرة المنتهى

روى البخاري عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : 4 / 249 : « ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال : هذه سدرة المنتهى » .
فسدرة المنتهى عند هذا الراوي شجرة سدر ، لكن ثمرها نبق كبير ، الواحدة منه بقدر قربة ماء كبيرة ، من قِلال هجر البحرين ، أوهجر المدينة !
وهذا تبسيط عامي لسدرة المنتهى ، لكن أهل البيت « عليهم السلام » رووا أنها شجرة خاصة في عوالم أنوار الله تعالى ، وأن منطقتها آخر ما يمكن أن يصل اليه مخلوق .
ففي الإحتجاج : 1 / 361 : « ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى . يعني : محمداً كان عند سدرة المنتهى ، حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز وجل » .
وفي المحاسن : 2 / 334 : « قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : إنما سميت سدرة المنتهى ، لأن أعمال
أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محل السدرة . وقال : الحفظة الكرام البررة دون السدرة ، يكتبون ما ترفعه إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض وينتهون بها إلى محل السدرة » .
وفي قرب الإسناد / 101 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الورقة منها تظل الدنيا ، وعلى كل ورقة ملك يسبح الله ، يخرج من أفواههم الدر والياقوت ، تبصر اللؤلؤة مقدار خمس مائة عام ، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور ، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى ، فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا : يا محمد مرحباً بك ، فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان ، قد اهتزت فرحاً لمجيئك ، فسمعت الجنان تنادي : واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين » .
وفي دلائل الإمامة / 100 : « عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : لما زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة من علي « عليهما السلام » أتاه أناس من قريش فقالوا : إنك زوجت علياً بمهر قليل ! فقال : ما أنا زوجت علياً ولكن الله زوجه ليلة أسريَ بي إلى السماء ، فصرت عند سدرة المنتهى أوحى الله إلى السدرة :
--------------------------- 266 ---------------------------
أن انثري ما عليك ، فنثرت الدر والجوهر والمرجان ، فابتدر الحور العين فالتقطن ، فهن يتهادينه ويتفاخرن به ، ويقلن : هذا من نثار فاطمة بنت محمد » .

16 - لم يرَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ربه بعىنه بل رأى من آياته الكبرى

عقد في الكافي : 1 / 95 باباً في تنزيه الله تعالى عن الخضوع لقوانين الزمان والمكان ، والرؤية بالعين ، وروى فيه بضعة عشر حديثاً ، منها حديثان عن الكندي الفيلسوف يعقوب بن يوسف ، من رسالتين بعث بهما إلى الإمام العسكري ( عليه السلام ) :
1 - عن يعقوب بن إسحاق قال : « كتبت إلى أبي محمد « الحسن العسكري ( عليه السلام ) » أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه ؟ فوقع ( عليه السلام ) : يا أبا يوسف ، جل سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يرى . وسألته : هل رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ربه ؟ فوقع ( عليه السلام ) : إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب » .
2 - عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : « جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته ؟ قال فقال : ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره ! قال : وكيف رأيته ؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان » .
3 - عن عاصم بن حميد قال : « ذاكرت أبا عبد الله ( عليه السلام ) فيما يروون من الرؤية فقال : الشمس جزء من سبعين جزءً من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءً من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءً من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءً من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب » .
4 - عن صفوان بن يحيى قال : « سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة : إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ، فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية !
--------------------------- 267 ---------------------------
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس : لاتُدْرِكُهُ الأبْصَار ، ولا يحُيطون به علماً ، ولَيْسَ كمثلهِ شَئ ، أليس محمد ؟ قال : بلى . قال : كيف يجيئ رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول : لا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شئ ، ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ؟ ! أما تستحون ! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر !
قال أبو قرة : فإنه يقول : ولقد رآه نزلةً أخرى ، فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ما كذب الفؤاد ما رأى ، يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى فقال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، فآيات الله غير الله ، وقد قال الله : وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْما ، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة ! فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات ؟ فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شئ » .
5 - عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال : « قلت لأبي جعفر « الإمام الجواد ( عليه السلام ) » : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ؟ فقال : يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ، ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون » !
6 - عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لما أسري بي إلى السماء ، بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه قط جبرئيل . فكُشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب .
وفي الكافي : 1 / 443 : « فخلى عنه فقال له : يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة ؟ فقال : إمضه ، فوالله لقد وطأت مكاناً ما وطأه بشر ، وما مشى فيه بشرٌ قبلك » .
7 - وروى الصدوق في التوحيد / 117 ، بسند صحيح عن أبي الصلت الهروي قال : « قلت لعلي بن موسى الرضا « عليهما السلام » : يا ابن رسول الله ، فما معنى الخبر
--------------------------- 268 ---------------------------
الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله ؟ فقال ( عليه السلام ) : يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم ، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته ، وقال الله عز وجل : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك . وقال عز وجل : كل شئ هالك إلا وجهه » .

17 . زعم أتباع السلطة أنه رأى ربه في داره شاباً أمرد !

قال البخاري : 8 / 205 في حديث فرض الصلاة وأن موسى ( عليه السلام ) قال له إرجع وأطلب من الله تخفيف الصلاة عن أمتك : « فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت ، فعلا به إلى الجبار وهو في مكانه فوضع عنه عشراً » !
ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رأى الله على صورة شاب أمرد ، يلبس قبقاباً من ذهب ! وتبناه ابن تيمية في منهاج السنة / 634 وفي نقض التأسيس : 3 / 241 ، فقال : « سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه ؟ قال : نعم . قال : وكيف رآه ؟ قال : في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ ، كأن قدميه في خضرة . . وهذا يدل على أنه رآه . وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة ، وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم ، فيقتضي أنها رؤية عين ، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : رأيت ربي في صورة شاب أمرد ، له وفرة ، جعد ، قطط ، في روضة خضراء » !
وكذلك تبناه في كتابه بيان تلبيس الجهمية / 223 ، ونقل عن الطبراني أنه قال : « روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة ، عن قتادة . . ونقل عن ابن صدقة الحافظ قوله : من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق !
ثم روى أن عبد الله بن عمر سأل ابن عباس فأجابه : نعم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب ، على كرسي من ذهب ، تحمله أربعة من الملائكة » .
ثم قال ابن تيمية : « وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال : باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي ( صلى الله عليه وآله ) خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت ، وذكر أن الله
--------------------------- 269 ---------------------------
نبيه خصَّ محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بالرؤية كما خص إبراهيم ( عليه السلام ) بالخلة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعاً ، وكما خص موسى ( عليه السلام ) بالكلام ، كل واحد بفضيلة ، كما أخبرنا عز وجل في محكم تنزيله بقوله : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ . البقرة 253 .
ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب . . فأما خبر قتادة والحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وخبر عبد الله بن أبي سلمة ، عن ابن عباس ، فبينٌ واضحٌ أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رأى ربه ، وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق ، وأنها تفيد رؤية العين لله » .
وزعم ابن تيمية أن كل ما في التوراة من تجسيم يطابق السنة ! ولذا رد الأحاديث التي تنفي الرؤية بالعين ، وتشبث بأحاديث التجسيم حتى الضعيفة كحديث لقيط العقيلي في العماء ، وحديث أم الطفيل عن معبودهم الشاب الأمرد ، اللابس نعلين من ذهب ، وحديث الأوعال والأسد والثور التي تحمل عرشه ، كما في التوراة ، وحديث طقطقة العرش وصريره وأزيزه ، لأن خشبه جديد كمحمل الجمل ! وأنه يفضل من العرش أربع أصابع ، فيُقعد فيها إلى جانبه من يحبه . . . إلخ .
فالتوراة في عقيدته هي الأساس ، والسنة يجب أن تخضع لها ، والقرآن أيضاً !
وقال ابن باز « 4 / 368 رقم 2331 » : « خلق الله آدم على صورته ، طوله ستون ذراعاً ! وهو حديث صحيح ولا غرابة في متنه . . الضمير في قوله : على صورته ، يعود على الله ، بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة : على صورة الرحمن » !
وقال الألباني أيضاً في فتاويه / 506 : « هل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى ؟ جواب : الهرولة كالمجئ والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها .
وأثبت له ابن باز صفة الهرولة ، قال في فتاويه : 5 / 374 : « ومن تقرب إلي ذراعاً
--------------------------- 270 ---------------------------
تقربت إليه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً . . . أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة » .
ورووا أن الله يجلس على كرسي ويُجلس حوله النبيين « عليهم السلام » : 2 / 58 : « عن أنس : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء . . . قال لأن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الجنة وادياً من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه تبارك وتعالى ، ثم حف كرسيه منابر من ذهب مكللة بالجواهر ، ثم يجئ النبيون حتى يجلسوا عليها » !
ووصف البدوي أمية بن الصلت ربه وزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صدَّقه « الإصابة 549 » :
رجل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليثٌ مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلةٍ * فجراً وتصبح لونها يتوقد
تأبى فما تطلع لهم في وقتها * إلا معذبةً ، وإلا تُجلدُ » .
وفي جزء الشعر للنابلسي / 90 : أخرجه أحمد في المسند : 1 / 256 ، وقد صحح العلامة أحمد شاكر إسناده وابن أبي شيبة في المصنف : 8 / 505 ، برقم : 6064 وأبو يعلى في مسنده : 4 / 365 .
وأصله رواية البخاري : « 3 / 30 و 4 / 178 ومسلم : 1 / 96 » : « أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش » . أما أهل البيت « عليهم السلام » فردوا كل هذه الروايات وكل أنواع التجسيم والتشبيه .

18 - أخذ الله ميثاق الأنبياء ( ( عليهم السلام ) ) للنبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الكافي : 3 / 302 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء فبلغ البيت المعمور ، وحضرت الصلاة فأذن جبرئيل وأقام ، فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصَفَّ الملائكةُ والنبيون خلف محمد ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفي علل الشرائع : 1 / 8 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تقدم يا جبرئيل ، فقال له : إنا لا نتقدم على الآدميين ، منذ أُمرنا بالسجود لآدم » .
وفي الكافي : 8 / 120 : « عن أبي الربيع قال : حججنا مع أبي جعفر ( عليه السلام ) في السنة التي
--------------------------- 271 ---------------------------
كان حج فيها هشام بن عبد الملك ، وكان معه نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب « من علماء النصارى والسلطة » فنظر نافع إلى أبي جعفر ( عليه السلام ) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع : يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداكَّ عليه الناس ؟ فقال : هذا نبي أهل الكوفة ، هذا محمد بن علي ! فقال : أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لايجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي ! قال : فاذهب إليه وسله لعلك تخجله ، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقال : يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي ! قال : فرفع أبو جعفر ( عليه السلام ) رأسه فقال : سل عما بدا لك . فقال : أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة ؟ قال : أخبرك بقولي أو بقولك ؟ قال : أخبرني بالقولين جميعاً . قال : أما في قولي فخمس مائة سنة ، وأما في قولك فست مائة سنة . قال : فأخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ؟ ! قال : فتلا أبو جعفر ( عليه السلام ) هذه الآية : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً ( صلى الله عليه وآله ) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعاً وأقام شفعاً ، وقال في أذانه : حي على خير العمل ، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم : على ما تشهدون وما كنتم تعبدون ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا . . فولَّى « نافع » من عنده وهو يقول : أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً ، فأتى هشاماً فقال له : ما صنعت ؟ قال : دعني من كلامك هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً ، وهو ابن رسول الله حقاً ، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً » .
أقول : نصت أكثر الأحاديث على صلاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالأنبياء « عليهم السلام » في البيت المعمور
--------------------------- 272 ---------------------------
في السماء الرابعة ، وقد يوهم هذا الحديث بأن الصلاة في بيت المقدس وهو بعيد .
وفي نوادر المعجزات / 72 ، ونحوه في العياشي : 2 / 128 عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « فلما أقام الصلاة قال : يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لا يعلم عددهم إلا الله ، فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصلى بهم جميعاً ركعتين ، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر : يا محمد : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . قال : فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى من خلفه من الأنبياء فقال : على ما تشهدون ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأن لكل نبي منا خلفا وصياً من أهله ، ما خلا هذا فإنه لا عصبة له ، يعنون بذلك عيسى بن مريم ( عليه السلام ) . ونشهد أنك سيد النبيين ، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء ، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا » .
وفي مائة منقبة لابن أحمد القمي / 150 ، عن ابن عباس : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما عرج بي إلى السماء انتهى بي المسير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة ، فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر فقال جبرئيل هذا هو البيت المعمور ، خلقه الله تعالى قبل السماوات والأرضين بخمسين ألف عام ، قم يا محمد فصلِّ إليه . . ثم أمر الله تعالى حتى اجتمع جميع
الرسل والأنبياء » .
وروى الحاكم في المعرفة / 96 ، عن عبد الله بن عمر : « قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا عبد الله أتاني ملك فقال : يا محمد ، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ، على ما بعثوا ؟ قال قلت : على ما بعثوا ؟ قال على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب ! قال الحاكم : ولم نكتبه إلا عن بن مظفر ، وهو عندنا حافظ ثقةٌ مأمون » .
وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « لما أسري بي ليلة المعراج اجتمع عليَّ الأنبياء في السماء فأوحى الله إلي : سلهم يا محمد بماذا بعثتم ؟ قالوا : بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله ، وعلى الإقرار بنبوتك والولاية لعلي بن أبي طالب » . رواه في خصائص الوحي المبين / 170 ، عن الإستيعاب . وفي الطرائف / 101 ، عن أبي نعيم ، وفي ينابيع المودة : 2 / 246 ، عن أبي هريرة . ونهج الحق / 183 ، عن ابن عبد البر وغيره . ومنهاج الكرامة / 130 ، وفي هامشه الصراط المستقيم 1 / 181 ، عن الثعلبي والزمخشري في
--------------------------- 273 ---------------------------
الكشاف : 4 / 94 والكنجي في كفاية الطالب / 136 . وأورده في نفحات الأزهار : 5 / 260 و 16 / 366 ، وردَّ في : 20 / 392 و 396 ، على إنكار ابن تيمية وجود الحديث ، وبحث سنده في مصادر السنة .
روى القمي في تفسيره : 1 / 246 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أول من سبق من الرسل إلى : بَلَى ، محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى ، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء : تقدم يا محمد فقد وطأت موطئاً لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل ! ولولا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه ، فكان من الله عز وجل كما قال الله : قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، أي بل أدنى » .
وفي المحتضر / 266 ، في حديث الجالوت النصراني : « فقال رسول الله : يا جالوت ، ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله تعالى إليَّ أن : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا . . على ما بعثوا ؟ فقلت لهم : على ماذا بعثتم ؟ قالوا : على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريتكما . ثم أوحى إليَّ أن التفت إلى يمين العرش ، فالتفت فإذا علي ، والحسن ، والحسين ، وعلي ، ومحمد ، وجعفر ، وموسى ، وعلي ، ومحمد ، وعلي ، والحسن ، والمهدي ، في ضحضاح من نور يُصلون . فقال الرب تعالى : هؤلاء الحجج أوليائي ، وهذا منهم المنتقم من أعدائي . قال الجالوت فقلت : هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور » .

19 - حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع ملك الموت ( ( ع ) )

في تفسير القمي : 2 / 168 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أسري بي إلى السماء رأيت ملكاً من الملائكة بيده لوح من نور ، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ، مقبلاً عليه كهيئة الحزين ، فقلت من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا ملك الموت مشغول في قبض الأرواح . فقلت : أدنِني منه يا جبرئيل لأكلمه ، فأدناني منه فقلت له : يا ملك الموت ، أكل من مات أو هو ميت فيما بعد أنت تقبض روحه ؟ قال : نعم . قلت : وتحضرهم بنفسك ؟ قال : نعم ، وما الدنيا كلها عندي
--------------------------- 274 ---------------------------
فيما سخرها الله لي ومكنني منها ، إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء ، وما من دار في الدنيا إلا وأدخلها في كل يوم خمس مرات ، وأقول إذا بكى أهل البيت على ميتهم : لا تبكوا عليه ، فإن لي إليكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد ! فقال رسول الله : ( صلى الله عليه وآله ) كفى بالموت طامة يا جبرئيل ! فقال جبرئيل : إنما بعد الموت أطم وأعظم من الموت » .
وفي الكافي : 3 / 136 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على رجل من أصحابه وهو يجود بنفسه فقال : يا ملك الموت إرفق بصاحبي فإنه مؤمن ، فقال : أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق ، واعلم يا محمد أني أقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول : ما هذا الجزع ! فوالله ما تعجلناه قبل أجله ، وما كان لنا في قبضه من ذنب ! فإن تحتسبوا وتصبروا تؤجروا ، وإن تجزعوا تأثموا وتوزروا ، واعلموا أن لنا فيكم عودة ثم عودة ! فالحذر الحذر إنه ليس في شرقها ولا في غربها أهل بيت مدر ولا وبر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ، ولأنا أعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، ولو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتى يأمرني ربي بها ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنما يتصفحهم في مواقيت الصلاة ، فإن كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ونحى عنه ملك الموت إبليس » .
وفي نوادر المعجزات / 66 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي لمَّا عرج بي إلى السماء سلم عليَّ ملك الموت ثم قال لي : يا محمد ما فعل ابن عمك علي ؟ قلت : وكيف سألتني عنه يا عزرائيل ؟ قال : إن الله تعالى أمرني أن أقبض أرواح الخلائق كلهم إلا أنت وابن عمك ، فالله تعالى يقبض أرواحكما بيده » .

20 - آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون

في تفسير القمي : 1 / 95 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « هذه الآية مشافهة الله تعالى لنبيه ليلة أسريَ به إلى السماء ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : انتهيت إلى محل سدرة المنتهى وإذا بورقة
--------------------------- 275 ---------------------------
منها تظل أمة من الأمم ، فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى ، كما حكى الله عز وجل ، فناداني ربي تبارك وتعالى : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ . فقلت أنا مجيباً عني وعن أمتي : وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . فقال الله : لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ . فقلت : رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا . وقال الله : لا أؤاخذك ، فقلت : رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاتُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . البقرة : 285 - 286 .
فقال الله تعالى : قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك . فقال الصادق ( عليه السلام ) : ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، حيث سأل لأمته هذه الخصال » .
وفي المحاسن : 1 / 136 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لقد أسرى بي فأوحى الله إلي من وراء الحجاب ما أوحى ، وشافهني من دونه بما شافهني ، فكان فيما شافهني أن قال : يا محمد ، من أذلَّ لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة ، ومن حاربني حاربته ، قال فقلت : يا رب ومن وليك هذا ؟ فقد علمت أنه من حاربك حاربته ، فقال : ذلك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولورثتكما بالولاية » .

21 - كلم الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المعراج بصوت علي ( ( ع ) )

عقيدتنا أن الله تعالى ليس كمثله شئ ولا تدركه الأبصار ، ولا يخضع لقوانين المكان والزمان فهو خالقهما ، ومعنى قوله : وكَلَّمَ اللهُ موسَى تكليماً : أنه خلق صوتاً في شجرة أو في جبل ، فكان موسى يسمع الصوت من جميع الجهات كما روي .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « فسبحان من توحد في علوه ، فليس لشئ منه امتناع ، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع ، إجابته للداعين سريعة ، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة . كلم موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات ، ولا شفةٍ ولا لهوات ، سبحانه وتعالى عن الصفات ، فمن زعم أن إلهَ الخلق محدود ، فقد جهل الخالق المعبود » . التوحيد للصدوق / 79 وفتح الباري : 13 / 383 .
--------------------------- 276 ---------------------------
ولا بد أن يكون الصوت الذي كلم الله به موسى صوتاً يحبه موسى ، وقد روي أنه صوت أخيه هارون « عليهما السلام » ، وكذلك الأمر في نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) عندما عرج به ، فقد روى الفريقان أن الله تعالى كلمه بصوت علي ( عليه السلام ) .
روى الموفق الخوارزمي في المناقب / 78 ، عن عبد الله بن عمر قال : « سمعت رسول الله وسئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج ؟ فقال : خاطبني بلغة علي بن أبي طالب فألهمني أن قلت يا رب خاطبتني أنت أم علي ؟ فقال يا أحمد أنا شئ ليس كالأشياء ، لا أقاس بالناس ، ولا أوصف بالشبهات ، خلقتك من نوري وخلقت علياً من نورك ، فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد في قلبك أحب إليك من علي بن أبي طالب . خاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك » . ومنهاج الكرامة / 90 .
وفي المحتضر للحسن بن سليمان الحلي / 146 ، عن ابن عباس من حديث المعراج : « فناداني ربي : يا أحمد ! وعزتي وجلالي وجودي ومجدي وارتفاعي في علو مكاني لقد اطلعت على سرك وما استكن في صدرك فلم أجد أحداً أحب إليك من علي في سرك فخاطبتك بلسانه ، لتطمئن إلى الكلام وتهدأ في الخطاب ، ولو خاطبتك بلسان الجبروت لما استطعت أن تسمع » .
وفي الإحتجاج : 1 / 230 عن القاسم بن معاوية قال : « قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : هؤلاء يروون حديثاً في معراجهم أنه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ! فقال : سبحان الله غيروا كل شئ حتى هذا ! قلت : نعم . قال : إن الله عز وجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين ، ولما خلق الله عز وجل الماء كتب في مجراه : لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين . . . فإذا قال أحدكم : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فليقل علي أمير المؤمنين » .
وقال في الصحيح من السيرة : 3 / 15 : « وإذا كان الإسراء قد حصل قبل إسلامه بمدة طويلة ، فلا يبقى مجال لتصديق ما يذكر هنا من أنه قد سمي صديقاً حينما صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قضية الإسراء ، ولا لما يذكرونه من أن ملكاً كان يكلم رسول الله
--------------------------- 277 ---------------------------
حين المعراج بصوت أبي بكر « الدر المنثور : 4 / 155 » . وقد صرح الحفاظ بكذب طائفة من تلك الروايات . والصحيح أنه كلمه بصوت علي ( عليه السلام ) » .

22 - أراه الله تعالى مكانة المؤمن عنده

في الكافي : 2 / 352 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا رب ما حال المؤمن عندك ؟ قال : يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائي . وما ترددت عن شئ أنا فاعله كترددي عند وفاة المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك . وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته » .

23 - تشريع الصلاة في المعراج

اتفقت المصادر على أن تشريع فريضة الصلاة اليومية كان في معراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويبدو أنه في أول معراج له ، ففي تهذيب الأحكام : 2 / 60 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذن جبرئيل ( عليه السلام ) وأقام فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصفَّ الملائكة والنبيون خلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
قال فقلنا له : كيف أَذَّنَ ؟ فقال : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، حي على خير العمل حي على خير العمل . الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله لا إله إلا الله .
والإقامة مثلها إلا أن فيها قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، بين حي على
--------------------------- 278 ---------------------------
خير العمل حي على خير العمل ، وبين الله أكبر الله أكبر ، فأمر بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بلالاً ، فلم يزل يؤذن بها حتى قبض الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفي نوادر المعجزات / 72 والعياشي : 2 / 128 : « فلما أقام الصلاة قال : يا محمد قم فصل بهم واجهر بالقرآن إلى خلفك وزمرٍ من الملائكة والنبيين لا يعلم عددهم إلا الله ، فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصلى بهم جميعاً ركعتين ، فجهر بهما بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ، فلما سلم وانصرف من صلاته أوحى الله تعالى إليه كلمح البصر : يا محمد : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . قال : فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى من خلفه من الأنبياء فقال : على مَ تشهدون ؟ قالوا : نشهد أنك سيد النبيين ، ونشهد أن علياً وصيك سيد الأوصياء ، وعلى ذلك أخذت مواثيقنا » .
أقول : ما تقدم هوالأذان في مذهبنا ، وقد حذف منه عمر « حي على خير العمل » لكن ابنه عبد الله كان يؤذن بها ويقول : هو الأذان الأول ! « نيل الأوطار : 2 / 19 » . أما أشهد أن علياً ولي الله ، فنقولها استحباباً بعد الشهادة بالنبوة ، لأنه يستحب كلما شهدت بالنبوة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن تشهد بالولاية لعلي والعترة « عليهم السلام » .
قال السيد الخوئي « رحمه الله » « صراط النجاة : 3 / 318 » في جواب سؤال : هل وردت رواية من المعصوم باستحبابها ؟ فقال : الرواية واردة باستحباب الشهادة بالولاية له ( عليه السلام ) متى شُهد بالنبوة لا في خصوص الأذان والإقامة ، ولذا لا نعدها جزءً منهما » . وقال السيد السيستاني « منهاج الصالحين / 191 » : « الشهادة لعلي ( عليه السلام ) بالولاية وإمرة المؤمنين مكملة للشهادة بالرسالة ومستحبة في نفسها ، وإن لم تكن جزء من الأذان ولا الإقامة ، وكذا الصلاة على محمد وآل محمد ( صلى الله عليه وآله ) عند ذكر اسمه الشريف » .
كما روت مصادر الطرفين أن الله تعالى فرض على النبي ( صلى الله عليه وآله ) خمسين صلاة كل يوم ثم قال له موسى ( صلى الله عليه وآله ) إن أمتك لا تطيق ، فاطلب من الله تعالى أن يخفف عنها فطلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) من ربه فجعلها خمس صلوات .
ففي الفقيه : 1 / 198 : « عن زيد بن علي « رحمه الله » قال : سألت أبي سيد العابدين ( عليه السلام ) فقلت له : يا أبه أخبرني عن جدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما عرج به إلى السماء وأمره ربه عز وجل بخمسين
--------------------------- 279 ---------------------------
صلاة ، كيف لم يسأله التخفيف عن أمته حتى قال له موسى بن عمران ( عليه السلام ) إرجع إلى ربك فسله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ؟ فقال : يا بني ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يقترح على ربه عز وجل ولا يراجعه في شئ يأمره به ، فلما سأله موسى ( عليه السلام ) ذلك وصار شفيعاً لأمته إليه لم يجز له رد شفاعة أخيه موسى ( عليه السلام ) ، فرجع إلى ربه يسأله التخفيف إلى أن ردها إلى خمس صلوات . قال : فقلت له : يا أبه ، فلم لم يرجع إلى ربه عز وجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى ( عليه السلام ) أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف ؟ فقال : يا بني ، أراد ( صلى الله عليه وآله ) أن يحصل لأمته التخفيف مع أجرخمسين صلاة ، لقول الله عز وجل : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . ألا ترى أنه ( صلى الله عليه وآله ) لما هبط إلى الأرض نزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد ، إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إنها خمس بخمسين : مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ للَّعَبِيدِ . قال فقلت له : يا أبه ، أليس الله تعالى ذكره لا يوصف بمكان ؟ فقال : بلى ، تعالى الله عن ذلك . فقلت : فما معنى قول موسى ( عليه السلام ) لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إرجع إلى ربك ؟ فقال : معناه معنى قول إبراهيم ( عليه السلام ) : إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ ، ومعنى قول موسى ( عليه السلام ) : وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لتَرْضَى طه / 84 ، ومعنى قوله عز وجل : فَفِرُّوا إلى الله ، يعني حجوا إلى بيت الله . يا بُني ، إن الكعبة بيت الله فمن حج بيت الله فقد قصد إلى الله ، والمساجد بيوت الله فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه ، والمصلي ما دام في صلاته فهو واقف بين يدي الله جل جلاله ، وأهل موقف عرفات هم وقوف بين يدي الله عز وجل . وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها ، فقد عرج به إليه ، ألا تسمع الله عز وجل يقول : تَعْرُجُ الملَائكةُ والرُّوحُ إليْه . ويقول عز وجل في قصة عيسى ( عليه السلام ) : بَلْ رَفَعَهُ الله إليْه ، ويقول عز وجل : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » .
ملاحظات
1 . شرح الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لولده زيد رضوان الله عليه ، في هذا الحديث سبب عدم اقتراح النبي ( صلى الله عليه وآله ) على ربه ، وسبب قبوله اقتراح موسى ( عليه السلام ) ، ثم معنى
--------------------------- 280 ---------------------------
رجوعه إلى ربه أي إلى المكان الذي كلمه منه . وقد جعله المجسمة مكان الله تعالى !
2 . نلاحظ أن الشيعة والسنة رووا أن تشريع الصلاة بصورتها الفعلية تكوَّن من أحداث مراسم خضوع النبي ( صلى الله عليه وآله ) لربه في معراجه .
ونلاحظ أن أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » أكثر دقة وتفصيلاً ، ومنطقية .

24 - ردَّ أهل البيت ( ( عليهم السلام ) ) مزا عم الآخرين في تشريع الأذان

ردَّت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » رواية السلطة بأن تشريع الأذان كان بسبب أن بعض الصحابة وهو عمر بن الخطاب أو أبيُّ بن كعب أو عبد الله بن زيد ، رأى الأذان في منامه ، فاقترحه على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأدخله في الإسلام !
ففي الكافي : 3 / 482 عن عمر بن أذينة أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال له : « ما تروي هذه الناصبة ؟ فقلت : جعلت فداك في ماذا ؟ فقال : في أذانهم وركوعهم وسجودهم ؟ فقلت : إنهم يقولون : إن أبي بن كعب رآه في النوم ! فقال : كذبوا فإن دين الله عز وجل أعز من أن يرى في النوم ! قال : فقال له سدير الصيرفي : جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إن الله عز وجل لما عرج بنبيه إلى سماواته السبع ، أما أولاهن فبارك عليه ، والثانية علمه فرضه ، فأنزل الله محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور ، كانت محدقة بعرش الله تغشي أبصار الناظرين . أما واحد منها فأصفر ، فمن أجل ذلك اصفرَّت الصفرة ، وواحد منها أحمر فمن أجل ذلك احمرت الحمرة ، وواحد منها أبيض ، فمن أجل ذلك ابيضَّ البياض ، والباقي على ساير عدد الخلق من النور والألوان ، في ذلك المحمل حلق وسلاسل من فضة .
ثم عرج به إلى السماء ، فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت : سبوح قدوس ما أشبه هذا النور بنور ربنا ، فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : الله أكبر الله أكبر . ثم فتحت أبواب السماء ، واجتمعت الملائكة فسلمت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أفواجاً . . الحديث . . » . وذكر فيه تشريع الأذان والصلاة .
كما روينا أن التكبيرات السبع المستحبة في أول الصلاة ، جاءت من تكبير
--------------------------- 281 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما تخطى الحجب السبع . ثم من تعليمه التكبير للحسين ( عليه السلام ) لما كبَّر أمامه يعلمه التكبير ، حتى وصل إلى التكبيرة السابعة ، فكبر الحسين ( عليه السلام ) وانفتح لسانه . راجع : الكافي : 3 / 487 ، علل الشرائع : 2 / 332 والمختلف للعلامة الحلي : 2 / 186 .
وقد يقال : كيف يشرع الله تعالى استحباب التكبير للأمة ست مرات قبل تكبيرة الإحرام ، بسبب أن الحسين ( عليه السلام ) لم ينفتح لسانه بالتكبير إلا في المرة السابعة ؟ وجوابه : كما شرع الله تعالى وجوب السعي في الحج ، بسبب سعي هاجر « عليها السلام » بين الصفا والمروة تطلب الماء ! والحسين ( عليه السلام ) أفضل من هاجر « عليها السلام » .

25 - أخبر الله تعالى نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه سيمتحنه في ثلاث

في كامل الزيارات / 547 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء قيل له : إن الله تبارك وتعالى يختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك ؟
قال : أسلِّمُ لأمرك يا رب ، ولا قوة لي على الصبر إلا بك ، فما هن ؟
قيل له : أولاهن : الجوع والأثرة على نفسك وعلى أهلك ، لأهل الحاجة !
قال : قبلت يا رب ورضيت وسلمت ، ومنك التوفيق والصبر .
وأما الثانية ، فالتكذيب والخوف الشديد ، وبَذْلُكَ مهجتك في محاربة أهل الكفر بمالك ونفسك ، والصبر على ما يصيبك منهم ومن أهل النفاق من الأذى والألم في الحرب والجراح . قال : قبلت يا رب ورضيت وسلمت ، ومنك التوفيق والصبر .
وأما الثالثة ، فما يلقي أهل بيتك من بعدك من القتل ، أما أخوك علي فيلقى من أمتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجحد والظلم ، وآخر ذلك القتل ، فقال : يا رب قبلت ورضيت ، ومنك التوفيق والصبر .
قال : وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصباً الذي تجعله لها ، وتضرب وهي حامل ، ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن ، ثم يمسها هوان وذل ، ثم لا تجد مانعاً ، وتطرح ما في بطنها من الضرب ، وتموت من ذلك الضرب !
--------------------------- 282 ---------------------------
قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قبلت يا رب وسلمت ، ومنك التوفيق للصبر . ويكون لها من أخيك ابنان ، يقتل أحدهما غدراً ويسلب ويطعن ، تفعل به ذلك أمتك ، قلت : يا رب قبلت وسلمت ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ومنك التوفيق للصبر . وأما ابنها الآخر فتدعوه أمتك للجهاد ثم يقتلونه صبراً ، ويقتلون ولده ومن معه من أهل بيته ثم يسلبون حرمه ، فيستعين بي وقد مضى القضاء مني فيه بالشهادة له ولمن معه ، ويكون قتله حجة على من بين قطريها ، فيبكيه أهل السماوات وأهل الأرضين جزعاً عليه ، وتبكيه ملائكة لم يدركوا نصرته .
ثم أخرج من صلبه ذكراً به أنصرك ، وإن شبحه عندي تحت العرش يملأ الأرض بالعدل ويطبقها بالقسط ، يسير معه الرعب ، يقتل حتى يُشك فيه .
قلت : إنا لله . فقيل : إرفع رأسك ، فنظرت إلى رجل أحسن الناس صورة وأطيبهم ريحاً ، والنور يسطع من بين عينيه ومن فوقه ومن تحته ، فدعوته فأقبل إليَّ وعليه ثياب النور وسيماء كل خير ، حتى قبَّل بين عينيَّ ، ونظرت إلى الملائكة قد حفوا به لايحصيهم إلا الله عز وجل . فقلت : يا رب لمن يغضب هذا ، ولمن أعددت هؤلاء ، وقد وعدتني النصر فيهم فأنا أنتظره منك .
وهؤلاء أهلي وأهل بيتي وقد أخبرتني مما يلقون من بعدي ، ولئن شئت لأعطيتني النصر فيهم على من بغى عليهم ، وقد سلمت وقبلت ورضيت ، ومنك التوفيق والرضا ، والعون على الصبر . فقيل لي : أما أخوك فجزاؤه عندي جنة المأوي نزلاً ، بصبره ، أفلج حجته على الخلائق يوم البعث ، وأوليه حوضك يسقي منه أولياءكم ويمنع منه أعداءكم ، واجعل عليه جهنم برداً وسلاماً ، يدخلها ويخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من المودة ، وأجعل منزلتكم في درجة واحدة في الجنة . وأما ابنك المخذول المقتول ، وابنك المغدور المقتول صبراً ، فإنهما مما أزين بهما عرشي ، ولهما من الكرامة سوى ذلك مما لا يخطر على قلب بشر ، لما أصابهما من البلاء ، فعليَّ فتوكل . ولكل من أتى قبره في الخلق من الكرامة ، لأن زواره زوارك وزوارك زواري وعليَّ كرامة زواري ، وأنا أعطيه ما سأل ، وأجزيه جزاء يغبطه من نظر إلى عظمتي إياه ، وما
--------------------------- 283 ---------------------------
أعددت له من كرامتي .
وأما ابنتك فإني أوقفها عند عرشي فيقال لها : إن الله قد حكمك في خلقه فمن ظلمك وظلم ولدك فاحكمي فيه بما أحببت ، فإني أجيز حكومتك فيهم . . الخ . » .

26 - مكانة عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

من العناصر البارزة في أحاديث المعراج في مصادرنا والى حدٍّ في مصادر أتباع السلطة : المكانة الخاصة لعترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند الله تعالى .
ويكفينا من مصادرهم الحديث الذي نص على أن اسم النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند الله تعالى مقرونٌ باسم علي والأئمة من عترته « عليهم السلام » ، تفسيراً لقوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . « الأنفال 62 » . قال القاضي عياض في الشفاء : 1 / 174 : « وروى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أيدته بعلي » ! ورواه الحسكاني بطرق متعددة في شواهد التنزيل : 1 / 298 ، في : 1 / 293 و 294 ، عن أنس و / 295 ، عن جابر ، / 297 ، عن أبي الحمراء . والدر المنثور : 3 / 199 عن ابن عساكر عن أبي هريرة ، وفي : 4 / 153 ، عن أنس ، الخطيب في تاريخه : 11 / 173 ، عن أبي الحمراء ، كذا ابن عساكر : 16 / 456 ، في : 42 / 336 ، عن جابر بن عبد الله ، في / 360 ، عن أبي هريرة و : 47 / 344 ، عن أنس . . الخ .
وروته مصادرنا ، كالصدوق في أماليه / 284 ، عن أبي هريرة ، وأبي الحمراء . والخزاز القمي في كفاية الأثر / 74 ، كاملاً ، قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً : لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته . ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور فيهم علي بن أبي طالب وسبطيَّ وبعدهما تسعة أسماء : علياً علياً ثلاث مرات ، ومحمد ومحمد مرتين ، وجعفر وموسى والحسن . والحجة يتلألأ من بينهم ، فقلت : يا رب أسامي من هؤلاء ؟ فناداني ربي جل جلاله : هم الأوصياء من ذريتك ، بهم أثيب وأعاقب » . ونحوه في / 105 ، عن أبي أمامة .
وروى في كفاية الأثر / 116 ، في أحداث حرب الجمل : « نزل أبو أيوب في بعض
--------------------------- 284 ---------------------------
دور الهاشمىين فجمعنا إليه ثلاثين نفساً من شيوخ أهل البصرة ، فدخلنا إليه وسلمنا عليه وقلنا : إنك قاتلت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ببدر وأحد المشركين ، والآن جئت تقاتل المسلمين . فقال : والله لقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لعلي : إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين قلنا : آلله إنك سمعت من رسول الله في علي ؟ قال : سمعته يقول : علي مع الحق والحق معه ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، وابناه الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمة ، إمامان إن قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما ، والأئمة بعد الحسين تسعة من صلبه ، ومنهم القائم الذي يقوم في آخر الزمان كما قمت في أوله ويفتح حصون الضلالة . قلنا : فهذه التسعة من هم ؟ قال : هم الأئمة بعد الحسين خلف بعد خلف . قلنا : فكم عهد إليك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يكون بعده من الأئمة ؟ قال : اثنا عشر . قلنا : فهل سماهم لك ؟ قال : نعم إنه قال ( صلى الله عليه وآله ) : لما عُرج بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش فإذا هو مكتوب بالنور : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أيدته بعلي ونصرته بعلي . ورأيت أحد عشر إسماً مكتوباً بالنور على ساق العرش بعد علي ، منهم الحسن والحسين وعلياً علياً علياً ومحمداً ومحمداً ، وجعفراً وموسى والحسن ، والحجة . قلت : إلهي من هؤلاء الذين أكرمتهم وقرنت أسماءهم باسمك ؟ فنوديت : يا محمد هم الأوصياء بعدك والأئمة ، فطوبى لمحبيهم والويل لمبغضيهم ! قلنا : فما لبني هاشم ؟ قال : سمعته يقول لهم : أنتم المستضعفون من بعدي . قلنا : فمن القاسطين والناكثين والمارقين ؟ قال : الناكثين الذين قاتلناهم ، وسوف نقاتل القاسطين والمارقين ، فإني والله لا أعرفهم غير أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : في الطرقات بالنهروانات » !
وروى نحوه / 136 ، عن حذيفة بن اليمان وفي آخره : « يا محمد إنهم هم الأوصياء والأئمة بعدك ، خلقتهم من طينتك ، فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم ، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب . قال حذيفة : ثم رفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول : اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي ، وفي زرعي وزرع زرعي » . ورواه في / 224 و 185 وشبيهه / 216 .
--------------------------- 285 ---------------------------
وطبيعي أن لا يقبل علماء السلطة أمثال هذه الأحاديث ، لأنها تحكم على السقيفة بأنها مؤامرة ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته !
ونلاحظ ضعف تضعيفهم لهذه الأحاديث مما كتبه اثنان من أكبر علمائهم المتخصصين في الجرح والتعديل ! فقد كتب الذهبي « ميزان الإعتدال : 1 / 530 » : « الحسين بن إبراهيم البابي . . وله حديث آخر واه : ابن عدي ، عن عيسى بن محمد ، عنه ، عن حميد ، عن أنس ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما عرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أيدته بعلى ونصرته بعلي . وهذا اختلاق » .
وروى الذهبي نحوه في : 2 / 76 ، عن أشعث ابن عم الحسن بن صالح . . « قال
أبو نعيم الحافظ : أخبرنا أبو علي بن الصواف . . . حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة فساقه بنحوه . . . ساقه الخطيب عن أبي نعيم في ترجمة الحسن هذا . وقد روى الكسائي عن ابن فضيل وجماعة . وقال النسائي والدارقطني : متروك » . انتهى .
وقال ابن حجر في لسان الميزان : 2 / 268 : « عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما عُرج بي رأيت على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أيدته بعلي ونصرته بعلي . وهذا اختلاق بيِّن . . ورواه ابن عساكر في ترجمة الحسن بن أحمد ابن هشام السلمي بسنده إليه عن أبي جعفر محمد بن عبد الله البغدادي ، حدثني محمد بن الحسن بباب الأبواب ثنا حميد الطويل فذكر مثله ، وهو موضوع لا ريب فيه ، لكني لا أدري من وضعه ! وقال ابن عدي لما أخرجه : هذا حديث باطل والحسين مجهول . وقد ذكره عياض من وجه آخر رواه عن أبي الحمراء » . انتهى .
أقول : رأيت أنهما ضعفا طريقاً أو طريقين للحديث ، وغيَّبا الطرق العديدة الأخرى له ، وهي لا تخفى على المتخصص أمثالهما !
على أن تضعيفهما لأشعث ابن عم صالح بن حي لاوجه له عندهما لأنه صحابي ، وابن عمه الحسن بن حي إمام عندهما ، وقد شهد الطبراني وأبو نعيم بأنه كان يفضل على ابن عمه الحسن بن صالح ! المعجم الأوسط : 5 / 343 وحلية الأولياء : 7 / 256 .
ثم لم يكتفوا برد الحديث بالإستنكار والحيلة ، حتى وضعوا أحاديث تزعم أن
--------------------------- 286 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) رأى في معراجه أسماء أبي بكر وعمر وعثمان مقرونة بإسمه الشريف !
قال في ميزان الإعتدال : 3 / 117 : « وروى علي بن جميل عن جرير . . . عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، عمر الفاروق ، عثمان ذو النورين . تابعه شيخ مجهول يقال له معروف بن أبي معروف البلخي ، عن جرير » .
ونقل ابن حجر في لسان الميزان : 4 / 209 ، عن ابن عدي وغيره أن هذا الحديث موضوع أو مسروق ! قال : « حدث بالبواطيل عن ثقات الناس ويسرق الحديث . وقال الحاكم وأبو سعيد النقاش : روى عن عيسى بن يونس وجرير بن عبد الحميد بأحاديث موضوعة . وقال أبو نعيم : روى عن جرير وغيره المناكير » . انتهى .
وهذا من تغطيتهم لبطلان تكذيبهم لحديث « أيدته بعلي . . » فهم يأتون بحديث موضوع في مدح خلفائهم الثلاثة ويردونه ، ليردوا معه الأحاديث في حق علي ( عليه السلام ) أو يجعلوه مساوياً لحديثهم المكذوب ! راجع : نفحات الأزهار : 5 / 234 و 240 ، الشهادة بالولاية في الأذان / 29 ، تراثنا : 59 / 19 ، الصحيح من السيرة : 3 / 15 والمراجعات / 249 .

27 - المزيد من أحاديث مقام النبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في الكافي : 2 / 46 : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصةً وجعل له نوراً وجعل له حصناً وجعل له ناصراً ، فأما عرصته فالقرآن ، وأما نوره فالحكمة ، وأما حصنه فالمعروف ، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا ، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم ، فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل ( عليه السلام ) لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة ، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة ، ثم هبط بي إلى أهل الأرض ، فنسبني إلى أهل الأرض فاستودع الله عز وجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي ، فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة . ألا فلو أن الرجل من أمتي عبد الله عز وجل عمره أيام الدنيا ثم لقي الله عز وجل مبغضا لأهل بيتي
--------------------------- 287 ---------------------------
وشيعتي ، ما فرج الله صدره إلا عن النفاق » .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 237 ، عن آبائه « عليهم السلام » : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني ! قال علي ( عليه السلام ) : فقلت : يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك ، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا !
يا علي ، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا .
يا علي ، لولا نحن ما خلق الله آدم ( عليه السلام ) ولا حواء ، ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض ! فكيف لا نكون أفضل من الملائكة ، وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه ، لأن أول ما خلق الله عز وجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده ، ثم خلق الملائكة ، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظمت أمرنا ، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون وأنه منزه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا ! فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد ولسنا بآلهه يجب أن نعبد معه أو دونه ! فقالوا : لا إله إلا الله . فلما شاهدوا كبر محلنا كبَّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به ! فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة والقوة ، فقلنا : لا حول ولا قوه إلا بالله ، لتعلم الملائكة أنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله . فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة ، قلنا : الحمد لله ، لتعلم الملائكة ما يستحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه ، فقالت الملائكة : الحمد لله . فبنا اهتدوا إلى معرفه توحيد الله عز وجل وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده .
ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً ، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية ، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة ، وقد سجدوا لآدم كلهم
--------------------------- 288 ---------------------------
أجمعون . وإنه لما عُرج بي السماء أذَّنَ جبرئيل مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى ، ثم قال لي : تقدم يا محمد ، فقلت لجبرئيل : أتقدم عليك ؟ قال : نعم ، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه وملائكته أجمعين وفضلك خاصه . قال : فتقدمت فصليت بهم ولا فخر ، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل : تقدم يا محمد ، وتخلفَ عني ، فقلت له : يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني ؟ ! فقال : يا محمد انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعديَّ حدود ربي جل جلاله ، فزخَّ بي النور زخة حتى انتهيت إلى ما شاء الله عز وجل من علو مكانه ، فنوديت فقلت : لبيك ربي وسعديك تباركت وتعاليت . فنوديت : يا محمد أنت عبدي وأنا ربك ، فإياي فأعبد وعليَّ فتوكل فإنك نوري في عبادي ، ورسولي إلى خلقي ، وحجتي على بريتي . لك ولمن تبعك خلقت جنتي ، ولمن خالفك خلقت ناري ، ولأوصيائك أوجبت كرامتي ، ولشيعتهم أوجبت ثوابي . فقلت : يا رب ومن أوصيائي ؟ فنوديت : يا محمد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي . فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش فرأيت اثني عشر نوراً في كل نور سطر أخضر عليه اسم وصيٍّ من أوصيائي ، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهدي أمتي ، فقلت : يا رب هؤلاء أوصيائي بعدي ؟ فنوديت : يا محمد هؤلاء أوصيائي وأحبائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريتي ، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك .
وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني ، ولأعلين بهم كلمتي ، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأملكنه مشارق الأرض ومغاربها ، ولأسخرن له الرياح ، ولأذللن له السحاب الصعاب ، ولأرقينه في الأسباب ، ولأنصرنه بجندي ، ولأمدنه بملائكتي ، حتى يعلن دعوتي ، ويجمع الخلق على توحيدي ، ثم لأديمن ملكه ، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة » .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 60 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أسري بي إلى السماء أوحى إلى ربي جل جلاله فقال : يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطَّلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبياً ، وشققت لك من اسمي إسماً ، فأنا المحمود
--------------------------- 289 ---------------------------
وأنت محمد . ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً وجعلته وصيك وخليفتك وزوج ابنتك وأباذريتك ، وشققت له إسماً من أسمائي ، فأنا العلي الأعلى وهو علي . وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما ، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة ، فمن قبلها كان عندي المقربين .
يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ، ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي ! يا محمد أتحب أن تراهم ؟ قلت : نعم يا ربي ، فقال عز وجل : إرفع رأسك فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن قائم في وسطهم كأنه كوكب دري ! قلت : رب من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الأئمة ، وهذا القائم الذي يحل حلالي ويحرم حرامي ، وبه أنتقم من أعدائي ، وهو راحة لأوليائي ، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين ، فيخرج اللات والعزى طريين فيحرقهما ، فلفتنةُ الناس بهما يومئذ أشد من فتنه العجل والسامري » .
وكمال الدين / 252 . وبعضه غيبة الطوسي / 147 والعلل : 1 / 5 .
وفي كتاب التوحيد للصدوق / 117 : « عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : قلت لعلي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث إن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة ؟ فقال ( عليه السلام ) : يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) على جميع خلقه من النبيين والملائكة ، وجعل طاعته طاعته ومتابعته متابعته ، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته ، فقال عز وجل : من يطع الرسول فقد أطاع الله . وقال : إن الذين يبايعونك إنما
يبايعون الله يد الله فوق أيديهم . وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله . إن درجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الجنة أرفع الدرجات ، فمن زاره إلى درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى . قال : فقلت له : يا ابن رسول الله
--------------------------- 290 ---------------------------
فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله ؟ فقال ( عليه السلام ) : يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم ، هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته ، وقال الله عز وجل : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك . وقال عز وجل : كل شئ هالك إلا وجهه . فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه « عليهم السلام » في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة . وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة . وقال ( عليه السلام ) : إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني . يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ، ولا تدركه الأبصار والأوهام .
فقال قلت له : يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال : نعم وإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد دخل الجنة ، ورأى النار لما عرج به إلى السماء ، قال فقلت له : إن قوماً يقولون إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين ؟
فقال ( عليه السلام ) : ما أولئك منا ولا نحن منهم . من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذبنا ، ولا من ولايتنا على شئ ، ويخلد في نار جهنم ، قال الله عز وجل : هذه جهنم التي يكذب بها ، المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن .
وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته ، فتحول ذلك نطفة في صلبي ، فلما أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة « عليها السلام » ، ففاطمة حوراء إنسية ، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة » . والعيون : 2 / 106 وأمالي الصدوق / 545 .
وروى في المحاسن : 1 / 180 وفضائل الشيعة / 35 ، مشاهدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) للجنة ، وتفسير قوله تعالى : ما أخفي لهم من قرة أعين . وروى في المحتضر / 78 ، قول الملائكة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « أنتم أول خلق خلقه الله . . . فلما خلقنا كنا نمر بأرواحكم فنسبح بتسبيحكم ، ونحمد بتحميدكم ، ونهلل بتهليلكم ونكبر بتكبيركم ، ونقدس بتقديسكم ، ونمجد بتمجيدكم » .
وفي أمالي الصدوق / 731 : « ناداني ربي جل جلاله : يا محمد ، أنت عبدي وأنا ربك ،
--------------------------- 291 ---------------------------
فلي فاخضع ، وإياي فاعبد ، وعليَّ فتوكل ، وبي فثق ، فإني قد رضيت بك عبداً وحبيباً ورسولاً ونبياً ، وبأخيك علي خليفة . . . وبك وبه وبالأئمة من ولده أرحم عبادي وإمائي ، وبالقائم منكم أعمر أرضي بتسبيحي وتهليلي وتقديسي وتكبيري وتمجيدي ، وبه أطهر الأرض من أعدائي وأورثها أوليائي ، وبه أجعل كلمة الذين كفروا بي السفلى وكلمتي العليا ، وبه أحيي عبادي وبلادي بعلمي ، وله أظهر الكنوز والذخائر بمشيئتي ، وإياه أظهر على الأسرار والضمائر بإرادتي ، وأمده بملائكتي لتؤيده على إنفاذ أمري وإعلان ديني ، ذلك وليي حقاً ، ومهدي عبادي صدقاً » .
وفي نوادر المعجزات / 74 وأمالي الطوسي / 343 و 354 ، عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما عرج بي إلى السماء ، وصرت إلى سدرة المنتهى ، أوحى الله إلي : يا محمد ، قد بلوت خلقي ، فمن وجدت أطوعهم ؟ قلت : يا رب علياً . قال : صدقت يا محمد . ثم قال : هل اخترت لأمتك خليفة من بعدك ، يعلمهم ما جهلوا من كتابي ويؤدي عني ؟ قلت : اللهم اختر لي فإن اختيارك خير من اختياري . قال : قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفة ووصياً ، فإني قد نحلته علمي وحلمي ، وهو أمير المؤمنين حقاً ، لم ينلها أحد قبله وليست لأحد بعده » .
وفي أمالي الصدوق / 375 ، أن الله تعالى قال لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : « إن علياً إمام أوليائي ، ونور لمن أطاعني . . . فلما أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) ، خرَّ ساجداً شكراً لله تعالى » .
وفي أمالي الصدوق / 433 و 563 والطرائف / 413 : « نادى مناد من وراء الحجاب : نعم الأب أبوك إبراهيم ، ونعم الأخ أخوك عليٌّ ، فاستوص به » .
وفيه / 566 711 والخصال / 115 : « كلمني ربي جل جلاله فقال : يا محمد . فقلت : لبيك ربي . فقال : إن علياً حجتي بعدك على خلقي ، وإمام أهل طاعتي » .
وفي أمالي المفيد / 173 : « نوديت : يا محمد ، إستوص بعلي خيراً ، فإنه سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين يوم القيامة » .
وفي أمالي الطوسي / 295 ، أن الله أوحى اليه في علي ( عليه السلام ) : « إقرى علي بن أبي طالب
--------------------------- 292 ---------------------------
أمير المؤمنين السلام ، فما سميت بهذا أحداً قبله ولا أسمي بهذا أحداً بعده » .
وفي الخرائج : 2 / 811 ، أن الله خلق ملائكة بصورة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي والأئمة « عليهم السلام » .
وروى الخزاز في كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر « عليهم السلام » / 72 ، وما بعدها عدة أحاديث عن الصحابة ، في تسمية النبي ( صلى الله عليه وآله ) للأئمة من عترته ، وأنه رأى أنوارهم ومثالهم في معراجه . . منها قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « لما عرج بي إلى السماء وبلغت سدرة المنتهى ودعني جبرئيل ( عليه السلام ) ، فقلت : حبيبي جبرئيل أفي هذاالمقام تفارقني ؟ فقال : يا محمد إني لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي . ثم زج بي في النور ما شاء الله ، فأوحى الله إلي : يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبياً ثم اطلعت ثانيةً فاخترت منها عليا فجعلته وصيك ووارث علمك والإمام بعدك ، وأخرج من أصلابكما الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي ، فلولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ولا الجنة ولا النار . يا محمد أتحب أن تراهم ؟ قلت : نعم يا رب . فنوديت : يا محمد إرفع رأسك ، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري . فقلت : يا رب من هؤلاء ومن هذا ؟ قال : يا محمد هم الأئمة بعدك المطهرون من صلبك ، وهو الحجة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويشفي صدور قوم مؤمنين . قلنا : بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله لقد قلت عجباً . فقال ( عليه السلام ) : وأعجب من هذا أن قوماً يسمعون مني هذا ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ويؤذوني فيهم ، لا أنالهم الله شفاعتي » .
وفي النص على الأئمة الاثني عشر / 74 و 244 ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : « لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أيدته بعلي ونصرته . ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور ، فيهم علي بن أبي طالب وسبطيّ ، وبعدهما تسعة أسماء علياً علياً ثلاث مرات ، ومحمد محمد مرتين ، وجعفر وموسى والحسن ، والحجة يتلألأ من بينهم ، فقلت : يا رب أسامي من هؤلاء ؟ فناداني ربي جل جلاله : هم الأوصياء
--------------------------- 293 ---------------------------
من ذريتك ، بهم أثيب وأعاقب » .
وفي / 105 ، عن أبي أمامة وفيه : « فنوديت : يا محمد هم الأئمة بعدك والأخيار من ذريتك » . وفي / 110 ، عن واثلة ، وفيه : « أتحب أن تراهم يا محمد ؟ قلت : نعم يا رب . قال : إرفع رأسك ، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار الأئمة بعدي اثنا عشر نوراً ، قلت : يا رب أنوار من هي ؟ قال : أنوار الأئمة بعدك أمناء معصومون » .
وروى في / 137 ، تفسير قوله تعالى : وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ : « فطوبى لمن أحبهم والويل لمن أبغضهم ، فبهم أنزل الغيث وبهم أثيب وأعاقب . ثم رفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسلم يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول : اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي ، وعقب عقبي ، وفي زرعي ، وزرع زرعي » .
وفي / 185 ، عن أم سلمة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « لما أسري بي إلى السماء نظرت فإذا مكتوب على العرش : لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته بعلي ، ورأيت أنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وأنوار علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي ، ورأيت نور الحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري ، فقلت : يا رب من هذا ومن هؤلاء ؟ فنوديت يا محمد هذا نور علي وفاطمة وهذا نور سبطيك الحسن والحسين ، وهذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين مطهرون معصومون ، وهذا الحجة يملأ الدنيا قسطا وعدلاً » .
وفي شرح الأخبار : 2 / 415 ، أن الله تعالى أمر رسوله أن يبلغ السلام إلى علي ( عليه السلام ) . وقال في كنز الفوائد / 259 : « وقد جاء في الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رأى في السماء لما عرج به ملكاً على صورة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهذا خبر قد اتفق أصحاب الحديث على نقله ، حدثني به من طريق العامة الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمي ، ونقلته من كتابه المعروف بإيضاح دقائق النواصب ، وقرأته عليه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعمائة قال . » .
وفي شرح الأخبار : 3 / 468 ، عن عمار ، وفيه : « إني اصطفيتك لنفسي وانتجبتك
--------------------------- 294 ---------------------------
لرسالتي ، وأنت نبيي ورسولي وخير خلقي ، ثم الصديق الأكبر علي وصيك ، خلقته من طينتك وجعلته وزيرك ، وابناك الحسن والحسين . . . » .

28 - رأى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مستقبل أهل بيته ( ( عليهم السلام ) )

في الكافي : 1 / 444 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن الله مثل لي أمتي في الطين ، وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها ، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته . إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة . قيل : يا رسول الله وما هي ؟ قال : المغفرة لمن آمن منهم ، وأن لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة ، ولهم تبدل السيئات حسنات » .
وفي قرب الإسناد / 101 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أسري بي إلى السماء وانتهيت إلى سدرة المنتهى ، قال : إن الورقة منها تظل الدنيا وعلى كل ورقة ملك يسبح الله ، يخرج من أفواههم الدر والياقوت ، تبصر اللؤلؤة مقدار خمسمائة عام ، وما سقط من ذلك الدر والياقوت يخزنه ملائكة موكلون به يلقونه في بحر من نور ، يخرجون كل ليلة جمعة إلى سدرة المنتهى . فلما نظروا إليَّ رحبوا بي وقالوا : يا محمد مرحباً بك . فسمعت اضطراب ريح السدرة وخفقة أبواب الجنان قد اهتزت فرحاً لمجيئك ، فسمعت الجنان تنادي : واشوقاه إلى علي وفاطمة والحسن والحسين » .

29 - العنف واللامعقول والمكذوبات في أحاديث المعراج !

يلفتك في المعراج أحاديث كثيرة يغلب عليها العامية ، وأحاديث فيها عنف وقسوة ، وأحاديث غير معقولة ، كأنها منسوخة من مقولات اليهود عن ربهم وأنبيائهم ، وأحاديث فيها تجسيم وتشبيه لله تعالى بخلقه !
وقد تتبعت حديث المرأة المعلقة بثدييها في جهنم ، لأنها لم ترضع أولادها ، فلم أجد ذلك في أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » ، لأن إرضاع الأم بنص القرآن مستحب وليس واجباً ، فكيف يظلم الله تعالى المرأة التي لم ترضع ابنها ؟
وكذا حديث امتحان الله للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأقداح خمر ولبن وماء ، وحديث رؤية
--------------------------- 295 ---------------------------
الأنبياء « عليهم السلام » في قبورهم يصلون ، وكأن الآخرة فيها تكليف بالصلاة ، وكأن الله عنده أزمة سكن فأسكن أنبياءه « عليهم السلام » في قبوررهم !
فهذه الروايات تدل على أن العامية والعنف جاءا من رواة السلطة ، وقد يكون تسرب منهم شئ إلى مصادرنا . وهذه نماذج من أحاديثهم :

30 - ربط النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) البراق لئلا يهرب !

رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ربط البراق كالدابة : « عن أنس أن رسول الله قال : فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس ، فربطتُ الدابة بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء ، ثم دخلتُ فصليتُ فيه ركعتين ، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن ، فقال جبريل : أصبت الفطرة » . ابن شيبة : 8 / 443 .
فهو يزعم أن البراق قد يفلت من يد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وأن الأنبياء لهم مكان في القدس يربطون به دوابهم ! ثم يقول إن جبرئيل ثقب الصخرة وربط رسن البراق بثقبها !
قال ابن حجر في فتح الباري : 7 / 160 : « ووقع في رواية بريدة عند البزار : لما كان ليلة أسري به ، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها ، فشد بها البراق . ونحوه للترمذي » !
وروى ابن أبي شيبة : 8 / 445 نقاشاً للراوي زرّ بن حبيش ، مع حذيفة قال : قيل لحذيفة : وربط الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ؟ فقال : أوَكان يخاف أن تذهب وقد أتاه الله بها ؟ !

31 - امتحان للرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غير معقول !

قال البخاري في صحيحه : 5 / 224 : « قال أبو هريرة أتيَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة أسريَ به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن ، فنظر إليهما فأخذ اللبن . قال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة ، لو أخذت الخمر غوت أمتك » !
وفي الاكتفاء : 1 / 234 : « أتيَ بثلاثة آنية ، إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء ،
--------------------------- 296 ---------------------------
قال : فسمعت قائلاً يقول : إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته ، وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته ، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته » !
فكيف يخيره الله بين الحرام والحلال ؟ وكيف يجوز أن يختار النبي ( صلى الله عليه وآله ) الخمر ، وكيف يؤثِّر اختياره على أمته كلها ، فتضل وتغوي ، أو تغرق بالماء !

32 - أكذوبة شق صدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

زعمت أحاديث المعراج أن الله شق صدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل المعراج ، وأخرج منه علقة الشر ! وهي سهم الشيطان ، ثم غسله فصار سليماً ! وقد تناقضت روايتهم في ذلك فزعموا أنه شق صدره وهو عند حليمة السعدية ، ورووا أن ذلك كان قبيل المعراج ، وبينهما نحو أربعين سنة ، ثم زعموأن شق الصدر كان أربع مرات .
قال مسلم في صحيحه : 1 / 101 : « عن أنس بن مالك : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتاه جبرئيل ، وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه وصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه . وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا : إن محمداً قد قتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره . وكان ذلك هو سبب إرجاعه إلى أمه » .
وقال البخاري : 8 / 203 : « ليلة أسري برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ، ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته ، حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده ، حتى أنقى جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده يعني عروق حلقه ، ثم أطبقه ، ثم عرج
--------------------------- 297 ---------------------------
به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا ؟ فقال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : معي محمد . قال : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم . قالوا : فمرحباً به وأهلاً » .
وفي عمدة القاري بشرح البخاري : 16 / 116 : « كان نائماً بين عمه حمزة وابن عمه جعفر بن أبي طالب . قوله : وأوسطهم : هو النبي ( صلى الله عليه وآله ) » . وقال شاعرهم :
لقد شُقَّ صدرٌ للنبي محمد * مراراً لتشريف وذا غاية المجد
فأولى له التشريف فيها مؤثلٌ * لتطهيره من مضغة في بني سعد
وثانيةً كانت له وهو يافع * وثالثةً للمبعث الطيب الند
ورابعة عند العروج لربه * وذا باتفاق فاستمع يا أخا الرشد
وخامسة فيها خلاف تركتها * لفقدان تصحيح لها عند ذي النقد
نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز لرفاعة الطهطاوي / 56 .
وعقيدتنا أن ذلك كله مكذوب ، وأن الله تعالى صفَّاه واصطفاه وطهره منذ خلقه في الدنيا وقبل ذلك ، ولا نقبل أحاديث شق الصدر جملةً وتفصيلاً .

33 - الأنبياء يصلون في قبورهم

رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رأى أنبياء يصلون في قبورهم : « قال : ليلة أسري بي مررت على موسى وهو يصلي في قبره » . مسند أحمد : 5 / 59 .
وكأن الله تعالى عنده أزمة سكن في الآخرة ، مع أن جنته عرضها كعرض السماوات والأرض ! ثم إن الموت ينهي التكليف فلا صلاة في الآخرة ، والدنيا دار عملٍ ولا حساب والآخرة دار حسابٍ ولا عمل . لكن الراوي عامي جاهل !

34 - النساء المعلقات بأثدائهن !

زعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « ثم انطلق بي حتى مرَّ بي على نسوة معلقات بثديهن ، تنهش ثديهن الحيات ! قال قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن » . تاريخ دمشق : 29 / 331 .
--------------------------- 298 ---------------------------
وهذه عقوبة ظالمة تخالف نص القرآن ، قال تعالى : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ! فالأم لها الحق أن لا ترضع طفلها ، وأن تطلب على إرضاعه أجرة ، فكيف يعذبها الله تعالى في الآخرة ؟ !
ثم كيف يمكن تعليق المرأة بثدييها ؟ ! وهل هذه إلا قسوة من ذهن راوٍ بدوي ؟ !
وقال ابن هشام في السيرة : 2 / 273 : « ثم رأيت نساء معلقات بثديهن ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم » .
ورواه الصالحي في سيرته على أنه منام للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : 7 / 265 : « روى الطبراني في الكبير : 8 / 156 برجال الصحيح ، والبيهقي في كتاب عذاب القبر ، والأصبهاني في الترغيب ، عن أبي أمامة قال : خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد صلاة الصبح فقال : إني رأيت رؤيا هي حق تعقلونها ، أتاني جبريل ( عليه السلام ) فأخذ بيدي . . ثم انطلقنا فإذا نحن بنساء معلقات بعراقيبهن ، مصوبة رؤوسهن تنهش أثداءهن الحيَّات ! فقلت : ما هؤلاء ؟ قال : الذين يمنعن أولادهم من ألبانهن » !
وفي تفسير عبد الرزاق : 2 / 368 وتفسير الطبري : 15 / 17 وتفسير الثعلبي : 6 / 66 : « ثم نظرت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن ، ونساء منكسات بأرجلهن ! قلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هن اللائي يزنين ويقتلن أولادهن » .
وفي سيرة ابن هشام : 2 / 275 : « ثم رأيت نساء معلقات بثديهن ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم » .

رواية وحيدة في مصادرنا

روت مصادرنا رواية واحدة عن النساء المعلقات في جهنم ، أوردها الصدوق « رحمه الله » في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 13 قال : « حدثنا علي بن عبد الله الوراق رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن سهل بن زياد الآدمي ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن محمد بن علي الرضا ، عن أبيه الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه
--------------------------- 299 ---------------------------
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : « دخلت أنا وفاطمة على رسول الله فوجدته يبكى بكاءً شديداً ، فقلت : فداك أبي وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ فقال : يا علي ليلة أسري بي إلى السماء ، رأيت نساء من أمتي في عذاب شديد ، فأنكرت شأنهن فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن . ورأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغ رأسها . ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها ورأيت امرأة معلقة بثدييها . ورأيت امرأة تأكل لحم جسدها والنار توقد من تحتها . ورأيت امرأة قد شد رجلاها إلى يديها وقد سلط عليها الحيات والعقارب . ورأيت امرأة صماء عمياء خرساء في تابوت من نار ، يخرج دماغ رأسها من منخرها ، وبدنها متقطع من الجذام والبرص . ورأيت امرأة معلقة ، برجليها تَنُّور من نار . ورأيت امرأة تقطع لحم جسدها من مقدمها ومؤخرها بمقاريض من نار . ورأيت امرأة تحرق وجهها ويداها وهي تأكل أمعاءها . ورأيت امرأة رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار ، وعليها ألف ألف لون من العذاب . ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها ، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار !
فقالت فاطمة « عليها السلام » : حبيبي وقرة عيني ، أخبرني ما كان عملهن وسيرتهن حتى وضع الله عليهن هذا العذاب ؟ فقال : يا بنيتي ، أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال . وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها .
وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها . وأما المعلقة برجليها فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها . وأما التي تأكل لحم جسدها فإنها كانت تزين بدنها للناس . والتي شُد يداها إلى رجليها وسلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض ولا تتنظف ، وكانت تستهين بالصلاة .
وأما الصماء العمياء الخرساء ، فإنها كانت تلد من الزنا فتعلقه في عنق زوجها .
وأما التي تقرض لحمها بالمقاريض ، فإنها كانت تعرض نفسها على الرجال .
--------------------------- 300 ---------------------------
وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها وتأكل أمعاءها ، فإنها كانت قوادة .
وأما التي كان رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار ، فإنها كانت نمامة كذابة .
وأما التي كانت على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها ، فإنها كانت قينة نواحة حاسدة . ثم قال ( عليه السلام ) ويل لامرأة أغضبت زوجها ، وطوبى لامرأة رضيَ عنها زوجها » .
أقول : لا يكفي رواية الصدوق « رحمه الله » لهذا الحديث للوثوق به ، فهو أولاً من مروياته عن مشايخ بغداد ، وثانياً في سنده سهل بن زياد الآدمي ، وقد اتهمه بعض علمائنا بأنه ضعيف كذاب ، ووثقه جماعة من المتأخرين ، لكن حتى لو صح مروياته فلا يمكن قبول الحديث بل لا نشك في أنه موضوع . وثالثاً لا يمكن قبول متنه لأنه لا يعقل أن يعاقب الله تعالى بهذا العذاب الزوجة التي لم ترضع ابنها كما في بعض رواياته ، أو لا تطيع زوجها في المقاربة ! « وأما المعلقة بثدييها فإنها تمتنع من فراش زوجها » .

35 - نماذج أخرى من رواياتهم المكذوبة في المعراج

1 . أخروا وقت المعراج إلى قبيل هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأجل تصحيح كلام عائشة ! فقد قال القاري في شرح الشفا : 1 / 222 و 393 : « ذكرالنووي أن معظم السلف وجمهور المحدثين والفقهاء ، على أن الإسراء والمعراج كان بعد البعثة بستة عشر شهراً » . لكن رواة السلطة أخروه لأن عائشة قالت إن بيت خديجة في الآخرة من قصب ، لأنها لم تصل ، والصلاة شرعت في المعراج ، فيكون بعد وفاتها .
قال في فتح الباري : 7 / 154 : « تقدم أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة » . وتقدم أن بشارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لخديجة « عليها السلام » : بيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب . ولا ذكر فيه للقصب ! فضائل الصحابة / 75 للنسائي وسنن النسائي : 5 / 94 ، الجامع الصغير : 2 / 247 وتاريخ الذهبي : 1 / 238 .
لكن عائشة جعلته بيتاً من قصب ، وبررته بأن خديجة ماتت قبل أن تصلي ! قالت : « ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : رأيت لخديجة بيتاً من قصب ،
--------------------------- 301 ---------------------------
لاصخب فيه ولا نصب » . فتح الباري : 1 / 27 .
2 - أَعْطَوْا أبا بكر لقب الصدِّيق ، وجعلوا سببه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما عُرج به أخبر المشركين فكذبوه وكذبه قسم من المسلمين ! لكن أبابكرصدقه فسمي الصديق ! « فحدثهم ، فمن بين مُصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وارتد ناس ممن كان آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق . قال : أتصدقه على ذلك ؟ قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق » . تخريج الأحاديث والآثار : 2 / 256 ، تاريخ الخلفاء / 29 ، عن الحاكم عن عائشة وجَوَّدَهُ ، الرياض النضرة : 1 / 404 ، الكشاف : 2 / 437 ، الإستيعاب : 3 / 966 ، تفسير البغوي : 3 / 96 ، البيضاوي : 3 / 430 ، أبي حيان : 6 / 6 ، أبي السعود : 5 / 155 وغيرها .
ولكي يصح ذلك جعلوا إسلام أبي بكر قبل المعراج ! أو أخروا وقت المعراج ليكون بعد إسلام أبي بكر ! لكن سعد بن أبي وقاص شهد بأن أبا بكر أسلم متأخراً ، فقال ابنه محمد : « قلت لأبي : أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ، ولكن كان أفضلنا إسلاماً » . الطبري : 2 / 60 .
ورووا ما يدل على أن إسلامه كان في السنة السابعة أو بعدها ، وأن شخصاً من قبيلة أسد كان يربطه هو وطلحة بحبل ويحبسهما ويعذبهما فسميا القرينين ، لأن قبيلة تيم ملحقة أو متحالفة مع بني أسد عبد العزى . الإصابة : 6 / 77 .
وروى البخاري : 3 / 59 عن عائشة ، أن أبا بكر خرج مهاجراً خوفاً من قريش « حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدَّغِنَّة » فأجاره ، وهو سيد الأحابيش القارة أي الرماة : « فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر ، وقالوا لابن الدغنة : مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن »
ثم ذكرت أنه رد إلى ابن الدغنة جواره قبيل هجرته إلى المدينة .
3 . قال القاضي عياض في الشفاء : 1 / 174 : « وروى ابن قانع القاضي عن
أبي الحمراء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أيدته بعلي » !
--------------------------- 302 ---------------------------
فوضعوا مقابله : « ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوباً : محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق . . . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ليلة أسرى به إن قومي لايصدقوني ، فقال له جبريل : يصدقك أبو بكر وهو الصديق » . مجمع الزوائد : 9 / 41 .
لكن بعض علمائهم اعترف بأنه من موضوعات عبد الله بن إبراهيم ومحمد بن عبد الله الهلالي البصري ! راجع الغدير : 5 / 303 والصحيح : 4 / 44 .
ويطول الكلام لو أردنا استعراض رواياتهم الكثيرة الموضوعة عن المعراج .

  • *
    --------------------------- 303 ---------------------------

الفصل السادس عشر

أول من أسلم وأول من أعلن إسلامه

1 - أول من أسلم وأعلن إسلامه : عليٌّ وخديجة « عليهما السلام »

أ . أول من أسلم علي وخديجة وجعفر ، ثم أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن ينذر عشيرته الأقربين : روت مصادر الطرفين متواتراً عن علي قوله ( عليه السلام ) : « صليت قبل الناس بسبع سنين » « ابن ماجة : 1 / 44 ، الحاكم : 3 / 111 . وفي الترمذي : 5 / 304 » : « بُعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم الاثنين ، وصلى وعلي ( عليه السلام ) يوم الثلاثاء » ! ورواه الحاكم : 3 / 112 وصححه .
وفي الأحوذي : 10 / 160 : « فيه دليل على أن أول من أسلم من الذكور هو علي
رضي الله عنه » . ومثله أبو يعلى : 1 / 348 ، والبدء والتاريخ / 303 ، عن أبي رافع .
وقال ابن عبد البر في الإستيعاب : 3 / 1095 : « وروى مسلم الملائي عن أنس بن مالك قال : استنبئ النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم الاثنين وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء . وقال زيد بن أرقم : أول من آمن بالله بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب . . . الخ . » .
وحسَّنَه في مجمع الزوائد : 9 / 274 : « عن ابن عباس قال : أسلم زيد بن حارثة بعد علي ، فكان أول من أسلم بعده » . والطبراني الكبير : 5 / 84 ، الطبري : 2 / 60 ، تهذيب الكمال : 5 / 52 وسير الذهبي : 1 / 216 .
وقال ابن هشام : 1 / 163 : « وكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما » . وسير الذهبي 1 / 13 وتاريخ دمشق 19 / 353 .
ب . وبعد القرن الخامس أنكر علماء السلطة أن علياً ( عليه السلام ) أول من أسلم ! ففي مقدمة ابن
--------------------------- 304 ---------------------------
الصلاح / 178 : « قال الحاكم : لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب أولهم إسلاماً . واستُنكر هذا من الحاكم » !
واستنكره علماء السلطة بعد القرن الخامس ! أما قبله فكانوا متفقين مجمعين عليه !
قال في الصحيح من السيرة : 2 / 315 : « إن أول من أسلم واتبع وصدق وآزر وناصر ، هو أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى أبنائه الأئمة الطاهرين . وأورد العلامة الأميني في الغدير : 3 / 95 ، أقوالاً لعشرات من كبار الصحابة والتابعين وغيرهم من الأعلام ، وعشرات من المصادر غير الشيعية ، تؤكد أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو أول الأمة إسلاماً » .
وقال المناوي في فيض القدير : 4 / 468 : « علي أخي في الدنيا والآخرة : كيف وقد بُعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم الاثنين فأسلم وصلى يوم الثلاثاء ، فمكث يصلي مستخفياً سبع سنين ، كما رواه الطبراني عن أبي رافع . وفي أوسط الطبراني عن جابر مرفوعاً : مكتوب على باب الجنة لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أخو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي سنة ! وفيه : عن أبي أمامة أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : آخى بين الناس وآخى بينه وبين علي .
قال الإمام أحمد : ما جاء في أحد من الفضائل ما جاء في علي ! وقال النيسابوري : لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأحاديث الحسان ما ورد في حق علي » .
ويحق لنا هنا أن نتعجب من ابن حجر الذي يعرف حديث الدار وإنذار العشيرة الأقربين أول البعثة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعلن علياً ( عليه السلام ) أخاه ووزيره ووصيه ، ويعرف الأحاديث الصحيحة المتقدمة في خلق نورالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ونور علي ( عليه السلام ) قبل الخلق ، ويعرف حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) الصحيح إن الملائكة صلت عليه وعلى علي سبعاً ، لأنهما صليا قبل الناس سبع سنين ! ويعرف قول علي ( عليه السلام ) : « أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ! صليت قبل الناس لسبع سنين » . وأنه صحيح بشرط الشيخين !
ويعرف أنه لا يوجد حديث في إسلام أن أبا بكر أول من أسلم إلا ما نسبوه إلى عمار !
--------------------------- 305 ---------------------------
وقد صرح « فتح الباري : 7 / 130 » بأن البخاري لم يجد حديثاً في أن إسلام أبي بكر هو الأول ، إلا ما نسبه إلى عمار فقال : « اكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئاً على شرطه غيره ، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي بكر ، إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الرجال غيره » ! فيكفي عنده لإثبات أولية إسلام أبي بكر حديث مبهم ليرد به أحاديث قوية ويقول : « قد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال » . والجمهور هنا أتباع السلطة فقط ، واتفاقهم تم في القرن الخامس !
ج . أما روايات أهل البيت : فأجمعت على أن علياً وخديجة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول من أسلم ، ومن ذلك ما رواه اليعقوبي : 2 / 22 : « أتاه جبريل ( عليه السلام ) ليلة السبت . . . وقال من رواه عن جعفر بن محمد : يوم الجمعة . . . وعلى جبريل جبة سندس ، وأخرج له درنوكاً من درانيك الجنة فأجلسه عليه ، وأعلمه أنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبلغه عن الله وعلمه : إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . وأتاه من غد وهو متدثر فقال : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ . .
وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر ، أتاه جبريل فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما توضأ جبريل ( عليه السلام ) ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله . ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت ، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل . . . وكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد « عليها السلام » من النساء ، وعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من الرجال ، ثم زيد بن حارثة ، ثم أبو ذر » . وفي قصص الأنبياء للراوندي / 316 : « فكان يصلي خلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي وجعفر وزيد وخديجة » .
وفي روضة الواعظين للنيشابوري / 85 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « إن أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، قلت يا رسول الله : ما هذا ؟ قال : أمرت به . قال أبو رافع : صلى النبي غداة الاثنين وصلت خديجة آخر نهار يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء » .
ورواه محمد بن سليمان في المناقب : 1 / 278 ، بطريقين عن حبة العرني وأنس . وذخائر العقبى / 59 ، تفسير الإمام العسكري / 429 . وشرح الأخبار : 1 / 177 و 449 ، المناقب : 2 / 7 ، التعجب / 98 ، كنز الفوائد / 125 ، الإحتجاج : 1 / 37 وفيه : « بعث يوم الاثنين وصليت
--------------------------- 306 ---------------------------
معه يوم الثلاثاء ، وبقيت معه أصلي سبع سنين ، حتى دخل نفر في الإسلام » .
وروى ابن طاووس « رحمه الله » في كتاب الطرف / 5 والبحار : 65 / 392 عن عيسى بن المستفاد ، أنه سأل الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عن بدء الإسلام فقال : « سألت أبي جعفر بن محمد ( عليه السلام ) عن بدء الإسلام كيف أسلم علي ( عليه السلام ) وكيف أسلمت خديجة « عليهما السلام » ؟ فقال لي أبي : إنهما أسلما لما دعاهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلَّمتما له ؟ وقال : إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام ، فأسلما تسلما وأطيعا تُهديا ، فقالا : فعلنا وأطعنا يا رسول الله ، فقال : إن جبرئيل عندي يقول لكما : إن للإسلام شروطاً ومواثيق ، فابتداؤه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة ، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ويبعث من في القبور . قالا : شهدنا . قال : وإسباغ الوضوء على المكاره واليدين والوجه والذراعين ، ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين ، وغسل الجنابة في الحر والبرد ، وإقام الصلوات ، وأخذ الزكوات من حلها ووضعها في أهلها ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان ، والجهاد في سبيل الله ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، والعدل في الرعية والقسم في السوية ، والوقوف عند الشبهة إلى الإمام فإنه لا شبهة عنده ، وطاعة ولي الأمر بعدي ومعرفته في حياتي وبعد موتي ، والأئمة من بعده واحداً فواحداً ، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه . . . والحياة على ديني وسنتي ودين وصيي وسنته ، إلى يوم القيامة ، والموت على مثل ذلك ، غير شاقة لأمانته ولامتعدية ولامتأخرة عنه ، وترك شرب الخمر ، وملاحاة الناس . يا خديجة فهمت ما شرط عليك ربك ؟ قالت : نعم وآمنت وصدقت ورضيت وسلمت . قال علي : وأنا على ذلك . فقال : يا علي تبايع على ما شرطت عليك ؟ قال : نعم . . » .
--------------------------- 307 ---------------------------

2 - إسلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه

أ . أخبر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) نشأ على الفطرة وحنيفية إبراهيم ( عليه السلام ) ففي علل الشرائع : 2 / 558 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « أوحى الله تعالى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال ، فدعاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره فقال : لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك : ما شربت خمراً قط لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي ، وما كذبت قط لأن الكذب ينقص المروءة ، وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي ، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع ! قال : فضرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عاتقه وقال : حقٌّ لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة » !
ب - . روى الصدوق في أماليه / 597 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : « أول جماعة كانت أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يصلي وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب معه ، إذ مرَّ أبو طالب به وجعفر معه ، فقال : يا بني صِلْ جناح ابن عمك . فلما أحسه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تقدمهما ، وانصرف أبو طالب مسروراً ، وهو يقول :
إن علياً وجعفراً ثقتي * عند مهم الأمور والكرب
لاتخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي
والله لا يخذل النبي ولا * يخذله من بني ذو حسب
قال : فكانت أول جماعة جُمعت ، ذلك اليوم » .
والحدائق الناضرة : 11 / 91 ، صححه ، روضة الواعظين / 86 ، كنز الفوائد / 79 و 124 ، المناقب : 1 / 301 ، الطرائف / 305 ، عمدة الطالب / 23 ، حلية الأبرار 1 / 69 ، البحار : 35 / 174 ، إيمان أبي طالب للشيخ المفيد / 39 ، الفصول المختارة / 171 ، الوسائل : 8 / 288 ، جامع أحاديث الشيعة : 6 / 406 ، الغدير : 7 / 356 و 396 ، إعلام الورى : 1 / 103 ، كشف الغمة : 1 / 86 ،
نهج الإيمان / 376 . راجع الغدير : 7 / 396 ، مناقب محمد بن سليمان : 1 / 129 ، تأويل الآيات : 1 / 271 ، بتفاوت وشبيه به الكافي : 1 / 450 ، عن علي ( ( ع ) ) . وأبو هلال العسكري في الأوائل / 51 ،
--------------------------- 308 ---------------------------
ونحوه النكت لابن حبيب : 4 / 437 ، العثمانية للجاحظ / 314 ، أبو حيان : 8 / 489 والآلوسي : 30 / 183 والإسكافي في نقض العثمانية .
ورواه أبو الفتح الكراجكي في كنز الفوائد / 124 ، بسنده عن أبي صفو بن صلصال بن الدلهمس ، قال : « كنت أنصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع أبي طالب قبل إسلامي ، فإني يوماً لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدة القيض ، إذ خرج أبو طالب إليَّ شبيهاً بالملهوف فقال لي : يا أبا الغضنفر هل رأيت هذين الغلامين ؟ يعني النبي وعلياً . فقلت : ما رأيتهما مذ جلست ! فقال : قم بنا في الطلب فلست آمن قريشاً أن تكون اغتالتهما ! قال فمضينا حتى خرجنا من أبيات مكة ، ثم صرنا إلى جبل من جبالها فاسترقينا قلته ، فإذا النبي وعلي عن يمينه ، وهما قائمان بإزاء عين الشمس يركعان ويسجدان . قال : فقال أبو طالب لجعفر ابنه : صِلْ جناح ابن عمك ، فقام إلى جنب علي فأحس بهما النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتقدمهما ، وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا مما كانوا فيه ، ثم أقبلوا نحونا فرأيت السرور يتردد في وجه أبي طالب ثم انبعث يقول : إن علياً وجعفراً ثقتي . . الأبيات . » .
وهذا يدل على أن أبا طالب وجعفراً كانا مسلمَيْن قبل ذلك ، لأن جعفراً دخل مباشرة في الصلاة ، ولأن أبا طالب شهد بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يصلِّ معهم لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمره أن يكتم إسلامه ، فلو أظهره لما استطاع أن يحمي النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وكذا حمزة كان مسلماً يكتم إيمانه ، كما يدل حديث إسلام أبي ذر .
ج - . حذف بعض رواة السلطة أبيات أبي طالب ( رحمه الله ) من الحديث لأن فيها تصريحاً بإسلامه وإيمانه بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو يردُّ زعمهم بأنه مات مشركاً !
وزادوا فيه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعا أبا طالب ليصلي معهم فرفض ، وقال كلمة سخرية من الصلاة كان يقولها المشركون الطلقاء !
ففي تاريخ بغداد : 2 / 271 عن علي ( عليه السلام ) قال : « بينا أنا مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حِيرٍ « مُحَوَّطة » لأبي طالب ، أشرف علينا أبو طالب فبصر به النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا عم ألا تنزل فتصلي معنا ؟ قال : ابن أخي إني لأعلم أنك على حق ولكني أكره أن أسجد فتعلوني إستي ! ولكن إنزل يا جعفر فصل جناح ابن عمك . فنزل جعفر فصلى عن يسار النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلما
--------------------------- 309 ---------------------------
قضى النبي صلاته التفت إلى جعفر فقال : أما إن الله قد وصلك بجناحين تطير بهما في الجنة كما وصلت جناح ابن عمك .
قال الشيخ أبو بكر : تفرد برواية هذا الحديث عن سفيان الثوري ابن أخته سيف بن محمد ، ولا نعلم رواه عنه إلا السمتي » . ورواه في تاريخ دمشق : 54 / 164 ، خيثمة / 206 ، طبقات الحنابلة 1 / 309 ، اللالكائي : 8 / 1420 . ورده الذهبي في ميزان الإعتدال : 2 / 257 ، لأنه يثبت إسلام جعفر بن أبي طالب ( ( رحمه الله ) ) قبل أبي بكر !
د . في المناقب : 1 / 176 : « سنة ثمان في جمادى الأولى وقعة مؤتة ، وهم ثلاثة آلاف . في كتاب أبان قال الصادق ( صلى الله عليه وآله ) : إنه استعمل عليهم جعفراً فإن قتل فزيد ، فإن قتل فابن رواحة ، ثم خرجوا حتى نزلوا معان ، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمأرب في مائة الف من الروم ومائة ألف من المستعربة ، فانحازوا إلى أرض يقال لها المشارف ، ونسبت السيوف المشرفية إليها لأنها طبعت لسليمان بن داود « عليهما السلام » ، فاختلفوا في القتال أو في إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكثرتهم فقال ابن رواحة : ما نقاتل الناس بكثرة وإنما نقاتلهم بهذا الدين ! فلقوا جموعهم بقرى البلقاء ، ثم انحازوا إلى مؤتة .
وفي البخاري : نعى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفراً ، وزيداً ، وابن رواحة ، قبل أن يجئ خبرهم وعيناه تذرفان . زيد بن أرقم : حارب جعفر على أشقره حتى عقر ، وهو أول من عقر فرسه في الإسلام ، فحارب راجلاً حتى قتل . عن الباقر ( عليه السلام ) قال : أصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة ، خمس وعشرون منها في وجهه » .
وفي الكافي : 1 / 49 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « لما كان يوم مؤتة كان جعفر على فرسه فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف ، وكان أول من عرقب في الإسلام » .
وفي التنبيه والإشراف / 230 ، للمسعودي أن هرقل : « يومئذ مقيم بأنطاكية وعلى الروم تيادوقس البطريق ، وعلى متنصرة العرب من غسان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني ، فقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب بعد أن عرقب فرسه ، وهو أول فرس عرقبت في الإسلام ، وجرح نيفاً وتسعين جراحة كلها في مقادمه ، وقتل عبد الله بن رواحة ، ورجع خالد بن الوليد بالناس » .
--------------------------- 310 ---------------------------
ه - . عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن جابركان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً ويقول : كانا يحدثاني ويؤنساني فذهبا جميعاً . ولما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من واقعة أحد إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيلاً نوحاً وبكاءً ، ولم يسمع من دار حمزة عمه ، فقال : لكن حمزة لا بواكي له ! فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولا يبكوه حتى يبدؤوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم إلى اليوم على ذلك » . الفقيه : 1 / 183 .

3 - كان أبو طالب وحمزة يخفيان إسلامهما

أ . كان أبو طالب كأبيه عبد المطلب رضوان الله عليهما ، يعرف أن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) هو النبي الموعود من ذرية إبراهيم وإسماعيل ( صلى الله عليه وآله ) ، ويؤمن به من صغره ويحبه ويحرسه .
أما حمزة « رحمه الله » فذكر رواة السلطة أنه أسلم في السنة الثالثة أو الرابعة عندما شتم أبو جهل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فغضب وانتصر للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وضرب أبا جهل وأعلن إسلامه .
لكن الصحيح أنه يومئذ أعلن ، وأنه أسلم أول بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووقف إلى جنبه في مواجهة قريش ، ووقاه بنفسه مع أبي طالب وعلي وجعفر وزيد بن حارثة ، كما يدل حديث إسلام أبي ذر « رحمه الله » الآتي ، وأن أبا طالب رتب نظام حراسة مشددة حول النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان يدقق في من يريد لقاءه .
فقد روى الكليني في الكافي : 8 / 297 والصدوق في الأمالي / 567 ، حديث إسلام أبي ذر وإصراره أن يرى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى قال له أبو طالب : « قم معي ، فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة فسلمت عليه وجلست فقال لي : ما حاجتك ؟ فقلت : هذا النبي المبعوث فيكم ؟ فقال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ قال : فشهدت قال : فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر . . » .
أقول : آمن أبو ذر بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يراه ، لأن الله أنطق له الذئب ،
كما يأتي .
--------------------------- 311 ---------------------------
ب . أعلن حمزة إسلامه يوم ثأر للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وتحدى قريشاً في ناديهم ، وضرب أبا جهل زعيم بني مخزوم ! فقد روى ابن إسحاق : 2 / 151 وابن هشام : 1 / 188 : « أن أبا جهل اعترض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند الصفا فآذاه وشتمه ، ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له ، فلم يكلمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومولاةٌ لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمعُ ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم .
ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنص له ، وكان إذا رجع لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لا يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة ، وكان يومئذ مشركاً على دين قومه « في الظاهر » فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرجع إلى بيته ، فقالت له : يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم آنفاً قُبَيْل ؟ وجده هاهنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد ! فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله عز وجل به من كرامته ، فخرج سريعاً لا يقف على أحد - كما كان يصنع حين يريد الطواف بالبيت - مُعداً لأبي جهل أن يقع به ، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس وضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة ! وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه فقالوا : ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت ! قال حمزة : وما يمنعني منه وقد استبان لي منه ذلك ، وأنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقول حق ، فوالله لا أنزع ، فامنعوني إن كنتم صادقين ! فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة ، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً » !
وقال في الصحيح من السيرة : 3 / 153 : « قوله الأخير : وما يمنعني وقد استبان لي منه أنه رسول الله والذي يقول حق : أنه لم يكن في إسلامه منطلقاً من عاطفته التي أثيرت وحسب ، وإنما سبقت ذلك قناعة كاملة مما شاهده عن قرب . . .
--------------------------- 312 ---------------------------
وبعد إسلام حمزة بن عبد المطلب بدأت تتراجع قريش وتلين من موقفها ، وتدخل في مفاوضات معه ( صلى الله عليه وآله ) ، وتعطيه بعض ما يريد ، لأنها رأت أن المسلمين يزيد عددهم ويكثر ، فكلمه عتبة فأبى ( صلى الله عليه وآله ) كل عروضهم » . البدء والتاريخ : 5 / 98 .
ج . تعصب رواة قريش على بني هاشم ، فجردوا حمزة من فضيلة سبقه إلى الإسلام ، وقرنوا به عمر وكأنه شجاع مقاتل مثله ، وخففوا من تمثيل هند بجثمان حمزة ومحاولتها أكل كبده ، أو أنكروا ذلك . كما خففوا من جريمة قاتله وحشي غلام هند ، ونسبوا اليه أنه قتل مسيلمة الكذاب فغفر الله له قتله حمزة !
ثم افتروا على حمزة بأنه كان يشرب الخمر صحيح بخاري 3 / 80 و 4 / 41 وأنه سكر يوماً وجاء إلى جملين لعلي ( عليه السلام ) فشق بطنيهما وأخذ كبديهما ، وجلس يشرب الخمر وجاريته تغنيه ! فشكوه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجاء مع علي وزيد ، فشتمهم حمزة ! فتركه النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما رآه سكراناً ! وقد فند ذلك في الصحيح من السيرة : 5 / 290 .
د . كان علي وحمزة بطلا معركة بدر التي غيرت موازين القوى بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمشركين . فقد سأل أمية بن خلف : « من المُعَلَّم بريشة نعامة في صدره ؟ قلت ذاك حمزة عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) . قال : ذاك فعل بنا الأفاعيل منذ اليوم » . الحاكم : 2 / 117 .
ه - . وفي معركة أحُد انتصر المسلمون في الجولة الأولى ، ببطولة علي وحمزة ، ثم خالفوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فانهزمو ا ، وثبت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وحمزة ، فقتل حمزة « رحمه الله » .
قال في الإرشاد : 2 / 83 : « وكانت هند بنت عتبة جعلت لوحشي جعلاً على أن يقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أو حمزة بن عبد المطلب ، فقال لها : أما محمد فلا حيلة لي فيه لأن أصحابه يطيفون به ، وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الذئب ، وأما حمزة فإني أطمع فيه لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه . وكان حمزة يومئذ قد أُعلم بريشة نعامة في صدره ، فكمن له وحشي في أصل شجرة ، فرآه حمزة فبدر إليه بالسيف فضربه ضربة أخطأت رأسه ، قال وحشي : وهززت حربتي حتى إذا تمكنت منه رميته فأصبته في أربيته « أسفل بطنه » فأنفذته ، وتركته حتى إذا برد
--------------------------- 313 ---------------------------
صرت إليه فأخذت حربتي ، وشغل عني وعنه المسلمون بهزيمتهم . وجاءت هند فأمرت بشق بطن حمزة ، وقطع كبده ، والتمثيل به ، فجذعوا أنفه وأذنيه ، ومثلوا به » .
وفي تفسير القمي : 1 / 117 : « فقطعت مذاكيره وقطعت أذنيه وجعلتهما خرصين وشدتهما في عنقها ، وقطعت يديه ورجليه » .
وفي شرح النهج : 14 / 271 : « كانت هند بنت عتبة أول من مثل بأصحاب النبي وأمرت النساء بالمثلة وبجدع الأنوف والآذان ، فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخَدَمتان » !
والمعضد ما يلبس في العضد ، والمسكة سوار يلبس في ذراع اليد ، والخدمة الخلخال يلبس في الساق .
وفي مسند أحمد : 1 / 463 ، ابن أبي شيبة : 8 / 492 وفتح الباري : 7 / 272 : « وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أأكلت منه شيئاً ؟ قالوا : لا . قال ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار » .
وفي تفسير البغوي : 3 / 91 : « فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها ، فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً ، إن حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئاً من جسده النار » .
قال الحافظ ابن عقيل في النصائح الكافية / 112 : « كانت شديدة العداوة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكة ، ولما تجهز مشركوا قريش لغزوة أحد ، خرجت معهم تحرض المشركين على القتال . ولما مروا بالأبواء حيث قبر أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) آمنة بنت وهب « عليها السلام » ، أشارت على المشركين بنبش قبرها وقالت : لو نبشتم قبر أم محمد ، فإن أسرَ منكم أحداً فديتم كل إنسان بإرب من آرابها أي جزء من أجزائها ! فقال بعض قريش : لايفتح هذا الباب » !
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في مذبحة كربلاء / 74 : « خذ على سبيل المثال : أم معاوية هند بنت عتبة ، وهي امرأة والمرأة على الغالب ترمز للرحمة وتجنح
--------------------------- 314 ---------------------------
للموادعة ، لكن هنداً لم تكتف بأن يخرج زوجها وابناها لمعركة أحد ، بل أصرت على الخروج بنفسها وحملت نساء البطون على الخروج ، لتشهد العنف والدم على الطبيعة ! لقد تيقنت من قتل حمزة عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنها لم تكتف بقتله بل سارت بخطى ثابتة حتى وقفت بجانب جثته ، وبأعصاب باردة شقت بطن حمزة وهو ميت واستخرجت كبده ، وحاولت أن تأكله ! ثم قطعت أذنيه وأنفه ومثلت به أشنع تمثيل ! فإذا كانت المرأة منهم تفعل بضحيتها هكذا ، فكيف يفعل أبو سفيان ومعاوية وذريتهم بضحاياهم ؟ ! هذه هي البيئة الدموية التي تربى فيها يزيد مهندس مذبحة كربلاء ! فأبوه معاوية وجده أبو سفيان وجدته هند ! لقد ورث العنف والتنكيل بخصومه كابراً عن كابر » .
وفي شرح الأخبار للقاضي المغربي : 1 / 281 : « مضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يلتمس حمزة ، فوجده وقد بقروا بطنه عن كبده ! فقال حين رآه : أما إنه لولا أن تحزن صفية ويكون سنة بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير ! ثم قال : والله ما وقفت موقفاً قط أغيظ لي من هذا الموقف ! فهبط جبرئيل فقال : يا محمد إنه مكتوب في أهل السماوات إن حمزة أسد الله وأسد رسوله .
ثم أمر به صلوات الله عليه فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة فيصلي عليه وعليهم ، حتى صلى اثنين وسبعين صلاة . ثم أمر به فدفن في مصرعه ، وأمر بالقتلى كذلك أن يدفنوا في مصارعهم وقال : أنا أشهد على هؤلاء أنه ما من أحد يجرح في الله إلا واللهُ عز وجل يبعثه يوم القيامة بدم جرحه ، اللون لون الدم والريح ريح المسك » .
و . رويَ أن وحشياً أسلم وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سأله كيف قتل حمزة ، ثم قال له : « غَيِّبْ وجهك عني ، فإني لا أستطيع أن أرى قاتل حمزة » ! شرح الأخبار : 1 / 268 .
وروي أنه حسن إسلامه وجاهد « ذخائر العقبى / 178 » وأن الله قد يتوب عليه ، ففي الكافي : 2 / 381 : « عن حمزة بن الطيار قال : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : الناس على ستة أصناف ، قال قلت : أتأذن لي أن أكتبها ؟ قال : نعم . قلت : ما أكتب ؟ قال : اكتب أهل الوعيد من أهل الجنة وأهل النار . واكتب : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا . قال قلت :
--------------------------- 315 ---------------------------
مَن هؤلاء ؟ قال : وحشي منهم . قال : واكتب : وَآخَرُونَ مَرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . قال : واكتب : إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً « إلى الكفر » وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً « إلى الإيمان » فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَعَنْهُمْ . قال : واكتب أصحاب الأعراف قال قلت : وما أصحاب الأعراف ؟ قال : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته » .
ز . من زيارة قبر حمزة ( رحمه الله ) : « السلام عليك يا عم رسول الله وخير الشهداء . السلام عليك يا أسد الله وأسد رسوله ، أشهد أنك جاهدت في الله ، ونصحت لرسول الله وجدت بنفسك ، وطلبت ما عند الله ورغبت فيما وعد الله . كامل الزيارات / 62 .
ح . في كشف الإرتياب / 55 : « هدموا جميع ما بالمدينة ونواحيها من القباب والأضرحة والمزارات ، فهدموا قبة أئمة أهل البيت « عليهم السلام » بالبقيع ، ومعهم العباس عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وجدرانها ، وأزالوا الصندوق والقفص الموضوعين على قبورهم ، وصرفوا على ذلك ألف ريال مجيدي . . وهدموا قباب عبد الله وآمنة أبوي النبي ( صلى الله عليه وآله ) . . وكانوا قبل ذلك هدموا قبة حمزة عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشهداء أحد حتى أصبح مشهد حمزة والشهداء والجامع الذي بجانبه ، وتلك الأبنية كلها أثراً بعد عين ، ولا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا قبراً في برية ، على رأس تل من التراب » !

4 - زيد بن حارثة الذي اختار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على أبيه !

في تفسير القمي : 2 / 172 ، بسند صحيح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : « كان سبب نزول ذلك « وَإِذْ تَقُولُ للذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ . . » أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها ، ورأي زيداً يباع ، ورآه غلاماً كَيِّساً حصيفاً فاشتراه ، فلما نُبئ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وكان يدعى زيد مولى محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر ولده زيد ، قدم مكة وكان رجلاً جليلاً ، فأتى أبا طالب فقال : يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك ، فسله إما أن يبيعه وإما
--------------------------- 316 ---------------------------
أن يفاديه وإما أن يعتقه . فكلم أبو طالب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هو حرٌّ فليذهب كيف يشاء ، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له : يا بني إلحق بشرفك وحسبك ، فقال زيد : لست أفارق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبداً ! فقال له أبوه : فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش ؟ فقال زيد : لست أفارق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما دمت حياً ! فغضب أبوه فقال : يا معشر قريش اشهدوا أني قد برئت منه وليس هو ابني ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني ، فكان يدعى زيد بن محمد ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحبه وسماه زيد الحِبّ ، فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش » . وسيأتي طلاقه لها ، وتزويج الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بها .

5 - أبو ذر الغفاري ( ( رحمه الله ) ) رابع المسلمين المعلنين إسلامهم

أ . كان أبو ذر قبل الإسلام يصلي بهداية فطرته ! قال : « صليت قبل الناس بأربع سنين ، قلت له : من كنت تعبد ؟ قال : إله السماء » . دلائل النبوة : 4 / 1307 .
« قلت : يا أبا ذر أين كنت تتوجه ؟ قال : كنت أتوجه حيث وجهني الله ، كنت أصلي من أول الليل فإذا كان آخر الليل ألقيت هذا ، حتى كأنما أنا خفاء حتى تعلوني الشمس » . الطبراني الأوسط : 3 / 246 .
وفي الكافي : 8 / 297 ، وأمالي الصدوق / 567 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال لرجل من أصحابه : ألا أخبرك كيف كان سبب إسلام سلمان وأبي ذر رحمة الله عليهما ؟ فقال الرجل وأخطأ : أما إسلام سلمان فقد علمت ، فأخبرني كيف كان سبب إسلام أبي ذر ؟ فقال أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : إن أبا ذر « رحمه الله » كان في بطن مُرّ « واد قرب مكة » يرعى غنماً له ، فأتى ذئب عن يمين غنمه فهش بعصاه على الذئب ، فجاء الذئب عن شماله فهش عليه أبو ذر ، ثم قال له أبو ذر : ما رأيت ذئباً أخبث منك ولا شراً ! فقال له الذئب : شرٌّ والله مني أهل مكة بعث الله عز وجل إليهم نبياً فكذبوه وشتموه ! فوقع في أذن أبي ذر فقال لامرأته : هلمي مزودي وإداوتي وعصاي ، ثم خرج على رجليه يريد مكة ليعلم خبر الذئب وما أتاه به ! حتى بلغ مكة فدخلها في ساعة حارة وقد تعب ونصب ،
--------------------------- 317 ---------------------------
فأتى زمزم وقد عطش فاغترف دلواً فخرج لبن ! فقال في نفسه : هذا والله يدلني على أن ما خبرني الذئب وما جئت له حق ، فشرب وجاء إلى جانب من جوانب المسجد ، فإذا حلقة من قريش فجلس إليهم فرآهم يشتمون النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما قال الذئب ! فما زالوا في ذلك من ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) والشتم له حتى جاء أبو طالب من آخر النهار ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض : كفُّوا فقد جاء عمه ! قال فكفوا فلما دنا منهم أكرموه وعظموه ، فلم يزل أبو طالب متكلمهم وخطيبهم إلى أن تفرقوا . فلما قام أبو طالب تبعته فالتفت إلي فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : هذا النبي المبعوث فيكم . قال : وما حاجتك إليه ؟ فقال له أبو ذر : أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ، ولا يأمرني بشئ إلا أطعته . فقال أبو طالب : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ قال فقلت : نعم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فقال قال : وتفعل ؟ قلت : نعم قال : فتعال غداً في هذا الوقت إليَّ حتى أدفعك إليه ، قال : بتُّ تلك الليلة في المسجد حتى إذا كان الغد جلست معهم ، فما زالوا في ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشتمه حتى إذا طلع أبو طالب ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض : أمسكوا فقد جاء عمه ! فأمسكوا ، فلما قام أبو طالب تبعته فالتفت إلي فقال : ما حاجتك ؟ . « فأعاد عليه ما قاله » فقال : قم معي فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة فسلمت عليه وجلست ، فقال لي : ما حاجتك ؟ فقلت : هذا النبي المبعوث فيكم ؟ فقال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه
--------------------------- 318 ---------------------------
وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ قال : فشهدت قال : فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر فسلمت عليه وجلست فقال لي جعفر : ما حاجتك ؟ فقلت : هذا النبي المبعوث فيكم قال : وما حاجتك إليه ؟ فقلت : أو من به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ؟ قال فشهدت فدفعني إلى بيت فيه علي سلمت وجلست فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : هذا النبي المبعوث فيكم ؟ قال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ قال : فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول الله فسلمت وجلست فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما حاجتك ؟ قلت : النبي المبعوث فيكم ؟ قال : وما حاجتك إليه ؟ قلت : أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشئ إلا أطعته ، فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا ذر انطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عم لك قد مات وليس له وارث غيرك ، فخذ ماله وأقم عند أهلك حتى يظهر أمرنا ! قال : فرجع أبو ذر فأخذ المال وأقام عند أهله حتى ظهر أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : هذا حديث أبي ذر وإسلامه رضي الله عنه وأما حديث سلمان فقد سمعته ! فقال : جعلت فداك حدثني بحديث سلمان ، فقال : قد سمعتَهُ ، ولم يحدثه لسوء أدبه » .
وفي رواية الصدوق : « قال أبو ذر : فانطلقت إلى بلادي فإذا ابن عم لي قد مات وخلف مالاً كثيراً في ذلك الوقت الذي أخبرني فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاحتويت على ماله ، وبقيت ببلادي حتى ظهر أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأتيته » .
وفي قصص الأنبياء للراوندي / 304 : « فلما انصرفت إلى قومي أخبرتهم بذلك ، فأسلم بعضهم وقال بعضهم : إذا دخل رسول الله أسلمنا ، فلما قدم أسلم بقيتهم » .
أقول : يدل هذا الحديث على أن أبا طالب وحمزة وجعفراً وعلياً « عليهم السلام » قد أسلموا من أول الأمر ، وأحاطوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وحرسوه ، ودعوا الناس إلى الإيمان به بأساليب متنوعة تتناسب مع كل واحد منهم ، ودوره الذي حدده له النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
لكن زعماء قريش الذين عادوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسرته وحاربوهم ثم أبعدوا عترته عن خلافته ، يريدون حذف أي دور لعترته في دعوته !
وقد روت مصادر السلطة إسلام أبي ذر « رحمه الله » بصيغ متفاوتة ، أشهرها رواية البخاري : 4 / 241 قال : « عن ابن عباس قال : لما بلغ أبا ذر مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لأخيه : إركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخير من السماء ، واسمع من قوله ثم أئتني . فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ( صلى الله عليه وآله ) ثم رجع إلى أبي ذر
--------------------------- 319 ---------------------------
فقال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وكلاماً ما هو بالشعر . فقال : ما شفيتني مما أردت ! فتزود وحمل شِنَّةً له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد ، فالتمس النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا يعرفه ، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل ، فرآه عليٌّ فعرف أنه غريب ، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى أصبح ، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد ، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أمسى فعاد إلى مضجعه ، فمر به عليٌّ فقال : أما نال للرجل أن يعلم منزله ! فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ ! حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على عليٍّ مثل ذلك فأقام معه ، ثم قال : ألا تحدثني ما الذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت ، ففعل فأخبره ، قال : فإنه حق وهو رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك ، فقمت كأني أريق الماء ، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل ، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ودخل معه ، فسمع من قوله وأسلم مكانه ، فقال له النبي إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري . قال : والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم ! فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه ، وأتى العباس فأكب عليه ، قال : ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام فأنقذه منهم ، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه ، فأكبَّ العباس عليه » .
ب - لم يرو بخاري شيئاً من كرامات أبي ذر ( رحمه الله ) مثل أنه كان موحداً على الفطرة ، وكان يصلي لربه كما هداه ، وقد رواه البيهقي وغيره ، وأن الله أكرم أبا ذر بأن كلمه الذئب ، وأرشده إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما رواه الكليني ، ولا روى بخاري كرامة شبعه وريِّه بماء زمزم ، كما رواه مسلم وغيره . . الخ . كما حذف بخاري ذكر أبي طالب وحمزة وجعفر من روايته ! ثم اختار روايته عن ابن عباس مع أنه لم يكن مولوداً عندما أسلم أبو ذر ، ولا أسند روايته إلى أبي ذر أو من عاصره وسمع منه !
--------------------------- 320 ---------------------------
وكذا غيَّب بخاري العديد من أحاديث أبي ذر « رحمه الله » وفيها الصحيح على شرطه !
وهذا ليس عجيباً ، فقد كان بخاري يعتاش من مال المتوكل ، ويطبق سياسته في طمس ذكر أبي طالب وإسلامه ، وتنقيص مكانة عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومن والاهم كأبي ذر « رحمه الله » ! وقد زعم بخاري أن العباس خلَّصَ أبا ذر مرتين من أيدي قريش !
ج - يظهر تعصب بخاري ضد أبي ذر ( رحمه الله ) عندما تقارن ما رواه عنه في صحيحه بما أهمله من الصحيح على شرطه ، كجهاده مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في كل حروبه ، وشهادات النبي العظيمة فيه ، وموقفه من السقيفة ، وجهاده عشرين سنة في فتوح الشام وفلسطين لبنان وقبرص ومصر ، وجهره بموالاة أهل البيت « عليهم السلام » ، وروايته أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيهم وفي مخالفيهم ، وثورته على معاوية وعثمان ، ونفي معاوية له إلى بر الشام ، ونفي عثمان له إلى الربذة ، وموته فيها غريباً وحيداً ، وصلاة ركب من الصالحين عليه ، فيهم مالك الأشتر « رحمه الله » كما أخبرالنبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وغاية ما رواه البخاري قول أبي ذر : 1 / 25 : « لو وضعتم الصمصامة على هذه ، وأشار إلى قفاه ، ثم ظننت أنى أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن تجيزوا عليَّ ، لأنفذتها » . وكتم أنه قال ذلك لما منعه عثمان من التحديث !
بل زوَّر البخاري عن عمد نفي عثمان له إلى الربذة بأنه كان بسبب خلافٍ بسيطٍ مع معاوية في تفسير قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . فشكاه معاوية إلى عثمان فجاء أبو ذر إلى المدينة : « فكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان فقال لي : إن شئت تنحيت فكنت قريباً . فذاك الذي أنزلني هذا المنزل » أي الربذة . 2 / 111 و 5 / 203 .
د - ثم روى بخاري أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذم أبا ذر ، وقال له : إنك امرؤ فيك جاهلية ! « 1 / 13 و 3 / 123 و 7 / 85 » . وأمره أن يطيع الحاكم بعده حتى لو كان عبداً حبشياً : « اسمع وأطع ولو لحبشي كأنَّ رأسه زبيبة » : 1 / 171 . أي وجهه كالزبيبة السوداء .
وروى عن أبي ذر أحاديث عديدة لتأييد مكذوبات رواة السلطة ، منها أن النبي
--------------------------- 321 ---------------------------
حكم بأن التوحيد كافٍ لدخول الجنة حتى بدون إيمان بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وحتى لو زنى وسرق ، على رغم أنف أبي ذر ! « 2 / 69 و 4 / 81 و 7 / 43 و 137 و 176 و 8 / 196 » وحديث أن الشمس تستأذن بالسجود تحت العرش فلايؤذن لها ! « 4 / 75 و 6 / 30 و 8 / 136 و 178 » . وأن المسجد الحرام كان أول بيت وضعه الله للناس قبلة ، ثم وضع المسجد الأقصى بعده بأربعين يوماً ! 4 / 117 و 136 .
وحديث أن جبرئيل شق صدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وغسله بماء من طست من ذهب ، ثم عرج به ! « 1 / 91 و 2 / 167 و 4 / 106 » . ثم روى عنه أحاديث عادية : 3 / 82 و 4 / 121 و 156 ، 5 / 6 و 242 و 6 / 150 ، 7 / 81 و 84 و 150 ، 219 ، 8 / 216 .
بينما روت مصادرنا ومصادر السلطة الكثيرالوفير المهم عن أبي ذر ، وكتب العلماء فيه بحوثاً ضافية وكتباً خاصة ، وكتبنا عنه موجزاً في ترجمة معاوية وأبيه .
ه‍ - روى مسلم : 7 / 152 قصة إسلام أبي ذر بخلاف رواية بخاري ، وفيها أنه صلى قبل الإسلام بثلاث سنين ، ودخل مكة فسأل : أين هذا الذي تدعونه الصابئ ؟ وأنهم اجتمعوا عليه وضربوه وأدمَوْه فغسل عنه الدماء بماء زمزم ، وبقي شهراً لم يَرَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يكن له طعام إلا ماء زمزم حتى سمن ، ثم رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جاء للطواف مع أبي بكر فسلم عليه ، واستأذن أبو بكر من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يضيفه فأطعمه من زبيب الطائف ! وأسلم ورجع إلى قومه يدعوهم . . .
قال ابن حجر : 7 / 132 : « أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه ، وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس . . ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولاً مع علي ، ثم لقيه في الطواف أو بالعكس . . . وقال القرطبي : في التوفيق بين الروايتين تكلفٌ شديد ، ولا سيما أن في حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له ، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء . . إلخ . » .
وصدق القرطبي ، فرواياتهم في إسلامه متناقضة لا يمكن الجمع بينها !
--------------------------- 322 ---------------------------
و - شهد أهل البيت ( عليهم السلام ) وأبو ذر ( رحمه الله ) أنه رابع المسلمين الذين أعلنوا إسلامهم ، وهم علي وجعفر وزيد وأبو ذر . ففي الفوائد الرجالية : 2 / 153 في حديث نفي عثمان لأبي ذر : « فقال أبو ذر : أجل والله لقد رأيتني رابع أربعة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أسلم غيرنا ، وما أسلم أبو بكر ولا عمر . فقال علي ( عليه السلام ) : والله لقد رأيته وهو رابع الإسلام » . وروى عنه الطيالسي / 157 ، والحارث / 304 والآحاد والمثاني 2 / 230 « كنت ربع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع » وابن حبان : 16 / 83 ، كبير الطبراني : 2 / 147 ، الحاكم : 3 / 341 ، الزوائد : 9 / 327 ، ووثقه . وبه يظهر تعصب بخاري وابن حجر .
وقال أبو نعيم في حلية الأولياء : 1 / 156 : « هو العابد الزهيد ، القانت الوحيد ، رابع الإسلام ، ورافض الأزلام ، قبل نزول الشرع والأحكام ، تعبد قبل الدعوة بالشهور والأعوام ، وأول من حيا الرسول بتحية الإسلام ، لم يكن تأخذه في الحق لائمة اللوام ، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام ، أول من تكلم في علم البقاء ، وثبت على المشقة والعناء ، وحفظ العهود والوصايا ، وصبر على المحن والرزايا ، واعتزل مخالطة البرايا ، إلى أن حل بساحة المنايا ، أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ، خدم الرسول ، وتعلم الأصول ، ونبذ الفضول » .
لكنهم لم يتركوا حديثه بدون تخريب ، فجعلوه رابع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر وبلال ، وكذبوا عليه بأنه قال : « لم يسلم قبلي إلا النبي وأبو بكر وبلال » . « الحاكم 3 / 342 » وحذفوا علياً وخديجة وجعفراً وزيداً وحمزة وأبا طالب ! مع أنهم رووا حديثاً صحيحاً متواتراً عن عفيف الكندي سمى فيه الثلاثة الذين قبله ، قال : « كنت امرأ تاجراً وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى ، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي ، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي ، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي ، فقلت للعباس : من هذا ؟ فقال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي ، يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام . وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته ، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب . قال عفيف الكندي وأسلم وحسن إسلامه :
--------------------------- 323 ---------------------------
لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام » . الحاكم : 3 / 183 ،
ابن كثير : 1 / 430 وغيرهما .
وقد شطح ابن حبان فقال في صحيحه : 16 / 83 : « قول أبي ذر كنت رابع الإسلام : أراد من قومه ، لأن في ذلك الوقت أسلم الخلق من قريش وغيرهم » !
ز - لم يهتم أتباع مذاهب السلطة بأبي ذر ( رحمه الله ) ، معشار ما اهتموا بأصاغر الصحابة ، ولو كان لأحد ممن يحبونهم عشر ما له من المناقب ، لملؤوا به كتبهم !
روى في الكافي : 2 / 587 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن أبا ذر أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعنده جبرئيل ( عليه السلام ) في صورة دحية الكلبي وقد استخلاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما رآهما انصرف عنهما ولم يقطع كلامهما ، فقال جبرئيل : يا محمد هذا أبو ذر قد مرَّ بنا ولم يسلم علينا ، أما لو سلم لرددنا عليه ، يا محمد إن له دعاء يدعو به ، معروفاً عند أهل السماء ، فسله عنه إذا عرجتُ إلى السماء .
فلما ارتفع جبرئيل جاء أبو ذر إلى النبي فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما منعك يا أبا ذر أن تكون سلمت علينا حين مررت بنا ؟ فقال : ظننت يا رسول الله أن الذي معك دحية الكلبي قد استخليته لبعض شأنك ، فقال : ذاك جبرئيل ( عليه السلام ) يا أبا ذر ، وقد قال : أما لو سلم علينا لرددنا عليه ، فلما علم أبو ذر أنه كان جبرئيل ( عليه السلام ) دخله من الندامة حيث لم يسلم عليه ما شاء الله ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما هذا الدعاء الذي تدعو به ، فقد أخبرني جبرئيل ( عليه السلام ) أن لك دعاء تدعو به معروفاً في السماء ؟ فقال : نعم يا رسول الله أقول : اللهم إني أسألك الأمن والإيمان بك ، والتصديق بنبيك ، والعافية من جميع البلاء ، والشكر على العافية ، والغنى عن شرار الناس » . وفي رجال الطوسي : 1 / 107 : « وسله عن كلمات يقولهن إذا أصبح » .
وفي الخصال / 448 : « عن عبد العزيز القراطيسي قال : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فذكرت له شيئاً من أمر الشيعة ومن أقاويلهم ، فقال : يا عبد العزيز ، الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي ، تُرْتَقى منه مرقاتٌ بعد مرقاة ، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على
--------------------------- 324 ---------------------------
شئ ، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شئ ، حتى انتهى إلى العاشرة . قال : وكان سلمان في العاشرة ، وأبو ذر في التاسعة ، والمقداد في الثامنة . يا عبد العزيز : لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك ، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل ، ولا تحملن عليه ما لا يطيقه فتكسره ، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره ، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل
حمل البازل فسخته » .
وفي الخصال / 42 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة الله عليه : التفكر والاعتبار » .
وفي الكافي : 3 / 250 عن علي بن إبراهيم رفعه ، قال : « لما مات ابن أبي ذر ، مسح أبو ذر القبر بيده ثم قال : رحمك الله يا ذر ، والله إن كنت بي باراً ، ولقد قبضت وإني عنك لراض ، أما والله ما بي فقدك وما عليَّ من غضاضة ، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ! والله ما بكيت لك ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك ؟ ثم قال : اللهم إني قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي فهب له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني » .
وفي الكافي : 2 / 458 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « جاء رجل إلى أبي ذر فقال : يا أبا ذر ما لنا نكره الموت ؟ فقال : لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة ، فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب ! فقال له : فكيف ترى قدومنا على الله ؟ فقال : أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله ، وأما المسئ منكم فكالآبق يرد على مولاه ! قال : فكيف ترى حالنا عند الله ؟ قال : أعرضوا أعمالكم على الكتاب ، إن الله يقول : إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ . قال فقال الرجل : فأين رحمة الله ؟ قال : رحمة الله قريب من المحسنين » .
وفي كامل الزيارات / 153 ، عن عروة قال : « سمعت أبا ذر وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة ، فقال له الناس : يا أبا ذر أبشر فهذا قليل في الله تعالى ، فقال : ما أيسر هذا ، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) قتلاً ، أو قال ذبحاً ! والله لا يكون
--------------------------- 325 ---------------------------
في الإسلام أعظم قتيلاً منه ، وإن الله سيسلُّ سيفه على هذه الأمة لايغمده أبداً ، ويبعث قائماً من ذريته فينتقم من الناس !
وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم ! وما من سماء يمر به روح الحسين ( عليه السلام ) إلا فزع له سبعون ألف ملك يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة ! وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله ، وما من يوم إلا تعرض روحه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيلتقيان » . فقير . . . غني بولاية علي

6 - إسلام عمرو بن عبسة السلمي أخ أبي ذر لأمه

ذكرت بعض الروايات أن أبا ذر أسلم هو وأخوه أنيس وأمه رملة بنت الوقيعة الغفارية ، وعدد من قبيلته بني غفار . أعيان الشيعة : 4 / 225 والأحوذي : 10 / 305 .
وذكروا له أخاً من أمه هو عمرو بن عبسة السلمي . تهذيب الكمال : 33 / 294 .
قال الطبري : 2 / 61 : « اجتمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خديجة بنت خويلد ، ثم اختُلف عندنا في ثلاثة نفر ، في أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة ، أيهم أسلم أول ، قال الواقدي : أسلم معهم خالد بن سعد بن العاص خامساً ، وأسلم أبو ذر قالوا رابعاً أو خامساً ، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي ، فيقال رابعاً أو خامساً . قال : فإنما اختلف عندنا في هؤلاء النفر أيهم أسلم أول ، وفي ذلك روايات كثيرة » . وشبيه به تاريخ اليعقوبي : 2 / 23 .
وروى الحاكم : 4 / 148 عن عمرو بن عبسة السلمي ، قال : « أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أول ما بعث وهو بمكة ، وهو حينئذ مستخف » .
وروى أحمد : 4 / 112 عن ابن عبسة : « إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً ، ثم سمعت عن رجل يخبر أخبار مكة ويحدث أحاديث ، فركبت راحلتي حتى قدمت مكة فإذا أنا برسول الله مستخف ، وإذا قومه عليه جرآء ، فتلطفت له فدخلت عليه فقلت : ما أنت ؟ قال أنا نبي الله ، فقلت : وما
--------------------------- 326 ---------------------------
نبي الله ؟ قال : رسول الله . قال قلت : آلله أرسلك ؟ قال : نعم . قلت : بأي شئ أرسلك ؟ قال : بأن يوحد الله ولا يشرك به شئ وكسرالأوثان وصلة الرحم . فقلت له : من معك على هذا ؟ قال : حُرٌّ وعبد ، أو عبد وحر ، وإذ معه أبو بكر بن أبي قحافة وبلال مولى أبي بكر . قلت إني متبعك . قال : إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحق بي . قال : فرجعت إلى أهلي وقد أسلمت فخرج رسول الله مهاجراً إلى المدينة ، فجعلت أتخبَّر الأخبار حتى جاء ركبة من يثرب فقلت : ما هذا المكي الذي أتاكم ؟ قالوا : أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك وحيل بينهم وبينه ، وتركنا الناس سراعاً اليه .
قال عمرو بن عبسة : فركبت راحلتي حتى قدمت عليه المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : نعم ، ألست أنت الذي أتيتني بمكة ؟ قال قلت : بلى ، فقلت : يا رسول الله علمني مما علمك الله وأجمل . قال : إذا صليت الصبح فاقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت فلا تصل حتى ترتفع ، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ، فإذا ارتفعت قيد رمح أو رمحين فصل ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر ، فإذا صليت العصر فاقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس ، فإنها تغرب حين تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار .
قلت : يا نبي الله أخبرني عن الوضوء . قال : ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره الله تعالى إلا خرجت خطاياه وجهه من أطراف لحيته من الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرجت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله عز وجل إلا خرجت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله عز وجل ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنبه كهيئته يوم ولدته أمه !
قال أبو أمامة : يا عمرو بن عبسة أنظر ما تقول ! أسمعت هذا من رسول الله ؟ ! أيعطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ ! قال فقال عمرو بن عبسة : يا أبا أمامة لقد كبرت
--------------------------- 327 ---------------------------
سني ورق عظمي واقترب أجلى وما بي من حاجة أن أكذب على الله عز وجل وعلى رسوله ! لو لم أسمعه من رسول الله إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً ، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك » ! وبعضه الطبقات : 4 / 217 وهو عندي محل شك .
وكان عمرو بن عبسة يقول : « رأيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو نازل بعكاظ فقلت : من معك على هذا الأمر ؟ فقال : رجلان أبو بكر وبلال ، فأسلمت . ولقد رأيتني وأنا ربع الإسلام » . أحمد : 4 / 112 ، المستدرك : 3 / 66 ، 285 و 1 / 164 . وتهذيب الكمال : 22 / 121 ، الطيالسي / 157 ، ابن خزيمة : 1 / 129 والأحاديث الطوال / 36 .
وقال ابن سعد في الطبقات : 4 / 219 : « لما أسلم عمرو بن عبسة بمكة ، رجع إلى بلاد قومه بني سليم ، وكان ينزل بصُفَّة وحَاذَة ، وهي من أرض بني سليم ، فلم يزل مقيماً هناك حتى مضت بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر ، ثم قدم على رسول الله بعد ذلك المدينة » . وفي الطبقات : 7 / 403 : « ثم خرج بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الشام فنزلها إلى أن مات بها » . راجع معجم البلدان : 4 / 386 .
أقول : كلامه عن الصلاة ، وعن كيفية إسلامه يوجب الشك في صدقه ، ولعله زار أمه وأخويه أبا ذر وأنيساً ، فوجدهم مسلمين فأسلم ، ثم عاد إلى موطنه في بني سليم في أطراف نجد ، وبقي هناك ولم يهاجر . ومما يزيد الشك في صدقه أنه جعل إسلام أبي بكر قبل كل الناس ، وإسلام بلال مع أبي بكر ، ولم يقل به أحد !

7 - قالوا أبو بكر أول من أسلم وقال سعد أسلم بعد خمسين

قالوا إن علياً كان صغيراً لم يبلغ الحلم عندما أسلم ، وكان أبو بكر شاباً ! وردهم المأمون بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعاه إلى الإسلام بأمر ربه ، فهو كبير وإن كان صغيراً !
ثم قالوا إن أبا بكر أسلم قبل علي ( عليه السلام ) وبالغوا في شجاعته وثروته ، وعددوا أناساً أسلموا على يده ! لكن سعد بن أبي وقاص شهد بأن أبا بكر أسلم متأخراً . قال ابنه محمد : « قلت لأبي : أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ، ولكن كان أفضلنا إسلاماً » . الطبري : 2 / 60 .
--------------------------- 328 ---------------------------
وروى ابن أبي شيبة : 8 / 448 عن هشام بن عروة قال : « أسلم أبو بكر يوم أسلم وله أربعون ألف درهم . . أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية أم عمار ، فأما رسول الله فمنعه عمه ، وأما أبو بكر فمنعه قومه ، وأُخذ الآخرون فألبسوا أدراع الحديد ثم صهروهم . . . » .
وهذا لا يصح عن أول البعثة ، لأن مرحلة دعوة العشيرة الأقربين امتدت ثلاث سنين وكان الخوف فيها شديداً ، فلوأسلم أبو بكر في تلك الفترة ، لكان لقريش ردة فعل كما في إسلام أبي ذر وعمار .
كما لا يصح قوله : منعته قبيلته ، في أبي بكر ، لأن نوفل بن خويلد من بني أسد عبد العزى كان يربط أبا بكر بحبل هو وطلحة ويحبسهما ، فسميا القرينين . وكان خويلد يدعى أسد قريش فقتله علي ( عليه السلام ) في بدر . « الحاكم 3 / 369 » . وكان عثمان بن عبيد الله أيضاً يربطهما بحبل . « الإصابة 6 / 77 » . ولم تحمهما قبيلتهما تيم .
ورووا أن أبا بكر هاجر إلى اليمن لخوفه على نفسه ، فوجد ابن الدِّغِنَّة وهو رئيس الأحابيش القارة ، أي الرماة ! فحماه وأرجعه معه إلى مكة ، وأعلن لقريش أنه يجيره فبلت ، في قصة طويلة كررها البخاري : 3 / 58 وابن هشام : 1 / 249 .

8 - خامس المسلمين خالد بن سعيد بن العاص الأموي

أ - شاء الله عز وجل أن يجعل من أبناء أبي أُحَيْحَة مسلمين مؤمنين !
وأبوأحيحة هو سعيد بن العاص الأموي ، من كبار فراعنة قريش وأثريائهم ، ومعنى الأُحَيْحَة الضغينة في الصدر ، ويقال كان له ابن اسمه أحيحة توفي صغيراً . وكان له خمسة أولاد ذكور وقيل ثمانية ، والمعروف منهم ابنه الكبير العاص الذي شهد بدراً مع المشركين فقتله علي ( عليه السلام ) ، وخالد وعمرو وأبان ، الذين أسلموا وختم الله لهم بالشهادة ، وأفضلهم خالد الذي أكرمه الله برؤيا كانت سبب هدايته !
ففي الطبقات : 1 / 166 ، تاريخ دمشق : 16 / 67 ، عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت : « لما كان قبيل مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) بينا خالد بن سعيد ذات ليلة نائم قال : رأيت كأنه
--------------------------- 329 ---------------------------
غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه ، فبينا هو كذلك إذ خرج نور ثم علا في السماء فأضاء في البيت ، ثم أضاء مكة كلها ، ثم إلى نجد ، ثم إلى يثرب فأضاءها حتى أني لأنظر إلى البسر « التمر » في النخل ! قال فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جَزِلَ الرأي « راجحه » فقال : يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبد المطلب ! ألا ترى أنه خرج من حفيرة أبيهم « زمزم » .
قال خالد : فإنه لما هداني الله به للإسلام . قالت أم خالد : فأول من أسلم أبي ، وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا خالد أنا والله ذلك النور ، وأنا رسول الله ، فقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد ، وأسلم عمرو » . ورواه ابن حبيب في المنمق / 292 ، وكنز الفوائد / 93 وغيرها ، بروايات متعددة وتفاصيل .
وفي المستدرك : 3 / 248 : « وأرسل أبوه في طلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ورافعاً مولاه ، فوجده فأتوا به أباه أبا أحيحة ، فأنَّبه وبكَّته وضربه بصريمة في يده حتى كسرها على رأسه ، ثم قال : اتبعت محمداً وأنت ترى خلاف قومه ، وما جاء به من عيب آلهتهم وعيبه من مضى من آبائهم ؟ !
فقال خالد : قد صدق والله واتبعته . فغضب أبوه أبو أحيحة ونال منه وشتمه ، ثم قال : إذهب يا لكع حيث شئت ، والله لأمنعنك القوت !
فقال خالد : إن منعتني فإن الله عز وجل يرزقني ما أعيش به ! فأخرجه وقال لبنيه : لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت به ، فانصرف خالد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكان يكرمه ويكون معه » .
وفي الطبقات : 4 / 95 : « كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص ثالثاً أو رابعاً ، وكان ذلك ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدعو سراً . . . فضربه أبو أحيحة بقراعة في يده حتى كسرها على رأسه ، ثم أمر به إلى الحبس وضيق عليه وأجاعه وأعطشه ، حتى لقد مكث في حر مكة ثلاثاً ما يذوق ماء ، فرأى خالد فُرجة فخرج فتغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى حضر خروج أصحاب رسول الله إلى الحبشة في الهجرة الثانية » .
وفي المناقب : 1 / 288 : « استفاضت الرواية أن أول من أسلم علي ، ثم خديجة ،
--------------------------- 330 ---------------------------
ثم جعفر ، ثم زيد ، ثم أبو ذر ، ثم عمرو بن عنبسة السلمي ، ثم خالد بن سعيد بن العاص ، ثم سمية أم عمار ، ثم عبيدة بن الحرث ، ثم حمزة « أعلن إسلامه » ثم خباب بن الأرت ، ثم سلمان ، ثم المقداد ، ثم عمار ، ثم عبد الله بن مسعود ، في جماعة . ثم أبو بكر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعيد بن زيد ، وصهيب وبلال » .
وفي الآحاد والمثاني : 1 / 387 : « كان « خالد » جميلاً وسيماً ، قتل وهو ابن نحو خمسين » .
وفي الإستيعاب : 2 / 420 : « هاجر إلى أرض الحبشة مع امرأته الخزاعية ، وولد له بها ابنه سعيد بن خالد ، وابنته أم خالد . . . قالت . . وشهد أبي مع رسول الله عمرة القضاء وفتح مكة ، وحنيناً ، والطائف ، وتبوك ، وبعثه رسول الله على صدقات اليمن ، فتوفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي باليمن » .
ب - هاجر خالد إلى الحبشة ، لكنه كان يتردد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويقوم له بمهمات . فقد أرسله النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى قيصر الروم ، فتأثر به كبير الأساقفة . تاريخ دمشق : 16 / 67 .
وكان يتاجر إلى اليمن فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بآلة كالمنجنيق من جرش . إمتاع الأسماع : 2 / 21 .
وكان إلى جانب جعفر في الهجرة ، ورجع معه في السنة السابعة . الإستيعاب : 3 / 1177 .
ولما توفي في الحبشة زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فكتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) للنجاشي أن يخطبها له ، فوكلت خالد بن سعيد وخطبها النجاشي منه . الإستيعاب : 4 / 1932 .
ج - شارك سعيد بفعالية في حروب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمَّره في فتح مكة على سرية وأرسله إلى ذي عَرَنة . التنبيه والإشراف / 233 .
وكان يكتب للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو أول من ابتدأ بالبسملة . « الدر المنثور : 1 / 11 ومكاتيب الرسول : 1 / 149 » . وتوسط للنبي ( صلى الله عليه وآله ) مع ثقيف وكتب عهدهم . الدرر / 248 .
د - أرسله النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع علي ( عليه السلام ) لفتح اليمن فجعله علي ( عليه السلام ) قائد مقدمته ، وبرز إلى عمرو بن معدي كرب فنهاه علي ( عليه السلام ) ، وبرز هو اليه وصاح بعمرو فهرب ! ثم جاء عمرو واستأمن ، وأعطى سيفه المشهور الصمصامة إلى خالد .
--------------------------- 331 ---------------------------
وذهب خالد بن الوليد بمن معه في اليمن إلى جهة ، فنهاه علي ( عليه السلام ) فخالفه ، فبعث اليه خالد بن سعيد ، فأجبره على طاعة أميره . كشف الغمة : 1 / 229 .
ولاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) على اليمن وكتب له كتاب الفرائض . مكاتيب النبي : 1 / 303 .
ه - - عندما توفي النبي ( صلى الله عليه وآله ) رجع خالد إلى المدينة وتفاجأ ببيعة أبي بكرفغضب « وأتى بني هاشم فقال : أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار والعصا دون اللحا ، فإذا رضيتم رضينا وإذا أسخطتم سخطنا . . . وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها واضطغنها عليه عمر فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر : أتولي خالداً وقد حبس عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال ! » . شرح النهج : 2 / 58 .
و - كان أول الخطباء المعترضين على بيعة أبي بكر ، ففي الاحتجاج : 1 / 97 والخصال / 461 ، عن أبان بن تغلب قال : « قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق : جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : نعم كان الذي أنكر على أبي بكر اثنا عشر رجلاً . من المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية ،
وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي . ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبيُّ بن كعب ، وأبو أيوب الأنصاري ، وغيرهم . فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم : هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال آخرون : إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم وقال الله عز وجل : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ ، ولكن إمضوا بنا إلى علي بن أبي طالب نستشيره ونستطلع أمره ، فأتوا علياً ( عليه السلام ) فقالوا : يا أمير المؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به ، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله فإن الحق حقك وأنت أولى بالأمر منه ، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك ، فقال لهم علي : لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم ، ولا كنتم إلا كالكحل في
--------------------------- 332 ---------------------------
العين أو كالملح في الزاد ، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها والكاذبة على ربها ! ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت لما تعلمون من وَغَرِ صدور القوم وبغضهم لله عز وجل ولأهل بيت نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنهم يطالبون بثارات الجاهلية ! والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني وقالوا لي : بايع وإلا قتلناك ، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي ، وذاك أني ذكرت قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ، إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك ، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر ! ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك ، فإن الأمة ستغدر بك بعدي ! كذلك أخبرني جبرئيل ، عن ربي تبارك وتعالى .
ولكن إئتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا تجعلوه في الشبهة من أمره ، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه ، وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، وخالف أمره » !
ز - وقال علي ( عليه السلام ) : « فأتى رهط من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) يعرضون عليَّ النصرة منهم خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، والزبير بن العوام ، وأبو سفيان بن حرب ، والبراء بن مالك الأنصاري . فقلت لهم : إن عندي من نبي الله العهد وله الوصية ، وليس لي أن أخالفه ولست أجاوز أمره وما أخذه علي لله ! لو خزموا أنفي لأقررت سمعاً وطاعة لله عز وجل ، فبينا أنا على ذلك إذ قيل : قد انثال الناس على أبي بكر وأجفلوا عليه ليبايعوه ، وما ظننت أنه تخلف عن جيش أسامة إذ كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد أمَّره عليه وعلى صاحبه وأمر أن يجهز جيش أسامة ، فلما رأيته قد تخلف وطمع في الأمارة ، ورأيت انثيال الناس عليه أمسكت يدي . . . فلبثت ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام وأظهرت ذلك يدعون إلى محو دين الله ، وتغيير ملة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وقعدت أن أرى فيه ثلماً وهدماً تكون مصيبته علي أعظم من فوت ولاية أموركم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما
--------------------------- 333 ---------------------------
يزول السراب ، وينقشع كما ينقشع السحاب . ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم ، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فتألفته ، ولولا أني فعلت ذلك لباد الإسلام ثم نهضت في تلك الأحداث حتى انزاح الباطل ، وكانت كلمة الله هي العليا ، ولو كره المشركون » . المسترشد / 411 .
ح - عرض عليه أبو بكر الولاية فرفضها هو وإخوته ، قال لهم أبو بكر : « ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إرجعوا إلى أعمالكم ، فقالوا : لا نعمل بعد رسول الله لأحد ! فخرجوا إلى الشام فقتلوا عن آخرهم » ! الحاكم : 3 / 249 .
ثم أعلن بعض العرب عدم طاعتهم لأبي بكر ، وأعلن مسيلمة الكذاب نبوته وحث أبو بكر الناس على الجهاد فتثاقلوا حتى نهض علي ( عليه السلام ) وحثهم على جهاد مسيلمة وذات مرة قال عمر : « لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا . . الآية . فقال له خالد بن سعيد بن العاص : يا ابن أم عمر ، ألنا تضرب أمثال المنافقين ! والله لقد أسلمت وإنَّ لبني عدي صنماً إذا جاعوا أكلوه ، وإذا شبعوا استأنفوا » . عين العبرة لابن طاووس / 18 .
ط - ولما رأى أبو بكر رفض خالد للولاية ورغبته في الجهاد ، عقد له على جيش فتح الشام : « فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص ، ثم عزله قبل أن يسيِّره ، وولى يزيد بن أبي سفيان فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام » .
« عن ابن عمرقال : لما عقد أبو بكر الأمراء على الشام كنت في جيش خالد بن سعيد بن العاص ، فصلى بنا الصبح بذي المروة وهو على الجيوش كلها ، فوالله إنا لعنده إذ أتاه آت فقال قدم يزيد بن أبي سفيان ، فقال خالد بن سعيد هذا عمل عمر بن الخطاب ، كلم أبا بكر في عزلي وولى يزيد بن أبي سفيان !
فقال ابن عمر فأردت أن أتكلم ، ثم عزم لي على الصمت . قال : فتحولنا إلى يزيد بن أبي سفيان وصار خالد كرجل منهم ، وقال محمد بن عمر : وهذا أثبت عندنا مما روي في عزل خالد وهو بالمدينة » . تاريخ دمشق : 65 / 244 .
وفي تاريخ الطبري : 2 / 586 وشرح النهج : 2 / 58 : « واضطغنها عليه عمر ، فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر : أتولي خالداً وقد حبس
--------------------------- 334 ---------------------------
عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال » .
ي - وكان خالد في الشام هو القائد الحقيقي لقوة إيمانه وشجاعته ، وضعف يزيد بن أبي سفيان الشاب أمامه ، فسعيد من ناحية اجتماعية ابن أبي أحيحة الأقوى والأعرق في قيادة بني أمية ، من أبي سفيان وأولاده . على أن خالداً لم يذهب مع يزيد بن أبي سفيان ، بل اختار أن يذهب في جيش شرحبيل بن حسنة فأوصاه به أبو بكر ، وربما كان ذلك بفعل تأنيب الضمير !
ففي الطبقات : 4 / 98 : « لما عزل أبو بكر خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة ، وكان أحد الأمراء فقال : أنظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج والياً عليك ، وقد عرفت مكانه من الإسلام ، وأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) توفي وهو له والٍ ، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله وعسى أن يكون ذلك خيراً له في دينه . ما أغبط أحداً بالأمارة ! وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك على ابن عمه ، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح ، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، وليكن خالد بن سعيد ثالثاً ، فإنك واجد عندهم نصحاً وخيراً . وإياك واستبداد الرأي عنهم ، أو تطوي عنهم بعض الخبر .
قال محمد بن عمر : فقلت لموسى بن محمد : أرأيت قول أبي بكر قد اختارك على غيرك ؟ قال : أخبرني أبي أن خالد بن سعيد لما عزله أبو بكر كتب إليه أي الأمراء أحب إليك ؟ فقال : ابن عمي أحب إلي في قرابته ، وهذا أحب إلي في ديني ، فإن هذا أخي في ديني على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وناصري على ابن عمي ، فاستحبَّ أن يكون مع شرحبيل بن حسنة » .
أقول : شرحبيل صحابي عرف باسم أمه حسنة . واسم أبيه المطاع من قبيلة غوث من كندة ، ولد ونشأ في مكة وتحالف مع بني زهرة ، وأسلم وهاجر إلى الحبشة وكان فارساً وصديقاً لخالد بن سعيد الفارس البطل يحترمه ويناصره ، ولذلك اختار خالد أن يكون معه فأعطاه قيادة الخيل ، ولا بد أن تكون خططه كلها من خالد ، ولذا قلنا
--------------------------- 335 ---------------------------
إن ثقل معركة أجنادين التي تم فيها فتح الأردن وفلسطين كان على خالد ، وكان الروم يجمعون فيها قواتهم فنزل شرحبيل مقابلهم ، ولما اقتربت المعركة جاءه من المسلمين مدد مساعد ، وقد فتح جيش شرحبيل الأردن كلها عنوة أي بالحرب ، إلا طبرية فصالحه أهلها ، بينما فتحت المدن التي توجهت إليها الفرق الأخرى صلحاً ، أي بالمحاصرة أو بالتخويف ، بدون حرب كبيرة .
ك - وكان خالد « رحمه الله » بطل معركة أجنادين التي بدأت بها هزيمة هرقل ، فقد توجه جيش المسلمين إلى الشام فاجتاحوا مدينة بصرى الشام بسهولة ، وصالحهم أهلها على الجزية وأن يكونوا تحت حكمهم . وكان هرقل يومها في حمص فأمر بتجميع الجيش لقتال المسلمين في « أجنادين » وهي في فلسطين قرب مدينة بيت جبرين ، وجعل القيادة لابنه وخليفته ، فجمعوا لهم تسعين ألف مقاتل .
قال البلاذري : 1 / 135 : « ثم كانت وقعة أجنادين وشهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم ، وتجمع باقوهم من النواحي ، وهرقل يومئذ مقيم بحمص » . « واجتمعت الروم بأجنادين ، وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه ، وقيل كان على الروم القبقلار » . الكامل : 2 / 417 .
« ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة . . . من بصرى يُعلم خالداً بمسير الروم اليه من أجنادين في تسعين ألف فارس » « فتوح الواقدي : 1 / 48 » . وهذا يدل على أن خالداً كان قائد الجيش الميداني .
وقال ابن عبد البر في الإستيعاب : 1 / 64 : « وكانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر الصديق ، قبل وفاة أبي بكر بدون شهر . . . وكان في إجنادين أمراء أربعة أبو عبيدة بن الجراح ، وعمرو بن العاص ، ويزيد أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، كل على جنده » .
« فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، فظهر المسلمون وهزم الله المشركين ، وقتل خليفة هرقل » . تاريخ الطبري : 2 / 611 .
--------------------------- 336 ---------------------------
وفي رواية ابن عساكر : 16 / 66 : « فحملت لهم خيل على خالد بن سعيد ، وكان واقفاً في جماعة من المسلمين في ميمنة الناس يحرض الناس ويدعو الله عز وجل ، ثم يقبض عليهم ، فحملت طائفة منهم عليهم فنازلهم فقاتلهم قتالاً شديداً » .
وورد ذكر أخيه أبان بن سعيد : « ورُمِيَ أبان بن سعيد بن العاص بنشابة فنزعها وعصبها بعمامته فحمله أخواه خالد بن سعيد وعمرو بن سعيد فقال : لاتنزعوا عمامتي عن جرحي فإنكم إذا انتزعتموها عن جرحي تبعتها نفسي ، أما والله ما أحب أنها بأقصى حجر من البلاد مكاني ، فلما نزعوا العمامة مات « رحمه الله » » .
« واستشهد من المسلمين طائفة . . . وانتهى خبر الوقعة إلى هرقل فنخِب قلبه ، ومُلئ رعباً فهرب من حمص إلى أنطاكية » . معجم البلدان : 1 / 103 .
ل - ولم يكن شرحبيل يعجب عمر فعزله بدون سبب ، بحجة أنه وجد أقوى منه ! وتوفي شرحبيل في طاعون عمواس وعمره 67 سنة . تاريخ دمشق : 22 / 464 .
م - تعمد تاريخ السلطة أن يخفي بطولات الأبطال الذين حققوا النصر للمسلمين في هاتين المعركتين لمجرد أنهم من تلاميذ علي ( عليه السلام ) ! وفي طليعتهم خالد بن سعيد بن العاص بطل معركة أجنادين وأخواه عمرو وأبان ، ومالك الأشتر بطل معركة اليرموك ، وأبو ذر ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وغيرهم .
وكذلك دور حذيفة بن اليمان ، وحجر بن عدي ، وحبيب بن مظاهر ، وزهير بن القين ، أبطال فتوحات العراق وفارس وأرمينيا . وكذلك دور جعدة بن هبيرة قائد فتوح خراسان ، وما وراء النهر !
كما أخفى تاريخ السلطة استغاثة أبي بكر وعمر بعلي ( عليه السلام ) في الشدائد ، ونهوضه فيها ، وإدارته أهم معارك الفتوحات !
ن - بعد انتصار المسلمين في أجنادين بقيادة سعيد وبطولته ، ثم في معركة اليرموك ببطولة مالك الأشتر « رحمه الله » ، انسحب هرقل إلى القسطنطينية وودع سوريا قائلاً : السلام عليك يا سوريا ! وسقطت الشام وفلسطين وقبرص بيد المسلمين .
--------------------------- 337 ---------------------------
س - كان خالد القائد الحقيقي لجيش شرحبيل ، وكان الأشتر الفارس الحاسم في جيش خالد وأبي عبيدة ، وكان أبو ذر « رحمه الله » مفتي جيش الشام وموجهه .
قال القاضي النعمان في شرح الأخبار : 2 / 156 : « غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس وهو أمير على الشام فغنموا وقسموا الغنائم ، فوقعت جارية في سهم رجل من المسلمين وكانت جميلة ، فذكرت ليزيد فانتزعها من الرجل ! وكان أبو ذر يومئذ بالشام فأتاه الرجل فشكا إليه واستعان به على يزيد ليرد الجارية إليه ، فانطلق إليه معه وسأله ذلك فتلكأ عليه ! فقال له أبو ذر : أما والله لئن فعلت ذلك ، لقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية ثم قام ! فلحقه يزيد فقال له : أذكرك الله عز وجل أنا ذلك الرجل ؟ قال : لا . فرد عليه الجارية » . وفي سير الذهبي : 1 / 329 وتاريخ دمشق : 65 / 250 : « فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد » !
وصححه الألباني : 4 / 329 ، ولم يبين مناسبته ! قال : « أول من يغير سنتي رجل من بني أمية ! ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة » !
وفي تقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي / 266 : « كتب معاوية إلى عثمان : إن أبا ذر قد حرَف قلوب أهل الشام وبغَّضك إليهم فما يستفتون غيره ولا يقضي بينهم إلا هو ! فكتب عثمان إلى معاوية : أن احمل أبا ذر على ناب صعبة » . والبحار : 31 / 274 .
ع - قُتل خالد بن سعيد بعد تحقيقه النصر في أجنادين ، في ظرف مريب ، وزاد من الريبة تناقض روايتهم فقالوا قتل في معركة أجنادين ، لكن ثبت أنه تزوج بأم حكيم الخزاعية بعد استشهاد زوجها عكرمة بن أبي جهل في أجنادين ، وقد اعتدت بعده أربعة اشهر وعشراً . وقالوا قتل في مرج الصفر ، وهي قرية في حوران ، وقد تناقضت روايتها في وجود معركة فيها ، وفي وقتها !
وقالوا خرج يستمطر في مرج الصفر بعد انتصاره في أجنادين ، أي نزع ثيابه ووقف تحت ماء المطر « فيض القدير : 5 / 280 » ، فباغته الروم فقتلوه ! الطبري : 2 / 601 .
وقالوا كان غيره يستمطر فقتلهم الروم ، فهرب هو بفئة من الجيش « تاريخ :
--------------------------- 338 ---------------------------
2 / 104 » لكنه لم يعرف عنه الهرب في المعارك ! « وقالوا لما قتل الرومي خالد بن سعيد قلب ترسه وأسلم واستأمن ! وقال مَن الرجل الذي قتلنا ، فإني رأيت له نوراً ساطعاً في السماء » . « تاريخ دمشق : 16 / 83 » . والسر عند ذلك الرومي الذي أخفوا اسمه !
ومما يوجب زيادة الشك أن السلطة أشاعت بعد قتل خالد بن سعيد ، أن عمر كان رضي عنه لحسن بلائه في الفتوحات !
ف - وقد ذكر الباحث الشيخ نجاح الطائي في كتابه اغتيال أبي بكر / 64 ، بأن عمر اغتال أبا بكر وخالد بن سعيد ، وخالد بن الوليد ، وشرحبيل بن حسنة ، وأبا عبيدة وبلالاً وأصحابه المعترضين عليه . . . فدس إليهم السم ، إذ مات أبو بكر وطبيبه وواليه على مكة في يوم واحد !
ص - ولعل زواج خالد بن سعيد بأم الحكم الخزاعية أثار عمر ، « ففي الطبقات 4 / 98 » : « شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين وفحل ومرج الصفر ، وكانت أم الحكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل ، فقتل عنها بأجنادين ، فأعدت أربعة أشهر وعشراً ، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها ، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها في عدتها يتعرض للخطبة فحطت إلى خالد بن سعيد فتزوجها على أربعمائة دينار ، فلما نزل المسلمون مرج الصفر أراد خالد أن يعرس بأم حكيم فجعلت تقول لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع ، فقال خالد : إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم . قالت : فدونك . فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر ، فبها سميت قنطرة أم حكيم ، وأولم عليها في صبح مدخله فدعا أصحابه على طعام ، فما فرغوا من الطعام حتى صفَّت الروم صفوفها صفوفاً خلف صفوف ، وبرز رجل منهم معلم يدعو إلى البراز ، فبرز إليه أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري فنهاه أبو عبيدة ، فبرز حبيب بن مسلمة فقتله حبيب ورجع إلى موضعه ، وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل ، وشدت أم حكيم بنت الحارث عليها ثيابها وعَدَت وإن عليها لدرعاً والخلوق في وجهها . . . وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد معرساً بها . وكانت وقعة مرج الصفر في المحرم سنة أربع عشرة ، في خلافة عمر بن الخطاب » . انتهى .
--------------------------- 339 ---------------------------
ويظهر أنها كانت من فاضلات النساء ، فقد هرب زوجها عكرمة بن أبي جهل عند فتح مكة فأسلمت هي وبايعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخذت منه أماناً لزوجها ولحقت به إلى اليمن وجاءت به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم ، وكانت مع زوجها عكرمة في فتوح الشام ، وبعد شهادته تزوجت بخالد بن سعيد ، وبعد شهادته « فتزوجها عمر بن الخطاب ، فولدت له فاطمة بنت عمر » . تاريخ دمشق : 70 / 225 . راجع : الكافي : 5 / 572 ، الموطأ : 2 / 545 ، المستدرك : 3 / 241 ، فتح الباري : 8 / 9 ، التوابين لابن قدامة / 123 والطبقات : 5 / 50 .

9 - من أوائل المسلمين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب

أ - في الخصال / 452 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، عن جابر قال : « سئل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن ولد عبد المطلب فقال : عشرة ، والعباس ! قال الصدوق : وهم عبد الله ، وأبو طالب والزبير ، وحمزة ، والحارث وهو أسنُّهم ، والغيداق ، والمقوم ، وحجل ، وعبد العزى وهو أبو لهب ، وضرار ، والعباس » .
وفي جواهر العقود للأسيوطي : 1 / 396 : « وأجمعوا على تحريم الصدقة المفروضة على بني هاشم ، وهم خمس بطون : آل علي ، وآل عباس ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحارث بن عبد المطلب . واختلفوا في بني المطلب فحرمها مالك وأحمد في أظهر روايته ، وجوزها أبو حنيفة » . وذكر الشيخ الطوسي أن ذرية عبد المطلب انحصرت بأولاد أبي طالب ، والحارث ، والعباس ، وأبي لهب ، ولا عقب للباقين . الخلاف : 3 / 540 .
ب - أسلم من أعمام النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبو طالب وحماه ونصره ، وكذا حمزة ، وأسلم عبيدة بن الحارث ابن عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أوائل البعثة ، وكان أكبر سناً من النبي ( صلى الله عليه وآله ) . ولم يسلم العباس إلا بعد أن أخذ أسيراً في بدر ، وشذ أبو لهب إلى النار . « كان « عبيدة » مربوعاً أسمر حسن الوجه » . الطبقات : 3 / 50 .
وكان مسلماً صادقاً ، ففي المرحلة الأولى من الدعوة عندما تكالبت قريش على قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) تعاهد هو وحمزة وعلي وجعفر ، على نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبذل أرواحهم دونه فنزل فيهم قرآن .
--------------------------- 340 ---------------------------
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حديثه مع حبر يهودي : « قد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر ، من ذي العطش الصدي ! ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) أنا وعمي حمزة ، وأخي جعفر ، وابن عمي عبيدة ، على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم ، لما أراد الله عز وجل فأنزل الله فينا : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . حمزة ، وجعفر ، وعبيدة ، وأنا والله والمنتظر يا أخ اليهود ، وما بدلت تبديلا » . الخصال / 376 .
وقد طبق الإمام الصادق ( عليه السلام ) هذه الآية على الشيعة الذين صدقوا ووفوا بولاية أهل البيت « عليهم السلام » فقال لأبي بصير « رحمه الله » « الكافي : 8 / 34 » : « يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ، إنكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا ، وإنكم لم تبدلوا بنا غيرنا ، ولو لم تفعلوا لعيركم الله كما عيرهم حيث يقول جل ذكره : وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ » .
ج - هاجر عبيدة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمَّره النبي ( صلى الله عليه وآله ) على سرية بعثها لاعتراض قافلة قريش ، وكانت أول سرية حسب قول ابن إسحاق والبخاري ، والثانية حسب قول غيرهما ، والأولى كانت بقيادة حمزة .
قال ابن عبد البر في الإستيعاب : 1 / 313 : « وكانت هجرته إلى المدينة مع أخويه الطفيل والحصين بن الحارث بن المطلب ، ومعه مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، ونزلوا على عبد الله بن سلمة العجلاني . وكان لعبيدة بن الحارث قَدر ومنزلة عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال ابن إسحاق : أول سرية بعثها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع عبيدة بن الحارث في ربيع الأول سنة اثنتين في ثمانين راكباً ، ويقال في ستين من المهاجرين ليس فيها من الأنصار أحد ، وبلغ سيف البحر حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة ، فلقي بها جمعاً من قريش ، ولم يكن بينهم قتال » .
--------------------------- 341 ---------------------------
د - وفي معركة بدر : « فلبس عتبة درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقال : يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش ، فتطاولت الأنصار لمبارزتهم فدفعهم ، وأمر علياً ( عليه السلام ) وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن سبعين سنة بالبراز ، وقال : قاتلوا على حقكم الذي بعث الله به نبيكم ، إذ جاؤوا بباطلهم ليطفؤا نورالله ، فلما رأوهم قالوا : أكفاء كرام .
فقتل علي الوليد وحمزة عتبة وأصابت فخذ عبيدة ضربة ، فحمله علي وحمزة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ألستُ شهيداً ؟ قال : بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي ، فمات بالصفراء » . المناقب : 1 / 162 .
ه - - قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في جوابه على رسالة معاوية : « ثم أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بقتال المشركين فكان يقدم أهل بيته إلى حر الأسنة والسيوف ، حتى قتل عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أحد ، وقتل جعفر بمؤتة وزيد بن حارثة ، وأسلم الناس نبيهم يوم حنين غير العباس عمه ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه ، وأراد من لو شئت يا معاوية ذكرت اسمه ، مثل الذي أرادوا من الشهادة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، إلا أن آجالاً أجلت ومنية أخرت ، والله ولي الإحسان إليهم والمنان على أهل بيتي بما أسلفوا من الصالحات . وقد أنزل الله تعالى في كتابه فضلهم يوم حنين فقال : ثمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وإنما عنانا بذلك دون غيرنا ، فتذكرُ في الفضل غيرنا وتدعنا ! فلم لا تذكر فيه من استشهد في الله ورسوله منا ؟ وما ذاك إلا لحسدك إيانا وبغيك علينا ، كما أن تلك عادتك فينا ! فهل سمعت يا معاوية بأهل بيت نبي في سالف الأمم أصبر على الضراء واللأواء وحين البأس والمواطن الكريهة ، من هؤلاء النفر الذين عددتهم من أهل بيتي . وفي المهاجرين والأنصار خير كثير جزاهم الله بأحسن أعمالهم » . مناقب الخوارزمي / 251 .
و - في المناقب للقاضي النعمان / 146 : « وقد قطع عتبة رجل عبيدة فمات بعد منصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، بالصفراء ، رحمة الله عليه » .
--------------------------- 342 ---------------------------
وفي الإستيعاب : 3 / 313 : « فمات بالصفراء على ليلة من بدر ، ويروى أن رسول الله لما نزل بأصحابه بالتاربين قال له أصحابه : إنا نجد ريح المسك ! قال : وما يمنعكم وهاهنا قبر أبي معاوية » .
وفي وفاء الوفا : 2 / 1064 : « بذفران مسجد يتبرك به على يسار من سلكه إلى ينبع . . . أمام محرابه قبر قديم محكم البناء . . . قبر عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب » .
ولا بد أن الوهابية أزالهم الله ، أزالوه فيما أزالوا من معالم الإسلام !

10 - إسلام عمار ووالديه ياسر وسمية رضي الله عنهم

10 - إسلام عمار ووالديه ياسر وسمية رضي الله عنهم
أ - اتفق رواة السيرة على أن عائلة ياسرمن أول المسلمين ، وكانوا حلفاء لبني مخزوم ، وقد يكون إسلامهم في السنوات الثلاث الأولى يوم كان رئيس بني مخزوم الوليد بن المغيرة ، لكن لا تجد له ذكراً في رواية إسلامهم وتعذيبهم ، بل الذي عذبهم وقتل ياسراً وسمية هو أبو جهل الذي صار رئيس بني مخزوم بعد هلاك الوليد ، وقد هلك مع بقية المستهزئين في السنة الثالثة . نعم ، يحتمل أن يكونوا أسلموا سراً وكتموا إسلامهم ، أو لم ينكشف إلى ما بعد هلاك الوليد .
إن ظروف السنوات الثلاث الأولى للبعثة ، التي ختمت بقوله تعالى : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ . يدل على أنها المرحلة الأصعب والأخطر على حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم ، وكل من أسلم ، حتى كفاه فراعنة قريش الخمسة فأهلكهم في يوم واحد في يوم نزول آية : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ !
ولم يثبت أن أحداً أظهر إسلامه في تلك المدة من غير بني هاشم ، إلا أبو ذر الغفاري « رحمه الله » فتعرض للأذى والضرب ! وقد يكون أسلم في تلك الفترة المقداد وخباب بن الأرت وبلال وعبد الله بن مسعود وآل ياسر ، وكانوا يخفون إسلامهم حتى اكتشفه أبو جهل فعذبهم وقتل سمية .
ولهذا لا يصح ما ذكروه عن إسلام أبي بكر كقول ابن هشام : 1 / 164 : « فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله » . ثم عدد من دعاهم : عثمان ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة ، وأنهم أسلموا على يد
--------------------------- 343 ---------------------------
أبي بكر وجاء بهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال : « فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا ، ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح ، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد . . والأرقم بن أبي الأرقم . . وعثمان بن مظعون بن حبيب . . وعبيدة بن الحارث بن المطلب . . وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل . . وامرأته فاطمة بنت الخطاب . . أخت عمر بن الخطاب ، وأسماء بنت أبي بكر ، وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة ، وخباب بن الأرت ، حليف بني زهرة » .
ومن الواضح أن قولهم : « سبقوا الناس بالإسلام فَصَلَّوْا » وضعوه مقابل أن علياً أول من أسلم ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين ، وذلك أنه لم يصل معي أحد قبله » .
رواه الخطيب في المتفق : 3 / 141 ، تاريخ دمشق : 42 / 39 وفيه : « لأنا كنا نصلي ليس معنا أحد يصلي غيرنا ، وبلفظ آخر فيه : ولم يصعد أو ترفع شهادة أن لا إله إلا الله من الأرض إلى السماء إلا مني ومن علي بن أبي طالب » .
ب - قال ابن أبي جمهور في غوالي اللئالي : 2 / 104 : « في الحديث أن ياسراً وابنه عماراً وأمه سمية قبض عليهم أهل مكة وعذبوهم بأنواع العذاب لأجل إسلامهم ، وقالوا : لا ينجيكم منا إلا أن تنالوا محمداً وتبرؤوا من دينه ! فأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه كل ما أرادوا منه ، وأما أبواه فامتنعا فقتلا ، ثم أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : في عمار جماعة إنه كفر ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه . وجاء عمار وهو يبكي فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما خبرك ؟ فقال : يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فصار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يمسح عينيه ، ويقول : إن عادوا لك ، فعد لهم بما قلت . فأنزل الله عز وجل فيه : مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان . فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمار إن عادوا فعد . فقد أنزل الله عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا » . راجع : الكافي : 2 / 219 وقرب الإسناد / 12 .
« صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ فأعطوهم ما سألوا . . فلما كان
--------------------------- 344 ---------------------------
العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية ويرفث ، ثم طعنها فقتلها » ! ابن أبي شيبة : 8 / 448 .
ج - ومن كرامة عمار ( رحمه الله ) أن قريشاً ألقته في النار فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم ، فلم تصله النار ولم يصله منها مكروه ! وقتلت قريش أبويه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : صبراً آل ياسر ، موعدكم الجنة . ما تريدون من عمار ! عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان . عمار جلدة بين عيني وأنفي ، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار » . رجال الطوسي : 1 / 127 ، الخوئي : 13 / 284 ، الطبقات : 3 / 248 والذهبي : 3 / 571 .
د - تعمدت السيرة الرسمية أن تجعل أبا بكر أول من أسلم ، وتشيد به وتطمس أدوار من لم ترض عنهم ، وأولهم بنو هاشم ، وأبو ذر ، وعمار ، وخالد بن سعيد ، وخباب ، والمقداد ، وغيرهم من كبار الصحابة وأبطال الإسلام ، الذين سبقوا أبا بكر وعمر وعثمان في الإسلام والدعوة والتضحية والجهاد ، وشهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حقهم شهادات عظيمة رفعت مكانتهم ، ومن هؤلاء عمار بن ياسر « رحمه الله » .
ه - - « هاجر إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة » . « شهد بدراً والمشاهد كلها وأبلى بلاء حسناً ، ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضاً ، ويومئذ قطعت أذنه » . عمدة القاري : 1 / 197 ،
شرح النهج : 20 / 37 وغيرهما .
وفي المسترشد / 657 : « قال فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : عمار جلدة بين عيني . وهذا حين ارتجز وهم ينقلون حجارة المسجد بأبيات سمعها من أمير المؤمنين :
لا يستوي من يعمر المساجد * وبات فيها قائماً وقاعداً
ومن غدا عن الغبار حائدا .
يعرِّض بعمر ، فقال له عمر : يا بن السوداء لهممت أن أغمسه في أنفك ! فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما لكم ولعمار ؟ عمار جِلدة ما بين عينيَّ ، ثم قال لعمار : تقتلك الفئة الباغية » .
و - كان منقطعاً إلى علي ( عليه السلام ) من زمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال النوبختي في فرق الشيعة / 17 : « أول فرق الشيعة وهم فرقة علي بن أبي طالب المسمون بشيعة علي في زمان النبي
--------------------------- 345 ---------------------------
وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته منهم : المقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري ، وعمار بن ياسر . . . » .
وكان بذلك ينفذ أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ففي مناقب الخوارزمي / 193 ، ومذاهب الطوائف / 102 : « عن علقمة والأسود قالا : أتينا أباأيوب الأنصاري فقلنا : يا أباأيوب إن الله أكرمك بنبيه ( صلى الله عليه وآله ) إذ أوحى إلى راحلته فبركت على بابك ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ضيفاً لك ، فضيلة الله فضلك بها ، فأخبرنا عن مخرجك مع علي بن أبي طالب ؟ قال أبو أيوب : فإني أقسم لكما لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا البيت الذي أنتما فيه وما فيه غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي جالس عن يمينه ، وأنا جالس عن يساره ، وأنس بن مالك قائم بين يديه إذ تحرك الباب فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أنظر من بالباب ؟ فخرج أنس فنظر فقال : هذا عمار بن ياسر فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إفتح لعمار الطيب المطيب ، ففتح أنس ودخل عمار فسلم على رسول الله فرحب به ، ثم قال لعمار : إنه سيكون في أمتي من بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم ، وحتى يقتل بعضهم بعضاً ، وحتى يبرأ بعضهم من بعض ! فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب ! وإن سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً ، فاسلك وادي علي وخل الناس طراً ! إن علياً لا يردك عن هدى ولا يدلك على ردى . يا عمار طاعة علي طاعتي ، وطاعتي طاعة الله » .
ز - وانتدب الصحابة عماراً ليسلم عريضتهم إلى عثمان ، فضربه عثمان ، وكاد يقتله ! قال ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 372 : « واجتمع نفر من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم إنهم كتبوا كتاباً ، وذكروا فيه كل حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم ثم إنهم خوفوه في الكتاب وأعلموه أنه إن لم ينزع عما هو عليه خلعوه واستبدلوا به غيره . . . ثم أقبلوا على عمار بن ياسر وقالوا له : يا أبا اليقظان ! هل لك أن تكفينا هذا الأمر وتنطلق بالكتاب إلى عثمان ؟ فقال عمار : أفعله ، ثم أخذ الكتاب وانطلق إلى عثمان ، فإذا عثمان وقد لبس ثيابه وخفيه في رجليه ، فلما خرج من باب منزله نظر إلى عمار واقفاً والكتاب في يده فقال له : حاجة يا
--------------------------- 346 ---------------------------
أبا اليقظان ؟ فقال عمار : مالي حاجة ، ولكنا اجتمعنا فكتبنا كتاباً نذكر فيه أموراً من أمورك لا نرضاها لك ، قال : ثم دفع إليه الكتاب فأخذه عثمان فنظر فيه حتى قرأ سطراً منه ، ثم غضب ورمى به من يده ، فقال له عمار : لا ترم بالكتاب وانظر فيه حسناً ، فإنه كتاب أصحاب رسول الله وأنا والله ناصح لك ! فقال له عثمان : كذبت يا بن سمية ! فقال عمار : أنا والله ناصح لك ! فقال عثمان : كذبت يا ابن سمية ! فقال عمار : أنا والله ابن سمية وابن ياسر . قال : فأمر عثمان غلمانه فضربوه ضرباً شديداً حتى وقع لجنبه ، ثم تقدم إليه عثمان فوطئ بطنه ومذاكيره حتى غشي عليه وأصابه الفتق ، فسقط لما به لا يعقل من أمر شيئاً ! قال : واتصل الخبر ببني مخزوم فأقبل هشام بن الوليد بن المغيرة في نفر من بني مخزوم فاحتملوا عماراً من موضعه ذلك وجعلوا يقولون : والله لئن مات الآن لنقتلن به شيخاً عظيماً من بني أمية ، ثم انطلقوا بعمار إلى منزله مغشياً عليه ، فلم يصل ظهراً ولا عصراً ولا مغرباً ولا عشاءً حتى ذهب بعض الليل ، ثم أفاق بعد ذلك من غشيته فقام فقضى ما فاته من صلواته كلها . قال : فكان هذا من إحداثه الذي نقموا عليه ، فبلغ ذلك أبا ذر وكان مقيماً بالشام فجعل يظهر عيب عثمان هناك ويذكر منه خصالاً قبيحة ، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان . . . فكتب إليه عثمان : أما بعد ، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر أبي ذر جندب بن جنادة ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فابعث به إلي واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها ، وابعث معه دليلاً يسير به الليل مع النهار حتى يغلبه النوم ، فينسيه ذكري وذكرك والسلام » !
ح - غيَّبَ رواة السلطة دور عمار في مواجهة السقيفة ، ثم في حرب اليمامة والفتوحات ! عملاً بسياستهم تجاه علي ( عليه السلام ) وأصحابه وشيعته ! والنصوص القليلة التي وصلتنا تدل على دوره في فتح العراق ، وكان والي الكوفة ، ونبه عمر إلى خطر الفرس وحثه على مواجهة خطتهم ! فقد روى ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 290 ونحوه الطبري : 3 / 209 ، رسالة عمار التاريخية إلى عمر الخليفة ، ينذره بأن الفرس جمعوا مئة وخمسين ألف جندي : « وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا ، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ويأتونكم من بعدنا . . . فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
--------------------------- 347 ---------------------------
وقرأه وفهم ما فيه ، وقعت عليه الرِّعدة والنَّفْضة حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي : أين المهاجرون والأنصار ! ألا فاجتمعوا رحمكم الله وأعينوني أعانكم الله » . ثم وصفوا اجتماعهم وكيف وضع علي ( عليه السلام ) الخطة ، وقال عمر لا أبقاني لمعضلة ليس لها أبو الحسن ، وكيف أطلق يده فأدار ( عليه السلام ) جبهة فتح فارس ومدها بقادة من تلاميذه ، وكان لحذيفة وسلمان وعمار أدوار أساسية فيها ، وحقق للمسلمين النصر الحاسم ، كما أدار قبلها فتح بلاد الشام ومعركتيها المهمتين أجنادين واليرموك ، وكان لأبي ذر وخالد بن سعيد ومالك الأشتر الأدوار الأساسية فيها .
ط - وتنفس عمار الصعداء لما بايعت الأمة علياً ( عليه السلام ) فنهض لنصرة إمامه ولازمه في خلافته حتى استشهد بين يديه في صفين ! وفي صفين قاتل ، وناظر عمرو بن العاص في يوم مشهود وأفحمه وفضح إمامه معاوية !
وكان ينادي في المسلمين : « أيها الناس ! والله ما أسلم القوم ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر ، فلما وجدوا له أعواناً أظهروه » ! الجمل للمفيد / 19 ، والمناقب لمحمد بن سليمان : 2 / 356 ، ووقعة صفين / 216 ، بسند صحيح عندهم .
وفي شرح الأخبار : 2 / 15 : « دعا عمار يوم صفين بشراب ، فأتي بضياح من لبن فشربه ثم قال : اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه . سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لي : تقتلك الفئة الباغية ، ويكون آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن ، ثم تقدم إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه » .
وفي الاحتجاج : 1 / 266 ، عن الصادق ( عليه السلام ) : « لما قتل عمار بن ياسر ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : عمار تقتله الفئة الباغية ، فدخل عمرو على معاوية وقال : يا أمير المؤمنين قد هاج الناس واضطربوا ، قال : لماذا ؟ قال : قتل عمار ! فقال : قتل عمار فماذا ؟ قال : أليس قال رسول الله : تقتله الفئة الباغية ؟ فقال معاوية : دحضت في بولك ! أنحن قتلناه ؟ إنما قتله علي بن أبي طالب لما ألقاه بين رماحنا ، فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، قال : فإذاً
--------------------------- 348 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي قتل حمزة لمَّا ألقاه بين رماح المشركين » !
وقال الإمام الهادي ( عليه السلام ) مخاطباً جده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في زيارته يوم الغدير : « مولاي بك ظهر الحق وقد نبذه الخلق ، وأوضحت السنن بعد الدروس والطمس ولك سابقة الجهاد على تصديق التنزيل ، ولك فضيلة الجهاد على تحقيق التأويل ، وعدوك عدو الله جاحد لرسول الله ، يدعو باطلاً ويحكم جائراً ، ويتأمر غاصباً ، ويدعو حزبه إلى النار . وعمار يجاهد وينادي بين الصفين : الرواح الرواح إلى الجنة . ولما استسقى فسقي اللبن كبَّر وقال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن وتقتلك الفئة الباغية فاعترضه أبو الغادية الفزاري فقتله فعلى أبي الغادية لعنة الله ولعنة ملائكته ورسله أجمعين » . المزار لابن المشهدي / 277 .

  • *
    --------------------------- 349 ---------------------------

الفصل السابع عشر

ولادة الصديقة الزهراء « عليها السلام » وبقية أولاد النبي « صلى الله عليه وآله »

1 - لم تتزوج خديجة ( عليها السلام ) قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

أ . من مسائل السيرة : هل كانت خديجة « عليها السلام » متزوجة قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم كانت باكراً كما قال المؤرخ البلاذري وغيره . ومن الذي أشاع أنها كانت متزوجة ؟
لا نجد مستفيداً من هذه الانتقاص من خديجة « عليها السلام » إلا عائشة التي تعترف أنها تغار منها غيرة شديدة ، رغم أنها لم ترها !
قالت عائشة كما في البخاري : 4 / 231 : « ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ما غرت على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة ! فيقول : إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد » .
وفي رواية البخاري : 6 / 158 : « غِرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إياها وثنائه عليها ، وقد أوحى إلى رسول الله أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب » . وفي فضائل الصحابة للنسائي / 75 : « يبشرها ببيت في الجنة » بدون قصب .
فهذه الغيرة المفرطة التي تعترف بها عائشة ، يمكن أن تدفعها إلى ارتكاب أنواع من الأعمال ، ومنها ادعاء أن خديجة كانت متزوجة قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن بيتها في الجنة من قصب ، لأنها لم تُصَلِّ وماتت قبل أن تُشرع الصلاة ، أما بيت عائشة فمن لؤلؤ ومرجان لأنها صَلَّت ،
--------------------------- 350 ---------------------------
لكن الصلاة شُرعت في الإسراء والمعراج في أول البعثة ، فاضطرت عائشة للقول : إن خديجة ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين ، والمعراج كان قبل الهجرة بسنة ، وبذلك غيرت تاريخ وفاة خديجة ، وتاريخ المعراج لتصحح مقولتها ، ولا ضير عندها في ذلك !
وفي اعتقادي أن عائشة وراء نشر روايات كثيرة تنتقص من خديجة ومارية القبطية رضي الله عنهما ، فقد تحدثت عن غيرتها من مارية أيضاً واعترفت أنها آذتها هي وحفصة حتى جزعت ! فاضطر النبي ( صلى الله عليه وآله ) لنقلها إلى بيت بعيد عنهن !
قالت عن مارية كما في الطبقات : 8 / 313 : « كانت جميلة من النساء جعدة ، وأعجب بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان أنزلها أول ما قُدم بها في بيت لحارثة بن النعمان ، فكانت جارتنا فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها ، حتى فرغنا لها فجزعت ! فحولها إلى العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشد علينا . ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا منه » !
لهذا لا يمكن أن نقبل أحاديث عائشة في أي شئ يتعلق بخديجة ومارية « عليهما السلام » ، كما يجب أن ننتبه إلى تحريكها أحداث السيرة تقديماً وتأخيراً وتغييراً لتوافق مقولاتها ، والى طاعة الرواة لها لأنها بنت الرئيس ، ووقوعهم في تناقضات
بسبب ذلك !
فقد رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يصلي قبل البعثة وبعدها ، وكانت خديجة تصلي معه ثم صححوا قول عائشة إنها لم تصلِّ ولذلك كان بيتها في الجنة من قصب !
ورووا أن المعراج كان في السنة الثانية ، ثم صححوا قول عائشة أنه كان بعد وفاة خديجة وقبل الهجرة بسنة .
ورووا أن خديجة توفيت قبل الهجرة بسنة ، ثم صححوا قول عائشة أنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين . . وهكذا !
وقد شهد المؤرخ الثقة البلاذري ، وكذا ابن شهرآشوب وغيرهما ، بأن خديجة لم تتزوج قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال في المناقب : 1 / 138 و 140 : « روى أحمد البلاذري ، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في الشافي ، وأبو جعفر في التلخيص : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بها
--------------------------- 351 ---------------------------
وكانت عذراء ، يؤكد ذلك ما ذَكر في كتابي الأنوار والبدع ، أن أم كلثوم وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة . . وفي الأنوار ، والكشف ، واللمع ، وكتاب البلاذري : أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش » .

2 - عدد أولاد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

اتفق المؤرخون على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رزق بإبراهيم من مارية القبطية ، وتوفي ابن سنة ونصف بالمدينة ، وكان رزق بصبيين من خديجة : القاسم وعبد الله ، وتوفيا في سن الرضاع بمكة ، ورزق منها بفاطمة الزهراء « عليها السلام » وهي الوحيدة التي عاشت بعده . وقال أكثرهم إنه رزق منها بثلاثة بنات غير فاطمة هن : زينب ورقية وأم كلثوم ، وقال بعضهم إنهن ربائبه ، وهن أولاد أخت خديجة ، توفيت أمهن وربتهن خالتهن خديجة ، وهو الرأ ي الراجح عندنا . وقد توفين في المدينة .
واختلف الرواة كثيراً في ولادة أولاده ( صلى الله عليه وآله ) قبل البعثة أو بعدها .
والمرجح عندنا رواية الكليني الصحيحة « الكافي : 8 / 338 » : « ولم يولد لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة « عليها السلام » على فطرة الإسلام إلا فاطمة « عليها السلام » » .
والطيب والطاهر هما : القاسم وعبد الله ، كما نص عليه ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 140 قال : « ولد له من خديجة القاسم وعبد الله وهما : الطاهر والطيب » .
وفي شرح الأخبار : 3 / 15 : « ومات القاسم الطيب ، وعبد الله الطاهر بمكة صغيرين » .
وفي الفقيه : 3 / 397 : « فأول ما حملت ولدت عبد الله بن محمد ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفي الكافي : 3 / 218 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك ؟ فقالت : دَرَّتْ دَرِيرَةٌ فبكيت فقال : يا خديجة ، أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجيئي إلى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك أفضلها ، وذلك لكل مؤمن ، إن الله عز وجل أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ، ثم يعذبه بعدها أبداً » .
وجعل اليعقوبي : 2 / 20 الطيب والطاهر لقبين لعبد الله .
--------------------------- 352 ---------------------------
فالمرجح عندنا أن أبناءه ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثة : القاسم ، وعبد الله ، وإبراهيم « عليهم السلام » . وأن القاسم توفي بعد البعثة .

زينب وأم كلثوم ورقية : بنات ، أم ربائب ؟

المعروف المشهور بين المسلمين أنهن بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع فاطمة الزهراء « عليها السلام » . ويقابله الرأي بأنهن ربائب ، وأن ابنته الوحيدة فاطمة « عليها السلام » .
وقد ألف الأخ الباحث السيد جعفر مرتضى كتاباً بأنهن ربائب ، وثارت عليه ثائرة البعض ، فأجاب برسالة ثانية ، وقد أطال الطرفان في الإثبات والرد ، ورأي السيد مرتضى أقوى ، وخلاصة ما قاله : « قد ذكر المقريزي « إمتاع الأسماع 6 / 295 » أن زينب كانت ربيبة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال الطريحي : بأن البنات ربائب ، ونقل ذلك عن المرتضى في الشافي ، والطوسي في التلخيص ، وبه قال المقدس الأردبيلي في زبدة البيان ، والدلفي ، والشيخ محمد حسن آل يس ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء ، بالإضافة إلى الخاقاني ، والجزائري ، وربما المحقق الكركي ، والمقدسي ، والكراجكي . . و . . الخ . » .

مؤيدات لرأي السيد جعفر مرتضى

1 . قال ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 140 : « ولد له من خديجة القاسم وعبد الله وهما : الطاهر والطيب ، وأربع بنات : زينب ، ورقية ، وأم كلثوم وهي آمنة ، وفاطمة وهي أم أبيها . ولم يكن له ولد من غيرها إلا إبراهيم من مارية ، ولد بعالية في قبيلة مازن في مشربة أم إبراهيم ، ويقال ولد بالمدينة سنة ثمان من الهجرة ومات بها وله سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام وقبره بالبقيع . وفي الأنوار ، والكشف ، واللمع ، وكتاب البلاذري : أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش ، فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين » .
2 . يؤيد ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) شمل بعطفه الجميع ، لكنه يتعامل مع فاطمة « عليها السلام » كأنها بنته الوحيدة ، وكأنه لا بنت له غيرها .
3 . أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أفاض في مدح فاطمة « عليها السلام » ومكانتها ومقامها ، ولم يؤثر عنه أي كلمة
--------------------------- 353 ---------------------------
في أي من أخواتها الثلاث ، توحي بمقامهن ، أو بنسبتهن الصريحة اليه .
4 . ورد ذكر فاطمة « عليها السلام » في السيرة مع أبيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأمها خديجة « عليها السلام » ، ولم يرد لواحدة منهن ذكر في ذلك . مثلاً ورد ذكر فاطمة « عليها السلام » مع أبيها في المسجد دونهن ، وذكرها عند وفاة والدتها وأنها كانت تسأل أباها عنها ، ولم يرد ذكرهن .
5 . لعل أقوى ما يؤيد الرأي القائل بأنهن ربائب ، ما رواه الحاكم : 2 / 200 وصححه على شرط الشيخين : « عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها ، فأدركها هبار بن الأسود ، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها ، وألقت ما في بطنها وأهريقت دماً ، فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية فقالت بنو أمية نحن أحق بها ، وكان تحت ابن عمهم أبي العاص فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة ، فكانت تقول لها هند : هذا بسبب أبيك ! فقال رسول الله لزيد بن حارثة ألا تنطلق تجيئني بزينب ؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : فخذ خاتمي فأعطاه إياه ، فانطلق زيد وبرك بعيره ، فلم يزل يتلطف حتى لقى راعياً ، فقال : لمن ترعى ؟ فقال : لأبي العاص ، فقال : فلمن هذه الأغنام ؟ قال : لزينب بنت محمد ، فسار معه شيئاً ثم قال له : هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيه إياها ولا تذكره لأحد ؟ قال : نعم ، فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته ، فقالت : من أعطاك هذا ؟ قال : رجل . قالت : فأين تركته ؟ قال : بمكان كذا وكذا قال فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه ، فلما جاء ته قال لها : إركبي بين يديه على بعيره ، قالت : لا ، ولكن إركب أنت بين يدي ، فركب وركبت وراءه ، حتى أتت . فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ .
فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال : ما حديثٌ بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة ؟ فقال : والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها . وأما بعد فلك أن لا أحدث به أبداً . قال عروة : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ » . الأحزاب / 5 .
--------------------------- 354 ---------------------------
أقول : قيل إن اعتذار عروة عن خالته ، لأنها روت أن زيد بن حارثة أركب زينب خلفه ولا يناسب بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن تركب خلف رجل غير محرم ، فاعتذر عروة بأن زيداً كان أخاها بالتبني ، وكانت القصة قبل نزول آية رد التبني .
لكن الصحيح أن عروة اعتذر عن مقولة إنها خير بناتي أصيبت فيَّ ، فهذا الذي فيه انتقاص لفاطمة الزهراء « عليها السلام » ، وليس ركوب زينب خلفه . فقال عروة إن خالته عائشة قالت إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال عن زينب بنتي ، وخير بناتي ، قبل نزول آية : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ، التي تأمر بنسبة الشخص إلى أبيه ، أما بعد نزولها فلم يُعَبِّر عنها بأنها بنته ! ومعناه أنها كانت ربيبته ، وكانت متبناة كما تبنى زيداً !
فهذا يوجب التوقف على الأقل عن القول بأنهن بنات لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد يكون ( صلى الله عليه وآله ) سكت عن نسبتهن اليه وجرى عليه الناس ، لكن الجزم بأنهن ربائب وإن كانت قرائنه قوية لكنه يحتاج إلى مزيد أدلة أقوى ، لتنهض مقابل ما يعارضها .
هذا ، وسيأتي ذكر حياتهن في السنة الثانية من الهجرة ، بعد معركة أحد .

حَصَرَ اللهُ ذرية نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بفاطمة ( عليها السلام )

قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : « يا علي : ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه ، وجعل ذريتي من صلبك ، ولولاك ما كانت لي ذرية » . الفقيه : 4 / 365 .
وقال الفقيه البهوتي في كشاف القناع : 5 / 31 : « أولاد بناته ( صلى الله عليه وآله ) ينسبون إليه ، لحديث إن ابني هذا سيد ، مشيراً إلى الحسن . رواه أبو يعلى . وفي حديثٍ : إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري ، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي » .
وقد بشر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بذلك ، ففي الكافي : 1 / 464 عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : « إن جبرئيل ( عليه السلام ) نزل على محمد ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : يا محمد إن الله يبشرك بمولود يولد من فاطمة ، تقتله أمتك من بعدك ، فقال : يا جبرئيل وعلى ربي السلام ، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة ، تقتله أمتي من بعدي ، فعرج ثم هبط فقال له مثل ذلك ، فقال : يا جبرئيل وعلى ربي السلام ، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي ، فعرج جبرئيل ( عليه السلام ) إلى السماء ثم هبط فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه
--------------------------- 355 ---------------------------
جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فقال : قد رضيت .
ثم أرسل إلى فاطمة أن الله يبشرني بمولود يولد لك تقتله أمتي من بعدي ، فأرسلت إليه : لا حاجة لي في مولود تقتله أمتك من بعدك ، فأرسل إليها إن الله قد جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فأرسلت إليه أن قد رضيت ، فحَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِى . فلولا أنه قال : أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِى ، لكانت ذريته كلهم أئمة » .
وروى ابن حجر في الإصابة : 8 / 103 : « أثنى النبي ( صلى الله عليه وآله ) على خديجة ما لم يثن على غيرها ، وذلك في حديث عائشة قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام ، فأخذتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها ! فغضب ثم قال : لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني منها الله الولد ، دون غيرها من النساء » .
وروى الصدوق في الخصال / 405 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن عائشة انتقصت خديجة فبكت فاطمة « عليهما السلام » . فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : مه يا حميرا ، فإن الله تبارك وتعالى بارك في الولود الودود . . وأنت ممن أعقم الله رحمه ، فلم تلدي شيئاً » .
وفي أمالي الصدوق / 345 ، في كلام الله تعالى لعيسى ( عليه السلام ) : « يا عيسى ، جِدَّ في أمري ولا تهزل ، واسمع وأطع ، يا بن الطاهرة الطهر البكر البتول ، صدقوا النبي الأمِّيَّ صاحب الجمل والمدرعة . . ذو النسل القليل ، إنما نسله من مباركة ، لها بيت في الجنة ، لا صخب فيه ولا نصب » .
فهذه أحاديث متظافرة عند السنة والشيعة في أن الله تعالى حصر ذرية رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في فاطمة وعلي « عليهما السلام » .
--------------------------- 356 ---------------------------

لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤمن بالبداء ولا يحتم على ربه

قال علي ( عليه السلام ) « دعائم الإسلام / 146 » : « اعتلَّ الحسين فاشتد وجعه ، فاحتملته فاطمة « عليها السلام » فأتت به النبي ( صلى الله عليه وآله ) مستغيثة مستجيرة ، فقالت : يا رسول الله ، أدع الله لابنك أن يشفيه ، ووضعته بين يديه ، فقام ( صلى الله عليه وآله ) حتى جلس عند رأسه ، ثم قال : يا فاطمة يا بنية ، إن الله هو الذي وهبه لك هو قادر على أن يشفيه !
فهبط عليه جبرئيل فقال : يا محمد ، إن الله لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء ، وكل فاء من آفة ، ما خلا الحمد لله ، فإنه ليس فيها فاء ، فادع بقدح من ماء فاقرأ فيه الحمد أربعين مرة ثم صبه عليه ، فإن الله يشفيه ، ففعل ذلك فكأنما أنشط من عقال » !
وهذا يعني أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع يقينه بوعد الله تعالى ، لكنه لا يحتم عليه . وهذا معنى الإيمان بالبداء ، ويقابله ما حكاه الله عن اليهود : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .
ومعنى قول جبرئيل ( عليه السلام ) عن خلو سورة الحمد من الفاء ، أن ما يبدو لنا من القرآن عادياً فإن وراءه حساباً إلهياً دقيقاً ! وأن الحروف الثمانية والعشرين في القرآن ليست كحروف كتاب بشري ، بل هي عوالم من العلوم والحقائق ! فوجود الحرف له دلالة ، وعدم وجوده ، وعدده ، وتوزيعه في الآية ، وفي السورة ، وفي كل القرآن !
فحيثما كانت الفاء في سورة أو موضوع ، فهي تدل على وجود آفة ، وحيثما وجدت الباء والسين والقاف وغيرها ، فوراؤها معانٍ !
ثم ما معنى الآفة وخلو سورة الحمد منها ؟ وما معنى قراءة كلام الله الذي ليس فيه آفة على قدح ماء ؟ وما تأثير تكرار القراءة ؟ وهل يتغير تركيب الماء بذلك ؟ فتؤثر فيزياؤه المطورة على بدن المريض وتذهب منه الآفة ؟
من المؤكد أنه يوجد ارتباط بين النظام الفيزيائي والروحي للكون ، وبين نظام القرآن ، وأن للقرآن تأثيرات متنوعة على الروح والمادة ، هي من فاعليات الله تعالى في الكون ، لأن الكون فعله تعالى ، والقرآن كلامه وفعله سبحانه !
ومن المؤكد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطي من معرفة ذلك أقصى ما يحتمله إنسان ، لأنه أفضل
--------------------------- 357 ---------------------------
مخلوق ، لكنه ( صلى الله عليه وآله ) يعمل بالأسباب الطبيعية العادية ولا يستعمل ذلك إلا بأمر الله تعالى . فالفرق بينه وبين موسى والخضر أن الخضر أعطي العلم اللدني أو علم الباطن فهو يعمل به ، وموسى أعطي الشريعة وعلم الظاهر فهو يعمل بها . ونبينا ( صلى الله عليه وآله ) أعطي العلمين معاً لكنه يعمل بالظاهر إلا عندما يؤمر ! وهذه سنة الله تعالى ، فهولايطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضاه ، ولا يرتضيه إلا إذا استوعب قانون العمل بالقوانين الطبيعية والغيبية ، ثم يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً !
والقرآن من أكبر تلك الوسائل ، وقد كان له ترتيب نزل به جبرئيل ( عليه السلام ) منجماً في بضع وعشرين سنة ، وكان يلبي حاجة أحداث النبوة وصناعة الأمة ، ثم صار له ترتيب ككتاب تقرؤه الأجيال ، كتاب من مقدمة وفصول وفقرات .
فما المانع أن يكون للقرآن ترتيب ثالث ، ورابع ، وخامس ، أملاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) على وصيه ( عليه السلام ) ، وادخره عنده مع عهده المعهود إلى ولده المهدي ( عليه السلام ) ؟ والذي يظهر الله به دينه على الدين كله ، فتخضع لبراهينه العقول والأعناق . أرواحنا فداه .
وهل إذا قلنا إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رتب القرآن بأكثر من ترتيب ، وإن الروايات تدل على أن النسخة المعهودة منه إلى ولده الإمام المهدي يختلف ترتيبها عن النسخة الموجودة بأيدينا . . صرنا من الكافرين بالقرآن الذي بين أيدينا ، والقائلين بتحريفه ؟ !
على أيٍّ ، نحن أتباع النص الثابت عن نبينا وعترته « عليهم السلام » ، وليقل الناس ما يقولون !

سورة الكوثر بشارة ربانية بالذرية الطاهرة

في أسباب النزول / 307 للواحدي ، وسيرة بن هشام : 2 / 265 : « كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله قال : دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له ،
لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه ، فأنزل الله تعالى في ذلك : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . ما هو خير لك من الدنيا وما هو فيها ، والكوثر العظيم من الأمر . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ : العاص بن وائل » .
وفي أسباب النزول / 306 : « عن ابن عباس قال : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم . . وكانوا يسمون من ليس له ابن : أبتر ،
--------------------------- 358 ---------------------------
فسمته قريش عند موت ابنه : أبتر وصنبوراً ، فأنزل الله سبحانه : إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَر » .
أقول : هذه الرواية لا يصح وقتها ولا بد أن يكون ذلك قبل ثلاث سنين من البعثة لأن العاص بن وائل من المستهزئين الستة الذين قتلهم الله في السنة الثالثة .
كما ما فيها من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يذهب إلى المسجد بحريته ، فلم يكن ذلك في الثلاث سنوات الأولى . فلا بد أن تكون وفاة ابنيه قبل السنة الثالثة من البعثة .
وفي إمتاع الأسماع : 5 / 333 عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) قال : « توفي القاسم بن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فمر رسول الله وهو آتٍ من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو بن العاص ، فقال عمرو حين رأى رسول الله : إني لأشنؤه ، فقال العاص : لا جرم لقد أصبح أبتراً ، وأنزل الله تعالى : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ » .
وتفاوت الرواة في وقت قول العاص ذلك ، وفي وقت ولادة القاسم وعبد الله ، لكن ذلك لا يضر بالمضمون .

3 - سنة ولادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

وُلدت فاطمة الزهراء « عليها السلام » بعد معراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « والقول الحق هو ما عليه شيعة أهل البيت تبعاً لأئمتهم « عليهم السلام » وأهل البيت أدرى بما فيه ، وتابعهم عليه جماعة من غيرهم ، وهو أنها قد ولدت في السنة الخامسة من البعثة ، وتوفيت وعمرها ثمانية عشر عاماً » . الصحيح من السيرة : 2 / 177 .
وقد اتفق معنا على ولادتها بعد البعثة عدد من رواة السلطة ، بينما قال أكثرهم إنها ولدت قبل البعثة باثنتي عشرة سنة ، وقال بعضهم بسبع سنين ، وقال بعضهم في سنة البعثة ، وقال بعضهم بعد البعثة بسنة .
ومن أقوى الأحاديث الدالة على مذهبنا ما رويناه بسند صحيح ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دخل الجنة في المعراج وأكل من ثمارها ، فتكونت نطفة فاطمة « عليها السلام » .
قال الصدوق « رحمه الله » في التوحيد / 118 : « قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته ، فتحول ذلك نطفة في صلبي ، فلما
--------------------------- 359 ---------------------------
أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة ، ففاطمة حوراء إنسية ، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة » . والأمالي / 546 ، العيون : 2 / 107 ، العلل : 1 / 183 ، الإحتجاج : 2 / 191 ، مناقب ابن سليمان : 2 / 191 . ومعاني الأخبار / 396 .
وروته مصادر غيرنا : « عن ابن عباس ، وسعد بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، والإمام الصادق ، وعمر بن الخطاب ، وعائشة ، قالت إنه ( صلى الله عليه وآله ) قال لها حينما سألته عن تقبيله ابنته فاطمة « عليها السلام » : « نعم يا عائشة ، لما أسري بي إلى السماء أدخلني جبرئيل الجنة فناولني منها تفاحة فأكلتها فصارت نطفة في صلبي ، فلما نزلت واقعت خديجة ، ففاطمة من تلك النطفة . ففاطمة حوراء إنسية ، وكلما اشتقت إلى الجنة قبلتها » . الصحيح من السيرة : 3 / 10 ، في مصادره : تاريخ بغداد : 5 / 87 ، المواهب اللدنية : 2 / 29 ، مقتل الحسين للخوارزمي / 63 ، ذخائر العقبي / 36 ، ميزان الإعتدال : 2 / 297 و 160 ، مستدرك الحاكم : 3 / 165 ، تلخيصه للذهبي ، مجمع الزوائد : 9 / 202 ، ينابيع المودة / 97 ، نزهة المجالس : 2 / 179 ، مناقب المغازلي / 358 ، البحار : 18 / 315 و 350 ، 364 ونور الأبصار / 44 و 45 .
وتدل الأحاديث على تعدد تناوله ( صلى الله عليه وآله ) من ثمار الجنة ، وفي بعضها أن جبرئيل ( عليه السلام ) أتاه بها وأمره أن يجتنب خديجة أربعين يوماً . مأساة الزهراء 2 / 316 .

ولدت ( عليها السلام ) في العشرين من جمادى الثانية

استفاضت الرواية أنها « عليها السلام » ولدت في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة . ففي دلائل الإمامة / 79 ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : « ولدت فاطمة « عليها السلام »
في جمادى الآخرة يوم العشرين منه ، سنة خمس وأربعين من مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأقامت بمكة ثمان سنين ، وبالمدينة عشر سنين وبعد وفاة أبيها خمسة وتسعين يوماً ، وقبضت في جمادى الآخرة ، يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشرة من الهجرة » .
وفي أمالي الصدوق / 690 ، عن المفضل بن عمر : « قلت لأبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : كيف كانت ولادة فاطمة « عليها السلام » ؟ فقال : نعم ، إن خديجة « عليها السلام » لما تزوج بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هجرتها نسوة مكة فكنَّ لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها ، ولا
--------------------------- 360 ---------------------------
يتركن امرأة تدخل عليها ، فاستوحشت خديجة لذلك ، وكان جزعها وغمها حذراً عليه ( صلى الله عليه وآله ) فلما حملت بفاطمة كانت تحدثها من بطنها وتصبرها ، وكانت تكتم ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة « عليها السلام » فقال لها : يا خديجة من تحدثين ؟ قالت : الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني . قال : يا خديجة ، هذا جبرئيل يخبرني أنها أنثى ، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة ، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها أئمة ، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه . فلم تزل خديجة « عليهم السلام » على ذلك إلى أن حضرت ولادتها ، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم : أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء ، فأرسلن إليها : أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا ، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له ، فلسنا نجئ ولا نلي من أمرك شيئاً .
فاغتمت خديجة لذلك فبينا هي كذلك ، إذ دخل عليها أربع نسوة سُمْرٌ طِوال كأنهن من نساء بني هاشم ، ففزعت منهن لما رأتهن ، فقالت إحداهن : لا تحزني يا خديجة ، فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك : أنا سارة ، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة ، وهذه مريم بنت عمران ، وهذه كلثوم أخت موسى بن عمران ، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء ، فجلست واحدة عن يمينها وأخرى عن يسارها ، والثالثة بين يديها ، والرابعة من خلفها ، فوضعت فاطمة « عليها السلام » طاهرة مطهرة ، فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة ، ولم يبق في شرق الأرض ولاغربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور . ودخل عشر من الحور العين كل واحدة منهن معها طست من الجنة وإبريق من الجنة ، وفي الإبريق ماء من الكوثر ، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها ، فغسلتها بماء الكوثر ، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر ، فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية ، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة بالشهادتين ، وقالت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء ، وأن بعلي سيد الأوصياء ، وولدي سادة الأسباط ، ثم سلمت عليهن ، وسمت كل واحدة منهن باسمها ، وأقبلن يضحكن إليها ، وتباشرت الحور العين ، وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً
--------------------------- 361 ---------------------------
بولادة فاطمة « عليها السلام » ، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك ، وقالت النسوة : خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة ، بورك فيها وفي نسلها ، فتناولتها فرحة مستبشرة ، وألقمتها ثديها فدر عليها ، فكانت فاطمة « عليها السلام » تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر ، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة » .
وفي تاريخ دمشق : 12 / 128 ، وفيه : « وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته لمن ترضعه ، فلما ولدت فاطمة « عليها السلام » لم تُرضعها أحداً غيرها » .
وفي علل الشرائع : 1 / 181 : « عن جعفر بن محمد بن عمارة ، عن أبيه قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن فاطمة « عليها السلام » لم سميت الزهراء ؟ فقال : لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء ، كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض » .
وفي روضة الواعظين / 148 : « قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : لفاطمة « عليها السلام » تسعة أسماء عند الله عز وجل : فاطمة ، والصديقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والراضية ، والمرضية ، والمحدَّثة ، والزهراء » .

فاطمة استثنائية لا تقاس بها امرأة

لفاطمة الزهراء « عليها السلام » مقام عظيم في الإسلام بإجماع المسلمين ، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يحترمها احتراماً مميزاً مقصوداً ، ليفهم المسلمين مكانتها !
« كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم يثني بفاطمة ، ثم يأتي أزواجه . وفي لفظ : ثم بدأ ببيت فاطمة « عليها السلام » ، ثم أتى بيوت نسائه » . فتح الباري : 8 / 89 .
وكان يقف لها احتراماً ، ويجلسها في مجلسه ويقول : « فاطمة حوراء إنسية ، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة » . أمالي الصدوق / 546 .
وروت مصادر الفريقين فضائلها ومناقبها « عليها السلام » ، وألف العلماء كتباً خاصة فيها .
ومن فضائلها المدهشة ما رواه البخاري : 4 / 71 : « بينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ساجد وحوله ناس من قريش المشركين ، إذ جاءه عقبة بن أبي معيط بسلى جزور ، فقذفه على ظهر النبي فلم يرفع رأسه ، حتى جاءت فاطمة « عليها السلام » ، فأخذت من ظهره ، ودعت على من
--------------------------- 362 ---------------------------
صنع ذلك ، فقال النبي : اللهم عليك الملأ من قريش ، اللهم عليك أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأمية بن خلف ، أو أبي بن خلف . . » .
وكفى بذلك فضيلة : لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يَدْعُ على قومه حتى دعت عليهم فاطمة « عليها السلام » ، فكان دعاؤها عليهم وحياً له ( صلى الله عليه وآله ) من ربه ، وإذناً له بالدعاء عليهم ! فقد استعمل الله تعالى إلهامه لفاطمة « عليها السلام » بدل وحيه لجبرئيل ( عليه السلام ) ! واستعمل إبلاغ رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بعمل فاطمة « عليها السلام » بدل إبلاغه بقول جبرئيل ( عليه السلام ) ! فأي مقام هذا لفاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها .
ومن فضائلها المدهشة أيضاً أنها أخبرت النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمؤامرة قريش ليلة هجرته !
« عن ابن عباس قال : إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى وأساف ونائلة ، لو قد رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد ، فلم نفارقه حتى نقتله ، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت : هذا الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك ، لو قد رأوك لقد قاموا إليك فيقتلوك ، فما منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك ! قال : يا بنية أدِّ لي وضوءً ، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد ، فلما رأوه قالوا هذا هو ! وخفضوا أبصارهم ، وسقطت أذقانهم في صدورهم ، وعُقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصراً ، ولم يقم إليه رجل منهم ، فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى قام على رؤسهم فأخذ قبضة من التراب فقال : شاهت الوجوه ، ثم حصبهم بها ، فما أصاب رجلاً من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافراً » . مجمع الزوائد : 8 / 228 وصححه .
وقد كان تآمر المشركين لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غاية السرية ، فمن أين جاءت هذه المعلومة السرية للغاية إلى فاطمة « عليها السلام » ، إلا من إلهام الله تعالى ؟ ! ومعناه أن الله تعالى جعلها مكان جبرئيل ( عليه السلام ) في إيصال الوحي إلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ! فأي مقام عظيم هذا لبنت في الثامنة من عمرها الشريف ، يوحي لها الله بتآمرهم عليه فتخبر به أباها سيد المرسلين ، ويوحي لها أن تدعو على فراعنة قريش فيدعو عليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فأي امرأة حول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أو في العظيمات والقديسات في كل التاريخ ، وصلت إلى هذا المقام الرباني العظيم ؟ !
--------------------------- 363 ---------------------------

عائشة تشهد بأن فاطمة ( عليها السلام ) أصدق الناس لهجة

روى الحاكم وصححه بشرط مسلم : 3 / 160 عن عائشة أنها قالت في فاطمة « عليها السلام » : « ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها ، إلا أن يكون الذي ولدها » .
ومع ذلك لم يقبل أبو بكر قول فاطمة « عليها السلام » بأن فدكاً لها أعطاها إياها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 16 / 284 : « سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم . قلت : فلمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة ؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ . لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعى كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود . وهذا كلام صحيح ، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل » .

كانت فاطمة ( عليها السلام ) تسكن مع أبيها في مكة والمدينة

ولدت فاطمة الزهراء في بيت أبيها ( صلى الله عليه وآله ) وأمها خديجة « عليهما السلام » الواقع بين شعب أبي طالب وسوق أبي سفيان ، في سوق الذهب ، ويعرف بمولد فاطمة « عليها السلام » . وقد ارتكب الوهابية جريمة ، فأزالوه وجعلوا مكانه مرافق ، غيضاً وعناداً !
وفي سنة ولادتها « عليها السلام » حاصرت قريش النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم في شعب أبي طالب وهجَّرت عائلته من بيته ، ففتحت الزهراء « عليها السلام » عينيها وهي محاصرة في الشعب ، وأبوها ( صلى الله عليه وآله ) مستهدف بالقتل من قريش ، يحرسه بالليل والنهار جدها أبو طالب ، وابناه علي وجعفر ، وعمها حمزة . ولم ترتو الطفلة المباركة من حنان أمها ، فقد توفيت أمها قبل الهجرة بنحو سنة ، وكان عمرها سبع سنين ، حسب ترجيحنا .
وقد رووا حالتها المؤثرة عند وفاة أمها خديجة « عليهما السلام » ، ففي أمالي الطوسي / 175 : « عن بريد العجلي قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد « عليهما السلام » يقول : لما توفيت
--------------------------- 364 ---------------------------
خديجة رضي الله عنها جعلت فاطمة صلوات الله عليها تلوذ برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتدور حوله وتقول : يا أبهْ أين أمي ؟ قال : فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال له : ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام وتقول لها : إن أمك في بيت [ من قصب ] كعابه من ذهب ، وعمده ياقوت أحمر ، بين آسية ومريم بنت عمران ، فقالت فاطمة « عليها السلام » : إن الله هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه السلام » .
وجعلنا [ من قصب ] بين معقوفين لأنا نحتمل أنها تسربت من رواية الطبراني ، قال في الأوسط : 1 / 139 : « عن فاطمة أنها قالت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : أين أمنا خديجة ؟ قال في بيت [ من قصب ] لا لغو فيه ولا نصب ، بين مريم وآسية امرأة فرعون . قالت مِن هذا القصب ؟ قال : لا بل من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت » .
ويدل هذ الحديث على أن المتبادر من القصب : القصب المعروف ، ولذلك سألته فاطمة حسب الرواية . لكنا نرى أن كلمة من قصب إضافة من عائشة وقد بررتها بأن خديجة لم تُصلِّ ، فلم تستحق أكثر من بيت القصب !
وقد حاول ابن حجر « فتح الباري : 7 / 104 » أن يصحح وصف القصب ويجعله مدحاً لبيت خديجة ، وأطال في ذلك بدون طائل .

غرفة فاطمة ( عليها السلام ) وبيتها في المدينة

عندما هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة انتظر وصول علي والفواطم خمسة عشر يوماً في قباء ، ثم دخل معهم المدينة ، ونزل في بيت أبي أيوب الأنصاري .
واشترى أرضاً كانت مربد تمر ، وبنى فيها مسجده وبيته ، وجعل له باباً يفتح على المسجد وباباً يفتح من جهة البقيع ، يفتح على غرفة استقبال كبيرة ولوازمها ، وغرفة لفاطمة « عليها السلام » ولوازمها ، ومن الجهة الثانية دار فيه غرفة خادم وتنور ، وبقية لوزم المنزل .
وتزوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) عدة زوجات بعد هجرته ، لكنه لم يُسكن أياً منهن في بيته ، بل كان يبني لكل واحدة منهن غرفةً من جهة البقيع شرقي المسجد ، في مكان بعيد نسبياً عن بيته .
وكان يخدمه في بيته أنس بن مالك وغيره ، وبنات أبي أيوب وغيرهن يخدمن فاطمة .
--------------------------- 365 ---------------------------
وبقيت فاطمة « عليها السلام » في بيته حتى تزوجت بعد نحو سنتين . وكانت تشرف عليها أم سلمة ، أو بعض نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « وخطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) النساء وتزوج سودة أول دخوله المدينة ، فنقل فاطمة « عليها السلام » إليها ، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية ، فقالت أم سلمة : تزوجني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفوض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها ، وكانت والله آدب مني ، وأعرف بالأشياء كلها » . دلائل الإمامة / 81 .
أما علي ( عليه السلام ) فكان يسكن مع أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها ، في مكان بعيد نسبياً عن المسجد . وعندما تزوج أخذ لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيتاً أقرب اليه ، ثم بدله ببيت قريب يفتح على المسجد ، عاشت فيه فاطمة وعلي وأم علي « عليهم السلام » .
وقال ابن سعد في الطبقات : 8 / 22 : « لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها ، فلما تزوج علي فاطمة قال لعلي : أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قليلاً فبنى بها فيه ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليها فقال : إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ ، فقالت لرسول الله : فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني . فقال رسول الله : قد تحول حارثة عنا حتى استحييت منه ، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك ، وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار بك ، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله ! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : صدقت ، بارك الله عليك ، فحولها رسول الله إلى بيت حارثة » .
وبعد زواج فاطمة « عليها السلام » بقيت غرفتها في بيت أبيها ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي من جهة الصُّفَّة شمالي المسجد . وقد شرحنا جغرافية بيت النبي وبيوت نسائه وقبره الشريف في سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) من جواهر التاريخ ، وفي كتيب : مصادرة قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
« وقد أخبرني الثقة الشيخ محمد التبريزي أنه دخل إلى سرداب قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوجد من جهة الصفة رخامة يظهر أنها مكان غرفة فاطمة « عليها السلام »
وأنها القبر الرمزي ، وقد كتب عليها الحديث النبوي ، وهو : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
--------------------------- 366 ---------------------------
فاطمة مهجة قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمة من ولدها أمناء ربي حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلف عنهم هوى » . رواه الزمخشري في المناقب ص : 213 ، وابن أبي الفوارس في الأربعين حديثاً ، والحمويني في فرائد السمطين ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين ص 144 وغيرهم .
هذا ، وسيأتي تفصيل خبر تزويج فاطمة بعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة المنورة .

  • *
    --------------------------- 367 ---------------------------

الفصل الثامن عشر

المرحلة الثانية ، الدعوة العامة : فاصدع بما تؤمر

1 - عدد سكان مكة وموقع قريش في العرب

كانت بطون قريش نحو عشرين قبيلة ، أشهرها : بنو هاشم بن عبد مناف ، وبنو أمية بن عبد شمس بن مناف بن قصي ، وبنو عبد الدار بن قصي ، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو أسد بن عبد العزى ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك ، وبنو عامر بن لؤي ،
وبنو سهم بن عمرو ، وبنو جمح بن عمرو ، وبنو أنمار بن بغيض ، وبنو تيم بن مرة بن كعب ، وبنو عدي . . . إلخ .
وكان عددهم جميعاً نحو أربعين ألف نسمة ، لأن غاية ما استطاعوا تجنيده في حرب الأحزاب مع أحابيشهم أربعة آلاف « عمدة القاري : 17 / 176 » فلو حسبنا من كل عشرة أشخاص مقاتلاً ، يكون عددهم أربعين ألفاً . ومهما زدنا فلا يصل عددهم إلى ستين ألفاً . لكن التأثير كان لبضع قبائل والباقون تبعٌ لها ، فقد وصف ابن هشام : 2 / 331 اجتماعهم في دار الندوة لبحث « مشكلة محمد ( صلى الله عليه وآله ) » ! فقال : « اجتمع فيها أشراف قريش : من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل . ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن
بني أسد بن عبد العزى : أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل ابن هشام . ومن بني سهم : نبيه ومنبه ابنا الحجاج .
--------------------------- 368 ---------------------------
ومن بني جمح : أمية بن خلف . . ومن كان معهم غيرهم ممن لا يعد من قريش ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً . . . إلخ . » .
وكان هذا الاجتماع بعد السنة الثالثة ، لأنه سمى أبا جهل زعيماً لمخزوم ، وقد صار زعيمها بعد هلاك الوليد بن المغيرة ، بعد ثلاث سنين من البعثة .
والقبائل الأهم خمسة التي اعتبروها تمثل الجميع وارتضوا أن تضع الحجر الأسود مكانه ، وهم : بنو هاشم ، وقد مثلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « يأتي من كل ربع من قريش رجل ، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى ، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم ، وقيس بن عدي من بني سهم ، فرفعوه ووضعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في موضعه » . الكافي : 4 / 218 .
وأهم الجميع : بنو هاشم وبنو أمية ، ولذا تراهم واصلوا صناعة أحداث التاريخ وكانت بقية قريش تبعاً لهم . وقد أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة « عليهم السلام » أن مستقبل الأمة هو الصراع بين بني أمية وبني هاشم ، كما رأينا أن وضع العالم ومستقبله الصراع بين
بني إسماعيل وبني إسحاق !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله ! قلنا صدق الله وقالوا كذب الله ! قاتل أبو سفيان رسول الله وقاتل معاوية علي بن أبي طالب ! وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي والسفياني يقاتل القائم » .
معاني الأخبار / 346 .

2 - رؤساء قريش عند بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال المؤرخ محمد بن حبيب في المنمق / 331 : « كانت الرئاسة أيام عبد مناف لعبدمناف بن قصي ، وكان القائم بأمور قريش والمنظور إليه منها ، ثم أفضى ذلك بعده إلى هاشم ابنه فولي ذلك بحسن القيام ، فلم يكن له نظير من قريش ولا مساو . ثم صارت الرئاسة لعبد المطلب ، وفي كل قريش رؤساء ، غير أنهم كانوا يعرفون لعبد المطلب فضله وتقدمه وشرفه » .
--------------------------- 369 ---------------------------
وكان أكبر أولاد عبد المطلب الحارث ثم الزبير ، وكان الزبير سيداً في زمن أبيه واشتهر بحلف الفضول لرد الظلم عن الحجاج : « فكان سيداً شريفاً شاعراً ، وهو أول من تكلم في حلف الفضول ودعا إليه » . أنساب الأشراف / 11 والمنمق / 171 .
« فتحالفوا بالله قائلين : لا ننقض هذا الحلف ما بلَّ بحرٌ صوفة ، وأن لا ندع بمكة مظلوماً . قال حكيم : ونظرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد حضرذلك الحلف يومئذ في دار ابن جدعان ، وكان الذي كتبه بينهم الزبير بن عبد المطلب » . المنمق / 188 .
وكان الزبير كأبيه يحب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ففي المنمق / 349 : « قال الزبير بن عبد المطلب يزفِّن « يُرَقِّص » النبي صلى الله عليه :
محمد بن عبدَمْ * عشت بعيشٍ أنعمْ
لا زلت في عيشٍ عم * ودولة ومغنمْ
يغنيك عن كل عمْ * وعشت حتى تهرم »
وفي المنمق / 34 : « وذكروا أن أكثم بن صيفي « رئيس بني تميم » قال : دخلت البطحاء بطحاء مكة فإذا أنا ببني عبد المطلب يخترقونها كأنهم أبرجة الفضة ، وكأن عمائمهم نوق الرجال ألوية ، يلحفون الأرض بالحبرات « ثيابهم طويلة » فقال أكثم : يا بني تميم ! إذا أراد الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء ! هذا غرس الله لا غرس الرجال ! قال هشام : لم يكن في العرب عدة بني عبد المطلب أشرف منهم ولا أجسم ، ليس منهم رجل إلا أشم العرنين يشرب أنفه قبل شفتيه ، ويأكل الجذع ويشرب الفرق » .
وقيل له : « ممن تعلمت الحكم والرياسة والحلم والسياسة ؟ فقال : من حليف الحلم والأدب ، سيد العجم والعرب ، أبي طالب بن عبد المطلب » . ومعنى : يأكل الجذع ويشرب الفرق : جسيمٌ ، يأكل خروفاً ، ويشرب سطل لبن . الحجة على الذاهب / 334 .
وكان أكبر زعما قريش بعد أبي طالب : الوليد بن المغيرة رئيس مخزوم ، وكان بارزاً من حياة عبد المطلب ، وقد أخذه معه في وفد قريش إلى اليمن لتهنئة الملك سيف بن
--------------------------- 370 ---------------------------
ذي يزن ، وكان الوفد سبعاً وعشرين شخصية فيهم غير الوليد : عتبة بن ربيعة ، وعقبة بن
أبي معيط ، وأمية بن خلف . كمال الدين / 176 والبحار : 15 / 146 .
وتعددت الزعامة بعد وفاة عبد المطلب ، فبرز ابنه أبو طالب « رحمه الله » رئيساً لبني هاشم ، وزعيماً محترماً في قريش والعرب ، وبرزت معه شخصيات قرشية ، منهم حرب بن أمية بن عبد شمس رئيساً لبني عبد شمس ، وأبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية رئيساً لهم أيضأً ، وعبد يزيد بن هاشم بن المطلب رئيساً لبني المطلب ، والمطعم بن عدي بن نوفل رئيساً لبني نوفل بن عبد مناف ، وخويلد بن أسد ، وعثمان بن الحويرث بن أسد رئيسين لبني أسد بن عبد العزى ، وعكرمة بن هاشم بن عبد مناف رئيساً لبني عبد الدار ، ومخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف رئيساً لبني زهرة ، وعبد الله بن جدعان بن عمرو رئيساً لتيم بن مرة ، والوليد بن المغيرة رئيساً لبني مخزوم ، وعمرو بن نفيل رئيساً لبني عدي ، وأمية بن خلف رئيساً لبني سهم وبني جمح ، وعمرو بن عبد شمس رئيساً لبني عامر بن لؤي ، وضرار بن الخطاب بن مرداس رئيساً لبني محارب بن فهر ، وعبد الله أبو أبي عبيدة بن الجراح ، رئيساً لبني الحارث بن فهر . المنمق لابن حبيب / 331 .
وكانت قريش عامة تدين بالوثنية مع بقايا الحنيفية ، إلا عبد المطلب وبنوه فكانوا على حنيفية أبيهم إبراهيم ( عليه السلام ) ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قط ! قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به » . كمال الدين / 174 .
وكان أبو طالب يقول : أنا على ملة عبد المطلب . صحيح بخاري : 2 / 98 .
وكان في قريش ملحدون يعلنون إلحادهم ، سماهم المؤرخ ابن حبيب في المنمق / 388 : زنادقة قريش ، وقال إنهم تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة ، وهم : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، وصخر بن حرب ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي بن خلف ، وأبو عزة ، والنضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان .
--------------------------- 371 ---------------------------

3 - قريش معدن فراعنة وأكثرهم حق عليهم القول !

سجل القرشيون رقماً قياسياً في العناد فجمعوا العناد اليهودي والبدوي ! فلم يقل أحد قبلهم ولا بعدهم : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . الأنفال : 32 . أي : لا نريد نبوة بني هاشم ، حتى لو كانت حقاً ، فإن كانت حقاً فليهلكنا الله بعذاب من عنده ، فهو خير لنا ! !
« قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة ! فقال : أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ . . . ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه » . تفسير القمي : 1 / 276 والصراط المستقيم : 3 / 49 .
ولذا حكم الله عليهم بأنهم فراعنة فقال لهم : إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً . فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً . المزمل : 15 - 16 .
وقال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما وقف على قتلى بدر : « جزاكم الله من عصابة شراً ، لقد كذبتموني صادقاً ، وخونتموني أميناً ! ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحَّدَ الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى » ! أمالي الطوسي : 1 / 316 ومجمع الزوائد : 6 / 91 .
« وفرعون وقومه أخذهم الله بالسنين فطلبوا من موسى ( عليه السلام ) أن يدعو لهم ربه ، لكن قريشاً أخذهم الله بالقحط فما دعوا الله ، ولا طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدعو لهم ، مع أنه أرسل لهم أحمالاً من المواد الغذائية ! فأنزل الله فيهم : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ » . المؤمنون : 76 . مستدرك الحاكم : 2 / 394 .
لكن رواة السلطة كذبوا فكذَّبوا القرآن ، قالوا : « أتى أبو سفيان يشفع عنده ( صلى الله عليه وآله ) في أن يدعو الله لهم ، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم » . النهاية : 6 / 101 .
كما أن أكثر قريش أبلسوا وحق عليهم القول ، فلن يؤمنوا أبداً ، قال تعالى : لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ . لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ . إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
--------------------------- 372 ---------------------------
سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ . وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . يس 6 - 11 .
لكن رواة السلطة كذَّبوا القرآن وقالوا لم يحقَّ القول على أكثرهم ، بل أسلموا وحسن إسلامهم ، وصار منهم خلفاء وأئمة ، ما شاء الله !
وقد وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) موقف « الملأ من قريش » من نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمعجزة التي طلبوها منه ورأوها بأم أعينهم ! فقال ( عليه السلام ) :
« ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان أيس من عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزير وإنك لعلى خير . ولقد كنت معه ( صلى الله عليه وآله ) لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : وما تسألون ؟ قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله على كل شئ قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق ؟ قالوا نعم . قال : فإني سأريكم ما تطلبون ، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير ، وإن فيكم من يطرح في القليب ، ومن يحزب الأحزاب . ثم قال : يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن الله . فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه ( صلى الله عليه وآله ) . فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علواً واستكباراً : فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها ! فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً ، فكادت تلتف برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالوا كفراً وعتواً : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره فرجع ! فقلت أنا : لا إله إلا الله ، فإني أول مؤمن بك يا رسول الله ، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك . فقال القوم كلهم : بل ساحر كذاب ، عجيب السحر
--------------------------- 373 ---------------------------
خفيف فيه ، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا ! يعنوني » ! نهج البلاغة : 2 / 157 .
أقول : صدق فيهم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « فإني سأريكم ما تطلبون ، وإني لأعلم أنكم لاتفيئون إلى خير » ! وهذا إخبار عن عاقبة أمرهم ، فلم يفيؤوا إلى خير ومنهم من قتل في بدر ورُمي في البئر ثم حزَّبوا الأحزاب ، وبعد فتح مكة اضطرهم إلى خلع سلاحهم ، لكنهم واصلوا تآمرهم عليه ( صلى الله عليه وآله ) حتى أخذوا دولته واضطهدوا عترته !
أقول : وما تقدم من سوء عاقبة أكثرهم لا ينافي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبرهم بأنهم سيخضعون جميعاً ويقبلون دعوته ونبوته ، كما في الهداية الكبرى / 66 ، عن
أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما ظهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودعا قريشاً إلى الله تعالى فنفرت قريش من ذلك وقالوا : يا ابن أبي كبشة لقد ادعيت أمراً عظيماً ! أتزعم أنك نبي وأن الملائكة تنزل عليك ! فقد كذبت على الله وملائكته ، ودخلت فيما دخل فيه السحرة والكهنة ! فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لمَ تجزعون يا معاشر قريش أن أدعوكم إلى الله والى عبادته ؟ والله ما دعوتكم حتى أمرني بذلك ، وما أدعوكم أن تعبدوا حجراً من دون الله ولا وثناً ولا صنماً ولا ناراً ، وإنما دعوتكم أن تعبدوا من خلق هذه الأشياء كلها وخلق الخلق جميعاً ، وهو ينفعكم ويضركم ويميتكم ويحييكم ويرزقكم .
ثم قال : والله لتستجيبُنَّ إلى هذا الذي أدعوكم إليه شئتم أم أبيتم ، طائعين أو كارهين ، صغيركم وكبيركم ! فبهذا أخبرني جبريل عن رب العالمين ، وإنكم لتعلمون ما أنا بكاذب ، وما بي من جنون ، ولا سحر ولاكهانة ، فقد أخبرتكم بما أخبرني به ربي ، فاسمعوا وأطيعوا . فكان هذا من دلائله ( صلى الله عليه وآله ) » .

4 - فراعنة قريش أكثر من خمسة والمُؤْذُون للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالعشرات

استشاط زعماء قريش غضباً بمجرد أن سمعوا خبر بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه أن يسلمهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ، فردهم وجمع بني هاشم لحمايته فأجابوه ، وأخذ المشركون يترصدون الفرصة لأذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقتله . وكان بنو أمية وبنو مخزوم أسوأ من يؤذيه ، ومنهم :
--------------------------- 374 ---------------------------
من بني عبد شمس : حنظلة بن أبي سفيان ، وعبيدة بن سعيد بن العاص ، والعاص بن سعيد بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وأخوه شيبة ، وابنه الوليد بن عتبة بن ربيعة .
ومن بني مخزوم : « الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة ، وأخوه العاص بن هشام ، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، ورفاعة بن أبي رفاعة وأخواه المنذر وعبد الله ، والسائب بن أبي السائب بن عابد ، وأخوه حاجب ، والأسود بن عبد الأسد بن هلال ، وعويمر بن السائب بن عويمر .
ومن بني سهم : منبه بن الحجاج بن عامر ، وابنه العاص بن منبه ، وأخوه نبيه بن الحجاج ، وأبو العاص بن قيس ، وعاصم بن أبي عوف .
ومن بني جمح : أمية بن خلف بن وهب ، وابنه علي ، وأوس بن معير بن لوذان .
ومن بني أسد بن عبد العزى : زمعة بن الأسود ، وابنه الحارث ، وأخوه عقيل بن الأسود ، وأبو البختري وهو العاص بن هشام بن الحارث ، ونوفل بن خويلد بن أسد ، وهو ابن العدوية وكان من شياطين قريش .
ومن بني عبد الدار : النضر بن الحارث بن كلدة ، وزيد بن مليص . ومن بني تيم بن مرة : عمير بن عثمان ، وعثمان بن مالك .
ومن بني عامر بن لؤي : معاوية بن عامر ، ومعبد بن وهب ، حليفان لهم .
ومن بني نوفل بن عبد مناف : الحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي » . ابن هشام 2 / 525 .
راجع أسماء المؤذين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في إمتاع الأسماع للمقريزي : 14 / 323 وكامل ابن الأثير : 2 / 70 . وأسماء الملعونين على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في كتابنا : ألف سؤال وإشكال : 2 / 239 .
ولا يعني إهلاك الله تعالى للمستهزئين الخمسة أن غيرهم أقل عداء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والإسلام ، بل يعني أنهم كانوا مانعاً من الدعوة أكثر من غيرهم ، وقد يكون غيرهم أخطر منهم على المدى الطويل كأبي سفيان ، الذي هو العدو الأول للإسلام ، فقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنا وآلُ أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله قلنا صدق الله وقالوا كذب الله . . » . معاني الأخبار / 346 .
--------------------------- 375 ---------------------------

5 - المستهزئون الخمسة عقبة أزاحها الله من طريق الدعوة !

يعتبر النص القرآني في المستهزئين ركناً في تدوين السيرة ، لأنه قطعي الدلالة مجمع عليه عند المؤرخين ، وأن الله تعالى أهلكهم ففتح باب الدعوة لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأمره أن يصدع بأمر ربه . والصدع : الإعلان بحزم ، فقال تعالى : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ .
وتفاوتت الرواية في عددهم من خمسة إلى سبعة عشر ، لكنا اعتمدنا الخمسة لأنه المشهور والمروي عن أهل البيت « عليهم السلام » . وكان إهلاكهم بمعجزة ربانية ، لتبدأ مرحلة جديدة في عمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) : مرحلة إعلان الدعوة العامة إلى الإسلام ، بعد أن كانت دعوة خاصة لبني هاشم . وكان كل واحد من المستهزئين يقول قبل هلاكه : « قتلني رب محمد » ! فانتشر الخوف في قريش من رب محمد ( صلى الله عليه وآله ) !
وكان إهلاكهم يوم تشديد إنذارهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بالقتل إن لم يتراجع عن نبوته !
وعندما أخبره جبرئيل بهلاكهم : « فخرج رسول الله فقام على الحِجْر فقال : يا معشر قريش ، يا معشر العرب ، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام ، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم ، وتكونوا ملوكاً في الجنة . فاستهزؤوا وقالوا : جُنَّ محمد بن عبد الله ، ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب » . تفسير القمي : 1 / 377 .
وفي الخصال / 279 ، عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) : « أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال ليهودي من أحبار الشام في جواب مسائله : فأما المستهزؤون فقال الله عز وجل له : إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ ، فقتل الله خمستهم ، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد : أما الوليد بن المغيرة فإنه مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه ، فانقطع أكحله حتى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد ! وأما العاص بن وائل السهمي ، فإنه خرج في حاجة له إلى كداء فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول :
قتلني رب محمد !
--------------------------- 376 ---------------------------
وأما الأسود بن عبد يغوث ، فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له فاستظل بشجرة تحت كداء فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فأخذ رأسه فنطح به الشجرة ، فقال لغلامه : إمنع هذا عني ! فقال : ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً إلا نفسك ! فقتله وهو يقول : قتلني رب محمد ! . .
وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياً ، فرجع إلى أهله فقال : أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه ، وهو يقول : قتلني رب محمد !
وأما الأسود بن المطلب فإنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه غلبة العطش ، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات ، وهو يقول : قتلني رب محمد !
كل ذلك في ساعة واحدة ، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا له : يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك ، فدخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً بقولهم ، فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) ساعته فقال له : يا محمد السلام يقرئك السلام وهو يقول : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ، يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادع ، وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ . قال : يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني ؟ قال له : إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ . قال : يا جبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي ؟ فقال : قد كفيتهم ! فأظهر أمره عند ذلك » !
وهذه الرواية أوثق عندي من رواية ابن إسحاق قال : 5 / 254 : « كان المستهزؤون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمسة : الأسود بن عبد يغوث بن وهب ، والأسود بن المطلب بن أسد ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن الطلاطلة أحد خزاعة ، فكانوا يهزؤون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويغمزونه ، فأتاه جبريل فوقف به عند الكعبة وهم يطوفون به فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى بطنه فمات حبناً ، ومر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح في كعب رجله قد كان أصابه قبل ذلك بيسير فانتقض به فقتله ، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته ، ومر به الحارث
--------------------------- 377 ---------------------------
بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتحض قيحاً حتى قتله ، ففيهم أنزل الله عز وجل : إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ » . وابن هشام : 2 / 277 . وفي فتح الباري : 8 / 290 : « الأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والعاصي بن وائل ، والحرث بن قيس ، والوليد بن المغيرة » .

6 - رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة

أ . من صفات المستهزئين الخمسة : الإلحاد ، والمادية ، والتكبر ، والتعقيد النفسي ! بحيث أن الله تعالى الذي وسع حلمه كل شئ ، قال عنهم وعن رئيسهم الوليد :
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ . إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ . سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُوم .
وقال عز وجل : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ .
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاسِحْرٌ يُؤْثَرُ .
وكانت مهنة الوليد صناعة الدروع « البحار : 31 / 101 » وكان زنديقاً ملحداً لا يؤمن بشئ ، وكذا العاص بن وائل ، وعدد من كبار قريش . المنتمق / 288 وعمدة القاري : 11 / 209 .
وكان الوليد رئيس بني مخزوم ، وهو الذي قاد زعماء قريش في مواجهة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي تفسير القمي : 2 / 430 : أنه نزل فيه قوله تعالى : كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى . إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى . أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى . عَبْدًا إِذَا صَلَّى .
وفي تفسير القمي : 2 / 393 : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً . . فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب ، وكان من المستهزئين برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وإنما سمي وحيداً لأنه قال لقريش : أنا أتوحد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة ، وكان له مال كثير وحدائق ، وكان له عشر بنين بمكة ، وكان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها ، وتلك القنطار في ذلك الزمان » .
--------------------------- 378 ---------------------------
ب . وقد وصف الله تعالى الوليد بقوله : عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ، لأنه كان دعياً وليس لأبيه !
وفي الكشاف : 4 / 142 : « العتل : الجافي . والزنيم : الدعي . وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده » .
وفي المنمق / 104 ، أنه تنافر مع أسيد بن أبي العيص الأموي فقال له أسيد : « أنت رجل من كنانة من بني شجع ! دخيل في قريش نزيع في بني مخزوم » !
وسيأتي طعن أبي طالب « رحمه الله » بنسبه . كما أن بني أمية مطعون في نسبهم ، فقد قال أبو طالب « رحمه الله » إن أمية كان عبداً لعبد المطلب . شرح النهج : 15 / 233 .
كما طعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في نسب عقبة بن أبي معيط فقال له : « ما أنت وقريش ، وهل أنت إلا يهودي من صفورية » ! الإحتجاج : 1 / 412 ، الإصابة : 5 / 398 والطبري : 5 / 157 .
ج . قال الوليد بن المغيرة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك ! لأنني أكبر منك سناً ، وأكثر منك مالاً » . المناقب : 1 / 47 وعدد من التفاسير .
وفي تفسير الثعلبي : 4 / 187 : ونزلت فيه : وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ . اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . وقال الوليد : « أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ! ويترك أبو مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين » ! « الإحتجاج 1 / 26 وابن هشام 1 / 242 » . فأنزل الله : وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . الزخرف : 31 - 32 .
د . وفي السنة الأولى لبعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعا الوليد زعماء قريش إلى وليمة ليتفقوا على موقف واحد من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ففي الطبراني الكبير : 11 / 102 : « صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا قال : ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر . وقال بعضهم : سحر يؤثر ! فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر » .
وتقدم ذلك في فصل دعوة العشيرة الأقربين .
--------------------------- 379 ---------------------------
ه - . اقترح زعيم قريش الوليد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يعبدوا ربه سنة ، ويعبد آلهتهم سنة !
« اعترضوا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، منهم عتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن سعيد ، فقالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ونشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن يكن الذي نحن عليه الحق فقد أخذت بحظك منه ، وإن يكن الذي أنت عليه الحق فقد أخذنا بحظنا منه ، فأنزل الله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لاأَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ » . أمالي المفيد / 246 ، أمالي الطوسي / 19 وسيرة ابن هشام الحميري : 1 / 243 . وفي ذلك إخبار بأن هؤلاء لن يؤمنوا أبداً .
و . قال الوليد ومعه الملأ من قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين قال : إن فعلت تؤمنون ؟ قالوا : نعم ، فأشار إليه بإصبعه فانشق شقتين رؤي حراء بين فَلْقيه فقالوا : هذا سحر مستمر من سحر محمد ! فأنزل الله تعالى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » . المناقب : 1 / 106 ، مجمع البيان : 9 / 310 ، الفصول المختارة / 20 ، مقدمة فتح الباري / 300 ، المناقب لمحمد بن سليمان : 1 / 42 ، الصحيح من السيرة : 3202 وجعلها في السنة الثامنة .
أقول : أفاضت التفاسير ومصادر السيرة في وصف معجزة شق القمر ، وفي الخرائج : 1 / 31 أنها كانت في أول البعثة ، وروي أنها مرتان . عيون الأثر : 1 / 149 .
وذكرت رواية ابن عباس في الحلية وفتح الباري : 7 / 139 اسم الوليد بن المغيرة في الذين طلبوا هذه المعجزة ، وهو دليل على أنها كانت قبل هلاكه في السنة الثالثة ، ولا يضر وجود اسم أبي جهل لأنه كان إلى جانب الوليد ، ولعل الطلب تكرر .
هذا ، وقد ذكر الفلكيون أن في القمر شقاً الآن ، فقد يكون انشق حقيقة ، ثم
عاد واحداً .
--------------------------- 380 ---------------------------
ز . هاجر الأوس بسبب صراعهم مع الخزرج إلى مكة وحالفتهم قريش ، فأبطل الوليد بمكيدته حِلْفَهم ، ففي المنمق / 268 : « خرجت الأوس جالية من الخزرج حتى نزلت على قريش بمكة فحالفتها ، فلما حالفتها قال الوليد بن المغيرة : والله ! ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم وورثوا ديارهم ، فاقطعوا حلف الأوس ، فقالوا : بأي شئ ؟ قالوا : إن في القوم حشمة ، فقولوا : إنا قد نسينا شيئاً لم نذكره لكم : إنا قوم إذا طاف النساء بالبيت فرأى الرجل امرأة تعجبه قبلها ولمسها بيده ، فلما قالوا ذلك للأوس نفروا وقالوا : إقطعوا الحلف بيننا وبينكم فقطعوه ، ثم انقطع هذا الحلف » .
ح . كانت وصية الوليد لأولاده من أغرب الوصايا ، ففي المنمق / 191 : « فلما حضرت الوليد الوفاة . . فدعا ولده هشاماً وخالداً والوليد والفاكه وأبا قيس وقيساً وعبد شمس وعمارة ، فقال لهم : يا بَنِيَّ إني أوصيكم بثلاث فلا تضيعوهن : دمي في خزاعة فلا تطلُّنَّه ، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكن أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم ! ورباي في ثقيف فلا تدَعوه حتى تأخذوه ، وعُقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به ، وكان أبو أزيهر قد زوجه ابنة له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات . . . فقال له بنوه : والله ما نعلم أحداً من العرب أوصى بنيه بشرِّ مما أوصيت به . . . فلما هلك الوليد بن المغيرة وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون عقله . . . وغلظ الأمر بينهم ، وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلاً من كعب بن عمرو من خزاعة . . . ثم إن الناس ترادوا وعرفوا أنما يخشى القوم السُّبَّة ، فأعطتهم خزاعة بعض العقل ، وانصرفوا عن بعض » .
وسبب طلبه ديته من خزاعة أنه : « مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد » ! الخصال / 279 .
فقد اعترف بأن رب محمد قتله ، وأوصى بأخذ الدية من صاحب السهام !
ونفذ ابنه خالد وصيته ، فأخذوا الدية من خزاعة ، وقتلوا أبا أزيهر غيلة ، عندما كان ضيفاً عند حليفهم أبي سفيان ! المنمق / 199 و 203 وابن هشام : 2 / 278 .
--------------------------- 381 ---------------------------
ط . أسلم الوليد بن المغيرة في مكة ، ثم ارتد مع ابن أخيه الفاكه ، عمدة القاري : 18 / 187 . ثم كان مع المشركين في بدر فقتله علي ( عليه السلام ) . شرح الأخبار : 1 / 265 وابن هشام : 2 / 528 .
وعمارة بن الوليد ، هو الذي جاؤوا به إلى أبي طالب ليعطيهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه ويأخذه بدله ! ثم أرسلوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي فاختلفا وهلك هناك .
والوليد بن الوليد بن المغيرة ، زعموا أنه أسلم سراً ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يدعو له في قنوته بعد صلح الحديبية : « فيقول : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين . اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سني يوسف » . رواه بخاري : 1 / 194 ، سبع مرات ! .
وتوفي الوليد بن الوليد في المدينة في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ففي الكافي : 5 / 117 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « فقالت أم سلمة « المخزومية » للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم ؟ فأذن له ، فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان ، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها ، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت :
أنعى الوليد بن الوليد * أبا الوليد فتى العشيرة
حامي الحقيقة ماجد * يسمو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثاً في السنين * وجعفراً غدقاً وميرة
قال : فما عاب ذلك عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا قال شيئاً » .
وهشام بن الوليد بن المغيرة ، كان من شخصيات قريش المؤلفة قلوبهم . « الإستيعاب 4 / 1541 » . وهو الذي قتل أبا أزيهر الدوسي . وهو الذي هدد عثمان عندما ضرب عمار بن ياسر « رحمه الله » حليف بني مخزوم ، فقال له : « أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا ، لأقتلن به رجلاً عظيماً من بني أمية » . الإمامة والسياسة : 1 / 51 .
وخالد بن الوليد ، كان مع أبيه في عدائه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأحد الذين انتدبتهم قريش لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الهجرة عندما بات علي ( عليه السلام ) في فراشه : « فلما بصر بهم
--------------------------- 382 ---------------------------
علي قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها ، يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، وثب به عليٌّ فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر . أمالي الطوسي / 467 .
ومعنى يقمص قِمَاصَ البكر : يصيح كالجمل الصغير . وشارك مع إخوته في بدر فنجا ، وقُتل أخوه أبو قيس ، وأُسر أخوه الوليد بن الوليد . شرح النهج : 14 / 203 .
وكان خالد أحد قادة المشركين في أُحُد ، وسبباً في هزيمة المسلمين بعد انتصارهم عندما اغتنم مع عكرمة وضرار فرصةً وهاجمهموهم من خلفهم .
وأسلم خالد بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص لما رأيا أن ميزان القوة تحول إلى جانب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً ! « ابن هشام : 3 / 748 » فجاء إلى المدينة هو وعمرو بن العاص وأسلما . وبعد فتح مكة شارك مع قريش إلى جانب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حرب حنين ، وكان أول المنهزمين .
وبعد فتح الطائف وخضوع ثقيف ، أراد خالد أن يستوفي ربا أبيه من ثقيف فمنعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « المنمق / 203 والحدائق : 19 / 222 » ، ثم طالبهم به ، فشكاه الثقفيون إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنزلت الآية : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . « عمدة القاري : 11 / 201 وجواهر الكلام : 23 / 299 » . فأكد النبي إلغاء
ربا الجاهلية .
ي . عمل خالد مع اليهود والطلقاء لأخذ خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان في من هاجموا بيت علي وفاطمة « عليهما السلام » وهددوهم بحرق البيت عليهم إن لم يبايعوا ! وأرسله أبو بكر لإخضاع مالك بن نويرة رئيس عشيرة من بني تميم ، الذي عينه النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولاً عن صدقات قومه ، فلما بلغه وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) جاء إلى المدينة :
قال ابن شاذان في الفضائل / 76 : « فدخل يوم الجمعة وأبو بكر على المنبر يخطب بالناس فنظر إليه وقال : أخو تيم ؟ قالوا : نعم . قال : فما فعل وصي رسول الله الذي أمرني بموالاته ؟ قالوا : يا أعرابي ، الأمر يحدث بعده الأمر ! قال : بالله ما حدث شئ وإنكم قد خنتم الله ورسوله ! ثم تقدم إلى أبي بكر وقال : من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله جالس ؟ فقال أبو بكر : أخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه من مسجد
--------------------------- 383 ---------------------------
رسول الله ! فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد ، فلم يزالا يلكزان عنقه حتى أخرجاه ! فركب راحلته وأنشأ :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر
إذا مات بكر قام عمر ومقامه * فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
يدب ويغشاه العشار كأنما * يجاهد جماً أو يقوم على قبر
فلو قام فينا من قريش عصابة * أقمنا ولكن القيام على جمر
قال فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد ، وقال له : قد علمت ما قاله مالك على رؤس الأشهاد ، ولست آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلتئم ، فاقتله !
فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فارساً يعد بألف ، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق ، ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه فقتله وأعرس بامرأته في ليلته » !
ك . ضخموا دور خالد في الفتوحات ، ونسبوا اليه بطولات غيره ، وقد بينا بعض مكذوباتهم في كتاب : قراءة جديدة في حروب الردة ، والفتوحات .
ل . كان عمر بن الخطاب يبغض خالد بن الوليد ، لأن خالداً كسر ساقه ، فكان عمر يخوي ، أي يفحج في مشيه كل عمره . النهاية : 7 / 131 وتفسير الطبري : 2 / 79 .
وكان خالد يرى نفسه أنه ابن أكبر شخصية في قريش ، وأن عمر مغمور ومن قبيلة مغمورة ، ويرى أن عمر ن يعمل مبرطشاً أي دلال كراية حمير وإبل . « نهاية ابن الأثير 1 / 119 وتاج العروس 9 / 58 » . وكان عمر قبل ذلك خادماً لأخ خالد عمارة بن الوليد في سفر له إلى الشام ، فغضب عليه عمارة وأراد أن يقتله . المنمق / 130 .
وأول عمل قام به عمر لما صار خليفة أنه عزل خالداً ، وكتب لأبي عبيدة بن الجراح إن لم يتراجع عن تحقره لأم عمر ونفيها من بني مخزوم ، أن يعزله ويقاسمه كل ما يملك ، فأبى خالد فعزله وقاسمه حتى أخذ « فردة » نعله وترك له الثانية !
وعاش خالد بقية حياته في حمص ، ولما مات منع عمر البكاء عليه .
م . برز من أولاد خالد عبد الرحمن وكان قائد جيش معاوية في صفين ،
--------------------------- 384 ---------------------------
وأحبه أهل الشام فطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده ، فقتله معاوية بالسم على يد طبيب مسيحي ، فجاء أخوه المهاجر من مكة وأخذ بثأره . وكان المهاجر شيعياً شهد مع علي ( عليه السلام ) حرب الجمل وصفين ، وله أولاد شيعة . « الاستيعاب : 4 / 1453 » . وقيل مات في طاعون عمواس عشرون شخصاً من ولد الوليد بن المغيرة . لكنا نشك في موته بالطاعون ، فلعله بسم معاوية ، مثل بلال وأصحابه الثلاثين الذين كتبوا إلى عمر بفساد معاوية ، وكان عمر يدعو عليهم في صلاته ، فاستجاب الله دعاءه ودعاء معاوية وماتوا جميعاً في تلك السنة ! الإستيعاب : 4 / 1711 .

7 - إهلاك المستهزئين غيَّرَ ميزان القوة لصالح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كان إهلاك المستهزئين الخمسة قوة لأبي طالب « رحمه الله » ، فقوَّى عزيمة بني هاشم في حماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) . ومما يدل على ذلك موقف حمزة القوي الذي تحدى به أبا جهل رئيس مخزوم وضربه على رأسه بقوسه ، وأعلن إسلامه !
وكذلك مواقف أبي طالب في حماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي تحدى فيها قريشاً وأذلها !
منها : ما رواه الكافي : 1 / 449 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « بينا النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد ، فألقى المشركون عليه سلا ناقة فملؤوا ثيابه بها ، فدخله من ذلك ما شاء الله ، فذهب إلى أبي طالب فقال له : يا عم كيف ترى حسبي فيكم ؟ فقال له : وماذا يا ابن أخي ؟ فأخبره الخبر ، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف ، وقال لحمزة : خذ السلا ! « الفرث والدم » ثم توجه إلى القوم والنبي معه ، فأتى قريشاً وهم حول الكعبة ، فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه ، ثم قال لحمزة : أمِرَّ السَّلى على سِبالهم « شواربهم » ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم !
ثم التفت أبو طالب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا ابن أخي هذا حسبك فينا » !
وروت المصادر القصة بصيغ مشابهة وفيها أبيات لأبي طالب « رحمه الله » ، كرواية السيد فخار بن معد في كتابه الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب / 346 ، عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « مر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفر من قريش وقد نحروا جزوراً
--------------------------- 385 ---------------------------
وكانوا يسمونها الظهيرة ويذبحونها على النصب فلم يسلم عليهم ، فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا : يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا ! فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه ؟ فقال عبد الله بن الزبعرى السهمي : أنا أفعل ، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره ، فانصرف النبي حتى أتى عمه أبا طالب فقال : يا عم من أنا ؟ فقال : ولمَ يا بن أخ ؟ فقص عليه القصة ، فقال : وأين تركتهم ؟ فقال : بالأبطح ، فنادى في قومه : يا آل عبد المطلب يا آل هاشم ، يا آل عبد مناف ، فأقبلوا إليه من كل مكان مُلَبِّين قال : كم أنتم ؟ قالوا : نحن أربعون قال : خذوا سلاحكم فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر ، فلما رأوه أرادوا أن يتفرقوا فقال لهم : ورب هذه البنية لايقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف ! ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات ، حتى قطعها ثلاثة أفهار « أحجار » ثم قال : يا محمد سألتني من أنت ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
أنت النبي محمدُ * قَرْمٌ أغَرُّ مُسَوَّدُ
لمسوَّدين أكارمٍ * طابوا وطاب المولد
نعم الأرومة أصلها * عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة في الجفان * وعيش مكة أنكد
فجرت بذلك سنة * فيها الخبيزة تثرد
ولنا السقاية للحجيج * بها يماث العنجد
والمأزمان وما حوت * عرفاتها والمسجد
أنى تضام ولم أمت * وأنا الشجاع العربد
وبطاح مكة لا يرى * فيها نجيع أسود
وبنو أبيك كأنهم * أسدُ العرين توقد
ولقد عهدتك صادقاً * في القول لا تتزيد
--------------------------- 386 ---------------------------
ما زلت تنطق بالصواب * وأنت طفل أمرد
ثم قال : يا محمد أيهم الفاعل بك ؟ فأشار النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبد الله بن الزبعرى السهمي الشاعر ، فدعاه أبو طالب فوجأ أنفه حتى أدماها ، ثم أمر بالفرث والدم فأُمِرَّ على رؤس الملأ كلهم ! ثم قال : يا ابن أخ أرضيت ؟ ثم قال : سألتني من أنت ؟ أنت محمد بن عبد الله ، ثم نسبه إلى آدم ، ثم قال : أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً . يا معشر قريش من شاء منكم يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني » !
ورواه في شرح النهج : 14 / 77 ، البحار : 35 / 164 والغدير : 7 / 388 ، وثمرات الأوراق بهامش المستطرف : 2 / 3 ، كما في حياة أمير المؤمنين . والربيكة : طعام من تمر وأقط وسمن . والعنجد : الزبيب .
وروى في التوحيد / 158 ، تفسير الإمام الباقر ( عليه السلام ) للبيتين الأخيرين ، قال : « يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . قال : يكاد العالم من آل محمد « عليهم السلام » يتكلم بالعلم قبل أن يسأل . نُورٌ عَلَى نُورٍ : يعني : إماماً مؤيداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة . فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عز وجل خلفاءه في أرضه وحججه على خلقه ، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم . يدل على صحة ذلك قول أبي طالب في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنت الأمين محمد . . الأبيات . . يقول : ما زلت تتكلم بالعلم قبل أن يوحى إليك ، وأنت طفل كما قال إبراهيم ( عليه السلام ) وهو صغير لقومه : إنِّي بَرِئٌ مِمَّا تُشْرِكُون . وكما تكلم عيسى ( عليه السلام ) في المهد فقال : إنِّي عَبْدُ الله آتانيَ الكتَابَ وجَعَلَنِي نَبِياً . . الآية . . » .
ومنها : ما رواه في كنز الفوائد / 74 ، قال : « ومن ذلك أن أبا جهل جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومعه حَجَرٌ يريد أن يرميه به إذا سجد ، فلما سجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رفع أبو جهل يده فيبست على الحجر ، فرجع فقالوا له : أجبنت ؟ قال : لا ، ولكن رأيت بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه ! وهذا الحديث مشهور وفيه يقول أبو طالب « رحمه الله » :
أفيقوا بني غالب وانتهوا * عن الغي من بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذن خائف * بوائق في داركم تلتقي
--------------------------- 387 ---------------------------
تكون لغيركم عبرة * ورب المغارب والمشرق
كما ذاق من كان من قبلكم * ثمود وعاد فمن ذا بقي
غداة أتاهم بها صرصر * وناقة ذي العرش قد تستقي
فحل عليهم بها سخطة * من الله في ضربة الأزرقجج
غداة يعض بعرقوبها * حساما من الهند ذا رونق
وأعجب من ذاك في أمركم * عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من خبثه * إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه * على رغمة الجائر الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى * لغي الغواة ولم يصدق »
ورواه الحميري في قرب الإسناد / 317 ، بسند صحيح . والاحتجاج : 1 / 343 وشرح النهج : 14 / 74 .
ومن عجيب ما تراه في نسخة سيرة ابن إسحاق 4 / 193 أن بعضهم زعم أن هذه الأبيات لعمر بن الخطاب ، مع أن عمر لم يقل الشعر ! قال : « قال عمر بن الخطاب فيما يزعمون بعد إسلامه ، يذكر ما رأت قريش من العبرة فيما كان أبو جهل هم به من رسول الله وقائل يقول قالها أبو طالب ، والله أعلم بمن قالها » !
ونلاحظ في شعرأبي طالب توبيخه لزعماء قريش عامة ، ولأبي جهل خاصة ، وهذا أشد عليهم من ضربة حمزة له في نادي قريش ، مما يعني أن ميزان القوة بعد هلاك الفراعنة الخمسة مال بشكل واضح لمصلحة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد انخذل زعماء قريش وسكتوا أمام ما فعله حمزة وما فعله أبو طالب ، وما فعله علي ( عليه السلام ) الذي : « كان يقضم آذان صبيانهم وأنوفهم ! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون : قضمنا عليٌّ ، قضمنا علي . تفسير القمي : 1 / 114 ! ويسكت الآباء على فعل علي ( عليه السلام ) !
ومنها : أن أحد أعيان بني مخزوم أسلم ، فبادر بنو مخزوم ورئيسهم أبو جهل ليؤذوه ، فتدخل أبو طالب « رحمه الله » وخلصه من تعذيبهم لأن أمه من بني هاشم » !
ففي سيرة ابن إسحاق 2 / 145 : « عَدَتْ قريش على من أسلم منهم فأوثقوه
--------------------------- 388 ---------------------------
وآذوه ، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالاً شديداً ، وعدت بنو جمح على عثمان بن مظعون ، وفرَّ أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم إلى أبي طالب ليمنعه وكان خاله ، فجاء بنو مخزوم ليأخذوه فمنعهم فقالوا : يا أبا طالب منعت منا ابن أخيك أتمنع منا ابن أخينا ؟ فقال أبو طالب : أمنع ابن أختي مما أمنع ابن أخي ! فقال أبو لهب - ولم يتكلم بكلام خير قط ليس يومئذ - : صدق أبو طالب لايسلمه إليكم ! فطمع فيه أبو طالب حين سمع منه ما سمع ورجا نصره والقيام معه ، فقال شعراً استجلبه بذلك :
وإن امرأً أبو عتيبة عمه * لفي روضة من أن يسام المظالما
أقول له وأين مني نصيحتي * أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة * تسب بها أما هبطت المواسم
[ وول سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما ]
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطي الضيم إلا يسالما
وولى سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لن تلحق على العجز لازما »
[ وكيف ولم يجنوا عليك عظيمةً * ولم يخذلوك غانماً أو مغارما ]
[ جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً * وتيماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما ]
[ بتفريقهم من بعد ود وألفة * جماعتنا كيما ينالوا المحارما ]
[ كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً * ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما ] »
أقول : ما بين المعقوفين من نسخة ابن هشام : 1 / 248 مع أنه نقلها عن ابن إسحاق ، وليست في نسخته التي بأيدينا ، فدل على أنها ناقصة أو محرفة » !
وقال ابن هشام : « وبقي منها بيت تركناه » . والبيت الذي حذفه رواه القاضي النعمان في المناقب / 123 ، قال : « فقام إليهم أبو لهب فقال : قد والله أكثرتم على هذا الشيخ ! ما تزالون توثَّبون عليه في جواره من بين قومه ، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام حتى يبلغ ما أراد ! فقالوا : بل ننصرف عمّا تكره يا أبا عتبة . وخافوا أن يجتمع أمره مع
--------------------------- 389 ---------------------------
أبي طالب فيعظم الأمر عليهم ، ولم يكن من أبي لهب قبل ذلك خير . فلما سمع منه أبو طالب ما سمع طمع فيه فقال . . وروى البيت الذي حذفه ابن هشام :
أطاعوا ابن ذكوان وقيساً ودَيْسماً فضلوا وذاقوا بالجميع المياسما .
وقال : يعني بابن ذكوان : عقبة بن أبي معيط . ودَيْسم : الوليد بن المغيرة . وقيس : قيس بن عاقل » . والدَّيْسَم : ابن الذئب من الكلبة ! لسان العرب : 12 / 201 .
وكان أبو طالب « رحمه الله » يطعن في نسب الوليد بن المغيرة ، وقد صدَّقه الله تعالى فوصفه في سورة القلم بأنه : مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . « فتح الباري 8 / 507 » .
أي دعي ملحق بأبيه وليس له ! العين : 1 / 375 .
فترك ابن هشام هذا البيت ليغطي على أصل الذين حكموا هذه الأمة المسكينة ! ومنه تعرف لماذا يكرهون شعر أبي طالب « رحمه الله » ! ويظهر أن قيس بن عاقل كان رئيس بني جمح ، فقد ذمهم أبو طالب ووصفهم بأنهم عبيده . ابن هشام : 1 / 179 .
كما يظهر أن ابن أبي معيط الأموي كان له تأثير على أبي سفيان وبني أمية عامة في عداوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ونسبوا آل معيط إلى ذكوان بن أمية ، وقال عنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ما أنت وقريش ، وهل أنت إلا يهودي من صفورية ؟ ! » البكري : 3 / 131 .
ومنها : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أحياناً يذهب بعد هلاك المستهزئين إلى المسجد وحده بدون حراسة ، كما دل حديث إعلان حمزة إسلامه عندما استفرد به أبو جهل وشتمه ! وكما دل تحريكهم الأولاد ليؤذوه في طريق ذهابه ، أو عودته !
روى في تفسير القمي : 1 / 114 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي : يا قضيم ، قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب وأغروا به الصبيان ، وكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب ، فشكى ذلك إلى علي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك ، فخرج رسول الله ومعه أمير المؤمنين فتعرض الصبيان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم ! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم
--------------------------- 390 ---------------------------
ويقولون : قضمنا عليٌّ ، قضمنا علي ! فسمي لذلك : القضيم » .
وفي نهاية ابن الأثير : 1 / 402 و 4 / 78 : « ومنه حديث علي رضي الله عنه : كانت قريش إذا رأته قالت : إحذروا الحطم ، إحذروا القضم ! أي الذي يقضم الناس فيهلكهم » . وفي أدب الكاتب لابن قتيبة / 171 : « الخَضْم بالفم كله ، والقَضْمُ بأطراف الأسنان . قال
أبو ذر « رحمه الله » : تَخْضِمُونَ وَنَقْضَمُ ، والمَوْعِدُ الله » .
ويظهر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أغلب الأحيان يتحرك إلى المسجد بحراسة ويصلي فيه ، ويتلو القرآن بصوت هادئ أو مرتفع أحياناً ، ويدعو الناس إلى الإسلام علناً .
كما كان يذهب إلى القبائل في موسم الحج ، وفي عمرة رجب ، وسوق عكاظ ، يعرض عليهم أن يذهب إلى بلادهم فيحموه حتى يبلغ رسالة ربه ، فكانوا يرفضون ذلك خوفاً من قريش ، أو يشرطون عليه أن يكون الأمر لهم من بعده ، فيجيبهم إن الأمر لله وقد وضعه في أهله ، ويطلب منهم أن يبايعوه على أن لاينازعوا الأمر أهله .

  • *
    --------------------------- 391 ---------------------------

الفصل التاسع عشر

تعذيب المسلمين في مكة

1 . ملاحظات حول المعذبين لإسلامهم

أ . كان الخطر على من يُسلم محصوراً بعشيرته التي هو منها بالولادة أو بالتحالف أو بالعبودية ، ولا شغل للمجتمع أو للعشائر الأخرى به . لذلك كانت صعوبة الاستجابة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والدخول في الإسلام ، تختلف من شخص إلى آخر .
فالذين لاقوا الأذى والتعذيب لاقوه من عشائرهم ، أما الذي لا خطر عليه من عشيرته لمكانته فيها ، أو لضعف مركزية شيخها ، أو لقلتها وذلتها ، فلم يكن عليه خطر إن أسلم .
وهناك حالات فردية مثل نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ، ابن العدوية ، وقد ربط أبا بكر وطلحة وكانا يعذبهما وهما من قبيلة تيم ، ولا تجرؤ قبيلتهما على فك حبلهما لأنه كان فاتكاً شريراً ، قال ابن سعد : 2 / 215 : « فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد ابن العدوية ، فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم ! وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش ، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين » . راجع : ابن هشام : 1 / 181 والإصابة : 6 / 77 .
وهذا يدل على ضعف بني تيم المفرط ! وكان ابن العدوية هذا في معركة بدر يصيح ويرعد ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم اكفني شر ابن العدوية ، فقتله علي ( عليه السلام ) .
ب . بالغ بعض الرواة في الأذى والتعذيب الذي تعرض له بعض المسلمين الأوائل رضوان الله عليهم ، وكثرت أكاذيب رواة السلطة في عدد المعذبين وأنواع تعذيبهم ومدته ، ليثبتوا
--------------------------- 392 ---------------------------
فضائل للحاكم ومؤيديه !
فتراهم مثلاً يدَّعون أن أبا بكر أسلم قبل هلاك المستهزئين ، وأن عشيرته حمته فلم يكن بحاجة إلى جوار أحد ولا للهجرة .
ثم يتحدثون عن فضائل المعذبين في سبيل الله فيعدُّون أبا بكر منهم ، ويقولون إن ابن العدوية كان يربطه بحبل مع طلحة فسميا القرينين . ابن هشام : 1 / 181 .
وفي الإصابة : 6 / 77 ، أن شخصاً آخر كان يربطهما !
ثم يتحدثون عن فضائل الهجرة فيقولون إن أبا بكر هاجر إلى اليمن خوفاً من قريش ، فأجاره رئيس الأحابيش . ابن هشام : 1 / 249 .
وقد انحصر تعذيب قريش للمسلمين بأفراد لا يصل عددهم إلى العشرين ، كما أن الذين هاجروا إلى الحبشة لا يبلغون مئة نفر .
ج . ومع مبالغتهم في تعذيب المسلمين أخفوا أسماء من عذَّبهم ، فصرت تقرأ في رواياتهم وصفاً لتعذيب فلان بدون اسم من ارتكب ذلك ، لأن المعذِّب وأبناءه صاروا من المسؤولين بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فسجل رواة الحكومة جرائمهم ضد مجهول ! وذكروا على حياء اسم عمر ، وأنه كان يعذب جارية سوداء لأحد بني عدي !
د . بدأت مرحلة الدعوة العامة في السنة الثالثة ، وفيها بدأ تعذيب بعض المستضعفين ، ولا نجد حادثة اعتداء وتعذيب لمسلم قبلها إلا على أبي ذر « رحمه الله » عندما أعلن إسلامه في المسجد ، ودعا قريشاً إلى الإسلام .
وبعد أن أهلك الله المستهزئين وصدع النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالدعوة العامة ، أخذ بعض الشباب والعبيد يسلم علناً أو يسلم سراً فيكتشفون إسلامه ويؤذونه ، وبادر أبو أحيحة إلى اضطهاد ابنه خالد بن سعيد ، وأبو جهل إلى اضطهاد عائلة ياسر حليف مخزوم ، ولم يرد ذكر للوليد بن المغيرة في تعذيبهم مع أنهم كانوا تحت يده ، فيكون إسلامهم أو اكتشاف إسلامهم بعد موت الوليد ، رئيس المستهزئين .
وقد أوجزت رواية المناقب : 1 / 53 ، عن كتاب النبوة للصدوق « رحمه الله » عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، مفاوضة زعماء قريش مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعمه أبي طالب ،
--------------------------- 393 ---------------------------
وذكرت أن التعذيب وقع بعدها ، قال ( عليه السلام ) : « اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنده فقالوا : نسألك من ابن أخيك النصف ، قال : وما النصف منه ؟ قالوا : يكف عنا ونكف عنه فلا يكلمنا ولا نكلمه ولا يقاتلنا ولا نقاتله ، إلا أن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء وأنبتت البغضاء ! فقال : يا ابن أخي أسمعت ؟ قال : يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي وقبلوا نصيحتي ، إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم ، فمن أجابني فله عند الله الرضوان والخلود في الجنان ، ومن عصاني قاتلته حتى
يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين . فقالوا : قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء ، فنزل : قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ . قالوا : إن كان صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر ، فإن وجدناه صادقاً آمنا به ، فنزل : مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ .
قالوا : والله لنشتمنك وإلهك ، فنزل : وَانْطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَئٌ يُرَادُ . « صاد / 6 » . قالوا : قل له فليعبد ما نعبد ونعبد ما يعبد ، فنزلت سورة الكافرين . فقالوا قل له : أرسله الله الينا خاصة أم إلى الناس كافة ؟ قال : بل أرسلت إلى الناس كافة إلى الأبيض والأسود ، ومن على رؤس الجبال ومن في لجج البحار ، ولأدعونَّ إليه فارس والروم : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا . « الأعراف / 158 » . فتجبرت قريش واستكبرت وقالت : والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجراً حجراً ، فنزل : وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا . وقوله : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ . فقال مطعم بن عدي : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على أن يتخلصوا مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً !
فقال أبو طالب : والله ما أنصفوني ولكنك قد اجتمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ ، فاصنع ما بدا لك ، فوثبت كل قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم . . وقدم قوم من قريش من الطائف وأنكروا ذلك . ووقعت
--------------------------- 394 ---------------------------
فتنة ، فأمر النبي المسلمين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة » .
وقال ابن إسحاق : 2 / 128 : « ثم إن قريشاً توامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين أسلموا ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله منهم رسوله بعمه أبي طالب » .

2 . أسماء المعذبين

1 - 4 . آل ياسر : ياسر وزوجته سمية وابناهما عمار وعبد الله . وهم من قبيلة عَنْس ، فرع من قبيلة مراد اليمانية ، وقد سكن ياسر مكة وتحالف مع قبيلة مخزوم ، فلما أسلموا قتل أبو جهل ياسر تحت التعذيب فهو أول شهيد في الإسلام ، كما قتل زوجته سمية فهي أول شهيدة في الإسلام ، طعنها بحربة في قبلها فقتلها ! ومات ابنهما عبد الله بمكة وربما من التعذيب ، وشددوا العذاب على عمار بوضع الصخرة على صدره ورمسه بالماء ، وقالوا لا نتركك حتى تسب محمداً وتقول في اللات والعزى خيراً ، ففعل فتركوه ، فأتى النبي يبكي فقال : ما وراءك قال شرٌّ يا رسول الله ، كان الأمر كذا وكذا ! قال : فكيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئناً بالإيمان . فأنزل الله تعالى : إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان .
وهاجر عمار وشهد المشاهد كلها مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، واستشهد مع علي ( عليه السلام ) بصفين وعمره بضع وتسعون سنة ! الإستيعاب : 3 / 1001 وقاموس الرجال : 12 / 281 .
وفي غوالي اللئالي : 2 / 104 : « فأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه كل ما أرادوا منه ، وأما أبواه فامتنعا فقتلا . . وجاء عمار وهو يبكي فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما خبرك ؟ فقال : يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فصار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك ، فعُدْ لهم بما قلت » .
وفي الكافي : 2 / 219 وقرب الإسناد / 12 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فأنزل الله عز وجل فيه : مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان . فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمار إن عادوا فعد . فقد أنزل الله عز وجل عذرك ، وأمرك أن تعود إن عادوا » .
--------------------------- 395 ---------------------------
ومن معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكرامة عمار « رحمه الله » أن قريشاً ألقته في النار فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم ! فلم تصله النار ولم يصله منها مكروه ! وقتلت قريش أبويه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : صبراً آل ياسر موعدكم الجنة » .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) في عمار : « ما تريدون من عمار ! عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان . عمار جلدة بين عيني وأنفي ، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار » . رجال الطوسي : 1 / 127 ، معجم الحديث : 13 / 284 والطبقات : 3 / 248 .
5 . خَبَّاب بن الأرتّ التميمي ، كان أبوه من سواد الكوفة فسباه قوم من ربيعة وباعوه من سِبَاع بن عبد العزى الخزاعي الذي قتله حمزة في أحد . ابن إسحاق : 3 / 308 .
وكانوا يعذبونه عذاباً شديداً فيلصقون ظهره بالرمضاء ، ثم بالرضف وهي الحجارة المحماة بالنار ، ولووا رأسه ، فلم يجبهم إلى شئ مما أرادوا !
وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونزل الكوفة ومات فيها سنة ست وثلاثين ، وأوصى أن يدفن بظهر الكوفة .
وأبَّنَهُ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « يرحم الله خباب بن الأرت فلقد أسلم راغباً ، وهاجر طائعاً ، وقنع بالكفاف ورضي عن الله ، وعاش مجاهداً » . نهج البلاغة : 4 / 13 ، ومعجم رجال الحديث : 8 / 47 ، الكامل : 2 / 67 والطبقات : 3 / 164 .
6 . بلال بن رباح الحبشي . كان غلاماً لأمية بن خلف الجمحي ، وكان أمية يعذبه ويلقيه في الظهيرة في الرمضاء على وجهه وظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ، ويقول لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى . « الكامل 2 / 66 » . وزعم رواة السلطة أن أبا بكر اشتراه واشترى غيره من العبيد المعذبين ، ورد ذلك نُقَّاد الحديث . الصحيح من السيرة : 3 / 89 .
7 . صهيب بن سنان الرومي ولم يكن رومياً ونسب إليهم لأنهم سبَوْهُ وباعوه ، وقالوا هو نمري من قبيلة نمر بن قاسط ، ولعله مولاهم . الصحاح : 2 / 837 .
--------------------------- 396 ---------------------------
قالوا إنه عذب عذاباً شديداً ، ولما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله . وكان يحب عمر فأوصى عمر أن يصلي بالناس حتى يستخلف أهل الشورى . وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثلاثين وعمره سبعون سنة . الكامل : 2 / 68 .
8 . عامر بن فهيرة غلام الطفيل بن عبد الله الأزدي ، والطفيل أخ عائشة لأمها أم رومان ، قالوا إنه عُذب لإسلامه ولا يصح ذلك ، وكان أسود يرعى غنماً لسيده وأخذه النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع أبي بكر في هجرته ، وشهد بدراً وأحداً ، واستشهد يوم بئر معونة ، وله أربعون سنة . « الكامل : 2 / 68 » . وسيأتي ذكره في هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
9 . أبو فكيهة واسمه أفلح وقيل يسار ، وكان عبداً لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي ، أسلم مع بلال فأخذه سيده أمية وربط في رجله حبلاً وجره ، ثم ألقاه في الرمضاء ، ومَرَّ به جُعَل « حَشَرة » فقال له أمية : أليس هذا ربك ؟ ! فقال : الله ربي وربك ورب هذا ، فخنقه خنفاً شديداً ، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول : زده عذاباً حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره ! وهاجر ومات قبل بدر . الكامل : 2 / 68 .
10 . لبينة جارية بني مؤمل بن حبيب ، كان عمر يعذبها حتى يتعب فيدعها ويقول : إني لم أدعك إلا سآمة ! فتقول كذلك يفعل الله بك ! الكامل : 2 / 69 .
11 . زنيرة وكانت لبني عدي وكان عمر يعذبها . وقيل كانت لبني مخزوم وكان أبو جهل يعذبها حتى عميت فقال لها : إن اللات والعزى فعلا بك . فقالت : وما يدري اللات والعزى من يعبدهما ! ولكن هذا أمٌر من السماء وربي قادر على رد بصري فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها ! فقال : هذا من سحر محمد ! الكامل : 2 / 69 .
12 . أم عبيس ، أمة لبني زهرة ، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها . الكامل : 2 / 70 .
13 . مصعب بن عمير العبدري ، ففي الطبقات : 3 / 116 والاستيعاب : 4 / 1474 أنه أسلم في دار الأرقم : « وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه ، فكان يختلف إلى رسول الله سراً ، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي ، فأخبر به قومه وأمه ، فأخذوه وحبسوه فلم يزل محبوساً إلى أن خرج إلى أرض الحبشة » .
--------------------------- 397 ---------------------------
14 . أهمل رواة السلطة عدداً أسلموا ثم ارتدوا تحت ضغط قبائلهم أو تعذيبهم ، ومنهم من خرج مع المشركين إلى بدر وقاتل معهم وقتل ! لأنهم أولاد زعماء المشركين ، الذين حكموا بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو صاروا ولاة ، كأخ خالد بن الوليد !
وفي إمتاع الأسماع : 9 / 114 : « عُذِّبَ قوم لا عشائر لهم ولا مانع لهم ، فبعضهم ارتد وبعضهم أقام على الإسلام ، وبعضهم أعطى ما أريد منهم من غير اعتقاد منه للكفر ، وكان قوم من الأشراف قد أسلموا ثم فتنوا ، منهم سلمة بن هشام بن المغيرة ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص السهمي » !

  • *
    --------------------------- 398 ---------------------------

الفصل العشرون

مكذوبات السلطة في دارالأرقم

من مكذوبات رواة السلطة في دار الأرقم

1 . جعل رواة السيرة الحكومية دار الأرقم بن أبي الأرقم مرحلة في سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : أسلم فلان قبل دخول النبي ( صلى الله عليه وآله ) دار الأرقم ، وفلان في دار الأرقم ، وفلان بعد دارالأرقم ! وقالوا إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يستخفي مع أصحابه في شعاب مكة ثلاث سنين ، يصلون ويعبدون ربهم ، ثم اكتشفت قريش أمرهم فاشتبك معهم سعد بن أبي وقاص وجرح شخصاً منهم ، لم يذكروا اسمه !
فاستَخْفَوْا بعدها في دار الأرقم المخزومي سنين ، حتى أسلم عمر ، فعزوا به بعد ذلهم ، وخرجوا وأعلنوا إسلامهم ! لكن قصة دارالأرقم مفتعلة بأصلها وفصلها !
2 . تقع دار الأرقم خلف الصفا بينها وبين شعب أبي طالب ، فهي على يمين الخارج من المسجد نحو شعب أبي طالب ، أو بيت خديجة « عليهما السلام » ، وهي قريبة من مكان مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي صار بعدها مكتبة مكة . وقد رأيتها قبل أن يهدموها وكانت مكتبة ، ثم أزالوها مع الجبل المتصل بالصفا ، فهي من ناحية أمنية لا تصلح للإختفاء من قريش ولا للتحصن ، لأنها على مرأى الواقف في المسجد أو الذاهب اليه ! فكيف تكون مقراً بعيداً عن عيون قريش ؟ !
3 . الأرقم من بني مخزوم ، فهو أحد رعايا الوليد بن المغيرة رئيس مخزوم الذي هلك مع بقية المستهزئين في أواخر السنة الثالثة للبعثة ، فصار الأرقم رعية أبي
--------------------------- 399 ---------------------------
جهل الذي صار بعد الوليد رئيس مخزوم ، والذي قتل سمية وياسراً ، وعذب عماراً رضوان الله عليهم ، فكيف يسكت على إسلام الأرقم ، ويجهل جعل داره قرب المسجد قاعدة لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ومن آمن به ؟ !
4 . ثم إن الدار ليست للأرقم ، بل لأبيه أبي الأرقم ، ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في دار الأرقم فدعا الله أن يسلم أبو جهل أو عمر : « فكانت الدعوة يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس ، وكبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل البيت تكبيرة فسمعت بأعلى مكة وخرج أبو الأرقم وهوأعمى كافر وهو يقول : اللهم اغفر لبنيَّ غير الأرقم فإنه كفر ! فقام عمر فقال : يا رسول الله على مَ نخفي ديننا ونحن على الحق ويظهروا دينهم وهم على الباطل ؟ قال : يا عمر إنا قليل ، قد رأيت ما لقينا ! فقال عمر بن الخطاب : فوالذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلستُ فيه بالكفر إلا أظهرتُ فيه الإيمان ! ثم خرج فطاف بالبيت ثم مر بقريش وهي تنتظره فقال أبو جهل بن هشام : يزعم فلان أنك صبوت ؟ فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، فوثب المشركون إليه ووثب عتبة وبرك عليه فجعل يضربه وأدخل إصبعيه في عينيه ، فجعل عتبة يصيح ! فتنحى الناس فقام عمر وجعل لايدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه حتى أعجز الناس !
واتَّبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان ، ثم انصرف إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو ظاهر عليهم . . فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب ، حتى طاف بالبيت فصلى الظهر معلناً ، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر . ثم انصرف عمر وحده » . تاريخ دمشق : 30 / 50 والنهاية : 3 / 42 .
وفي السيرة الحلبية : 2 / 21 ، عن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سماه الفاروق يومئذ ، لأنه فرق بين الحق والباطل ! ثم ذكر : 1 / 456 أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يستخفي في شعاب مكة ثلاث سنين فرآهم المشركون : « فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً منهم بلحى بعير فشجه . . ثم دخل ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة . . فكان
--------------------------- 400 ---------------------------
وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم . . إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين . . في السنة الرابعة وقيل مدة استخفائه أربع سنين وأعلن في الخامسة ، وقيل أقاموا في تلك الدار شهراً ، وهم تسعة وثلاثون » !
ثم زعم الحلبي أنه بذلك يفسر كلام ابن إسحاق ، مع أن ابن إسحاق لم يذكر دار الأرقم أبداً ! وإنما ذكر أن عبد الله بن الأرقم أسلم مع عثمان بن مظعون . 2 / 124 .
وفي الطبقات : 3 / 269 : « أسلم عمر بن الخطاب بعد أن دخل رسول الله دار الأرقم وبعد أربعين أو نيف وأربعين بين رجال ونساء قد أسلموا قبله ، وقد كان رسول الله قال بالأمس : اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك : عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام » أبي جهل « فلما أسلم عمر نزل جبريل فقال : يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر » !
والنتيجة : أن دار الأرقم غير معقولة ، لا في موقعها ، ولا في أحداثها المروية ، ولا في شخصية الأرقم صاحب البيت ! وكان له أخ هو عبد الله لم يسلم ولم يهاجر معه ، وبقي مع جده حتى كان من الطلقاء في فتح مكة ! سيرة ابن كثير : 4 / 687 .
5 . يظهر أن القصة نشأت من أن بيت أبي الأرقم قرب الصفا ، وهو في طريق النبي ( صلى الله عليه وآله ) من بيته إلى المسجد ، فلفقوا حوله القصص وجعلوه مقراً سرياً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أو مسجداً يجتمع فيه المسلمون حتى بلغوا أربعين شخصاً بعمر فأعلنوا إسلامهم ! وغرضهم مدح عمر بن الخطاب وأنه أسلم قبل إسلامه ، فعز به الإسلام بعد ذله ودخل مرحلة العلنية بعد مرحلته السرية . وكل ذلك لم يكن !
وقد رد الصالحي في سبل الهدى : 2 / 319 ، قصة دار الأرقم ، قال : 2 / 230 : « وذكر إسلام عمر هنا غريب . والصحيح أنه أسلم بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة » .
6 . ورووا أن عائشة قالت إن البطولة في دار الأرقم كانت لأبيها لا لعمر بن الخطاب ! فقد روى في سبل الهدى : 2 / 319 عن سليمان بن خيثمة ، عن عائشة قصة طويلة تشهد على نفسها بالكذب ، خلاصتها : أن المسلمين كانوا ثمانية عشر : « فألحَّ
--------------------------- 401 ---------------------------
أبو بكر على رسول الله في الظهور . . . فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله » .
وقام أبو بكر خطيباً « فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ، ووُطئ أبو بكر وضُرب ضرباً شديداً ، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرقهما لوجهه من على بطن أبي بكر ، حتى ما يعرف وجهه من أنفه ! وجاءت بنو تيم يتعادون « ولم تذكر اسم واحد منهم » فأجلت المشركين عن أبي بكر ، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولايشكون في موته ، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ، فرجعوا إلى أبي بكر ، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب ، فتكلم في آخر النهار فقال : ما فعل رسول الله » !
لكن نقول لعائشة : إن نوفل بن العدوية الأسدي وكان من شياطين قريش ، ربط أبا بكر وطلحة بحبل وكان يعذبهما لأنهما أسلما ، فلم يجرؤ بنو تيم على فك حبلهما !
7 . مشكلة هؤلاء الرواة أنهم يريدون إثبات بطولات لشخصيات السلطة ، فيقعون في التناقض ويخالفون منطق الأمور وثوابت السيرة القطعية ! فمن الثابت كما تقدم أن الدعوة العامة لم تكن ممكنة قبل إهلاك المستهزئين الخمسة ونزول قوله تعالى : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ . وعندما صدع النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالدعوة العامة في السنة الثالثة وقفت قبائل قريش ضده ومنعت أبناءها وعبيدها من الإسلام ، وكان أشدهم بنومخزوم بقيادة أبي جهل ، حتى قتل ياسراً وزوجته سمية رضي الله عنهما .
ومن الثابت أن الهجرة إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة ، وحصار قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة ، وأن إسلام عمر كان بعد الهجرة إلى الحبشة . فمتى كانت مرحلة دار الأرقم المزعومة ؟ وكيف اكتشفت قريش تجمع المسلمين في شعاب مكة ولم ترهم في دار الأرقم الملاصقة للمسجد ؟ وكيف سكتت على البطولات المزعومة لابن وقاص وابن الخطاب ؟ !
--------------------------- 402 ---------------------------
ولماذا لا نجد اسم الذي ضربه ابن وقاص فشجه ، ولا اسم أحد من بني تيم الذين أنقذوا أبا بكر ، وهددوا بني عبد شمس بقتل زعيمهم ؟ ! إلى آخر المناقشات التي توهن أصل القصة ؟ ! راجع : روضة الواعظين / 52 ، ابن هشام : 1 / 166 و 230 ، تاريخ دمشق : 44 / 41 والصحيح من السيرة : 2 / 433 و 7 / 286 .

  • *
    --------------------------- 403 ---------------------------

الفصل الحادي والعشرون

هجرة المسلمين إلى الحبشة

1 . ملاحظات حول الهجرة

أ . كان السفر والهجرة طبيعياً عند المكيين ، فحياتهم متقومة بالسفر إلى اليمن والشام ومصر ، خاصة بعد أن صار الطريق آمناً وأسس هاشم « رحمه الله » رحلة الصيف والشتاء وأكملها ابنه عبد المطلب « رحمه الله » فعقدا اتفاقيات مع القبائل والدول لتأمين قوافل قريش وسلامتها . فمن ضاقت عليه مكة هاجر إلى الجزيرة أو الشام أو الحبشة . قال ابن خلدون : 2 / 2 / 8 : « وكان قريش يتعاهدونها « الحبشة » بالتجارة فيحمدونها » .
ب . قال في الصحيح من السيرة : 3 / 123 : « نرجح أنه لم يكن سوى هجرة واحدة للجميع ، عليها جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، الذي لم يكن غيره من بني هاشم ، فلم يكن ثمة هجرتان . . . وذلك بدليل الرسالة التي وجهها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إلى ملك الحبشة مع عمرو بن أمية الضمري والتي جاء فيها : قد بعثت إليكم ابن عمي جعفر بن أبي طالب معه نفر من المسلمين ، فإذا جاؤوك فأقرهم . . إلخ . » .
أقول : وهو المتعين ، ويدل عليه أيضاً أن الهجرة التي كان أميرها جعفر كان فيها أكثر من ثمانين مسلماً ، واستمرت بضع عشرة سنة . أما الذين ذهبوا إلى الحبشة قبلها فكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، سافروا في شهر رجب وأقاموا شهر شعبان ورمضان ورجعوا في شوال ! الطبري : 2 / 68 ، الطبقات : 1 / 206 ، الإمتاع : 1 / 37 ، عيون الأثر : 1 / 157 ، سبل الهدى : 2 / 366 ، فتح الباري :
--------------------------- 404 ---------------------------
7 / 143 والسيرة الحلبية : 2 / 9 .
فهذه سفرة قصيرة للتجارة ! ولعلهم سموها هجرة من أجل عثمان الذي كان فيها ليجعلوه أول المهاجرين ، مع أنه لم يتعرض لتعذيب أو ضغط !
وقد ردَّ في الصحيح : 3 / 123 مقولتهم بأن عثمان أول المهاجرين ، وقال إنه عثمان بن مظعون الجمحي « رحمه الله » . ولعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسله لاستكشاف الوضع لتهجير المضطهدين إليها ، فقد كان ابن مظعون من حواريي النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال ابن هشام : 1 / 214 : « فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة . . وكان عليهم عثمان بن مظعون » .
وقد اتفق الرواة على أن ما سموه « الهجرة الأولى » كانت في شهر رجب في السنة الخامسة للهجرة وأنهم رجعوا بعد شهرين . وهم : عثمان بن عفان وامرأته بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو ربيبته ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة ، وأبو سبرة بن أبي رهم ، وسهيل بن بيضاء .
وكانت هجرة جعفر وأصحابه في نفس السنة بعد الحج ، مع بداية محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب ، أو قبلها بقليل ، وهي الهجرة الوحيدة .
ج . من أصح روايات الهجرة إلى الحبشة ما رواه السنة والشيعة عن أم سلمة ( عليها السلام ) قالت : « لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفتنوا ، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم ، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله في منعة من قومه وعمه ، لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده ، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه ، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار ، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلماً .
فلما رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً ، أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من
--------------------------- 405 ---------------------------
بلاده وليردنا عليهم ، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته ، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيؤوا له هدية على ذي حدة ، وقالوا لهما إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموه فيهم ثم ادفعوا إليه هداياه ، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا !
فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته وكلموه وقالوا له : إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم ، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل ، فقالوا : نفعل ثم قدما إلى النجاشي هداياه ، وكان أحب ما يهدى اليه من مكة الأدم « الجلود » . فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له : أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه وقد لجؤوا إلى بلادك ، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم ، فهم أعلى بهم عيناً .
فقالت بطارقته : صدقوا أيها الملك ، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عيناً ، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك ! فغضب ثم قال : لا لعمرو الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم ، وأنظر ما أمرهم ؟ قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري ، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أخلِّ بينهم وبينهم ولم أنعمهم عيناً !
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ، ولم يكن شئ أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم ! فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا : ماذا تقولون ؟ فقالوا : وماذا نقول ؟ نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا ، وما جاء به نبينا ( صلى الله عليه وآله ) كائن في ذلك ما كان !
فلما دخلوا عليه كان الذي كلمه منهم جعفر بن أبي طالب فقال له النجاشي : ما هذا الدين الذي أنتم عليه ، فارقتم دين قومكم ، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية ، فما هذا الدين ؟ فقال جعفر : أيها الملك ، كنا قوماً على الشرك
--------------------------- 406 ---------------------------
نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار ، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها ، لا نحل شيئاً ولا نحرمه ! فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته ، فدعانا إلى أن نعبدالله وحده لا شريك له ، ونصل الرحم ونحسن الجوار ، ونصلي ونصوم ولا نعبد غيره . فقال : هل معك شئ مما جاء به ؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله .
فقال له جعفر : نعم ، قال : هلم فاتل عليَّ ما جاء به فقرأعليه صدراً من كهيعص ! فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ثم قال : إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى ! إنطلقوا راشدين ، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عيناً ! فخرجا من عنده ، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة ،
فقال له عمرو بن العاص : والله لآتينه غداً بما أستأصل به خضراءهم ! لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد ! فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين : لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا ، فإن لهم رحماً ولهم حقاً . فقال : والله لأفعلن ! فلما كان الغد دخل عليه فقال : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، فأرسل إليهم فسلهم عنه ، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها ، فقال بعضنا لبعض : ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه ؟ فقالوا : نقول والله الذي قاله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه ! فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر : نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول ! فدلى النجاشي يده إلى الأرض ، فأخذ عويداً بين أصبعيه فقال : ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود ! فتناخرت بطارقته فقال : وإن تناخرتم والله ! إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - ومن سبكم غُرِّم « ثلاثاً » ! ما أحب أن لي دبيراً وأني آذيت رجلاً منكم - والدبير بلسانهم الذهب - ! فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه ، ولا أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه . ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها ، واخرجا من بلادي !
--------------------------- 407 ---------------------------
فخرجا مقبوحين ، مردود عليهما ما جاءا به ! فأقمنا مع خير جار في خير دار ، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد منه فرقاً أن يظهر ذلك الملك عليه ، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف ، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي ، فخرج إليه سائراً ، فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعضهم لبعض : مَن رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون ؟ فقال الزبير : وكان من أحدثهم سناً : أنا ، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى جنب التقاء الناس ، فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله ، وظهر النجاشي عليه ، فجاءنا الزبير فجعل يلمح الينا بردائه ويقول : ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي ! فوالله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي .
قالت : ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . ذخائر العقبى / 209 ، ابن إسحاق : 4 / 193 ، ابن هشام : 1 / 224 ، الخرائج : 1 / 133 ، عن ابن مسعود ( ( رحمه الله ) ) مختصراً .
ورواه في إعلام الورى : 1 / 115 ، وفيه احتجاج جعفر : « فقال : أيها الملك سلهم أنحن عبيد لهم ؟ قال عمرو : لا ، بل أحرار كرام . قال : فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها ؟ قال : لا ، ما لنا عليهم ديون . قال : فلهم في أعناقنا دماء يطالبوننا بذحولها ؟ قال عمرو بن العاص : لا ، ما لنا في أعناقهم دماء ولانطالبهم بذحول .
قال : فما تريدون منا ؟ قال عمرو : خالفونا في ديننا ودين آبائنا ، وسبوا آلهتنا ، وأفسدوا شباننا ، وفرقوا جماعتنا ، فردهم إلينا ليجتمع أمرنا . فقال جعفر : أيها الملك خالفناهم لنبي بعثه الله فينا ، أمرنا بخلع الأنداد ، وترك الإستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حلها ، والزنا والربا والميتة والدم ، وأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي . فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن مريم » .
--------------------------- 408 ---------------------------
د . أرسلت قريش ابن العاص مرتين إلى النجاشي ، وكتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبو طالب ( رحمه الله ) إلى النجاشي . كما في مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 1 / 430 :
« بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ونفخه ، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني فتؤمن بي ، وبالذي جاءني فإني رسول الله ، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين ، فإذا جاؤوك فأقر ودع التجبر ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا ، والسلام على من اتبع الهدى » .
وذكر أن النجاشي اسم لملك الحبشة كقيصر وكسرى ، واسم ذلك النجاشي أصحمة ومعناه : عطية . ثم روى كتاب أبي طالب « رحمه الله » إلى النجاشي ، وفيه :
تعلَّمْ مليك الحبْش أن محمداً * نبيٌّ كموسى والمسيح بن مريمِ
أتى بالهدى مثل الذي أتيا به * وكل بأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلونه في كتابكم * بصدق حديث لا حديث المرجِّمِ
فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا * فإن طريق الحق ليس بمظلم
وإنك ما يأتيك منا عصابة * بفضلك إلا أرجعوا بالتكرم »
وذكر مصادره : ابن هشام : 1 / 357 ، الحاكم : 2 / 623 ، البحار : 35 / 163 و 18 / 418 ، ابن أبي الحديد : 14 / 75 ، المناقب لابن شهرآشوب : 1 / 62 وطبعة / 44 ، الغدير : 7 / 331 وإعلام الورى : 30 و 55 .
وروى الأحمدي أيضاً 2 / 448 ، أن النجاشي أسلم على يد جعفر وكتب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
« بسم الله الرحمن الرحيم . إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر . سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته ، من الذي لا إله إلا هو ، الذي هداني للإسلام ، بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى ، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً « عرق التمرة » إنه كما قلت ، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد أنك رسول الله صادق مصدق ، وقد بايعتك
--------------------------- 409 ---------------------------
وبايعت ابن عمك ، وأسلمت على يديه لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر ، فإني لا أملك إلا نفسي ، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله ، فإني أشهد أن ما تقول حق ، والسلام عليك يا رسول الله » .
وكان سفر ابن العاص بعد هجرتهم مباشرة ، ففي ذخائر العقبى / 213 ، عن ابن مسعود : « أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشاً فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد » .
وقال القمي : 1 / 176 : « فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة » وقال دحلان في سيرته : 1 / 417 : « كان لعمرو بن العاص هجرتان إلى الحبشة في شأن المهاجرين على ما يذكره التاريخ : أحدهما مع عمارة في بدء الهجرة ، والثاني مع عبد الله بن ربيعة بعد بدر ورجع خائباً خاسراً » .
وقال ابن هشام : 1 / 221 : « قال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتاً للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم » :
ألا ليت شعري كيف في الناس جعفرٌ * وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نال أفعال النجاشي جعفرا * وأصحابه أم عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن إنك ماجد * كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلم بأن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب
فإنك فيض ذو سجال غزيرة * ينال الأعادي نفعها والأقارب »
وجاء في مناظرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع ابن العاص قوله ( عليه السلام ) : « وأما أنت يا عمرو الشاني اللعين الأبتر . . . ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من عدوه أشدهم له عداوة وأشدهم له تكذيباً ! ثم كنت في أصحاب السفينة الذين أتوا النجاشي في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين فحاق المكر السئ بك ، وجعل جدك الأسفل ، وأبطل أمنيتك وخيب سعيك ، وأكذب أحدوثتك وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا » . الإحتجاج : 1 / 415 .
ه - . وكتم النجاشي إسلامه عن بطارقته ووزرائه خوفاً من معارضيه ومن
--------------------------- 410 ---------------------------
هرقل ، أما الرسالة التي حملها اليه الضمري من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكانت في السنة السادسة عندما راسل ملوك العالم . « الطبقات 1 / 207 » وهي غير رسالته التي أرسلها اليه بيد جعفر .
و . كانت الحبشة أو أثيوبيا ، قاعدة حكم إفريقيا للروم ، وكانت تدار من مصر ، وقد نشر الرومان فيها المسيحية ، وتعاظمت قوة الحبشة حتى احتلت اليمن وبنى أبرهة الحبشي حاكم اليمن من قبل الروم كنيسة في صنعاء ، ليصرف إليها العرب بدل الكعبة ، وقصد بجيشه مكة ليهدم الكعبة ، فكانت قصة أصحاب الفيل عام ولادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وبعد جيش الفيل بسنتين تمكن سيف بن ذي يزن بمساعدة الفرس من تحرير اليمن من الحبشة ، فضعفت دولة الحبشة ونشب فيها الصراع الداخلي ثم حكمها النجاشي أصحمة ، وكان عاقلاً عادلاً فأوقف تدهور الدولة .
وبعد وفاة النجاشي عاد الصراع الداخلي وضاقت الأمور على أهل الحبشة فأرسلوا إلى ابن النجاشي وكان أرسله والده إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، يطلبون منه العودة لتتويجه عليهم فلم يقبل ، لأنهم أرادوا منه أن يرجع عن الإسلام !
وتقدم قول النجاشي في رسالته إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر ، فإني لا أملك إلا نفسي ، وإن شئت أن آتيك فعلت » .
وهذا يدل على أن وزراءه رؤساء القبائل الذين سماهم الروم بطارقة ، لم يستجيبوا له ، وأنه كان يتقيهم ، فعرض على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يترك ملك الحبشة ويأتيه ، فأمره أن يبقى ، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يبقى عنده ويساعده .
أما ابنه « أرها » الذي أرسله فيبدو أنه أبو نيزر وكيل علي ( عليه السلام ) في استنباط عيون ينبع ، وقد سمى أكبرها باسمه : « عين أبي نيزر » .
قال الحموي في معجم البلدان : 4 / 175 : « عين أبي نيزر . . روى يونس عن محمد بن إسحاق بن يسار أن أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون ، لصلبه ، وأن علياً وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه ، مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه . وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي ، وأنهم أرسلوا
--------------------------- 411 ---------------------------
وفداً منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملكوه عليهم ويتوجوه ولا يختلفوا عليه ، فأبى وقال : ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علي بالإسلام ! قال : وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجهاً ، وقال : ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت هذا رجل عربي . . . قال المبرد . . . كان أبو نيزر من أبناء بعض الملوك الأعاجم ، قال : وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي فرغب في الإسلام صغيراً فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان معه في بيوته ، فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صار مع فاطمة وولدها رضي الله عنهم » .
وفي سيرة ابن إسحاق : 4 / 202 : « رأيت أبا نيزر بن النجاشي ، فما رأيت رجلاً قط عربياً ولا عجمياً ، أعظم ولا أطول ولا أوسم منه . . الخ . » . ولانقبل قولهم إن علياً ( عليه السلام ) اشتراه كغلام ، بل أرسله والده لنصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكان حليفه ، ثم حليف علي ( عليه السلام ) .
ز . روت المصادر مراسلات بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) والنجاشي ، وأنه كان بينهما هدايا متبادلة فمن ذلك : « أهدى النجاشي إلى رسول الله قارورة من غالية ، وكان أول من عمل له الغالية » . عمدة القاري : 13 / 168 .
« أهدى ملك الروم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جبة سندس فبعث بها إلى جعفر ، وقال أعطها إلى أخيك النجاشي » . لسان العرب : 10 / 343 ، الطبقات : 1 / 456 وأبو داود : 2 / 258 .
« أهدى النجاشي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بغلة فكان يركبها » . عيون الأثر : 2 / 411 .
« أهدى له النجاشي خفين أسودين ساذجين فلبسهما . وأهدى له خاتماً من ذهب فدعا أمامة ابنة ابنته زينب فقال : تحلي بهذا يا بنية » . المناقب : 1 / 147
وابن ماجة : 1 / 182 .
أرسل النجاشي مع جعفر : « بقدح من غالية وقطيفة منسوجة بالذهب هدية إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقدم جعفر والنبي بأرض خيبر ، فأتاه بالقدح من الغالية والقطيفة فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . فمد أصحاب النبي أعناقهم إليها ، فقال النبي : يا علي خذ هذه القطيفة
--------------------------- 412 ---------------------------
إليك . فأخذها علي وأمهل حتى قدم إلى المدينة فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة ، فأمر صائغاً ففصل القطيفة سلكاً سلكاً فباع الذهب وكان ألف مثقال ففرقه علي في فقراء المهاجرين والأنصار ، ثم رجع إلى منزله ، ولم يبق له من الذهب قليل ولا كثير » . دلائل الإمامة / 144 .
وأهدى له النجاشي حربة : « فكان بلال يحملها بين يديه يوم العيد ، ويخرج بها في أسفاره فتركز بين يديه يصلي إليها . ويقولون هي التي تحمل المؤذنون بين يدي الخلفاء » . « المناقب : 1 / 147 » . وصارت الحربة في رواياتهم ثلاثة للزبير وعمر وعلي ! « فأما حربة علي فهلكت ، وأما حربة عمر فصارت إلى أهله ، وأما الحربة التي أمسك لنفسه ، فهي التي يمشي بها مع الامام يوم العيد » . تاريخ المدينة : 1 / 139 .
وأهدى له النجاشي حلة مثل العباءة فأعطاها لعلي ( عليه السلام ) وكان يصلي فيها فجاءه سائل ، فطرح الحلة إليه وأومى بيده أن احملها . حلية الأبرار : 2 / 279 .
وبعث له النبي ( صلى الله عليه وآله ) عوذة للصداع يضعها في قلنسوته . مكارم الأخلاق / 403 .
وأهدى النجاشي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات مرة ، زنجبيلاً . الجرح والتعديل : 6 / 228 .
وعندما ارتد المهاجر عبيد الله بن جحش ، بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى النجاشي أن يخطب له زوجته رملة بنت أبي سفيان ، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص وخطبها النجاشي : « ومهرها أربعة آلاف ، ثم جهزها من عنده ، فبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة وجهازها كله من عند النجاشي » . البيهقي : 7 / 232 .
« لما تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أم سلمة قال لها إني أهديت إلى النجاشي أواقاً من مسك وحلة وإني لا أراه إلا قد مات ، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد ، فإذا ردت فهي لك . . فكان كما قال ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما ردت إليه الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك وأعطى سائره أم سلمة » . كبير الطبراني : 25 / 81 .
وفي الخصال / 359 ، عن الإمام الرضا عن آبائه « عليهم السلام » : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما أتاه جبرئيل بنعي النجاشي بكى بكاء حزين عليه وقال : إن أخاكم أصحمة - وهو اسم النجاشي - مات ، ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه ، وكبر سبعاً فخفض الله له كل مرتفع حتى
--------------------------- 413 ---------------------------
رأى جنازته ، وهو بالحبشة » .
وفي المناقب : 1 / 93 : « فقالت المنافقون في ذلك ! فجاءت الأخبار من كل جانب أنه مات في ذلك اليوم في تلك الساعةوما علم هرقل بموته إلا من تجار رأوا المدينة » .
ح . دوَّن الرواة أسماء المهاجرين ، ورووا أخبارهم في المهجر ، وذكرت الروايات أن بعضهم رجع وشارك مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في معركة بدر وغيرها ، كعمار وابن مسعود ، وبعضهم كان يسافر إلى اليمن للتجارة ، كخالد بن سعيد بن العاص ، الذي أتى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) من جرش بآلة حرب تشبه المنجنيق . إمتاع الأسماع : 2 / 21 .
قال في الطبقات : 1 / 207 : « فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي بأحسن جوار ، فلما سمعوا بمهاجر رسول الله إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ومن النساء ثماني نسوة ، فمات منهم رجلان بمكة ، وحبس بمكة سبعة نفر . وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً » .
وأبقى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفراً إلى السنة السابعة مع بضعة عشرمهاجر حتى أحضره وأنهى الهجرة « كان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلاً » . ابن هشام : 3 / 818 .
ط . اخترع القرشيون قصة الغرانيق والآيات الشيطانية فافتروا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قرأ سورة النجم في المسجد ، وأضاف إليها آيات ألقاها عليه الشيطان ومدح فيها أصنام قريش ، فوصفها بقوله : « تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى » ! وروتها مصادرهم بكثرة ، وقال بخاري : 2 / 32 : « قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه وقال : يكفيني هذا » ! ورواها في أربعة مواضع : 2 / 32 ، 4 / 239 ، 5 / 7 ، 6 / 52 !
وانفتح خيال رواة السلطة بأن المشركين فرحوا يومها باعتراف محمد ( صلى الله عليه وآله ) بآلهة قريش وسجد لها ! وأضافوا أن المسلمين المهاجرين في الحبشة سمعوا بالخبر فرجعوا إلى مكة ، لكنهم وجدوا أن جبرئيل نزل ووبخ النبي ( صلى الله عليه وآله ) فعادوا !
--------------------------- 414 ---------------------------
وصارت هذه الفرية مادة للمستشرقين فبنوا عليها طعنهم بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وكتبوا كتاب « الآيات الشيطانية » ! وقد بحثنا ذلك في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 1 / 136 .

2 . دور جعفر بن أبي طالب ( ( رحمه الله ) ) المميز في الحبشة

1 . لم يكن جعفر بن أبي طالب ( رحمه الله ) بحاجة إلى الهجرة ، لأنه مع شجاعته ، محمي من أبيه وعشيرته ، بل هو يحمي ويجير . كما أن إدارة أمور المهاجرين يمكن أن يقوم بها أحدهم ، وفيهم شخصيات كخالد بن سعيد بن العاص . وإنما أرسله النبي ( صلى الله عليه وآله ) معهم وأبقاه في الحبشة إلى السنة السابعة لإدارة جبهة الروم في الدعوة ، وكانت الحبشة قاعدة الروم في إفريقيا ، وهذا يفسر قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن جعفر إنه في جهاد لله بأرض الحبشة ! ففي تفسير القمي : 1 / 264 : « نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان له سبعون سنة ، فقال عبيدة : أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه ! قال : وأي أعمامي تعني ؟ قال : أبو طالب ، حيث يقول :
كذبتم وبيت الله نُبْزي محمداً * ولما نطاعنْ دونه ونناضل
وننصره حتى نُصَرَّعَ حوله * ونذهلَ عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد لله بأرض الحبشة ؟ ! فقال : يا رسول الله أسخطت عليَّ في هذه الحالة ؟ فقال : ما سخطت عليك ، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك » !
وهذا يكشف عن مكانة أبي طالب « رحمه الله » عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقد تأذى لمجرد تعريض ابن عمه عبيدة به وتفضيله نفسه عليه ، مع أنه جاهد وقطعت رجله ثم استشهد ! ومع ذلك قال له لاتؤذني في عمي ولا تفضل نفسك عليه ، فقد نصرني أكثر منك في حياته ، وهاهما ولداه ينصراني أكثر منك ، هذا علي كالليث بين يدي الله ورسوله ، وذاك جعفر في أرض الحبشة كل أوقاته جهاد لله تعالى !
فقد كان جعفر إذن في مهمة جهاد ، يرعى شؤون المهاجرين ونشاطهم ، ويوجه النجاشي في علاقته مع الروم وسياسته الداخلية مع البطارقة وهم ملوك الحبشة في
--------------------------- 415 ---------------------------
مناطقهم ، وكانت الحبشة تمتد من اليمن إلى حدود مصر ، وتشمل السودان !
وكان جعفر يزور البطارقة ويدعوهم إلى الإسلام ، وجاء منهم بوفد إلى مكة للقاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومشاهدة معجزاته ، ولم تجرأ قريش على التعرض له ولضيوفه !
ففي تفسير القمي : 1 / 176 : « ولد للنجاشي ابن فسماه محمداً . وبعث إليه « إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) » بثياب وطيب وفرس ، وبعث ثلاثين رجلاً من القسيسين فقال لهم : أنظروا إلى كلامه والى مقعده ومشربه ومصلاه ، فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن . . . فلما سمعوا ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي ، فأخبروه خبر رسول الله ، وقرأوا عليه ما قرأ عليهم ، فبكى النجاشي وبكى القسيسون » .
وفي تفسير الطبري : 7 / 4 ، في قوله تعالى : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى . قال : « هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة » .
ثم روى الطبري أن النجاشي بعث إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « اثني عشر رجلاً من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهباناً ينظرون إليه ويسألونه ، فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسيِنَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لايَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي ، فهاجر النجاشي معهم ، فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله والمسلمون واستغفروا له » .
وفي تفسير القرطبي : 13 / 296 : « قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وهم أربعون رجلاً ، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة ، وثمانية نفر أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى : منهم بحيراء الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع . كذا سماهم الماوردي » .
وقال ابن إسحاق : 4 / 199 : « ثم قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة ، فوجدوه في المسجد فجلسوا اليه فكلموه وساءلوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول
--------------------------- 416 ---------------------------
الكعبة ، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عما أرادوا ، دعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الله وتلي عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره .
فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب ! بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبرالرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ؟ !
ما نعلم ركباً أحمق منكم ! أو كما قالوا لهم . فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا نألو أنفسنا خيراً » !
ثم روى ابن إسحاق ، أن النجاشي بعث إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) اثني عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القرآن فبكوا وكان فيهم سبعة رهبان وخمسة قسيسين أو خمسة رهبان وسبعة قسيسين ، ففيهم أنزل الله : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ . . » . ونحوه القرطبي : 6 / 255 ، ابن كثير : 3 / 405
وابن هشام : 1 / 263 .
« وهذا يدل على عدة وفود رتب سفرهم إلى مكة جعفر وعلي ( عليه السلام ) والنجاشي وكان مجئ وفود القساوسة تحدياً كبيراً لقريش ، خاصة وأنهم التقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد وأسلموا على يده ، واعترضهم أبو جهل فأجابه القساوسة فسكت ، ولو قام بعمل ضدهم لحماهم جعفر وعلي « عليهما السلام » ، لأنهم ضيوف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم !
كما تشير هذه الروايات وغيرها إلى أن جعفراً « رحمه الله » أتى بوفود علماء النصارى من الحبشة ونجران والشام ، والتقوا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأسلم عدد منهم !
كما ورد أن علياً ( عليه السلام ) سافر مرة إلى الحبشة مع جعفر ، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرسله في مهمات خاصة غير معلنة . روى في المناقب : 1 / 289 ، عن ابن عباس قال : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنصار : نزلت في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سبق الناس كلهم بالإيمان ، وصلى إلى القبلتين ، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان ، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة ، ومن الحبشة إلى المدينة » . ومعناه أن هجرة علي ( عليه السلام ) كانت مع جعفر في إحدى
--------------------------- 417 ---------------------------
رجعاته من الحبشة إلى مكة .
2 . تدل أحاديث جعفر في الحبشة على أنه أحدث تياراً للدخول في الإسلام ، في قساوسة الحبشة والجزيرة والشام ومصر ، ولا بد أن يكون إسلامهم مؤثراً على أتباعهم ، وبه نفسر ردة فعل الروم القوية ضد النجاشي وضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنهم كانوا مشغولين بمعاركهم مع الفرس في سوريا وفلسطين ومصر .
كما نقرأ في الحبشة عن ثورة لخصوم النجاشي من وراء النيل لإسقاط حكمه ، وكانت حركتهم قوية ، وجيشهم كبيراً كما وصفته أم سلمة ، وقد طلب المهاجرون من النجاشي أن يقاتلوا معه ، فلم يقبل . الحاكم : 2 / 300 .
وفي السيرة الحلبية : 3 / 301 أن عمرو بن العاص أخبر جيفر بن الجلندي ملك عُمان بإسلام النجاشي فسأله : « فكيف صنع قومه بملكه ؟ قلت : أقروه واتبعوه . قال : والأساقفة أي رؤساء النصرانية والرهبان ؟ قلت : نعم . قال أنظر يا عمرو ما تقول ! إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له أي أكثر فضيحة من كذب ! قلت : وما كذبت وما نستحله في ديننا . ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي » !
والظاهر أن النجاشي لم يعلن إسلامه إلا في نطاق محدود ، وأن هرقل عرف بإسلامه ، لكنه كان مشغولاً بحربه للفرس ، ثم حرك ضد النجاشي من استطاع من الملوك « البطارقة » فقاتلوا النجاشي فنصره الله عليهم !
ثم وضع هرقل بعد انتصاره على الفرس خطة للقضاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما يأتي في حرب مؤتة وتبوك .

  • *
    --------------------------- 418 ---------------------------

الفصل الثاني والعشرون

محاصرة قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب

1 . مؤتمر زعماء قريش لإجبار بني هاشم على تسليم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

بعد هلاك المستهزئين الخمسة ، رأى زعماء قريش أن الإسلام أخذ ينتشر في أبنائهم وعبيدهم ، ولم يستطيعوا إيقافه بتهديد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتعذيب من يسلم من المستضعفين ! عندها تنادت بطون قريش إلى مؤتمر في منى ، للاتفاق على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة ، حتى يُسَلِّموهم محمداً ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه !
واجتمع معهم قبيلة كنانة ، وكتبوا صحيفة المقاطعة ، وقعها أربعون شيخاً ، وفي رواية اليعقوبي ثمانون شيخاً ، على نفي بني هاشم من مكة ، ومقاطعتهم حتى يسلموهم محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ! وتُعرف هذه الوثيقة بالصحيفة الملعونة الأولى ، لأن قريشاً كتبت بعدها في أيام حجة الوداع الصحيفة الملعونة الثانية ، تعاهدت فيها على أنه إن مات محمد لا ندع خلافته تصل إلى أهل بيته ! وقد روي أنهم تعاهدوا عليها في الكعبة ، وأودعوها عند أبي عبيدة بن الجراح ، وسيأتي خبرها .
قال في المناقب : 1 / 57 : « لما رأت قريش أنه ( صلى الله عليه وآله ) يفشو أمره في القبائل وأن حمزة أسلم « أعلن إسلامه » وأن عمرو بن العاص رُدَّ في حاجته عند النجاشي ، فأجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله علانية ، فلما رأى ذلك أبو طالب جمع بني عبد المطلب ، فأجمع لهم أمرهم على أن يُدخلوا رسول الله شعبهم . . وكانوا أربعين رجلاً ، مؤمنهم وكافرهم ، ما خلا أبا لهب » .
وقال ابن إسحاق : 2 / 140 و 139 : « فلما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى
--------------------------- 419 ---------------------------
قريش ، وأخبروهم بالذي قال النجاشي لمحمد وأصحابه ، اشتد وجدهم وآذوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه أذى شديداً ، وضربوهم في كل طريق ، وحصروهم في شعبهم ، وقطعوا عنهم المادة من الأسواق ، فلم يدعوا أحداً من الناس يُدخل عليهم طعاماً ولا شيئاً مما يرفق بهم !
وكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم ، وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويُغْلُونها عليهم ! ونادى منادي الوليد بن المغيرة « وهومنادي أبي جهل »
في قريش : أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه !
وانطلق بهم أبو طالب فقاموا بين أستار الكعبة ، فدعوا الله على ظلم قومهم لهم وقطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم ، وتناولهم بسفك دمائهم ، فقال أبو طالب : اللهم إن أبى قومنا إلا النصر علينا فعجل نصرنا ، وحُلْ بينهم وبين قتل ابن أخي . ثم أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون اليه والى أصحابه فقال أبو طالب : ندعو برب هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم . والله لتنتهين عن الذي تريدون ، أو لينزلن الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون ! فأجابوه : إنكم يا بني عبد المطلب لاصلح بيننا وبينكم ولا رحم إلا على قتل هذا الصابي السفيه ! ثم عمد أبو طالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه ، ومن اتبعهم من بين مؤمن دخل لنصرة الله ونصرة رسوله ، ومن بين مشرك يحمي ، فدخلوا شعبهم وهو شعب أبي طالب في ناحية من مكة » .

2 . أعطونا ابنكم لنقتله ، وإلا . .

كان اليهود ينكرون نبوة أنبيائهم « عليهم السلام » ثم يقتلونهم ، ولم يقولوا يوماً نعترف بنبوة نبي ونقتله ! لكن القرشيين قالوا حتى لو كان محمد نبياً مرسلاً من الله فلا نؤمن به ونريد قتله ، لأن موتنا أفضل من الإيمان برسول من بني هاشم : وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ! فجمعوا تكبر اليهود وجلافة البدو معاً ، فهم يصرون على قتله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا تهمهم معجزاته !
--------------------------- 420 ---------------------------
من جهة ثانية : لا تجد قوماً أرادوا قتل شخص ، لكنهم كانوا يخافون من عشيرته ، فقرروا أن يضغطوا عليهم حتى يسلموهم ابنهم بأيديهم فيقتلوه ! فهو موقف يجمع : العناد ، والتكبر ، والجبن ، والحقارة جميعاً ، وصفات أخرى معها !
وقد اجتمعت كلها في محاصرتهم بني هاشم وتجويعهم إياهم مع أطفالهم ، حتى يخضعوا ويسلموهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه !
وكانوا يرون حالة بني هاشم من الحصار أربع سنوات أو أكثر ، ويسمعون تضوَّر أطفالهم من الجوع ، لكنهم حرموا الرأفة بهم ، وحرموا أي نوع من التفاوض تحت أي ظروف ! « لايقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ، ولايأخذهم بهم رأفة ، حتى يسلموه للقتل » ! الدرر لابن عبد البر / 54 ، سبل الهدى : 10 / 59 وعيون الأثر : 1 / 165 .

3 . النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخلد مكان المؤتمر وطغيان زعمائه

توجه النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى مكة فاتحاً ، فأراد أن يُخَلِّد في وجدان المسلمين مؤامرة قريش ولؤمهم ، فأعلن : « منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خِيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر » . السيرة الحلبية : 3 / 27 .
ثم أكد ذلك عندما توجه إلى معركة حنين ، فقال : « منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر » ! البخاري : 5 / 92 .
ثم أكد ذلك بعد سنتين في حجة الوداع ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) يوم التروية : « منزلنا غداً
إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر » . البخاري : 2 / 158 .
ثم أكد ذلك عندما عاد من عرفات ، فقال يوم النحر : « نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر . يعني بذلك المحصب » . البخاري : 4 / 247 .
فقد كان هدف زعماء قريش أن يشددوا على بني هاشم ليسلموهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه ، ولما عجزوا عن قتله ، وانتصر عليهم وأقام دولة ، صار هدفهم أن يعزلوهم أهل بيته عن خلافته ويأخذوا دولته !
لذلك اهتم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحفظ المسلمون تلك الحادثة الخطيرة التي وقعت في هذا
--------------------------- 421 ---------------------------
المكان ، ويحفظوا كيد فراعنة قريش الذي فاق كيد اليهود ! فقد تقاسموا باللات والعزى ومناة على قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأي طريقة ، غيلة أو علانية ، وعلى مقاطعة بني هاشم مقاطعة كاملة شاملة ، حتى يسلموه لهم للقتل ! وذنبه أن الله أرسله نبياً ، وهم لا يريدون نبياً من بني هاشم ، حتى لو كان صادقاً !
وحاصروا بني هاشم أربع سنين وأكثر ، وضيقوا عليهم حتى أكل أطفالهم ورق الشجر من الجوع ، ومصوا الرمل الرطب من العطش !
فكان هدف النبي ( صلى الله عليه وآله ) تخليد الحادثة بمكانها وزعمائها لتعرف أجيال المسلمين أن معدن الكفر في هؤلاء الذين أخضعهم في فتح مكة بسيوف بني هاشم والأنصار ، وأنهم سيعودون لوراثة دولة الإسلام وإبعاد عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وعندما أطلق النبي ( صلى الله عليه وآله ) كلامه كان عدد من قادة مؤتمر الكفر قد ماتوا ، لكن عدداً منهم ما زالوا أحياء ينظرون ويسمعون ! كسهيل بن عمرو ، وأبي سفيان ، وعكرمة بن
أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبي الأعور السلمي ، وغيرهم . كانوا حاضرين في حجة الوداع يسمعون كلامه ، ويتعجبون من عفوه عنهم ! لكنه ( صلى الله عليه وآله ) كان ينفذ أمر ربه ، ويعلم أجيال المسلمين أن الخطر على الإسلام من قريش وحدها ، فبقية القبائل تبعٌ لها !
وفي مقابل عمله ( صلى الله عليه وآله ) عَمِلَ زعماء قريش لينسى المسلمون الجريمة ومكانها وأشخاصها وطمستها قريش بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ولم يحفظها إلا آل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشيعتهم ، فصار خيف بني كنانة أو محصَّب منى منزل بني هاشم إلى يمين الداخل إلى منى !
وقد تعجبت هذه السنة 1429 من أن الوهابيين أقاموا رمز مسجد لمكان بيعة الأنصار للنبي ( صلى الله عليه وآله ) قرب جمرة العقبة ، لكن لم يقيموا رمزاً لمؤتمر الكفر القرشي !
كما حرصوا على إزالة شِعب أبي طالب من أساسه ، ابتداءً بمكان مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فمنعتهم الحكومة خوفاً من المسلمين ، فأبقوه خرباً كتب عليه :
« مكتبة مكة » !
--------------------------- 422 ---------------------------

4 . أبو طالب يُحَصِّن الشِّعْب ويحرس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

بعد قرار قريش مقاطعة بني هاشم ، وجدوا أنفسهم مضطرين لترك بيوتهم والتجمع في نقطة واحدة لحفظ حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاختاروا الشِّعْبَ حيهم القديم : « وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع » . الحلبية : 2 / 25 .
وحصَّنَ أبو طالب « رحمه الله » الشِّعْب ، وفرض الحراسة على رجال بني هاشم لمدخله والنقاط الضعيفة فيه من جهة الجبال والتلال المحيطة .
قال في النزاع والتخاصم / 67 : « واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق : أن لايقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً ولاتأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل ! فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق ، فلا تركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه ، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله » !
وفي المناقب : 1 / 57 : « كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاءه أبو طالب فأنهضه عن مضجعه وأضجع علياً ( عليه السلام ) مكانه ، ووكل عليه وُلْدَهُ وَوُلد أخيه ، فقال علي ( عليه السلام ) : يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ، فقال أبو طالب :
إصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى * كل حيٍّ مصيرُه لشَعوب
قد بلوناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب * والباع والفناء الرحيب
إن تصبك المنون بالنبل تبرى * فمصيب منها وغير مصيب
كل حي وإن تطاول عمراً * آخذٌ من سهامها بنصيب
فأجابه علي ( عليه السلام ) :
أتأمرني بالصبر في نصر أحمدٍ * ووالله ما قلتُ الذي قلتُ جازعا
ولكنني أحببت أن ترَ نُصرتي * وتعلم أني لم أزل لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلاً ويافع
أقول : هذه الرواية لاتتناسب مع شجاعة علي ( عليه السلام ) ، لكن هدف إفهام الآخرين .
--------------------------- 423 ---------------------------

5 . بعد سنوات الحصار جاءت المعجزة الإلهية

« أوحى الله عز وجل إليه أنه قد بعث أَرَضَةً على الصحيفة المكتوبة بين قريش في هجران النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجميع بني هاشم ، المختومة بأربعين خاتماً ، المعدلة عند زمعة بن الأسود ، فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم ، وتركت ما كان فيها من اسم الله عز وجل » . الهداية للصدوق / 144 .
وقال الطبرسي في إعلام الورى : 1 / ه 127 : « فلما أتى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور ، وتركت اسم الله ! ونزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا طالب ( عليه السلام ) فقام أبو طالب ولبس ثيابه ، ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلما بصروا به قالوا : قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلم ابن أخيه » .
وقال ابن سعد في الطبقات : 1 / 208 : « وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع . . وقطعوا عنهم الميرة والمادة ، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم ، حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب . فأرسل الله عز وجل على الصحيفة دابة فأكلت كل شئ إلا اسم الله عز وجل . فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسقط في أيديهم ، ونكسوا على رؤوسهم ! فقال أبو طالب : علامَ نُحبس ونُحصر وقد بان الأمر ! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال : اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا ! ثم انصرفوا إلى الشعب » !

6 . سنوات الحصار والشدائد على بني هاشم

كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في جواب لمعاوية : « أما بعد ، فإن أخا خولان أتاني منك بكتاب تذكر فيه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، والحمد لله الذي صدق له الوعد ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل عداوته والشنآن من قومه ، الذين ألبوا عليه العرب ،
--------------------------- 424 ---------------------------
وهم قومه الأدنى فالأدنى ، إلا قليلاً ممن عصمه الله .
كنا أهل البيت أول من آمن وصدق بما أرسل به ، فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، وأمسكوا منا المادة ، وقطعوا عنا الميرة ، ومنعونا الماء العذب ، وأحلونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وكتبوا بينهم كتاباً أن لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا نأمن فيهم ، حتى ندفع إليهم نبينا ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه ويمثلوا به ! فعزم الله على منعه والذب عن حوزته ، فمؤمننا يرجو الثواب ، وكافرنا يحامي عن الأصل ، وأنا أول أهل بيتي إسلاماً معه ، ومن أسلم بعدنا أهل البيت من قريش فحليف ممنوع ، وذو عشيرة تحامي عنه » .
المناقب للخوارزمي / 251 .
وقال في إعلام الورى : 1 / 125 : « كتبوا صحيفة بينهم إنهم يدٌ واحدة على محمد يقتلونه غيلةً أو صراحاً ، فلما بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ، ودخلوا الشعب ، وكانوا أربعين رجلاً فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام ، إن شاكت محمداً شوكة ، لآتينَّ عليكم يا بني هاشم !
وحَصَّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار ، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مضطجع ، ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر ، فلا يزال الليل كله هكذا ، ويوكل وُلده ووُلد أخيه به يحرسونه بالنهار ، فأصابهم الجهد !
وكان من دخل مكة من العرب لايجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ! ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان أبو جهل ، والعاص بن وائل السهمي ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط ، يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذرونه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله ! وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ، ختمه كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة ، وتابعهم أبو لهب على ذلك !
فلم تزل هذه حاله فبقوا في الشعب أربع سنين ، لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبايعون إلا في الموسم ! وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة : موسم
--------------------------- 425 ---------------------------
للعمرة في رجب ، وموسم للحج في ذي الحجة . وكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ، ثم لايجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني ، فأصابهم الجهد وجاعوا ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : إدفع إلينا محمداً حتى نقتله ، ونملكك علينا » !
وقال اليعقوبي : 2 / 31 : « حصرت قريش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته من بني هاشم
وبني المطلب بن عبد مناف ، في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم ، بعد ست سنين من مبعثه ، فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين « وأكثر » حتى أنفق رسول الله ماله ، وأنفق أبو طالب ماله ، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها « الذي وصلت اليه يدها » وصاروا إلى حد الضر والفاقة » .
وفي الخرائج : 1 / 85 : « فلقوا من الجوع والعري ما الله أعلم به » !
وفي السيرة الحلبية : 2 / 52 : « جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر » !
وقال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتابه : المواجهة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) / 175 : « وعانوا الحرمان والجوع ، فأكلوا نبات الأرض ، وأخذ الأطفال يَمُصُّون الرمال من العطش ، وكانت بطون قريش تشاهد كل هذا وتتلذذ به ، دون أي إحساس بالحرج ! ولكن الهاشميين لم يركعوا ولم يستسلموا ، ولم يستجيبوا لبطون قريش في طلبها تسليم النبي . لقد تحملوا ما لم تتحمله قبيلة على وجه الأرض في سبيل محمد ( صلى الله عليه وآله ) وفي سبيل دينه ولولا صبرهم وثباتهم لقتلت البطون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما قتل غيره من الأنبياء وأجهضت دعوته في مهدها ، ولكن الله أراد أن يظهر دينه ، وأن يتحمل البطن الهاشمي أعباء مرحلة التأسيس الحاسمة .
ثم أوحى الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) أنه أرسل حشرة أكلت صحيفة الحصار ولم تُبق من كتابتها إلا اسم الله . وما أن انتهى جبريل من إلقاء تلك البشارة العظيمة حتى نهض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبر عمه بتفاصيل خبر السماء ، وعلى إثر ذلك توجه النبي وأبو طالب والهاشميون جميعاً إلى مكة .
--------------------------- 426 ---------------------------
أقبلت قريش تريد الوقوف على حقيقة الأمر ، وهي تظن أبا طالب قد جاء ليعلن استسلامه واستسلام بني هاشم ، ولكن أبا طالب طلب من زعماء الشرك أن يحضروا صحيفة الحصار ، فلما فعلوا ذلك قال لهم : أليست هذه صحيفتكم على العهد الذي تركتموها فيه ؟ فقالت زعامة البطون : نعم . فقال أبو طالب : فهل أحدثتم فيها حدثاً ؟ فقالوا : اللهم لا . فقال لهم : لقد أعلمني محمد عن ربه أن الله قد بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله ، أفرأيتم إن كان صادقاً ما تصنعون ؟ فقالت زعامة البطون : نكف ونمسك . فقال أبو طالب : فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه ! فقالوا : قد أنصفت وأجملت . وفُضَّت الصحيفة فإذا كل ما فيها قد محي إلا مواقع اسم الله عز وجل ، وبهتت زعامة الشرك وأسلم على أثر هذه المعجزة عدد من الناس ، وأعلن أبو طالب أنه على الدين الحق ، واهتزت شرعية الحصار والمقاطعة .
إن للهاشميين فضلاً على كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين ، فلولا موقفهم الحاسم المشرف بقيادة أبي طالب ، لتمكنت بطون قريش من قتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ولما قامت للإسلام قائمة ! ومن المهازل أن تقوم السلطات التي سيطرت على مقاليد أمور المسلمين فيما بعد بتصوير أبي طالب مشركاً وتنكر كفاحه وجهاد أبنائه ، وتفرض مسبتهم على المنابر ، ولا تقبل شهادة من يواليهم ، وتلقي في أذهان العامة والغوغاء أن الهاشميين ماتوا بموت محمد ، وأنهم لم يخلقوا للقيادة ، وإنما خلقوا ليكونوا أتباعاً لخلفاء بطون قريش ، وأن الخلافة حق خالص للبطون ، مثلما كانت النبوة حقاً خالصاً للهاشميين ، وأن هذه القسمة هي القسمة العادلة ، وكأن البطون هي المخولة بتوزيع فضل الله تعالى » .

7 . أبو طالب يؤرخ بقصائده حصار الشعب

أرَّخَ أبو طالب « رحمه الله » محاصرة قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم ، بأكثر من عشرقصائد شرح فيها إصرارهم على قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) موقفه الحاسم في مقاومتهم ، ومدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأعلن إسلامه ، وهذا بعضها من سيرة ابن إسحاق : 2 / 141 وغيرها :
« كان أبو طالب يخاف أن يغتالوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلاً أو سراً فكان رسول الله إذا
--------------------------- 427 ---------------------------
أخذ مضجعه أو رقد ، بعثه أبو طالب من فراشه وجعله بينه وبين بنيه ، خشية أن يقتلوه ! فقال أبو طالب وهو يذكر ما طلبوا من محمد وما حشدوهم في كل موسم يمنعونهم أن يبتاعوا بعض ما يصلحهم ، وذكره في الشعر :
ألا هل أتى بَحْرِيَّنَا صُنْعُ ربنا * على نأيهم والأمر بالناس أور *
ألم يأتهم أن الصحيفة أُفسدت * وكل الذي لم يُرضه الله مُفْسَد *
وكانت أحق رقعة بأثيمة * يُقَطَّع فيها ساعد ومقلد *
فمن يك ذا عزٍّ بمكة مثله * فعزتنا في بطن مكة أتلد *
نشأنا بها والناس فيها أقلة * فلم ننفكك نزداد خيراً ونمجد *
جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا * بنصر امرئ يهدي لخير ويرشد *
قعوداً لدى خطم الحجون كأنهم * مقاولة ، بل هم أعز وأمجد *
أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد *
جرى على جُلَّى الخطوب كأنه * شهاب بكفٍّ قابس يتوقد *
من الأكرمين من لؤي بن غالب * إذا سيم خسفاً وجهه يتربد *
عظيم الرماد سيد وابن سيد * يحض على مقري الضيوف ويحشد *
قضوا ماقضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهل سائر الناس رقَّد
متى شرك الأقوام في جل أمرنا * وكنا قديماً قبلها نتودد
وكنا قديماً لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد *
فيا لقصيٍّ هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجيء به غد *
فإني وإياكم كما قال قائل * لديك البيان لو تكلمت أسود » *
ويقصد ب « بحرينا » جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) . راجع : سيرة ابن إسحاق : 2 / 138 ، ابن هشام : 1 / 234 و 253 ، الطبقات : 1 / 210 ، المناقب : 1 / 57 ، إعلام الورى : 1 / 125 ، أنساب الأشراف / 31 وأبو طالب حامي الرسول / 30 .
ألا من لهمٍّ آخر الليل معتمِ * طواني وأخوى النجم لم يتقحمِ
--------------------------- 428 ---------------------------
طواني وقد نامت عيون كثيرة * وسائر أخرى ساهرٌ لم ينوم
لأحلام أقوامٍ أرادوا محمداً * بسوء ومن لا يتقي الظلم يُظلم
سعوا سفهاًواقتادهم سوء رأيهم * على قلل من رأيهم غير محكم
رجاء أمور لم ينالوا نظامها * وإن حشدوا في كل نفر وموسم
يرجون أن نسخى بقتل محمد * ولم تختضب سمر العوالي من الدم
يرجون منا خطة دون نيلها * ضراب وطعن بالوشيح المقوم
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه * جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلةٌ * خليلاً وتغشى محرماً بعد محرم
وينهض قوم في الدروع إليكم * يذبون عن أحسابهم كل مجرم

  • *
    وقالوا خطة جوراً وحمقاً * وبعض القول أبلج مستقيم
    لتخرج هاشم فيصير منها * بلاقع بطن مكة والحطيم
    فمهلاً قومنا لا تركبونا * بمظلمة لها أمر وخيم
    فيندم بعضكم ويذل بعض * وليس بمفلح أبداً ظلوم
    فلا والراقصات بكل خرق * إلى معمور مكة لا يريم
    طوال الدهر حتى تقتلونا * ونقتلكم وتلتقيَ الخصوم
    ويعلم معشر قطعوا وعقوا * بأنهم هم الجلد الظليم
    أرادوا قتل أحمد ظالموه * وليس لقتله فيهم زعيم
    ودون محمد فتيان قوم * هم العرنين والعضو الصميم
  • *
    ألا أبلغا عني على ذات نأيها ج * لؤياً وخُصَّا من لؤيٍّ بني كعب
    ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً * نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب
    --------------------------- 429 ---------------------------
    وأن عليه في العباد محبة * ولا خير فيمن خصه الله بالخَبِّ
    وأن الذي أضفيتم في كتابكم * لكم كائنٌ نحساً كراغية السقب
    أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب
    ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا ج * أياصرنا بعد المودة والقرب
    وتستجلبوا حرباً عواناً وربما ج * أمرُّ على من ذاقه حلب الحرب
    ولسنا ورب البيت نسلم أحمداً * على الحال من عض الزمان ولا كرب
    أليس أبونا هاشمٌ شد أزره ج * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
    ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ج * ولا نشتكي مما ينوب من النكب
    ولكننا أهل الحفاظ ذووا النهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب
    وقوله « رحمه الله » : نحساً كراغية السقب ، يحذرهم من يوم كأصحاب ناقة صالح ( عليه السلام ) .
    ألا أبلغا عني لؤياً رسالة * بحق وما تغني رسالة مرسل
    بني عمنا الأدنين تيماً نخصهم * وإخوتنا من عبد شمس ونوفل
    أظاهرتم قوماً علينا ولايةج * وأمر غويٍّ من غواة وجُهَّل
    يقولون إنا إن قتلنا محمداً * أقرت نواصي هاشم بالتذلل
    كذبتم ورب الهديِ تُدمى نحورها * بمكة والركن العتيق المقبَّل
    تنالونه أو تبطلون لقتله * صوارم تُفري كل عظم ومفصل
    وتدعو بويل أنتم إن ظلمتم * مقاليد في يوم أغر محجل
    فمهلاً ولما تنتح الحرب بكرها * وتأتي تماماً أو بآخر معجل
    وأنا متى ما نُمْرِها بسيوفنا * تجلجل فنعرك من نشاء بكلكل
    ويعلو ربيع الأبطحين محمد * على ربوة من رأس عنقاء عيطل
    ويأوي إليها هاشم إن هاشماً * عرانين كعب آخراً بعد أول
    فإن كنتم ترجون قتل محمد * فروموا بما جمعتم نفل يذبل
    --------------------------- 430 ---------------------------
    فإنا سنحميه بكلٍّ وطمرةج * وذي ميعة نهد المواكل هيكل
    وكل رديني ظماءٌ كعوبه * وغضب كإيماض الغمامة يفصل
    بأيمان شم من ذؤابة هاشم * مغاوير الأبطال في كل محفل
  • *
    تطاول ليلي بهم نصبْ * ودمعي كسحِّ السِّقاء السَّرِبْ
    ولعبُ قُصي بأحلامها * وهل يرجع الحلمُ بعد اللعب
    ونفيُ قصيٍّ بني هاشمٍ * كنفي الطُّهاة لِطافَ الحطب
    وقولٌ لأحمد أنت امرؤ * خلوق الحديث ضعيف النسب
    ألا إن أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب
  • *
    وقد كان من أمر الصحيفة عبرة * متى ما يُخَبَّرْ غائبُ القوم يعجب
    محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب
    وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
    وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً ج * على سخط من قومنا غير معتب
    فلا تحسبونا خاذلين محمداً * لدى غربة منا ولا متقرب
    ستمنعه منا يد هاشميةٌ * مركبها في الناس خير مركب
    فلا والذي تخذى له كل نضوة * طليحٌ نجيُّ نجلةٍ فالمحصب
    يميناً صدقنا الله فيها ولم نكن * لنحلف كذباً بالعتيق المحجب
    نفارقه حتى نصرع حوله * وما نال تكذيب النبي المقرب
    ويظهر من شعر أبي طالب « رحمه الله » أن قريشاً كانت تريد قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإجلاء بني هاشم من مكة ! وقد أحبط الله هدفها بموقف أبي طالب « رحمه الله » وبني هاشم .
    --------------------------- 431 ---------------------------

8 . رواة الخلافة جعلوا لؤم قريش نبلاً !

شارك كل زعماء قريش في صحيفة المقاطعة والمحاصرة ، فلم يشذ منهم زعيم عن توقيعها ، ولا تهاون في تنفيذها ! لكن بعد انتصار النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليهم بالآية الربانية جعلت الخلافة القرشية زعماء قريش قمة في النبل والإنسانية ! وزعمت أن خمسة أو سبعة منهم « تلاوموا » وقرروا « نقض الصحيفة الظالمة » وعملوا وعرضوا أنفسهم لأخطار ، حتى تمكنوا من نقض الصحيفة !
« وزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) شكر لهم صنيعهم ! وأوصى المسلمين أن لاتقتلوا فلاناً لأنه لم يؤذني ! وفلاناً لأنه كان خيِّراً باراً ، وبطلاً من أبطال نقض الصحيفة ! وجعلوهم خمسة » « ابن إسحاق 2 / 145 » : هشام بن عمرو بن ربيعة ، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن مخزوم ، ومطعم بن عدي ، وأبي البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد . « ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها فوجد الأرضة قد أكلتها » ! ونظموا في مدحهم 2 / 37 :
« فتية بيتوا على فعل خير
حمد الصبح أمره والمساء
يالأمر أتاه بعد هشام
زمعة إنه الفتى الأتَّاءُ
وزهير والمطعم بن عدي
وأبو البحتري من حيث شاءوا
نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد
دت عليه من العدا الأنداء » !
وزعموا أن شاعرالنبي ( صلى الله عليه وآله ) رثى مطعماً ، قال ابن هشام : 1 / 255 : « وقال حسان بن ثابت يبكي المطعم بن عدي حين مات » ، ويذكر قيامه في نقض الصحيفة :
أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي * بدمع ، وإن أنزفته فاسكبي الدما
وبكِّي عظيم المشعرين كليهما * على الناس معروفاً له ما تكلما
فلو كان مجد يخلد الدهر واحداً * من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبيدك ما لبى مهل وأحرما
فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقي بقية جرهما
--------------------------- 432 ---------------------------
لقالوا : هو الموفي بخفرة جاره * وذمته يوماً إذا ما تذمما
وقال في السيرة الحلبية : 2 / 36 : « المطعم بن عدي مات كافراً ، وأبو البحتري بن هشام قتل ببدر كافراً ، وزمعة بن الأسود قتل ببدر كافراً » .
لكن رووا عن جبير بن مطعم ، وهو من الطلقاء سير الذهبي : 3 / 95 أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مدح أباه ، وقال في شأن أسارى بدر : « لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى ، لتركتهم له » ! بخاري : 5 / 20 .
وقال في سبل السلام : 4 / 56 : « وفيه دليل على أنه يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير والسماحة به لشفاعة رجل عظيم ، وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافراً » .
وقد صور ابن حجر الدور البطولي لهؤلاء « العظماء » في نقض الصحيفة والخدمة الكبرى التي قدموها للإسلام ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال في الإصابة : 6 / 426 ، عن هشام بن عمرو بن ربيعة إنه من المؤلفة قلوبهم أعطاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) من غنائم حنين ! وقال : « ذكر بن إسحاق قصته في نقض الصحيفة ومخاطرته في ذلك بنفسه « رحمه الله » » !
وقال في فتح الباري : 7 / 147 : « ولم يكن يأتيهم شئ من الأقوات إلا خفية ، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئاً من الصلات ، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر ، من أشدهم في ذلك صنيعاً هشام بن عمرو بن الحرث العامري ، فكان يصلهم وهم في الشعب ، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية فوافقه ومشيا جميعاً إلى المطعم بن عدي والى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك ، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطؤوا عليه فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل ، وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها » !
وتسألهم : متى كان ذلك من سنوات الحصار ؟ فيقولون لك : كان بعد ثلاث سنوات منه أو أربع ! يعني بعد سنوات رقَّت قلوب هؤلاء النبلاء لأطفال بني هاشم ، فعملوا ليل نهار حتى فكوا عنهم الحصار !
وتسألهم : وأين دور معجزة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآية الأرَضَة الربانية ؟ أليست هي السبب الذي جعل زعماء قريش يبلسون ، فتجرأ بنو هاشم على كسر الحصار وخرجوا من
--------------------------- 433 ---------------------------
الشعب إلى مساكنهم ! فيقولون : لقد ترافق سعي أولئك الأخيار لفك الحصار مع المعجزة فاستطاعوا أن ينهوا حصار بني هاشم رغم مخالفة أبي جهل !
لاحظ مكذوبات القرشيين في شهامة زعماء الشرك في رواية ابن إسحاق : « ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها فوجد الأَرَضَة قد أكلتها »
فقد جعلوا شهامتهم توأماً لمعجزة النبوة ، لأن أولاهم حكموا الأمة !
راجع تخريفاتهم في : الإصابة : 1 / 230 ، الدرر / 57 ، عمدة القاري : 17 / 119 ، الطبري : 2 / 78 وغيرها !
والحقيقة ، أنه لم يكن عند زعماء قريش ذرةٌ من النُّبل ، وأن الذي أفشل الحصار آية الأرَضة ، فخرج بنو هاشم من الحصار برأس مرفوع وعين قوية على عدوهم ! غايته أن موقف بعض زعماء المشركين أمام المعجزة كان ألين من أبي جهل .

9 . لك الله يا أبا طالب !

فقد ادعت الخلافة أن زعماء المشركين خدموا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونقضوا صحيفة المقاطعة فأكرمهم الله تعالى ! روى البخاري : 5 / 20 أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لو كان مطعم حياً وطلب إطلاق أسرى بدرلأطلقتهم له ، وقالوا : « يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير ، والسماحة به لشفاعة رجل عظيم ، وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافراً » .
أما أبو طالب ، الذي قام الإسلام بمواقفه وحمايته بماله ونفسه وأبنائه وعشيرته ! فمكافأته عندهم سخرية النبي ( صلى الله عليه وآله ) به ! قالوا إن العباس قال له : « ما أغنيت عن عمك فوالله كان يحوطك ويغضب لك ! قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » !
وقد رواه بخاري : 4 / 247 ، وكرره متبجحاً ، وفسر ضحضاح النار : 7 / 203 بأنه : « يبلغ كعبيه ، يغلي منه أم دماغه » ! وقالوا : « إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار ، فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم ، وأفاع كأنهن البخاتي فضربنهم » ! الدر المنثور : 4 / 127 .
لقد انتقموا من أبي طالب فجعلوه كافراً في قعر جهنم ! وزعموا أن
--------------------------- 434 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) شفع له شفاعة مضحكة ! مع أن الرجل المسلم يشفع لمن سقاه شربة ماء ، فيدخله الجنة « ابن ماجة 2 / 496 » والمؤمنين يشفعون : « فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا » « الدر المنثور : 2 / 249 » . أنظر للمؤلف : ألف سؤال وإشكال : 1 / 174 .

10 . كذبة المليون أوقية ذهب وأخواتها !

رافق كذبة شهامة زعماء قريش في نقض الصحيفة ، أكاذيب عن مساعدتهم لبني هاشم في سنوات الحصار ! كالذي رواه ابن إسحاق : 2 / 145 عن هشام بن عمرو : « كان يأتي في الشعب ليلاً قد أوقر جملاً طعاماً حتى إذا أقبل في الشعب حل خطامه من رأسه ، ثم ضرب جنبه فدخل الشعب عليهم ، ويأتي به وقد أوقره براً أو بزاً ، فيفعل به مثل ذلك » !
ورووا عن حكيم بن حزام أنه أتى بحمل بعير حنطة لعمته خديجة « عليها السلام » ، وعن أبي العاص بن أمية زوج زينب ، أنه كان يوصل مواد غذائية إلى الشعب .
وقد ناقش ذلك صاحب الصحيح : 3 / 211 فقال ملخصاً : « لا نجد أثراً لابن عم خديجة حكيم بن حزام الذي تدعي الروايات أنه كان يرسل الطعام لهم وهم محصورون في الشعب . فحكيم هذا كان من الذين انتدبتهم قريش لقتل رسول الله ليلة الغار ، وباتوا على باب النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرصدونه فرد الله كيدهم ! وحكيم هذا كان يحتكر جميع الطعام الذي كان يأتي إلى المدينة على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! ومن كانت هذه نفسيته لا يكون جواداً ويعرض نفسه لخطر عداء قريش ، إلا أن يكون عمله احتكاراًتجارياً ليبيع المسلمين بأغلى الأثمان ، ويعرض نفسه للخطر حباً بالمال !
كمالا تجد في حصار الشعب ذكراً لأبي العاص بن الربيع الأموي ! الذي زعموا أنه كان يخاطر بنفسه ، ويأتي لهم بالطعام من مكة » .
وأكبر كذبة هنا قولهم إن أبا بكر كان أول من أسلم وكان صاحب ثروة عظيمة أنفقها على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قالت عائشة : « فَخِرْتُ بمال أبي في الجاهلية ، وكان ألف ألف أوقية » . قال ابن أبي عاصم / 225 : « قال الألباني : أخرجه البخاري في الأدب المفرد : 970 وفي أفعال
--------------------------- 435 ---------------------------
العباد ص : 89 والحاكم : 4 / 574 وعنه البيهقي في الأسماء ص : 78 وأحمد : 3 / 495 من طرق أخرى عن همام بن يحيى به . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي » !
وقال الذهبي في سيره : 2 / 185 : « وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة ، فإنه يكون أربعين ألف درهم ، وفي ذلك مفخرٌ لرجل تاجر وقد أنفق ماله في ذات الله ، ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم ، فأخذها صحبته . أما ألف ألف أوقية ، فلا تجتمع إلا لسلطان كبير » .
لكن لا تصح دعوى الذهبي ، لأنهم صححوا الخبر بلفظ : ألف ألف أوقية ! كما لا يصح ما افترضه أن أبا بكر أنفق ألف أوقية ذهباً على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأن ذلك لم يروه أحد ، ولم يظهرحتى في أوقية واحدة ، ولا في صاع حنطة في سنوات الحصار ، ولا بدراهم يسيرة أعطاها لمستضعف من المسلمين ، وقد زعموا أنه اشترى بلالاً ولم يثبت ، أما إنفاقه على ابن خالته مسطح فهومن مال مسطح لأنه كان يعمل معه !
فلو كان أنفق على بني هاشم في سنوات الحصار ، أو أرسل إليهم شيئاً ، لرواه رواة الخلافة بطرق عديدة في المسانيد والصحاح ، ولما تفردت به عائشة !
ولو أن عمر وأبا بكر قالا كلمة في مواجهة زعماء قريش في مكة ، لردداها في خلافتهما وكررا حديثها ، وشرحها أتباعهما ، ورفعوها علماً !
لقد كشفت سنوات الشِّعب أن بعض الذين ضخمهم الرواة لم يكن لهم وجود في تاريخ الإسلام ، فهم غائبون في البأساء والضراء ، حاضرون في الرخاء !

11 . علي بن أبي طالب ( ( ع ) ) منكور الفضل كأبيه !

لم يسجل رواة السلطة جهاد علي ( عليه السلام ) في سنوات الحصار ، إلا لمُاماً من حراسته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ووصل منه شئ برواية أبي جعفر الإسكافي أحد كبار علماء المعتزلة ! فقد نقل في شرح النهج : 13 / 254 ، رده على الجاحظ فقال : « وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب ، وصاحب الخلوات برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في تلك
--------------------------- 436 ---------------------------
الظلمات ، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما ، والمصطلي لكل مكروه ، والشريك لنبيه في كل أذى ، قد نهض بالحمل الثقيل وناء بالأمر الجليل .
ومَن الذي كان يخرج ليلاً من الشعب على هيئة السارق يخفي نفسه ويضائل شخصه ، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش ، كمطعم بن عدي وغيره ، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل وغيره ، ولو ظفروا به لأراقوا دمه !
أعليٌّ كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر ؟ ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويظمئ نفسه ويسقيه ، وهو كان المعلل له إذا مرض ، والمؤنس له إذا استوحش ، وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم ، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة ، ولا يعلم بشئ من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ، ثلاث سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم ، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم ! فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها » !

  • *
    --------------------------- 437 ---------------------------

الفصل الثالث والعشرون

عام وفاة أبي طالب وخديجة « عليهما السلام » : عام الحزن

1 . أبو طالب ( ( رحمه الله ) ) يقود عملية كسر الحصار قبيل وفاته

عندما حذَّر بحيرا الراهب أبا طالب أن يدخل بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى دمشق خوفاً عليه من اليهود ، يومها عاد أبو طالب ( عليه السلام ) بحبيبه إلى مكة فطاف حول الكعبة داعياً ربه أن يحفظ محمداً ( صلى الله عليه وآله ) من كيد اليهود ، وأطلق قصائده في مديحه ، وتشدد في حراسته ، واستمر في ذلك أكثر من ثلاثين سنة !
وما أن بعثه الله رسولاً حتى واجهته قريش بأشد من كيد اليهود ، فطلبت من أبي طالب بكل وقاحة أن يسلمها إياه لتقتله ! لأن ادعاءه النبوة يهدد تقاسم الزعامة في قبائل قريش ، ويعني الدعوة إلى رئاسة بني هاشم !
من ذلك اليوم دخل أبو طالب « رحمه الله » في مواجهة ضارية مع زعماء شرسين وجبناء في آن واحد ، وقاد بني هاشم بحكمة وقوة ، وجمعهم حوله مؤمنهم وكافرهم ، يحمون ابنهم محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بشجاعة هاشمية مميزة !
كان محمد ( صلى الله عليه وآله ) عنده أعز من أولاده ومن نفسه ، فهو محبوبه المفدى ، وصديقه الحميم ، والنبي الصادق . وقد نجح في حمايته حتى في أشد السنوات في حصار الشعب ! وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوجه عمه الجليل بأدب الابن مع أبيه ، وحنان الرسول على المؤمن . وقد جاءه يوماً بعد سنوات من حصار قريش فقال له : يا عم إن الله عز وجل قد أرسل على صحيفة القوم أرَضَةً فأكلت كل بنودها الظالمة ، وأبقت منها اسم الله تعالى !
--------------------------- 438 ---------------------------
قال ابن إسحاق في سيرته : 2 / 142 : « فأخبر الله عز وجل بذلك رسوله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبر أبا طالب ، فقال أبو طالب : يا ابن أخي من حدثك هذا ، وليس يدخل الينا أحد ولا تخرج أنت إلى أحد ، ولست في نفسي من أهل الكذب ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبرني ربي هذا ! فقال له عمه : إن ربك لحق وأنا أشهد أنك صادق . فجمع أبو طالب رهطه ولم يخبرهم ما أخبره به رسول الله كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة بالخبث والمكر ، فانطلق أبو طالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظل الكعبة ، فلما أبصروه تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه !
فلما انتهى إليهم أبو طالب ورهطه رحبوا بهم وقالوا : قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم ، وفي حياته فرقتكم وفسادكم ! فقال أبو طالب : قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة ، فاقبلوا ذلك منا . هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا ، فجاؤوا بها ولا يشكون إلا أنهم سيدفعون رسول الله إليهم إذا نشروها ، فلما جاؤوا بصحيفتهم قال أبو طالب : صحيفتكم بيني وبينكم ، وإن ابن أخي قد خبرني ولم يكذبني أن الله عز وجل قد بعث على صحيفتكم الأرَضة فلم يدع لله فيها إسماً إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان ، فإن كان كاذباً فلكم عليَّ أن أدفعه إليكم تقتلونه ، وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا ؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه ! فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله ! وكانوا هم بالغدر أولى منهم ، واستبشر أبو طالب وأصحابه ، وقالوا أينا أولى بالسحر والقطيعة والبهتان » .
وفي رواية ابن سعد : 1 / 210 : « إن الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم ، وبقي فيها كل ما ذكر به الله » .
وفي الخرائج : 1 / 85 : « فما راعَ قريشاً إلا وبنو هاشم عُنُقاً واحداً ، قد خرجوا من الشعب ! فقالت قريش : الجوع أخرجهم ! فجاؤوا حتى أتوا الحِجْر وجلسوا فيه ، وكان لا يقعد فيه إلا فتيان قريش . فقالوا : يا أبا طالب قد آن لك أن تصالح قومك . قال : قد جئتكم بخبر ، إبعثوا إلى صحيفتكم لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح .
--------------------------- 439 ---------------------------
قال : فبعثوا إليها وهي عند أم أبي جهل ، وكانت قبلُ في الكعبة فخافوا عليها السرق ، فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها . فقال أبو طالب : هل تنكرون منها شيئاً ؟ قالوا : لا . قال : إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط ، أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرَضة ، فأكلت كل قطيعة وإثم وتركت كل اسم هو لله ، فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا ، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه . فصاح الناس : نعم يا أبا طالب ، ففتحت ثم أخرجت فإذا هي مُشَرَّبَة كما قال ، فكبَّر المسلمون ، وامتقعت وجوه المشركين . فقال أبو طالب : أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة ؟ فأسلم يومئذ عالمٌ من الناس » .
وفي إعلام الورى : 1 / 127 : « فتفرق القوم ولم يتكلم أحد . وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي ، وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد ،
وأبو البختري بن هشام ، وزهير بن أمية المخزومي ، في رجال من أشرافهم : نحن بَراء مما في هذه الصحيفة ! وقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل !
وخرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الشعب ورهطه وخالطوا الناس ! ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين ، وماتت خديجة بعد ذلك » .

2 . أبو طالب يُوَدِّع حبيبه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويوصيه بالهجرة إلى المدينة

انتصر أبو طالب « رحمه الله » في كسر الحصار ، وحلَّت الفرحة قلب حامي النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفاديه بنفسه وبنيه ، وعاد إلى بيته في مدخل الشعب ، شجرة باسقة أظلت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكثر من أربعين سنة ، وأظلت دعوته أكثر من عشرسنين !
كان أبو طالب قرير العين بما أنعم الله على ابن أخيه وعليه ، وأخذ يدير عملياته في ظروف جديدة ، مليئة بالأمل ، حتى مع المرض . وفي هذه المدة ، نظم بقية قصائده في نصرة الإسلام ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وراسل ابنه جعفراً في الحبشة بإحداها ، يخبره بالمعجزة الربانية وفشل الحصار !
--------------------------- 440 ---------------------------
وكان يعقد الجلسات مع حبيبه الغالي ( صلى الله عليه وآله ) ويتداول معه أخبار قريش ، ومستقبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) والإسلام ، والخطر الذي سيواجهه بعد وفاته .
كان يعرف أن فراعنة قريش عنيدون حاقدون ، وأنه بمجرد أن يغمض عينيه سيقولون مات الذي وحَّد بني هاشم لحمايته ، وجاءت الفرصة لقتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! وسينفلتون كالذئاب الجائعة لدم محمد ( صلى الله عليه وآله ) !
كان يعرف أن قبائل العرب تخاف من قريش فلا تحمي محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، أو تريد الثمن من محمد ( صلى الله عليه وآله ) لحمايته بأن تكون لها خلافته ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) يجيبهم بأن للأمر أهلاً ، ويطلب منهم أن يبايعوه على أن لاينازعوا الأمر أهله !
لهذا لم يكن عند أبي طالب أمل إلا في المدينة وبني النجار خاصة ، وقد روت المصادر : « لما حضرت أبو طالب الوفاة دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : ابنَ أخي : إذا أنا متُّ فائت أخوالك من بني النجار ، فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم » . تاريخ دمشق : 66 / 338 ، الطبقات : 3 / 543 وتاريخ الذهبي : 1 / 233 .
كما روت المصادر أن أبا طالب ( عليه السلام ) سأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات يوم : « هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال : يريدون أن يسجروني أو يقتلوني أو يخرجوني ! قال : من خبرك بهذا ؟ قال : ربي ، قال : نعم الرب ربك استوص به خيراً ، قال : أنا أستوصي به ؟ بل هو يستوصي بي . فنزلت : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا . الآية » . عمدة القاري : 18 / 246 ، وتفاسير : الطبري : 9 / 299 ، ابن أبي حاتم : 5 / 1688 ، الثعلبي : 4 / 350 وابن كثير : 2 / 314 . وقال في الدر المنثور : 3 / 179 : وأخرج سنيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ » .
وقال في لباب النقول / 110 : « قال ابن كثير : ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر ، لأن القصة ليلة الهجرة ، وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين » !
وسبب استغرابهم : بغضهم لأبي طالب ! وإلا فقد رووا أن المشركين كانوا يأتمرون بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) من أول بعثته وقرروا قتله أو سجنه أو نفيه عدة مرات ، وكان الله تعالى يخبره بذلك ، فيخبر عمه ويتداول الموقف ، ونزلت الآية بعد ذلك .
أما قولهم « فاستوص به خيراً » فهو للطعن بأبي طالب « رحمه الله » والصحيح ما رووه هم
--------------------------- 441 ---------------------------
في قصة الصحيفة كما سيأتي : « فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبرني ربي هذا ! فقال له عمه : إن ربك لحق ، وأنا أشهد أنك صادق » . سيرة ابن إسحاق : 2 / 142 .
فتأمل في بغضهم لأبي طالب وللنبي ( صلى الله عليه وآله ) !

3 . جَمَعَ بني هاشم قبل وفاته وأوصاهم بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

بلغه أن زعماء قريش : « تحالفوا وتقاعدوا لئن مات أبو طالب لتجمعن قبائل قريش كلها على قتله . فجمع بني هاشم وأحلافهم من قريش ، فوصاهم برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : إن ابن أخي نبيٌّ كما يقول . إن محمداً نبي صادق ، وأمين ناطق ، وإن شأنه أعظم شأن ، ومكان من ربه أعلى مكان ، فأجيبوا دعوته ، واجتمعوا على نصرته ، وارموا عدوه من وراء حوزته ، فإنه الشرف الباقي لكم مدى الدهر » . وأنشأ يقول :
أوصي بنصر النبي الخير مشهده * علياً ابني وعمَّ الخير عباسا
وحمزة الأسد المخشي صولته * وجعفراً أن تذودوا دونه الباسا
وهاشماً كلها أوصي بنصرته * أن يأخذوا دون حرب القوم أمراسا
كونوا فداءً لكم نفسي وما ولدت * من دون أحمد عند الروع أتراسا
بكل أبيض مصقول عوارضه * تخاله في سواد الليل مقباسا »
المناقب : 1 / 55 وروضة الواعظين / 54 .

4 . وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يا عَمّ وجزاك الله عني خيراً

قال ابن واضح اليعقوبي وهو مؤرخ ثبت إن خديجة توفيت قبل أبي طالب « عليهما السلام » بعد كسر الحصار بقليل ، فحزن عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) حزناً عميقاً ، وكان يمضي وقته في بيته ، أو يزور عمه أبا طالب . وذات يوم جاءه الخبر : مات ناصرك أبو طالب وهوت الشجرة الظليلة الحانية !
قال اليعقوبي : 2 / 35 : « توفي أبو طالب بعد خديجة « عليهما السلام » بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة وقيل بل تسعون سنة . ولما قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن أبا طالب قد
--------------------------- 442 ---------------------------
مات ، عظم ذلك في قلبه ، واشتد له جزعه ، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسرثلاث مرات ثم قال : يا عم ، ربيت صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً ، فجزاك الله عني خيراً . ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول : وصلتك رحم ، وجزيت خيراً . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان ، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً ، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب » .
إن فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بليغ ، وكلامه بليغ ، ورحم الله ابن واضح اليعقوبي على أمانته وهو أقدم من الطبري ، فقد توفي سنة 284 .
وكان موت خديجة وأبي طالب « عليهما السلام » مصيبتان على أمة الإسلام على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأنهما مجاهدان في تأسيس هذه الأمة وحمايتها ، ونصرة نبيها ومؤسسها .
وروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما مات أبو طالب وقف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على قبره فقال : جزاك الله من عم خيراً ، فقد ربيتني يتيماً ، ونصرتني كبيراً » .
وروى ابن أبي حاتم في الدر النظيم / 221 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أخبرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بموت أبي طالب فبكى ثم قال : إذهب فغسله وكفنه وواره ، غفر الله له ورحمه ، ففعلت ثم أمرني فاغتسلت ونزلت في قبره ، وجعل يستغفر له ، وبقي أياماً لا يخرج من بيته » .
أقول : كانت قريش تتأهب لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمجرد وفاة أبي طالب « رحمه الله » ! ومع ذلك شارك في مراسم تشييعه في بيته القريب ، وحمله معهم على سريره ، وشيع جنازته إلى قبره في الحجون رغم الخطر على حياته كماروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، ثم اعتكف في بيته أياماً ، وهو يعالج نشاط قريش وتخطيطهم لقتله . ولعله أوكل دفنه إلى علي بسبب ظرفه الأمني ثم ذهب إلى قبره بعد ذلك .
وفي الجواهر السنية / 219 ، عن عبد الرحمن بن كثير قال : « قلت لأبي عبد الله « الإمام الصادق ( عليه السلام ) » : إن الناس يقولون إن أبا طالب في ضحضاح من النار ! فقال : « كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل ! قلت : وبماذا نزل جبرئيل ؟ فقال أتى جبرئيل في بعض ما كان ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إن أهل الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر
--------------------------- 443 ---------------------------
الشرك ، فآتاه الله أجره مرتين . ثم قال ( عليه السلام ) : كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب فقال : يا محمد ، أخرج من مكة ، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب » .
وفي الكافي : 1 / 439 و 8 / 341 عن الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما توفي أبو طالب أوحى الله إلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) : أخرج من القرية الظالم أهلها ، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب » .
ثم روى عن الإمام العسكري ( صلى الله عليه وآله ) قال : « إن الله أوحى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إني قد أيدتك بشيعتين : شيعة تنصرك سراً فسيدهم وأفضلهم أبو طالب ، وشيعة تنصرك علانية ، فسيدهم وأفضلهم علي بن أبي طالب » .
وفي كمال الدين / 174 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « والله ما عَبَدَ أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف ، صنماً قط . قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به » .
وفي البحار : 35 / 116 ، عن الباقر ( عليه السلام ) : « مات أبو طالب بن عبد المطلب مسلماً مؤمناً » .
وفي المناقب : 1 / 62 : « وقالوا : لو كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء ، ولأمكنه جميع الآيات ، ولأمكنه منع الموت عن أقاربه ، ولمَا مات أبو طالب وخديجة ، فنزل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ » . الرعد 38 .

5 . وفاة خديجة وأبي طالب « عليهما السلام » قبل الهجرة بسنتين وكسر

تفاوتت الرواية في كل المصادر عن سنة وفاة خديجة وأبي طالب « عليهما السلام » ، فروي أنها قبل الهجرة بسنة وروي أنها قبلها بثلاث سنوات ، والذي أطمئن إليه أنها كانت قبلها بسنتين وكسر ، لأن أبا طالب ( عليه السلام ) توفي في شوال وذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد وفاته مباشرة تقريباً إلى الطائف ، وفي موسم الحج بعد وفاة أبي طالب كان لقاؤه بستة من الأنصار ، وفي السنة الثانية التقى ببضعة عشر وبايعوه بيعة العقبة الأولى ، وفي السنة التالية جاءه السبعون وبايعوه بيعة العقبة الثانية ، وبعدها مباشرة كانت هجرته ( صلى الله عليه وآله ) في ربيع الأول من السنة التالية .
--------------------------- 444 ---------------------------
وكانت وفاة خديجة « عليها السلام » قريباً من وفاة أبي طالب ، وقد سمى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذلك العام : عام الحزن .
وفي الطبقات : 1 / 210 : « لما توفي أبو طالب وخديجة بنت خويلد وكان بينهما شهر وخمسة أيام ، اجتمعت على رسول الله مصيبتان فلزم بيته وأقلَّ الخروج ، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع به » .
وفي تفسير ابن كثير : 4 / 176 : « وخروجه ( صلى الله عليه وآله ) إلى الطائف كان بعد موت عمه ، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين ، كما قرره ابن إسحاق وغيره » .
أقول : ما تراه في بعض الروايات من أن وفاة خديجة « عليها السلام » كان قبل الهجرة بثلاث سنين أو سنتين ، فوجهه أنها بسنتين وكسر السنة .
أما رواية السنة كما في مستدرك الحاكم : 3 / 182 ، فلا تصح .

6 . سماه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : عام الحزن !

في الكافي : 1 / 440 : « فلما فقدهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شنئ المقام بمكة ، ودخله حزن شديد ، وشكا ذلك إلى جبرئيل ( عليه السلام ) فأوحى الله تعالى إليه : أخرج من القرية الظالم أهلها ، فليس لك بمكة ناصر بعد أبي طالب ، وأمره بالهجرة » .
وفي عمدة القاري : 8 / 180 ، ومناقب آل أبي طالب : 1 / 150 : فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يسمي ذلك العام عام الحزن . وفي شرح الأخبار : 3 / 17 : « وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ما اغتممت بغم أيام حياة أبي طالب وخديجة ، لمِا كان أبو طالب يدفعه عنه ، وخديجة تعزيه وتصبره وتهون عليه ما يلقاه في ذات الله عز وجل » .
وفي أمالي الطوسي / 463 : « كان الله عز وجل يمنع نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بعمه أبي طالب ، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدة حياته ، فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بغيتها ، وأصابته بعظيم من الأذى حتى تركته لِقىً ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم ! وصلتك رحم ، فجزيت خيراً يا عم .
ثم ماتت خديجة بعد أبي طالب بشهر فاجتمع بذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حزنان حتى
--------------------------- 445 ---------------------------
عرف ذلك فيه . قال هند : ثم انطلق ذوو الطول والشرف من قريش إلى دار الندوة ، ليأتمروا في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأسروا ذلك بينهم . . إلى آخر الحديث » .

7 . هاجمت قريش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرات لتقتله فخابت !

كانت الفترة بعد وفاة أبي طالب إلى الهجرة الأخطر على حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله ) : « ما زالت قريش كاعَّة عني حتى مات أبو طالب » . أي منكمشة عن أذاه خوفاً من أبي طالب . إعلام الورى : 1 / 53 والحاكم : 2 / 622 .
وكثفت محاولاتها لقتله ( صلى الله عليه وآله ) فكانت تتجسس عن مكانه وتضع الخطط لقتله ، وكان جبرئيل ( عليه السلام ) يخبره ، وذات مرة أمره أن يفر ويختبئ مع علي ( عليه السلام ) في الحجون لأن بيته ( صلى الله عليه وآله ) كان قرب المسجد .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 1 / 449 » : « لما توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد أخرج من مكة فليس لك فيها ناصر ، وثارت قريش بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فخرج هارباً حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون ، فصار إليه » .
ومعنى ثاروا به : أنهم هاجموا بيته ليقتلوه !
وفي مجمع الزوائد : 6 / 15 : « وعن أبي هريرة قال : لما مات أبو طالب تحينوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ما أسرع ما وجدتُ فقدك يا عم » .
وقال اليعقوبي في تاريخه : 2 / 36 : « واجترأت قريش على رسول الله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه ، وهموا به مرة بعد أخرى » .
وفي تفسير القمي : 2 / 431 : « لما مات أبو طالب ( عليه السلام ) فنادى أبو جهل والوليد عليهما لعائن الله : هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره ! فقال الله تعالى : فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُو الزَّبَانية . قال : كما دعا إلى قتل محمد رسول الله نحن أيضاً ندع الزبانية » .
أقول : هذا يدل على نزول هذه الآيات مرتين ، وهو كثير في القرآن .
وفي الطبري : 2 / 80 : « وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه ، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب » .
--------------------------- 446 ---------------------------
ولم يذكر لنا رواة السلطة أين كان عمر ومن ادعوا لهم البطولة في تلك الفترة ! ولماذا ذابوا وقت الشدة كما يذوب الملح ؟

8 . دفنها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مقبرة المعلا بالحجون

في الخصال / 225 ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شئ أربعة : اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت « عليهم السلام » ، واختار من الأنبياء أربعة للسيف : إبراهيم وداود وموسى وأنا ، واختار من البيوتات أربعة ، فقال : إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . واختار من البلدان أربعة فقال عز وجل : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ . فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سينين الكوفة وهذا البلد الأمين مكة . واختار من النساء أربعاً : مريم وآسية وخديجة وفاطمة » . وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 35 وأمالي الطوسي / 175 : « توفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين ، ولها خمس وستون سنة ، ودخل عليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهي تجود بنفسها فقال : بالكُرْهِ مني ما أرى ، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً . إذا لقيت ضُرَّاتك في الجنة يا خديجة فاقرئيهن السلام . قالت : ومن هنَّ يا رسول الله ؟ قال : إن الله زوجنيك في الجنة ، وزوجني مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وكلثوم أخت موسى . فقالت : بالرفاء والبنين !
ولما توفيت خديجة ، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول : أين أمي أين أمي ؟ فنزل عليه جبريل ( عليه السلام ) فقال قل لفاطمة : إن الله تعالى بنى لأمك بيتاً في الجنة [ من قصب ] لانصب فيه ولا صخب . فقالت فاطمة « عليها السلام » : إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام » .
« ودفنت خديجة بالحجون ، ونزل في قبرها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . الحاكم : 3 / 182 .
« ويستحب أن يزور خديجة « عليها السلام » بالحجون ، وقبرها معروف هناك ، قريب من سفح الجبل » . الدروس الشرعية : 1 / 468 .
--------------------------- 447 ---------------------------

9 . الوهابيون انتقموا من خديجة !

تقع مقبرة الحجون في مكة على يسار الذاهب إلى منى ، وفيها قبور أجداد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والمشهور منها قبر جده عبد المطلب ، وعمه أبي طالب ، وزوجته خديجة سلام الله عليهم ، وكان المسلمون منذ الجيل الأول يزورونها ويصلون ويدعون الله تعالى عندها ، ويستشفعون إلى الله بأصحابها ، وبنوا عليها قباباً .
إلى أن جاء الوهابيون النجديون صنيعة الإنكليز فهدموها بحجة أن زيارتها شرك !
قال الحائري في شجرة طوبى : 2 / 175 ، يصف هدمهم لقبرها : « وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون بالقوافي ، ويستهزؤن بالقبور التي هدموها ! هدموا قبة مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقالوا هذا الموضع الذي ولدت فيه تلك المرأة ذلك المولود ! وقالوا عندما هدموا قبر خديجة : طالما عبدك الناس فالآن قومي وامنعينا ! ونادى بعضهم هاك يا خديجة ! وقالوا : أطلعوا للقبب واهدموها واطرحوا الأصنام وارموها ، حتى لا يكون لكم معبود غير الله ! وهدموا مولد سيدتنا فاطمة « عليها السلام » . ودخلوا حرم النبي ( صلى الله عليه وآله ) . فأقدمت جماعة من الأعراب على تخريب قبور أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! ثم منعوا الناس عن قول يا رسول الله ، ويضربونهم ! وجعلوا ينادون غيرهم بلفظ : يامشرك وياكافر ! » .

10 . وانتقم القرشيون من أبي طالب ( ( رحمه الله ) ) بعد موته !

بمجرد أن استولى الطلقاء على دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورفعوا شعار نبوته ، صار عتاة قريش الذين كذبوه وأبغضوه وعملوا لقتله . مؤمنين دعا لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالخير ، وشهد في حقهم بأنهم أبرارٌ أخيارٌ من أهل الجنة !
أما عمه أبو طالب ، ناصره وفاديه بنفسه وبأولاده وعشيرته ، فأنكروا إسلامه ، وغيبوا شعره الصريح بإسلامه ، وغيبوا شهادات النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حقه ! وافتروا عليه أنه كان كافراً لم يؤمن بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ومع ذلك أفلتت أحاديث في مصادرهم تكذب افتراءهم ! كالذي رواه
--------------------------- 448 ---------------------------
ابن سعد في الطبقات : 1 / 123 عن علي ( عليه السلام ) قال : « أخبرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بموت أبي طالب فبكى ثم قال : إذهب فغسله وكفنه وواره ، غفر الله له ورحمه . قال ففعلت ما قال وجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستغفر له أياماً ، ولا يخرج من بيته » .
وعلق عليه في هامش الخصائص للنسائي / 38 : « قال البرزنجي كما في أسنى المطالب / 35 : أخرجه أبو داود وابن الجارود وابن خزيمة . وإنما ترك النبي المشي في جنازته اتقاء شر سفهاء قريش ، وعدم صلاته لعدم مشروعية صلاة الجنازة يومئذ » .
لكن المبغضين تجاهلوا هذا الحديث وأمثاله ، ورووا بدله أن الله نهى نبيه عن الاستغفار لأبي طالب ، وأنزل آية في ذمه آية : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ . . الخ . ! مع أنها نزلت بعد أكثر من عشر سنين من وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) !
ثم كذبوا على لسان علي ( عليه السلام ) بأنه قال : « لما مات أبو طالب أتيت رسول الله فقلت إن أبا طالب عمك الكافر قد مات ! فقال رسول الله : إذهب فواره . فقلت : والله لا أواريه ! فقال : فمن يواريه إن لم تواره فانطلق فواره ، ثم لاتحدث شيئاً حتى تأتيني . فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى رسول الله فقال : انطلق فاغتسل ثم أئتني ففعلت ، ثم أتيته فلما أن أتيته دعا لي بدعوات ما أحب أن لي بهن ما على الأرض من شئ » . وفي رواية كرروها : « إن عمك الضال قد مات » ! ابن إسحاق : 4 / 223 ، أم الشافعي : 7 / 173 الإصابة : 7 / 200 وتلخيص الحبير : 5 / 148 ، عن أحمد ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن شيبة ، وأبي يعلى ، والبزار ، والبيهقي . . عن ناجية بن كعب عن علي . . وقال : « مدار كلام البيهقي على أنه ضعيف ، ولا يتبين وجه ضعفه ، وقد قال الرافعي إنه حديث ثابت مشهور » !
أقول : ذكروا أن البيهقي ضعف ناجية لأن شُعبة وجده يلعب بالشطرنج ، فلم يكتب عنه ! الثقات لعمر بن شاهين / 243 .
وتحمس الألباني في أحكام الجنائز / 134 ، لتصحيح حديث ناجية محتجاً بتوثيق ابن حبان له ، لكن ابن حبان جرحه فقال في المجروحين : 3 / 57 : « في حديثه تخليط . قال النسائي ليس بثقة ، وقال ابن عدي : يسرق الحديث . وقال الجوزجاني مذموم » .
ومن عجيب أمرهم أنهم نسبوا القسوة والجلافة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) ليطعنوا
--------------------------- 449 ---------------------------
بأبي طالب ! ثم نقضوا كلامهم ورووا رثاء علي لأبيه ( عليه السلام ) !
قال ابن إسحاق : 2 / 224 : « وقال علي بن أبي طالب يرثي أباه حين مات :
أرقت لنوح آخر الليل غردا * أبا طالب مثوى الصعاليك ذا الندى
وذا الحلم لا جلفاً ولم يك قعددا * لشيخي ينعي والرئيس المسودا
أخا الهلك خلى ثلمة سيشدها * بنو هاشم أو تستباح وتضهدا
فأمست قريش يفرحون لفقده * ولست أرى حياً لشيء مخلدا
أرادوا أموراً زينتها حلومهم * ستوردهم يوماً من الغي موردا
يرجون تكذيب النبي وقتله * وأن يفتروا بهتاً عليه وجحدا
كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم * صدور العوالي والصقيع المهندا
ويبدوَ منا منظر ذو كريهة * إذا ما تسربلنا الحديد المسردا
فإما تبيدونا وإما نبيدكم * وإما تروا سلم العشيرة أرشدا
وإلا فإن الحي دون محمد * بنو هاشم خير البرية مجندا
نبي أتاه الوحي في كل حطة * فسماه ربي في الكتاب محمدا
أغر كضوء الشمس صورة وجهه * جلا الغيم عنه ضوؤه فتعددا
أمين على ما استودع الله قلبه * وإن قال قولاً كان فيه مسددا
ثم لم يكتفوا بكذبة ناجية على أبي طالب ! فزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عرض عليه الإسلام في مرض وفاته فأبى أن يقول لا إله إلا الله وقال : أخاف أن يعيروني بها ! بل أنا على ملة أبي عبد المطلب » ! قال بخاري : 2 / 98 و 4 / 247 : « لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . قال رسول الله لأبي طالب : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ! فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ! فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعرضها عليه ويعودان
--------------------------- 450 ---------------------------
بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ! وأبى أن يقول لا إله إلا الله ! فقال رسول الله : أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك . فأنزل الله تعالى فيه : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . ونزلت : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ » .
لاحظ أن البخاري زعم أن هذه الآية من سورة براءة نزلت يومئذ ، وقد قال هو في صحيحه : 5 / 115 و 185 و 202 : « آخر سورة نزلت كاملة : براءة » !
لكنهم لبغضهم أبا طالب « رحمه الله » يتناقضون ولا يستحون ! راجع الغدير : 8 / 4 .
ثم لم يكتفوا بذلك ! فكذب لهم الزهري بأن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : « أخبره أن أبا طالب توفي في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلم يَرِثْهُ جعفر ولا علي وورثه طالب وعقيل ، وذلك لأنه لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم » . الطبقات : 1 / 124 .
وغرضهم أن يلغوا وراثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من آبائه « عليهم السلام » وأعمامه لأنهم كفارٌ كغيرهم من زعماء قريش بل أسوأ ! وغرضهم أن يتساووا مع بني هاشم في النبي ( صلى الله عليه وآله ) فترث قريش سلطانه دون الأنصار لأنهم غرباء ، قال عمر في السقيفة : « من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مُدْلٍ بباطل أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة » . الطبري : 2 / 457 .

11 . معنى شفاعة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأبي طالب ( ( رحمه الله ) )

ورد في حزن النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عمه أبي طالب وتأبينه له قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « أما والله لأشفعن لعمي شفاعة يُعجب بها أهل الثقلين » . إيمان أبي طالب للمفيد / 25 ، إعلام الورى / 282 ، البحار : 22 / 261 و 35 / 125 والغدير : 7 / 386 .
لكنها ليست شفاعة لنجاته من النار كما زعم القرشيون ، لأنه كان مسلماً مؤمناً مجاهداً ، ويكفيه عمل صغير من أعماله العظيمة لدخول الجنة ، بل هي شفاعة لرفع درجته في الجنة ، بدليل قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « يعجب بها أهل الثقلين » .
وكذا معنى الحديث القدسي « الكافي : 1 / 446 » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « نزل جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إني قد
--------------------------- 451 ---------------------------
حَرَّمْتُ النار على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحِجْر كفلك ، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب ، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب ، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب . وفي رواية : وفاطمة بنت أسد » .
وهذاتكريم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بتكريم من له علاقة بنشأته ونصرته « عليهم السلام » .

12 . سافر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الطائف وطلب حماية ثقيف

في المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي / 11 : « توفيت خديجة رضي الله عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام . وخرج إلى الطائف بعد ذلك بثلاثة أشهر وثمانية أيام ، وأقام بالطائف شهراً ويومين » .
والأرجح عندنا ما ذكره البلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 227 : « وكان خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الطائف لثلاث ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة ، وقدم مكة يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة » .
ولعله يفهم من قول ابن عبد البر في الدرر / 58 ، ويناسبه الاعتبار لأنهم آذوه في الطائف وطلبوا منه الخروج ، ومعناه أنه ( صلى الله عليه وآله ) بقي فيها بضعة أيام ، والطريق من مكة رواحاً ومجيئاً بضعة أيام ، وروي أنه بقي يومين في نخلة قبل دخوله إلى مكة ، فتكون مجموع سفرته دون الشهر .
ويناسبه أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان حريصاً على لقاء وفود الحجاج في ذي القعدة
وذي الحجة .
وفي المناقب : 1 / 113 : « لما دخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) الطائف رأى عتبة وشيبة جالسين على سرير فقالا : هو يقوم قبلنا « أي لا نقوم للسلام عليه » فلما قرب النبي منهما خر السرير ووقعا على الأرض ، فقالا : عجز سحرك عن أهل مكة ، فأتيت الطائف » !
وفي المناقب : 1 / 62 : « فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالأحجار ودموا رجليه فخلص منهم واستظل في ظل حبلة « كرمة » منه وقال : اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي : وناصري وهواني على الناس يا أرحم الراحمين .
فأنفذ عتبة وشيبة ابنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي غلام يدعى عداساً
--------------------------- 452 ---------------------------
وكان نصرانياً ، فلما مد يده وقال : بسم الله ، فقال : إن أهل هذا البلد لا يقولونها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من أين أنت ؟ قال : من بلدة نينوى ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى قال : وبما تعرفه ؟ قال : أنا رسول الله ، والله أخبرني خبر يونس ، فخر عداس ساجداً لرسول الله وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء ، فقال عتبة لأخيه : قد أفسد عليك غلامك ، فلما انصرف عنه سئل عن مقالته فقال : والله إنه نبي صادق ، فقالوا : إن هذا رجل خداع لايفتننك عن نصرانيتك ، وقالوا : لو كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منع الموت عن أقاربه . ولما مات أبو طالب وخديجة فنزل : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً » .
وقال اليعقوبي : 2 / 36 : « فعمد لثقيف بالطائف فوجد ثلاثة نفر إخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم : عبد يالْيَلْ بن عمرو ، وحبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه وشكى إليهم البلاء ، فقال أحدهم : ألا إنه يسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك ؟ وقال الآخر : أعجزَ الله أن يُرسل غيرك ؟ وقال الآخر : والله لا أكلمك أبداً ، لئن كنت رسولاً كما تقول ، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك ! وتهزؤوا به وأفشوا في قومهم ما قالوه له وقعدوا له صفين ، فلما مر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله ! فقال رسول الله : ما كنت أرفع قدماً ولا أضعها إلا على حجر ! ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ويقال له عداس ، فوجها به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما سمع كلامه أسلم » .
وفي الإصابة : 4 / 385 : « وذكر الواقدي في قصة بدر من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، عن حكيم بن حزام قال : فإذا عداس جالس على الثنية البيضاء والناس يمرون عليها فوثب لما رأى شيبة وعتبة وأخذ بأرجلهما يقول : بأبي وأمي أنتما ، والله إنه لرسول الله وما تساقان إلا إلى مصارعكما ! قال : ومر به العاص بن شيبة فوجده يبكي فقال مالك ؟ فقال : يبكيني سيداي وسيدا هذا الوادي فيخرجان ويقاتلان رسول الله ! فقال له العاص : إنه لرسول الله ؟ فانتفض عداس انتفاضة شديدة واقشعر
--------------------------- 453 ---------------------------
جلده وبكى وقال : إي والله إنه لرسول الله إلى الناس كافة . وذكر الواقدي من وجه آخر أنه نهاهما عن الخروج وهما بمكة فخالفاه ، فخرج معهما فقتل ببدر ، قال ويقال إنه لم يقتل بها ، بل رجع فمات » .

13 . دعاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الطائف

في حلية الأبرار : 1 / 129 و 131 : « فعمد لحائط من كرومهم ، وجلس مكروباً فقال : اللهم إني أشكو إليك غربتي وكربتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، أنت رب المكروبين . اللهم إن لم يكن لك عليَّ غضبٌ فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك . لاأحصي الثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ، لك الحمد حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » . ونحوه المناقب : 1 / 61 ، إعلام الورى : 1 / 135 ، الدرر / 62 ، شرح النهج : 14 / 96 ، الدعاء للطبراني / 315 وابن هشام : 2 / 285 .

كان علي ( ( ع ) ) وزيد مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سفره إلى الطائف

ذكرت أكثر مصادرهم على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان وحده في سفره إلى الطائف ، أو معه زيد فقط ! قال في الطبقات : 1 / 211 : « فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة ، وذلك في ليال بقين من شوال . فأقام بالطائف عشرة أيام » .
لكن ابن أبي الحديد المعتزلي روى عن المدائني وهو إمام عندهم ، أن علياً ( عليه السلام ) كان مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سفرته تلك ، قال في شرح النهج : 4 / 127 : « فكان معه علي وزيد بن حارثة في رواية أبي الحسن المدائني ، ولم يكن معهم أبو بكر . وقال ابن إسحاق كان معه زيد بن حارثة وحده . وكان غياب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سفرة الطائف أربعين يوماً » . راجع الصحيح من السيرة : 3 / 266 .

14 . طلب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الجوار من مطعم لكسر قرار قريش

كان مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف زعيم بني نوفل ، من الذين واجهوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، مع أنه من بني عبد مناف ، وقد ورد ذكره في شعر أبي طالب .
--------------------------- 454 ---------------------------
وعاش مطعم سبعاً وتسعين سنة وتوفي قبل بدر . « فتح الباري 7 / 249 ، وأسد الغابة 1 / 271 » وشارك أخوه طعيمة في بدر وقتل ، وشارك فيها ابنه جبير وفاوض النبي باسم قريش على أسرى بدر ، وزعم رواة السلطة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له » ! بخاري : 5 / 20 .
وجبير هو صاحب وحشي الذي وعده أن يعتقه إن قتل محمداً أو علياً أو حمزة وشجعته هند آكلة الأكباد وجعلت له جائزة ، فقتل حمزة ! شرح الأخبار 1 / 268 ، المناقب 1 / 166 ، ابن إسحاق 3 / 302 ، تاريخ دمشق 62 / 411 وشرح النهج 15 / 11 .
وبقي جبير على كفره حتى أسلم مع الطلقاء في فتح مكة . أسد الغابة : 1 / 271 .
وكان يقول : « كنت آذى قريش لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) » . الخرائج : 1 / 130 .
وسكن المدينة وجاء مع عثمان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطلبا أن يجعل لهم سهماً في الخمس لأنهم من بني عبد مناف فقالا : يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً وقرابتنا مثل قرابتهم ! فقال لهما : « إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد . ولم يقسم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئاً » . صحيح بخاري : 5 / 79 .
وكان مطعم بن عدي صديقاً لبني أمية ، وهذا سبب مدح رواة السلطة له بأنه عمل لنقض صحيفة المحاصرة ، وأنه أجار النبي ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعه من الطائف ، وقولهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقي سنتين في جواره إلى أن هاجر !
والحقيقة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يستطيع دخول مكة بحماية حمزة وعلي وحدهما ، فضلاً عن بقية بني هاشم ! بل يستطيع دخولها لأنه في شهر ذي القعدة الحرام ، الذي يأمن فيه كل الناس حتى الأعداء . لكنه أراد أن يخفف غلواء قريش بعد أن اشتدت محاولاتهم لقتله بعد وفاة حاميه أبي طالب ( عليه السلام ) ، فيدخل مكة علناً وهو معتمر فيطوف ويسعى بحماية أحد أعدائه من زعماء قريش ، فبعث إلى مطعم أن يحميه حتى يؤدي عمرته فقَبِلَ ، فدخل ( صلى الله عليه وآله ) واعتمر ، ثم رد عليه جواره !
وبذلك كسر قرار قريش وإجماعهم على قتله ، وخفض من خطرهم على حياته ، لأن قتله صار يعني الخلاف بين زعماء قريش أنفسهم !
--------------------------- 455 ---------------------------
وفي نفس الوقت خفف عن بني هاشم بعد أبي طالب « رحمه الله » ، فصار من السهل عليهم إعلان حمايته بعد أن حماه مطعم وهو من زعماء المشركين !
ففي تفسير القمي : 2 / 431 : « لما مات أبو طالب ( عليه السلام ) نادى أبو جهل . . هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره فقال الله : فَلْيَدعُ نَادِيَهْ سَنَدْعُو الزَّبَانِيَة . . لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أجاره مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، ولم يجسر عليه أحد » .
وقال الطبرسي في إعلام الورى : 1 / 135 : « قال علي بن إبراهيم بن هاشم : ولما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الطائف وأشرف على مكة وهو معتمر ، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير ، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سراً فقال له : إئت الأخنس بن شريق فقل له : إن محمداً يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر . فأتاه وأدى إليه ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال الأخنس : إني لست من قريش ، وإنما أنا حليف فيهم والحليف لايجير على الصميم ، وأخاف أن يخفروا جواري فيكون ذلك مسبة . فرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره ، وكان رسول الله في شعب حراء مختفياً مع زيد فقال له : إئت سهيل بن عمرو فاسأله أن يجيرني حتى أطوف بالبيت وأسعى . فأتاه وأدى إليه قوله فقال له : لا أفعل . فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إذهب إلى مطعم بن عدي فسله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى . فجاء إليه وأخبره فقال : أين محمد ؟ فكره أن يخبره بموضعه فقال : هو قريب ، فقال : إئته فقل له : إني قد أجرتك فتعال وطف واسع ما شئت . فأقبل رسول الله وقال مطعم لولده وأختانه « أصهاره » وأخيه طعيمة بن عدي : خذوا سلاحكم فإني قد أجرت محمداً ، وكونوا حول الكعبة حتى يطوف ويسعى ، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح ، وأقبل رسول الله حتى دخل المسجد ، ورآه أبو جهل فقال : يا معشر قريش هذا محمد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به ! فقال له طعيمة بن عدي : يا عم لا تتكلم ، فإن أبا وهب قد أجار محمداً ! فوقف أبو جهل على مطعم بن عدي فقال : أبا وهب أمجير أم صابئ ؟ قال : بل مجير . قال : إذاً لا يُخفر جوارك ! فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم فقال : أبا وهب قد أجرت
--------------------------- 456 ---------------------------
وأحسنت فرد عليَّ جواري . قال : وما عليك أن تقيم في جواري ؟ قال : أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم . قال مطعم : يا معشر قريش إن محمداً قد خرج من جواري » .
أقول : ردَّ صاحب الصحيح من السيرة : 3 / 269 رواية جوار مطعم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بحجة أنه : « لم يكن يقبل أن يكون لمشرك عنده يد يستحق الشكر عليها وهذه يد ولا شك » . لكن لا دليل في سيرة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) أو غيره من الأنبياء « عليهم السلام » على إبائهم ذلك ، فقد قال يوسف ( عليه السلام ) لرئيس وزراء مصر : اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ . يوسف : 55 وهذه يد على يوسف توجب الشكر دون شك .
وقال موسى ( عليه السلام ) لفرعون : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ . « الشعراء : 22 » . ولو فعلها فرعون لكانت له يداً له على موسى ( عليه السلام ) وشكره عليها .
واحتج صاحب الصحيح أيضاً بأن طلب الجوار من مطعم ركونٌ للظالمين ، والله تعالى يقول : وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ . سورة هود : 113 .
وجوابه : أنه ليس ركوناً ، ولو سلمنا ، فالضرورة والتقية أوسع من ذلك . ولم أرَ أحداً من فقهائنا أفتى بحرمة طلب الجوار من كافر ، أو إعطائه لكافر .
وقد حث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على الوفاء بالجوار والذمام مطلقاً ، فقال في نهج البلاغة : 2 / 150 : « فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام . . » .
ويكفي لإثبات استجارته ( صلى الله عليه وآله ) بمطعم أن يرويه علي بن إبراهيم والطبرسي وابن شهرآشوب « المناقب : 1 / 15 » وقد أورده علماؤنا على أنه من مسلَّمات السيرة .
ونشير في الختام إلى أن حكيم بن جبير بن مُطعم ، كان من خاصة أصحاب الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، فهو على العكس من جده مطعم .
قال السيد الخوئي « رحمه الله » في معجم الرجال : 7 / 195 : « حكيم بن جبير بن مطعم بن عدي بن عبد مناف القرشي المدني ، من أصحاب السجاد ( عليه السلام ) » .
وفي الكشي : 1 / 44 و 338 : « ارتد الناس بعد الحسين ( عليه السلام ) إلا ثلاثة : أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطعم ، ثم إن الناس لحقوا وكثروا » .
وفي الإختصاص / 61 ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين
--------------------------- 457 ---------------------------
حواري رسول الله « عليهما السلام » الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه ؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر . . إلى أن قال : ثم ينادي أين حواري علي بن الحسين ؟ فيقوم [ حكيم بن ] جبير بن مطعم ، ويحيى بن أم الطويل ، وأبو خالد الكابلي ، وسعيد بن المسيب » .

15 . لم يتزوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة بعد خديجة ( عليها السلام )

لا يصح قولهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بعد وفاة خديجة « عليها السلام » قبل الهجرة ، لأنه لا يوجد نص صحيح بزواجه في تلك الفترة ، ولعل السبب أنها كانت أشد الفترات خطراً على حياته ( صلى الله عليه وآله ) . فلا تصح رواية أن خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون بأنها عرضت على النبي بعد وفاة خديجة « عليها السلام » أن تخطب له فقبل ، وخطبت له سودة بنت زمعة من أبيها وكان كافراً ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيته وزوجه ، وأن أخاها عبد بن زمعة لما عرف بزواج أخته من النبي ( صلى الله عليه وآله ) حثا التراب على رأسه !
ولا روايتهم بأن خولة اقترحت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يتزوج بعائشة وقالت له : بنت أبي بكر أحب خلق الله إليك ، فأرسلها لخطبتها فوافق أبو بكر وذهب رسول الله إلى بيته فعقد عليها ! وقالت عائشة إن عمرها كان يومها ست سنين ، وإنه تزوجها في المدينة وقد أكملت تسع سنين . مجمع الزوائد : 9 / 225 و 246 والطبقات : 8 / 57 .
لكنهم رووا أن عائشة كانت متزوجة قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « خطب رسول الله عائشة بنت أبي بكر فقال : إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير ، فدعني حتى أسُلَّها منهم فاستلها منهم ، فطلقها فتزوجها رسول الله » . الطبقات : 8 / 59 .
وروى الذهبي في تاريخه : 1 / 279 أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقي سنتين لم يتزوج بعد خديجة .
وفي دلائل الإمامة / 81 ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : « خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) النساء وتزوج سودة أول دخوله المدينة ، فنقل فاطمة إليها ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية ، فقالت أم سلمة : تزوجني رسول الله وفوض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها ، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها » .
--------------------------- 458 ---------------------------

16 . أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن

روى الجميع أن الله تعالى صرف إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عودته من الطائف عند منطقة نخلة ، نفراً من الجن ، وأمره أن يتلو عليهم القرآن فآمنوا .
ورويَ ذلك أيضاً في عودته من سوق عكاظ عند وادي مِجَنَّة ، بكسر الميم وهي قرب مكة . قال الله تعالى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . الأحقاف : 29 .
وقال تعالى في سورة الجن : قُلْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا .
وتدل هذه الآية وغيرها على أن الجن أصحاب مستوى ذهني عال ، وأن بعضهم قد استوعب بمجرد سماع القرآن من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وتخرجوا منذرين لأقوامهم !
قال ابن هشام : 2 / 287 : « ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي ، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولَّوْا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله خبرهم عليه ( صلى الله عليه وآله ) قال الله عز وجل : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ » .
ونخلة : موضع بين الطائف ومكة على مسير ليلة من مكة . معجم البلدان : 5 / 278 .
وفي تفسير القمي : 2 / 299 : « تهجد بالقرآن في جوف الليل ، فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استمعوا له ، فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض : أنصتوا . فجاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله شرائع الإسلام . ومنهم كانوا يعودون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كل وقت ، فأمر رسول الله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يعلمهم ويفقههم ، فمنهم مؤمنون ومنهم كافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس ، وهم ولد الجان .
وسئل العالم ( عليه السلام ) عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة ؟ فقال لا ، ولكن لله حظائر
--------------------------- 459 ---------------------------
بين الجنة والنار ، يكون فيها مؤمنو الجن ، وفساق الشيعة » .
وروى في المحاسن : 2 / 379 : « عن عمر بن يزيد قال : ضللنا سنة من السنين ونحن في طريق مكة ، فأقمنا ثلاثة أيام نطلب الطريق فلم نجده ، فلما أن كان في اليوم الثالث وقد نفد ما كان معنا من الماء ، عمدنا إلى ما كان معنا من ثياب الإحرام ومن الحنوط ، فتحنطنا وتكفنا بإزار إحرامنا ، فقام رجل من أصحابنا فنادى : يا صالح يا أبا الحسن ، فأجابه مجيب من بُعد ! فقلنا له : من أنت يرحمك الله ؟ فقال : أنا من النفر الذي قال الله عز وجل في كتابه : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ . ولم يبق منهم غيري ، فأنا مرشد الضال إلى الطريق ! قال : فلم نزل نتبع الصوت حتى خرجنا إلى الطريق » .
وفي الإحتجاج : 1 / 330 ، من حديث يهودي مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « ولقد سُخِّرَت لنبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) الشياطين بالإيمان ، فأقبل إليه من الجِنة تسعة من أشرافهم . وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ . وهم التسعة فأقبل إليه الجن والنبي ( صلى الله عليه وآله ) ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً . ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفاً منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونصح المسلمين ، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططاً » . راجع أيضاً المناقب : 1 / 44 و 191 ، المحاسن : 2 / 380 ، الأمان / 123 ، الحاكم : 2 / 456 و 518 ، مجمع الزوائد : 7 / 106 . والبحار : 10 / 44 ، 18 / 76 و 90 ، 60 / 55 وفيه : « ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله ( صلى الله عليه وآله ) وإنما سميا ثقلين لعظم خطرهما
وجلالة شأنهما » .

  • *
    --------------------------- 460 ---------------------------

الفصل الرابع والعشرون

النبي « صلى الله عليه وآله » يعرض نفسه على القبائل لحمايته من قريش

1 - بدأ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرض نفسه على القبائل من السنة الرابعة

أ . كان العرب يحجون إلى مكة في شهر ذي الحجة ، ويعتمرون في رجب ، ويقيمون بعد الحج سوقهم المشهور سوق عُكاظ . وقد أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يلتقي بشخصياتهم ويطلب منهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه ، لأن قريشاً منعته من تبليغها .
ففي تفسير العياشي : 2 / 253 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اكتتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة سنين ليس يظهر وعلي معه وخديجة « عليهما السلام » ، ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب » .
وقال اليعقوبي : 2 / 36 : « كان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ، ويكلم شريف كل قوم ، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول : لا أكره أحداً منكم ، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل ، حتى أبلغ رسالات ربي » .
وفي الطبقات : 1 / 216 : « مكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين ، يوافي الموسم كل عام ، يتتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز ، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة ، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه ، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم ، وإذا آمنتم كنتم
--------------------------- 461 ---------------------------
ملوكاً في الجنة . . جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ ومجنة وبذي المجاز ، يدعونا إلى الله عز وجل ، وأن نمنع له ظهره ، حتى يبلغ رسالات ربه » . والطبري : 2 / 84 ، وسبل الهدى : 2 / 451 والحلبية : 2 / 153 .
وعدَّ منهم المقريزي في الإمتاع : 1 / 49 خمس عشرة قبيلة ، قال : « عرض نفسه على القبائل أيام الموسم ودعاهم إلى الإسلام وهم : بنو عامر ، وغسان ، وبنو فزارة ، وبنو مرة ، وبنو حنيفة ، وبنو سليم ، وبنو عبس ، وبنو نصر ، وثعلبة بن عكابة ، وكندة ، وكلب ، وبنو الحارث بن كعب ، وبنو عذرة ، وقيس بن الخطيم » .
يضاف إليهم قبيلة ثقيف حيث قصدهم إلى الطائف ، والأوس والخزرج ، الذين قبلوا عرضه وبايعوه ، فهاجر إليهم . وآخرون .
وقال ابن هشام : 2 / 288 إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أتى بني كندة فأبوا عليه ، وأتى بني عبد الله من بني كلب فلم يقبلوا منه ما عرضه عليهم . وأتى بني حنيفة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منهم .
وذكر ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قصد سويد بن صامت ، أخا بني عمرو بن عوف ، وكان سويد حكيماً شاعراً ، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام ، فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان ، يعني حكمة لقمان ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إعرضها عليَّ فعرضها عليه فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والذي معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ هو هدى ونور ، فتلا عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القرآن ، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال : إن هذا القول حسن ، ثم انصرف عنه ، فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج ، فإن كان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قتل وهو مسلم ، وكان قتله قبل يوم بعاث . .
« وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف ، إلا تصدى له ، فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده » .
وفي مسند أحمد : 3 / 322 : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان معروفاً في الأمصار ، فكان الرجل
--------------------------- 462 ---------------------------
يخرج من اليمن أو من مصر فيأتيه قومه فيقولون : إحذر غلام قريش لايفتنك !
ب . كان يذهب إلى دعوة القبائل ومعه زيد بن حارثة ، أو علي ( عليه السلام ) ، وروت المصادر أن أبا بكر بعد أن أسلم ذهب معه ذات مرة ، كما في ثقات ابن حبان : 1 / 80 عن علي قال : « لما أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج وأنا معه وأبو بكر ، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر فسلم وقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة . قال : وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها ؟ فقالوا : لا ، بل من هامتها العظمى . قال أبو بكر : وأي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا : من ذهل الأكبر . قال أبو بكر : فمنكم عوف الذي يقال له لا حُرَّ بوادي عوف ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا . قال أبو بكر : فلستم إذا ذهلاً الأكبر ، أنتم ذهل الأصغر . فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بَقَل وجهه ، فقال : على سائلنا أن نسأله ! يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً ، فممن الرجل ؟ فقال أبو بكر : أنا من قريش . فقال الفتى : بخ بخ أهل الشرف والرئاسة ، فمن أي القرشيين أنت ؟ قال : من ولد تيم بن مرة . قال : أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة ، فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر ، فكان يدعى في قريش مجمعاً ؟ قال : لا . قال : فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجافُ ؟ قال : لا . قال : فمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا . قال : فمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا . قال : فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء ، الذي كأن وجهه القمر يضئ في الليلة الظلماء الداجية ؟ قال : لا . قال : فمن أهل السقاية ؟ قال : لا . واجتذب أبو بكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله فقال الغلام :
صادف درأ السيل درأً يدفعه * يُهيضه حيناً وحيناً يصدعه !
أما والله لو ثبت ! قال فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال عليٌّ : فقلت يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة « داهية » ! فقال لي : أجل يا أبا الحسن ، ما من طامة إلا وفوقها
--------------------------- 463 ---------------------------
طامة ، والبلاء موكل بالمنطق !
قال علي : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبو بكر [ وكان مقدماً في كل خير ] فسلَّم وقال : ممن القوم ؟ فقالوا : من شيبان بن ثعلبة ، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما وراء هؤلاء القوم عز ، هؤلاء غُرَرُ قومهم وفيهم مفروق بن عمرو ، وهانئ بن قبيصة ، والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك . وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالاً ولساناً ، وكان غديرتان تسقطان على تربيته ، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر فقال أبو بكر : كيف العدد فيكم ؟ فقال مفروق : إنا لنزيد على ألف ، ولن يغلب ألف من قلة . فقال أبو بكر : وكيف المنعة فيكم ؟ قال مفروق : علينا الجهد ولكل قوم جد . قال أبو بكر : كيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ قال مفروق : إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى ، وإنا لأشد ما نكونن لقاء حين نغضب ، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد ، والسلاح على اللقاح ، والنصر من عند الله ، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى . لعلك أخو قريش ؟ قال أبو بكر : وقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا . قال مفروق : قد بلغنا أنه يذكر ذلك ، قال : فإلى مَ تدعو يا أخا قريش ؟ قال : أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني ، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله ، فكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد .
فقال مفروق بن عمرو : إلى مَا تدعونا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . الأنعام : / 151 .
قال مفروق : وإلى مَا تدعو يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالآحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . « النحل / 90 » . فقال مفروق : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق
--------------------------- 464 ---------------------------
ومحاسن الأعمال ، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة ، فقال : وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا . فقال هانئ : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا ، زلةٌ في الرأي وقلةُ فكر في العواقب ، وإنما تكون الزلة مع العجلة ، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً ، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر ! وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا .
فقال المثنى : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة ، في تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك ، وإنما أنزلنا بين ضرتين !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما هاتان الضرتان ؟ قال : أنهار كسرى ومياه العرب ، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثاً ولا نؤي محدثاً ، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك ، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه ، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم ، أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال النعمان بن شريك : اللهم نعم . قال : فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا . الأحزاب / 45 .
ثم نهض قابضاً على يد أبي بكر وهو يقول : يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها ، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض » !
ورواه السمعاني في الأنساب : 1 / 38 ، ابن كثير في النهاية : 3 / 173 ، السيرة : 2 / 160 واعتبره غريباً فقال : « وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي » .
ورواه في تاريخ دمشق : 17 / 293 ، مطولاً وليس فيه مديح أبي بكر على لسان علي بقوله [ وكان مقدماً في كل خير ] ولذلك وضعناها بين معقوفين ، لأنها من كلام الراوي . لكن الإشكال في قوله : « فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله . لأن بيعة الأنصار كانت قبل هجرة النبي بسنتين وسنة » .
--------------------------- 465 ---------------------------
أقول : هذه الرواية على ما فيها تعطي صورة عن دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقبائل العرب في المواسم ، كما تدل على أن وقتها في آخر الفترة المكية عندما بايع الأنصار .
ج - . كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول للذين يزورهم : « يا بني فلان إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه ، وأن تؤمنوا وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به » .
« قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم . وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة » . « سبل الهدى : 2 / 451 » . « هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي » . تاريخ الذهبي 1 / 281 .
« لا أكره أحداً على شئ . من رضي الذي أدعوه إليه فذلك ، ومن كره لم أكرهه ، إنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي » . السيرة الحلبية : 2 / 158 .
« ألا رجل يعرض على قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل . فأتاه رجل من همذان فقال : ممن أنت ؟ فقال الرجل : من همذان ، فقال : هل عند قومك من منعة ؟ قال : نعم ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله فقال : آتيهم أخبرهم ثم آتيك من قابل . قال : نعم . فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب » . السيرة الحلبية : 2 / 153 ، مجمع الزوائد : 6 / 35 وفتح الباري : 7 / 171 .
د . وكانت القبائل ترفض دعوته ( صلى الله عليه وآله ) لأن زعماء قريش قاموا بحملة من السنة الأولى على وفود الحجاج : « يقولون لمن أتى مكة : لا تغتروا بالخارج منا ، والمدعي النبوة » . مجمع البيان : 6 / 131 ، الكشاف : 2 / 406 والواحدي : 1 / 598 .
وقد فسروا المقتسمين في سورة الحجر / 89 ، بالستة عشر الذين أرسلهم الوليد بن المغيرة إلى مداخل مكة ، ليحذروا الوفود من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنه بعيد .
والمؤكد أن موقع قريش في العرب ، ونشاطها المعادي للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في موسم الحج والعمرة كانا السبب في رفض القبائل حمايته ، فكانت تجيبه : « أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك » . « ترون أن رجلاً يصلحنا ، وقد أفسد قومه » . « السيرة الحلبية : 2 / 155 و 158 وسبل الهدى 2 / 451 » . « يا محمد إعمد لطيتك . أي إمض لوجهك
--------------------------- 466 ---------------------------
وقصدك . ويقال : إلحق بطيتك وبنيتك ، أي بحاجتك » . لسان العرب : 15 / 20 .
ه - . وقد قبلت بعض القبائل دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنها اشترطت أن يكون لها الحكم بعده فأجابهم بأن الأمر ليس له ، بل لله تعالى وقد عين له أهلاً ، وكان يشرط عليهم أن لاينازعوا الأمر أهله ! « أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء . قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه .
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا . قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بني عامر هل لها من تلاف ، هل لذناباها من مُطَّلب ؟ ! والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم » ! ابن هشام : 2 / 289 والطبري : 2 / 84 .
وكذا قبيلة كندة اليمانية : « حدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له : إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الملك لله يجعله حيث يشاء ، فقالوا : لا حاجة لنا فيما جئتنا به » . سيرة ابن كثير : 2 / 159 ونحوه : 4 / 114 .
وفي التراتيب الإدارية للفاسي : 1 / 2 : « كان يطوف على القبائل في أول أمره لينصروه فيقولون له ويكون لنا الأمر من بعدك ؟ فيقول : إني قد منعت من ذلك » .
و . أخذ ( صلى الله عليه وآله ) بيعة الأنصار على حمايته ، وحماية أهل بيته : ، وأن لاينازعوهم الأمر . ففي المناقب : 1 / 305 ، وأوسط الطبراني : 2 / 207 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أشهد لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي ، قال : لما جاءت الأنصار تبايع
--------------------------- 467 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على العقبة قال : قم يا علي . فقال علي : على ما أبايعهم يا رسول الله ؟ قال : على أن يطاع الله فلا يعصى ، وعلى أن يمنعوا رسول الله وأهل بيته وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم . ثم كان الذي كتب الكتاب بينهم » .
وفي الكافي : 8 / 261 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « وأخذ عليهم عليٌّ أن يمنعوا محمداً وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم . . نجا من نجا ، وهلك من هلك » .
وفي مناقب ابن سليمان : 2 / 165 : « فالتزمتها رقاب القوم ووفى بها من وفى » .
وفي شرح الأخبار : 2 / 159 : « عن الحسن البصري أنه قال : قاتل الله معاوية سلب هذه الأمة أمرها ، ونازع الأمر أهله ، واستعمل على المؤمنين علجاً ، يعني زياداً » .
هذا ، وقد ورد عن الأئمة « عليهم السلام » ذمُّ الأنصار ، لأنهم لم يفوا ببيعتهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حماية أهل بيته ، وأن لا ينازعوهم الأمر بعده !
وفي تفسير الطبري : 28 / 59 ، عن قتادة : « بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلاً من الأنصار ، ذكر لنا أن بعضهم قال : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعون على محاربة العرب كلها أو يسلموا . ذكر لنا أن رجلاً قال : يا نبي الله ، اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، قال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني وأهل بيتي وذريتي مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم . قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبي الله ؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة » .
وفي البخاري : 8 / 88 وموطأ مالك : 2 / 445 عن عبادة بن الصامت : « بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في اليسر والعسر المنشط والمكره ، وأن لاننازع الأمر أهله » . وفي فتح الباري : 13 / 6 وعمدة القاري : 24 / 179 : « والمراد بالأمر الملك والإمارة » .
وعلى ذلك كانت بيعة الحديبية ! قال النووي في شرح مسلم : 13 / 2 : « وفي حديث ابن عمر وعبادة : بايعنا على السمع والطاعة ، وأن لا ننازع الأمر أهله » .
ز . وبعد أن نازعت قريش الأمر أهله ، وأخذت دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) واضطهدت عترته ، كذبت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه كان يقصد بشرط عدم منازعة الأمر أهله ، منازعة قريش وليس عترته ! قال السيوطي في الدر المنثور : 6 / 18 : « عن علي وابن
--------------------------- 468 ---------------------------
عباس قالا : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور ، فإذا قالوا : لمن الملك بعدك ؟ أمسك فلم يجبهم بشيء ، لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ . « الزخرف / 44 » ، فكان بعدها إذا سئل قال : لقريش ، فلا يجيبوه ! وقبلته الأنصار على ذلك » .
أقول : لاحظ أنهم زعموا أن الوحي نزل عليه : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ، ومعناه أن القرآن لك ولقريش ، فالخلافة لقريش ! وقد جعلوا ذلك على لسان علي وابن عباس ليقولوا إن بني هاشم أنفسهم رووا أن الملك بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) حق شرعي لقريش ، وليس لبني هاشم ، ولا للأنصار لأنهم بايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) على ذلك !
وهم بذلك يكذبون أنفسهم بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يوصِ ولا سأله أحدٌ عن الخلافة ! فالصحيح أن خلافته ( صلى الله عليه وآله ) كانت مطروحة من أول بعثته وأن القبائل كانت تطمع بها وتشرط عليه أن تكون لها بعده فلا يقبل ، فترفض حمايته !
ثم كذبوا عليه بأنه كان يجيب القبائل بأن الملك بعده لقريش ! فلو صح لسألته القبائل : كيف تريد أن نحميك من قريش أن تقتلك ، وتجعل لها الخلافة دوننا !
ولو كان الذكر في قوله تعالى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ، يعني الخلافة ، لوجب أن تكون الخلافة لكل الناس ، لأنه تعالى قال : إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ .
بل هذا الحديث من مكذوباتهم لإعطاء الشرعية لنظام « الخلافة » الذي أسسوه في السقيفة ! وقد اعترف الذهبي بأنه موضوع ! قال في ميزان الإعتدال : 2 / 255 ، في ترجمة راويه : « سيف بن عمر الضبي الأسيدي : مصنف الفتوح والردة وغير ذلك قال أبو حاتم : متروك . وقال ابن حبان : اتهم بالزندقة . . مكحول البيروتي سمعت جعفر بن أبان سمعت ابن نمير يقول : سيف الضبي تميمي . كان سيف يضع الحديث ، وقد اتهم بالزندقة » !

2 - استمرت مفاوضة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع الأنصار بضع سنين

أ . روى الطبري في تفسيره : 4 / 46 ، والثعلبي : 3 / 164 ، وغيرهما ، في تفسير قوله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا :
--------------------------- 469 ---------------------------
« فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام . يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة . وهم أخَوان لأب وأم ! فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم .
ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام وألف بينهم برسوله محمد ( صلى الله عليه وآله ) فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم ، عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضاً ، وقتل بعضهم بعضاً ، وخوف بعضهم من بعض ، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والإيمان به وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع » .
ب . وكانت آخر الحروب بين الأوس والخزرج حرب بُعاث ، اسم حصن للأوس قبل الهجرة بخمس سنين « الحاكم : 3 / 421 » وقيل بثلاث « فتح الباري : 2 / 367 » .
وكانوا حينذاك يتفاوضون مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ورووا أن أياس بن معاذ الأشهلي الأوسي كان أسلم وبايع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورجع إلى قومه ، فوقعت الحرب وقُتل فيها ، فعدوه من الصحابة . « معجم السيد الخوئي : 4 / 159 » ومعناه أن المفاوضة استمرت نحو أربع سنين ، حتى بيعة العقبة التي هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أثرها .
ج - . وأول من سمع من النبي ( صلى الله عليه وآله ) من أهل المدينة فتية فيهم أياس بن معاذ الأشهلي الأوسي كما في رجال الطوسي / 22 ، وعده صحابياً ، وكبير الطبراني : 1 / 276 : « لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأتاهم فجلس إليهم فقال : هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وأنزل الله عليَّ الكتاب ، ثم شرع لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قومي ، هذا والله خير مما جئتم له ! قال فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها في وجه إياس وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا . قال فصمت إياس وقام عنهم
--------------------------- 470 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك . قال محمود بن لبيد : فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات . فما كانوا يشكون أن قد مات مسلماً ، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ما سمع » . والطبقات : 3 / 437 ، الطبري : 2 / 85 ووثقه مجمع الزوائد : 6 / 36 .
وقيل أول من رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أبو الحيسر ، أو سويد بن الصامت . تفسير الطبري : 4 / 46 .
د . ثم جاء بعدهما أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ، فالتقيا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسلما . قال الطبرسي في إعلام الورى : 1 / 136 : « قال علي بن إبراهيم : قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهراً طويلاً ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث وكانت للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له : إنه كان بيننا وبين قومنا حرب ، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم . فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم ، ولنا شغل لا نتفرغ لشئ . قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال له عتبة : خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله سفَّه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شباننا وفرق جماعتنا ! فقال له أسعد : من هو منكم ؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطلب ، من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً !
وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النضير وقريظة وقينقاع - أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنكم به يا معشر العرب . فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود ، قال : فأين هو ؟ قال : جالس في الحجر ، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه ، فإنه ساحر يسحرك بكلامه . وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب . فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر ، لا بد لي أن أطوف بالبيت ! قال : ضع في أذنيك القطن . فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه بالقطن ، فطاف
--------------------------- 471 ---------------------------
بالبيت ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ! فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل مني ! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم ؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول الله : أنعم صباحاً ، فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رأسه إليه وقال : قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم . فقال له أسعد : إن عهدك بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمد ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأدعوكم إلى : أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
فلما سمع أسعد هذا قال له : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعز منك ، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك ، والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك . والله ما جئنا إلا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل مما أتينا له .
ثم أقبل ذكوان ، فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته ، فهلمَّ فأسلم فأسلم ذكوان ، ثم قالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لمصعب بن عمير ، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهما ولم يخرج من مكة ، فلما أسلم جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الشعب حتى تغير
--------------------------- 472 ---------------------------
وأصابه الجهد فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالخروج مع أسعد ، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً ، فخرجا إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره ، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان ، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة ، وكان يخرج في كل يوم فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث ، وكان عبد الله بن أبيّ شريفاً في الخزرج ، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعوا على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه ، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها ، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث ، ولم يعن على الأوس وقال : هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم ، فرضيت به الأوس والخزرج ، فلما قدم أسعد كره عبد الله ما جاء به أسعد وذكوان فتر أمره ، فقال أسعد لمصعب : إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس ، هو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف ، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا فهلم نأتي محلتهم ، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم : بلغني أن أبا أمامة أسعد ابن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا فأته وانهه عن ذلك ! فجاء أسيد بن حضير فنظر إليه أسعد فقال لمصعب : إن هذا رجل شريف ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا فاصدق الله فيه .
فلما قرب أسيد منهم قال : يا أبا أمامة يقول لك خالك : لا تأتنا في نادينا ولا تفسد شباننا واحذر الأوس على نفسك . فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمراً فإن أحببته دخلت فيه وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه ؟ فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن فقال : كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟ قال : نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين . فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر ثم خرج وعصر ثوبه ، ثم قال : أعرض فعرض عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقالها ثم صلى ركعتين ثم قال لأسعد : يا أبا أمامة ، أنا أبعث إليك الآن
--------------------------- 473 ---------------------------
خالك ، وأحتال عليه في أن يجيئك . فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ ، فلما نظر إليه سعد قال : أقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا ، وأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب : حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . فلما سمعها قال مصعب : والله لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم فبعث إلى منزله ، وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين . ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابن أحداً .
ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح : يا بني عمرو بن عوف ، لا يبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلا خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب . فلما اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم ؟ قالوا : أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمراً فمرنا بما شئت . فقال : كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليَّ حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فالحمد لله الذي أكرمنا بذلك ، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به ! فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلا وفيها مسلم أو مسلمة ، وحول مصعب بن عمير إليه ، وقال له : أظهر أمرك وادع الناس علانية ، وشاع الإسلام بالمدينة وكثر ، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم ، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود » .
ه - . أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) مصعب بن عمير ( رحمه الله ) إلى المدينة قبل ثلاث سنوات من هجرته مع أسعد بن زرارة ، وكان مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الشعب خوفاً من أهله بني عبد الدار ، وكان إرساله قبل بيعة العقبة الأولى بسنة أو نحوها ، فلا يصح قول ابن حجر : « كان قبل الهجرة بسنة واحدة » . فتح الباري : 3 / 60 .
وكان يأتي إلى مكة ثم يرجع إلى المدينة . قال ابن هشام : 2 / 299 : « ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة ، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا مكة » .
--------------------------- 474 ---------------------------
و . كان لمصعب دور أساسي في بناء قاعدة الإسلام في المدينة ، كما كان أحد القادة في معركة أحد ، فهو من بني عبد الدار الشجعان الذين لهم لواء الحرب في قريش ، وقد أعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) لمصعب لواء الأنصار في أحُد فأجاد القتال ، وعندما انهزم المسلمون في الجولة الثانية ثبت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقاتل حتى استشهد « رحمه الله » ، قتله أبيُّ بن خلف بن قميئة ، وقيل ظنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
« أقبل يومئذ أبيُّ بن خلف وهو على فرس له وهو يقول : هذا ابن أبي كبشة بُؤْ بذنبك لا نجوتُ إن نجوتَ . ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين الحارث بن الصمة وسهل بن حنيف يعتمد عليهما ، فحمل عليه فوقاه مصعب بن عمير بنفسه فطعن مصعباً فقتله ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنزة « حربة » كانت في يد سهل بن حنيف ، ثم طعن أبياً في جربان الدرع ، فاعتنق فرسه فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور ، فقال أبو سفيان : ويلك ما أجزعك إنما هو خدش ليس بشئ ! فقال : ويلك يا ابن حرب أتدري من طعنني ! إنما طعنني محمد وهو قال لي بمكة إني سأقتلك فعلمت أنه قاتلي ، والله لو أن ما بي كان بجميع أهل الحجاز لقضت عليهم ! فلم يزل يخور الملعون حتى صار إلى النار » . إعلام الورى : 1 / 178 والحاكم : 2 / 327 .
وقالت نسيبة بنت كعب رحمها الله : « خرجت أول النهار إلى أحُد وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجعلت أباشرالقتال وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إليَّ الجراح . . أقبل بن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله يصيح : دلوني على محمد فلا نجوتُ إن نجا ! فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه فكنت فيهم ، فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان » . الطبقات : 8 / 412 .
وفي تفسير القمي : 1 / 114 : « ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رجل من كبار المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه : يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار ! فرمى بترسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت
--------------------------- 475 ---------------------------
تقاتل المشركين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان » !
والذي أمره النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإلقاء ترسه هو عمر ، وروى السرخسي في شرح السير الكبير : 1 / 200 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما مدح نسيبة سمى جماعة ممن فروا .
وروي أن عبد بن عمير أخا مصعب كان مع المشركين في أحُد فقتله مصعب ، وأن أخاه الآخر أبا عزة الشاعر أسر يوم أحد وقتله النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لأنه كان أسر يوم بدر وأطلقه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بلا فداء ، بشرط أن لا يعود فعاد وأسر في أحد « الخرائج : 1 / 149 » وروى البيهقي في السنن : 9 / 65 وغيره ، أن أبا عزة جمحي ، وليس ابن عمير .
وفي سيرة ابن هشام : 2 / 472 : « قال أبو عزيز : مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال : شد يديك به فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ! قال : وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر ، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر ، لوصية رسول الله إياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها ، قال : فأستحي فأردها على أحدهم فيردها عليَّ ما يمسها . قال ابن هشام : وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث ، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر وهو الذي أسره ما قال ، قال له أبو عزيز : يا أخي هذه وصاتك بي ؟ ! فقال مصعب : إنه أخي دونك ! فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي ؟ فقيل لها : أربعة آلاف درهم ، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها » .
وقد بالغ الرواة في تصغير سنه يوم أسلم ، مع أن عمره كان فوق الثلاثين ، لأنه كان يوم استشهد بضعاً وأربعين سنة . عمدة القاري : 8 / 60 .
كما بالغوا في دوره في حرب أحُد ، وفي عده من المعذبين في مكة ، ويبدو أن أمه وأقاربه من بني عبد الدار اكتشفوا إسلامه فمنعوه من الذهاب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم وافقوا على هجرته إلى الحبشة ، ثم رجع إلى مكة وكان مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الشعب . كما بالغوا في ترفه قبل الإسلام ، وهو صحيح إلى حد .
قال ابن سعد في الطبقات : 3 / 122 و 118 : « كان مصعب بن عمير رقيق البشرة ،
--------------------------- 476 ---------------------------
حسن اللُّمَّة ، ليس بالقصير ولا بالطويل ، قتل يوم أحد على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئاً ، فوقف عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو في بردة مقتول فقال : لقد رأيتك بمكة وما بها أحدق أرق حلة ، ولا أحسن لمة منك ، ثم أنت شعث الرأس في بردة !
ثم خرج مصعب بن عمير من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في العقبة الثانية من حاج الأوس والخزرج ، ورافق أسعد بن زرارة في سفره ذلك ، فقدم مكة فجاء منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أولاً ، ولم يقرب منزله فجعل يخبر رسول الله عن الأنصار وسرعتهم إلى الإسلام ، واستبطائهم رسول الله فسُرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكل ما أخبره ، وبلغ أمه أنه قد قدم فأرسلت إليه : يا عاق أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي ! فقال : ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما سلم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبره بما أخبره ، ذهب إلى أمه فقالت : إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد ؟ ! قال : أنا على دين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله . قالت : ما شكرت ما رثيتك ! مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب ! فقال : أفر بديني أن تفتنوني ! فأرادت حبسه فقال : لئن أنت حبستني لأحرصن على قتل من يتعرض لي ! قالت : فاذهب لشأنك وجعلت تبكي ، فقال مصعب : يا أمهْ إني لك ناصح عليك شفيق ، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . قالت : والثواقب لا أدخل في دينك فيزري برأيي ويضعف عقلي ، ولكني أدعك وما أنت عليه ، وأقيم على ديني ! قال : وأقام مصعب بن عمير مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ، وقدم قبل رسول الله إلى المدينة مهاجراً لهلال شهر ربيع الأول ، قبل مقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) باثنتي عشرة ليلة » .
وعندما انهزم المسلمون وتركوا نبيهم لسيوف المشركين ثبت معه مصعب واستشهد مع النفر الذين ثبتوا فاستشهدوا أو جرحوا ، فبقي هو وعلي ( صلى الله عليه وآله ) وحدهما ! فقاتل قتال الأبطال حتى أمره الله أن يستطل بصخرة ، وعليٌّ يرد عنه هجمات قريش فيقصد قائد الكتيبة فيقتله فتنهزم الكتيبة ، حتى يئس الكفار وانسحبوا ! وأنزل الله في وصف ذلك أربعين آية ! 139 - 179 آل عمران .
--------------------------- 477 ---------------------------
وفي ذلك الوقت العصيب جاءت فاطمة الزهراء « عليها السلام » من المدينة إلى المعركة كالصقر المنقض ، وواست رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسها ، وضمدت جراحه !
ثم جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى ميدان المعركة وصلى على الشهداء ودفنهم ومنهم عمه حمزة ، ومصعب بن عمير رضي الله عنهما . وروى الجميع أنه كبر على عمه حمزة سبعين تكبيرة ، وروى في الطبقات : 3 / 122 ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) وقف على مصعب : « وهو في بردة مقتول فقال : لقد رأيتك بمكة وما بها أحدق أرق حلة ولا أحسن لُمَّةً منك ثم أنت شعث الرأس في بردة ! ثم أمر به أن يقبر فنزل في قبره أخوه
أبو الروم بن عمير ، وعامر بن ربيعة ، وسويبط بن سعد بن حرملة » .
ولا يصح نزولهم في قبره لأنهم فروا من المعركة ولم يحضروا دفن شهداء أحُد . ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقف على قبرهم وقال : « أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم وسلموا عليهم ، فوالذي نفس محمد بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة » .
مجمع الزوائد : 6 / 123 .
ولم يُعقب مصعب بن عمير « رحمه الله » إلا ابنته زينب ، وأمها حمنة أخت زينب بنت جحش . الطبقات : 8 / 241 ، أسد الغابة : 5 / 470 والإصابة : 3 / 163 .

  • *
    --------------------------- 478 ---------------------------

الفصل الخامس والعشرون

النبي « صلى الله عليه وآله » يأخذ البيعة من الأنصار استعداداً للهجرة

النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُكَوِّن قاعدة لدعوته في المدينة

1 . بعد تكوين قاعدة الإسلام في المدينة وانتشاره بين أهلها ، تواصل طلبهم من النبي أن يهاجر إليهم : قال في إعلام الورى : 1 / 136 : « وبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام ، وكتب إليه مصعب بذلك ، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة ، فكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً ، فيصيرون إلى المدينة ، فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم . قال : فلما قدمت الأوس والخزرج مكة جاءهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لهم : تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنة ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، فخذ لنفسك وربك ما شئت . فقال : موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق . فلما حجوا رجعوا إلى منى ، وكان فيه ممن قد أسلم بشر كثير ، وكان أكثرهم مشركين على دينهم ، وعبد الله بن أبيّ فيهم ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في اليوم الثاني من أيام التشريق : فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة ، ولا تنبهوا نائماً ، وليتسلل واحد فواحد . وكان رسول الله نازلاً في دار عبد المطلب ، وحمزة وعلي والعباس معه ، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار ، فلما اجتمعوا قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنة ؟ فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام : نعم يا رسول الله ،
--------------------------- 479 ---------------------------
فاشترط لنفسك ولربك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تمنعوني مما تمنعون أنفسكم ، وتمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم ؟ قالوا : فما لنا على ذلك ؟ قال : الجنة ، وتملكون بها العرب في الدنيا ، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً . فقالوا : قد رضينا . فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال : يا معشر الأوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه ؟ إنما تقدمون على حرب الأبيض والأحمر ، وعلى حرب ملوك الدنيا ، فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه ، فإن رسول الله وإن كان قومه خالفوه فهو في عز ومنعة . فقال له عبد الله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيهان : مالك وللكلام ! يا رسول الله ، بل دَمُنَا بدمك وأنفسنا بنفسك ، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً . فقالوا : إختر من شئت . فأشار جبرئيل ( عليه السلام ) إليهم فقال : هذا نقيب ، وهذا نقيب ، حتى اختار تسعة من الخزرج وهم : أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله ، ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، وعبادة بن الصامت .
وثلاثة من الأوس وهم : أبو الهيثم ابن التيهان وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن خيثمة » .
وفي المناقب : 1 / 157 : « ثم عاد مصعب إلى مكة ، وخرج من خرج من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم ، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة ، ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، في أيام التشريق بالليل فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أبايعكم على الإسلام ، فقال له بعضهم : نريد أن تعرفنا يا رسول الله ما لله علينا وما لك علينا وما لنا على الله ؟ قال : أما ما لله عليكم فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً . وأما مالي عليكم فتنصروني مثل نسائكم وأبنائكم ، وأن تصبروا على عض السيف وأن يقتل خياركم ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك ما لنا على الله ؟ قال : أما في الدنيا فالظهور على
--------------------------- 480 ---------------------------
من عاداكم وفي الآخرة الرضوان والجنة .
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق لنمنعك بما تمنع به أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر .
فقال أبو الهيثم إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنا إن قطعناها أو قطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، فتبسم رسول الله ثم قال : بل الدم الدم والهدم الهدم ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ، ثم قال : أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً ، فاختاروا ثم قال : أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريين كفلاء على قومهم بما فيهم ، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فبايعوه على ذلك . فصرخ الشيطان في العقبة : يا أهل الجباجب هل لكم في محمد والصباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم » !
وفي الطبقات : 1 / 222 : « فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً ، فلا يجدن منكم أحد في نفسه أن يؤخذ غيره ، فإنما يختار لي جبريل فلما تخيرهم قال للنقباء : أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ، وأنا كفيل على قومي ؟ قالوا : نعم » .
أقول : « معنى ذلك أن نظام الاثني عشر من الدين الإلهي ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) اعتمد النقباء الاثني عشر لضمان وفاء الأنصار ببيعتهم . وهو نظام اجتماعي للإيمان والكفر ، فالنقباء الكافلون لقومهم بالبيعة اثنا عشر ، والأئمة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) اثنا عشر ، والأئمة المضلون الذين يدعون إلى النار ، إثنا عشر إماماً أيضاً !
2 ذكر ابن عبد البر في الدرر / 66 ، أن العقبة الأولى كانت في الموسم قبل حرب بعاث ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) التقى فيها بستة من الخزرج فأسلموا ، ورجعوا إلى المدينة فدعواإلى الإسلام حتى انتشر فيهم ، وأن العقبة الثانية كانت في العام المقبل مع اثني عشر رجلاً بايعهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند العقبة على بيعة النساء ، ولم يكن أُمِرَ بالقتال . ثم كانت العقبة الثالثة عندما رجع مصعب بن عمير إلى مكة وجاء معه إلى الموسم جماعة ممن أسلم من الأنصار ، يريدون لقاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في جملة قوم كفار منهم لم يسلموا
--------------------------- 481 ---------------------------
بعد فأسلموا وبايعوا ، وكانوا سبعين رجلاً وامرأتين ، واختار رسول الله منهم اثنا عشر نقيباً . وكانت بيعتهم على حرب الأسود والأحمر ، وأخذ لنفسه واشترط عليهم لربه وجعل لهم نقباء على الوفاء بذلك الجنة » .
3 . اختار النبي ( صلى الله عليه وآله ) دار جده عبد المطلب ( رحمه الله ) بمنى ، عند جمرة العقبة ، مكاناً للبيعة وتقدم من تفسير القمي : 1 / 272 وإعلام الورى : 1 / 142 ، قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « فاحْضَروا دارَ عبد المطلب على العقبة ولا تنبهوا نائماً وليتسلل واحد فواحد . وكان رسول الله نازلاً في دار عبد المطلب وحمزة وعلي والعباس معه ، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار » .
لكن رواة السلطة لم يذكروا بيت عبد المطلب وقالوا : « فواعدوا رسول الله العقبة من أواسط أيام التشريق » . ابن هشام : 2 / 299 والدرر / 68 .
وقد تعجبتُ في هذه السنة 1429 من أن الوهابيين أقاموا مسجداً صغيراً مكان بيت عبد المطلب جعلوه رمزاً لبيعة الأنصار للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويقع قرب جمرة العقبة على يمين الخارج منها إلى مكة ، مع أنهم يزيلون آثار الإسلام والنبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) ، لكن لا ندري كيف حولوه إلى مسجد ومن أوقفه مسجداً ؟ ! ولعلهم استندوا إلى نص في طبقات ابن سعد : 1 / 121 يقول إن الموضع كان مسجداً ، قال : « وعَدَهُم « النبي ( صلى الله عليه وآله ) » منى وسط أيام التشريق ، ليلة النفر الأول إذا هدأت الرجل ، أن يوافوه في الشعب الأيمن ، إذا انحدروا من منى بأسفل العقبة ، حيث المسجد اليوم » . أي في زمن ابن سعد في القرن الثالث .
4 . كانت قريش في تلك السنة مستنفرة لمراقبة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم ، لأنها رأت أن بعض أهل المدينة دخلوا في الإسلام ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) يأمر أصحابه المضطهدين في مكة بالهجرة إلى المدينة . ورغم رقابتهم استطاع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يرتب لقاءه بالأنصار سراً ، وجعله في بيت عبد المطلب في منى ، وواعدهم في وقت نوم الحجاج : « فخرجوا في ثلث الليل الأول متسللين من رحالهم إلى العقبة »
--------------------------- 482 ---------------------------
ولا بد أنه رتب حراسةً عند مدخل الشعب ومدخل الدار .
قال في إعلام الورى : 1 / 143 : « فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صاح بهم إبليس : يا معشر قريش والعرب ، هذا محمد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم ! فأسمع أهل منى فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح ! وسمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) النداء فقال للأنصار : تفرقوا ، فقالوا : يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم . فقالوا : يا رسول الله فتخرج معنا ؟ قال : أنتظرأمرالله .
فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح ، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فلما نظروا إلى حمزة قالوا : ما هذا الذي اجتمعتم عليه ؟ قال : ما اجتمعنا وما هاهنا أحد ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلا ضربته بسيفي !
فرجعوا وغدوا إلى عبد الله بن أبيّ وقالوا له : قد بلغنا أن قومك بايعوا محمداً على حربنا ! فحلف لهم عبد الله أنهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، وأنهم لم يطلعوه على أمرهم ، فصدقوه . وتفرقت الأنصار ورجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى مكة » .
أقول : مضافاً إلى نداء إبليس ، فقد تكون قريش عرفت خبر بيعة الأنصار من جواسيسها ، أو من تحركات الأنصار . أما امتناعها عن مواجهة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فسببه أنها تعرف من هو حمزة وعليٌّ وبنو هاشم ، فلم تجرؤ على فتح معركة معهم ، خاصة أنها في موسم الحج والأشهر الحرم !
لكن زعماء قريش واصلوا اجتماعاتهم بقية الشهر ، حتى قرروا بالإجماع قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد انتهاء الأشهر الحرم ، وعينوا الأشخاص من القبائل للتنفيذ .

  • *
    --------------------------- 483 ---------------------------

الفصل السادس والعشرون

خطة قريش المبرمة لقتل النبي « صلى الله عليه وآله »

1 - قريش تستنفر لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد بيعة الأنصار

أ . بعد الحج شاع خبر بيعة العقبة ، فثارت قريش على الأنصار ! ففي المناقب : 1 / 158 : « نفر الناس من منى وفشى الخبر ، فخرجوا في الطلب فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو ، فأما المنذر فأعجز القوم ، وأما سعد فأخذوه وربطوه بنسع رحله وأدخلوه مكة يضربونه ، فبلغ خبره إلى جبير بن مطعم ، والحرث بن حرب بن أمية ، فأتياه وخلصاه » . المناقب : 1 / 158 .
وفي سيرة ابن هشام : 2 / 306 : « فلما بايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب « المنازل » هل لكم في مذمم والصباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم . قال فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هذا أَزَبُّ العقبة ، أتسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إرفَضُّوا إلى رحالكم . . قال : فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا : يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم ، منكم . قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شئ وما علمناه . قال : وقد صدقوا لم يعلموه . أتوا عبد الله ابن أبي ابن سلول فقالوا له مثل ما قال كعب من القول » . ونحوه الطبري : 2 / 95 .
--------------------------- 484 ---------------------------
وفي أمالي الطوسي / 176 ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « تمثل إبليس لعنه الله في أربع صور : تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال لقريش : وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيئٌ مِنْكُمْ . . وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى : إن محمداً والصباة معه عند العقبة فأدركوهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للأنصار : لا تخافوا فإن صوته لن يعدوهم .
وتصور يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد ، وأشار عليهم في النبي ( صلى الله عليه وآله ) بما أشار فأنزل الله تعالى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . وتصور يوم قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في صورة المغيرة بن شعبة فقال : أيها الناس لا تجعلوها كسروانية ولا قيصرانية ، وسِّعوها تتسع ، فلا تردوها في بني هاشم ، فتنتظر بها الحبالى » !
ب . وتواصلت مشاورات قريش بقية محرم وصفر ، حتى كانت جلستهم الشهيرة في أواخر صفر ، وقرروا فيها قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعينوا المنفذين ووقت التنفيذ .
ففي تفسير القمي : 1 / 273 : « فرجعوا إلى مكة وقالوا : لا نأمن من أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد ، فاجتمعوا في الندوة وكان لا يدخل دار الندوة إلا من قد أتى عليه أربعون سنة ، فدخلوا أربعون رجلاً من مشايخ قريش ، وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البوَّاب : من أنت ؟ فقال أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم مني رأي صائب ، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل ، فجئت لأشير عليكم ، فقال الرجل : أدخل فدخل إبليس !
فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل : يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعزّ منا ، نحن أهل الله تغدو الينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا ، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع ، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته ، حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ، ادعى أنه رسول الله وأن أخبار السماء تأتيه ، فسفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا ، وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار ، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا ! وقد رأيتُ فيه
--------------------------- 485 ---------------------------
رأياً . قالوا : وما رأيت ؟ قال : رأيت أن ندس إليه رجلاً منا ليقتله ، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشرديات ، فقال الخبيث : هذا رأي خبيث ! قالوا وكيف ذلك ؟ قال : لأن قاتل محمد مقتول لا محالة ، فمن ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم ؟ فإنه إذا قتل محمد تغضب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض ، فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا .
فقال آخر منهم : فعندي رأي آخر قالوا : وما هو ؟ قال نثبته في بيت ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس ، فقال إبليس : هذا أخبث من الآخر ! قالوا : وكيف ذلك ؟ قال لأن بني هاشم لا ترضى بذلك ، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه ! قال آخر منهم : لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ نحن لعبادة آلهتنا .
قال إبليس : هذا أخبث من الرأيين المتقدمين ! قالوا : وكيف ذاك ؟ قال : لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً وأنطق الناس لساناً وأفصحهم لهجة ، فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه ، فلا يفجأكم إلا وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً ! فبقوا حائرين ثم قالوا لإبليس : فما الرأي فيه يا شيخ ؟ قال : ما فيه إلا رأي واحد . قالوا وما هو ؟ قال يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد ، ويكون معهم من بني هاشم رجل ، فيأخذون سكيناً أو حديدة أو سيفاً ، فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة ، حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه ، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم ثلاث ديات ! فقالوا : نعم وعشر ديات .
ثم قالوا : الرأي رأي الشيخ النجدي ! فاجتمعوا ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي ، ونزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك ، وأنزل عليه في ذلك : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
--------------------------- 486 ---------------------------
واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه ، وخرجوا إلى المسجد يُصَفِّرون ويُصفِّقون ويطوفون بالبيت ، فأنزل الله : وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . فالمكاء التصفير ، والتصدية صفق اليدين ، وهذه الآية معطوفة على قوله : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وقد كتبت بعد آيات كثيرة .
فلما أمسى رسول الله جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب : لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل ، فإن في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة . فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه ، فناموا حول حجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
قال في الصحيح من السيرة : 4 / 8 : « إن أولئك القوم الذين انتدبتهم قريش اجتمعوا على باب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو باب عبد المطلب على ما في بعض الروايات ، يرصدونه يريدون بياته ، وفيهم : الحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، وأبو لهب ، وأبو جهل ، وأبو الغيطلة ، وطعمة بن عدي ، وأبي بن خلف ، وخالد بن الوليد ، وعتبة ، وشيبة ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ، ومنبه ابنا الحجاج » .
أقول : أين كان الذين ادعوا لهم البطولة ، وأن الإسلام عز بهم كعمر وسعد وأبي بكر وطلحة ؟ ! تراهم يغيبون في الشدائد ويظهرون في الرخاء ؟ !
ج - . قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه : المواجهة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) / 181 : « في دار الندوة ، اتفقت زعامة البطون على قتل النبي ووضعت خطة القتل ، وتطرقت لأدق التفاصيل ! ومهمة الفتية الذين تم اختيارهم من كل البطون تتلخص بتنفيذ خطة الجريمة ، وتقضي الخطة بمراقبة البيت المبارك الذي يقيم فيه حتى إذا ما خيم الظلام وهجع السامر ، زحف فتية البطون بعزم وهدوء وطوقوا البيت المبارك ، فإن خرج النبي خلال فترة التطويق انقضوا عليه بسيوفهم وضربوه ضربة واحدة ، وإن لم يخرج خلال مدة معقولة ، دخلوا عليه البيت جميعاً وضربوه وهو نائم ضربة رجل واحد !
وقرار زعامة البطون واضح بأن تلك الليلة يتوجب أن تكون آخر ليالي محمد من الحياة ، فالأمور مرتبة ترتيباً محكماً ، ولا طاقة لبني هاشم على مواجهة البطون خاصة بعد موت سيدهم وعميدهم شيخ البطاح أبي طالب .
--------------------------- 487 ---------------------------
كل شئ جهزته البطون لتنفيذ الجريمة وبأعصاب هادئة ، مع أن محمداً من قريش ومع أن الهاشميين بنو عمومتهم ، ولكن عندما يتمكن الحقد من النفوس فإنها تبور ولا شئ يصلحها .
هيأ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) نفسه للهجرة والخروج من مكة ، وكلف ولي عهده والإمام من بعده علي بن أبي طالب ، أن يتدثر ببرد النبي الحضرمي الأخضر ، وأن ينام في فراش النبي ، ليوهم المتآمرين القتلة أن النائم هو النبي وليس علياً فينشغلوا عنه . وكلف النبي ولي عهده أيضاً أن يتولى تأدية الأمانات الموجودة عند الرسول إلى أهلها ، وبعد أن يفعل ذلك يحمل أهل النبي ، ويتبعه مهاجراً إلى المدينة المنورة .
وبعد أن رتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) أموره ودَّعَ ولي عهده وأهل بيته وخرج مهاجراً .
شاهد النبي المتآمرين القتلة يحيطون بالبيت المبارك إحاطة السوار بالمعصم ، ويطوقونه تطويقاً كاملاً ، بحيث يتعذر الدخول أو الخروج من البيت !
وقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقرأ : يَس . وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ . . . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ .
وطال انتظار المتآمرين ولم يخرج النبي وبدأت الوساوس تعمل في صدورهم ! لقد انبلج الفجر ولاحت الدنيا ، ومن المستحيل أن يتأخر خروج محمد إلى هذا الحد ، واقتحموا بيت النبي ودخلوا الحجرة المقدسة ، واقتربوا من فراش النبي وكشفوا الغطاء ، فإذا النائم بفراش النبي علي وليس محمداً ! فهاج القتلة وسألوا علياً عن النبي فقال لهم علي بهدوء المؤمن ورباطة جأشه : « قلتم له أخرج عنا فخرج عنكم » !
أحيطت زعامة بطون قريش علماً بما حدث ، فهاجت وماجت وجن جنونها ، فأطلقت فرسانها ورجالها ليبحثوا عن محمد وليعودوا به حياً أو ميتاً ، وخصصت جائزة كبرى مقدارها مائة ناقة لمن يقبض على محمد ، وبذلت زعامة بطون قريش كل وسعها للقبض على محمد ، ولكنها فشلت ولم تفلح ، حيث دخل النبي الغار وقضى فيه ثلاثة أيام ، حتى يئست زعامة البطون من العثور عليه ، وبعد ذلك شق طريقه بيمن الله ورعايته إلى عاصمة دولته المباركة » .
--------------------------- 488 ---------------------------

2 - مبيت علي ( ( ع ) ) في فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يفديه بنفسه

أ . اتفق الرواة على أن مندوبي قريش دخلوا البيت وهم شاهرون سيوفهم يتقدمهم خالد بن الوليد ، فتفاجؤوا بأن النائم مكانه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فنهض في وجههم وهو شاهر سيفه ، وتلاسنوا معه وأساء معه الكلام خالد ، فأمسك علي بيده وجذبه وعصر عضده ، فصاح خالد كالبَكر أي البعير الصغير ، ونزع علي سيف خالد ، فتدخل البقية وقالوا لعلي إنهم لا يريدون به شراً !
وقد روت حديث المبيت مصادرنا وبعضه مصادرهم . ففي أمالي الطوسي / 466 عن عمار وأبي رافع : « فخرج القوم عِزِين « متفرقين » وسبقهم بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل ، فتلا هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . فلما أخبره جبرئيل بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة ، دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفاً ، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي ، وأنه أوحى إليَّ ربي عز وجل أن أهجر دار قومي ، وأن انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي ، وأمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي ليخفى بمبيتك عليهم أثري ، فما أنت قائل وصانع ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : أوَتسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ؟ قال : نعم ، فتبسم علي ( عليه السلام ) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً بما أنبأه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من سلامته ، وكان علي ( عليه السلام ) أول من سجد لله شكراً ، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما رفع رأسه قال له : إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ، ومرني بما شئت أكن فيه بمسرتك ، واقعاً منه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلا بالله . قال ( صلى الله عليه وآله ) : وإنه ألقي عليك شبه مني ، فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي . ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه ، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل ، وقد امتحنك يا ابن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل « عليهم السلام » ، فصبراً صبراً فإن رحمة الله قريب من المحسنين . ثم ضمه النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى صدره وبكى إليه وجداً به ،
--------------------------- 489 ---------------------------
وبكى علي ( عليه السلام ) جشعاً لفراق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . ولبث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكانه مع علي يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين ، ثم خرج في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره ، ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين ، فخرج وهو يقرأ هذه الآية : وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ . وأخذ بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم فما شعر القوم به حتى تجاوزهم !
فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر ، أقبل القوم على علي ( عليه السلام ) يقذفونه بالحجارة والحلم « الأعواد » ولا يشكُّون أنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح ، هجموا على علي ( عليه السلام ) ، وكانت دور مكة يومئذ سوائب لا أبواب لها ، فلما بصر بهم علي ( عليه السلام ) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها ، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، وثب له علي ( عليه السلام ) فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر « يرفس كالفصيل » ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح ، وهم في عرج الدار « منعطفها » من خلفه ، وشد عليهم علي ( عليه السلام ) بسيفه يعني سيف خالد ، فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار ، فتبصروه فإذا هو علي ( عليه السلام ) ، فقالوا : إنك لعلي ؟ قال : أنا علي . قالوا : فإنا لم نردك فما فعل صاحبك ؟ قال : لا علم لي به . وقد كان علم يعني علياً ( عليه السلام ) أن الله تعالى قد أنجى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار واختبائه فيه ، فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت في طلبه الصعب والذلول .
وأمهل علي ( عليه السلام ) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الغار ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين ، فقال أبو بكر : قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب . فقال : إني لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن . قال : فهي لك بذلك ، فأمر ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) فأقبضه الثمن ، ثم أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته .
وكانت قريش تدعو محمداً ( صلى الله عليه وآله ) في الجاهلية الأمين ، وكانت تستودعه
--------------------------- 490 ---------------------------
وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والأمر كذلك ، فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوةً وعشياً : ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة ، فليأت فلتؤد إليه أمانته .
وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) « أي كتب إلى علي » : إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليَّ ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً .
ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ، ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما ، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم .
قال أبو عبيدة : فقلت لعبيد الله ، يعني ابن أبي رافع : أوَكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يجد ما ينفقه هكذا ؟ فقال : إني سألت أبي عما سألتني وكان يحدث بهذا الحديث فقال : فأين يذهب بك عن مال خديجة « عليها السلام » ؟ وقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة . .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي وهو يوصيه : وإذا أبرمت ما أمرتك ، فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله ، وسر إليَّ لقدوم كتابي إليك ، ولا تلبث بعده .
وانطلق رسول الله لوجهه يؤم المدينة ، وكان مقامه في الغار ثلاثاً ، ومبيت علي على الفراش أول ليلة . قال عبيد الله بن أبي رافع : وقد قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) شعراً يذكر فيه مبيته على الفراش ومقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الغار ثلاثاً :
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصىججج * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجْرِ
محمدُ لما خاف أن يمكروا به * فوقَّاه ربي ذو الجلال من المكر
وبتُّ أراعيهم متى ينشرونني * ووطنت نفسي على القتل والأسرج
ويأت رسول الله في الغار آمناًج * هناك وفي حفظ الإله وفي ستر
أقام ثلاثاً ثم زمت قلائص * قلائص يفرين الحصا أينما تفري »
وفي إعلام الورى : 1 / 146 : « أجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمرهم ، فقال أبو لهب : بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه . فباتوا حول حجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يفرش له ، وقال لعلي بن أبي طالب : يا علي إفدني بنفسك . قال :
--------------------------- 491 ---------------------------
نعم يا رسول الله . قال : نم على فراشي والتحف ببردي . فنام ( عليه السلام ) على فراش رسول الله والتحف ببردته ، وجاء جبرئيل ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : أخرج والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعلي ( عليه السلام ) نائم عليه فيتوهمون أنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » !
وفي الخرائج : 1 / 143 : « فدعاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي ، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة ، فقد أمرني الله تعالى بذلك . فقلت له : السمع والطاعة ، فنمت على فراشه وفتح رسول الله الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول : وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ . ومضى وهم لا يرونه ، فرأى أبا بكر قد خرج في الليل يتجسس عن خبره ، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم فأخرجه معه إلى الغار . فلما طلع الفجر تواثبوا إلى الدار وهم يظنون أني محمد ، فوثبت في وجوههم وصحت بهم ، فقالوا : علي ! قلت : نعم . قالوا : وأين محمد ؟ قلت : خرج من بلدكم . قالوا : والى أين خرج ؟ قلت : الله أعلم فتركوني وخرجوا » .
وفي تفسير القمي : 1 / 275 : « وأمر رسول الله أن يفرش له ففرش له ، فقال لعلي بن أبي طالب : إفدني بنفسك ، قال نعم يا رسول الله . قال : نم على فراشي ، والتحف ببردتي ، فنام علي على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والتحف ببردته ، وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم : وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ . وقال له جبرئيل : خذ على طريق ثور وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور ، فدخل الغار وكان من أمره ما كان . فلما أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش ، فوثب عليٌّ في وجوههم فقال : ما شأنكم ؟ قالوا له أين محمد ؟ قال أجعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم !
فأقبلوا يضربون أبا لهب ويقولون أنت تخدعنا منذ الليلة ، فتفرقوا في الجبال ،
--------------------------- 492 ---------------------------
وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفو الآثار ، فقالوا له يا أبا كرز اليومَ اليوم ، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هذه قدم محمد والله إنها لأخت القدم التي في المقام ! وكان أبو بكر استقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرده معه فقال أبو كرز : وهذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه ، ثم قال : وهاهنا عبر ابن أبي قحافة . فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار ، ثم قال : ما جاوزا هذا المكان ! إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض . وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار ، وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال : ما في الغار واحد فتفرقوا في الشعاب وصرفهم الله عن رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ثم أذن لنبيه في الهجرة » . واليعقوبي : 2 / 39 .
ب . وروى الجميع حديث مباهاة الله تعالى لملائكته بفداء علي ( عليه السلام ) للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، ففي أمالي الطوسي / 469 : « قال أبو اليقظان : فحدثنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن معه بقباء عما أرادت قريش من المكر به ، ومبيت علي ( عليه السلام ) على فراشه ، قال : أوحى الله عز وجل إلى جبرئيل وميكائيل أني قد آخيت بينكما وجعلت عمر
--------------------------- 493 ---------------------------
أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه ؟ فكلاهما كرها الموت ، فأوحى الله إليهما : عبديَّ ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين نبيي فآثره بالحياة على نفسه ، ثم رقد على فراشه يفديه بمهجته ، إهبطا إلى الأرض كلاكما فاحفظاه من عدوه ، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله عز وجل يباهي بك الملائكة ! قال : فأنزل الله عز وجل في علي ( عليه السلام ) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ .
وفي المناقب : 1 / 339 : « الثعلبي في تفسيره ، وابن عقبة في ملحمته ، وأبو السعادات في فضايل العشرة ، والغزالي في الإحياء ، وفي كيمياء السعادة أيضاً ، برواياتهم عن أبي اليقظان . وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي الينا ، نحو ابن بابويه ، وابن شاذان ، والكليني ، والطوسي ، وابن عقدة ، والبرقي ، وابن فياض ، والعبدلي ، والصفواني ، والثقفي ، بأسانيدهم عن ابن عباس ، وأبي رافع ، وهند بن أبي هالة ، أنه قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه ؟ فكلاهما كره الموت فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمد نبيي ، فآثره بالحياة على نفسه ، ثم ظل بائتاً على فراشه يقيه بمهجته ! إهبطا إلى الأرض جميعاً فاحفظاه من عدوه . فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول : بخٍ بخٍ ، من مثلك يا ابن أبي طالب والله يباهي بك الملائكة ، فأنزل الله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ » . وشواهد التنزيل : 1 / 123 ، الثعلبي في تفسيره : 2 / 125 ، المسترشد لابن جرير الطبري / 360 والصراط المستقيم : 1 / 173 ، أسد الغابة : 4 / 25 ، الفضائل لابن عقدة / 179 ، كشف اليقين / 89 ، الصراط المستقيم : 1 / 173 ، الصحيح من السيرة : 4 / 32 ، أمالي الطوسي / 468 ، العمدة / 239 ، الطرائف / 37 ، سعد السعود / 216 ، خصائص الوحي المبين / 120 ، الجواهر السنية / 307 والمراجعات / 216 .
ج - . وذكر علي ( عليه السلام ) في مناسبات هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومبيته في فراشه يفديه بنفسه ، وروى الصدوق في الخصال / 365 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن حاخام اليهود الأكبر أتى علياً ( عليه السلام ) فقال : « يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ! قال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ؟ قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده ، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم . فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء ، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟ . . فقال : يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني في حياء نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي ، بنعمة الله له مطيعاً .
قال : فيمَ وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : أما أولاهن . . . وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها
--------------------------- 494 ---------------------------
على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ، ثم يأتي النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها ، فيمضي دمه هدراً ! فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأنبأه بذلك ، وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً بأن أقتل دونه ، فمضى ( صلى الله عليه وآله ) لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله » .

آية مبيت علي ( ( ع ) ) على فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 - أنزل الله في علي ( عليه السلام ) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ . ففي تفسير العياشي : 1 / 101 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « فإنها أنزلت في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حين بذل نفسه لله ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ليلة اضطجع على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . وأمالي الطوسي / 446 و 469 ، عن علي بن الحسين ( ( ع ) ) ، وشواهد التنزيل : 1 / 123 ، 129 و 130 ، عن أبي سعيد الخدري . والإرشاد : 1 / 53 ، والمسترشد / 360 ، الصراط المستقيم : 1 / 173 ، مناقب الخوارزمي / 127 ، منهاج الكرامة / 122 ، الخصال : 2 / 364 ، أمالي الطوسي / 446 ، التعجب للكراجكي / 122 وشرح الأخبار : 2 / 345 .
2 - ضاقت السلطة ذرعاً بنزول الآية في علي ( عليه السلام ) ، فقال رواتها نزلت في صهيب الرومي ، لأن المشركين قبضوا عليه ومنعوه من الهجرة ، فبذل لهم ماله فنزلت فيه الآية ! وتقدم أن صهيباً من قبيلة نمر بن قاسط ، وعرف بالرومي لأن الروم أسروه وباعوه عبداً . وكان محباً لعمر . راجع : أسباب النزول للواحدي / 39
ومجمع الزوائد : 6 / 318 .
ثم قالوا إن الآية لاتخص علياً ، بل تعم المهاجرين والأنصار ! عبد الرزاق : 1 / 81 .
--------------------------- 495 ---------------------------
ثم قالوا : اختلف أهل التأويل فيمن نزلت ، فقال بعضهم في المهاجرين والأنصار ، وقال بعضهم في من باع نفسه في الجهاد واستقتل ، وقال بعضهم في رجال من المهاجرين بأعيانهم منهم علي ، ثم رجح الطبري أنها نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، كما قال عمر . تفسير الطبري : 2 / 437 .
وذكر الفخر الرازي : 5 / 233 ، في سبب نزولها أقوالاً ، أحدها في صهيب ، وعمار وبلال وغيرهم ، والثاني : في من أمر بمعروف ونهى عن منكر . والثالث : « نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ليلة خروجه إلى الغار ، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة . ونزلت الآية » .
أما الحاكم : 3 / 4 فصحح مضمونها ، ولم يذكر الآية ! قال : « عن ابن عباس قال : شرى عليٌّ نفسه ولبس ثوب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألبسه بردة ، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجعلوا يرمون علياً ويرونه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد لبس بردة ، وجعل علي يتضوَّر « يظهر الضجر من الحصى الذي يصيبه » فإذا هو علي ، فقالوا إنك للئيم ، إنك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه منك . . » ثم روى عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : « إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي بن أبي طالب وقال علي عند مبيته على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . وذكر أبيات علي ( عليه السلام ) » . ونسج على منوال الحاكم بعض علمائهم ، كالصالحي في سبل الهدى : 3 / 233 .
وأنصف بعضهم كالمقريزي ، فقال في الإمتاع : 1 / 57 : « فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه . فلما رآهم ( صلى الله عليه وآله ) أمر علياً بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الحضرمي الأخضر ، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك . فقام علي مقامه وغطي ببرد أخضر ، فكان أول من شرى نفسه وفيه نزلت : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ . وخرج ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ حفنة من تراب وجعله على رؤوسهم وهو يتلو
--------------------------- 496 ---------------------------
الآيات من : يس وَالْقٌرْآنِ الحَكِيم . . إلى قوله : فهم لا يبصرون ، فطمس الله تعالى أبصارهم فلم يروه وانصرف . وهم ينظرون علياً فيقولون إن محمداً لنائم » .
وبهذا ترى عمل السلطة لإبعاد الآية عن علي ( عليه السلام ) ، بل رووا أن معاوية بذل مالاً لصحابي ليجعل الآية في ابن ملجم ويجعل آية أخرى في علي ( عليه السلام ) !
« قال أبو جعفر الإسكافي : وروي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَأَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعىَ فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ . « البقرة / 204 - 205 » وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ . فلم يقبل ، فبذل له مأتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل أربعمائة فقبل ! وقال : إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي فاختلقوا ما أرضاه ! منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير » .
شرح النهج : 4 / 73 والغارات : 2 / 840 .
3 - وأنكر بعض النواصب نزول الآية في علي ( عليه السلام ) ، وحديث أن الله باهى به الملائكة ولو استطاع أن ينكر مبيته في فراش النبي ( صلى الله عليه وآله ) لفعله ! لكنه قال إنه لافضيلة لعلي فيه لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بأنه لا يصيبهم منهم مكروه ! مع أن ذلك كان في رسالة النبي ( صلى الله عليه وآله ) له من المدينة بعد مبيته على فراشه !
فعندما ساق أبو واقد يسوق بعائلة النبي ( صلى الله عليه وآله ) سوقاً عنيفاً في الهجرة ، قال له علي ( عليه السلام ) : « إرفق بالنسوة يا أبا واقد ، إنهن من الضعائف . قال : إني أخاف أن يدركنا الطلب ! فقال علي ( عليه السلام ) : إربع عليك فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لي : يا علي ، إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه ، ثم جعل يسوق بهن سوقاً رفيقاً » . أمالي الطوسي / 469 وراجع : نفحات الأزهار : 17 / 211 والغدير : 2 / 47 .
وقال في الصحيح من السيرة : 4 / 17 ، 32 و 251 : « أنكر ابن تيمية على عادته في إنكار فضائل أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) وقال : كذبٌ باتفاق أهل العلم بالحديث والسير . وأيضاً
--------------------------- 497 ---------------------------
قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له : لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم ، فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة ، والآية المذكورة في سورة البقرة ، وهي مدنية باتفاق ، وقد قيل إنها نزلت في صهيب لما هاجر » .
ثم رد صاحب الصحيح مكذوبات ابن تيمية وغيره من النواصب .

  • *
    --------------------------- 498 ---------------------------

الفصل السابع والعشرون

هجرة النبي « صلى الله عليه وآله » إلى المدينة

1 - أحكمت قريش خطتها لقتله فنصره الله

أ - اتفقت المصادر على أن آية الهجرة : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ . . ففي تفسير القمي : 1 / 275 : « ونزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك ، وأنزل عليه في ذلك : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ » .
وفي تفسير العياشي : 2 / 53 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه ، ويُخرجوا من كل بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعاً عند الكعبة . ثم قرأ : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ . . الآية » .
وفي أمالي الطوسي / 445 ، عن ابن عباس قال : « فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم جلوس على الباب عددهم خمسة وعشرون رجلاً ، فأخذ حفنة من البطحاء ثم جعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ : يس والقرآن الحكيم ، حتى بلغ : فأغْشَيْنَاهم فَهُمْ لايُبصرون . . فقال لهم قائل : ما تنظرون قد والله خبتم وخسرتم ، والله لقد مر بكم وما منكم رجل إلا وقد جعل على رأسه تراباً ! فقالوا : والله ما أبصرناه » !
وفي الدر المنثور : 3 / 179 : « فأطلع الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) على ذلك ، فبات عليٌّ ( عليه السلام ) على فراش النبي » . وسيرة ابن هشام : 2 / 334 وعامة المصادر .
--------------------------- 499 ---------------------------
قال المفيد في مسارِّ الشيعة / 48 : « شهر ربيع الأول : أول ليلة منه هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى المدينة سنة ثلاث عشرة من مبعثه ، وكانت ليلة الخميس . وهي ليلة فيها عظيم الفخر لمولى المؤمنين بما يوجب مسرة أوليائه المخلصين .
وفي صبيحة هذه الليلة صار المشركون إلى باب الغار عند ارتفاع النهار لطلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فستره الله تعالى عنهم ، وقلق أبو بكر بن أبي قحافة وكان معه في الغار بمصيرهم إلى بابه ، وظن أنهم سيدركونه فحزن لذلك وجزع ، فسكَّنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورفق به وقوَّى نفسه بما وعده من النجاة منهم ، وتمام الهجرة له .
وهذا اليوم يتجدد فيه سرور الشيعة بنجاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أعدائه ، وما أظهره الله تعالى من آياته ، وما أيده به من نصره . وفي الليلة الرابعة منه كان خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الغار متوجهاً إلى المدينة ، فأقام بالغار وهو في جبل عظيم خارج مكة غير بعيد منها ، اسمه ثَوْر ، ثلاثة أيام وثلاث ليال ، وسار منه فوصل المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ، عند زوال الشمس » .
أقول : وقعت الهجرة في أول السنة الرابعة عشرة من بعثته ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن بيعة العقبة كانت في موسم الثالثة عشرة ، وهجرته ( صلى الله عليه وآله ) بعد انتهاء الموسم ودخول الرابعة عشرة . وقد تسامحوا في ذلك ، كما تسامحوا في عد السنة الأولى من بعثته ( صلى الله عليه وآله ) كاملة ، وقد بعث في وسطها في شهر رجب .

2 - استنفرت قريش في طلب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

أ . قال اليعقوبي : 2 / 39 : « فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه ، وأعمى الله عليهم المواضع ، فوقفوا على باب الغار وقد عششت عليه حمامة ، فقالوا : ما في هذا الغار أحد وانصرفوا . وخرج رسول الله متوجهاً إلى المدينة ، ومرَّ بأم معبد الخزاعية فنزل عندها ، ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة . وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه » .
--------------------------- 500 ---------------------------
وفي إعلام الورى : 1 / 148 : « وأقبل راع لبعض قريش يقال له : ابن أريقط فدعاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : يا ابن أريقط أأتمنك على دمي ؟ قال : إذن والله أحرسك وأحفظك ولا أدل عليك ، فأين تريد يا محمد ؟ قال : يثرب . قال : والله لأسلكن بك مسلكاً لا يهتدي فيه أحد ! قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إئت علياً وبشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فيهيئ لي زاداً وراحلة . . وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال ، فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديد ، فنزلوا على أم معبد هناك » .
وسيأتي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي أحضر ابن أريقط .
ب . يسأل البعض : ما دام الله تعالى أظهر معجزة تعشيش الحمامة ونسج العنكبوت فلماذا لم ينقل نبيه إلى المدينة بمعجزة كما أسرى به إلى القدس في دقائق ، وعرج به إلى السماوات في دقائق أو بلمح البصر ؟ !
والجواب : أنه تعالى على كل شئ قدير ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) عنده الاسم الأعظم ، لكنه يعمل بالأسباب الطبيعية ولا يطلب من ربه المعجزة إلا أن يأمره .
قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « هكذا قالت قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء « عليهم السلام » من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة ، من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً ؟ ! وذلك حين هاجر منها . ثم قال ( عليه السلام ) : جهلوا والله أمرالله وأمر أوليائه معه ! إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه ، وترك الاقتراح عليه والرضا بما يدبرهم به . إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لمَّا يساوهم فيه غيرهم ، فجازاهم الله عز وجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم ، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم » ! أمالي الصدوق / 539 .

3 - رفقاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الهجرة

أ . المشهور أن رفقاءه ( صلى الله عليه وآله ) في هجرته : أبو بكر ، وعبد الله بن أريقط ، وعامر بن فهيرة ، وهناك رأي بأن أبا بكر لم يكن مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الغار ، وقد حاول الباحث الشيخ نجاح الطائي أن يثبت ذلك ، فتحامل عليه أتباع أبي بكر ، وأثاروا ضده ضجة لأنه خالف المتفق
--------------------------- 501 ---------------------------
عليه عند المذاهب السنية ، والمسكوت عنه في مذهبنا ، ولا يتسع المجال لهذا البحث .
وفي شرح الأخبار : 1 / 259 : « مضى نحو الغار وقد واعد أبا بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط ، ليمضوا معه إلى المدينة وما يحتاج إليه ويدلوه على الطريق » .
وفي المناقب : 1 / 142 : « أبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي » .
ب . قالوا إن عبد الله بن أريقط اسستأجره أبو بكر دليلاً وإنه لم يكن مسلماً ، والصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) استأجره وكان يعرفه ويثق به قبل الهجرة ، فقد أرسله عندما رجع من الطائف إلى زعماء قريش . النهاية : 3 / 168 وسبل السلام : 2 / 440 .
وفي الخرائج : 1 / 145 ، في حديث عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن ابن الأريقط أسلم يومها أو ازداد إيماناً ، قال : « وافى ابن الأريقط بأغنام يرعاها إلى باب الغار وقت الليل يريد مكة بالغنم ، فدعاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أفيك مساعدة لنا ؟ قال : إي والله ، فوالله ما جعل الله هذه القبجة على باب الغار حاضنة لبيضها ، ولا نسج العنكبوت عليه إلا وأنت صادق ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : الحمد لله على هدايتك ، فصرالآن إلى علي فعرفه موضعنا ، ومُرَّ بالغنم إلى أهلها إذا نام الناس ، ومُرَّ إلى عبد أبي بكر . فصار ابن الأريقط إلى مكة وفعل ما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأتى علياً وعبد أبي بكر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أعدَّ لنا يا أبا الحسن راحلة وزاداً وابعثها إلينا ، وأصلح ما تحتاج إليه لحمل والدتك وفاطمة والحقنا بهما إلى يثرب . وقال أبو بكر لعبده مثله ، ففعلا ذلك ، فأردف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ابن الأريقط ، وأبو بكر عبده » .
وذكر بعضهم أن ابن أريقط عدوي حليف العاص بن وائل السهمي « المحبر / 190 » والصحيح أنه من جهينة محل ثقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان عيناً له على المشركين في بدر ، قال الثعلبي في « تفسيره : 4 / 330 » ، في خبر بدر : « وبعث رسول الله أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى ابن الأريقط ، فأتاه بخبر القوم » . والطبري : 9 / 247 ، البغوي : 2 / 232 . وسماه في الدرر / 80 ، ابن أرقط وفي أحكام القرآن : 2 / 512 .
--------------------------- 502 ---------------------------
ج . وأما عامر بن فهيرة فقالوا إنه غلام أسود سبق إلى الإسلام ، فاشتراه أبو بكر وأعتقه إشفاقاً عليه من التعذيب . والصحيح أن الحارث بن سخبرة الأزدي قدم مكة وزوجته أم رومان الكنانية ، وتحالف مع أبي بكر ، وزوَّج عبده فهيرة من سوداء ، فولدت عامر بن فهيرة . وأسلم عامر ومولاه الحارث قبل أبي بكر ، ثم مات الحارث فورثه ابنه الطفيل وهو صغير ، وتزوج أبو بكر أمه أم رومان ، فولدت له عبد الرحمن وعائشة ، فهما أخوا الطفيل من أمه . بخاري : 5 / 43 ، الطبقات : 8 / 278 وطبقات خليفة / 48 .
وقالوا كان عامر بن فهيرة يُعَذَّب ، ولم يذكروا من عذبه ، فمولاه الحارث مسلم وقد مات ، وابنه الطفيل صغير ! تهذيب التهذيب : 5 / 69 .
وقال في الصحيح من السيرة : 3 / 90 إن ابن إسحاق والواقدي قالا إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) اشتراه مع بلال وأعتقهما وليس أبا بكر . ومعناه أن علاقته بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت قوية .
وقد استشهد ابن فهيرة في بئر معونة في السنة الرابعة « الإستيعاب : 2 / 797 » فروى رواة السلطة حوله أساطير لتعظيم أبي بكر وقالوا إنهم رأوه رفع إلى السماء ! « راجع : صحيح بخاري : 5 / 44 » . أما بلال وهو أفضل منه فلا يمدحونه لأنه كتب مع عدد من الصحابة من الشام إلى عمر معترضين على معاوية ، فماتوا !
« دعا عليهم « عمر » على المنبر فقال : اللهم اكفني بلالاً وأصحابه ! فما حال الحول وفيهم عين تطرف أي ماتوا جميعاً » ! « مبسوط السرخسي : 10 / 16 والبيهقي : 9 / 138 » . وأشاعوا أنهم ماتوا بالطاعون ، لكن يظهرأنهم ماتوا بسم معاوية !
د - رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومن معه كانوا أربعة أشخاص ، على بعيرين ، وأنهم ترادفوا أو تعاقبوا . والتعاقب أن يركب الشخص مرحلة ثم ينزل فيركب صاحبه ، والترادف أن يركبا معاً . ففي الدرر / 80 : « فركبا الراحلتين ، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة » . « ونحوه الحاكم 3 / 8 » . وهو يشير إلى أن ابن أريقط كان يتعاقب مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولايركب خلفه احتراماً له . وفي الخرائج : 1 / 145 : « فأردف رسول الله ابن الأريقط » . ولعله تعبير عن تعاقبه .
لكن الصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هاجر على ناقته القصواء ، واشترى بعيراً من أبي بكر
--------------------------- 503 ---------------------------
لدليله ابن أريقط ، فمات البعيرفاستأجر له بعيراً آخر . وهاجر أبو بكر على بعيره ، وكان يتعاقب عليه مع ابن فهيرة . فتكون الرواحل ثلاثاً .
ففي الكافي : 8 / 339 ، عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال : « ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم عليه علي ( عليه السلام ) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي ( عليه السلام ) معه ، يوم الجمعة مع طلوع الشمس فخط لهم مسجداً ، ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين ، ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها » .
قال ابن هشام : 2 / 336 : « فلما قرَّب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ثم قال : إركب فداك أبي وأمي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إني لا أركب بعيراً ليس لي ، قال : فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي . قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟ قال : كذا وكذا ، قال : قد أخذتها به . قال : هي لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا وأردف أبوبكرالصديق عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق » .
وفي صحيح بخاري : 7 / 39 : « فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين . قال : النبي : بالثمن » . وفي مقدمة فتح الباري / 300 : « وفي سيرة عبد الغني وغيره أن الثمن كان أربع مائة درهم ، وعند الواقدي أنه ثمان مائة » .
ونلاحظ أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرعلياً ( عليه السلام ) أن يفديه بنفسه ، ثم لم يقبل من أبي بكر بعيراً إلا بثمنه ، فكيف يزعمون أنه كان ينفق عليه ! وفي فتح الباري : 7 / 183 : « سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله ؟ فقال : أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه » !
لكن البعير الذي اشتراه النبي ( صلى الله عليه وآله ) من أبي بكر مات في الطريق : « وقف عليهم بعض ظهرهم ، وفي بعضها : أعيا » . جوامع السير / 93 وأسد الغابة : 1 / 147 و 3 / 10 .
قال ابن هشام : 2 / 340 : « فحمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة وبعث معه غلاماً له يقال له مسعود بن هنيدة « ليرد الجمل كما صرح في الدرر » ثم خرج بهما دليلهما من العرج ، فسلك بهما ثنية الغائر عن يمين رَكوبة . حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قباء على بني
--------------------------- 504 ---------------------------
عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل » . الصحيح : 4 / 216 ، مناقب ابن سليمان : 1 / 364 والدرر / 37 .

4 - سراقة بن جشعم يحاول قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو أسره

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي 8 / 263 » : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما خرج من الغار متوجهاً إلى المدينة وقد كانت قريش جعلت لمن أخذه مائة من الإبل ، فخرج سراقة بن مالك بن جعشم فيمن يطلب ، فلحق برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم اكفني شر سراقة بما شئت ، فساخت قوائم فرسه ! فثنى رجله ثم اشتدَّ « جاء ماشياً راكضاً » فقال : يا محمد إني علمت أن الذي أصاب قوائم فرسي إنما هو من قبلك ، فادع الله أن يطلق لي فرسي ، فلعمري إن لم يصبكم مني خير لم يصبكم مني شر ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأطلق الله عز وجل فرسه ، فعاد في طلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى فعل ذلك ثلاث مرات ! كل ذلك يدعو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتأخذ الأرض قوائم فرسه ! فلما أطلقه في الثالثة قال : يا محمد هذه إبلي بين يديك فيها غلامي ، فإن احتجت إلى ظهر أو لبن فخذ منه ، وهذا سهم من كنانتي علامة ، وأنا أرجع فأرد عنك الطلب ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : لا حاجة لنا فيما عندك » .
ونحوه الثاقب / 145 ، عن ابن عباس ، وفيه : « كان سراقة بن جعشم المدلجي قريباً من قريش في ناحية مكة فأتاه رجل فقال : يا سراقة لقد رأيت ركباناً ثلاثة قد مروا فقال سراقة : ينبغي أن يكون هذا محمد ، لأتخذن عند قريش يداً ! فركب فرسه وأخذ رمحه ، وكانت قريش قد بعثت الرجال في كل طريق » . والمناقب : 1 / 64 ، عن ابن إسحاق ، وفيه : « وأتبعه دخان حتى استغاثه ، فانطلق الفرس » .
فعذله أبو جهل « أي لم يصدقه » وقال سراقة :
أبا حكمٍ واللات لو كنت شاهداً * لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمُهْ
عجبت ولم تشكك بأن محمداً * نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
عليك فكف الناس عنه فإنني * أرى أمره يوماً سيبدو معالمه »
وروى اليعقوبي : 2 / 40 ، البيتين الأولين منها . وابن هشام : 2 / 338 ، برواية مطولة والدرر لابن
--------------------------- 505 ---------------------------
عبد البر / 81 وروى في قرب الإسناد / 379 ، بسند صحيح أن قريشاً أرسلت سراقة في طلب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي الخرائج : 1 / 145 ، والثاقب في المناقب / 109 وغيرهما : « فلما قرب قال ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم خذه ، فارتطم فرسه في الأرض فصاح : يا محمد خلص فرسي ، لا سعيت لك في مكروه بعدها ، وعلم أن ذلك بدعاء محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال : اللهم إن كان صادقاً فخلصه فوثب الفرس . فقال : يا أبا القاسم ستمر برعاتي وعبيدي فخذ سوطي ، فكل من تمرُّ به خذ ما شئت فقد حكمتك في مالي . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : لا حاجة لي في مالك . قال : فسلني حاجة . قال ( صلى الله عليه وآله ) : رد عنا من يطلبنا من قريش . فانصرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم : انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمر فيه أحد ، وأنا أكفيكم هذا الطريق ، فعليكم بطريق اليمن والطائف » . وكان سراقة من زعماء بني مدلج من كنانة . الطبري : 2 / 138 .
وبنو مدلج مزارعون في بطن ينبع . المناقب : 1 / 161 والمحبر / 110 .
وكان سراقة كبقية زعماء كنانة حليفاً لقريش ، وقد تصور الشيطان بصورته في بدر ! المناقب : 1 / 163 ومغازي الواقدي / 38 .
ولم يُسلم سراقة مع أنه رأى هذه المعجزة ، ونجَّاه الله بدعاء رسوله ( صلى الله عليه وآله ) من الخسف ! وزعم أنه أسلم بعد ثمان سنين ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان كتب له كتاباً ! قال : « حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفرغ من حنين والطائف ، خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة ، قال : فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار . قال : فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون : إليك إليك ما تريد ؟ قال : فدنوت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو على ناقته والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة « لب النخل من جمالها » قال : فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت : يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن جعشم . قال : فقال رسول الله : يوم وفاء وبر ، أدنه ، قال : فدنوت منه فأسلمت » . سيرة ابن هشام : 2 / 338 .
وكان عمر يحب سراقة ، وأعطاه من غنائم فارس سوارين من كنز كسرى
--------------------------- 506 ---------------------------
وبرروا فعل عمر بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نظر إلى ذراعي سراقة وقال : « كأني بك وقد لبست سواري كسرى » ! « أم الشافعي : 4 / 165 » . وكل هذا لأن سراقة حليف للطلقاء !

5 - لماذا أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر معه

1 . قال في الصحيح من السيرة : 4 / 212 : « لعل الصحيح هو الرواية التي تقول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد لقي أبا بكر في الطريق ، وكان أبو بكر قد خرج ليتنسم الأخبار ، وربما يكون استصحبه معه لكيلا يسأله سائل إن كان قد رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيقر لهم بأنه رآه ثم يدلهم على الطريق التي سلكها ، خوفاً من أن يتعرض لأذاهم » .
وفي شواهد التنزيل : 1 / 127 ، عن ابن عباس : « أنام رسول الله علياً على فراشه ليلة انطلق إلى الغار ، فجاء أبو بكر يطلب رسول الله فأخبره علي أنه قد انطلق فاتبعه » .
وفي الخرائج : 1 / 144 : « قال علي ( عليه السلام ) : فدعاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي ، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة فقد أمرني الله تعالى بذلك . فقلت له : السمع والطاعة ، فنمت على فراشه وفتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول : وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ . « يس 9 » . ومضى وهم لا يرونه ، فرأى أبا بكر قد خرج في الليل يتجسس عن خبره ، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم ، فأخرجه معه إلى الغار » .

بكى أبو بكر لما جاء سُراقة !

في صحيح بخاري : 4 / 190 ومسند أحمد : 1 / 3 ، من حديث عن أبي بكر قال : « فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم ، على فرس له ، فقلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ، فقال : لا تحزن إن الله معنا حتى إذا دنا منا ، فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قال قلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت ! قال : لم تبكي ؟ قال : قلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك ! قال : فدعا عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : اللهم اكفناه بما شئت ، فساخت قوائم
--------------------------- 507 ---------------------------
فرسه إلى بطنها في أرض صلد ! ووثب عنها وقال : يا محمد قد علمت أن هذا عملك ، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب . » . والطبقات : 4 / 366 ، أبو يعلى : 1 / 107 ، ابن شيبة : 8 / 457 وعامة مصادرهم .
وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة : 1 / 338 : « فلما لحقهم سراقة بن مالك وهو رجل واحد بكى الصاحب خوفاً ! أترى لو كان معهم علي ( عليه السلام ) هل كان يبكي ويهتم لرجل واحد ليس معه أحد ، وهو لم يهتم لثمانية فوارس » !

6 . ليس في آية الغار مدحٌ لأبي بكر

قال تعالى في سورة التوبة التي نزلت في السنة التاسعة ، بعد غزوة تبوك : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ . إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
ومعنى الآية : أن الله تكفل بنصرنبيه ( صلى الله عليه وآله ) وإن لم تنصروه ، وقد نصره عندما كان وحيداً فاراً من قومه ليس معه إلا شخص واحد غير مقاتل ، فأنزل عليه السكينة والطمأنينة وجنوداً من ملائكته لم يرها رفقاءه . فليس في الآية إلا إشارة إلى شخص كان معه ، بقطع النظر عن نوع ذلك الشخص ، ومن هُوَ . فالآية متركزة على الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وغير ناظرة إلى غيره .
بل يشير إفراد الضمائر فيها إلى أن أبا بكر لا يشترك معه إلا في مجرد التواجد ، فهو لا يشترك معه في الإجبار على الهجرة لأنه قال : إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، ولم يقل إذ أخرجهما . ولا في تأييد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالسكينة فقد قال : فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا . ولم يقل عليهما ، مع أنه قال في الحديبية وفي حنين : فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فدل بإفراد الضمير هنا على
--------------------------- 508 ---------------------------
أن صاحبه لم يكن أهلاً لنزول السكينة عليه .
وفي شرح الأخبار : 2 / 246 : « الصحبة قد تكون للبر والفاجروقد وصف الله تعالى في كتابه صحبة مؤمن لكافرفقال : قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَيُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ » .
لكن مع ذلك ، اعتبروا الآية فضيلة لأبي بكر يستحق بها الخلافة !
قال ابن حجر في فتح الباري : 13 / 180 : « قال ابن التين : ما انفرد به أبو بكر وهو كونه ثاني اثنين ، وهي أعظم فضائله التي استحق بها أن يكون الخليفة من بعد النبي ، لذلك قال « عمر » : وإنه أولى الناس بأموركم . . فقوموا فبايعوه » .
وقال في الإصابة : 4 / 148 : « من أعظم مناقبه قول الله تعالى : ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ . فإن المراد بصاحبه أبو بكر بلا نزاع . وثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لأبي بكر وهما في الغار : ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .
وفي تحفة الأحوذي : 10 / 106 : « وقد قالوا من أنكر صحبة أبي بكر كَفَرَ ، لأنه أنكر النص الجلي ! بخلاف صحبة غيره » . وهكذا رفعوا آية الغار سيفاً في وجه أهل البيت « عليهم السلام » وشيعتهم فردوها عليهم ، ففي الإحتجاج : 2 / 143 عن الأعمش « رحمه الله » قال : « اجتمعت الشيعة والمحكِّمة « الخوارج » عند أبي نعيم النخعي بالكوفة ، وأبو جعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر ، فقال ابن أبي حذرة : أنا أقرر معكم أيتها الشيعة أن أبا بكر أفضل من علي ومن جميع أصحاب النبي بأربع خصال ، لا يقدر على دفعها أحد من الناس ، هو ثان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بيته مدفون ، وهو ثاني اثنين معه في الغار ، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو ثاني اثنين الصديق من هذه الأمة . فقال أبو جعفر مؤمن الطاق « رحمه الله » : يا بن أبي حذرة وأنا أقرر معك أن علياً أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهذه الخصال التي وصفتها وأنها مثلبة لصاحبك ! وألزمك طاعة علي من ثلاث جهات : من القرآن وصفاً ، ومن خبر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) نصاً ، ومن حجة العقل اعتباراً .
ووقع الاتفاق على إبراهيم النخعي ، وعلى أبي إسحاق السبيعي ، وعلى سليمان بن مهران الأعمش ، فقال : أبو جعفر مؤمن الطاق : أخبرني يا ابن أبي حذرة عن
--------------------------- 509 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) كيف ترك بيوته التي أضافها الله إليه ، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه ميراثاً لأهله وولده ؟ أو تركها صدقة على جميع المسلمين ؟ قل ما شئت . فانقطع ابن أبي حذرة ، لما أورد عليه ذلك وعرف خطأ ما هو فيه !
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : إن تركها ميراثاً لولده وأزواجه ، فإنه قبض عن تسع نسوة ، وإنما لعايشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن فيه صاحبك ، ولا يصيبها من البيت ذراع في ذراع ! وإن كان صدقة فالبلية أطمُّ وأعظم ، فإنه لم يصب من البيت إلا ما لأدنى رجل من المسلمين ، فدخول بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) بغير إذنه في حياته وبعد وفاته ، معصية ! إلا لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وولده ، فإن الله أحل لهم ما أحل للنبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ثم قال لهم : إنكم تعلمون أن النبي أمر بسد أبواب جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي ( عليه السلام ) فسأله أبو بكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول الله فأبى عليه ، وغضب عمه العباس من ذلك فخطب النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطبة وقال : إن الله تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون : أَنْ تَبَوَآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا موسى وهارون وذريتهما ، وأن علياً هو بمنزلة هارون من موسى وذريته كذرية هارون ، ولا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجد رسول الله ولا يبيت فيه جنباً إلا علي وذريته . فقالوا بأجمعهم : كذلك كان . قال أبو جعفر : ذهب ربع دينك يا ابن أبي حذرة ، وهذه منقبة لصاحبي ليس لأحد مثلها ، ومثلبة لصاحبك !
وأما قولك : ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ، أخبرني هل أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين في غير الغار ؟ قال ابن أبي حذرة : نعم . قال أبو جعفر : فقد أخرج صاحبك في الغار من السكينة وخصه بالحزن ! وكان علي ( عليه السلام ) في هذه الليلة على فراش النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبذل مهجته دونه ، وهو أفضل من مكان صاحبك في الغار . فقال الناس : صدقت . فقال أبو جعفر : يا ابن أبي حذرة ، ذهب نصف دينك !
وأما قولك ثاني اثنين : الصديق من الأمة ، فقد أوجب الله على صاحبك
--------------------------- 510 ---------------------------
الاستغفار لعلي بن أبي طالب في قوله عز وجل : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان . إلى آخر الآية . والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس ، ومن سماه القرآن وشهد له بالصدق والتصديق أولى به ممن سماه الناس ، وقد قال علي ( عليه السلام ) على منبر البصرة : أنا الصديق الأكبر ، آمنت قبل أن آمن أبو بكر وصدقت قبله . قال الناس : صدقت .
قال أبو جعفر مؤمن الطاق : يا بن أبي حذرة ، ذهب ثلاثة أرباع دينك !
وأما قولك في الصلاة بالناس ، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تتم له ، وأنها إلى التهمة أقرب منها إلى الفضيلة ، فلو كان ذلك بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما عزله عن تلك الصلاة بعينها ، أما علمت أنه لما تقدم أبو بكر ليصلي بالناس خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتقدم وصلى بالناس وعزله عنها ، ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين : إما أن تكون حيلة وقعت منه فلما أحس النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك خرج مبادراً مع علته فنحاه عنها لكيلا يحتج بها بعده على أمته ، فيكونوا في ذلك معذورين !
وإما أن تكون هو الذي أمره بذلك وكان ذلك مفوضاً إليه كما في قصة تبليغ براءة ، فنزل جبرئيل وقال : لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك ، فبعث علياً في طلبه وأخذها منه وعزله عنها وعن تبليغها ! فكذلك كانت قصة الصلاة ! وفي الحالتين هو مذموم ، لأنه كشف عنه ما كان مستوراً عليه ، وفي ذلك دليل واضح أنه لا يصلح للاستخلاف بعده ، ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين .
فقال الناس : صدقت . قال أبو جعفر مؤمن الطاق : يا بن أبي حذرة ذهب دينك كله ، وفضحتَ حيث مدحتَ !
فقال الناس لأبي جعفر : هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي ( عليه السلام ) .
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : أما من القرآن وصفاً فقوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ . فوجدنا علياً ( عليه السلام ) بهذه الصفة في القرآن في قوله عز وجل : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ - يعني في الحرب والشعب - أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ . فوقع الإجماع من الأمة بأن علياً أولى بهذا
--------------------------- 511 ---------------------------
الأمر من غيره ، لأنه لم يفر من زحف قط كما فر غيره في غير موضع ! فقال الناس : صدقت . قال : وأما الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نصاً ، فقال : إني تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض . وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، ومن تقدمها مرق ومن لزمها لحق . فالمتمسك بأهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هاد مهتد بشهادة من الرسول ، والمتمسك بغيرها ضال مضل . قال الناس : صدقت يا أبا جعفر .
قال : وأما من حجة العقل فإن الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم ، ووجدنا الإجماع قد وقع على علي ( عليه السلام ) بأنه كان أعلم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان الناس يسألونه ويحتاجون إليه ، وكان علي مستغنياً عنهم ، هذا من الشاهد والدليل عليه من القرآن قوله عز وجل : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . فما اتفق يوم أحسن منه ودخل في هذا الأمر عالمٌ كثير » .
راجع : عيون أخبار الرضا ( ( ع ) ) : 1 / 201 ، مناقشة المأمون لفقهاء عصره في آية الغار ، كتاب سُلَيم / 348 ، الإفصاح للمفيد / 185 ، الصوارم المهرقة / 307 ، الغدير : 7 / 10 والصحيح من السيرة : 4 / 233 .

7 . كذبة ذات النطاقينَ

قالوا إن أسماء كانت تحمل لهم الطعام إلى الغار ، وأنها شقت حزامها قطعتين لتربط الزاد فسماها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات النطاقين ، مع أنها كانت هاجرت قبلهم إلى المدينة مع زوجها الزبير وكانت حاملاً في شهرها بعبد الله بن الزبير ، وقد نص المؤرخ خليفة بن خياط / 207 ، وغيره ، على أنها وضعت عبد الله بن الزبير هناك ، وهذا ينفي زعم من زعم أنها وضعته في قباء أيام وصول النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وكذلك جعلت عائشة لنفسها مناقب في الهجرة !
--------------------------- 512 ---------------------------

8 . النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ضيافة أم معبد

« خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الغار وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقُدَيْد ، فنزلوا على أم معبد هناك » . إعلام الورى / 41 .
« أُثال وادٍ بصدر وادي ستارة ، وهو المعروف بقُدَيْد ، يسيل في وادي الخيمتين . . خيمتا أم معبد . ويقال بئر أم معبد بين مكة والمدينة ، نزله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في هجرته » . معجم البلدان : 2 / 414 والجبال والأمكنة للزمخشري / 2 .
وفي الخرائج : 1 / 146 : « سار حتى نزل خيمة أم معبد ، فطلبوا عندها قِرىً فقالت : ما يحضرني شئ ، فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى شاة في ناحية الخيمة قد تخلفت من الغنم لضرها فقال : تأذنين في حلبها ؟ قالت : نعم ولا خير فيها ، فمسح يده على ظهرها فصارت أسمن ما يكون من الغنم ، ثم مسح يده على ضرعها فأرخت ضرعاً عجيباً ، ودرت لبناً كثيراً فقال : يا أم معبد هاتي العس ، فشربوا جميعاً حتى رووا ! فلما رأت أم معبد ذلك قالت : يا حسن الوجه إن لي ولداً له سبع سنين وهو كقطعة لحم لا يتكلم ولا يقوم ، فأتته به فأخذ تمرة قد بقيت في الوعاء ومضغها وجعلها في فيه ، فنهض في الحال ومشى وتكلم !
وجعل نواها في الأرض فصارت في الحال نخلة ، وقد تهدل الرطب منها وكانت كذلك صيفاً وشتاءً ! ولما توفي ( صلى الله عليه وآله ) لم تُرْطِبْ تلك النخلة وكانت خضراء ! فلما قتل علي ( عليه السلام ) لم تخضرّ ، وكانت باقية فلما قتل الحسين ( عليه السلام ) سال منها الدم ويبست !
فلما انصرف أبو معبد ورأى ذلك وسأل عن سببه قالت : مرَّ بي رجل قرشي من حاله وقصته كذا وكذا ! قال : يا أم معبد إن هذا الرجل هو صاحب أهل المدينة الذي هم ينتظرونه ، ووالله ما أشك الآن أنه صادق في قوله إنه رسول الله ، فليس هذا إلا من فعل الله . ثم قصد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فآمن هو وأهله » . ونحوه الثاقب
في المناقب / 111 ، عن هند بنت الجون .
وفي مستدرك الحاكم : 3 / 9 : « قال : صفيه لي يا أم معبد . قالت : رأيت رجلاً ظاهرَ الوَضاءة ، أبلجَ الوجه ، حسنَ الخلق لم تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ « بِطنة » ولم تُزْرِ به صَعْلَة « صغر الرأس »
--------------------------- 513 ---------------------------
وسيمٌ قسيم « جميل حسن الملامح » في عينيه دَعَجٌ « سواد » وفي أشفاره وَطَف « أجفانه طويلة » وفي صوته صَحَل « ليس صوته حاداً بل فيه حركة محببة كالبحة » وفي عنقه سَطَع « طول » وفي لحيته كثَاثة « كثافة الشعر » أزجُّ أقْرَن « حاجباه مقوسان متصلان » إن صمتَ فعليه الوقار ، وإن تكلم سَمَاهُ وعلاه البهاء ، أجملُ الناس وأبهاه من بعيد ، وأحسنه وأجمله من قريب ، حلوُ المنطق ، فصلاً لا نزرٌ ولا هَذْر ، كأن منطقه خرزات نظمٍ يتحدرن ، ربعةٌ لا تشنؤهُ من طول ، ولا تقتحمه عين من قِصَر » .
وفي المناقب : 1 / 105 : « وقال خطيب منبج :
ومَنْ حَلَب الضئيلة َوهي نِضْوٌ * فأسبلَ درُّها للحالبينا
وكانت حائلاً فغدت وراحت * بيمن المصطفى الهادي لبونا » ج

9 . وصول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة

وصف الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حديث صحيح في الكافي : 8 / 338 : « عن سعيد بن المسيب قال : سألت علي بن الحسين ( عليه السلام ) : ابن كم كان علي بن أبي طالب يوم أسلم ؟ فقال : أوَكان كافراً قط ، إنما كان لعلي ( عليه السلام ) حيث بعث الله عز وجل رسوله ( صلى الله عليه وآله ) عشر سنين ، ولم يكن يومئذ كافراً ، ولقد آمن بالله تبارك وتعالى وبرسوله ( صلى الله عليه وآله ) وسبق الناس كلهم إلى الإيمان بالله وبرسوله ( صلى الله عليه وآله ) وإلى الصلاة بثلاث سنين ، وكانت أول صلاة صلاها مع رسول الله الظهر ركعتين ، وكذلك فرضها الله تبارك وتعالى على من أسلم بمكة ركعتين ركعتين . وكان رسول الله يصليها بمكة ركعتين ويصليها علي ( عليه السلام ) معه بمكة ركعتين مدة عشر سنين ، حتى هاجر رسول الله إلى المدينة ، وخلف علياً في أمور لم يكن يقوم بها أحد غيره ، وكان خروج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مكة في أول يوم من ربيع الأول ، وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث ، وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس ، فنزل بقبا ، فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ، ثم لم يزل مقيماً ينتظر علياً ( عليه السلام ) يصلي الخمس صلوات ركعتين
--------------------------- 514 ---------------------------
ركعتين ، وكان نازلاً على عمرو بن عوف ، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يقولون له : أتقيم عندنا فنتخذ لك منزلاً ومسجداً ؟ فيقول : لا إني أنتظر علي بن أبي طالب وقد أمرته أن يلحقني ، ولست مستوطناً منزلاً حتى يقدم علي وما أسرعه إن شاء الله ، فقدم علي ( عليه السلام ) والنبي ( صلى الله عليه وآله ) في بيت عمرو بن عوف فنزل معه .
ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم عليه علي ( عليه السلام ) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي ( عليه السلام ) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس ، فخط لهم مسجداً ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين ، ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها ، وعلي ( عليه السلام ) معه لا يفارقه يمشي بمشيه ، وليس يمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم : خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة ، فانطلقت به ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واضع لها زمامها حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى ، وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي يصلي عنده بالجنائز ، فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض ، فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأقبل أبو أيوب مبادراً حتى احتمل رحله فأدخله منزله . ونزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) معه حتى بنيَ له مسجده ، بنيت له مساكنه ومنزل علي ( عليه السلام ) ، فتحولا إلى منازلهما .
فقال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين : جعلت فداك كان أبو بكر مع رسول الله حين أقبل إلى المدينة فأين فارقه ؟ فقال : إن أبا بكر لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى قبا فنزل بهم ينتظر قدوم علي ( عليه السلام ) فقال له أبو بكر : إنهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك وهم يستريثون إقبالك إليهم ، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً ، فما أظنه يقدم عليك إلى شهر ! فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كلا ما أسرعه ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل ، وأحب أهل بيتي إليَّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين . قال : فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز ، وداخله من ذلك حسد لعلي ( عليه السلام ) ، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في علي ( عليه السلام ) ، وأول خلاف على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقبا ينتظر علياً ( عليه السلام ) .
قال : فقلت لعلي بن الحسين : فمتى زوج رسول الله فاطمة من علي « عليهما السلام » ؟ فقال :
--------------------------- 515 ---------------------------
بالمدينة بعد الهجرة بسنة ، وكان لها يومئذ تسع سنين .
قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) : ولم يولد لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة « عليها السلام » على فطرة الإسلام إلا فاطمة « عليها السلام » ، وقد كانت خديجة ماتت قبل الهجرة [ بسنة ] ومات أبو طالب بعد موت خديجة [ بسنة ] فلما فقدهما رسول الله سئم المقام بمكة ودخله حزن شديد ، وأشفق على نفسه من كفار قريش ، فشكا إلى جبرئيل ذلك ، فأوحى الله عز وجل إليه : أخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة ، فليس لك اليوم بمكة ناصر ، وانصب للمشركين حرباً .
فعند ذلك توجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة .
فقلت له : فمتى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم عليه اليوم ؟ فقال : بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإسلام ، وكتب الله عز وجل على المسلمين الجهاد ، وزاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الصلاة سبع ركعات : في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفي المغرب ركعة وفي العشاء الآخرة ركعتين ، وأقر الفجر على ما فرضت ، لتعجيل نزول ملائكة النهار من السماء ، ولتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء ، وكان ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلاة الفجر ، فلذلك قال الله عز وجل : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً . يشهده المسلمون ويشهده ملائكة النهار وملائكة الليل » .
ملاحظات
تضمن هذا الحديث الشريف حقائق مهمة عن البعثة والهجرة ، وعن عمر أمير المؤمنين وفاطمة « عليهما السلام » وزواجهما ، وقد جعلناه محوراً فيما كتبناه ، إلا قوله إن أبا طالب توفي بعد خديجة « عليهما السلام » بسنة ، وإنهما توفيا قبل الهجرة بسنة ، والظاهر أن فيه تصحيفاً ، وقد يكون تصحيف ستة ، وسقط ما بعده .
--------------------------- 516 ---------------------------

10 . نزل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قباء وهي ضاحية المدينة

في إعلام الورى / 41 ، عن الزهري : « كان بين ليلة العقبة وبين مهاجرة رسول الله ثلاثة أشهر ، وكانت بيعة الأنصار لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة العقبة في ذي الحجة ، وقدوم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه يوم الاثنين . وكانت الأنصار خرجوا يتوكفون أخباره ، فلما أيسوا ورجعوا إلى منازلهم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوافى ذا الحليفة سأل عن طريق بني عمرو بن عوف فدلوه ، فرفعه الآل « تلة في الطريق » فنظر رجل من اليهود وهو على أطم له إلى ركبان ثلاثة يمرون على طريق بني عمرو بن عوف فصاح : يا معشر المسلمة هذا صاحبكم قد وافى ! فوقعت الصيحة بالمدينة فخرج الرجال والنساء والصبيان ، مستبشرين لقدومه يتعادَوْن ، فوافى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقصد مسجد قبا ونزل ، واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف ، وسُرُّوا به واستبشروا واجتمعوا حوله ( صلى الله عليه وآله ) . ونزل على كلثوم بن الهَدْم شيخ من بني عمرو صالح مكفوف البصر ، واجتمعت بطون الأوس ، وكان بين الأوس والخزرج عداوة ، فلم يجسروا أن يأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما كان بينهم من الحروب ، فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتصفح الوجوه فلا يرى أحداً من الخزرج ، وقد كان قدم على عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ناس من المهاجرين فنزلوا فيهم » .
وفي المناقب : 1 / 151 : « هاجر إلى المدينة وأمر أصحابه بالهجرة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، وكانت هجرته يوم الاثنين ، وصار ثلاثة أيام في الغار ليُخَيِّب من قصد إليه وروي ستة أيام ، ودخل المدينة يوم الاثنين الثاني عشرمن ربيع الأول وقيل الحادي عشر ، وهي السنة الأولى من الهجرة ، فرد التاريخ إلى المحرم .
وكان نزل بقبا في دار كلثوم بن الهدم ، ثم بدار خيثمة الأوسي ثلاثة أيام ويقال اثني عشر يوماً ، إلى بلوغ علي وأهل البيت « عليهم السلام » .
وكان أهل المدينة يستقبلون كل يوم إلى قبا وينصرفون ، فأسس بقبا مسجدهم وخرج يوم الجمعة ونزل المدينة ، وصلى في المسجد الذي ببطن الوادي » .
وفي قصص الأنبياء / 335 وإعلام الورى : 1 / 152 : « فلما أمسى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فارقه
--------------------------- 517 ---------------------------
أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار ، وبقي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم ، فلما صلى المغرب والعشاء الآخرة جاءه أسعد بن زرارة مقنَّعاً فسلم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفرح بقدومه ، ثم قال : يا رسول الله ما ظننت أن أسمع بك في مكان فأقعد عنك ، إلا أن بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم ، فكرهت أن آتيهم ، فلما أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للأوس : من يجيره منكم ؟ فقالوا : يا رسول الله ، جوارنا في جوارك فأجره . قال : لا ، بل يجيره بعضكم . فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة : نحن نجيره يا رسول الله فأجاروه ، وكان يختلف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيتحدث عنده ويصلي خلفه . فبقي خمسة عشر يوماً فوافى علي ( عليه السلام ) بعياله ، فلما وافى كان سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج ، وكان كل رجل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيبه ، ولكل بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرمونه ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له ، فلما قدم الإثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من أطاعهم ، فلما قدم السبعون كثر الإسلام وفشا ، وجعلوا يكسرون الأصنام » .
وقال اليعقوبي في تاريخه : 2 / 40 : « قدم رسول الله المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الأول ، وقيل يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت منه فنزل على كلثوم بن الهدم ، فلم يلبث إلا أياماً حتى مات كلثوم ، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف ، فمكث أياماً . ثم كان سفهاء بني عمرو ومنافقوهم يرجمونه في الليل ، فلما رأى ذلك قال : ما هذا الجوار ؟ فارتحل عنهم وركب راحلته وقال : خلوا زمامها » .
وفي سيرة ابن هشام : 2 / 340 : « كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، فإذا لم نجد ظلاً دخلنا ، وذلك في أيام حارة . فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علينا فصرخ بأعلى صوته : يا بني
--------------------------- 518 ---------------------------
قَيْلة هذا جدُّكم قد جاء . كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا خرج من منزل كلثوم بن هندم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة . ونزل أبو بكر الصديق على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسُّنح . « الجهة الأخرى للمدينة » . ثم قال ابن هشام : « أقام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الودائع التي كانت عنده للناس ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن هدم . قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجده . فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة » .

11 . نشيد أهل المدينة : طَلَعَ البدرُ علينا

في المبسوط للطوسي : 8 / 224 : « وأما الحداء وهو الشعر الذي تحث به العرب الإبل على الإسراع في السير ، فهو مباح وهو ممدود لأنه من الأصوات كالدعاء والنداء والثغاء والرغاء . . وروي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في سفر فأدرك ركباً من تميم معهم حاد فأمرهم بأن يحدو وقال : إن حادينا نام آخر الليل .
فأما الكلام في الشعر فهو مباح أيضاً ما لم يكن فيه هجو ولا فحش ولا تشبيب بامرأة لا يعرفها . روى عمرو بن الشريد ، عن أبيه قال : أردفني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ ؟ قال قلت : نعم ، قال : هيه ، قال فأنشدته بيتاً فقال : هيه ، فأنشدته حتى بلغت مائة بيت . فإذا ثبت أنه مباح فقد روي كثير مما سمعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم ينكره ، فمن ذلك ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما هاجر إلى المدينة استقبله فتيان المدينة ، وأنشدوا :
طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع
[ أنت يا مرسل حقاً * جئت بالأمر المطاع
جئتنا تسعى رويداً * مرحبا يا خير ساع
جئت شرفت المدينة * مرحباً يا خير داع
--------------------------- 519 ---------------------------
يا نبياً من ضياه * أشرقت كل البقاع
قد لبسنا ثوب عز * بعد تمزيق الرقاع 1
ربنا صل على من * حل في خير البقاع ]
ومر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أزقة المدينة فسمع جواري لبني النجار ينشدن :
نحن جوارٍ من النجارْ * يا حبذا محمدٌ من جار
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتحبوني ؟ فقالوا : إي والله يا رسول الله . قال : أنا والله أحبكم . ثلاث مرات » . وإعلام الورى : 1 / 151 ، الصراط المستقيم : 1 / 158 ، البحار : 19 / 105 ، مستدرك سفينة البحار : 5 / 446 ، فتح الباري : 8 / 98 وعمدة القاري : 17 / 60 .
وأشكل في الصحيح من السيرة : 4 / 109 ، على رواية هذا النشيد ، بأن ثنيات الوداع ليست من جهة مكة بل من جهة الشام ، لكن لو صح ذلك جغرافياً فلا يضر بالرواية ، لأن ثنيات الوداع تعني التلال التي يودع منها أهل البلد مسافريهم ويستقبلونهم ، فيكون النشيد شائعاً عند أهل المدينة فأنشدوه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأكملوه بما يناسب . وقد ورد أن إماء مكة استقبلن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في فتح مكة بنفس النشيد . تاج العروس : 11 / 500 .

12 . ترك أبو بكر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقباء وذهب غاضباً !

تقدم من إعلام الورى : 1 / 152 ، وقصص الأنبياء / 335 ، أن أبا بكر أراد من النبي أن يدخل المدينة فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « لا أريم من هذا المكان حتى يوافيني أخي علي بن أبي طالب . . فقال أبو بكر : ما أحسب علياً يوافي ! قال : بلى ما أسرعه إن شاء الله . فلما أمسى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار » .
وتقدم ذلك من الكافي : 8 / 338 . وقد غطى رواة السلطة ترك أبي بكر للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في قباء فلم يصرحوا به ! قال ابن هشام : 2 / 342 : « نزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قباء ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج ، بالسنح » .
وفي الطبقات : 3 / 174 : « ولم يزل في بيت الحارث بن الخزرج بالسنح ، حتى توفي
--------------------------- 520 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . وفي أسد الغابة : 3 / 219 : « وكان منزله بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير ، وكان قد حجر عليه حجرة من شعر ، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى المدينة » .
وأخطأ ابن أبي الحديد أو كذب ليغطي على أبي بكر ! فقال في شرح النهج : 13 / 305 : « وأما حال علي فلما أدى الودائع ، خرج بعد ثلاث من هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجاء إلى المدينة راجلاً قد تورمت قدماه فصادف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نازلاً بقباء على كلثوم بن الهدم فنزل معه في منزله . وكان أبو بكر نازلاً بقباء أيضاً في منزل خبيب بن يساف ثم خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهما معه من قباء » .
ومنزل ابن يساف في السنح وليس بقباء ! والسنح يقع في العالية خارج المدينة باتجاه نجد : « قال عياض : هذا حد أدناها وأبعدها ثمانية أميال ، وبه جزم ابن عبد البر ، وصاحب النهاية » . الصحيح من السيرة : 11 / 63 .

13 . إسلام سلمان الفارسي في قباء

1 . جاءت مجموعات من اليهود بعد نبي الله عيسى ( عليه السلام ) ، وسكنت الجزيرة بانتظار النبي الموعود ، وكان أشخاص غير اليهود ينتظرون ظهوره ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً مثل سلمان الفارسي الذي أعجبته المسيحية فترك المجوسية وهاجر إلى الشام ، ثم إلى العراق وتركيا وعاش مع علمائهم ، ثم جاء إلى أرض العرب ينتظر النبي الموعود .
ففي كمال الدين / 161 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان بين عيسى وبين محمد ( صلى الله عليه وآله ) خمس مائة عام ، منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولاعالم ظاهر . قلت : فما كانوا ؟ قال : كانوا متمسكين بدين عيسى ( عليه السلام ) . قلت : فما كانوا ؟ قال : كانوا مؤمنين . ثم قال ( عليه السلام ) : ولا يكون الأرض إلا وفيها عالم .
وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه ، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار ، منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد ( صلى الله عليه وآله ) أربع مائة سنة ، حتى بشر
--------------------------- 521 ---------------------------
بولادته ، فلما أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي » .
وقد وجد سلمان في المدينة امرأة فارسية ، جاءت قبله تنتظر النبي الموعود ( صلى الله عليه وآله ) ! « قال سلمان : لما قدمت المدينة رأيت امرأة إصبهانية كانت قد أسلمت قبلي ، فسألتها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهي التي دلتني على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . طبقات المحدثين بأصبهان لابن حبان : 1 / 123 ، الإصابة لابن حجر : 8 / 29 وأخبار إصبهان : 1 / 44 .
« كان سلمان الفارسي عبداً لبعض اليهود ، وقد كان خرج من بلاده من فارس يطلب الدين الحنيف الذي كان أهل الكتب يخبرونه به ، فوقع إلى راهب من رهبان النصارى بالشام فسأله عن ذلك وصحبه فقال : أطلبه بمكة مخرجه ، واطلبه بيثرب فثَمَّ مهاجره . فقصد يثرب فأخذه بعض الأعراب فسَبَوْهُ ، واشتراه رجل من اليهود فكان يعمل في نخله ، وكان ذلك اليوم على النخلة يصرمها ، فدخل على صاحبه رجل من اليهود فقال : يا أبا فلان أشعرت أن هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيهم ؟ فقال سلمان : جعلت فداك ما الذي تقول ؟ فقال له صاحبه : ما لك وللسؤال عن هذا ، أقبل على عملك ! قال فنزل وأخذ طبقاً وصيَّر عليه من ذلك الرطب وحمله إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له رسول الله : ما هذا ؟ قال : صدقة تمورنا ، بلغنا أنكم قوم غرباء قدمتم هذه البلاد فأحببت أن تأكلوا من صدقتنا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : سَمُّوا وكلوا . فقال سلمان في نفسه وعقد بإصبعه : هذه واحدة يقولها بالفارسية ، ثم أتاه بطبق آخر فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما هذا ؟ فقال له سلمان رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أهديتها إليك . فقال : سموا وكلوا ، وأكل ، فعقد سلمان بيده : اثنين ، وقال : هذه اثنان يقولها بالفارسية ، ثم دار خلفه فألقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن كتفه الإزار فنظر سلمان إلى خاتم النبوة والشامة فأقبل يقبلها ! قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من أنت ؟ قال : أنا رجل من أهل فارس قد خرجت من بلادي منذ كذا وكذا ، وحدثه بحديثه وبه طول ، فأسلم وبشره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : أبشر واصبر ، فإن الله سيجعل لك فرجاً من هذا اليهودي » . إعلام الورى : 1 / 42 .
--------------------------- 522 ---------------------------
وفي إعلام الورى : 1 / 60 : « وكان آخر من أتى « عاش معه سلمان علماء النصارى » آبي ، فمكث عنده ما شاء الله ، فلما ظهر النبي قال آبي : يا سلمان إن صاحبك الذي تطلبه بمكة قد ظهر ، فتوجه إليه سلمان » . كمال الدين / 665 .
وحدَّث سلمان « رحمه الله » عن حاله بعد الراهب آبي : « فلما واريناه أقمت على خير ، حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب ، فقلت لهم : تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنمتي هذه وبقراتي ، قالوا نعم فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى » . ثم باعه مالكوه إلى أقاربهم من قريظة في المدينة ، فكان عبداً لهم نحو سنتين حتى هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « ذهبت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بقبا فقلت : إنه بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاباً لك غرباء ، وقد كان عندي شئ للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به ، فها هو هذا فكل منه ، فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده وقال لأصحابه : كلوا ولم يأكل فقلت في نفسي هذه خلة مما وصف لي صاحبي . فاستدرت لأنظر إلى الخاتم في ظهره فلما رآني رسول الله أستدير عرف أني استثبت من شئ قد وصف لي فوضع رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ! فقال : تحول يا سلمان هاكني ، فتحولت فجلست بين يديه وأحب أن يسمع أصحابه حديثي فحدثته » . ابن إسحاق : 2 / 68 وأحمد : 5 / 443 .
وحدَّث سلمان عن عمله عند ذلك اليهودي فقال : « فكنت أسقي كما يسقي البعير حتى دَبَر ظهري وصدري « جُرح » من ذلك ، ولا أجد أحداً يفقه كلامي حتى جاءت عجوز فارسية تستقي فكلمتها ففهمت كلامي ، فقلت لها : أين هذا الرجل الذي خرج دليني عليه ؟ قالت : سيمر بك بكرة إذا صلى الصبح » . أخبار أصبهان : 1 / 76 .

14 . من مناقب سلمان الفارسي ( ( رحمه الله ) )

1 - روت مصادر السنة وصححته أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) اشتراه بأواقي ذهب وثلاث مئة نخلة حتى تطعم ، ففي الحاكم : 2 / 16 ، أحمد : 5 / 354 و 443 والبيهقي : 10 / 321 ، عن بريدة قال :
--------------------------- 523 ---------------------------
« وكان لليهود فاشتراه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكذا وكذا درهماً وعلى أن يغرس نخلاً فيعمل سلمان فيها حتى تطعم ، قال فغرس رسول الله « وأصحابه » النخل إلا نخلة واحدة غرسها عمر فحملت النخل من عامها ولم تحمل النخلة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من غرسها ؟ قالوا : عمر ، فنزعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم غرسها فحملت من عامها » .
2 . وكان سلمان في أعلى درجات الإيمان وهي الدرجة العاشرة ، ففي الخصال / 447 عن عبد العزيز القراطيسي قال : « قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات ، بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولن صاحب الواحد لصاحب الاثنين لست على شئ ، حتى تنتهي إلى العاشرة ، ولا تسقط من هو دونك فيسقطك الذي هو فوقك ، فإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق ، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره ، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره . وكان المقداد في الثامنة ، وأبو ذر في التاسعة ، وسلمان في العاشرة » .
3 - آخى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بينه وبين أبي ذرواشترط عليه طاعة سلمان . الكافي : 8 / 162 .
4 - وكان سلمان مُحَدَّثاً ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كان سلمان محدثاً . قال قلت : فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت » . « بصائر الدرجات / 342 » . وقال ( عليه السلام ) : « إن سلمان علم الاسم الأعظم » . الإختصاص / 11 ورجال الطوسي : 1 / 65 .
5 - ولذلك اتخذه النبي ( صلى الله عليه وآله ) خليلاً ، قال سلمان : « أوصاني خليلي بسبعة خصال لا أدعهن على كل حال : أوصاني أن أنظر إلى من هو دوني ، ولا أنظر إلى من هو فوقى ، وأن أحب الفقراء وأدنو منهم ، وأن أقول الحق وإن كان مُرّاً ، وأن أصل رحمي وإن كانت مدبرة ، ولا أسأل الناس شيئاً ، وأوصاني أن أكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإنها كنز من كنوز الجنة » . المحاسن : 1 / 11 .
6 . وتوفي سلمان وهو أمير المدائن ، وأمر زوجته : « أن تديف « تُذَوِّب » مسكاً أصابه من الفئ وخبأه لأجل وفاته ، وقال لها : ميثيه في الماء ، ورشي
--------------------------- 524 ---------------------------
بالماء حولي ، فإني اليوم يحضرني من ملائكة ربي من لم أرهم قط ! ففعلت ذلك ، وتوفي في ذلك اليوم » . « إكمال الكمال : 7 / 362 » . وحضر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من المدينة بكرامة وغسل سلمان وصلى عليه وودعه . « الفضائل لشاذان بن جبرئيل / 90 ، في حديث طويل » . وقال له : « إذا لقيت رسول الله فقل له ما مرَّعلى أخيك من قومك » .
مستدرك السفينة : 6 / 34 .
وفي مدينة المعاجز : 2 / 14 ، عن الراوندي : « أن علياً ( عليه السلام ) دخل المسجد بالمدنية غداة يوم وقال : رأيت في النوم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البارحة فقال لي : إن سلمان توفي ، ووصاني بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، وها أنا خارج إلى المدائن لذلك . فقال عمر : خذ الكفن من بيت المال . فقال علي ( عليه السلام ) : ذاك مكفي مفروغ منه ، فخرج والناس معه إلى ظاهر المدينة ، ثم خرج وانصرف الناس ، فلما كان قبل الظهيرة رجع وقال : دفنته ، وأكثر الناس لم يصدقوه حتى كان بعد مدة ووصل من المدائن مكتوب : إن سلمان توفي يوم كذا ، ودخل علينا أعرابي فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه ، ثم انصرف . فتعجب الناس كلهم » !
6 - . تزوج سلمان « رحمه الله » امرأة من قبيلة كندة ، وأنجب أولاداً وعرف منهم محمد وعبد الله . رجال الطوسي : 1 / 68 ، طرائف المقال : 2 / 601 ، الإستيعاب : 2 / 638 ، تاريخ دمشق : 21 / 428 ، سنن البيهقي : 7 / 273 ، تهذيب الكمال : 11 / 249 ، لسان الميزان : 3 / 421 ، ومصنف عبد الرزاق : 6 / 153 و 192 .
وذكروا له أولاداً : يحيى بن سلمان « تاريخ دمشق 5 / 227 » وعامر بن سلمان « المنفردات لمسلم بن الحجاج / 104 » ولعله هو عمر بن سلمان « كشف الظنون 2 / 1488 » . وزاذان بن سلمان « الدر النظيم / 321 » وهو اسم فارسي ، وهو يروي عن أبيه عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وذكروا لهم ذرية ، ففي فهرست منتجب الدين / 52 : « الشيخ بدر الدين الحسن بن علي بن سلمان بن أبي جعفر بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي بكر بن سلمان بن عباد بن عمار بن أحمد بن أبي بكر بن علي بن سلمان بن منبه بن محمد بن عمارة بن إبراهيم بن سلمان بن محمد بن سلمان الفارسي رضي الله عنه صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، نزيل أشناباد السد من الري ، واعظ ، فصيح ، صالح » .
--------------------------- 525 ---------------------------
7 . وكان سلمان « رحمه الله » من المعمرين ، روي أنه عاش أكثر من ثلاث مئة سنة . وكان من كبار صحابة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأفاضلهم ، وقد اشتهر بين المسلمين قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : سلمان منا أهل البيت ، وشارك في حروب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وفي فتح إيران وآذربيجان وغيرها ، وصار هذا الفارسي المشرد حاكماً للمدائن مكان كسرى !
وكان من حواريي علي « عليهم السلام » ، وأحد الاثني عشر الذين خطبوا في المسجد بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وواجهوا أبا بكر وهو على المنبر ، وأدانوا بيعة السقيفة .
وقد أفاضت المصادر في ذكره فلا يكاد يخلو مصدر حديثي من أحاديثه ومناقبه . وألفت فيه كتب مستقلة ، لكنها لا تفي بالغرض . ولعل قومه الفرس أول المقصرين في حقه ! فلا ترى في إيران عملاً مهماً باسمه ، أو ذكراً مناسباً له !
وقد كتبت له ترجمة في كتاب : قراءة جديدة في الفتوحات .

  • *
    --------------------------- 526 ---------------------------

الفصل الثامن والعشرون

الهجرة العلنية الوحيدة : هجرة علي « عليه السلام »

1 - علي ( ( ع ) ) يؤدي أمانات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جهاراً في مكة

قال المفيد « رحمه الله » في الإرشاد : 1 / 53 : « ومن ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أمين قريش على ودائعهم ، فلما فَجَأَهُ من الكفار ما أحوجه إلى الهرب من مكة بغتةً ، لم يجد في قومه وأهله من يأتمنه على ما كان مؤتمناً عليه سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فاستخلفه في رد الودائع إلى أربابها ، وقضاء ما عليه من دين لمستحقيه ، وجمع بناته ونساء أهله وأزواجه والهجرة بهم إليه ، ولم ير أن أحداً يقوم مقامه في ذلك من كافة الناس ، فوثق بأمانته وعول على نجدته وشجاعته ، واعتمد في الدفاع عن أهله وحامته على بأسه وقدرته ، واطمأن إلى ثقته على أهله وحرمه ، وعرف من ورعه وعصمته ما تسكن النفس معه إلى إئتمانه على ذلك .
فقام ( عليه السلام ) به أحسن القيام ورد كل وديعة إلى أهلها ، وأعطى كل ذي حق حقه ، وحفظ بنات نبيه ( عليه السلام ) وآله وحرمه ، وهاجر بهم ماشياً على قدمه يحوطهم من الأعداء ، ويكلؤهم من الخصماء ، ويرفق بهم في المسير ، حتى أوردهم عليه المدينة على أتم صيانة وحراسة ، ورفق ورأفة ، وحسن تدبير . فأنزله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند وروده المدينة داره ، وأحله قراره ، وخلطه بحرمه وأولاده ، ولم يميزه من خاصة نفسه ، ولا احتشمه في باطن أمره وسره » .
وقال في السيرة الحلبية : 2 / 232 : « فلما توجه ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة قام عليٌّ بالأبطح ينادي : من كان له عند رسول الله وديعة فليأت تُؤَدَّى إليه أمانته . فلما نفد ذلك وردَ عليه كتاب
--------------------------- 527 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالشخوص إليه ، فابتاع ركائب ، وقدم ومعه الفواطم ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين » . ونحوه الصالحي : 3 / 267 .

2 - علي ( ( ع ) ) يتحدى قريشاً ويعلن عزمه على الهجرة !

قال ابن جبر في نهج الإيمان / 311 وابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 335 : « ذكر الواقدي وغيره أن علياً ( عليه السلام ) لما عزم على الهجرة قال له العباس : إن محمداً ما خرج إلا خِفْياً وذكر حديثاً ثم قال له : ما أرى أن تمضي إلا في خفارة خزاعة ،
فقال علي ( عليه السلام ) :
إن المنية شَرْبَةٌ مورودةٌ * لا تجزعنَّ وشُدَّ للترحيل
إن ابن آمنة النبي محمداً * رجل صدوقٌ قال عن جبريل
أرْخ الزمام ولاتخفْ من عائقٍ * فالله يرديهم إلى التنكيل
إني بربي واثقٌ وبأحمد * وسبيله متلاحقٌ بسبيلي
أقول : يدل هذا على أن إعلان علي ( عليه السلام ) هجرته كان بأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فبعد أن هاجر أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) أولاً ، ثم هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأفلت من أظافر قريش ! أراد الله تعالى أن تكون هجرة علي ( عليه السلام ) بأسرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) آية لصدق النبوة ، ورسالة قوة ، فقريش لا تفهم غيرالقوة » !

3 - قريش تدبر محاولة لاغتيال علي ( ( ع ) ) قبل هجرته

روى ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 335 عن الواقدي ، وأبي الفرج النجدي ، وأبي الحسن البكري ، وإسحاق الطبراني : « أن علياً ( عليه السلام ) لما عزم على الهجرة قال له العباس . . إلى آخر ما تقدم . قال : فكمن له مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل ، فلما رآه سل سيفه ونهض إليه فصاح عليٌّ به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه ! فلما أصبح توجه نحو المدينة ، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب بثمانية فوارس » .
أقول : هذه أول صيحة وأول ضربة سيف من علي ( عليه السلام ) صلوات الله عليه .
--------------------------- 528 ---------------------------

4 - واخترعت قريش مكيدة مالية لعلي ( ( ع ) ) قبل هجرته

روى في المناقب : 2 / 175 ، عن الواقدي ، وإسحاق الطبري : « أن عمير بن وابل الثقفي أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدعي على علي ( عليه السلام ) ثمانين مثقالاً من الذهب وديعةً عند محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنه هرب من مكة وأنت وكيله ، فإن طلب بينة الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه ، وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب ، منها قلادة عشر مثاقيل لهند ، فجاء وادعى على علي ( عليه السلام ) ، فاعتبر الودايع كلها ورأى عليها أسامي أصحابها ، ولم يكن لما ذكره عمير خبر ، فنصح له نصحاً كثيراً فقال : إن لي من يشهد بذلك وهو أبو جهل ، وعكرمة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبو سفيان ، وحنظلة ! فقال ( عليه السلام ) : مكيدة تعود إلى من دبرها ، ثم أمر الشهود أن يقعدوا في الكعبة ، ثم قال لعمير : يا أخا ثقيف أخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أي الأوقات كان ؟ قال : ضحوة نهار فأخذها بيده ودفعها إلى عبده . ثم استدعى بأبي جهل وسأله عن ذلك قال : ما يلزمني ذلك .
ثم استدعى بأبي سفيان وسأله فقال : دفعها عند غروب الشمس ، وأخذها من يده وتركها في كمه ! ثم استدعى حنظلة وسأله عن ذلك فقال : كان عند وقت وقوف الشمس في كبد السماء ، وتركها بين يديه إلى وقت انصرافه !
ثم استدعى بعقبة وسأله عن ذلك فقال : تسلمها بيده وأنفذها في الحال إلى داره وكان وقت العصر ! ثم استدعى بعكرمة ، وسأله عن ذلك فقال : كان بزوغ الشمس أخذها فأنفذها من ساعته إلى بيت فاطمة !
ثم أقبل على عمير وقال له : أراك قد اصفر لونك وتغيرت أحوالك ! قال : أقول الحق ولا يفلح غادر ، وبيت الله ما كان لي عند محمد وديعة ، وإنهما حملاني على ذلك ، وهذه دنانيرهم وعقد هند عليه اسمها مكتوب !
ثم قال علي : إيتوني بالسيف الذي في زاوية الدار فأخذه وقال : أتعرفون هذا السيف ؟ فقالوا : هذا لحنظلة . فقال أبو سفيان : هذا مسروق . فقال ( عليه السلام ) : إن كنت صادقاً في قولك فما فعل عبدك مهلع الأسود ؟ قال : مضى إلى الطائف في حاجة لنا ! فقال :
--------------------------- 529 ---------------------------
هيهات أن يعود تراه ، ابعث إليه أحضره إن كنت صادقاً ! فسكت أبو سفيان . ثم قام ( عليه السلام ) في عشرة عبيد لسادات قريش فنبشوا بقعة عرفها ، فإذا فيها العبد مهلع قتيل ، فأمرهم بإخراجه فأخرجوه وحملوه إلى الكعبة ، فسأله الناس عن سبب قتله فقال : إن أبا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقه وحثَّاه على قتلي ، فكمن لي في الطريق ووثب عليَّ ليقتلني ، فضربت رأسه وأخذت سيفه !
فلما بطلت حيلتهم أرادوا الحيلة الثانية بعمير ! فقال عمير : أشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » !

5 - انتظر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( ( ع ) ) في قباء وكتب اليه وطمأنه

في أمالي الطوسي / 469 : « قال أبيٌّ وابن أبي رافع : ثم كتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التَّلوُّم « التأخر » وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي ، فلما أتاه كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تهيأ للخروج والهجرة ، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين ، فأمرهم أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد إلى ذي طوى . وخرج علي ( عليه السلام ) بفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله ، وأبو واقد مولى رسول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم فقال علي : إرفق بالنسوة يا أبا واقد ، إنهن من الضعائف . قال : إني أخاف أن يدركنا الطلب ! فقال علي ( عليه السلام ) : إربع عليك فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لي : « في رسالته » يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه ، ثم جعل يعني علياً ( عليه السلام ) يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول :
ليس إلا الله فارفع ظَنَّكا يكفيك ربُّ الناس ما أهمَّكا » .

6 - علي ( ( ع ) ) يدوس غطرسة قريش

في أمالي الطوسي / 470 : « وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب ، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين ، وثامنهم مولى لحرب بن أمية يدعى جناحاً ، فأقبل علي ( عليه السلام ) على أيمن وأبي واقد ، وقد تراءى القوم فقال لهما : أنيخا الإبل
--------------------------- 530 ---------------------------
واعقلاها ، وتقدم حتى أنزل النسوة ، ودنا القوم فاستقبلهم ( عليه السلام ) منتضياً سيفه ، فأقبلوا عليه فقالوا : أظننت أنك يا غُدَر ناجٍ بالنسوة ، إرجع لا أباً لك ! قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : لترجعن راغماً أو لنرجعن بأكثرك شعراً ، وأهون بك من هالك !
ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها ، فحال علي ( عليه السلام ) بينهم وبينها ، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي ( عليه السلام ) عن ضربته ، وتختله علي فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه ، فكان ( عليه السلام ) يشد على قدمه شد الفارس على فرسه ، فشد عليهم بسيفه وهو يقول :
خلوا سبيل الجاهد المجاهدِ * آليت لا أعبدُ غير الواحدِ
فتصدع عنه القوم وقالوا له : أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب . قال : فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيثرب فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني أو فليدن مني . ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما : أطلقا مطاياكما » .
والكاثبة : مجتمع الكتف ! وهذه ثاني ضربة سيف لعلي ، صلوات الله عليه .

7 - فاطمة بنت أسد أول مسلمة هاجرت مشياً

اختارت فاطمة بنت أسد « عليها السلام » أن تهاجر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ماشية على قدميها ، تحتسب ذلك عند الله تعالى ، ففي الكافي : 1 / 453 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين « عليهما السلام » كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى المدينة على قدميها ، وكانت من أبر الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وروى عن داود الرقي قال : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ولي على رجل مالٌ قد خفتُ تَوَاهُ « ذهابه » فشكوت إليه ذلك فقال لي : إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافاً وصل ركعتين عنه ، وطف عن أبي طالب طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن عبد الله طوافاً وصل عنه ركعتين ، وطف عن آمنة طوافاً وصل عنها ركعتين ، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصل عنها ركعتين ، ثم ادع أن يرد عليك مالك . قال : ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا ، وإذا غريمي واقف يقول : يا داود حبستني ، تعال إقبض مالك » .
--------------------------- 531 ---------------------------

8 - ونزلت آيات القرآن تصف علياً ( ( ع ) ) والفواطم في طريق الهجرة

في أمالي الطوسي / 471 : « ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان ، فتلوَّمَ بها قدر يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فظل ليلته تلك هو والفواطم ، أمه فاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفاطمة بنت الزبير ، طوراً يصلون ، وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر ، فصلى ( عليه السلام ) بهم صلاة الفجر ، ثم سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل ، لا يفتر عن ذكر الله ، والفواطم كذلك وغيرهم ممن صحبه ، حتى قدموا المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ . فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ . آل عمران : 190 - 195 .
الذَّكَر علي ( عليه السلام ) والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن ، وهن فاطمة بنت رسول الله وفاطمة بنت أسد وفاطمة بنت الزبير . بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ : يقول : علي من فاطمة أو قال : الفواطم ، وهن من علي ( عليه السلام ) وتلا ( صلى الله عليه وآله ) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ، وقال : يا علي ، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله ، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله ، وآخرهم عهداً برسوله ، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ، ولا يبغضك إلا منافق
أو كافر » .
--------------------------- 532 ---------------------------

9 - بخلت السلطة برواية هجرة أمير المؤمنين ( ( ع ) )

كأن السلطة أمرت الرواة أن يخفوا مناقب علي ( عليه السلام ) في هجرته ، وما جرى له في مكة ، ولا يذكروا لحاق فرسان قريش به وقتله فارسهم جناح ، ولا نزول الآيات في عبادته ووالدته وفاطمة « عليهم السلام » ورفقائهم في طريق الهجرة ، ولا أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مدحه ! فذلك يرفع من قدره ، وهم يريدون انتقاص قدره !
قال ابن هشام : 2 / 335 : « قال ابن إسحاق : ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر . أما علي فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الودائع التي كانت عنده للناس ، وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته » .
وقال في : 2 / 342 : « وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها ، حتى أدى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الودائع التي كانت عنده الناس ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن هَدم » .
وقال في السيرة الحلبية : 2 / 233 : « كان يسير الليل ويكمن النهار ، حتى تفطرت قدماه ، فاعتنقه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرَّهما على قدميه ، فلم يشكهما بعد ذلك ! ولا مانع من وقوع ذلك من علي مع وجود ما يركبه ، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشياً ، رغبة في عظيم الأجر » .
أقول : كان يسير في الليل بسبب الحر وليس الخوف .
وروى ابن سعد : 3 / 22 : « عن أبي رافع عن علي قال : لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة في الهجرة ، أمرني أن أقيم بعده حتى أؤدي ودائع كانت عنده للناس ، ولذا كان يسمى الأمين ، فأقمت ثلاثاً فكنت أظهر ما تغيبت يوماً واحداً ، ثم خرجت فجعلت أتبع طريق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى قدمت بني عمرو بن عوف ورسول الله مقيم فنزلت على كلثوم بن الهدم وهنالك منزل رسول الله . . قدم علي للنصف من شهر ربيع الأول ورسول الله بقباء لم يُرِمْ » يذهب « بعد » . تاريخ دمشق : 42 / 69 .
--------------------------- 533 ---------------------------
وكثرت مكذوبات الحكومة في هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسرته ، وزعموا أن علياً ( عليه السلام ) لم يؤد أماناته ولم يهاجر بأسرته ( صلى الله عليه وآله ) ! وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث شخصين
أتيا بهن !
قال في الطبقات : 1 / 237 : « بعث رسول الله من منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع ، وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة ، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله وسودة بنت زمعة » !
والصحيح أنهما كانتامع زوجيهما ، وأن سودة لم تكن زوجة النبي في مكة !

10 - سرقوا مناقب علي ( ( ع ) ) وأعطوها لعمر !

فقد هاجر عمر قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشهور أو سنة ، سراً خوفاً من قريش ، وواعد هشام بن العاص عند إضاة بني غفار في المدينة ، ولم يواعده في أطراف مكة ولا في الطريق !
التنبيه للمسعودي / 200 ، الدرر / 77 ، الإمتاع : 9 / 188 ، السيرة الحلبية : 2 / 183 وغيرها .
بل روى الذهبي في تاريخه : 1 / 313 ، بسند صحيح عندهم : « فلما اشتدوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه أمر رسول الله أصحابه بالهجرة فخرجوا رَسْلاً رسلاً . . » .
وعدَّ في الذين هاجروا عمر وجماعة ، وكان ذلك قبل شهور أو سنة من هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ومع ذلك سرقوا هجرة علي ( عليه السلام ) وأعطوها لعمر وجعلوا روايتها على لسان علي ( عليه السلام ) ! فقال كما زعموا : « ما علمت أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب » ! أسد الغابة 4 / 58 .
قال في الصحيح من السيرة : 4 / 195 : « ونحن نقطع بعدم صحة هذا الكلام ، لأن عمر لم يكن يملك مثل هذه الشجاعة . لما تقدم في حديث إسلامه عن البخاري وغيره من أنه حين أسلم اختبأ في داره خائفاً حتى جاءه العاص بن وائل فأجاره فخرج حينئذٍ » . ثم عدد صاحب الصحيح فراره في الحروب وما عرف به من الجبن .
أقول : وقد وثق في مجمع الزوائد : 6 / 61 حديث عمر عن نفسه ، بأنه تواعد مع اثنين عند مشارف المدينة ، فحبس أحدهما ونجا الآخر ! وقال البخاري : 2 / 264
--------------------------- 534 ---------------------------
إن عمر هاجر في عشرين ، ولم يسمِّ أحداً منهم ! ولا وصف هجرته كيف كانت !
ومع ذلك يدهشك ابن الجوزي في كتابه : المدهش / 224 : « هاتوا لنا مثل عمر كل الصحابة هاجروا سراً وعمر هاجر جهراً ، وقال للمشركين قبل خروجه : ها أنا على عزم الهجرة ، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي » !
لكن كيف نصدق كلام ونحن لا نراه حضر في خطر تعرض له النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ولا نجد له دوراً في نزول النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قباء ، ولا في بناء المسجد النبوي .
ثم نقرأ أنه نزل في المدينة قرب اليهود خارج المدينة ، وكان يحضر دروسهم ، قال كما في البخاري : 1 / 31 : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك » .
وبنو أمية بن زيد جيران ملاصقون ليهود بني قريظة ، وبني زريق . تاريخ المدينة : 1 / 170 ، ابن إسحاق : 3 / 299 وابن هشام : 2 / 569 .
وبنو زريق هم الذين كتبوا لعمر التوراة ليتبناها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله فقال يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخٍ لي من
بني زريق ، فتغير وجه رسول الله » ! مجمع الزوائد : 1 / 174 ووثقه .

  • *
    --------------------------- 535 ---------------------------

الفصل التاسع والعشرون

أبو أيوب الأنصاري اختاره الله لضيافة رسوله « صلى الله عليه وآله »

أبو أيوب الأنصاري ، خالد بن زيد

1 . جاء في ترجمته في الإصابة : 2 / 199 : « خالد بن زيد بن كليب . أبو أيوب الأنصاري معروف باسمه وكنيته . شهد العقبة وبدراً وما بعدها ، ونزل عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم المدينة ، فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده .
وآخى بينه وبين مصعب بن عمير ، وشهد الفتوح وداوم الغزو ، واستخلفه علي على المدينة لما خرج إلى العراق ثم لحق به بعد ، وشهد معه قتال الخوارج .
عن أبي رهم أن أباأيوب حدثهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نزل في بيته ، وكنت في الغرفة فهريق ماء في الغرفة فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا نتتبع الماء شفقاً أن يخلص إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنزلت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنا مشفق ، فسألته فانتقل إلى الغرفة قلت يا رسول الله كنت ترسل إلي بالطعام ، فأنظر فأضع أصابعي حيث أرى أثر أصابعك حتى كان هذا الطعام ! قال أجل إن فيه بصلاً فكرهت أن آكل من أجل الملك ، وأما أنتم فكلوا .
شهد أبو أيوب بدراً ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى . ولزم أبو أيوب الجهاد بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة خمسين وقيل إحدى وقيل اثنتين وخمسين وهو أكثر » . وهو من رجال الصحاح الستة .
2 . وجاء في ترجمته في مصادرنا الكشي : 1 / 165 : « روى الحارث بن حصيرة الأزدي ، عن
--------------------------- 536 ---------------------------
أبي صادق ، عن محمد بن سليمان قال : قدم علينا أبو أيوب الأنصاري فنزل ضيعتنا يعلف خيلاً له ، فأتيناه فأهدينا له ، قال : قعدنا عنده فقلنا : يا أباأيوب قاتلت المشركين بسيفك هذا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم جئت تقاتل المسلمين ؟ فقال : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرني بقتال القاسطين والمارقين والناكثين ، فقد قاتلت الناكثين وقاتلت القاسطين ، وإنا نقاتل إن شاء الله بالمسعفات بالطرقات بالنهروانات ، وما أدري أنى هي ؟
وسئل الفضل بن شاذان عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وقتاله مع معاوية المشركين ؟ فقال : كان ذلك منه قلة فقه وغفلة ، ظنَّ أنه إنما يعمل عملاً لنفسه يقوي به الإسلام ويوهي به الشرك وليس عليه من معاوية شئ كان معه أولم يكن .
وسئل عن ابن مسعود وحذيفة ؟ فقال : لم يكن حذيفة مثل ابن مسعود ، لأن حذيفة كان ركناً ، وابن مسعود خلط ووالى القوم ومال معهم وقال بهم .
وقال أيضاً : إن من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أبو الهيثم بن التيهان وأبو أيوب وخزيمة بن ثابت وجابر بن عبد الله وزيد بن أرقم وأبو سعيد الخدري وسهل بن حنيف والبراء بن مالك وعثمان بن حنيف وعبادة بن الصامت ، ثم ممن دونهم قيس بن سعد بن عبادة وعدي بن حاتم وعمرو بن الحمق وعمران بن الحصين وبريدة الأسلمي وبشر كثير » .
وقال السيد الخوئي : 22 / 38 : « اعتراض الفضل على أبي أيوب الأنصاري في غير محله ، وتقدم في البراء بن مالك عد الفضل أباأيوب من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . قال المفيد : هو صاحب منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وله كلام يدعو به الناس إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولزوم إطاعته .
وتقدم في ترجمة جندب بن جنادة أبي ذر الغفاري ، عدُّ أبي أيوب الأنصاري من الاثني عشر الذين مضوا على منهاج نبيهم ولم يغيروا ولم يبدلوا » .
أقول : أبو أيوب ذو مكانة جليلة ، فهو من نقباء بيعة العقبة ، وقد نال شرف نزول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بيته لما هاجر ، وبقي عنده مدة حتى كمل بناء بيته ومسجده .
وشهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بدراً وأحداً والخندق ومشاهده كلها . وشهد مع
--------------------------- 537 ---------------------------
علي ( عليه السلام ) مشاهده كلها ، وكان والياً له على المدينة ، وقائداً في جيشه .
وتدل أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) في حقه على إيمانه وجلالته ، فقد يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمره بالجهاد حتى مع معاوية بعد علي ( عليه السلام ) ، وأخبره أنه سيدفن عند سور القسطنطينية ، ولذلك كان حريصاً على ذلك وأوصى به رغم أن معسكره كان بعيداً عن القسطنطينية .
3 . ورد في صفاته « قرب الإسناد / 45 » أن علياً ( عليه السلام ) سأله : « يا با أيوب ، ما بلغ من كرم أخلاقك ؟ قال : لا أؤذي جاراً فمن دونه ، ولا أمنعه معروفاً أقدر عليه . قال : ثم قال : ما من ذنب إلا وله توبة ، وما من تائب إلا وقد تسلم له توبته ، ما خلا السيئ الخلق ، لا يكاد يتوب من ذنب إلا وقع في غيره أشر منه » .
وروي عنه : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر » . مجمع الزوائد : 1 / 278 .
وهذا يدل على أنهم كانوا في الجاهلية يدخلون الحمام عراة ، فعلمهم الإسلام الحياء .
وفي المناقب : 1 / 114 : « عن سلمان أنه ( صلى الله عليه وآله ) لما نزل دار أبي أيوب لم يكن له سوى جدي وصاع من شعير فذبح له الجدي وشواه وطحن الشعير وعجنه وخبزه وقدم بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأمر بأن ينادى : ألا من أراد الزاد فليأت دار أبي أيوب ، فجعل أبو أيوب ينادي والناس يهرعون كالسيل حتى امتلأت الدار فأكل الناس بأجمعهم والطعام لم يتغير ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إجمعوا العظام ، فجمعوها فوضعها في إهابها ثم قال : قومي بإذن الله تعالى فقام الجدي ! فضج الناس بالشهادتين » .
4 . وكان أبو أيوب يصدع بإمامة أهل البيت : ، ففي الخصال / 412 : « عن أبي أيوب الأنصاري قال : إن رسول الله مرض مرضة فأتته فاطمة « عليها السلام » تعوده وهو ناقهٌ من مرضه ، فلما رأت ما برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الجهد والضعف خنقتها العبرة حتى جرت دمعتها على خدها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لها : يا فاطمة إن الله جل ذكره اطلع على الأرض اطلاعة فاختار منها أباك واطلع ثانية فاختار منها بعلك ،
--------------------------- 538 ---------------------------
فأوحى إلي فأنكحتكه ، أما علمت يا فاطمة أن لكرامة الله إياك زوجك أقدمهم سلما وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً . قال : فسرت بذلك فاطمة واستبشرت بما قال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأراد رسول الله أن يزيدها مزيد الخير كله من الذي قسمه الله له ولمحمد وآل محمد ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا فاطمة لعلي ثمان خصال : إيمانه بالله وبرسوله ، وعلمه وحكمته ، وزوجته ، وسبطاه حسن وحسين ، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وقضاؤه بكتاب الله . يا فاطمة إنا أهل بيت أعطينا سبع خصال لم يعطها أحد من الأولين قبلنا ولا يدركها أحد من الآخرين بعدنا : نبينا خير الأنبياء وهو أبوك ، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلك ، وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة عم أبيك ، ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة وهو جعفر ، ومنا سبطا هذه الأمة ، وهما ابناك » . وفي رواية كفاية الأثر / 113 : « ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين ، ومنا مهدي هذه الأمة » .
5 . وكان من الاثني عشر الذين وقفوا ضد السقيفة وخطبوا : ففي الإحتجاج : 1 / 97 والخصال / 461 عن أبان بن تغلب قال : « قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : نعم ، كان الذي أنكر على أبي بكر اثني عشر رجلاً . من المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي . ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبي بن كعب ، وأبو أيوب الأنصاري . . وغيرهم . فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم : هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وقال آخرون : إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم ، وقال الله عز وجل : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ ، ولكن إمضوا بنا إلى علي بن أبي طالب نستشيره ونستطلع أمره . فأتوا علياً ( عليه السلام ) فقالوا : يا أمير المؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به ، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإن الحق حقك ، وأنت أولى بالأمر منه ، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك . فقال لهم علي ( عليه السلام ) : لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم ، ولا كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح
--------------------------- 539 ---------------------------
في الزاد ، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها ، والكاذبة على ربها ! ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت ، لما تعلمون من وَغَر صدور القوم وبغضهم لله عز وجل ولأهل بيت نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأنهم يطالبون بثارات الجاهلية ! والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال ، كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني ، وقالوا لي : بايع وإلا قتلناك ، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي ! وذاك أني ذكرت قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي إنِ القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك ، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر ! ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة ، فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك ، فإن الأمة ستغدر بك بعدي ! كذلك أخبرني جبرئيل عن ربي تبارك وتعالى ! ولكن ائتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم ( صلى الله عليه وآله ) ولا تجعلوه في الشبهة من أمره ، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه ، وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وخالف أمره ! قال : فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم جمعة فقالوا للمهاجرين : إن الله عز وجل بدأ بكم في القرآن فقال : لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، فبكم بدأ . وكان أول من بدأ وقام ، خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية فقال : يا أبا بكر إتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . إلى آخر كلامه ومشادته مع عمر بن الخطاب .
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال : اتقوا الله في أهل بيت نبيكم ، وردوا هذا الأمر إليهم ، فقد سمعتم كما سمعنا في مقام بعد مقام ، من نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أنهم أولى به منكم . ثم جلس .
6 . أعلن أبو أيوب حديث الغدير ، فقد « جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا : السلام عليك يا مولانا ، قال : كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب ؟ قالوا : سمعنا رسول الله يوم غدير خم يقول : من كنت مولاه فإن هذا مولاه . قال رياح فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء ؟ قالوا : نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري » . مسند أحمد : 5 / 419 ، وثقه في الزوائد : 9 / 103 والرياض النضرة : 3 / 126 .
--------------------------- 540 ---------------------------
7 . وعندما ناشد علي ( عليه السلام ) الصحابة على وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) قام أبو أيوب وشهد له . ففي أسد الغابة لابن الأثير : 3 / 307 : « نشد علي الناس في الرحبة من سمع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم غدير خم قال ما قال إلا قام ؟ ولا يقوم إلا من سمع رسول الله يقول ، فقام بضعة عشر رجلاً فيهم أبو أيوب الأنصاري ، وأبو عمرة بن عمرو بن محصن ، وأبو زينب بن عوف الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد الله بن ثابت الأنصاري ، وحبشي بن جنادة الصلولي ، وعبيد بن عازب الأنصاري ، والنعمان بن عجلان الأنصاري ، وثابت بن وديعة الأنصاري ، وأبو فضالة الأنصاري ، وعبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري ، فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ألا من كنت مولا فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه ، وأعن من أعانه » .
8 . واجه أبو أيوب ( رحمه الله ) مروان بن الحكم في خلافة عثمان ، فسكت مروان ولم يتجرأ عليه روى الحاكم : 4 / 515 : « عن داود بن أبي صالح قال : أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع ؟ قال : نعم . فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال : جئت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم آت الحجر . سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن إبكوا عليه إذا وليه غير أهله » .
أي اعترض عليه مروان لأنه أكب على القبر الشريف ، لأن السلطة حَرَّمت ذلك !
فقال له أبو أيوب : يا مروان أنا أزور رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأكلمه ، ولا أعبد الحجر كما تزعمون ، وأنتم الذين وليتم الأمة بدون حق وغيَّرتم الدين ، وأنتم الذين قال فيكم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إبكوا على الدين إذا وليه غير أهله ! فسكت مروان !
9 . وكان أبو أيوب فارساً قائداً شجاعاً ، ففي المناقب : 2 / 355 : « وبرز أبو أيوب الأنصاري فنكلوا عنه ، فحاذى معاوية حتى دخل فسطاطه » . ومعناه أنهم خافوا من مبارزته ، أو خافوا أن يفتضحوا إن قتلوه .
--------------------------- 541 ---------------------------
وكان في معركة النهروان قائد ميمنة جيش علي ( عليه السلام ) ، وتقدم نحو معسكرهم ورفع لهم راية الأمان . شرح النهج لابن ميثم البحراني : 2 / 153 .
وفي المناقب : 2 / 374 ، « أن علياً ( عليه السلام ) عقد للحسين ( عليه السلام ) في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف » .
وفي الطبري : 4 / 64 أن علياً ( عليه السلام ) جعل على الخيل أباأيوب الأنصاري ، ورفع معه راية أمان « فناداهم أبو أيوب : من جاء هذه الراية منكم ممن لم يَقتل ولم يستعرض فهو آمن ، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن ، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم . فقال فروة بن نوفل الأشجعي والله ما أدري على أي شئ نقاتل علياً ، لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه ، وانصرف في خمس مائة فارس
حتى نزل البندنيجين والدسكرة ، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الكوفة ، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة وكانوا أربعة آلاف فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم ألفين وثمان مائة وزحفوا إلى علي ، وقدم على الخيل دون الرجال وصف الناس وراء الخيل صفين وصف المرامية أمام الصف الأول وقال لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدؤوكم » . وفيه : وشد أبو أيوب على زيد بن حصين من قادتهم فقتله ، وشد أبو المعتمر الكناني على حرقوص بن زهير رئيسهم فقتله .
وفي المناقب : 2 / 370 : « وجرت بينهم مخاطبات فجعل بعضهم يرجع ، فأعطى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري ، فناداهم أبو أيوب : من جاء إلى هذه الراية ، أو خرج من بين الجماعة فهو آمن . فرجع منهم ثمانية آلاف رجل ، فأمرهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يتميزوا منهم ، وأقام الباقون على الخلاف وقصدوا إلى النهروان » .
10 . أعلن أبو أيوب أن حب علي ( عليه السلام ) ميزان وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عَهِدَ له أن يقاتل أعداءه : ففي علل الشرائع : 1 / 145 : « قال أبو أيوب الأنصاري : أعرضوا حب علي على أولادكم ، فمن أحبه فهو منكم ، ومن لم يحبه فاسألوا أمه من أين جاءت به ،
--------------------------- 542 ---------------------------
فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لعلي بن أبي طالب : لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق ، أو ولد زنية ، أو حملته أمه وهي طامث » .
وفي كبير الطبراني : 4 / 172 : « عن محنف بن سليم قال : أتينا أباأيوب الأنصاري وهو يعلف خيلاً له بضيعتنا فقِلْنا عنده ، فقلت له : أباأيوب قاتلت المشركين مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم جئت تقاتل المسلمين ؟ قال : إن رسول الله أمرني بقتال ثلاثة الناكثين والقاسطين والمارقين ، فقد قاتلت الناكثين ، وقاتلت القاسطين ، وأنا مقاتل إن شاء الله المارقين ، بالشعفات بالطرقات بالنهراوات وما أدري ما هم » .
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد : 13 / 188 وابن عساكر في تاريخ دمشق : 42 / 472 بسند صحيح عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا : « أتينا أباأيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين فقلنا له : يا أباأيوب إن الله أكرمك بنزول محمد ( صلى الله عليه وآله ) وبمجئ ناقته تفضلاً من الله وإكراماً لك حتى أناخت ببابك دون الناس ، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله ! فقال : يا هذان إن الرائد لا يكذب أهله ، وإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمرنا بقتال ثلاثة مع علي : بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين . فأما الناكثون فقد قاتلناهم : أهل الجمل طلحة والزبير ، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم ، معاوية وعمراً ، وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات ، والله ما أدري أين هم ، ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله .
قال : وسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لعمار : يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك ، يا عمار بن ياسر ، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره ، فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى ، يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه ، قلده الله يوم القيامة وشاحين من در ، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه ، قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار ! قلنا : يا هذا حسبك رحمك الله ، حسبك رحمك الله » !
وروى قول عمار رضي الله عنه : « سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : يا علي ستقاتلك الفئة الباغية ، وأنت على الحق ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني » !
--------------------------- 543 ---------------------------
11 . كان والي المدينة ، لكنه لم يقاوم غارة بُسْر بن أرطاة ! فقد أرسل معاوية بسر بن أبي أرطاة ليغير على المدينة ، فخاف منه الناس لشدة فتكه ، فنكَّل بهم ، وكان أبو أيوب والي المدينة فهرب منها ! قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 2 / 9 : « فدخلوها ، وعامل علي عليها أبو أيوب الأنصاري ، صاحب منزل رسول الله فخرج عنها هارباً ودخل بُسْر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم ، وقال : شاهت الوجوه ! قال الله تعالى : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله ، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله ، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده ، فلم تشكروا نعمة ربكم ، ولم ترعوا حق نبيكم ، وقتل خليفة الله بين أظهركم ، فكنتم بين قاتل وخاذل ، ومتربص وشامت ، إن كانت للمؤمنين قلتم : ألم نكن معكم ! وإن كان للكافرين نصيب قلتم : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ! ثم شتم الأنصار فقال : يا معشر اليهود وأبناء العبيد ، بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبد الأشهل ، أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان ، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة . فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم ، ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى ويقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده ، وقال : عترتك وأنصار رسول الله ، وليسوا بقتلة عثمان ، فلم يزل به حتى سكن ، ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه . ونزل فأحرق دوراً كثيره ، منها دار زرارة بن حرون ، أحد بني عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الزرقي ، ودار لابن أبي أيوب الأنصاري ، وتفقد جابر بن عبد الله ، فقال : ما لي لا أرى جابراً ! يا بني سلمة ، لا أمان لكم عندي ، أو تأتوني بجابر ! فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها فأرسلت إلى بسر بن أرطاة ، فقال : لا أؤمنه حتى يبايع فقالت له أم سلمة : إذهب فبايع ، وقالت لابنها عمر إذهب فبايع ، فذهبا فبايعاه . قال إبراهيم : وروى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان قال : سمعت جابر بن
--------------------------- 544 ---------------------------
عبد الله الأنصاري يقول : لما خفت بسراً وتواريت عنه قال لقومي : لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر ، فأتوني وقالوا : ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك ودماء قومك ، فإنك إن لم تفعل قتلتَ مقاتلينا ، وسبيتَ ذرارينا ! فاستنظرتهم الليل ، فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر فقالت : يا بنيَّ انطلق فبايع ، احقن دمك ودماء قومك ، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع ، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة » .
أقول : كانت غارة ابن أرطاة على المدينة ومكة واليمن ، أكثر غارات معاوية فتكاً وتخريباً ونهباً وحرقاً وتقتيلاً ، فقد بلغ قتلاها ثلاثون ألفاً !
قال ابن عبد البر في الإستيعاب : 1 / 161 : « ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات ، فأُقِمْنَ في السوق » !
أي باعوهن ! وكان من الطبيعي لأبي أيوب رضي الله عنه أن يقاومه ، لكن يظهر أن أهل المدينة كانوا في حالة شديدة من الضعف والانهيار ، ولعل أباأيوب كان مريضاً ، وإلا فهو قائد عسكري ومن شجعان الأنصار رضي الله عنه .
12 . ساءت علاقة أبي أيوب مع معاوية لكنه لم يترك الجهاد : « غزا أرض الروم فمر على معاوية فجفاه ، فانطلق ثم رجع من غزوته فجفاه ، ولم يرفع له رأساً فقال : أنبأني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنا سنرى بعده أثرةً . قال معاوية : فبمَ أمركم ؟ قال : أمرنا أن نصبر . قال : إصبروا إذاً » ! مجمع الزوائد : 9 / 323 وصححه .
وفي رواية الحاكم : 3 / 459 : « قال وما أمركم ؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض ، قال : فاصبروا . قال : فغضب أبو أيوب وحلف أن لا يكلمه أبداً » .
13 . حرص أبو أيوب رضي الله عنه على أن يُدفن عند سور القسطنطينية . ففي المناقب : 1 / 122 : « حكى القعبي أن أباأيوب الأنصاري رؤي عند خليج قسطنطينة فسئل عن حاجته قال : أما دنياكم فلا حاجة لي فيها ، ولكن إن مت فقدموني ما استطعتم في بلاد العدو ، فإني سمعت رسول الله يقول : يدفن عند سور القسطنطينة
--------------------------- 545 ---------------------------
رجل صالح من أصحابي ، وقد رجوت أن أكونه » .
وزعم رواة السلطة أنه كان مع يزيد بن معاوية في تلك الغزوة فتوفي ، والصحيح أنه كان في معسكر الفرقدونه وهو بعيد عن القسطنطينية ، وكان الجيش ينتظر مجيئ يزيد ليقوده إلى القسطنطينية لكنه لم يأت وبقي مشغولاً بخمره في دير مران قرب دمشق ، حتى وقع المرض والوباء في الجيش ومات قسم منهم ، فأوصاهم أبو أيوب « رحمه الله » إن مات أن ينقلوا جنازته ويدفنوه عند سور القسطنطينية ، ليكون الذي وعده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك ، فحملوا جنازته مسافة يومين .
وفي رواية الحاكم : 3 / 457 : « إذا أنا متُّ فاركب ثم اسع في أرض العدو ما وجدت مساغاً ، فإذا لم تجد مساغاً فادفني ثم ارجع » . ونحوه الإستيعاب : 4 / 1607 .
وفي النهاية : 8 / 59 : « ولينطلقوا فيبعدوا بي في أرض الروم ما استطاعوا » . ونحوه تاريخ دمشق : 16 / 59 والإصابة : 2 / 200 وغريب الحديث : 2 / 713 وأسد الغابة : 2 / 82 وسير الذهبي : 2 / 404 ، الطبقات : 3 / 485 ، في رواية أخرى : ولينطلقوا بي فليبعدوا ما استطاعوا . . . فانطلقوا بجنازته ما استطاعوا . وفي الروض الأنف 4 / 94 : فركب المسلمون به حتى إذا لم يجدوا مساغاً دفنوه .
وقد نص البلاذري وهو مؤرخ ثبت على أن يزيداً لم يذهب حتى إلى معسكر الفرقدونة ، الذي كان ينتظره ، حتى وقع فيه المرض !
قال البلاذري في أنساب الأشراف / 1149 : « وأمر يزيد بالغزو فتثاقل واعتلَّ ، فأمسك عنه » ! وأرسل له معاوية أرسل مرات أن يتحرك فلم يفعل ، وقال :
إذا اتكأتُ على الأنماط مرتفقاً * بدير مُرَّانَ عندي أم كلثوم
فما أبالي بما لاقت جموعهم * بالغذقذونة من حمى ومن مُومِ
وفي تاريخ دمشق : 65 / 406 : « فكبر ذلك على معاوية فاطلع يوماً على ابنه يزيد وهو يشرب وعنده قينة تغنيه . الأبيات المتقدمة ، فقال معاوية : أقسم عليك يا يزيد لترتحلن حتى تنزل مع القوم وإلا خلعتك » ، فتهيأ يزيد للرحيل وكتب إلى أبيه :
تجنى لا تزال تعد ديناً * ليقطع وصل حبلك من حبالي
فيوشك أن يريحك من بلائي * نزولي في المهالك وارتحالي
--------------------------- 546 ---------------------------
وفي الأغاني : 17 / 211 : « فأصابهم جدري فمات أكثر المسلمين ، وكان ابنه يزيد مصطبحاً بدير مران مع زوجته أم كلثوم ، فبلغه خبرهم فقال . . . البيتين .
والموم أو البرسام : التهاب رئوي يسمى ذات الجنب ، وفسره بعضهم بالجدري .
لسان العرب : 12 / 46 والعين : 8 / 422 .
أنظر كيف فصلوا هذا الحديث على مقاس معاوية وابنه يزيد !
قال بخاري في صحيحه : 3 / 232 : « فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا . قالت أم حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ! فقلت : أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : لا » .
وقصدها أن معاوية أول من غزا في البحر لفتح قبرص فقد أوْجَبَ ، أي استحق الجنة ! وبنت ملحان هي أم أنس ، وكانت زوجة عبادة بن الصامت « رحمه الله » وكان قائداً في جيش قبرص ، وماتت بنت ملحان هناك .
قال في فتح الباري : 6 / 74 : « قال المهلب : في هذا الحديث منقبة لمعاوية ، لأنه أول من غزا البحر ، ومنقبة لولده يزيد ، لأنه أول من غزا مدينة قيصر » .
وقد عدها ابن تيمية منقبة ليزيد ، وكررها في كتبه ! كما في منهاجه : 4 / 544 و 571 وقال في مجموع الفتاوى : 3 / 413 « فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة » . ونحوه في : 4 / 486 و 18 / 352 وغيرها .
والصحيح أنهم كذبوا في الغزوتين ، وفي جعلهما منقبة ! وقد أوضحنا ذلك في المجلد الثاني الخاص بمعاوية من جواهر التاريخ .
وادعت رواية أن يزيداً وصل إلى استانبول : « ضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده فهشمه حتى انخرق ، فضرب عليه لوح من ذهب ، فهو عليه إلى اليوم » ! لكن لم تذكر الرواية لماذا لم يدخل الجنود من مكان ضربة يزيد التي خرقت باب السور ، وأن جنود الروم ماتوا من عزم الضربة !
--------------------------- 547 ---------------------------

الفصل الثلاثون

النبي « صلى الله عليه وآله » يؤسس مسجد قباء

1 - مسجد قباء : أول مسجد أسس على التقوى

قال الله تعالى : لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ .
وفي التهذيب : 6 / 17 قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : لا تدع إتيان المشاهد كلها : مسجد قُبا فإنه المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، ومشربة أم إبراهيم ، ومسجد الفضيخ ، وقبور الشهداء ، ومسجد الأحزاب ، وهو مسجد الفتح » .
وقال ( عليه السلام ) كما في جواهر الكلام : 20 / 108 : « هل أتيتم مسجد قُبا أو مسجد الفضيخ أو مشربة أم إبراهيم ؟ فقلت : نعم ، فقال : إنه لم يبق من آثار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شئ إلا وقد غُيِّر غير هذا . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من أتى مسجد قبا فصلى فيه ركعتين رجع بعمرة . إبدأ بقبا فصل فيه وأكثر فيه ، فإنه أول مسجد صلى فيه رسول الله في هذه العرصة » . راجع : العياشي : 2 / 111 ، كامل الزيارات / 64 و 66 والفقيه : 1 / 229 .
ويظهر أن لروح النبي ( صلى الله عليه وآله ) ارتباطاً بمسجد قباء ، فقد روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احتج على أبي بكر بعد السقيفة وقال له : هل تتوب إن رأيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأمرك برد الحق إلى صاحبه ؟ قال نعم ، فأخذه إلى مسجد قباء ورأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جالساً في محرابه ، وأمره برد الحق إلى صاحبه !
بصائر الدرجات / 297 والاختصاص / 272 .
--------------------------- 548 ---------------------------

2 - مسجد الضرار خطة رومية ضد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

قال الله تعالى : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ . أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . لايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
وقد أسس مسجد الضرار جماعة أبي عامر الراهب ، الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وآله )
أبا عامر الفاسق ، وبنوْهُ في السنة التاسعة للهجرة ليكون مقراً لهم ، فكشفهم الله تعالى وأمر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أن يهدمه فهدمه ، وجعله المسلمون موضع كناسة !
وقد رأيت موضعه قبل نحو أربعين سنة ، إلى يسار الداخل إلى مسجد قباء ، وكان محل قمامة ، لكن الوهابيين أزالوه .
وفي تفسير القمي : 1 / 305 : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا ، فإنه كان سبب نزولها أنه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجداً في بني سالم ، للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني ؟ فأذن لهم رسول الله وهو على الخروج إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : أنا على جناح سفر فإذا وافيت إن شاء الله أتيته فصليت فيه ، فلما أقبل رسول الله من تبوك نزلت عليه هذه الآية في شأن المسجد وأبي عامر الراهب : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، يعني أبا عامر الراهب كان يأتيهم في ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه . وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يَوْمٍ : يعني مسجد قبا ، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ . قال كانوا يتطهرون بالماء . وقوله : أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .
فبعث رسول الله مالك بن الدخشم الخزاعي ، وعامر بن عدي على أن يهدموه ويحرقوه ، فجاء مالك فقال لعامر : إنتظرني حتى أخرج ناراً من منزلي ، فدخل فجاء
--------------------------- 549 ---------------------------
بنار وأشعل في سعف النخل ، ثم أشعله في المسجد فتفرقوا ، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ، ثم أمر بهدم حائطه » .
وقال ابن هشام : 4 / 956 : « كان الذين بنوه اثني عشر رجلاً : خذام بن خالد ، من بني عبيد بن زيد ، أحد بنى عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب ، من بني أمية بن زيد ، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد . وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر وابناه : مجمع بن جارية ، وزيد بن جارية . ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة . وبحزج من بني ضبيعة ، وبجاد بن عثمان من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت وهو من بني أمية بن زيد » .

3 - أبو عامر الراهب الفاسق مندوب هرقل

في أعيان الشيعة : 1 / 284 : « وقوله تعالى : وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ : يراد به أبو عامر الراهب ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح « ثياب الشعر » فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وآله ) المدينة حزَّب عليه الأحزاب ، ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصر ، وسماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا عامر الفاسق » .
وفي الصحيح من السيرة : 4 / 130 : « عن سعيد بن المسيب . . أبو عامر النعمان بن صيفي الراهب ، الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : الفاسق ، كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فقدم المدينة فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما هذا الذي جئت به ؟
قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال : فأنا عليها فقال ( صلى الله عليه وآله ) : لست عليها لكنك أدخلت فيها ما ليس منها . فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : نعم أمات الله الكاذب منا كذلك !
وإنما قال هذا يعرض برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث خرج من مكة .
فلما كان يوم أحُد قال أبو عامر لرسول الله : إن أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك
--------------------------- 550 ---------------------------
معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم ، وكتب إلى المنافقين : استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمداً من المدينة ، فمات بالشام طريداً وحيداً . وفيه نزل : وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ » . وبحار الأنوار : 22 / 36 ، تفسير الثعلبي : 5 / 92 وأسباب النزول للواحدي / 175 .
وفي شرح النهج : 14 / 219 : « كان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلاً من الأوس حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي ( صلى الله عليه وآله ) يحرضها ويعلمها أنها على الحق وما جاء به محمد باطل ! فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها ، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها ، وكان يقول لقريش : إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان » .
وفي تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 488 : « قال موسى بن جعفر ( عليه السلام ) : وعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غانماً ظافراً « من تبوك » وأبطل الله تعالى كيد المنافقين ، أمر رسول الله بإحراق مسجد الضرار ، وأنزل الله تعالى : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا . . الآيات . ثم ذكرأن أبا عامر الراهب كان عجل هذه الأمة كعجل قوم موسى ، وأنه دمر الله عليه وأصابه بقولنج وبرص وجذام وفالج ولقوة ، وبقي أربعين صباحاً في أشد عذاب ، ثم صار إلى عذاب الله تعالى » . راجع في قصة أبي عامر الراهب : البحار : 21 / 252 ، شرح النهج : 14 / 219 و 244 ، ابن هشام : 2 / 423 و 4 / 956 ، نظرية عدالة الصحابة / 45 ، وقصص الأنبياء للراوندي / 350 ، تفسير الطبري : 11 / 38 والاستيعاب : 1 / 381 .
وجماعته على مبنى المخالفين لمذهب أهل البيت « عليهم السلام » : صحابة عدول !

4 - حنظلة بن أبي عامر الفاسق وابنه عبد الله !

جاء أبو عامر الفاسق مع قريش إلى حرب أحُد مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشارك فيها ، وحفر في مواجهة المسلمين حفائر وغطاها ، ليقع المسلمون فيها ، فوقع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في إحداها !
وكان له ولد اسمه حنظلة أسلم ، أسرع إلى أحُد وترك عروسه وقاتل مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقصد أبا سفيان وكاد أن يقتله فتكاثر عليه المشركون وقتلوه « رحمه الله » ، فسبحان من يخرج الحي من الميت ، وسيأتي خبره في معركة أحُد .
--------------------------- 551 ---------------------------
قال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : 1 / 159 : « استشهد حنظلة بن أبي عامر الراهب بأحُد فلم يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بغسله وقال : رأيت الملائكة بين السماء والأرض تغسل حنظلة بماء المزن في صحاف من فضة ، وكان يسمى غسيل الملائكة » .
وكان لحنظلة ولد اسمه عبد الله كان رئيس الأنصار في زمنه ، وأوفدوه إلى الشام ليتعرف على حقيقة يزيد بن معاوية وما شاع من فسقه وتهتكه : « فقدموا على يزيد وهو بحَوَّارين فنزلوا على الوليد بن عتبة ، فأقاموا عشرة أيام لم يصلوا إلى يزيد ! وانتقل يزيد من حوارين منتزهاً ، وشَخَصَ الوفد معه ، فأذن لهم يوم جمعة . واعتذر إليهم من تركه الإذن لهم عليه وقال : لم أزل وجعاً من رجلي إن الذباب ليسقط عليها فيخيل إليَّ أن صخرة سقطت عليها . وأذن لهم في الانصراف فرجعوا ذامين له مجمعين على خلعه » ! تاريخ دمشق : 26 / 258 والطبري : 4 / 380 .
قال في الطبقات : 5 / 66 : « أجمعوا على عبد الله بن حنظلة فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال : يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له ، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ! إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة ! والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً ! فتواثب الناس يومئذ يبايعون
من كل النواحي » .
وهكذا كانت ثورة أهل المدينة بعد كربلاء بسنتين ، فأرسل إليهم يزيد جيشاً أمعن تقتيلاً في بقية الصحابة والتابعين ، واستباح المدينة وقتل عبد الله بن حنظلة . راجع ما كتبناه عن ثورة أهل المدينة في سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) .

  • *
    --------------------------- 552 ---------------------------

الفصل الحادي والثلاثون

فريضة الهجرة وحقوق المهاجرين في الإسلام

1 - أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جميع المسلمين بالهجرة

اتفقت المصادر على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى ، وكان عدد المسلمين فيها أربعين مسلماً ، ثم تكاثروا وجاء منهم في الموسم نحو سبعين وبايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأمر المسلمين بالهجرة إليهم فهاجروا ، وانتظر هو حتى أمره ربه بالهجرة فهاجر . وبهذا نجحت خطة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في إيجاد قاعدة تحميه من قريش ، وتوفر له الجو المناسب ليبلغ رسالة ربه عز وجل ، رغم أنف قريش وفعالياتها المستميتة لقتله ( صلى الله عليه وآله ) !
قال المسعودي في التنبيه والإشراف / 200 : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر أصحابه قبل هجرته بالهجرة إلى المدينة ، فخرجوا أرسالاً فكان أولهم قدوماً أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وعامر بن ربيعة ، وعبد الله بن جحش الأسدي ، وعمر بن الخطاب ، وعياش بن أبي ربيعة » .
وقال الواحدي في أسباب النزول / 164 : « لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته : إنا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من يتعلق به زوجته وعياله وولده ، فيقولون : نشدناك الله أن تدعنا إلى غير شئ فنضيع ، فيرق فيجلس معهم ويدع الهجرة ، فنزل بعتابهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمان . . ونزل في الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا قوله تعالى : قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
--------------------------- 553 ---------------------------
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ . . » .
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع : 1 / 55 : « اشتد الأذى على من بمكة من المسلمين فأذن لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الهجرة إلى المدينة ، فبادروا إلى ذلك وتجهزوا إلى المدينة في خفاء وستر وتسللوا ، فيقال : إنه كان بين أولهم وآخرهم أكثر من سنة ، وجعلوا يترافدون بالمال والظهر ويترافقون ، وكان من هاجر من قريش وحلفائهم يستودع دوره وماله رجلاً من قومه ، فمنهم من حفظ من أودعه ، ومنهم من باع . . أول من هاجر بعد العقبة الأخيرة وخرج أول الناس أبو سلمة . . ثم هاجر عمر ، ثم تلاحق المسلمون بالمدينة يخرجون من مكة أرسالاً » .

2 - جعل الله الهجرة ميزاناً للإيمان والحقوق

1 . جعل الله الهجرة ميزاناً في تقييم المسلمين ، وعلاقاتهم ، وثبوت حقوقهم المدنية . وقد بدأت بالهجرة إلى الحبشة لما أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين المضطهدين ، ثم أمر الباقين بالهجرة إلى المدينة قبل هجرته بأكثر من سنة . ثم أوجب الهجرة إلى المدينة على من يسلم ، واستمرت الهجرة إلى فتح مكة فلا هجرة بعد الفتح ، إلا الهجرة إلى الإمام ( عليه السلام ) ، والى طلب العلم ، والهجرة من البلاد التي ينقص فيها دينه !
2 . وقد تضمنت آيات الهجرة مديحاً كبيراً للمهاجرين ، بشرط أن يكونوا مخلصين ، فقال تعالى : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . النحل / 41 - 42 .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَخَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ . الحج / 58 - 59 .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . « البقرة / 218 » . وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . 100 .
--------------------------- 554 ---------------------------
ونزلت أوائل آيات الهجرة في مدح علي والزهراء ( صلى الله عليه وآله ) ومن هاجر معهما كما تقدم فقال تعالى : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ . . الآيات من آل عمران .
3 . وتضمنت حث الأنصار والمسلمين الميسورين على مساعدة المهاجرين ، وشرعت لهم حقوقاً ، فقال تعالى : وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَليَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاتُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . النور / 22 .
مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . لْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَءُو الدَّارَ وَالإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ . الحشر / 7 - 10 .
4 . وجعلها الإسلام شرطاً لوجوب الولاية والتناصر ، فمن لم يهاجر لا تشرع ولايته : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا اُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَئٍْ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ . الأنفال / 72 - 75 .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً . وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . إِلا الَّذِينَ
--------------------------- 555 ---------------------------
يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَّهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً . النساء / 88 - 90 .
5 . وأوجب الله الهجرة على كل المسلمين يومذاك وأسقطها عن العاجزين فقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فيِمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً . فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَعَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا . وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا . النساء / 97 - 100 .
6 . والمهاجرون درجات ككل الناس ، ومنهم من يذنب ثم يتوب ، فيتوب الله عليه : لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَالتَّوَابُ الرَّحِيمُ .
7 . ومع فضل المهاجرين ، فضَّل الله المجاهدين منهم ومن غيرهم على القاعدين : لايَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا . النساء / 95 - 96 .
8 . بل فضَّل الله الجهاد مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) على كل مناصب الشرف التي تفخر بها قريش : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ . يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
--------------------------- 556 ---------------------------
مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ . خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمان وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ . التوبة / 16 - 24 .
9 . ومع ولاية المهاجرين وأخُوَّتهم لبعضهم ، أبقى الله التوارث حسب النسب ، فقال تعالى : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا .

3 - القيمة الشرعية لإجماع المهاجرىن والأنصار

تتكون أمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، وقد أخرج منها طلقاء قريش وعتقاء ثقيف وذرياتهم إلى يوم القيامة ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) :
« المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة » .
وقد روته المصادر بأسانيد صحيحة بشرط الشيخين ، كأحمد : 4 / 363 بروايتين ، وأفتى عمر بأن رئاسة الدولة الإسلامية محرمة على الطلقاء ، فقال « الطبقات 3 / 342 » « هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد ، وفي كذا وكذ ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ » .
وَقد بَيَّنَ أهل البيت « عليهم السلام » السبب في جعل الإسلام ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار حجة شرعية وهو أن العترة النبوية الطاهرة « عليهم السلام » في هذه المجموعة فإجماعها يتضمن رأي الإمام المعصوم ( عليه السلام ) الذي هو حجة شرعية كالقرآن ، بحكم : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » .
ولذا احتج علي ( عليه السلام ) على معاوية بأنك إن لم تعترف بالنص النبوي على الخلافة ، فإن المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا على بيعتي ، فوجب عليك القبول !
--------------------------- 557 ---------------------------
قال ( عليه السلام ) لأبي هريرة وأبي الدرداء عندما جاءاه برسالة معاوية : « قد أبلغتماني عنه فأبلغاه عني وقولا له : إن عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين ، إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه ، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولانصرته ، فلا يخلو من إحدى الخصلتين . والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً مظلوماً كان أو ظالماً حلال الدم أو حرام الدم ، أن لايعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا يبدأوا بشئ ، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة ، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيأهم ويقيم حجتهم وجمعتهم ويجبي صدقاتهم ، ثم يحتكمون اليه في إمامهم المقتول ظلماً ويحاكمون قتلته اليه ليحكم بينهم بالحق ، فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه ، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك .
هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه . وإن كانت الخيرة إلى الله عز وجل والى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد رضي لهم إماماً ، وأمرهم بطاعته واتباعه » . كتاب سليم / 291 .

4 - من أعمال السلطة لتحريف الهجرة ومصادرتها

أ - الهجرة في الإسلام نوعان : الأول : هجرة أمر بها النبي في عصره وانتهت بفتح مكة ، ففي الكافي : 5 / 443 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لارضاع بعد فطام ، ولاوصال في صيام ، ولايُتم بعد احتلام ، ولاصمت يوم إلى الليل ، ولاتَعَرُّبَ بعد الهجرة ، ولاهجرة بعد الفتح ، ولاطلاق قبل النكاح ، ولاعتق قبل ملك ، ولا يمين للولد مع والده ، ولا للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها . ولا نذر في معصية ، ولا يمين في قطيعة » .
ونحوه في مبسوط السرخسي : 5 / 135 عن جابر : « لارضاعَ بعد الفصال ، ولا يتم
--------------------------- 558 ---------------------------
بعد الحلم ، ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا وصال في صيام ، ولا طلاق قبل النكاح ، ولا عتق قبل الملك ، ولا وفاء في نذر في معصية ، ولا يمين في قطيعة رحم ، ولاتغرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح » .
والنوع الثاني : هجرة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الإمام ( عليه السلام ) ، والى طلب العلم ، وهجرة من البلاد التي ينقص فيها دينه ولا يستطيع أداء واجباته ! راجع : جواهر الكلام : 13 / 363 ، 17 / 337 و 21 / 34 والمغني : 10 / 513 .
ب . من أعمال بطون قريش : أنهم جعلوا الهجرة امتيازاً مطلقاً لقريش وحقاً مكتسباً لكل مهاجر ، فرفعوها شعاراً في مقابل الأنصار وأهل البيت « عليهم السلام » ، لأنها برأيهم ميزت المهاجرين على الأنصار ، وساوتهم بأهل البيت « عليهم السلام » !
وقد حذف عمر الواو من قوله تعالى : وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ، ليجعل الأنصار تبعاً للمهاجرين ، فوقف في وجهه الأنصار وقالوا إنهم مستعدون للحرب من أجل الواو ! الحاكم : 3 / 305 .
ج . ومن أعمالهم : أنهم غَلَّبُوا الهجرة على الجهاد ، فالمهاجر ممتازٌ على الناس حتى لو كان فرَّاراً هرَّاباً في الحرب ، ناكثاً لبيعته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن لا يفر !
د . ومن أعمالهم : « أنهم أهملوا شرط الهجرة ، بأن تكون لله تعالى لا لمكسب دنيوي ، مع أنهم رووا تشديد النبي ( صلى الله عليه وآله ) للمسلمين على نية الهجرة عندما قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعمر : إنما لامرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنياً يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه » . صحيح بخاري : 1 / 2 ، وكرر روايته . وكذا الغازي المقاتل مسائل علي بن جعفر / 346 .
وقد أخفوا الذين كانت نياتهم من هجرتهم دنيوية ، ومنهم من كان يصرح بها كمهاجر أم قيس ، الذي قال إنه هاجر ليتزوج أم قيس ، وقد ضيعوا اسمه !
قال في فتح الباري : 1 / 16 : « مهاجر أم قيس ، ولم نقف على تسميته » !
ويظهر أن تحريف الهجرة بدأ في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولذا قال : « ألا أنبئكم لمَ سمي المؤمن
--------------------------- 559 ---------------------------
مؤمناً ؟ لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم . ألا أنبئكم من المسلم ؟ من سلم الناس يده ولسانه . ألا أنبئكم بالمهاجر ؟ من هجر السيئات وما حرم الله عليه » . علل الشرائع : 2 / 532 ، نحوه الكافي : 2 / 235 ، المحاسن : 1 / 285 وفتح الباري : 1 / 51 .
ه - . ومن أعمالهم : أنهم غطوا على قرشيين ارتدوا وعصوا ولم يهاجروا ، وزعموا أنهم كانوا محبوسين من قبائلهم ! ومن أمثلتهم ثلاثة من أقارب عتاة قريش ، فقد زعم البخاري في سبع مواضع من صحيحه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعا لهم شهوراً في قنوته أن ينجيهم الله من أيدي المشركين ، ويقول : « اللهم أنجِ الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين » ! صحيح البخاري : 1 / 194 ، 2 / 15 ، 3 / 233 ، 4 / 122 ، 5 / 171 ، 7 / 118 و 165 .
وهم : ابن الوليد بن المغيرة ، وأخ أبي جهل ، وابن عمه ! « فتح الباري 8 / 170 » . ومعنى دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهم أنهم أخيار ! ورووا أن هؤلاء اتفقوا على الهجرة مع عمر فمنعهم قومهم فنزلت فيهم آية التوبة فأرسلها لهم عمر . تفسير الطبري : 24 / 21 .
لكنهم اعترفوا بأن عياشاً أخ أبي جهل : « قتل رجلاً مؤمناً ، كان يعذبه مع أبي جهل » ! وقالوا إنه أسلم وهاجر مع المهاجرين ، فجاء أبو جهل إلى المدينة وربطه وأرجعه إلى مكة ، فقال المشركون : « إن أبا جهل ليقدر من محمد على ما يشاء . فيأخذ أصحابه فيربطهم » ! تفسير الطبري : 5 / 276 .
ورووا : « كان الوليد بن الوليد على دين قومه وشهد بدراً مع المشركين فأسر وافتدى ، ثم أسلم ورجع إلى مكة فوثب عليه قومه فحبسوه مع عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام ، فألحقه رسول الله بهما في الدعاء » . الطبقات : 4 / 131 .
قال المقريزي في إمتاع الأسماع : 9 / 114 : « وكان قوم من الأشراف قد أسلموا ثم فتنوا « ارتدوا » ! منهم سلمة بن هشام بن المغيرة ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص السهمي » !
فحقيقة هؤلاء « المهاجرين » أنهم ارتدوا ، وبعضهم حارب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر !
و . ومن أعمالهم : أنهم ادعوا أن آية غزوة الحديبية : وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ
--------------------------- 560 ---------------------------
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . « الفتح / 25 » . نزلت فيمن أحبوا من مشركي قريش وطلقائها ! لذا لا يمكن الوثوق برواياتهم فيهم . وقد روينا عن أهل البيت « عليهم السلام » أن الآية تقصد المؤمنين في أصلاب المشركين ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كان لله ودايع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن علي ( عليه السلام ) ليقتل الآباء حتى تخرج الودايع ، فلما خرج ظهر على من ظهر وقتله ، وكذلك قائمنا أهل البيت لم يظهر أبداً حتى تخرج ودايع الله ، فإذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله » . تفسير القمي : 2 / 316 .
والمؤكد أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو كان مسلماً ممنوعاً من الهجرة ، ولعل منهم طالب بن أبي طالب « رحمه الله » ، أما عقيل والعباس بن عبد المطلب فكان هواهما مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنهما جاءا مع قريش إلى بدر فوقعا في الأسر ، ونزل فيهما قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ . قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « نزلت في العباس وعقيل ونوفل ، وقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبو البختري فأسروا ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) فقال : أنظر من هاهنا من بني هاشم ، قال : فمر علي على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه فقال له عقيل : يا ابن أم علي ، أما والله لقد رأيت مكاني ! قال : فرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : هذا أبو الفضل في يد فلان ، وهذا عقيل في يد فلان ، وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان . فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى انتهى إلى عقيل فقال له : يا أبا يزيد قتل أبو جهل ! قال : إذا لا تنازعون في تهامة . فقال : إن كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم ! فقال : فجيئ بالعباس فقيل له : إفْدِ نفسك وافد ابن أخيك ، فقال : يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي ! فقال : أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها : إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك ، فقال له : يا ابن أخي من أخبرك بهذا ؟ فقال : أتاني به جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله عز وجل ! فقال ومحلوفه : ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي ! أشهد أنك رسول الله ، قال : فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل ، وفيهم نزلت هذه الآية » . الكافي : 8 / 202 .
--------------------------- 561 ---------------------------

الفصل الثاني والثلاثون

القرآن المكي والمدني

1 - قياسهم القرآن بكتب البشر !

لا يقاس القرآن بكتب البشر ، فهو المعجزة الخالدة التي ما زالت تتحدى أهل الأرض فيخضعون أمامها ، أو يتولون معرضين !
وهو كتاب متوسط الحجم يقع في نحو أربع مئة صفحة ، فمجموع كلماته نحو 80 . 000 كلمة ، ومعدل السطر عشر كلمات ، ومعدل الصفحة عشرون سطراً .
وقد تنزَّل في مدة بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث وعشرين سنة ، منها ثلاث عشرة سنة في مكة ، نزل فيها بضع وثمانون سورة ، في 4475 آية ، أي ثلاثة أرباع القرآن ، لأن مجموعه 6226 آية ، ونزل بقيته نحو بضع وثلاثين سورة في المدنية ، في نحو 1716 آية . وقلنا « نحو » بسبب اختلاف الإجتهاد في تعداد الآيات .
راجع : تفسير التبيان للطوسي : 10 / 438 ، فهرست ابن النديم / 28 ، شواهد التنزيل : 2 / 410 والبرهان للزركشي : 1 / 194 . ومواقع :
http : / / www . lomazoma . com / forum / showthread . php ? t = 1540
http : / / wahat . sahara . com / index . php
http : / / www . alhashemih . com / vb / showthread . php ? p = 18288
وتأثر بعض المسلمين بالمستشرقين فكتب عن المكي والمدني في القرآن والفرق بينهما ، بأسلوب معادٍ يهدف إلى إثبات أن القرآن من تأليف النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وأنه خضع للتطور البشري
--------------------------- 562 ---------------------------
في التأليف ، في فترة معاداة قريش ومحاصرتها له في مكة ، ثم في فترة حروبه ( صلى الله عليه وآله ) وانتصاره ، ثم مرحلة تكوين الدولة والمجتمع .
ووقع بعضهم في تعميمات لا تصح ، وظنون لا تغني عن الحق . والصحيح أنه لافرق في البلاغة والإعجاز والجوهر بين النص المكي والمدني ، وإن اختلف ظرفاهما ، فالمنبع والصيغة ورؤية المؤلف عز وجل فيهما واحدة ، ولو نطق النص عن شخصية مؤلفه لقال إنه كلام العليم بالمطلق سبحانه .
أما عن أسباب نزول الآيات وأمكنتها وأوقاتها ، فقد ذكرنا في المقدمة أنه لا يمكن الاعتماد على رواياتهم إلا ما ندر ، لكثرة مكذوبات رواة السلطة فيها .
هذا ، وقد تعرضنا لبعض الآيات في فصول الكتاب ، كآيات الأنفال في معركة بدر ، وآيات معركة أحُد ، وغيرها من مقاطع السيرة . ولا يتسع المجال لعرض معالم السيرة النبوية في القرآن ، لأنه يحتاج إلى كتاب مستقل .

2 - هَزَّت آيات القرآن وجدان العرب وعقولهم

أ . في إعلام الورى : 1 / 110 : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يكف عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون : هذا شعر محمد ! ويقول بعض : بل هو كهانة ! ويقول بعضهم : بل هو خطب . وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً وكان من حكام العرب ، يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار ، فما اختاره من الشعر كان مختاراً ، وكان له بنون لايبرحون مكة ، وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها ، وملك القنطار في ذلك الزمان ، والقنطار جلد ثور مملوء ذهباً ، وكان من المستهزئين برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان عم أبي جهل بن هشام ، فقالوا له : يا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد أسحرٌ أم كهانة أم خُطَب ؟ فقال : دعوني أسمع كلامه ! فدنا من رسول الله وهو جالس في الحجر فقال : يا محمد أنشدني من شعرك . فقال : ما هو شعر ولكنه كلام الله الذي بعث أنبياءه ورسله . فقال : اتلُ عليَّ منه . فقرأ عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بسم الله الرحمن الرحيم ،
فلما سمع الرحمن استهزأ فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن ؟ قال : لا
--------------------------- 563 ---------------------------
ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم . ثم افتتح حم السجدة ، فلما بلغ إلى قوله : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ، وسمعه اقشعر جلده ، وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته ، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش ! فقالت قريش : يا أبا الحكم ، صبا أبو عبد شمس إلى دين محمد ! أما تراه لم يرجع إلينا ، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله ! فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا عليه أبو جهل فقال : يا عم نكست برؤوسنا وفضحتنا . قال : وما ذلك يا ابن أخي ؟ قال : صبوت إلى دين محمد ! قال : ما صبوت وإني على دين قومي وآبائي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود . قال أبو جهل : أشعرٌ هو ؟ قال : ما هو بشعر . قال : فخطبٌ هي ؟ قال : لا إن الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منثور لا يشبه بعضه بعضاً ، له طلاوة . قال : فكهانةٌ هو فكأنه هي ؟ قال : لا . قال : فما هو ؟ قال : دعني أفكر فيه . فلما كان من الغد ، قالوا : يا عبد شمس ما تقول ؟ قال : قولوا : هو سحر ، فإنه أخذ بقلوب الناس فأنزل الله تعالى فيه :
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ » . وتفسير القمي : 2 / 393 والتسهيل : 4 / 161 .
ب . وفي إمتاع الأسماع : 4 / 345 : « أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش « دعاهم إلى طعام » وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويردُّ قولكم بعضه بعضاً ! قالوا : فأنت يا عبد شمس ، قم وأقم لنا رأياً نقل به ، فقال : بل أنتم تقولون وأسمع ، قالوا : نقول : إنه كاهن ، قال : فما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا سجعهم . قالوا : فنقول : إنه مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا بتخالجه
--------------------------- 564 ---------------------------
ولا وسوسته . قالوا : فنقول إنه شاعر ، قال ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشاعر . قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده . فقالوا : فما نقول يا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه أن يقولوا : هو ساحر ، يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه وزوجه ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون يسألون الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره ! فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا » . وابن إسحاق : 2 / 132 ، الدر المنثور : 4 / 106 .
ج . وفي تفسير العياشي : 2 / 295 وتفسير فرات / 241 والكافي : 8 / 266 ، عن عمرو بن شمر قال : « سألت جعفر بن محمد ( عليه السلام ) : إني أؤمُّ قومي فأجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : نعم فاجهر بها قد جهر بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . ثم قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، فإذا قام من الليل يصلي جاء أبو جهل والمشركون يستمعون قراءته « ومنهم عتبة وشيبة » فإذا قال : بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وضعوا أصابعهم في آذانهم وهربوا ، فإذا فرغ من ذلك جاؤوا فاستمعوا ! قال : وكان أبو جهل يقول : إن ابن أبي كبشة ليردد اسم ربه إنه ليحبه . فقال جعفر ( عليه السلام ) : صدق وإن كان كذوباً ، فأنزل الله : وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ! وهو : بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » .
وروى العياشي : 1 / 21 ردَّت الإمام الصادق ( عليه السلام ) لإنكارهم البسملة وإخفائها ، قال : « ما لهم قاتلهم الله ! عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله ، فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها » !

3 - أكذوبة احتباس الوحي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

1 . زعم رواة السلطة ، كما في البخاري ، أن الوحي احتبس على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأراد أن يرمي نفسه من شاهق وىنتحر ! وزعموا أنه كان لمدة طويلة ، أو قصيرة . وأن سببه
--------------------------- 565 ---------------------------
خطأ من النبي ( صلى الله عليه وآله ) حيث قال سأفعل غداً ولم يستثنِ ! أو سببٌ من الناس ، أو بدون سبب ! وكل ذلك لا يصح من ذلك إلا احتاسه قليلاً وعدم نزول جبرئيل ( عليه السلام ) بسبب وسخ بعض الناس وروائحهم النتنة .
واستدلوا على احتباس الوحي بقوله تعالى : وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى . مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ، مع أنه قد يكون السبب أن المشركين سألوه هل نزل عليك الوحي اليوم وأمس ، فقال لا ، فأشاعوا أن محمداً قلاه ربه وتركه ، فأجابهم الله تعالى .
واستدلوا بقوله تعالى : وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ . وليس فيها دلالة على أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال سأفعل ذلك غداً ولم يستثن . وقد تكون الآية تعليماً ابتدائياً للرسول والناس ، وما ذكروه من عدم استثنائه ( صلى الله عليه وآله ) لم يثبت منه شئ !
2 . كان الوحي ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متتابعاً ، وقد يتأخر أياماً ، وذكرالله تعالى حكمة تنزيل القرآن متفرقاً ، فقال : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً . لكن المشركين كانوا يبحثون عن أي شئ لينتقصوا به النبي ، قال البخاري : 6 / 97 : « اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك ! فأنزل الله عز وجل : وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى » .
لكنه حديث مضطرب ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن يقم الليل في مكة في المسجد . وقالوا إن المرأة فهي حمالة الحطب أو إحدى عماته ( صلى الله عليه وآله ) « فتح الباري : 2 / 8 » وزعم بعضهم أنها خديجة « عليها السلام » « عمدة القاري : 7 / 173 » فينبغي أن يكون أصل الحديث أنه غاب عن المسجد يومين فقالت ذلك حمالة الحطب ، أما خديجة « عليها السلام » وعماته فلا يمكن أن يصدر منهن مثل هذا الكلام .
3 . ثم جعلوا مدة احتباس الوحي أربعة أيام ، وجعلها بعضهم شهوراً ، أو سنوات ! وزعمت عائشة كما في البخاري أن ذلك كان في أوائل البعثة فذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) مراراً إلى شواهق الجبال لينتحر فرده جبرئيل !
--------------------------- 566 ---------------------------
ونسب ابن إسحاق : 2 / 115 وابن هشام : 1 / 159 ، إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله : « قد خشيت أن يكون صاحبي قد قلاني وودعني ! فجاء جبريل بسورة والضحى » .
4 . قال في فتح الباري : 3 / 6 ، إنهما قضيتان ، بل يفهم من رواياتهم أنها وقعت أكثر من مرتين ، فبعضهم ذكر أنها أول البعثة ، وبعضهم جعلها بعد نزول سورة المسد وبعضهم جعلها عندما سئل النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن أهل الكهف . وزعم بعضهم أن سبب انقطاع الوحي أنه كان في غرفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) جرو كلب فمات تحت السرير ولم ينتبه له النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! أسباب النزول / 302 والإتقان : 1 / 94 .
واضطراب روايتهم يوجب زيادة الشك ، والمعقول أنهم سألوه ( صلى الله عليه وآله ) عن شئ مثلاً فقال أنتظر الوحي ، فقالوا قلاه ربه أو نحوه ، فنزلت الآية .
5 . وروى ابن إسحاق ، « فتح الباري : 8 / 545 » : « أن المشركين لما سألوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن ، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره وتكلم المشركون ، فنزل جبريل بسورة والضحى وبجواب ما سألوا وبقوله تعالى : وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ » . وفي تفسير الطبري : 15 / 284 : « فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة . . فقال : ولا تقولن يا محمد لشئ إني فاعل ذلك غداً ، كما قلت لهؤلاء » .
وفي رواية عندهم وعندنا أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال لليهود : « تعالوا غداً أحدثكم ولم يستثن ، فاحتبس جبرئيل عنه أربعين يوماً » « الفقيه 3 / 362 » فنزل عليه : وَلا تَقُولَنَّ لِشَئٍْ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ » . لكن هذا بعيد عن منطقه ( صلى الله عليه وآله ) وخلقه الذي قال الله عنه : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ .
ولعل بعده عن منطق النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو السبب في أن صاحب الجواهر « رحمه الله » لم يصف الحديث بالصحة « جواهر الكلام 35 / 245 » وإن وصفه بذلك صاحب تتمة الحدائق « رحمه الله » : 2 / 168 .
6 . نعم قد يصح أن الوحي كان يتأخر عنه ( صلى الله عليه وآله ) في وقت ما أو مكان ما ، بسبب الروائح الكريهة من أجسامهم ! ففي الكافي : 6 / 492 ، وقرب الإسناد / 23 ، قال الإمام
--------------------------- 567 ---------------------------
الصادق ( عليه السلام ) : « احتبس الوحي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقيل له احتبس الوحي عنك ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : وكيف لايحتبس وأنتم لا تقلمون أظفاركم ، ولاتُنَقٌّون رواجبكم » !
وفي مسند أحمد : 1 / 243 : « ولم لايبطئ عني وأنتم حولي لاتستنون ولا تقلمون أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تنقون رواجبكم » . ومجمع الزوائد : 5 / 167 ووثقه .
والرواجب رؤوس الأصابع ، والوسخ تحتها يسمى الرَّفَغ . ابن الأثير : 2 / 244 .
لكن هذا احتباس موقت بسبب وجود القذرين ، ويمكن أن ينزل في غيره .
وقد ورد في مصادر الطرفين حساسية الملائكة من الروائح . ففي الكافي : 2 / 429 : « عن عبد الله بن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) قال : سألته عن الملكين يعلمان الذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو بالحسنة ؟ قال فقال ( عليه السلام ) : فريح الكنيف والطيب عندك واحدة ؟ قال : قلت : لا . قال ( عليه السلام ) : العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال قف فإنه قد هم بالحسنة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه ، وريقه مداده فيثبتها له وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف فإنه قد هم بالسيئة » .
وفي كتاب سعيد / 53 : « فيثبتان ما كان من خير وشر ، ويلقيان ما سوى ذلك » .

  • *
    --------------------------- 568 ---------------------------

الفصل الثالث والثلاثون

بعض صفات النبي وأخلاقه ومعجزاته « صلى الله عليه وآله »

1 - من وصف أمير المؤمنين ( ( ع ) ) لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في أمالي الطوسي / 340 ، قالوا لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « صف لنا نبينا ( صلى الله عليه وآله ) كأننا نراه ، فإنا مشتاقون إليه ! قال : كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبيض اللون ، مشرباً حمرة ، أدعج العين ، سبط الشعر ، كث اللحية ، ذا وفرة ، دقيق المسربة « شعر الصدر » كأنما عنقه إبريق فضة ، يجري في تراقيه الذهب ، له شعر من لبته إلى سرته ، كقضيبٍ خِيطَ إلى السرة ، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره .
شثن الكفين والقدمين ، شثن الكعبين ، إذا مشى كأنما ينقلع من صخر ، إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب ، إذا التفت التفت جميعاً بأجمعه كله .
ليس بالقصير المتردد ، ولا بالطويل الممعَّط « المفرط » وكان في وجهه تدوير ، إذا كان في الناس غمرهم ، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ ، عرقه أطيب من ريح المسك .
ليس بالعاجز ولا باللئيم ، أكرم الناس عشرة ، وألينهم عريكة ، وأجودهم كفاً . من خالطه بمعرفةٍ أحبه ، ومن رآه بديهةً هابه . له غرةٌ بين عينيه . يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله ( صلى الله عليه وآله ) » .
« مستقرُّهُ خيرُ مستقر ، ومنبتُه أشرف منبت ، في معادن الكرامة ، ومماهد السلامة .
قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثُنيت إليه أزمة الأبصار . دفن الله به الضغائن ، وأطفأ به الثوائر . ألف به إخواناً ، وفرّق به أقراناً ، أعز به الذلة ، وأذل به العزة . كلامه بيان ، وصمته لسان » . نهج البلاغة / الخطبة : 94 ، 187 .
--------------------------- 569 ---------------------------
« فتأس بنبيك الأطيب الأطهر ( صلى الله عليه وآله ) فإن فيه أسوةً لمن تأسى ، وعزاءً لمن تعزَّى . وأحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيه والمقتصُّ لأثره . قضم الدنيا قضماً ، ولم يُعِرْهَا طرفاً . أهضم أهل الدنيا كشحاً ، وأخمصهم من الدنيا بطناً . عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها . علم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه ، وحقر شيئاً فحقره ، وصغَّر شيئاً فصغَّره . ولو لم يكن فينا إلاّ حبنا ما أبغض الله ورسوله ، وتعظيمنا ما صغَّر الله ورسوله لكفى به شقاقاً لله ، ومحادَّةً عن أمر الله !
ولقد كان ( صلى الله عليه وآله ) يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه . ويكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول : يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني ، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها . فأعرض عن الدنيا بقلبه ، وأمات ذكرها من نفسه ، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتخذ منها رياشاً ، ولا يعتقدها قراراً ، ولا يرجو فيها مقاماً . فأخرجها من النفس ، وأشخصها عن القلب ، وغيّبها عن البصر . وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه ، وأن يذكر عنده . ولقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما يدلّك على مساوئ الدنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصّته ، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته .
فلينظر ناظر بعقله ، أكرم الله محمّداً بذلك أم أهانه ؟ فإن قال : أهانه فقد كذب والله العظيم بالإفك العظيم . وإن قال أكرمه ، فليعلم أنّ الله قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له ، وزواها عن أقرب النّاس منه » . نهج البلاغة / 88 ح ، 580 .
« فقاتلَ بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى منجاتهم ، ويبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم . يحسر الحسير « يعالج الضعيف » ويقف الكسير فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته ، إلاّ هالكاً لا خير فيه . حتّى أراهم منجاتهم ، وبوّأهم محلّتهم ، فاستدارت رحاهم واستقامت قناتهم » . نهج البلاغة / الخطبة : 102 ، 198 .
« اللهم داحي المدحوات ، وداعم المسموكات ، وجابل القلوب على فطرتها ، شقيها وسعيدها ، اجعل شرائف صلواتك ، ونوامي بركاتك ، على محمد عبدك
--------------------------- 570 ---------------------------
ورسولك ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحق بالحق ، والدافع جيشات الأباطيل ، والدامغ صولات الأضاليل ، كما حمل فاضطلع قائماً بأمرك ، مستوفزاً في مرضاتك ، غير ناكلٍ عن قدم ، ولا واه في عزم ، واعياً لوحيك ، حافظاً لعهدك ، ماضياً على نفاذ أمرك ، حتى أورى قبس القابس ، وأضاء الطريق للخابط ، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن ، وأقام موضحات الأعلام ونيرات الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدين ، وبعيثك بالحق ، ورسولك إلى الخلق .
اللهم افسح له مفسحاً في ظلك ، واجزه مضاعفات الخير من فضلك . اللهم أعْلِ على بناء البانين بناءه ، وأكرم لديك منزلته ، وأتمم له نوره ، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة ، ومرضي المقالة ، ذا منطق عدل ، وخطة فصل .
اللهم اجمع بيننا وبينه في برد العيش ، وقرار النعمة ، ومنى الشهوات ، وأهواء اللذات ، ورخاء الدعة ، ومنتهى الطمأنينة ، وتحف الكرامة » . نهج البلاغة : 1 / 120 .
وفي الغارات للثقفي : 1 / 161 : « كان علي ( عليه السلام ) إذا نعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لم يك بالطويل الممعط ، ولا بالقصير المتردد ، وكان ربعة من القوم ، ولم يك بالجعد القطط ولا السبط . شثن الكفين والقدمين ، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب ، وإذا التفت التفت معاً . أجود الناس كفاً ، وأجرأ الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجة ، أوفى الناس ذمة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عِشْرة » .
« اختاره من شجرة الأنبياء ، ومشكاة الضّياء ، وذؤابة العلياء ، وسُرَّة البطحاء ، ومصابيح الظُّلمة ، وينابيع الحكمة » . نهج البلاغة / الخطبة : 106 ، 205 .

2 - من وصف بقية الأئمة ( ( عليهم السلام ) ) لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )

في تفسير العياشي : 1 / 203 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « جاء أعرابي أحد بني عامر فسأل عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يجده فقالوا هو بقزح « مكان بالمزدلفة » فطلبه فلم يجده ، قالوا : هو بمنى . قال : فطلبه فلم يجده ، فقالوا : هو بعرفة ، فطلبه فلم يجده ، قالوا : هو بالمشعر قال : فوجده في الموقف ، قال : حَلُّوا « صِفُوا » لي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال الناس : يا
--------------------------- 571 ---------------------------
أعرابي ما أنكرت ! إذا وجدت النبي وسط القوم وجدته مفخماً . قال : بل حَلُّوهُ لي حتى لاأسأل عنه أحداً ، قالوا : فإن نبي الله أطول من الربعة ، وأقصر من الطويل الفاحش ، كأن لونه فضة وذهب ، أرجَلُ الناس جُمَّة « شعره ممشط » وأوسع الناس جبهة ، بين عينيه غُرَّة ، أقنى الأنف ، واسع الجبين ، كث اللحية ، مفلج الأسنان ، على شفته السفلى خال ، كأن رقبته إبريق فضة ، بعيد ما بين مشاشة المنكبين ، كأن بطنه وصدره سواء ، سبط البنان ، عظيم البراثن « الكفين » إذا مشى مشى متكفياً ، وإذا التفت التفت بأجمعه ، كأن يده من لينها متن أرنب ، إذا قام مع إنسان لم ينفتل حتى ينفتل صاحبه ، وإذا جلس لم يحلل حبوته حتى يقوم جليسه .
فجاء الأعرابي فلما نظر إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عرفه فقال بمحجنه « أشار بعصاته » على رأس ناقة رسول الله عند ذنب ناقته ، فأقبل الناس تقول ما أجرأك يا أعرابي ؟ قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : دعوه فإنه أريب « عنده حاجة » ثم قال : ما حاجتك ؟ قال : جاءتنا رسلك أن تقيموا الصلاة ، وتؤتوا الزكاة ، وتحجوا البيت ، وتغتسلوا من الجنابة ، وبعثني قومي إليك رائداً ، أبغي أن استحلفك وأخشى أن تغضب ! قال ( صلى الله عليه وآله ) : لا أغضب ، إني أنا الذي سماني الله في التوراة والإنجيل محمد رسول الله المجتبى المصطفى ، ليس بفاحش ولاسخاب « عالي الصوت » في الأسواق ، ولا يتبع السيئة السيئة ، ولكن يتبع السيئة الحسنة ، وأنا الذي سماني الله في القرآن : وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ، فسلني عما شئت .
قال : آلله الذي رفع السماوات بغير عمد هو أرسلك ؟ قال : نعم هو أرسلني . قال : آلله الذي قامت السماوات بأمره هو الذي أنزل عليك الكتاب وأرسلك بالصلاة المفروضة والزكاة المعقولة ؟ قال : نعم ، قال : وهو أمرك بالاغتسال من الجنابة وبالحدود كلها ؟ قال : نعم . قال : فإنا آمنا بالله ورسله وكتابه واليوم الآخر والبعث والميزان والموقف والحلال والحرام صغيره وكبيره !
قال : فاستغفر له النبي ( صلى الله عليه وآله ) ودعا له » .
وفي الكافي : 1 / 443 عن جابر الجعفي قال : « قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : صف لي
--------------------------- 572 ---------------------------
نبي الله قال : كان نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) أبيض مشرباً حمرة ، أدعج العينين ، مقرون الحاجبين ، شثن الأطراف ، كأن الذهب أفرغ على براثنه ، عظيم مشاشة المنكبين ، إذا التفت يلتفت جميعاً من شدة استرساله ، سربته سائلة من لبته إلى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة ، وكأن عنقه إلى كاهله إبريق فضة ، يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء ، وإذا مشى تكفأ كأنه ينزل في صبب ، لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده » .
وفي الكافي : 1 / 446 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا رُئي في الليلة الظلماء ، رئي له نور كأنه شقة قمر » .
وفي علل الشرائع : 1 / 55 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « استأذنت زليخا على يوسف فقيل لها : إنا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه ، قالت : إني لا أخاف من يخاف الله ، فلما دخلت قال لها : يا زليخا مالي أراك قد تغير لونك ؟ قالت : الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً ! قال لها : ما الذي دعاك يا زليخا إلى ما كان منك ؟ قالت : حسن وجهك يا يوسف . فقال : كيف لو رأيت نبياً يقال له محمد يكون في آخر الزمان أحسن مني وجهاً ، وأحسن مني خلقاً وأسمح مني كفاً ؟ قالت : صدقت . قال : وكيف علمت أني صدقت ؟ قالت : لأنك حين ذكرته وقع حبه في قلبي . فأوحى الله عز وجل إلى يوسف : إنها قد صدقت ، إني قد أحببتها لحبها محمداً ، فأمره الله تبارك وتعالى أن يتزوجها » .
وفي كتاب المؤمن للحسين بن سعيد / 31 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لا تقدر الخلائق على كنه صفة الله عز وجل فكذلك لا تقدر على كنه صفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! وكما لا تقدر على كنه صفة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كذلك لا تقدر على كنه صفة الإمام ( عليه السلام ) . وكما لا تقدر على كنه صفة الإمام ، كذلك لا يقدرون على كنه صفة المؤمن » .
وفي المحاسن : 1 / 143 ، عن مالك بن أعين الجهني : « وكما لا يقدر أحد أن يصف فضلنا وما أعطانا الله وما أوجب الله من حقوقنا ، فكذلك لا يقدر أحد أن يصف حق المؤمن ويقوم به مما أوجب الله على أخيه المؤمن ، والله يا مالك إن المؤمنيْن ليلتقيان فيصافح كل واحد منهما صاحبه ، فما يزال الله تبارك وتعالى ناظراً إليهما بالمحبة والمغفرة ، وإن
--------------------------- 573 ---------------------------
الذنوب لتَحَاتُّ عن وجوههما وجوارحهما حتى يفترقا ! فمن يقدر على صفة الله وصفة من هو هكذا عند الله » ؟ !

3 - حديث الإمام الحسن ( ( ع ) ) في صفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

من أشمل ما ورد في صفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ما روي عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) قال : « سألت خالي هند أبي هالة وكان وصافاً ، عن حلية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن انفرقت عقيقته فرق ، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزج الحواجب ، سوابغ في غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، سهل الخدين ، ضليع الفم ، أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخلق ، بادناً ، متماسكاً ، سواء البطن والصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس ، عريض الصدر ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين وأعلى الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شثن الكفين والقدمين ، سائل الأطراف ، سبط القصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء . إذا زال زال قلعاً ، يخطو تكفؤاً ، ويمشي هوناً ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يبدر من لقيه بالسلام .
قال : فقلت : فصف لي منطقة ، فقال : كان ( عليه السلام ) متواصل الأحزان ، دائم الفكر ، ليست له راحة ، طويل السكت ، لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ، يتكلم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثاً ليناً ليس بالجافي ولا بالمهين ، تعظم عنده النعمة وإن دقت ، لا يذم منها شيئاً ، غير أنه كان
--------------------------- 574 ---------------------------
لا يذم ذواقاً ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها ، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحدٌ ، ولم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، يفتر عن مثل حب الغمام .
قال الحسن ( عليه السلام ) : سألت أبي ( عليه السلام ) عن مدخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك ، فإذا أوى إلى منزله جزء دخوله ثلاثة أجزاء : جزء لله ، وجزء لأهله ، وجزء لنفسه ، ثم جزء جزءه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك بالخاصة على العامة ، ولا يدخر عنهم منه شيئاً ، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم ، وبإخبارهم بالذي ينبغي ، ويقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته ، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يقدر على إبلاغها ، ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، ولا يقيد من أحد عثرة ، يدخلون رواداً ، ولا يفترقون إلا عن ذواق ، ويخرجون أدلة .
قال : فسألته عن مخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كيف كان يصنع فيه ؟ فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخزن لسانه إلا عما يعنيه ، ويؤلفهم ولاينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويهونه ، معتدل الأمر ، غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه .
الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة ومؤازرة .
فسألته عن مجلسه فقال : كان ( صلى الله عليه وآله ) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر
--------------------------- 575 ---------------------------
بذلك ، ويعطى كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسب من جلسائه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه خلقه وصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الخلق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة ، ولا ترتفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تنثى فلتأته ، متعادلين ، متواصلين فيه بالتقوى ، متواضعين ، يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب .
فقلت : فكيف كان سيرته في جلسائه ؟ فقال : كان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ، فلا يؤيس منه ، ولا يخيب فيه مؤمليه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ولا يعيره ، ولا يطلب عثراته ولا عورته . ولا يتكلم إلا في ما رجا ثوابه . إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه ، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم ، ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز ، فيقطعه بنهي أو قيام .
قال : فسألته عن سكوت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : كان سكوته على أربع : على الحلم والحذر والتقدير والتفكر . فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس ، وأما تفكره ففيما يبقى أو يفنى ، وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه . وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاده الرأي في صلاح أمته ، والقيام فيما جمع لهم من خير الدنيا والآخرة » المناقب : 1 / 134 ، العدد القوية للحلي / 120 ، مسند أحمد : 1 / 96 ، الحاكم :
--------------------------- 576 ---------------------------
2 / 605 ، مجمع الزوائد : 8 / 271 و 276 ، ابن أبي شيبة : 7 / 446 ، الشمائل المحمدية للترمذي / 15 ، مسند أبي يعلى : 1 / 304 ، والأحاديث الطوال / 78 ، المعجم الكبير : 22 / 155 ، الفايق : 2 / 186 ، الطبقات الكبرى : 1 / 422 ، الشفا للقاضي عياض : 1 / 155 وغيرها .
وعقَّب عليه الصدوق « رحمه الله » في معاني الأخبار / 79 : « قوله : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخماً مفخماً : معناه كان عظيماً معظماً في الصدور والعيون . . يتلألأ تلألؤ القمر : ينير ويشرق كإشراق القمر . أطول من المربوع وأقصر من المشذب : المشذب الطويل الذي ليس بكثير اللحم .
وقوله : رَجْل الشعر : في شعره تكسر وتعقف . العقيقة : الشعر المجتمع في الرأس . أزهر اللون : نير اللون . أزج الحواجب : طويل امتداد الحاجبين .
أقنى العرنين : في عظم الأنف احديداب في وسطه . كث اللحية : لحيته قصيرة كثيرة الشعر . ضليع الفم : كبير الفم . الأشنب : الشنب في الفم تحدد ورقة وحدة في أطراف الأسنان . دقيق المسربة : الشعر المستدق الممتد من اللبة إلى السرة .
بادناً متماسكاً : تام خلق الأعضاء ليس بمسترخي اللحم ولا بكثيره .
سواء البطن والصدر : بطنه ضامر وصدره عريض . والكراديس : رؤوس العظام .
أنور المتجرد : نيِّر الجسد الذي تجرد من الثياب . رحب الراحة : واسع الراحة كبيرها . شثن الكفين : خشن الكفين . سائل الأطراف : تامها غير طويلة ولا قصيرة . مسيح القدمين : ليس بكثير اللحم فيهما . زال قلعاً : معناه متثبتاً .
يخطو تكفؤاً : خطاه كأنه يتكسر فيها ولا تبختر فيها ولا خيلاء . ويمشي هوناً : معناه السكينة والوقار . ذريع المشية : واسع المشية . كأنما ينحط في صبب : الصبب الإنحدار . إذا غضب أعرض وأشاح : أشاح جَدَّ في الغضب وانكمش .
يفتر عن مثل حب الغمام : يكشف شفتيه عن ثغر أبيض يشبه حب الغمام .
لكل حال عنده عتاد : أعد للأمور أشكالها ونظائرها .
ثم يرد ذلك بالخاصة على العامة : يعتمد في هذه الحال على أن الخاصة ترفع إلى العامة علومه وآدابه وفوائده .
--------------------------- 577 ---------------------------
ولا يفترقون إلا عن ذواق : عن علوم يذوقون من حلاوتها ما يذاق من الطعام المشتهي . لا تؤبن فيه الحُرم : أي لا تعاب .
ولا تنثى فلتأته : من غلط فيه غلطة لم يشنع ولم يتحدث بها ، يقال : نثوت الحديث أنثوه نثواً إذا حدثت به . إذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير : لإجلالهم نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) لايتحركون . ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ : من صح عنده إسلامه حسن موقع ثنائه عليه عنده » .
ونقد صاحب الصحيح : 2 / 132 هذه الرواية بضعف سندها ، وبأن الإمام الحسن عاش مع جده النبي ( صلى الله عليه وآله ) وروى عنه فلايحتاج في وصفه إلى هند بن أبي هالة ، وهو أفصح العرب وأعلم الأمة ، رباه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حجره ، وكان يعرف عنه كل شئ مما دق وجل . ثم قال : « تقدم كله يدفع هذا الحديث » .
أقول : إشكاله لا يصح ، وهذه الصفات وردت بشكل وآخر في غيرها .

4 - حديث الإمام الكاظم ( ( ع ) ) في معجزات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

نكتفي في معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحديث واحد يُبين عدداً منها باختصار ، فقد روى أبو العباس الحميري في قرب الإسناد / 317 ، بسند صحيح عن الإمام الكاظم « عليهما السلام » قال : « كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) ذات يوم وأنا طفل خماسي ، إذ دخل عليه نفر من اليهود فقالوا : أنت ابن محمد نبي هذه الأمة والحجة على أهل الأرض ؟ قال لهم : نعم . قالوا : إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة ، وجعل لهم الملك والإمامة ، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا تتعداهم النبوة والخلافة والوصية ، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم ، ونلقاكم مستضعفين مقهورين ، لا ترقب فيكم ذمة نبيكم ؟ ! فدمعت عينا أبي عبد الله ( عليه السلام ) ثم قال : نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق ، والظلمة غالبة ، وقليل من عباد الله الشكور .
قالوا : فإن الأنبياء وأولادهم علموا من غير تعليم ، وأوتوا العلم تلقيناً ، وكذلك ينبغي لأئمتهم وخلفائهم وأوصيائهم ، فهل أوتيتم ذلك ؟
--------------------------- 578 ---------------------------
فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ادن يا موسى فدنوت فمسح يده على صدري ثم قال : اللهم أيده بنصرك بحق محمد وآله ، ثم قال : سلوه عما بدا لكم .
قالوا : وكيف نسأل طفلاً لا يفقه ؟ قلت : سلوني تفقهاً ودعوا العنت !
قالوا : أخبرنا عن الآيات التسع التي أوتيها موسى بن عمران .
قلت : العصا ، وإخراجه يده من جيبه بيضاء ، والجراد ، والقُمَّل ، والضفادع ، والدم ، ورفع الطور ، والمن والسلوى آية واحدة ، وفلق البحر .
قالوا : صدقت ، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليه . قلت : آيات كثيرة ، أعدها إن شاء الله ، فاسمعوا وعوا وافقهوا :
1 . أما أول ذلك : أنتم تقرون أن الجن كانوا يسترقون السمع قبل مبعثه ، فمنعت في أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم ، وبطلان الكهنة والسحرة .
2 . ومن ذلك : كلام الذئب يخبر بنبوته ، واجتماع العدو والولي على صدق لهجته وصدق أمانته ، وعدم جهله أيام طفوليته وحين أيفع وفتى وكهلاً ، لا يعرف له شِكْل ولا يوازيه مِثل .
3 . ومن ذلك : أن سيف بن ذي يزن حين ظفر بالحبشة وفد عليه وفد قريش ، فيهم عبد المطلب ، فسألهم عنه ووصف لهم صفته ، فأقروا جميعاً بأن هذه الصفة في محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : هذا أوان مبعثه ، ومستقره أرض يثرب وموته بها .
4 . ومن ذلك : أن أبرهة بن يكسوم قاد الفيلة إلى بيت الله الحرام ليهدمه قبل مبعثه فقال عبد المطلب : إن لهذا البيت رباً يمنعه ، ثم جمع أهل مكة فدعا ، وهذا بعدما أخبره سيف بن ذي يزن ، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم طيراً أبابيل ، ودفعهم عن مكة وأهلها .
5 . ومن ذلك : أن أبا جهل عمرو بن هشام المخزومي ، أتاه وهو نائم خلف جدار ومعه حجر يريد أن يرميه به ، فالتصق بكفه .
6 . ومن ذلك : أن أعرابياً باع ذَوْداً له من أبي جهل فمَطَله بحقه ، فأتى قريشاً وقال : أُعدوني على أبي الحكم فقد لوى حقي ، فأشاروا إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلي في الكعبة
--------------------------- 579 ---------------------------
فقالوا : إئت هذا الرجل فاستعده عليه ، هم يهزؤون بالأعرابي ! فأتاه فقال له : يا عبد الله أعدني على عمرو بن هشام فقد منعني حقي . قال : نعم ، فانطلق معه فدق على أبي جهل بابه فخرج إليه متغيراً . فقال له : ما حاجتك ؟ قال : أعط الأعرابي حقه . قال : نعم . وجاء الأعرابي إلى قريش فقال : جزاكم الله خيراً ، انطلق معي الرجل الذي دللتموني عليه فأخذ حقي ! فجاء أبو جهل فقالوا : أعطيت الأعرابي حقه ؟ قال : نعم . قالوا : إنما أردنا أن نغريك بمحمد ونهزأ بالأعرابي ! قال : يا هؤلاء دق بابي فخرجت إليه فقال : أعط الأعرابي حقه ، وفوقه مثل الفحل فاتحاً فاه كأنه يريدني ، فقال : أعطه حقه ، فلو قلت : لا ، لابتلع رأسي ، فأعطيته !
7 . ومن ذلك : أن قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وعلقمة بن أبي معيط بيثرب إلى اليهود وقالوا لهما : إذا قدمتما عليهم فسائلوهم عنه ، وسألوهم عنه فقالوا : صفوا لنا صفته فوصفوه . وقالوا : من تبعه منكم ؟ قالوا : سفلتنا . فصاح حبر منهم فقال : هذا النبي الذي نجد نعته في التوراة ، ونجد قومه أشد الناس عداوة له .
8 . ومن ذلك : أن قريشاً أرسلت سراقة بن جعشم حتى خرج إلى المدينة في طلبه ، فلحق به فقال صاحبه : هذا سراقة يا نبي الله فقال : اللهم اكفنيه ، فساخت قوائم ظهره فناداه : يا محمد خل عني بموثق أعطيكه أن لا أناصح غيرك ، وكل من عاداك لا أصالح . فقال النبي ( عليه السلام ) : اللهم إن كان صادق المقال فأطلق فرسه . فانطلق فوفى وما انثنى بعد ذلك .
9 . ومن ذلك : أن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أتيا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال عامر لأربد : إذا أتيناه فأنا أشاغله عنك فاعله بالسيف ، فلما دخلا عليه قال عامر : يا محمد خالَّني « أي أخلني بك - الطبري 2 / 389 » قال : لا ، حتى تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله . وهو ينظر إلى أربد وأربد لا يحير شيئاً . فلما طال ذلك
--------------------------- 580 ---------------------------
نهض وخرج وقال لأربد : ما كان أحد على وجه الأرض أخوف على نفسي فتكاً منك ، ولعمري لا أخافك بعد اليوم ، فقال له أربد : لا تعجل ، فإني ما هممت بما أمرتني به إلا ودخلت الرجال بيني وبينك حتى ما أبصر غيرك ، فأضربك ؟ !
10 . ومن ذلك : أن أربد بن قيس والنضر بن الحارث اجتمعا على أن يسألاه عن الغيوب فدخلا عليه ، فأقبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أربد فقال : يا أربد ، أتذكر ما جئت له يوم كذا ومعك عامر بن الطفيل ؟ فأخبره بما كان فيهما فقال أربد : والله ما حضرني وعامراً أحد ، وما أخبرك بهذا إلا ملك من السماء ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله . « وأربد هذا أخ لبيد الشاعر » .
11 . ومن ذلك : أن نفراً من اليهود أتوه ، فقالوا لأبي الحسن جدي : استأذن لنا على ابن عمك نسأله ، فدخل علي ( عليه السلام ) فأعلمه فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : وما يريدون مني ؟ فإني عبد من عبيد الله ، لا أعلم إلا ما علمني ربي ، ثم قال : إئذن لهم ، فدخلوا عليه فقال : أتسألوني عما جئتم له أم أنبئكم ؟ قالوا : نبئنا ، قال : جئتم تسألوني عن ذي القرنين ، قالوا : نعم ، قال : كان غلاماً من أهل الروم ثم ملك ، وأتى مطلع الشمس ومغربها ، ثم بني السد فيها . قالوا : نشهد أن هذا كذا .
12 . ومن ذلك : أن وابصة بن معبد الأسدي أتاه فقال : لا أدعُ من البر والإثم شيئاً إلا سألته عنه ، فلما أتاه قال له بعض أصحابه : إليك يا وابصة عن رسول الله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أدنهْ يا وابصة ، فدنوت . فقال : أتسأل عما جئت له أو أخبرك ؟ قال : أخبرني . قال : جئت تسأل عن البر والإثم . قال : نعم . فضرب بيده على صدره ثم قال : يا وابصة ، البر ما اطمأن به الصدر ، والإثم ما تردد في الصدر وجال في القلب ، وإن أفتاك الناس وأفْتَوْك .
13 . ومن ذلك : أنه أتاه وفد عبد القيس فدخلوا عليه ، فلما أدركوا حاجتهم عنده قال : إئتوني بتمر أهلكم مما معكم ، فأتاه كل رجل منهم بنوع منه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : هذا يسمى كذا وهذا يسمى كذا ، فقالوا : أنت أعلم بتمر أرضنا ، فوصف لهم أرضهم
--------------------------- 581 ---------------------------
فقالوا : أدخلتها ؟ قال : لا ، ولكن فسح لي فنظرت إليها . فقام رجل منهم فقال : يا رسول الله ، هذا خالي وبه خبل ، فأخذ بردائه ثم قال : أخرج عدو الله ثلاثاً ثم أرسله ، فبرأ . وأتوه بشاة هرمة ، فأخذ أحد أذنيها بين أصابعه فصار ميسماً ، ثم قال : خذوها فإن هذه السمة في آذان ما تلد إلى يوم القيامة ! فهي تتوالد وتلك في آذانها ، معروفة غير مجهولة .
14 . ومن ذلك : أنه كان في سفر ، فمر على بعير قد أعيا ، وقام منزلاً على أصحابه فدعا بماء فتمضمض منه في إناء وتوضأ وقال : إفتح فاه فصب في فيه . فمر ذلك الماء على رأسه وحاركه ثم قال : اللهم احمل خلاداً وعامراً ورفيقيهما وهما صاحبا الجمل ، فركبوه وإنه ليهتز بهم أمام الخيل .
15 . ومن ذلك : أن ناقة لبعض أصحابه ضلت في سفر كانت فيه ، فقال صاحبها : لو كان نبياً لعلم أمر الناقة ، فبلغ ذلك النبي ( عليه السلام ) فقال : الغيب لا يعلمه إلا الله ، انطلق يا فلان فإن ناقتك بموضع كذا وكذا ، قد تعلق زمامها بشجرة ، فوجدها كما قال .
16 . ومن ذلك : أنه مر على بعير ساقط فتبصبص له فقال : إنه ليشكو شر ولاية أهله له يسأله أن يخرج عنهم ، فسأل عن صاحبه فأتاه فقال : بعه وأخرجه عنك ، فأناخ البعير يرغو ثم نهض وتبع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يسألني أن أتولى أمره . فباعه من علي ( عليه السلام ) ، فلم يزل عنده إلى أيام صفين .
17 . ومن ذلك : أنه كان في مسجده ، إذ أقبل جمل نادٌّ ، حتى وضع رأسه في حجره ثم خرخر ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يزعم هذا أن صاحبه يريد أن ينحره في وليمة على ابنه فجاء يستغيث . فقال رجل : يا رسول الله ، هذا لفلان وقد أراد به ذلك . فأرسل إليه وسأله أن لا ينحره ، ففعل .
18 . ومن ذلك : أنه دعا على مضر فقال : اللهم أشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم كسنين يوسف ، فأصابهم سنون ، فأتاه رجل فقال : فوالله ما
--------------------------- 582 ---------------------------
أتيتك حتى لا يخطر لنا فحل ولا يتردد منا رائح . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم دعوتك فأجبتني وسألتك فأعطيتني ، اللهم فاسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً سريعاً طبقاً سجالاً ، عاجلاً غير ذائب نافعاً غير ضار . فما قام متى ملأ كل شئ ودام عليهم جمعة ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله انقطعت سبلنا وأسواقنا ، فقال النبي ( عليه السلام ) : حوالينا ولا علينا فانجابت السحابة عن المدينة ، وصار فيما حولها ، وأمطروا شهراً .
19 . ومن ذلك : أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش ، فلما كان بحيال بحيراء الراهب نزلوا بفناء ديره ، وكان عالماً بالكتب ، وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي ( صلى الله عليه وآله ) به وعرف أوان ذلك ، فأمر فدعى إلى طعامه ، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها ، فقال : هل بقي في رحالكم أحد ؟ فقالوا : غلام يتيم . فقام بحيراء الراهب فاطلع فإذا هو برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نائم وقد أظلته سحابة ، فقال للقوم : ادعوا هذا اليتيم ، ففعلوا وبحيراء مشرف عليه وهو يسير ، والسحابة قد أظلته ، فأخبر القوم بشأنه وأنه سيبعث فيهم رسولاً ، ويكون من حاله وأمره ، فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه ، فلما قدموا أخبروا قريشاً بذلك ، وكان عند خديجة بنت خويلد فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش ، وقد خطبها كل صنديد ورئيس قد أبتهم ، فزوجته نفسها للذي بلغها من خبر بحيراء .
20 . ومن ذلك : أنه كان بمكة أيام ألَّبَ عليه قومه وعشائره ، فأمر علياً أن يأمر خديجة أن تتخذ له طعاماً ففعلت ، ثم أمره أن يدعو له أقرباءه من بني عبد المطلب ، فدعا أربعين رجلاً فقال : هات لهم طعاماً يا علي ، فأتاه بثريدة وطعام يأكله الثلاثة والأربعة فقدمه إليهم ، وقال : كلوا وسموا ، فسمى ولم يُسَمِّ القوم فأكلوا وصدروا شبعى . فقال أبو لهب : جاد ما سحركم محمد يطعم من طعام ثلاث رجال أربعين رجلاً ! هذا والله هو السحر الذي لا بعده ! فقال علي ( عليه السلام ) : ثم أمرني بعد أيام فاتخذت له مثله ودعوتهم بأعيانهم ، فطعموا وصدروا .
21 . ومن ذلك : أن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : دخلت السوق فابتعت لحماً بدرهم
--------------------------- 583 ---------------------------
وذُرَةً بدرهم ، فأتيت به فاطمة « عليها السلام » حتى إذا فرغت من الخبز والطبخ قالت : لو دعوت أبي فأتيته وهو مضطجع وهو يقول : أعوذ بالله من الجوع ضجيعاً . فقلت له : يا رسول الله إن عندنا طعاماً ، فقام واتكأ عليَّ ومضينا نحو فاطمة « عليها السلام » ، فلما دخلنا قال : هلم طعامك يا فاطمة فقدمت إليه البَرمة والقرص ، فغطى القرص وقال : اللهم بارك لنا في طعامنا . ثم قال : أغرفي لعائشة فغرفت ، ثم قال : أغرفي لأم سلمة فغرفت ، فما زالت تغرف حتى وجهت إلى نسائه التسع قرصة قرصة ومرقاً . ثم قال : أغرفي لأبيك وبعلك ثم قال : أغرفي وكلي واهدي لجاراتك ، ففعلت ، وبقي عندهم أياماً يأكلون .
22 . ومن ذلك : أن امرأة عبد الله بن مسلَّم أتته بشاة مسمومة ، ومع النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشر بن البراء بن عازب ، فتناول النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذراع وتناول بشر الكراع ، فأما النبي ( عليه السلام ) فلاكها ولفظها وقال : إنها لتخبرني أنها مسمومة . وأما بشر فلاك المضغة وابتلعها فمات ، فأرسل إليها فأقرت ، وقال : ما حملك على ما فعلت ؟ قالت : قتلت زوجي وأشراف قومي فقلت : إن كان ملكاً قتلته وإن كان نبياً فسيطلعه الله تبارك وتعالى على ذلك .
23 . ومن ذلك : أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : رأيت الناس يوم الخندق يحفرون وهم خماص ، ورأيت النبي ( عليه السلام ) يحفر وبطنه خميص ، فأتيت أهلي فأخبرتها فقالت : ما عندنا إلا هذه الشاة ومحرز من ذُرَة . قال : فاخبزي ، وذبح الشاة وطبخوا شقها وشووا الباقي ، حتى إذا أدرك أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله اتخذت طعاماً فائتني أنت ومن أحببت ، فشبك أصابعه في يده ثم نادى : ألا إن جابراً يدعوكم إلى طعامه . فأتى أهله مذعوراً خجلاً فقال لها : هي الفضيحة قد حفل بهم أجمعين . فقالت : أنت دعوتهم أم هو ؟ قال : هو . قالت : فهو أعلم بهم . فلما رآنا أمر بالأنطاع فبُسطت على الشوارع ، وأمره أن يجمع التواري يعني قصاعاً كانت من خشب ، والجفان ، ثم قال : ما عندكم من الطعام ؟ فأعلمته ،
--------------------------- 584 ---------------------------
فقال : غطوا السدانة والبرمة والتنور ، واغرفوا ، وأخرجوا الخبز واللحم وغطوا ! فما زالوا يغرفون وينقلون ولا يرونه ينقص شيئاً حتى شبع القوم ، وهم ثلاثة آلاف ! ثم أكل جابر وأهله ، وأهدوا وبقي عندهم أياماً .
24 . ومن ذلك : أن سعد بن عبادة الأنصاري أتاه عشية وهو صائم فدعاه إلى طعامه ، ودعا معه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فلما أكلوا قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : نبي ووصي ، يا سعد أكل طعامك الأبرار ، وأفطر عندك الصائمون ، وصلت عليكم الملائكة . فحمله سعد على حمار قطوف وألقى عليه قطيفة ، فرجع الحمار وإنه لهملاج ما يسايَر .
25 . ومن ذلك : أنه أقبل من الحديبية وفي الطريق ماء يخرج من وشل بقدر ما يروي الراكب والراكبين ، فقال : من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه . فلما انتهى إليه دعا بقدح فتمضمض فيه ثم صبه في الماء ففاض الماء ، فشربوا وملؤوا أدواتهم ومياضيهم وتوضؤوا . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لئن بقيتم أو بقي منكم ، ليتسعن بهذا الوادي بسقي ما بين يديه من كثرة مائه ، فوجدوا ذلك كما قال ( صلى الله عليه وآله ) .
26 . ومن ذلك : إخباره عن الغيوب وما كان وما يكون ، فوجد ذلك موافقاً لما يقول . ومن ذلك أنه أخبر صبيحة الليلة التي أسري به بما رأى في سفره ، فأنكر ذلك بعض وصدقه بعض ، فأخبرهم بما رأى من المارة والممتارة ، وهيآتهم ومنازلهم وما معهم من الأمتعة ، وأنه رأى عيراً أمامها بعير أوْرَق ، وأنه يطلع يوم كذا من العقبة مع طلوع الشمس ! فغدوا يطلبون تكذيبه للوقت الذي وقته لهم ، فلما كانوا هناك طلعت الشمس فقال بعضهم : كذب الساحر ، وأبصر آخرون بالعير قد أقبلت يقدمها الأورق ، فقالوا : صدق ، هذه نِعَمٌ قد أقبلت !
27 . ومن ذلك : أنه أقبل من تبوك فجهدوا عطشاً ، وبادر الناس إليه يقولون : الماء الماء يا رسول الله . فقال لأبي هريرة : هل معك من الماء شئ ؟ قال : كقدر قدح في ميضاتي ، قال : هلم ميضاتك فصب ما فيه في قدح ودعا وأوعاه ، وقال : ناد : من أراد الماء ! فأقبلوا يقولون : الماء يا رسول الله . فما زال يسكب وأبو هريرة يسقي حتى روي
--------------------------- 585 ---------------------------
القوم أجمعون ، وملؤوا ما معهم ، ثم قال لأبي هريرة : إشرب ، فقال : بل آخركم شرباً ، فشرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
28 . ومن ذلك : أن أخت عبد الله بن رواحة الأنصاري مرَّت به أيام حفرهم الخندق فقال لها : إلى أين تريدين ؟ قالت : إلى عبد الله بهذه التمرات ، فقال : هاتيهن ، فنثرت في كفه ، ثم دعا بالأنطاع وفرقها عليها وغطاها بالأزُر ، وقام وصلى ، ففاض التمر على الأنطاع ثم نادى : هلموا وكلوا . فأكلوا وشبعوا ، وحملوا معهم ، ودفع ما بقي إليها !
29 . ومن ذلك : أنه كان في سفر فأجهدوا جوعاً فقال : من كان معه زاد فليأتنا به . فأتاه نفر منهم بمقدار صاع ، فدعا بالأزر والأنطاع ، ثم صفف التمر عليها ، ودعا ربه فأكثر الله ذلك التمر ، حتى كان أزوادهم إلى المدينة !
30 . ومن ذلك : أنه أقبل من بعض أسفاره فأتاه قوم فقالوا : يا رسول الله ، إن لنا بئراً إذا كان القيظ اجتمعنا عليها ، وإذا كان الشتاء تفرقنا على مياه حولنا ، وقد صار من حولنا عدواً لنا فادع الله في بئرنا ، فتفل ( صلى الله عليه وآله ) في بئرهم ففاضت المياه المغيبة فكانوا لا يقدرون أن ينظروا إلى قعرها بعدُ ، من كثرة مائها . فبلغ ذلك مسيلمة الكذاب فحاول ذلك في قليب قليل ماؤه ، فتفل الأنكد في القليب ، فغار ماؤه وصار كالجبوب !
31 . ومن ذلك : أن سراقة بن جعشم حين وجهه قريش في طلبه ، ناوله نبلاً من كنانته وقال له : ستمر برعاتي فإذا وصلت إليهم فهذا علامتي ، أطعم عندهم واشرب ، فلما انتهى إليهم أتوه بعنز حائل فمسح ( صلى الله عليه وآله ) ضرعها فصارت حاملاً ودرت ، حتى ملؤوا الإناء وارتووا ارتواءً !
32 . ومن ذلك : أنه نزل بأم شريك فأتته بعكة فيها سمن يسير ، فأكل هو وأصحابه ثم دعا لها بالبركة ، فلم تزل العكة تصب سمناً أيام حياتها !
33 . ومن ذلك : أن أم جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة « تبَّت » ومع
--------------------------- 586 ---------------------------
النبي أبو بكر بن أبي قحافة ، فقال : يا رسول الله ، هذه أم جميل مُحْفَظَة أي مُغضبة تريدك ، ومعها حجر تريد أن ترميك به . فقال : إنها لا تراني . فقالت لأبي بكر : أين صاحبك ؟ قال : حيث شاء الله . قالت : لقد جئته ولو أراه لرميته ، فإنه هجاني واللات والعزى إني لشاعرة ! فقال أبو بكر : يا رسول الله لم تَرَك ؟ قال : لا ، ضرب الله بيني وبينها حجاباً .
34 . ومن ذلك : كتابه المهيمن الباهر لعقول الناظرين [ القرآن الكريم ] مع ما أعطي من الخلال التي إن ذكرناها لطالت .
فقالت اليهود : وكيف لنا أن نعلم أن هذا كما وصفت ؟ فقال لهم موسى ( عليه السلام ) : وكيف لنا أن نعلم أن ما تذكرون من آيات موسى على ما تصفون ؟
قالوا : علمنا ذلك بنقل البررة الصادقين . قال لهم : فاعلموا صدق ما أنبأتكم به ، بخبر طفل لقنه الله من غير تلقين ، ولا معرفة عن الناقلين . فقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأنكم الأئمة القادة والحجج من عند الله على خلقه . فوثب أبو عبد الله ( عليه السلام ) فقبل بين عينيَّ ثم قال : أنت القائم من بعدي ، فلهذا قالت الواقفة ، إنه حي وإنه القائم . ثم كساهم أبو عبد الله ( عليه السلام ) ووهب لهم وانصرفوا مسلمين » . انتهى .

أسماء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وألقابه

قال ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 131 : « وأسماؤه في الأخبار : العاقب ، وهو الذي يعقب الأنبياء . الماحي ، الذي يمحى به الكفر ، ويقال تمحى به سيئات من اتبعه ، ويقال الذي لا يكون بعده أحد . الحاشر ، الذي يحشر الناس على قدميه . والمقفى ، الذي قفى النبيين جماعة . الموقف ، يوقف الناس بين يدي الله . القثم وهو الكامل الجامع . ومنه : الناشر ، والناصح ، والوفي ، والمطاع ، والنجي ، والمأمون ، والحنيف ، والحبيب ، والطيب ، والسيد ، والمقترب ، والدافع ، والشافع ، والمشفع ، والحامد ، والمحمود ، والموجه والمتوكل ، والغيث .
وفي التوراة : ميذميذاي : غفور رحيم ، وقيل ميد ميداي : محمد ، وقيل مود مود .
وفي حكاية أن اسمه فيها مرقوفا ، أي المحمود .
--------------------------- 587 ---------------------------
وفي الزبور : قليطا مثل أبي القاسم فقالوا بلقيطا ، وقالوا فاروق وقالوا محياثا .
وفي الإنجيل : طاب طاب أحمد ، ويقال يعني طيب طيب . وفي كتاب شعيا : نور الأمم ، ركن المتواضعين ، رسول التوبة ، رسول البلاء . وفي الصحف : بلقيطا ، وفي صحف شيث : طاليثا ، وفي صحف إدريس : بهيائيل ، وفي صحف إبراهيم : مود مود . وفي السماء الدنيا : المجتبى ، وفي الثانية : المرتضى ، وفي الثالثة : المزكى ، وفي الرابعة : المصطفى ، وفي الخامسة : المنتجب ، وفي السادسة : المطهر والمجتبى ، وفي السابعة : المقرب والحبيب » .

  • *
    --------------------------- 588 ---------------------------

الفصل الرابع والثلاثون

المدينة عند هجرة النبي « صلى الله عليه وآله »

1 . النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدخل عاصمته ويؤسس المسجد النبوي

في ذكرى الشيعة : 3 / 116 : « قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة فنزل في علو المدينة ، في بني عمرو بن عوف ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤوا متقلدين بسيوفهم ، فجاء معهم حتى ألقى بفناء أبي أيوب » .
وفي الكافي : 8 / 339 : « ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم عليه علي ( عليه السلام ) تحول من قُبا إلى بني سالم بن عوف وعلي ( عليه السلام ) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس ، فخط لهم مسجداً ونصب قبلته ، فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين .
ثم راح يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعلي ( عليه السلام ) معه لا يفارقه يمشي بمشيه ، وليس يمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم : خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة ، فانطلقت به ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واضعٌ لها زمامها ، حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى ، وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي يصلي عنده بالجنائز ، فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض ، فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأقبل أبو أيوب مبادراً حتى احتمل رحله فأدخله منزله ، ونزل رسول الله وعلي ( عليه السلام ) معه ، حتى بني له مسجده ، وبنيت له مساكنه ومنزل علي ( عليه السلام ) فتحولا إلى منازلهما » .
وفي المناقب : 1 / 115 : « فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري ، ولم يكن في المدينة أفقر
--------------------------- 589 ---------------------------
منه ، فانطلقت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنادى أبو أيوب : يا أماه إفتحي الباب ، فقد قدم سيد البشر وأكرم ربيعة ومضر ، محمد المصطفى والرسول المجتبى ، فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء فقالت : وا حسرتا ، ليت كان لي عين أبصر بها إلى وجه سيدي رسول الله ، فكان أول معجزة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة أنه وضع كفه على وجه أم أبي أيوب ، فانفتحت عيناها » !
أقول : في بعض الروايات أن أم أبي أيوب جاء وأخذت وسائل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا يصح ذلك لأن أباأيوب كان موجوداً وكانت أمه عمياء حتى شفاها النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وسنفرد عنواناً لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
وفي المناقب : 1 / 159 : « فنزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) على كلثوم بن هدم ، وكان يخرج فيجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة ، وكان قيام علي ( عليه السلام ) بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث ليال ، ثم لحق برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنزل معه على كلثوم . فأقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقبا يوم الاثنين والأربعاء والخميس ، وأسس مسجده وصلى يوم الجمعة في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رافوقا ، فكانت أول صلاة صلاها بالمدينة ، ثم أتاه غسان بن مالك وعباس بن عبادة في رجال من بني سالم فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعُدة والمِنعة ، فقال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، يعني ناقته .
ثم تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة ، فقالا كذلك .
ثم اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة .
ثم اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج . فانطلقت حتى إذا وازت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ، فلما بركت ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم ينزل ، ووثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت ، ثم تجلجلت ورزمت ووضعت جرانها ، فنزل عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته ، ونزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بيت أبي أيوب ،
--------------------------- 590 ---------------------------
وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء فأرضاهما معاذ ، وأمر النبي ببناء المسجد ، وعمل فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون ، فقال بعضهم :
لئن قعدنا والنبيُّ يَعْمَلُ
لَذَاكَ منَّا العملُ المُضَلَّلُ
والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة .
ثم انتقل من بيت أبي أيوب إلى مساكنه التي بنيت له . وقيل كان مدة مقامه بالمدينة إلى أن بني المسجد وبيوته من ربيع الأول إلى صفر من السنة القابلة » .
وفي رواية إعلام الورى : 1 / 154 : « أن دخوله إلى المدينة كان يوم الجمعة ، وأنه صلى الجمعة في مسجد بني سالم في طريقه ، وصلى إلى بيت المقدس ، وصلى معه مائة رجل . ثم انتهى إلى عبد الله بن أبي فأخذ عبد الله كُمَّه ووضعه على أنفه من الغبار وقال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا هذا إذهب إلى الذين غروك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولاتَغْشَنا في ديارنا ! فسلط الله على دورهم الذر فخربها ، فصاروا نُزَّالاً على غيرهم ، فقال له سعد بن عبادة : يا رسول الله لا يعرض في قلبك من قول هذا شئ ، فإنا كنا اجتمعنا على أن نملكه علينا وهو يرى الآن أنك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه ، فانزل عليَّ يا رسول الله ، فإنه ليس في الخزرج ولا في الأوس أكثر فم بئر مني ، ونحن أهل الجَلَد والعِز . فأرخى زمام ناقته ومرت تَخِبُّ به حتى انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم ، فبركت على باب أبي أيوب خالد بن زيد . وكان أبو أيوب له منزل أسفل وفوق المنزل غرفة ، فكره أن يعلو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي العلو أحب إليك أم السُّفل ؟ فإني أكره أن أعلو فوقك . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : السُّفل أرفق بنا لمن يأتينا .
قال أبو أيوب : فكنا في العلو أنا وأمي ، فكنت إذا استقيت الدلو أخاف أن تقع منه قطرة على رسول الله ، وكنت أصعد وأمي إلى العلو خفياً من حيث لا يعلم ولا يحس بنا ، ولا نتكلم إلا خُفياً ، وكان إذا نام ( صلى الله عليه وآله ) لا نتحرك ، وربما طبخنا في غرفتنا فنجيف الباب على غرفتنا مخافة أن يصيب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دخان .
ولقد سقطت جرة لنا وأهريق الماء فقامت أم أبي أيوب إلى قطيفة لم يكن لها والله غيرها ،
--------------------------- 591 ---------------------------
فألقتها على ذلك الماء تستنشف به ، مخافة أن يسيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك شئ ! وكان يحضر رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين ، وكان
أبو أمامة أسعد بن زرارة يبعث إليه في كل يوم غداء وعشاء ، في قصعة ثريد عليها عراق « قطع لحم » وكان يأكل معه من حوله حتى يشبعوا ، ثم تُرَدُّ القصعة كما هي !
وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشى معه من حضره ، وترد القصعة كما هي ! فكانوا يتناوبون في بعثة الغداء والعشاء إليه : أسعد بن زرارة ، وسعد بن خيثمة ، والمنذر بن عمرو ، وسعد بن الربيع ، وأسيد بن حضير .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلي في المربد بأصحابه ، فقال لأسعد بن زرارة : إشترِ هذا المربد من أصحابه ، فساوم اليتيمين عليه فقالا : هو لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال رسول الله : لا إلا بثمن ، فاشتراه بعشرة دنانير ، وكان فيه ماء مستنقع فأمر به رسول الله فَسُيِّلَ وأمر باللبن فضُرب فبناه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحفره في الأرض ، ثم أمر بالحجارة فنقلت من الحرة ، وكان المسلمون ينقلونها فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحمل حجراً على بطنه ، فاستقبله أسيد بن حضير فقال : يا رسول الله أعطني أحمله عنك ، قال : لا ، إذهب فاحمل غيره .
فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتى بلغ وجه الأرض ، ثم بناه أولاً بالسعيدة لبنة لبنة ، ثم بناه بالسميط وهو لبنة ونصف ، ثم بناه بالأنثى والذكر لبنتين مخالفتين ، ورفع حائطه قامة . ثم اشتد عليهم الحر فقالوا : يا رسول الله لو أظللت عليه ظلاً ، فرفع أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب ، ثم ظلله وألقى عليه سعف النخل فعاشوا فيه فقالوا : يا رسول الله لو سقفت سقفاً . قال : لا ، عريشٌ كعريش موسى ، الأمر أعجل من ذلك .
وابتنى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وخط لأصحابه خططاً فبنوا فيها منازلهم ، وكلٌّ شرع منه باباً إلى المسجد ، وخطَّ لحمزة وشرع بابه إلى المسجد ، وخط لعلي بن أبي طالب مثل ما خط لهم .
وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد ، فنزل عليه جبرئيل فقال :
--------------------------- 592 ---------------------------
يا محمد إن الله يأمرك أن تأمر كل من كان له باب إلى المسجد يسده ، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلا لك ولعلي ، يحل لعلي فيه ما يحل لك . فغضب أصحابه وغضب حمزة وقال : أنا عمه يأمر بسد بابي ويترك باب ابن أخي وهو أصغر مني ! فجاءه فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا عم لاتغضبن من سد بابك وترك باب علي ، فوالله ما أنا أمرت بذلك ولكن الله أمر بسد أبوابكم وترك باب علي ! فقال : يا رسول الله رضيت وسلمت لله ولرسوله . قال : وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث بني منازله كانت فاطمة « عليها السلام » عنده » .
وفي الكافي : 3 / 295 قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنى مسجده بالسميط ، ثم إن المسلمين كثروا فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال : نعم فأمر به فزيد فيه وبناه بالسعيدة . ثم إن المسلمين كثروا فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال : نعم فأمر به فزيد فيه وبنا جداره بالأنثى والذكر ، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل ، فقال نعم ، فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل ، ثم طرحت عليه العوارض والخصف والإذخر ، فعاشوا فيه حتى أصابتهم الأمطار فجعل المسجد يَكِفُ عليهم فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا ، عريشٌ كعريش موسى ( عليه السلام ) ، فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وكان جداره قبل أن يظلل قامة ، فكان إذا كان الفيئ ذراعاً ، وهو قدر مريض عنز صلى الظهر ، وإذا كان ضعف ذلك صلى العصر .
وقال ( عليه السلام ) : السميط لبنة لبنة ، والسعيدة لبنة ونصف ، والذكر والأنثى لبنتان مخالفتان . وعن الحلبي قال : سألته كم كان مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : كان ثلاثة آلاف وست مائة ذراع تكسيراً » .
وفي الكافي : 5 / 121 : قال روح بن عبد الرحيم : سألت الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « عن شراء المصاحف وبيعها ؟ فقال : إنما كان يوضع الورق عند المنبر ، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة أو رجلٌ منحرف ، قال : فكان الرجل يأتي ويكتب من ذلك ، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك . قلت : فما ترى في ذلك ؟ قال لي : أشتري أحب إليَّ من أن أبيعه . قلت : فما ترى أن أعطي على كتابته أجراً ؟ قال : لا بأس ، ولكن هكذا كانوا يصنعون » .
--------------------------- 593 ---------------------------

2 . المدينة واحاتٌ زراعية سكنها العرب اليمانيون

قال الحموي في معجم البلدان : 5 / 82 : « سبخةٌ من الأرض ، ولها نخيل كثيرةٌ ومياه ، ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد . وللمدينة سور ، والمسجد في نحو وسطها ، وقبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) في شرقي المسجد . وبقيع الغرقد خارج المدينة .
وقُباء خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة ، وهي شبيهة بالقرية . وأحُدُ جبل في شمال المدينة ، وهو أقرب الجبال إليها ، مقدار فرسخين . وبقربها مزارع فيها نخيل وضياع لأهل المدينة ، ووادي العقيق فيما بينها وبين الفرع ، والفرع من المدينة على أربعة أيام في جنوبيها . وكان على المدينة وتهامة في الجاهلية عامل من قبل مرزبان الزارة يجبي خراجها « حاكم القطيف من قبل كسرى - معجم البلدان 3 / 126 » وكانت قريظة والنضير اليهود ملوكاً حتى أخرجهم منها الأوس والخزرج من الأنصار . وكانت الأنصار تؤدي خراجاً إلى اليهود ، قال بعضهم :
نؤدي الخرْج بعد خَرَاج كسرى وخَرْج بني قريظة والنضير
لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة وثب على أصحابه وباء شديد حتى أهمدتهم الحمى فما كان يصلي مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا اليسير ، فدعا لهم .
ومن خصائص المدينة أنها طيبة الريح ، وللعطر فيها فضل رائحة لا توجد في غيرها ، وتمرها الصيحاني لا يوجد في بلد من البلدان مثله ، ولهم حَبُّ اللبَّان ومنها يحمل إلى سائر البلدان ، وجبلها أحد قد فضله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وأخبار مدينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كثيرة ، وقد صنف فيها وفي عقيقها وأعراضها وجبالهاكتب . وأما المسافات ، فإن من المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل ، ومن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة ، وطريق البصرة إلى المدينة نحو من ثماني عشرة مرحلة ، ويلتقي مع طريق الكوفة بقرب معدن النقرة ، ومن الرقة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة ، ومن البحرين إلى المدينة نحو خمس عشرة مرحلة ، ومن دمشق إلى المدينة نحو عشرين مرحلة ، ومثله من فلسطين إلى المدينة » .
--------------------------- 594 ---------------------------
أقول : روت مصادر التاريخ والسيرة أن الأوس والخزرج قبيلة يمانية سكنت في واحة يثرب من زمن الملك تُبَّع الأول ، وعرفوا ببني قَيْلَة ، وهي أمهم بنت كال بن عذرة ، ورووا أن تُبَّعاً الأول كان ملكاً لليمن والحجاز والعراق ، وكان يعرف بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأسكن فيها يمانيين ، وكتب معهم رسالة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ففي المناقب : 1 / 17 ، عن كتاب النبوة لابن بابويه عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن تبعاً قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي ، أمَا لو أدركته لخدمته ولخرجت معه » . راجع : ابن هشام : 1 / 10 ، الطبري : 1 / 534 ، العدد القوية / 113 ، عمدة القاري : 4 / 176 والصحيح من السيرة : 4 / 91 .
أما اليهود فجاؤوا بعد المسيح ( عليه السلام ) « الكافي 8 / 310 » لانتظار نبي موعود يكون مهاجره المدينة ، ثم جحدوه لأنه من أبناء إسماعيل ، وأرادوه من أبناء إسحاق !
لكن ابن خلدون قال : 1 / 356 واليعقوبي : 1 / 203 : « ملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ، ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها » .
ولا يعني ذلك أن المدينة كانت مملكة ، بل واحة فيها يهود ، وكانت جزءً من الجزيرة واليمن التي يحكمها تُبَّع ، فأسكن فيها الأوس والخزرج ، فهابهم اليهود وتحالفوا معهم . فلا دليل على أن اليهود كانوا يوماً حاكمين في الجزيرة .
وتدل تبعية المدينة لمرزبان الزارة الفارسي أي حاكم البحرين ، على أن الجزيرة العربية كانت مطوقة بنفوذ الفرس ، من دولة المناذرة في العراق وحاكم البحرين وحاكم اليمن وكلهم تابعون لكسرى . وإذا صح بيت الشعر المتقدم ، فلا بد أن يكون خرج اليهود الذي يدفعه الأنصار بمعنى رباهم ، لأنهم كانوا مرابين .

3 . عدد سكان المدينة عند هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كان سكان المدينة لما هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليها بضعة آلاف نسمة ، وروي أن أربعة آلاف أكلوا في وليمة عرس علي وفاطمة « عليهما السلام » ، لكن كان معهم أهل ضواحيها .
ففي أمالي الطوسي / 42 والمناقب : 3 / 129 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال علي ( عليه السلام ) :
--------------------------- 595 ---------------------------
وأكل القوم عن آخرهم طعامي وشربوا شرابي ودعوا لي بالبركة ، وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ، ولم ينقص من الطعام شئ ! ثم دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالصحاف فملئت ووجه بها إلى منازل أزواجه ، ثم أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال : هذا لفاطمة وبعلها » .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يأمر بعدَّ المسلمين ، فعن حذيفة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر أن يكتب له كل من تلفظ بالإسلام من أهل المدينة ، فكانوا سبع مئة . ابن ماجة : 2 / 1337 .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : « أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس فكتبنا له ألفاً وخمس مائة رجل ، فقلنا نخاف ونحن ألف وخمس مائة » ! صحيح بخاري : 4 / 33 .
وكان ذلك في السنة الخامسة ، أو السادسة . فتح الباري : 6 / 124 .

4 . عدد المسلمين المهاجرين إلى المدينة

يعرف عدد المهاجرين من أحاديث مؤاخاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين المهاجرين والأنصار ، أو بين المهاجرين أنفسهم أوالأنصار أنفسهم . بل يعرف عدد كل المسلمين يومها لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يترك أحداً بدون مؤاخاة . الإمتاع : 1 / 69 .
وفي تاريخ دمشق : 42 / 52 : « آخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المسلمين فقال لعلي : أنت أخي وأنا أخوك ، وآخى بين أبي بكر وعمر ، وآخى بين المسلمين جميعاً » .
وذكر في الصحيح من السيرة : 4 / 228 ، أن المهاجرين كانوا في بدر خمسة وأربعين ، ثم وصلوا في المدينة إلى مئة وخمسين . ويضاف إليهم أربعة وعشرون من مهاجري الحبشة جاؤوا إلى المدينة : « لما بلغهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلاً فمات منهم رجلان بمكة ، وحبس منهم سبعة وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلاً ، فشهدوا بدراً » . فتح الباري : 3 / 60 .

5 . كيف تم إسكان المسلمين المهاجرين في المدينة

كان استقبال الأنصار للمسلمين المهاجرين فريداً من نوعه ، فقد استضافوهم في بيوتهم وفضلوهم على أنفسهم ، ثم وهبوا لهم بيوتاً وأراضي وساعدوهم على
--------------------------- 596 ---------------------------
بنائها . وقد مدحهم لإيثارهم فقال تعالى : مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَءُوا الدَّارَ وَالإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلاتَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ .
وفي شرح النهج : 6 / 29 ، أن عمرو بن العاص ذم الأنصار لموقفهم في السقيفة ضد خلافة أبي بكر وعمر وقال : « ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء ، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة » . ثم قال شعراً في ذمهم ! فجاء خالد بن سعيد بن العاص فغضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص وقال : « يا معشر قريش ، إن عمراً دخل في الإسلام حين لم يجد بداً من الدخول فيه ، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه ! وإن من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار . والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا ، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا ، وما بذلنا دماءنا لله فيهم ، وقاسمونا ديارهم وأموالهم ، وما فعلنا مثل ذلك بهم ، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى ، ولقد وصى رسول الله بهم وعزَّاهم عن جفوة السلطان ، فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع والسلطان الجاني » .
وفي جامع أحاديث الشيعة : 8 / 575 ، من مناظرة المأمون مع الفقهاء : « قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) للأنصار : إن شئتم أخرجتم المهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لهم هذه الأموال دونكم ، وإن شئتم تركتم أموالكم وأقسمت لكم معهم .
قالت الأنصار : بل إقسم لهم دوننا واتركهم معنا في دورنا وأموالنا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ، يعني يهود قريظة ، فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ ، لأنهم كانوا معهم بالمدينة أقرب من أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب ،
--------------------------- 597 ---------------------------
ثم قال : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » .
وقال البلاذري في الفتوح : 1 / 5 : « وهبت الأنصار لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كل فضل كان في خططها وقالوا : يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا ! فقال لهم خيراً » .
وفي معجم البلدان : 5 / 86 : « كان ( صلى الله عليه وآله ) يُقطع أصحابه هذه القطائع ، فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه ، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له ، فكان يقطع من ذلك ما شاء . وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان فوهب له ذلك وأقطعه » .
وفي فتح الباري : 6 / 181 « جعلوا للنبي ما لا يبلغه المأمن من أرضهم ، فأقطع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من شاء منه » .
وقال الطوسي في المبسوط : 3 / 274 : « روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه أقطع الدور بالمدينة » . وذكر في مكاتيب الرسول : 1 / 350 نحو ثلاثين مورداً من إقطاعاته ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي الطبقات : 8 / 22 : « لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة نزل على أبي أيوب سنة أو نحوها ، فلما تزوج علي فاطمة قال لعلي : أطلب منزلاً فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قليلاً فبنى بها فيه ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليها فقال : إني أريد أن أُحَوِّلَك إليَّ ، فقالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فكلم حارثة بن نعمان أن يتحول عني . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد تحول حارثة عنا قد استحيت منه ، فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار بك ، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله ! والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب إليَّ من الذي تدع ! فقال رسول الله : صدقت ، بارك الله عليك ، فحولها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيت حارثة » .
وفي صحيح بخاري : 4 / 208 ، أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن علي ( عليه السلام ) : « فذكر محاسن عمله قال : هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : لعل ذاك يسوءك ؟ قال : أجل ! قال فأرغم الله بأنفك » ! وفي فتح الباري : 7 / 59 :
--------------------------- 598 ---------------------------
« سألت ابن عمر عن علي فقال : أنظر إلى منزله من نبي الله ليس في المسجد غير بيته » .
وفي الكافي : 4 / 555 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إذا دخلت من باب البقيع فبيت علي صلوات الله عليه على يسارك ، قدر ممر عنز من الباب ، وهو إلى جانب بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وباباهما جميعاً مقرونان » .
وقال في الطبقات : 8 / 166 يصف بيوت أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « رأيت منازل أزواج رسول الله حين هدمها عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وزادها في المسجد : كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد ، مطرور بالطين ، عددت تسعة أبيات بحجرها ، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي ( صلى الله عليه وآله ) » .
أقول : كانت حجرة عائشة أبعد الحجر عن بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أما بيت أبي بكر فكان في السنح من جهة أحد ، وبيت عمر كان في العوالي من جهة قباء ، وهما يبعدان عن المسجد كيلو مترات ، ولم يكن بجانب المسجد وبيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا بيت علي ( عليه السلام ) ، وبعض بيوت بني هاشم . وقد بحثنا ذلك في سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) من جواهر التاريخ ، وأثبتنا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دفن في بيته ، لا في بيت عائشة .

6 . الوضع السياسي العالمي عند تأسيس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لدولته

كانت الدولتان اللتان تحكمان العالم في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فارس والروم . فكان كسرى يحكم قسماً من العراق مباشرة ، وقسماً بواسطة المناذرة ، وكانت فيه قبائل عربية كبيرة من أشهرها ربيعة ، وكانت البحرين ومحيطها تحت حكم كسرى مباشرة أيضاً ، يعين لها حاكماً يسمى المرزبان ، وأبرز قبائلها عبد القيس ، وبنو تميم ، كما كانت اليمن تحت حكم كسرى وفيها حاكم فارسي إلى جنب الملك ، من أبناء الذين حرروها من حكم الحبشة مع سيف بن ذي يزن ، وكان فيها قبائل قوية عديدة كهمدان وكندة . أما قبائل الحجاز فكانت شبه مستقلة ، وأبرزها قريش بسبب ولايتها للكعبة ، وأكثرها عدداً تميم وهوازن في نجد .
--------------------------- 599 ---------------------------
وقد شمل حكم كسرى مضافاً إلى بلاد فارس وما وراء النهر إلى حدود الصين وروسيا ، وقسماً من الهند ، وكانت الشام وفلسطين منطقة صراع بين الفرس والروم ، وقد غلب عليها الفرس بعد بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخبر القرآن بأن الروم سيغلبونهم بعد بضع سنين فغلبوهم في أذرعات أيام معركة بدر .
وكانت أمبراطورية الروم أوسع ، فكانت روما الغربية تحكم أوروبا الغربية والشرقية ، وكان قيصر روما الشرقية في القسطنطينية يحكم تركيا وبلاد الشام وفلسطين ومصر والحبشة ، ويمد منها نفوذه إلى أفريقيا ، كما يمد نفوذه من جهة الشام إلى الجوف ، ويطمع أن يُخضع المدينة ويقضي على النبوة .
وكان اليهود عملاء للرومان مع أنهم دمروا دولتهم ، وبعضهم عملاء للفرس الذين دمروا دولتهم من قبل ، وقد هاجرت قبائل منهم إلى أرض العرب تنتظر النبي الموعود ، على أمل أن يكون من أبنائهم !
أما بقية دول العالم فكان أهمها الهند والصين ، وكانتا دولتين نائيتين مقفلتين على نفسيهما . أو ممالك صغيرة تحكمها أسر وقبائل .

  • *
    --------------------------- 600 ---------------------------

الفصل الخامس والثلاثون

النبي « صلى الله عليه وآله » يرسي أسس الدولة الإسلامية

1 - آخى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المسلمين ، واتخذ علياً ( ( ع ) ) أخاً له

كانت المؤاخاة مرتين في مكة والمدينة « فتح الباري : 7 / 210 » . وربما آخى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين المسلم وثلاثة فقد آخى بين سلمان الفارسي وأبي ذر ، وبينه وبين أبي الدرداء .
قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 208 : « قال حذيفة بن اليمان « رحمه الله » : آخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المهاجرين والأنصار ، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال : هذا أخي . قال حذيفة : فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيد المرسلين وإمام المتقين ، ورسول رب العالمين الذي ليس له في الأنام شبيه ولا نظير ، وعلي أخوه . والأخبار في ذلك كثيرة ، وهذه منزلة شريفة ومقام عظيم ، لم يحصل لأحد مثله » .
وقال ابن أبي حاتم في الدر النظيم / 250 : « قال أهل العدل : وجدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما آخى بين أصحابه ضم كل شكل إلى شكله وكل إنسان إلى مثله ، وكل نظير إلى نظيره ، فضم أبا بكر إلى عمر ، وعثمان إلى أبي عبيدة بن الجراح ، وطلحة إلى الزبير ، وسعد بن أبي وقاص إلى سعيد بن نفيل ، وآخى بينهم على هذا المثال . وآخى بينه وبين أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .
وفي الدر المنثور : 3 / 205 : « عن ابن عباس قال : كان رسول الله آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، فآخى بين حمزة بن عبد المطلب وبين زيد بن حارثة ، وبين عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء ، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وبين أبي بكر وطلحة ،
--------------------------- 601 ---------------------------
وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ، وقال لسائر أصحابه : تآخوا ، وهذا أخي . يعني علي بن أبي طالب » .
أما وقت المؤاخاة ، فقيل بعد الهجرة بثمانية أشهر وقيل بخمسة ، والصحيح أنها في ثاني عشر شهر رمضان في السنة الأولى لهجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند نزول قوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ . ففي كتاب مسارِّ الشيعة للصدوق « رحمه الله » / 7 وفي طبعة / 32 : « وفي الثاني عشر نزل الإنجيل على عيسى بن مريم ، وهو يوم المؤاخاة التي آخى فيه بين أصحابه ، وآخى بينه وبين علي ( عليه السلام ) » .
وفي أمالي الطوسي / 587 : « عن عبد الله بن عباس قال : لما نزلت : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، آخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المسلمين ، فآخى بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان وعبد الرحمن ، وبين فلان وفلان ، حتى آخى بين أصحابه أجمعهم ، على قدر منازلهم ، ثم قال لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : أنت أخي وأنا أخوك » .
وروى الجميع مؤاخاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بينه وبين علي ( عليه السلام ) ، ومن ذلك :
ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق : 42 / 53 : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما آخى بين المسلمين أخذ بيد علي فوضعها على صدره ، ثم قال : يا علي أنت أخي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . أما تعلم أن أول من يدعى به يوم القيامة يدعى بي فأقام عن يمين العرش في ظلة فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة ، ثم يدعى بأبيك إبراهيم فيقام عن يمين العرش فيكسى حلة خضراء من حلل الجنة .
ثم يدعى بالنبيين والمرسلين بعضهم على إثر بعض فيقومون سماطين فيكسون حللاً خضرا من حلل الجنة . وأنا أخبرك يا علي أنه أول من يدعى بي من أمتي يدعى بك لقرابتك مني ومنزلتك عندي ، فيدفع إليك لوائي وهو لواء الحمد ، يستبشر به آدم وجميع من خلق الله عز وجل من الأنبياء والمرسلين ، فيستظلون بظل لوائي ، فتسير باللواء بين السماطين الحسن بن علي عن يمينك والحسين عن يسارك ، حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش ، فتكسى حلة خضراء من حلل الجنة فينادي مناد من عند العرش : يا محمد نعم الأب أبوك إبراهيم ، ونعم الأخ
--------------------------- 602 ---------------------------
أخوك وهو علي . يا علي إنك تدعى إذا دعيت ، وتحيا إذا حييت ، وتكسى إذا كسيت » .
هذا ، وفي مؤاخاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين المسلمين وبينه وبين علي ( عليه السلام ) ، بحوث مهمة .

أسماء الذين آخى بينهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال ابن هشام : 2 / 351 : « آخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال ، فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل : تآخوا في الله أخوين أخوين ، وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : هذا أخي ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين ، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أخوين .
وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وزيد بن حارثة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخوين . . وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة ، ومعاذ بن جبل أخو بني سلمة ، أخوين .
وكان أبو بكر الصديق . . وخارجة بن زيد . . . أخوين .
وعمر بن الخطاب . . وعتبان بن مالك . . أخوين . وأبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح . . وسعد بن معاذ بن النعمان . . أخوين . وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن الربيع . . أخوين . والزبير بن العوام ، وسلمة بن سلامة بن وقش . . أخوين . وعثمان بن عفان ، وأوس بن ثابت بن المنذر . . أخوين .
وطلحة بن عبيد الله ، وكعب بن مالك . . أخوين .
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي بن كعب . . أخوين .
ومصعب بن عمير بن هاشم ، وأبو أيوب خالد بن زيد . . أخوين .
وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعباد بن بشر بن وقش . . أخوين .
وعمار بن ياسر . . وحذيفة بن اليمان . . أخوين .
وأبو ذر . . والمنذر بن عمرو . . أخوين . .
وكان حاطب بن أبي بلتعة . . وعويم بن ساعدة . . أخوين .
--------------------------- 603 ---------------------------
وسلمان الفارسي ، وأبو الدرداء عويمر بن ثعلبة . . أخوين .
وبلال . . مؤذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو رويحة . . أخوين .
فهؤلاء من سميَ لنا ممن كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) آخى بينهم من أصحابه » .
وقال ابن عبد ربه في الدرر / 90 : « والصحيح عند أهل السير والعلم بالآثار والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المهاجرين والأنصار في حين قدومه إلى المدينة ، أنه آخى بين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد بن أبي زهير ، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك ، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت ، وآخى بين علي بن أبي طالب وبين نفسه ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : أنت أخي في الدنيا والآخرة . . وآخى بين جعفر بن أبي طالب وهو بأرض الحبشة ومعاذ بن جبل . وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع . وبين الزبير وسلمة بن سلامة بن وقش . وبين طلحة وكعب بن مالك . وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ . وبين سعد ومحمد بن مسلمة . وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب . وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب ، وبين عمار وحذيفة بن اليمان حليف بني عبد الأشهل ، وقد قيل بين عمار وثابت بن قيس . وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر . وبين أبي ذر والمنذر بن عمرو . وبين ابن مسعود وسهل بن حنيف . وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء . وبين بلال وأبي رويحة الخثعمي حليف الأنصار . وبين حاطب بين أبي بلتعة وعويم بن ساعدة . وبين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت . وبين عبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام . وبين الطفيل بن الحارث أخيه وسفيان بن بشر بن زيد من بني جشم بن الحارث بن الخزرج . وبين الحصين بن الحارث أخيهما وعبد الله بن جبير . وبين عثمان بن مظعون والعباس بن عبادة . . . وآخى رسول الله بينه « أوس بن ثابت » وبين عثمان بن عفان » .
وهذه نصوص في المؤاخاة ، وطبيعي أن يكون بعضها ضعيفاً وبعضها مكذوباً :
« فآخى بين أبي بكر وعمر وبين طلحة والزبير ، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف » . الطبقات : 3 / 174 والإكمال / 177 .
« آخى بين عويم وعمر » . تاريخ بخاري : 1 / 69 .
--------------------------- 604 ---------------------------
« آخى بين عويم بن ساعدة وحاطب بن أبي بلتعة » . الطبقات : 3 / 459 .
« آخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد الخزرجي » . تاريخ دمشق : 30 / 94 .
« آخى بين الزبير وطلحة . . آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك » . الطبقات : 3 / 102 .
« وآخى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بينه « الزبير » وبين سعد بن معاذ » . تهذيب التهذيب : 6 / 25 .
« آخى بين الزبير وبين عبد الله بن مسعود » . تاريخ دمشق : 33 / 76 وسيرالذهبي : 1 / 467 .
« آخى بينه « الزبير » وبين سلمة بن سلامة بن وقش » . أسد الغابة : 2 / 196 .
« آخى بين الزبير وبين عبد الله بن مسعود » . تاريخ بغداد : 9 / 57 .
« وآخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل » . الطبقات : 3 / 152 .
« وآخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل » . الطبقات : 4 / 35 والإصابة : 1 / 592 .
« آخى بين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت » . العثمانية / 161 .
« وآخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أبي سبرة بن أبي رهم وبين سلمة بن سلامة بن وقش » . الطبقات : 3 / 402 .
« آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص . الطبقات : 3 / 125 .
فآخى بينه « ابن عوف » وبين سعد بن الربيع الأنصاري » . الإصابة : 4 / 290 ، صحيح بخاري : 4 / 222 ، الآحاد والمثاني : 3 / 388 .
« آخى رسول الله بين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص » . الطبقات : 3 / 120 .
« وآخى بين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري ، ويقال ذكوان بن عبد قيس » . الطبقات : 3 / 120 .
« وآخى رسول الله بين أبي أيوب ومصعب بن عمير » . الطبقات : 3 / 484 ، والإصابة : 2 / 200 .
« دعا سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر . . . ثم آخى بينهما » . الآحاد والمثاني : 5 / 171 .
« آخى بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان » . عمدة القاري : 1 / 197 ذيل الطبري / 14 .
« آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء . . . آخى بين سلمان وحذيفة » . الطبقات : 4 / 84 وتاريخ دمشق : 21 / 440 .
--------------------------- 605 ---------------------------
« وآخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك الأشجعي » . الطبقات : 4 / 280 .
« آخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أصحابه بين سلمان وأبي الدرداء . وآخى بين عوف بن مالك وصعب بن جثامة » . تاريخ دمشق : 47 / 48 ، الآحاد والمثاني : 5 / 171 .
« عن الصادق ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) آخى بين سلمان وأبي ذر ، واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان » . الفوائد الرجالية : 2 / 149 والصحيح من السيرة : 4 / 244 .
« آخى بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة » . تاريخ دمشق : 47 / 48 .
« آخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بينه « المنذر بن عمرو » وبين أبي ذر الغفاري » . الإستيعاب : 3 / 1449 .
« وآخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المنذر بن عمرو وطليب بن عمير » . الطبقات : 3 / 555 .
« وآخى رسول الله بين طليب بن عمير والمنكدر بن عمرو » . تاريخ دمشق : 25 / 143 .
« وآخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بينه « سالم مولى أبي حذيفة » وأبي بكر » . تأويل ابن قتيبة / 285 .
« وآخى رسول الله بينه « سالم » وبين معاذ بن ماعص الأنصاري » . الطبقات : 3 / 88 .
« وآخى بين معاذ بن ماعص وسالم مولى أبي حذيفة » . الطبقات : 3 / 595 .
« آخى بين أبي الهيثم بن التيهان وعثمان بن مظعون » . الحاكم : 3 / 286 ،
« وآخى رسول الله بين الحارثة بن سراقة والسائب بن عثمان بن مظعون » . الطبقات : 3 / 510 .
« وآخى رسول الله بين السائب بن عثمان وبين حارثة بن سراقة الأنصاري » . الطبقات : 3 / 403 .
« وآخى رسول الله بين عبد الله بن مظعون وسهل بن عبيد الله بن المعلى الأنصاري » الطبقات : 3 / 400 ، الإستيعاب : 2 / 810 والإصابة : 7 / 365 .
« وآخى رسول الله بين أسيد بن حضير وزيد بن حارثة » . الحاكم : 3 / 387 .
« آخى بين حمزة وزيد بن حارثة » . الطبقات : 8 / 159 وتاريخ دمشق : 19 / 361 .
« آخى رسول الله بين عامر بن ربيعة ويزيد بن المنذر بن شريح الأنصاري » . الحاكم : 3 / 358 ، الطبقات : 3 / 387 و 3 / 575 والاستيعاب : 4 / 1580 .
« آخى رسول الله بين خباب وبين جبر بن عتيك » . الحاكم : 3 / 382 والطبقات : 3 / 166 .
--------------------------- 606 ---------------------------
« وآخى رسول الله بينه « محمد بن مسلمة » وبين أبي عبيدة بن الجراح » . الحاكم : 3 / 333 ، الطبقات : 3 / 410 و 443 ، تاريخ دمشق : 55 / 260 والإصابة : 6 / 28 .
« وآخى رسول الله بينه « شجاع بن وهب » وبين أوس بن خولي » . الطبقات : 3 / 94 و 542 والاستيعاب : 2 / 707 .
« وآخى رسول الله بين عمير بن عبد عمرو الخزاعي وبين يزيد بن الحارث بن فسحم » . الطبقات : 3 / 168 و 534 .
« وآخى رسول الله بين مسعود بن الربيع القاري وبين عبيد بن التيهان » . الطبقات : 3 / 168 ، الإستيعاب : 3 / 1392 والإصابة : 6 / 77 .
« وآخى رسول الله بين زيد بن الخطاب ومعن بن عدي بن العجلان » . الطبقات : 3 / 377 .
« وآخى رسول الله بين عاقل بن أبي البكير وبين مبشر بن عبد المنذر » . الطبقات : 3 / 388 و 553 .
« آخى رسول الله بين خنيس بن حذافة وأبي عبس بن جبر » . الطبقات : 3 / 393 و 450 .
« وآخى رسول الله بين معمر بن الحارث ومعاذ بن عفراء » . الطبقات : 3 / 401 و 492 .
« وآخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو بن وذفة » . الطبقات 3 / 404 و 599 .
« وآخى رسول الله بينه « المنذر أبا عبدة » وبين الطفيل بن الحارث بن المطلب » . الطبقات : 3 / 377 .
« آخى بين الطفيل بن الحارث وسفيان بن نسر بن عمرو بن الحارث » . الطبقات : 3 / 52 ، و 421 .
« وآخى رسول الله بين وهب بن سعد وسويد بن عمرو » . الطبقات : 3 / 407 .
« وآخى رسول الله بين الحارث بن خزمة وإياس بن أبي البكير » . الطبقات : 3 / 447 .
« آخى رسول الله بين عباد بن بشر وبين أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة » . الطبقات : 3 / 440 .
« آخى رسول الله بين صفوان بن بيضاء ورافع بن المعلى » . الطبقات : 3 / 416 و 601 .
« آخى رسول الله بين رافع بن عنجدة والحصين بن الحارث بن المطلب » . الطبقات : 3 / 461 .
« آخى رسول الله بين ثعلبة بن حاطب ومعتب بن الحمراء » . الطبقات : 3 / 460 .
« وآخى رسول الله بين عاصم بن ثابت وعبد الله بن جحش » . الطبقات : 3 / 462 .
« آخى رسول الله بين عمارة بن حزم ومحرز بن نضلة » . الطبقات : 3 / 486 .
--------------------------- 607 ---------------------------
« وآخى رسول الله بين عبادة بن الصامت وأبي مرثد الغنوي » . الطبقات : 3 / 546 . « آخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أبي دجانة وعتبة بن غزوان » . الطبقات : 3 / 556 .
« آخى رسول الله بين عمير بن الحمام وعبيدة بن الحارث » . الطبقات : 3 / 565 .
« وآخى بين بشر بن البراء بن معرور وبين واقد بن عبد الله التميمي » . الطبقات : 3 / 570 .
« آخى رسول الله بينه « واقد بن عبد الله » وبين بشر بن البراء بن معرور » . الإستيعاب : 4 / 1550 .
« وآخى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين جبار بن صخر والمقداد بن عمرو » . الطبقات : 3 / 576 .
« آخى رسول الله بينه « أحمد بن سلمة السلمي » وبين المقداد » . الإستيعاب : 1 / 228 .
« آخى رسول الله بين عائذ بن ماعص وسويبط بن عمرو العبدري » . الطبقات : 3 / 595 .
« آخى بين بلال وبين أبي رويحة الخثعمي » . الطبقات : 3 / 233 وتاريخ دمشق : 66 / 234 .
« آخى بين أبي بن كعب وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل » . الطبقات : 3 / 498 .
« آخى بين المقداد بن عمرو وعبد الله بن رواحة » . تاريخ دمشق : 60 / 157 .
« آخى بين الحارث بن الصمة وصهيب » . تاريخ الذهبي : 2 / 252 .
« آخى بينه « زيد بن الدثنة الأنصاري » وبين مسطح بن أثانة » . الوافي : 15 / 28 .
ومن مكذوباتهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) آخى بين نوفل بن الحارث والعباس . الطبقات : 4 / 46 . مع أن العباس لم يهاجر ، وخرج في بدر مع المشركين وأخذ أسيراً .
وكذا روايتهم بأنه ( صلى الله عليه وآله ) آخى بين علي ( عليه السلام ) وعثمان ، وأن عثمان طالب بها علياً ( عليه السلام ) !

2 - النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرسي ميثاق الدولة الإسلامية ويحدد دستورها

نورد هنا خلاصة لما كتبه المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم : « حقوق الإنسان عند أهل بيت النبوة والفكر المعاصر » :
« عندما وصل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى إقليم الدولة ومقر المجتمع الجديد ، آخى بين الأنصار ثم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وآخى مرة ثانية بينه وبين الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأصبح المسلمون « المهاجرون والأنصار » كعائلة واحدة تربطهم وشائج الإسلام والإيمان وأخوته ، وأصبح النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولي هذه العائلة مجتمعة بالنص الشرعي ، علاوة على رئاسته العامة لكل مواطني يثرب ، من أتباع الديانات الأخرى . .
--------------------------- 608 ---------------------------

أ . التعاقد بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين المسلمين

تم التعاقد الفعلي والقانوني بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصفته الولي ، أو السلطة ، أو القيادة المختارة إلهياً لقيادة المجتمع الجديد ، وبصفته أيضاً المتلقي للشريعة الإلهية والمؤتمن على تطبيق أحكامها في المجتمع الجديد ، وبين المسلمين كأعضاء في المجتمع الجديد . وقد حرص رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على أن يتم الدخول في الإسلام والانتماء إلى المجتمع الجديد بموجب عقد حقيقي مع كل واحد يريد الدخول في الإسلام والانتماء لمجتمعه الجديد ، وأن يكون من بنود العقد القبول بقيادة الرسول للمجتمع ، والقبول بطبيعة أحكام الشريعة الإلهية باعتبار أن « قيادة الرسول وتطبيق الشريعة الإلهية » الضمانة العملية لحماية الإنسان وتمكينه من ممارسة حقوقه كاملة غير منقوصة .
فلم يرو راوٍ قط أن رجلاً أو أنثى دخل في الإسلام دون أن يبايع رسول الله ، فكل رجل كان يضع يده بيد الرسول كناية عن تمام التعاقد ، وكل أنثى كانت تبايع الرسول بالصيغة والشكل الذي حدده الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . . . تلك حقيقة مطلقة لا يملك أحد إنكارها ، فالبيعة بين الطرفين كناية عن تمام التعاقد حسب الأعراف والأطر القانونية التي كانت سائدة آنذاك ، وكانت كل بيعة تتم بالرضا والطواعية التامين ، وبدون إكراه أو ضغط . .

ب . التعاقد لتحديد إقليم الدولة ومكان المجتمع الجديد

وقع الاختيار الإلهي على مدينة يثرب « المدينة المنورة » لتكون المكان الذي تقام فيه نواة المجتمع الجديد ، ومقر الدولة الإسلامية المباركة الجديدة ، وكلف الله نبيه أن يترجم هذه التوجيهات الإلهية ، فالتقى بعد أداء مناسك الحج بوفد مسلمي المدينة المنورة المكون من 73 رجلاً وامرأتين ، والذي كان يرأسه أسعد بن زرارة ، واتفق هذا الوفد المفوض مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتعاقد معه على ما يلي :
1 . أن يهاجر رسول الله وأهل بيته ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة المنورة .
2 . أن يقوم الأنصار متكافلين ومتضامنين بحماية رسول الله وأهل بيته ( صلى الله عليه وآله ) كما يحمي كل واحد منهم نفسه ونساءه وأولاده .
--------------------------- 609 ---------------------------
3 . أن تتاج الفرصة لمن يرغب من مسلمي مكة بالهجرة إلى المدينة والانتماء إلى المجتمع الجديد ، وأن يتولى الأنصار احتضان المهاجرين كأخوة لهم .
4 . أن لا يترك رسول الله المدينة المنورة عندما تعلو كلمة الله ويظهر أمره .
وبعد الاتفاق على المضمون الآنف لهذا العقد قام أعضاء الوفد والمرأتان بمبايعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ذلك فرداً فرداً ، كناية عن تمام العقد وإبرامه . . .

ج . التعاقد مع أتباع الديانات المقيمين في المدينة

بوصول النبي والمهاجرين إلى المدينة المنورة تكونت كل مقومات الدولة :
1 . السلطة : المكونة من الإمام وهو رسول الله وأهل شوراه أو حكومته الفعلية .
2 . الإقليم : وهو منطقة يثرب أو المدينة المنورة وما حولها .
3 . الشعب : من خلال البيعة العامة لرسول الله ، عندما استقر في المدينة تكوَّن شعب الدولة الإسلامية وتحدد عملياً من :
1 . المسلمين : وهم أمة واحدة من دون الناس ، ويتألفون من : المهاجرين والأنصار الأوس والخزرج ومواليهم .
2 . اليهود المتحالفين مع قبائل الأوس والخزرج ، وهم يهود بني النجار ، ويهود بني الحارث ، ويهود بني ساعدة ، ويهود بني جشم ، وبني الأوس ، وبني ثعلبة .
3 . من قبائل اليهود التي تعيش في أحياء خاصة بها حول المدينة .
4 . ممن بقي على الشرك من الأعراب المتواجدين داخل المدينة وحولها .
وكان المسلمون يعرفون الشريعة الإلهية كقانون نافذ في المجتمع ، ويرتبطون مع الرسول دائماً في الصلاة يومياً ، أو مرة واحدة في الأسبوع على الأقل .
أما العناصر الأخرى في مجتمع الدولة الإسلامية من أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام ، فهي لا تعرف الحلال من الحرام ، وبتعبير آخر فهي تجهل القانون النافذ في المجتمع الجديد الذي بدأت الدولة الإسلامية بتطبيقه ، ولم ترتبط مع النبي بأي عقد . صحيح أن الكلمة العليا والقول الفصل في هذا المجتمع للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن هذه العناصر قد استقبلته عند وصوله إلى يثرب ، وعبرت عن ترحيبها وفرحتها
--------------------------- 610 ---------------------------
بقدومه ، لكنه ( صلى الله عليه وآله ) لم ير من المناسب أن يمتد سلطان دولته إلى هذه العناصر دون رضاها والتعاقد معها .
لذلك وضع صحيفة تنظيمية بمثابة ملحق دستوري لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع الجديد وفئاته ، ليعرفوا حدودهم فلا يتجاوزوها ، وتتكرس فكرة سيادة الشريعة الإسلامية على الأمة المسلمة ، وسيادة القانون .

د . تكييف هذا العقد

وهذا الملحق الدستوري عبارة عن كتاب من محمد ( صلى الله عليه وآله ) : 1 - للمؤمنين .
2 - لكافة فئات مجتمع المدينة . 3 - لمن تبعهم . 4 - لمن لحق بهم . 5 - لمن جاهد معهم .
ولا تثريب على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لو قدم هذا الملحق كمواد نافذة على جميع المنتمين إلى المجتمع الجديد ، لكن روح الإسلام القائمة على الرضا والقبول ، وخُلُق النبي الرحيم اقتضت أن يكون بمثابة عقد خاص يشمل كل المسلمين الذين بايعوه ، وتعاقدوا معه بدخولهم في الإسلام .
ثم إن هذا الملحق الدستوري . . . عقدٌ حقيقي نظمه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووافق عليه أتباع الديانات الأخرى داخل المجتمع الجديد ، الذين تربطهم بالأوس والخزرج علاقات القربى والموالاة . ويدل على ذلك المادة التي نصت على أن رسول الله هو المخول والمختص بفصل النزاعات الناتجة عن تطبيق هذه الصحيفة .

ه - . الخطوط العريضة لهذا الملحق أو العقد التنظيمي

1 . المؤمنون والمسملون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أمة من دون الناس .
2 . قريش عدوة للمجتمع اليثربي لا تُجَارُ أبداً .
3 . يشترك اليهود بالنفقات الحربية ويقتسمون الغنائم .
4 . يثرب للجميع وهي محرمة لا يقطع شجرها ولا يقتل طيرها ولايروع ساكنها .
5 . دين الدولة الجديدة هو الإسلام ، ورئيس الدولة هو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو مختص بفصل النزاعات التي تنشأ في المجتمع الجديد .
--------------------------- 611 ---------------------------
6 . المجرم عدو للمجتمع لا يجوز إيواؤه . والقاتل يقتل ، ويتعاون الجميع على تنفيذ الحكم عليه ولو كان ابن أحدهم .
7 . الجريمة شخصية لا يسأل غير مقترفها ، والمجتمع كله ضد البغي .
8 . جار الإنسان كنفسه لا يضارّ .
9 . المجتمع مع المظلوم ضد الظالم .
10 . لا تجار المرأة إلا بإذن أهلها .
11 . من خرج من المدينة فهو آمن ، ومن قعد في بيته فهو آمن .
12 . وحتى يضمن الأمن لليهود ومنهم وضعت مادة : لا يجوز لأي يهودي أن يخرج من المدينة إلا بإذن محمد .
13 . على المسلمين سداد دين الغارم منهم .
14 . اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
15 . يهود بني عون أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، وكذلك يهود بني الحارث ، وبني النجار ، وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس ، وبني ثعلبة وبطانة الجميع كأنفسهم .
16 . الله ومحمد جارٌ لمن بَرَّ واتقى ، ومن ظلم فلا أمن له .
وقد تألف هذا العقد أو الملحق من 47 بنداً تعاقدياً ، وكرس البند التعاقدي رقم 21 الشريعة الإسلامية كقانون أعلى نافذ في المجتمع ، كما كرس بوضوح تام رئاسة محمد للدولة والمجتمع ، بإعطائه الحق بفصل النزاعات والخصومات . . .
وهذه عقود حقيقية تمت بين السلطة وأعضاء المجتمع ، وبين أعضاء المجتمع أنفسهم ، وليست عقوداً افتراضية كالتي تصورها روسو !
ونقول بكل موضوعية : إن مثل هذه التعاقدات سابقة إنسانية ، ليس لها مثيل في التاريخ البشري . .
كل هذه الأسباب دعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) لاعتبار المدينة المنوّرة وطناً للجميع بما فيهم اليهود ، واعترف بالتحالفات القبلية السابقة لقدومه وتركها على حالها ،
--------------------------- 612 ---------------------------
وأعطى تشكيلات المجتمع الحرية بإدارة شؤونها ، وعند اختلافها فهو المرجع لحل هذه الاختلافات ، وظهر اليهود بمظهر الموالين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والترتيبات التي أعلنها ، وقبلوا بالملحق الدستوري بدليل أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يذكرهم بالعقد كلما هموا بالخروج عليه » . انتهى .

3 . هل كانت حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفاعية أم هجومية ؟

كان مجتمع المدينة مجتمعاً مقاتلاً ، لأن المسلمين كانوا مستهدفين .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) « أمالي الطوسي / 174 » : « فلما آووا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه ونصروا الله ودينه ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وتحالفت عليهم اليهود وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة ، فتجردوا للدين وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل ، وما بينهم وبين اليهود من العهود ، ونصبوا لأهل نجد وتهامة ، وأهل مكة واليمامة ، وأهل الحزَن وأهل السهل قناة الدين والصبر ، تحت حماس الجِلَاد » .
وفي سيرة ابن إسحاق : 2 / 154 : « فمكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة عشر سنين بعدما أوحى إليه ، خائفاً هو وأصحابه ، يدعون الله عز وجل سراً وعلانية ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وكانوا بها خائفين يمسون ويصبحون في السلاح ، فقال رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال رسول الله : لن تعبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ، ليس فيه حديد » .
قالوا : لهذا ، فإن حروب النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت دفاعاً عن كيانهم ووجودهم ، أو وقاية من اعتداء متوقع . وقد تبنى هذا التحليل الكُتَّاب المسلمون المعاصرون ، دفاعاً عن الإسلام ونبيه ( صلى الله عليه وآله ) ورداً على الغربيين الذين اتهموا الإسلام بأنه دين توسعي دموي ، يتبنى القتال باسم الجهاد ، وأنه انتشر بالقوة في جزيرة العرب ، ثم في البلاد التي هاجمها وفتحها .
كما اتهم الغربيون نظام الحكم الإسلامي بأنه نظام ديكتاتوري « ثيوقراطي » يعطي الخليفة صلاحيات مطلقة ، ويقمع الرأي المخالف له باسم الله تعالى .
فأجابهم الكتَّاب المسلمون بأن نظام الحكم الإسلامي يقوم على الشورى ، وحاولوا أن يجدوا تطبيقاً للشورى في السقيفة وغيرها ، فلم يوفقوا !
--------------------------- 613 ---------------------------

4 - حقائق غابت عن المُتَّهمين والمدافعين

استند المنتقدون للإسلام على العاطفة والدعاية ضد الإسلام ، وأجابهم بعض المسلمين بالقول إن جميع حروب النبي ( صلى الله عليه وآله ) دفاعية واحتج ببعضها ، وبآية : لا إكراه في الدين ، وجوابهم أن آيات فريضة الجهاد صريحة في تشريع القتال للدفاع والهجوم ، وكذا ما دوَّنه الفقهاء في أبواب الجهاد في مصادر الفقه ، كالكافي : 5 / 13 ، مبسوط الطوسي : 2 / 2 ، الجواهر : 21 / 3 ، المجموع : 19 / 265 والمغني : 10 / 364 .
والجواب الحقوقي في هذه المسائل : أن المالك المطلق للأرض والكون وكل المخلوقات هو الله تعالى ، فهو خالقها وصاحبها ومديرها عز وجل ، وهو الذي يملك جميع الحقوق القانونية ، وكل ملكية وصلاحية لمخلوقاته من ملائكة وبشر وغيرهم ، لا بد أن تكون بتمليكه وإعطائه . وبما أنه عز وجل عادل حكيم ، فهو لا يعطي حق دعوة الناس وحكمهم إلا للمطهرين المعصومين من أنبيائه وأوصيائه « عليهم السلام » .
1 - قال الله تعالى في بيان خلقه وملكيته المطلقة للكون : « ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَايَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ » .
« قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ » .
« إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ » .
2 - وقال تعالى في تسليط رسله « عليهم السلام » : « وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ » .
3 - وقال تعالى في الإذن لرسوله وأوصيائه « عليهم السلام » : « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا
--------------------------- 614 ---------------------------
الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ » . الحج : 39 - 41 .
4 - وقال تعالى يأمر المؤمنين بالقتال بقيادة نبيه وأوصيائه المعصومين « عليهم السلام » : « قَاتِلُوا الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا . الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا » . النساء : 75 - 76 .
وقد حصرت أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » المأذون لهم بالدعوة والقتال بالمعصومين الذين اختارهم الله تعالى وهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة « عليهم السلام » « تهذيب الأحكام : 6 / 131 » ولا تشمل الذين اختارهم الناس ، أو فرضوا حكمهم بقوة السلاح .
لذلك كتب فقهاء مذهبنا بحوثاً فقهية مفصلة في حق الحكم في عصر غيبة النبي والإمام « عليهم السلام » ، وهل يكون بالشورى ويتم تطبيقه بالإنتخابات المعروفة ، أم هو حق للمعصوم فقط ، فإن غاب فالناس في حالة فراغ ، والحكم غير شرعي ، والمؤمنون يتعايشون مع الحكومات الموجودة ، ويعملون لتحسين أدائها وتقليل ظلمها . وقال القليل منهم إن حق الحكم للناس لمن ينتخبونه ضمن الشروط الشرعية ، وإن لم يصح وصفه بأنه خليفة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وقال بعضهم كالسيد الخميني « رحمه الله » إن الحكم في عصر الغيبة للفقيه الجامع للشرائط « المرجع أو المجتهد » وله الولاية المطلقة على الناس شبيهاً بالمعصوم ( عليه السلام ) ، لكنه « رحمه الله » قبل بنظام يعتمد الانتخابات ، بشرط أن يمضي نتيجتها الفقيه ولي الأمر .
وأما فقهاء مذاهب السلطة فقالوا يجب على المسلمين أن يبايعوا حاكماً ويصير خليفة شرعياً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بمجرد أن يصفق على يده بالبيعة شخص واحد ، فيجب على الباقين بيعته ، ويجوز إجبارهم بالسيف عليها ! فإن قام ضده أحد وجب قتاله لأنه باغ معتد بخروجه على الإمام ، لكن إذا غلب الباغي تحول إلى خليفة شرعي ووجبت بيعته ! وبهذا تكون الشرعية عندهم لمن غلب وتسلط ، ويكون الله تعالى مع من غلب !
--------------------------- 615 ---------------------------

5 - أذن الله لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقتال المشركين

في الكافي : 8 / 341 ، بسند صحيح عن ابن المسيب ، عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال : « لما ماتت خديجة قبل الهجرة بسنة ، ومات أبو طالب . . حزن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حزناً شديداً ، وخاف على نفسه من كفار قريش فأوحى الله إليه : أخرج من القرية الظالم أهلها ، وهاجر إلى المدينة ، فليس لك بمكة ناصر ، وانصب للمشركين حرباً . فعند ذلك توجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى المدينة » .
وفي تفسير القمي : 1 / 71 : « قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَكُرْهٌ لَكُمْ . نزلت بالمدينة ونسخت آية : كُفُّوا أيْدِيَكم . . التي نزلت بمكة » .
وفي جواهر الكلام : 21 / 57 : « فلما أرادوا ما هموا به من تبييته ، أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال ، فقال : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا . . » .
وفي الكافي : 5 / 13 ، عن أبي عمرو الزبيري ، أنه قال للإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله ، أهو لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم به إلا من كان منهم ، أم هو مباح لكل من وحد الله عز وجل وآمن برسوله ( صلى الله عليه وآله ) ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عز وجل وإلى طاعته وأن يجاهد في سبيله ؟
فقال : ذلك لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم بذلك إلا من كان منهم . قلت : من أولئك ؟ قال : من قام بشرائط الله عز وجل في القتال والجهاد على المجاهدين ، فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل ، ومن لم يكن قائماً بشرائط الله عز وجل في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد ولا الدعاء إلى الله ، حتى يحكم في نفسه ما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد .
قلتُ : فبيِّن لي يرحمك الله . قال : إن الله تبارك وتعالى أخبر نبيه في كتابه الدعاء إليه ووصف الدعاة إليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضاً ويستدل بعضها على بعض فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتباع أمره فبدأ بنفسه فقال : وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . ثم ثنى برسوله فقال : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
--------------------------- 616 ---------------------------
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . يعني بالقرآن . . ثم ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ . .
ثم أخبر عن هذه الأمة وممن هي وأنها من ذرية إبراهيم ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط ، الذين وجبت لهم الدعوة ، دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . . . ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلا أصحاب هذه الشروط فقال عز وجل : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ . .
وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض لله عز وجل ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة ، فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والمولي عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات وغلبوهم عليه مما أفاء الله على رسوله ، فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم ، وإنما معنى الفيئ كل ما صار إلى المشركين ثم رجع مما كان قد غُلب عليه أو فيه ، فما رجع إلى مكانه من قول أو فعل فقد فاء . . وإن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم ، ممن يبغي ويجب جهاده حتى يتوب ! وليس مثله مأذوناً له في الجهاد والدعاء إلى الله عز وجل ، لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين أذن لهم في القرآن في القتال . .
فليتق الله عز وجل عبدٌ ولا يغتر بالأماني التي نهى الله عز وجل عنها ، من هذه الأحاديث الكاذبة على الله التي يكذبها القرآن ، ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها » .
وقال اليعقوبي في تاريخه : 2 / 44 : « وأقام رسول الله يتلوَّم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله ، عز وجل : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . والآية التي بعدها . وقال : فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ . إلى آخر الآية . فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله عز وجل : الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ
--------------------------- 617 ---------------------------
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ . وأنزل الله عليه سيفاً من السماء له غمد ، فقال له جبريل : ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا : لا إله إلا الله وإنك رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله . فكان أول سرية سارت ولواء عقد في الإسلام لحمزة بن عبد المطلب » .
وقال ابن هشام : 2 / 320 : « أذن الله عز وجل لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم ، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم ، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء ، قول الله تبارك وتعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ » .
وفي الكافي : 5 / 7 و 2 قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن الله عز وجل بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين ، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال ! فالخير في السيف وتحت السيف والأمر يعود كما بدأ . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الخير كله في السيف وتحت ظل السيف ، ولا يقيم الناس إلا السيف ، والسيوف مقاليد الجنة والنار » .

  • *
    --------------------------- 618 ---------------------------

الفصل السادس والثلاثون

زواج النبي « صلى الله عليه وآله » بعد وفاة خديجة « عليها السلام »

لم يتزوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على خديجة وتزوج بعد هجرته

قال ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 137 : « في إعلام الورى ، ونزهة الأبصار ، وأمالي الحاكم ، وشرف المصطفى : أنه ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بإحدى وعشرين امرأة . وقال ابن جرير وابن مهدي : واجتمع له إحدى عشرة امرأة في وقت .
ترتيب أزواجه : تزوج بمكة أولاً خديجة بنت خويلد ، قالوا : وكانت عند عتيق بن عايذ المخزومي ثم عند أبي هالة زرارة بن نباش الأسدي .
وروى أحمد البلاذري ، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في الشافي ، وأبو جعفر في التلخيص : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تزوج بها وكانت عذراء ، يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة .
وسودة بنت زمعة بعد موتها بسنة ، وكانت عند سكران بن عمرو من مهاجري الحبشة فتنصر ومات بها . وعائشة بنت أبي بكر ، وهي ابنة سبع قبل الهجرة بسنتين ، ويقال كانت ابنة ست ودخل بها بالمدينة في شوال وهي ابنة تسع ، ولم يتزوج غيرها بكراً ، وتوفي النبي وهي ابنة ثمانية عشر سنة ، وبقيت إلى أمارة معاوية وقد قاربت السبعين .
وتزوج بالمدينة أم سلمة ، واسمها هند بنت أمية المخزومية ، وهي بنت عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، وكانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد ، بعد وقعة بدر من سنة اثنتين من التاريخ ،
--------------------------- 619 ---------------------------
وفي هذه السنة تزوج بحفصة بنت عمر وكانت قبله تحت خنيس بن عبد الله ابن حذاقة السهمي ، فبقيت إلى آخر خلافة علي ( عليه السلام ) وتوفيت بالمدينة . وزينب بنت جحش الأسدية ، وهي ابنة عمتها أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت عند زيد بن حارثة ، وهي أول من ماتت من نسائه بعده في أيام عمر ، بعد سنتين من التاريخ .
وجويرية بنت الحارث بن ضرار المصطلقية ، ويقال إنه اشتراها فأعتقها وتزوجها وماتت في سنة خمسين ، وكانت عند مالك بن صفوان بن ذي السفرتين . وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، واسمها رملة وكانت عند عبد الله بن جحش ، في سنة ست ، وبقيت إلى أمارة معاوية .
وصفية بنت حي بن أخطب النضري ، وكانت عند سلام بن مسلم ، ثم عند كنانة ابن الربيع ، وكانت أتي بها وأسر بها في سنة سبع . وميمونة بنت الحارث الهلالية ، خالة ابن عباس ، وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي ، ثم عند أبي زيد بن عبد العامري ، خطبها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفر بن أبي طالب وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بسرف ، وهو على عشرة أميال من مكة في سنة سبع ، وماتت في سنة ست وثلاثين . وقد دخل بهؤلاء .
والمطلقات أو من لم يدخل بهن أو من خطبها ولم يعقد عليها : فاطمة بنت شريح وقيل بنت الضحاك ، تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها حين أنزلت عليه آية التخيير فاختارت الدنيا ففارقها ، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول : أنا الشقية اخترت الدنيا . وزينب بنت خزيمة بن الحرث أم المساكين من عبد مناف ، وكانت عند عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب . وأسماء بنت النعمان بن الأسود الكندي من أهل اليمن . وأسماء بنت النعمان ، لما دخلت عليه قالت : أعوذ بالله منك ، فقال : أعذتك إلحقي بأهلك ، وكانت بعض أزواجه علمتها وقالت : إنك تحظين عنده . وقتيلة أخت الأشعث بن قيس الكندي ، ماتت قبل أن يدخل بها ، ويقال طلقها فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وهو الصحيح .
وأم شريك ، واسمها غزية بنت جابر من بني النجار . وسنا بنت الصلت من
--------------------------- 620 ---------------------------
بني سليم ، ويقال خولة بنت حكيم السلمي ماتت قبل أن تدخل عليه ، وكذلك صراف أخت دحية الكلبي .
ولم يدخل بعمرة الكلابية ، وأميمة بنت النعمان الجونية ، والعالية بنت ظبيان الكلابية ، ومليكة الليثية . وأما عميرة بنت بريد رأى بها بياضاً فقال : دلستم عليَّ فردها ، وليلى بنت الحطيم الأنصارية ضربت ظهره وقالت : أقلني ، فأقالها فأكلها الذئب ، وعمرة من العرطا « كذا » وصفها أبوها حتى قال : إنها لم تمرض قط ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ما لهذه عند الله من خير . والتسع اللاتي قبض عنهن : أم سلمة ، زينب بنت جحش ، ميمونة ، أم حبيبة ، صفية ، جويرية ، سودة ، عائشة ، حفصة .
قال زين العابدين ( عليه السلام ) ، والضحاك ، ومقاتل : المُوهبة امرأة من بني أسد ، وفيه ستة أقوال . ومات قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) : خديجة ، وزينب بنت خزيمة . وأفضلهن خديجة ، ثم أم سلمة ، ثم ميمونة .
مبسوط الطوسي ، أنه اتخذ من الإماء ثلاثاً : عجميتين وعربية فأعتق العربية واستولد إحدى العجميتين ، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه : مارية القبطية ، وريحانة بنت زيد القرظية ، أهداهما المقوقس صاحب الإسكندرية ، وكانت لمارية أخت اسمها سيرين فأعطاها حسان فولدت عبد الرحمن ، فتوفيت مارية بعد النبي بخمس سنين ، ويقال إنه أعتق ريحانة ثم تزوجها .
وفي الأنوار ، والكشف ، واللمع ، وكتاب البلاذري : أن زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش ، فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين » .

أم سَلمة أفضل أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد خديجة ( عليها السلام )

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أفضلهن خديجة بنت خويلد ، ثم أم سلمة ، ثم ميمونة » . « الخصال / 419 » . وقد تزوج سَوْدة أول دخوله المدينة ، ثم تزوج أم سلمة وهي بنت عم أبي جهل ، أبوها أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومي ! وكان يسمى زاد الراكب لكرمه ، وأبو جهل هو : عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . دلائل الإمامة / 81 وعمدة القاري : 17 / 84 .
--------------------------- 621 ---------------------------
أما زوجها قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبو سلمة فهو : « عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم » . « الحاكم : 4 / 16 و 19 » . وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة .
وكان أخوها لأبيها عبد الله بن أبي أمية من أشد أعداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع أنه ابن عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وهو الذي قال : « لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلَّماً وترقى فيه وأنا أنظر ، حتى تأتيها ، وتأتي بنسخة منشورة معك ، ونفرٍ من الملائكة ، يشهدون لك أنك كما تقول » !
وفيه وفي رفقائه نزل قوله تعالى : « وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً » . أسباب النزول / 199 .
« وقد أسلمت أم سلمة وزوجها وهاجرا إلى الحبشة ، ورزقت منه ثلاثة بنين وثلاث بنات ، ورجعوا من الحبشة إلى المدينة وتوفي أبو سلمة قبل بدر ، فتزوج بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد بدر في شوال . وعاشت إلى خلافة يزيد بعد شهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وصلى عليها سعيد بن زيد وكان أمير المدينة » . المناقب : 1 / 138 ، الإستيعاب : 4 / 1920 و 3 / 18 ، ذخائر العقبى / 250 ، الحاكم : 4 / 18 ، أسباب النزول / 199 ، الطبقات : 8 / 43 وابن إسحاق : 2 / 180 .

خطبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأم سلمة

أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) يخطبها فأجابته : « فيَّ خصال ثلاث : أما أنا فكبيرة ، وأنا مُطفلٌ ، وأنا غيورٌ . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أما ما ذكرت من الغيرة فندعو الله حتى يذهبه عنك ، وأما ما ذكرت من الكبر فأنا أكبر منك ، والطفل إلى الله وإلى رسوله » . « ابن إسحاق : 5 / 429 ، الطبقات : 8 / 91 » . وفي رواية قالت : أنا امرأة مصبية ، أي عندي أطفال .
وفي الإنتصار للمرتضى / 285 : « فقالت ليس أحد من أوليائي حاضراً ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ليس أحد من أوليائك حاضراً أو غائباً إلا ويرضى بي ، ثم قال لعمر
--------------------------- 622 ---------------------------
بن أبي سلمة وكان صغيراً : قم فزوجها ، فتزوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بغير ولي » .
وكانت موصوفة بالجمال ، « ففي الكافي : 5 / 117 » ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « مات الوليد بن المغيرة فقالت أم سلمة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم ؟ فأذن لها ، فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان ، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها ، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت :
أنعى الوليد بن الوليد * أبا الوليد فتى العشيرة
حامي الحقيقة ماجد * يسمو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثاً في السنين * وجعفراً غدقاً وميرة
قال : فما عاب ذلك عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا قال شيئاً » .
وقالت عائشة : « لما تزوج رسول الله أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها ! قالت : فتلطفت لها حتى رأيتها فرأيتها والله أضعاف ما وُصفت لي في الحسن والجمال ! قالت : فذكرت ذلك لحفصة وكانتا يداً واحدة ، فقالت : لا والله إن هذه إلا الغيرة ما هي كما يقولون ، فتلطفت لها حفصة حتى رأتها فقالت : قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين وإنها لجميلة ! قالت : فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة ، ولكني كنت غَيْرَى » . الطبقات : 8 / 94 .

أمينة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعترته ( ( عليهم السلام ) )

أدَّت أم سلمة رضي الله عنها واجبها في خدمة النبوة والإمامة على أحسن وجه وكان لها دور في نشر حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والدفاع عن أمير المؤمنين والزهراء والحسنين والأئمة « عليهم السلام » ، سواء في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أو بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله ) ، وفي مواجهة أهل السقيفة ، ثم في مواجهة عائشة وطلحة والزبير ومعاوية ويزيد ! وساعدها على ذلك أنها من شخصيات بني مخزوم ، وأنها أطول نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) عمراً ، وصاحبة مكانة محترمة عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أودع عندها تربة كربلاء التي أتاه بها جبرئيل ( عليه السلام ) وأخبرها أنها عندما يقتل الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء تتحول إلى دم عبيط ، أي صافٍ ! وقد استفاضت
--------------------------- 623 ---------------------------
روايتها في مصادر الشيعة والسنة ، فمن ذلك ما رواه أحمد : 3 / 242 ووثقوه ، عن أنس بن مالك : « أن ملك المطر استأذن ربه أن يأتي النبي فأذن له فقال لأم سلمة : إملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد ، قال : وجاء الحسين ليدخل فمنعته فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلى منكبه وعلى عاتقه ، قال فقال الملك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : أتحبه ؟ قال : نعم . قال : أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه ! فضرب بيده فجاء بطينة حمراء ، فأخذتها أم سلمة فَصَرَّتها في خمارها ، قال ثابت : بلغنا أنها كربلاء » .
ومن مصادرنا ما رواه الطوسي في أماليه / 315 ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : « بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) فخرجت يتوجه بي قائدي إلى منزلها ، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء ، فلما انتهيت إليها قلت : يا أم المؤمنين ما بالك تصرخين وتغوثين ؟ فلم تجبني وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت : يا بنات عبد المطلب أسعدنني وابكين معي ، فقد والله قتل سيدكن وسيد شباب أهل الجنة ، قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين ! فقيل : يا أم المؤمنين ومن أين علمت ذلك ؟ قالت : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المنام الساعة شَعِثاً مذعوراً فسألته عن شأنه ذلك ، فقال : قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم ، والساعة فرغت من دفنهم ! قالت : فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل ، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال : إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك ، وأعطانيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إجعلي هذه التربة في زجاجة أو قال : في قارورة ولتكن عندك ، فإذا صارت دما عبيطاً فقد قتل الحسين ! فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور ! قال : وأخذت أم سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها ، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين ( عليه السلام ) ، فجاءت الركبان بخبره ، وأنه قتل في ذلك اليوم !
قال عمرو بن ثابت قال أبي : فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي ( عليه السلام ) منزله
--------------------------- 624 ---------------------------
فسألته عن هذا الحديث ، وذكرت له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبد الله بن عباس فقال : أبو جعفر ( عليه السلام ) حدثنيه عمر بن أبي سلمة ، عن أمه أم سلمة » .
كما أعطاها صحيفة علامةً على إمامة علي ( عليه السلام ) ، ففي بصائر الدرجات / 186 ، عن ابن عباس و : 188 ، عن أم سلمة قالت : « أعطاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً قال : أمسكي هذا فإذا أنا قبضت فقام رجل على هذه الأعواد يعني المنبرفأتاك يطلب هذا الكتاب فادفعيه إليه . قالت : فلما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صعد أبو بكر المنبر فانتظرته به فلم يأت ، فلما مات صعد عمر فانتظرته فلم يأت فلما مات عمر صعد عثمان فانتظرته فلم يأت ، فلما مات عثمان صعد أمير المؤمنين فلما صعد ونزل جاء فقال : يا أم سلمة أريني الكتاب الذي أعطاك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فقالت : وإنك أنت صاحبه ؟ فقالت : أما والله إن الذي كنت أحب أن يحبوك به فأخرجته إليه ففتحه فنظر فيه ثم قال : إن في هذا لعلما جديداً . قال قلت أي شئ كان ذلك ؟ قال : كل شئ يحتاج إليه ولد آدم » !
ونحوه بصائر الدرجات / 183 ، عن عمر بن أم سلمة : « فاستأذن عليٌّ فدخل فقال لها : أعطني الكتاب الذي دفع إليك بآية كذا وكذا ، وكأني أنظر إلى أمي حتى قامت إلى تابوت لها في جوفها تابوت صغير ، فاستخرجت من جوفه كتاباً فدفعته إلى علي ( عليه السلام ) ، ثم قالت لي أمي : يا بنيَّ إلزمه فلا والله ما رأيت بعد نبيك إماماً غيره » !
كما استودعها المؤمنين ( عليه السلام ) مواريث الأنبياء ( عليه السلام ) لتسلمها إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، « ففي الكافي : 1 / 298 » ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن علياً حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية ، فلما رجع الحسن ( عليه السلام ) دفعتها إليه » .
كما استودعها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وصيته ومواريث الأنبياء « عليهم السلام » ، « ففي الكافي : 1 / 304 » ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن الحسين صلوات الله عليه لما صار إلى العراق استودع أم سلمة الكتب والوصية ، فلما رجع علي بن الحسين ( عليه السلام ) دفعتها إليه » .
وفي بصائر الدرجات / 197 ، عن حمران أنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « سألته عما يتحدث الناس أنه دفعت إلى أم سلمة صحيفة مختومة ؟ قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قبض ورث علي ( عليه السلام ) سلاحه وما هنالك ، ثم صار إلى الحسن والحسين ، فلما خشيا أن
--------------------------- 625 ---------------------------
يفتشا استودعا أم سلمة ، ثم قبضا بعد ذلك فصار إلى أبيك علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، ثم انتهى إليك أو صار إليك ؟ قال نعم » .
وفي غيبة الطوسي / 195 : « لما توجه الحسين ( عليه السلام ) إلى العراق دفع إلى أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) الوصية والكتب وغير ذلك ، وقال لها : إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما دفعت إليك ، فلما قتل الحسين أتى علي بن الحسين ( صلى الله عليه وآله ) أم سلمة فدفعت إليه كل شئ أعطاها الحسين ( عليه السلام ) » .

طلب معاوية شهادتها بإمامة علي ( ( ع ) )

روى محمد بن سليمان في المناقب : 1 / 507 عن عبيد الله بن أبي رافع قال : « كنا جلوساً في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عام حج معاوية بن أبي سفيان ، ومعي عبد الله بن عباس وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، فأتانا معاوية فسلم وقعد إلينا ، فاشمأز منه ابن عباس حين قعد إليه حتى عرف ذلك معاوية ، فقال له : يا ابن عباس كأنك مشمئز مني كأنك واجدٌ عليَّ أن طلبت بدم أمير المؤمنين وكنتُ أحق من طلب بدمه وأقواهم عليه ؟ فقال له ابن عباس : وبمَ أنت أحق الناس ؟ قال : أليس ابن عمي قتل وهو أمير المؤمنين ؟ فقال ابن عباس : فهذا ! وأشار إلى ابن عمر أحق بالأمر منك ! قد قتل أبوه وهو خليفته ! فقال له معاوية : قتل أباه مشرك وقتل ابن عمي المسلمون . فقال ابن عباس : فذاك أشرإذن . قال : ثم التفت معاوية إلى سعد فقال : يا سعد ما منعك أن تقاتل معي وتخرج إذ طلبت بدم أمير المؤمنين ؟ فقال له سعد : أقاتل علي بن أبي طالب وقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ! فقال له معاوية : من سمع هذا معك ؟ فقال : أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : قوموا بنا إليها فقمنا جميعاً فدخلنا عليها فقال لها سعد : يا أم المؤمنين إني ذكرت لمعاوية أن رسول الله قال لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، فأنكر ذلك وقال : من سمعه معك فذكرتك فهل سمعت ذاك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقالت أم سلمة : أما مرة
--------------------------- 626 ---------------------------
واحدة فلا ، ولكن سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مراراً ! فقال معاوية لسعد : أنت أظلم وأقل عذراً إذ سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلم تخرج إليه ولم تقاتل معه ولم تنصره ! فلو سمعتُ هذا من رسول الله لم أقاتله » .
ونحوه : 1 / 421 ، وفيه قال معاوية لسعد : « ألْوَمُ والله ما كنت عندي الساعة ! لو سمعتُ هذا من رسول الله ، ما زلت خادماً لعلي حتى أموت » !

من امتيازاتها على نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

كانت أم سلمة كخديجة ، تشتري العبيد وتعتقهم ، وربما اشترت الصغير فربته حتى يكبر وأعتقته ، لذا تجد عدداً من الرواة والعلماء من موالي أم سلمة ففي الإصابة : 7 / 4 : « أبو إبراهيم مولى أم سلمة . . قال : كنت عبداً لأم سلمة ، فكنت أبيت على فراش النبي وأتوضأ من محضنته ، فلما بلغت مبالغ الرجال أعتقتني » .
وكانت تشجع المملوك على العمل ليحرر نفسه ، ففي الطبقات : 5 / 296 ، عن نصاح بن سرجس بن يعقوب عن أبيه قال : « كاتبتني أم سلمة على نجوم « أقساط » وفيتها ، فكلمتها أن تحط عني وتقاطعني على ذهب أو ورق ، ففعلت . وعجَّلت لها ذلك ووضعت عني . وكان شيبة إمام أهل المدينة في القراءة في دهره » .
وهذا عدد آخر من موالي أم سلمة رضي الله عنها :
ففي الهداية الكبرى / 115 ، في حديث زفاف فاطمة « عليها السلام » : « فخرج مولى لأم سلمة زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فنثر سكراً ولوزاً ونثر الناس من كل جانب » .
وفي الطبقات : 5 / 297 : « عبد الله بن رافع مولى أم سلمة زوج النبي ( عليه السلام ) عتاقةً ، سمع من أم سلمة ، وبقي حتى سمع منه عبد الله بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وقدامة بن موسى وجارية بن أبي عمران ، وكان ثقة كثير الحديث .
ناعم بن أجيل مولى أم سلمة . قيس مولى أم سلمة ، ويكنى أبا قدامة .
أبو ميمونة مولى أم سلمة . وكان قارئ أهل المدينة في زمانه ، وهو الذي قرأ عليه نافع بن أبي نعيم كثير بن أفلح » .
وفي المغني : 12 / 339 : « عن نبهان مولى أم سلمة ، عن أم سلمة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : إذا
--------------------------- 627 ---------------------------
كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي ، فلتحتجب منه » .
« وفي إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق » المجموع : 16 / 136 .
« عن عبد الله بن رافع ، مولى أم سلمة » . الموطأ : 1 / 8 .
« عن طلحة بن يحيى عن عبد الله بن فروخ مولى أم سلمة » . الجوهر النقي : 6 / 189 .
« سفينة هو مولى أم سلمة ، وشرطت عليه أن يخدم النبي ( صلى الله عليه وآله ) » . المحلى : 5 / 157 .
« أفلح . . مولى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقيل مولى لأم سلمة » . سبل السلام : 3 / 216 .
« عن ناعم مولى أم سلمة » . مسند أحمد : 2 / 163 .
« حدثني عمرو ، عن أبي السمح ، عن السائب مولى أم سلمة ، عن أم سلمة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال خير مساجد النساء قعر بيوتهن » . مسند أحمد : 6 / 297 .
« حبيب ، عن ناعم مولى أم سلمة ، عن أم سلمة » . مسند أحمد : 6 / 299 .
« عن السائب مولى أم سلمة أن نسوة دخلن على أم سلمة من أهل حمص » . « مسند أحمد : 6 / 301 » . « أن أبا الجراح مولى أم سلمة أخبره » . مسند أحمد : 6 / 326 .
« عبد الله بن زياد بن سمعان مولى أم سلمة مكي » . رجال الطوسي / 231 .
« القزاز قال : سمعت مولى لأم سلمة يقول : سمتني أم سلمة مخوضاً ، وكنت طويلاً » . علل أحمد : 1 / 221 .
« عبد الله بن زياد بن سمعان هو مولى أم سلمة » « التاريخ الصغير للبخاري : 2 / 106 » . « نجيح أبو معشر السندي المدني مولى أم سلمة » . « التاريخ الصغير للبخاري 2 / 187 » . « السائب مولى أم سلمة » « نفيع مولى أم سلمة » « يزيد مولى أم سلمة » . « التاريخ الكبير للبخاري 4 / 153 ، 8 / 113 و 271 » . « أبي الجراح مولى أم سلمة » . كنى البخاري / 19 .
« أحمر مولى أم سلمة ، قيل هو اسم سفينة » . الإصابة : 1 / 187 .
« من طريق إبراهيم بن عبد الرحمن بن صبيح مولى أم سلمة » الإصابة : 3 / 327 .
« المهاجر مولى أم سلمة يكنى أبا حذيفة صحب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وخدمه ، وشهد فتح مصر واختط بها ، ثم تحول إلى طحا فسكنها إلى أن مات » . الإصابة : 6 / 181 .
« أبي سليمان مولى أم سلمة » « الإصابة : 6 / 501 » . « قيس مولى أم سلمة »
تعجيل المنفعة / 346 .
--------------------------- 628 ---------------------------
« ويقال بل كانت أم الحسن « البصري » مولاة لأم سلمة . فيذكرون أن أمه كانت ربما غابت فيبكي الصبي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجئ أمه فدر عليها ثديها فشربه فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك » . الطبقات : 7 / 156 .
وفي أمالي الصدوق / 463 ، عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال : « بلغ أم سلمة زوجة النبي أن مولى لها يتنقص علياً ( عليه السلام ) ويتناوله ، فأرسلت إليه فلما أن صار إليها قالت له : يا بنيَّ بلغني أنك تتنقص علياً وتتناوله ؟ قال لها : نعم يا أماه . قالت : أقعد ثكلتك أمك حتى أحدثك بحديث سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم اختر لنفسك ! إنا كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تسع نسوة وكانت ليلتي ويومي من رسول الله فدخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو متهلل أصابعه في أصابع علي ، واضعاً يده عليه فقال : يا أم سلمة ، أخرجي من البيت وأخليه لنا ، فخرجت واقبلا يتناجيان ، أسمع الكلام وما أدري ما يقولان ، حتى إذا انتصف النهار أتيت الباب فقلت : أدخل يا رسول الله ؟ قال : لا . فكبوت كبوة شديدة مخافة أن يكون ردني من سخطة ، أو نزل في شئ من السماء ، ثم لم ألبث أن أتيت الباب الثانية فقلت : أدخل يا رسول الله ؟ فقال : لا . فكبوت كبوة أشد من الأولى . ثم لم ألبث حتى أتيت الباب الثالثة ، فقلت : أدخل يا رسول الله ؟ فقال : أدخلي يا أم سلمة ، فدخلت وعلي جاث بين يديه ، وهو يقول : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، إذا كان كذا وكذا فما تأمرني ؟ قال : آمرك بالصبر . ثم أعاد عليه القول الثانية فأمره بالصبر ، فأعاد عليه القول الثالثة فقال له : يا علي يا أخي ، إذا كان ذاك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قدماً قدماً ، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلي فقال لي : ما هذا الكآبة يا أم سلمة ؟ قلت : للذي كان من ردك لي يا رسول الله . فقال لي : والله ما رددتك من موجدة وإنك لعلى خير من الله ورسوله ، لكن أتيتني وجبرئيل عن يميني ، وعلي عن يساري ، وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي ، وأمرني أن أوصي بذلك علياً !
يا أم سلمة ، إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب أخي في الدنيا وأخي في الآخرة .
يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب وزيري في الدنيا ، ووزيري
--------------------------- 629 ---------------------------
في الآخرة . يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب ، حامل لوائي في الدنيا وحامل لوائي غداً في القيامة . يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي ، وقاضي عداتي ، والذائد عن حوضي .
يا أم سلمة إسمعي واشهدي : هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين ، وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين .
قلت : يا رسول الله ، من الناكثون ؟ قال : الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة . قلت : من القاسطون ؟ قال : معاوية وأصحابه من أهل الشام . قلت : من المارقون ؟ قال : أصحاب النهروان .
فقال مولى أم سلمة : فرجت عني فرج الله عنك ، والله لاسببت علياً أبداً » !
« عن عبد الله بن مغيرة مولى أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنها قالت : نزلت هذه الآية في بيتها : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً . أمرني رسول الله أن أرسل إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فلما أتوه اعتنق علياً بيمينه والحسن بشماله والحسين على بطنه وفاطمة عند رجله ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي وعترتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً . قالها ثلاث مرات . قلت : فأنا يا رسول الله . فقال : إنك على خير إن شاء الله » . أمالي الطوسي / 263 .
« عن أبي الأحوص مولى أم سلمة قال : إني مع الحسن ( عليه السلام ) بعرفات ومعه قضيب وهناك أجراء يحرثون ، فكلما هموا بالماء أجبل عليهم ، فضرب بقضيبه إلى الصخرة فنبع لهم منها ماء واستخرج لهم طعاماً » . دلائل الإمامة / 171 .
أي كانوا يحفرون بئراً فظهر صخر صعب ، فضربه الإمام ( عليه السلام ) فنبع الماء ، ثم استخرج لهم طعاماً من هناك . راجع لسان العرب : 11 / 97 .

أذى نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأم سلمة !

قالت عائشة ، « البخاري 3 / 132 » : « إن نساء رسول الله كنَّ حزبين : فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة . والحزب الآخر : أم سلمة وسائر نساء
--------------------------- 630 ---------------------------
رسول الله » ! روى في الطبقات : 8 / 80 ، عن فاطمة الخزاعية قالت إن عائشة قالت لها : « دخل علي يوماً رسول الله فقلت : أين كنت منذ اليوم ؟ قال : يا حميراء كنت عند أم سلمة . فقلت : ماتشبع من أم سلمة » !
وروى بخاري : 3 / 108 ، أن أم سلمة أرسلت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو عند عائشة ، بقصعة فيها طعام : « فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة » . وفي سبل السلام : 3 / 70 والنسائي : 7 / 70 : « واتفقت مثل هذه القصة من عائشة في صحفة أم سلمة . ووقع مثلها لصفية » .
وتدخَّل عمر بين نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فغضبت أم سلمة كما في « البخاري : 6 / 69 » : « فقالت أم سلمة : عجباً لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شئ ، حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأزواجه » !
وفي الكافي : 5 / 565 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن أبا بكر وعمر أتيا أم سلمة فقالا لها : يا أم سلمة إنك قد كنت عند رجل قبل رسول الله فكيف رسول الله من ذاك في الخلوة ؟ ! فقالت : ما هو إلا كسائر الرجال ! ثم خرجا عنها وأقبل النبي فقامت إليه مبادرة فرقاً أن ينزل أمر من السماء فأخبرته الخبر فغضب رسول الله حتى تربد وجهه والتوى عرق الغضب بين عينيه ، وخرج وهو يجر رداؤه حتى صعد المنبر . فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ما بال أقوام يتبعون عيبي ويسألون عن غيبي ! والله إني لأكرمكم حسباً وأطهركم مولداً وأنصحكم لله في الغيب ، ولايسألني أحد منكم عن أبيه إلا أخبرته . . إلى آخر الحديث » .

أم سلمة عند وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وروت أم سلمة أجواء وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالت كما في الخصال / 642 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مرضه الذي توفي فيه : ادعوا لي خليلي ، فأرسلت عائشة إلى أبيها فلما جاء غطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجهه وقال : ادعوا لي خليلي ! فرجع أبو بكر ! وبعثت حفصة إلى أبيها ، فلما جاء غطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجهه وقال : ادعوا لي خليلي » .
--------------------------- 631 ---------------------------
وفي الإرشاد : 1 / 185 : « فأفاق إفاقة فافتقد علياً فقال وأزواجه حوله : ادعوا لي أخي وصاحبي ، وعاوده الضعف فأصمت ، فقالت عائشة ادعوا له أبا بكر ، فدعي فدخل عليه فقعد عند رأسه فلما فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر وقال : لو كان له إلي حاجة لأفضى بها إلي . فلما خرج أعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القول ثانية وقال : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت حفصة ادعوا له عمر ، فدعي فلما حضر رآه النبي فأعرض عنه فانصرف . ثم قال : ادعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت أم سلمة : ادعوا له علياً فإنه لا يريد غيره ، فدعي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلما دنا منه أومأ إليه فأكب عليه فناجاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) طويلاً ، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له الناس : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال : علمني ألف باب فتح لي كل باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله . ثم ثقل وحضره الموت وأميرالمؤمنين حاضر عنده . فلما قرب خروج نفسه قال له : ضع رأسي يا علي في حجرك ، فقد جاء أمرالله عز وجل فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس ، ولاتفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى فأخذ علي رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه فأكبت فاطمة تنظر في وجهه وتندبه وتبكي » أقول : من الغريب أن أحمد بن حنبل روى هذا الحديث : 1 / 356 !

أدانت أم سلمة أهل السقيفة

فقد روى سليم بن قيس « رحمه الله » في كتابه / 389 ، عن البراء بن عازب في إجبارهم علياً على البيعة : « فقام عمر فقال لأبي بكر : ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب ، لا يقوم فيبايعك ، أو تأمر به فنضرب عنقه ، والحسن والحسين قائمان ، فلما سمعا مقالة عمر بكيا ، فضمهما ( عليه السلام ) إلى صدره فقال : لا تبكيا ، فوالله ما يقدران على قتل أبيكما . وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت : يا أبا بكر ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم ، فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد وقال : ما لنا
--------------------------- 632 ---------------------------
وللنساء . وقام بريدة الأسلمي وقال : أتثب يا عمر على أخي رسول الله وأبي ولده وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك ؟ ألستما قال لكما رسول الله : انطلقا إلى علي وسلما عليه بإمرة المؤمنين ؟ فقلتما : أعن أمر الله وأمر رسوله ؟ قال : نعم . فقال أبو بكر : قد كان ذلك ولكن رسول الله قال بعد ذلك : لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة . فقال : والله ما قال هذا رسول الله ، والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير ، فأمر به عمر فضرب وطرد . وأقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله وأم سلمة فقالتا : يا عتيق ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد ! فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد ، وقال : ما لنا وللنساء » !
وفي قرب الإسناد / 60 ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : « كانت امرأة من الأنصار تدعى حسرة تغشى آل محمد وتحن ، وإن [ فلاناً وفلاناً ] لقياها ذات يوم فقالا : أين تذهبين يا حسرة ؟ فقالت : أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم ، وأحدث بهم عهداً فقالا : ويلك إنه ليس لهم حق ، إنما كان هذا على عهد رسول الله ! فانصرفت حسرة ولبثت أياماً ثم جاءت فقالت لها أم سلمة زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما أبطأ بك عنا يا حسرة ؟ فقالت : استقبلني [ فلان وفلان ] فقالا : أين تذهبين يا حسرة ؟ فقلت : أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم الواجب . فقالا : إنه ليس لهم حق إنما كان هذا على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالت أم سلمة : كذبا لعنهما الله ! لا يزال حقهم واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة » !
كما أن أم سلمة رضي الله عنها بعد خطبة فاطمة « عليها السلام » في المسجد ، فحثَّت المسلمين على نصرتها ، ففي دلائل الإمامة / 124 ، والدر النظيم / 480 ، أنها قالت بعد خطبة فاطمة « عليها السلام » وجواب أبي بكر لها : « ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا القول ؟ ! هي والله الحوراء بين الإنس ، والنفس للنفس ، ربيت في حجور الأتقياء ، وتناولتها أيدي الملائكة ، ونمت في حجور الطاهرات ، ونشأت خير نشأ ، وربيت خير مربى ، أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يُعلمها ، وقد قال الله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرتكَ الأَقْرَبِين ! أفأنذرها وخالفت متطلبه وهي خيرة النسوان ، وأم سادة الشبان ، وعديلة ابنة عمران ، تمت بأبيها رسالات ربه ، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله !
--------------------------- 633 ---------------------------
رويداً ورسول الله بمرأى منكم ، وعلى الله تردون ، واهاً لكم فسوف تعلمون ! قال : فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة » !

نصيحة أم سلمة لعائشة أن لاتعصي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وكان لها موقف تاريخي مع عائشة ، فقد نصحتها وحذرتها ، لتثنيها عن الخروج . قال الشريف المرتضى في رسائله : 4 / 66 : « ومن الأخبار الطريفة ما رواه نصر بن مزاحم هذا عن أبي عبد الرحمن المسعودي عن السري بن إسماعيل بن الشعبي عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي قال : كنت بمكة مع عبد الله بن الزبير وبها طلحة والزبير . قال : فأرسلا إلى عبد الله بن الزبير ، فأتاهما وأنا معه فقالا له : إن عثمان قتل مظلوماً وإنا نخاف الانتشار من أمة محمد ، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا لعل الله يرتق بها فتقاً ويشعب بها صدعاً . قال : فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبد الله بن الزبير في سمرها وجلست على الباب ، فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت : سبحان الله ، ما أمرت بالخروج ، وما تحضرني امرأة من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة ، فإن خرجت خرجت معها ! فرجع إليهما فأبلغهما ذلك فقالا : إرجع إليها فلتأتها فإنها أثقل عليها منا ، فرجع إليها فبلغها فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت أم سلمة : مرحباً بعائشة ، والله ما كنت لي بزائرة فما بدا لك ؟ قالت : قدم طلحة والزبير فخبرا أن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً ! قال : فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار فقالت : يا عائشة أنت بالأمس تشهدين عليه بالكفر ، وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوماً ، فما تريدين ! قالت : تخرجين معي ، فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد ! فقالت : يا عائشة أخرج وقد سمعت من رسول الله ما سمعت ! نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت ، أتذكرين يومك من رسول الله فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها وهو يقول : والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية ، فسقط الإناء من يدي ، فرفع رأسه إلي فقال : ما بالك يا أم سلمة ؟ قلت : يا رسول الله ألا يسقط
--------------------------- 634 ---------------------------
الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول ؟ ما يؤمنني أن أكون أنا هي ! فضحكتِ أنت فالتفت إليك فقال : ما يضحكك يا حمراء الساقين ، إني لأحسبك هي !
ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول الله من مكان كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب يحدثنا ، فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي ، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك وقال : أما والله ما يومك منه بواحد ولا بليته منك بواحدة ، أما إنه لا يبغضه إلا منافق أو كذاب !
وأنشدك الله يا عائشة أتذكرين مرض رسول الله الذي قبض فيه فأتاك أبوك يعوده ومعه عمر ، وقد كان علي بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول الله ونعله وخفه ويصلح ماوهى منها ، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية وهو يخصفها خلف البيت ، فاستأذنا عليه فأذن لهما فقالا : يا رسول الله كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت أحمد الله تعالى . قالا : ما بد من الموت ؟ قال : لا بد منه . قالا : يا رسول الله فهل استخلفت أحداً ؟ فقال : ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل ، فخرجا فمرا على علي وهو يخصف النعل !
كل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه ، لأنك سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !
ثم قالت أم سلمة : يا عائشة أنا أخرج على علي بعد هذا الذي سمعته عن رسول الله ؟ ! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت : يا ابن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة بعد الذي سمعته من أم سلمة ، فرجع فبلغهما . قال : فما انتصف الليل حتى سمعنا رغاء إبلها ترتحل ، فارتحلت معهما » .
وأضاف الشريف المرتضى « رحمه الله » : « ومن العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الذي يتضمن النص بالخلافة ، وكل فضيلة غريبة ، موجوداً في كتب المخالفين وفيما يصححونه من روايتهم ويصنفونه من سيرتهم ولا يتبعونه ، لكن القوم رووا ما سمعوا وأودعوا كتبهم ما حفظوا ونقلوا ، ولم يتخيروا ويتبينوا ما وافق مذهبهم دون ما خالفهم . وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحق » ! شرح النهج : 2 / 78 ، العقد الفريد : 3 / 96 ، البدء والتاريخ : 2 / 109 ،
الفائق للزمخشري : 1 / 190 .
--------------------------- 635 ---------------------------
وروى نحوه في الإختصاص / 116 ، وفيه تفصيلات ، وفيه : « وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه ، وسكني عقيراك فلا تضحي بها . وما كنت قائله لو أن رسول الله عرض لك ببعض الفلوات وأنت ناصة قلوصاً من منهل إلى آخر ؟ ! أقسم بالله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي أدخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً ( صلى الله عليه وآله ) هاتكة حجاباً قد ضربه عليَّ ! ثم قالت : لو ذكَّرتك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمساً في علي لنهشتني نهش الحية الرقشاء المطرقة ذات الحبب ! قالت : ويوم جمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بيت ميمونة فقال : يا نسائي اتقين الله ولا يسفر بكن أحد ! أتذكرين هذا يا عائشة ؟ قالت : نعم ، ما أقبلني لوعظك وأسمعني لقولك فإن أخرج ففي غير حرج ، وإن أقعد ففي غير بأس ، وخرجت » !
ورواه ابن أعثم في الفتوح : 2 / 454 ، وفيه أن اُم سلمة قالت لها : « فاتقي الله يا عائشة في نفسك ، واحذري ما حذرك الله ورسوله ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولايغرنك الزبير وطلحة ، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئاً ! قال : فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهي حنقة عليها !
وكتبت أم سلمة إلى علي بن أبي طالب : لعبد الله علي أمير المؤمنين ، من أم سلمة بنت أبي أمية ، سلام عليك ورحمة الله وبركاته ، أما بعد ، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال ، خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة ، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً ، وأنهم يطلبون بدمه ! والله كافيكم وجعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى . وتالله لولا ما نهى الله عز وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن ، وما أوصى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند وفاته ، لشخصت معك ، ولكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإليك ابني عمر بن أبي سلمة . والسلام .
فلما سمع علي ذلك دعا محمد بن أبي بكر وقال له : ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عز وجل أن تقر فيه ، وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة لشقاقي وفراقي ؟ ! فقال له محمد : يا أمير المؤمنين
--------------------------- 636 ---------------------------
لا عليك ، فإن الله معك ولن يخذلك ، والناس بعد ذلك ناصروك ، والله تبارك وتعالى كافيك أمرهم إن شاء الله » .
ولما أصرَّت عائشة على الفتنة ، آلت أم سلمة على نفسها أن لاتكلمها كل عمرها ! ففي مواقف الشيعة للأحمدي : 1 / 93 : « دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً ، من أجل مسيرها إلى محاربة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقالت عائشة : السلام عليك يا أم المؤمنين ، فقالت : يا حائط ألم أنهك ألم أقل لك ؟ قالت عائشة : فإني أستغفر الله وأتوب إليه كلميني يا أم المؤمنين ! قالت : يا حائط ! ألم أقل لك ألم أنهك ؟ فلم تكلمها حتى ماتت ! وقامت عائشة وهي تبكي وتقول : وا أسفاه على ما فرط مني » . المحاسن للبيهقي / 181 .

لماذا لا يسمون أم سلمة : أم المؤمنين ؟

مع المكانة العظيمة لأم سلمة « عليها السلام » ، تراهم يذكرون في كتبهم اسمها مجرداً ! بينما يذكرون اسم عائشة مقروناً بأم المؤمنين ، دائماً أو غالباً ! وبذلك تعرف موقفهم من مرويات أم سلمة « عليها السلام » ، التي تبلغ أضعاف ما روته عائشة في الكمية ، وهي أرقى من روايات عائشة في النوعية ، وليس فيها إفراط عائشة ومبالغاتها في مدح نفسها ، ولا إسفافها في الأمور الشخصية !
قال العلامة الحلي « رحمه الله » : « وعظموا عائشة على باقي نسوانه ( صلى الله عليه وآله ) . . وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ! ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما طلبت حقها من أبي بكر ولا شخص واحد بكلمة واحدة ! وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك » ! شرح منهاج الكرامة للميلاني : 1 / 454 .
وقال الكراجكي / 102 : « ومن عجيب أمرهم تفضيلهم عائشة بنت أبي بكر على جميع أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) . . وكثرة ترحمهم عليها وإظهارهم الخشوع والبكاء عند ذكرها ، ثم لا يذكرون خديجة بنت خويلد وفضلها متفق عليه وعلو قدرها لا شك فيه ، وهي أول من آمن برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنفقت عليه مالها . وكان يكثر ذكرها ويحسن الثناء عليها ويقول : مانفعني مال كمالها ، ورزقه الله الولد منها ، ولم يتزوج في حياتها إكراماً لها » !
--------------------------- 637 ---------------------------
أقول : ما ذكره العلامة « رحمه الله » يدل على مخالطته لهم وتتبعه مؤلفاتهم ، وهم كذلك إلى اليوم يعبرون عن زوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأسمائهن فإذا وصلوا إلى عائشة قالوا : أم المؤمنين !

أولاد أم سلمة

كان لها من أبي سلمة ثلاثة أبناء ، هم : سلمة ومحمد وعمر ، وثلاث بنات : درة وزينب وأم كلثوم ، فهم صحابة وربائب النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وأشهرهم عمر ويسمى أيضاً عمرو ، ثم زينب التي روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يلاعبها وهي طفلة ويقول : « يا زوينب ، يا زوينب ، مراراً » . الجامع الصغير : 2 / 396 .
وكان عمر أصغر من أخويه وأبرزهما ، فقد رضي به النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يزوجه والدته ولياً لها : « زوجها إياه عمر بن أبي سلمة وهو صغير لم يبلغ الحلم » . الكافي : 5 / 391 .
وجاءت أم سلمة بولديها محمد وسلمة إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لينصراه وقالت له : « هما عليك صدقة ، فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك » . رجال الطوسي / 48 .
ومعنى كلامها أنهما وقف لله تعالى لنصرتك . وقال ابن عقدة : « جاءت بعمر وسلمة . وشهد عمر مع علي حرب الجمل ثم استعمله على فارس ، وتوفي في خلافة عبد الملك بن مروان بالمدينة . وعاش أخوه سلمة إلى خلافة عبد الملك ، وكان أسن من عمر » . مذيل الطبري / 58 .
وفي نهج البلاغة : 3 / 67 : « من كتاب له ( عليه السلام ) إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله على البحرين ، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه :
أما بعد فإني قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين ، ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك ، فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة ، فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم ، فقد أردت المسير إلى ظَلَمَة أهل الشام وأحببت أن تشهد معي ، فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو ، وإقامة عمود الدين إن شاء الله » .
ورواه في أنساب الأشراف / 158 واليعقوبي : 2 / 201 ، وفيه : « جعلنا الله وإياك من الذين يعملون بالحق وبه يعدلون . فأقبل عمر فشهد معه ثم انصرف ، وتبع علياً إلى الكوفة فمكث معه سنة وبعض أخرى » .
--------------------------- 638 ---------------------------

سودة بنت زمعة أول زوجات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد خديجة ( عليها السلام )

1 - سَوْدَة بنت زَمْعَة القرشية . أبوها زمعة بن قيس من قبيلة عامر بن لؤي القرشية ، التي عرف منها ابن الزبعرى الشاعر الذي كان يهجو النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعمرو بن عبد ود ، الذي قتله علي ( عليه السلام ) مع ابنه يوم الخندق ، وحويطب بن عبد العزى ، « العلل لابن حنبل : 3 / 422 » ومنهم بسر بن أرطاة القائد السفاك عند معاوية ، الذي أغار على الحجاز واليمن وكانا تحت حكم علي ( عليه السلام ) فقتل في غارته ثلاثين ألفاً ! « ابن خياط / 150 » . ومنهم عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى ، الذي رووا أنه انحاز في بدر من صف المشركين إلى صف النبي ( صلى الله عليه وآله ) . ابن هشام : 1 / 246 .
وكان رئيسهم سهيل بن عمرو ، من أشد المشركين على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والمفاوض عنهم في صلح الحديبية . وعندما غضب القرشيون على أبي سفيان في فتح مكة واتهموه بأنه وافق محمداً ( صلى الله عليه وآله ) على تسليمه مكة بدون شروط ، عزلوه ونصبوا بدله سهيل بن عمرو ، فصار زعيم قريش . وكان له دور في الإعداد للسقيفة .
وقد وقع سهيل أسيراً يوم بدر هو وعبد بن زمعة أخ سودة . « ابن هشام : 2 / 534 » وقد يكون عبد هذا نفسه عبد الله بن زمعة الذي نصوا عليه . الطبقات : 4 / 204 .
وكانت سودة زوجة السكران بن عمرو ، أخ سهيل بن عمر ، فقد هاجر إلى الحبشة خوفاً من أخيه سهيل وعشيرته ، ثم استرضاه ورجع إلى مكة قبل الهجرة فتوفي فيها ، وروى ابن سعد أنه مات في الحبشة وأن له ولداً من سودة . « الطبقات : 4 / 204 » وقال غيره لم يكن لهما أولاد « أنساب السمعاني : 4 / 117 » .
وقال الطبري : 2 / 411 : « وكان السكران من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها ، فخلف عليها رسول الله » . وقد اشتبه السرخسي « المبسوط 28 / 186 » في اسم أبيها زمعة بن قيس ، فحسبوه زمعة بن الأسود . وتنبه له ابن حجر . الإصابة : 4 / 322 .
وبهذا نعرف الحكمة من زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بسودة لمكانتها في قريش ومكانة أقاربها .
2 . خطب النبي ( صلى الله عليه وآله ) سودة قبل الهجرة وتزوج بها بعد الهجرة ، ووصفتها عائشة فقالت : « كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة » نيل الأوطار : 5 / 142 ، ومسند أحمد : 6 / 94 .
--------------------------- 639 ---------------------------
وفي إمتاع الأسماع : 6 / 33 : « كانت امرأة ثقيلة ثبطة وكان في أذنها ثقل ، وأسنَّت عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهم بطلاقها ، ويقال طلقها في سنة ثمان من الهجرة تطليقة » .
وفي دلائل الإمامة / 81 : « تزوج سودة أول دخوله المدينة فنقل فاطمة إليها ، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية ، فقالت أم سلمة : تزوجني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفوَّض أمر ابنته إليَّ فكنت أدلها وأؤدبها ، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها » .
وزعمت عائشة ، « مسند أحمد : 6 / 210 » أن خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون عرضت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد وفاة خديجة سودة وعائشة ، فأمرها أن تخطبهما له ، وكان عمر عائشة ست سنين ! فقال أبو بكر لخولة : « أدعي لي رسول الله فدعته فزوجها إياه ، وعائشة يومئذ بنت ست سنين » !
ثم زعمت عائشة أن خولة ذهبت بعد خطبتها هي إلى زمعة والد سودة ، وكان شيخاً كبير السن فحيته بتحية الجاهلية ! وخطبت منه سودة فقبل : « فجاء رسول الله إليه فزوجها إياها ، فجاءها أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل يحثي في رأسه التراب . . قالت عائشة فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحرث بن الخزرج في السنح . قالت فجاء رسول الله فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُمَيْعَة « شعر قليل » ففرقتها ومسحت وجهي بشئ من ماء ، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي ، ثم دخلت بي فإذا رسول الله جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار ، فأجلستني في حجره ، ثم قالت هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك ، فوثب الرجال والنساء فخرجوا ، وبنى بي رسول الله في بيتنا ، ما نحرت عليَّ جزور ولا ذبحت عليَّ شاة ، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله إذا دار إلى نسائه ، وأنا يومئذ بنت تسع سنين » .
ولا يمكن قبول رواية أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تزوج في مكة بعد خديجة « عليها السلام » ، لمعارضتها بغيرها ، مضافاً إلى أنه كان بعد وفاة أبي طالب وخديجة في ظرف أمني خطير ،
--------------------------- 640 ---------------------------
وقد اختفى مدة في الحجون خوفاً على حياته من قريش !
وكذلك لا نقبل أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذهب إلى بيت أبي بكر في المدينة وتزوج بعائشة هناك ، لأن أبا بكر كان يعيش في خيمة شعر عند أهل زوجته ! قال ابن سعد في الطبقات : 3 / 174 : « ولم يزل في بيت الحارث بن الخزرج بالسنح ، حتى توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . وفي أسد الغابة : 3 / 219 : « كان منزله بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير ، وكان قد حجر عليه حجرة من شعر ، فما زاد على ذلك حتى تحول إلى المدينة » . أي صار خليفة .
3 . زعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل : « زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم إلى مكة ، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله وسودة بنت زمعة » . « الطبقات : 1 / 237 » لكن روايتهم استفاضت بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انتظر علياً ( عليه السلام ) في قباء حتى جاء بعائلته ، ولم تكن فيهم سودة ولا عائشة ، فلا بد أن تكون هذه الرواية من قصص عائشة الكثيرة التي مدحت فيها نفسها ! والمعقول أنها هاجرت مع أمها ونزلت في بيت أبيها أبي بكر ، وكان له زوجتان في السنح غير أم رومان . أما سودة فلا يعرف كيف هاجرت إلى المدينة .
4 . وكانت عائشة وحفصة تسخران من سودة وتؤذيانها حتى صارت من حزبهما ، ففي دلائل الإعجاز للجرجاني وأحاديث عائشة للعسكري : 1 / 63 : « سمعت أم المؤمنين عائشة سودة تنشد : عديٌّ وتيمٌ تبتغي من تحالفُ ! فقالت عائشة لحفصة : ماتُعَرِّضُ إلا بي وبك ! يا حفصة فإذا رأيتني أخذت برأسها فأعينيني ! فقامت فأخذت برأسها وخافت حفصة فأعانتها ، وجاءت أم سلمة فأعانت سودة ! فأتى النبي فأُخْبِرَ وقيل له : أدرك نساءك يقتتلن ! فقال : ويحكن مالكن ؟ فقالت عائشة : يا رسول الله ألا تسمعها تقول : عدي وتيم تبتغي من تحالفُ . فقال : ويحكن ليس عديكن ولا تيمكن ، إنما هو عدي تميم ، وتيم تميم » !
ورأتها عائشة وحفصة تزينت فقالتا : خرج الدجال ! خرج الدجال ! فخافت سودة : « وكانت امرأة طويلة فدخلت خباء كان لوقودهم ! قالت : واستضحكنا فدخل
--------------------------- 641 ---------------------------
رسول الله فإذا سودة تنتفض فقال : مالك ؟ فقالت : يا رسول الله خرج الدجال ؟ فقال : لا ، وهو خارج ؟ فأخذ بيدها وأخرجها وجعل ينفض بكم قميصه عن وجهها وعن خمارها أثر الدخان ونسج العنكبوت » . الآحاد والمثاني : 6 / 208 .
وفي مختصر تاريخ دمشق : 18 / 286 : « قالت عائشة « رضي الله عنها » كان عندي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسوده فصنعت حريره فجئت بها فقلت لسودة : كلي ، فقالت : لا أحبه ، فقلت والله لتأكلين أو لألطخن وجهك ! فقالت : ما أنا بذائقة ، فأخذت من الصحفة شيئاً فلطخت به وجهها » !
5 . وقالوا : « أسنَّت عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهم بطلاقها » ولا يصح ، لأنه اتهام للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنه ما تزوج ولا طلق لأسباب جنسية ، فقد يكون السبب أنها صارت من حزب عائشة ، أو أنها كانت تعظم سهيل بن عمرو أخ زوجها السابق ! فعندما رأته مع أسارى بدر حرضته على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووبخته كيف استسلم ولم يقاوم ! وقالت له بحضور النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « أي أبا يزيد ، أعطيتم بأيديكم ، ألا متم كراماً ! فقال لها رسول الله : أعلى الله ورسوله تحرضين يا سودة » ! ابن هشام : 2 / 472 .
كما لا يصح قولهم إنها لم يكن لها إربة بالرجال فوهبت ليلتها لعائشة ! قال الشافعي « في الأم 5 / 152 » : « أراد فراق سودة فقالت : لاتفارقني ودعني حتى يحشرني الله في أزواجك ، وأنا أهب ليلتي ويومى لأختي عائشة » .
وأصله ما زعمته عائشة فقالت كما في صحيح بخاري : 3 / 135 : « كان ( صلى الله عليه وآله ) يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها ، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) تبتغى بذلك رضا رسول الله » .
والصحيح أن الله تعالى أسقط عن نبيه ( صلى الله عليه وآله ) القسمة لنسائه ، فقال : تُرْجِى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ . فلا حق لسودة حتى تهبه .
--------------------------- 642 ---------------------------

الفصل السابع والثلاثون

زواج علي وفاطمة « عليهما السلام »

1 - خَطَبَها كبار الصحابة فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !

روى الجميع أن أبا بكر وعمر وغيرهما خطبا الزهراء « عليها السلام » ، فردهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) . قال ابن سعد في الطبقات : 8 / 19 : « إن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا أبا بكر أنتظر بها القضاء ، فذكر ذلك أبو بكر لعمر فقال له عمر : ردك يا أبا بكر . ثم إن أبا بكر قال لعمر : أخطب فاطمة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فخطبها فقال له مثلما قال لأبي بكر : أنتظر بها القضاء ، فجاء عمر إلى أبي بكر فأخبره فقال : له ردك يا عمر » !
وفي تذكرة الخواص / 276 ، عن أحمد في الفضائل : « فقال رسول الله : إنها صغيرة ، وإني أنتظر بها القضاء ، فلقيه عمر فأخبره ، فقال : ردك ، ثم خطبها عمر فرده » .
وفي سنن النسائي : 6 / 62 : « فقال رسول الله : إنها صغيرة فخطبها علي فزوجها منه » .
وفي مجمع الزوائد : 9 / 204 عن الطبراني الكبير : 22 / 408 ووثقه : « خطب أبو بكر وعمر فاطمة فقال النبي : هي لك يا علي » .
وفي المناقب : 3 / 122 : « اشتهر في الصحاح بالأسانيد عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر الأنصاري ، وأنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وأم سلمة ، بألفاظ مختلفة ومعان متفقة ، أن أبا بكر وعمر خطبا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مرة بعد أخرى فردهما . وروى ابن بطة في الإبانة أنه خطبها عبد الرحمن فلم يجبه . وفي رواية غيره أنه قال : بكذا من المهر ، فغضب ( صلى الله عليه وآله ) ومد يده إلى حصى فرفعها فسبحت في يده ، وجعلها في ذيله فصارت دراً
--------------------------- 643 ---------------------------
ومرجاناً ، يعرض به جواب المهر » .
وفي الصحيح من السيرة : 5 / 270 : « وقد عاتب الخاطبون النبي ( صلى الله عليه وآله ) على منعهم وتزويج علي ( عليه السلام ) ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : والله ما أنا منعتكم وزوجته ، بل الله منعكم وزوجه ! وقد ورد عنه ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : لو لم يُخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ » .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 203 : « عن علي ( عليه السلام ) قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي لقد عاتبتني رجال قريش في أمر فاطمة ، وقالوا : خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت علياً ؟ ! فقلت لهم : والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله تعالى منعكم وزوجه ! فهبط عليَّ جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله جل جلاله يقول : لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض ، آدم فمن دونه » !
وفي كشف الغمة : 2 / 100 : « إن الله عز وجل زوجك فاطمة « عليها السلام » ، وجعل صداقها الأرض ، فمن مشى عليها مبغضاً لها مشى حراماً » .
ورد الشريف المرتضى روايتهم بأن علياً ( عليه السلام ) آذى فاطمة « عليها السلام » فقال : « إن الله تعالى هو الذي اختار علياً لفاطمة ، فكيف يختار لها من يؤذيها ويغمها » ! الشافي : 2 / 277 .

2 - تولى الله أمر فاطمة ( عليها السلام ) دون أبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) )

النبي ( صلى الله عليه وآله ) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، لكن لا ولاية له على ابنته الزهراء « عليها السلام » !
فقد علل رده لمن خطبها غير علي ( عليه السلام ) بأن أمرها لله تعالى وليس له !
وفي الكافي : 5 / 568 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم ، إلا فاطمة ، فإن تزويجها نزل من السماء » .
وفي كشف الغمة : 1 / 363 ، من كلام أبي بكر قال : « قد خطبها الأشراف من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن أمرها إلى ربها ، إن شاء أن يزوجها زوجها » .
وهذا يدل على أنها كانت منذورة لله تعالى مثل مريم « عليها السلام » ، أو أن الله تعالى أمر نبيه أن يترك أمرها له ! وهذا مقام عظيم لم يبلغه قبلها رجل ولا امرأة !
وقد حاول بعضهم أن ينتقص من مقامها « عليها السلام » ويعمم هذه الفضيلة ، فروى
--------------------------- 644 ---------------------------
الحاكم : 4 / 49 أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « ما أنا أزوج بناتي ولكن الله تعالى يزوجهن » . لكنه ( صلى الله عليه وآله ) زوج زينب وأم كلثوم ولم يقل إن أمرهن لله تعالى وليس له !
ويشبه ذلك ما رواه الحاكم : 2 / 201 ، عن عروة عن خالته عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال عن ابنته أو ربيبته زينب : « هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ . فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال : ما حديث بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه حق فاطمة « عليها السلام » ؟ فقال : والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها ! وأما بعد ، فلك أن لا أحدث به أبداً .
قال عروة : وإنما كان هذا قبل نزول آية : أدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ . . » .
ومعناه أنه يعتذر عن خالته عائشة بأنها قالت إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال بنتي قبل نزول النهي عن النسبة بالتبني . ومعناه أن زينب ربيبة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وليست بنته .

3 - عرس الزهراء ( عليها السلام ) أعظم عرس في تاريخ الأنبياء ( ( عليهم السلام ) )

أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يزوج فاطمة من علي « عليهما السلام » ويحتفل بعرسها . قال أنس : « كنت قاعداً عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فغشيه الوحي فلما سُرِّيَ عنه قال : أتدري يا أنس ما جاء به جبريل من عند صاحب العرش ؟ قلت : بأبي وأمي ! وما جاء به جبريل من عند صاحب العرش ؟ قال : إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي » . تاريخ دمشق : 37 / 13 ، نحوه كبير الطبراني : 10 / 156 ، الزوائد : 9 / 204 ، المناقب لابن مردويه / 196 ، الجامع الصغير : 1 / 258 ، كنز العمال : 11 / 606 ، و 13 / 671 ، الكشف الحثيث / 174 ، جواهر المطالب : 1 / 155 ، سبل الهدى : 11 / 38 ، الحلبية : 2 / 471 وغيرها وصححوه .
ووصفت الأحاديث في مصادر الطرفين مراسم الخطبة ، ثم العقد ، ثم تهيئة المنزل ، وتأثيثه ، ثم وليمة الزفاف . وتبلغ نحو خمسين صفحة !

4 . أيها الرسول : زوج النور من النور

نزل جبرئيل بأمر الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) أن يزوج النور من النور ، فتحدث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يخطب فخطب وطلب منه يد فاطمة « عليها السلام » ،
--------------------------- 645 ---------------------------
وأجابه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالقبول ، وأخبر المسلمين باحتفال الملأ الأعلى بعرسهما .
ثم باع علي ( عليه السلام ) درعه وجاء بثمنه مهراً وأعطاه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأعطى منه قبضة إلى أم سلمة وأم أيمن لشراء لوازم عرس الزهراء « عليها السلام » ، وقبضة لسلمان وأبي بكر ، لشراء لوازم المنزل . ثم أمر الصحابة والصحابيات بتهيئة المنزل .
وبقيت الزهراء بعد عقد زواجها مدة في بيت أبيها ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم أقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) مراسم زفافها فأولم وليمة كبيرة لم يحدث التاريخ بأوسع منها في كل سيرته ( صلى الله عليه وآله ) . والأحاديث في مراسم زواج الزهراء « عليها السلام » عديدة ، اخترنا نماذج منها :
في المناقب : 3 / 123 وتاريخ بغداد : 4 / 432 : « طلع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووجهه مشرق كالبدر ، فسأله ابن عوف عن ذلك فقال : بشارة أتتني من ربي لأخي وابن عمي وابنتي ، واللهُ زوج علياً بفاطمة « عليهما السلام » ، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاعاً بعدد محبي أهل بيتي ، وأنشأ من تحتها ملائكة من نور ، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار ، بأخي وابن عمي وابنتي ، فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي .
دعاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما كان من همتي تزويجك ، أتاني جبرئيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها ، فتناولتهما وأخذتهما فشممتهما ، فقلت : ما سبب هذا السنبل والقرنقل ؟ قال : إن الله أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها ، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها ، وأمر ريحها فهبت بأنواع العطر والطيب ، وأمر حور عينها بالقراءة فيها طه ويس وطواسين وحم وعسق ، ثم نادى مناد من تحت العرش : ألا إن اليوم يوم وليمة علي ، ألا إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من علي ، رضاً مني ببعضهما لبعض .
ثم بعث الله سبحانه سحابة بيضاء فقطرت من لؤلؤها وزبرجدها ويواقيتها ، وقامت الملائكة فنثرن من سنبلها وقرنفلها ، وهذا مما نثرت الملائكة » .
وفي حديث خباب بن الأرت : أن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل : « زوج النور
--------------------------- 646 ---------------------------
من النور وكان الولي الله ، والخطيب جبرئيل ، والمنادي ميكائيل ، والداعي إسرافيل ، والناثر عزرائيل ، والشهود ملائكة السماوات والأرضين . ثم أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما عليك ، فنثرت الدر الأبيض والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر واللؤلؤ الرطب ، فبادرن الحور العين يلتقطن ، ويهدين بعضهن » .
وفي تعبير : زوج النور من النور سرٌّ لطيف ، لأن نور النبوة صار جزءين ، وافترق في عبد الله وأبي طالب : جزء للنبوة ، وجزء للإمامة ، ثم اجتمع في الحسن والحسين « عليهما السلام » .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 1 / 442 » : « إن الله كان إذ لا كان ، فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار ، الذي نورت منه الأنوار ، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار ، وهو النور الذي خلق منه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وعلياً ( عليه السلام ) ، فلم يزالا نورين أولين ، إذ لا شئ كون قبلهما ، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة ، حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب « عليهم السلام » » .
وقال القاضي سعيد في شرح توحيد الصدوق : 2 / 79 : « وعندها يتحد النوران اللذان اقتسما في عبد الله وأبي طالب رضي الله عنهما » .

5 . خطبة علي ( ( ع ) ) الرسمية وجواب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

قال في المناقب : 3 / 126 : « وخطب النبي على المنبر في تزويج فاطمة « عليها السلام » خطبة ، رواها يحيى بن معين في أماليه ، وابن بطة في الإبانة بإسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعاً ، ورويناها عن الرضا ( عليه السلام ) . وروى ابن مردويه أنه قال لعلي : تكلم خطيباً لنفسك ، فقال : الحمد لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ، ووعد الجنة من يتقيه ، وأنذر بالناس من يعصيه ، نحمده على قديم إحسانه وأياديه ، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومميته ومحييه ، ومسائله عن مساويه ، ونستعينه ونستهديه ، ونؤمن به ونستكفيه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبلغه وترضيه ، وأن محمداً عبده ورسوله ، صلاة تزلفه وتخطيه ، وترفعه وتصطفيه .
والنكاح ما أمر الله به ورضيه ، واجتماعنا مما قدره الله وأذن فيه ، وهذا رسول الله
--------------------------- 647 ---------------------------
زوجني ابنته فاطمة على خمس مائة درهم وقد رضيت ، فاسألوه واشهدوا .
وفي خبر : زوجتك ابنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن ، وقد رضيت بما رضي الله لها ، فدونك أهلك فإنك أحق بها مني .
وفي خبر : فنعم الأخ أنت ، ونعم الختن أنت ، ونعم الصاحب أنت ، وكفاك برضى الله رضاً ، فخر عليٌّ ساجداً شكر الله تعالى وهو يقول : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : آمين » .

6 . عرس فاطمة ( عليها السلام ) في السماء

في تفسير العياشي : 2 / 211 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « أمر الله طوبى فنثرت عليهم من حللها وسندسها ، وإستبرقها ، ودرها ، وزمردها ، وياقوتها ، وعطرها ، فأخذوا منه حتى ما دروا مايصنعون به . ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة « عليها السلام » ، فهي في دار علي بن أبي طالب » .
وفي المناقب : 3 / 128 : « قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد علمنا مهر فاطمة في الأرض فما مهرها في السماء فقال : سل ما يعنيك ودع ما لا يعنيك . قيل : هذا مما يعنينا يا رسول الله ، قال : كان مهرها في السماء خمس الأرض ، فمن مشى عليها مبغضاً لها أو لولدها ، مشى عليها حراماً إلى أن تقوم الساعة » .
وفي روضة الواعظين / 144 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « أتاني رسول رسول لله فقال لي : أجب النبي وأسرع ، فما رأينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أشد فرحاً منه اليوم ! قال : فأتيته مسرعاً فقال : أبشر يا علي فإن الله تعالى قد كفاني ما كان من همي من أمر تزويجك . قلت : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : أتاني جبرئيل ومعه سنبل الجنة وقرنفلها فناولنيهما ، فأخذتهما فشممتهما فقلت : ما سبب هذا السنبل والقرنفل ؟ فقال : إن الله تعالى أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزينوا الجنان كلها ، بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها ، ثم نادى مناد : ألا يا ملائكتي وسكان جنتي ،
--------------------------- 648 ---------------------------
باركوا علي بن أبي طالب حبيب محمد وفاطمة بنت محمد ، فقد باركت عليهما . قال علي : فقلت : يا رسول الله بلغ من قدري حتى أني ذكرت في الجنة وزوجني الله في ملائكته . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله تعالى إذا أكرم وليه وأحبه ، أكرمه بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ، فاختار الله لك يا علي . فقلت : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ . . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : آمين » .
وفي تاريخ دمشق : 42 / 126 : « عن جابر بن عبد الله قال : دخلت أم أيمن على النبي وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك لا أبكى الله عينيك ؟ قالت : بكيت يا رسول الله لأني دخلت منزل رجل من الأنصار قد زوج ابنته رجلاً من الأنصار ، فنثر على رأسها اللوز والسكر ، فذكرت تزويجك فاطمة من علي بن أبي طالب ولم ينثر عليها شيئاً ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لا تبكي يا أم أيمن فوالذي بعثني بالكرامة واستخصني بالرسالة ما أنا زوجته ولكن الله زوجه ، ما رضيت حتى رضي علي ، وما رضيت فاطمة حتى رضي الله رب العالمين . يا أم أيمن ، إن الله لما أن زوج فاطمة من علي أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش فيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وأمر الجنان أن تزخرف فتزخرفت ، وأمر الحور العين أن يتزينَّ فتزينَّ ، وكان الخاطب الله وكان الملائكة الشهود ! ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر فنثرت عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الياقوت الأحمر مع الزبرجد الأخضر ، فابتدر حور عين من الجنان يرفلن في الحلي والحلل يلتقطنه ، ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد ، فهن يتهادينه بينهن إلى يوم القيامة » .
أقول : يظهر أن أم أيمن تتكلم عن المرحلة الأولى من عرس فاطمة « عليها السلام » ، فقد ورد في حديث زفافها أنهم نثروا في عرسها : « فخرج مولى لأم سلمة زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فنثر سكراً ولوزاً ونثر الناس من كل جانب » . الهداية الكبرى / 115 .
--------------------------- 649 ---------------------------

7 . تهيئة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منزل فاطمة وعلي « عليهما السلام »

روى الطبراني في الأوسط : 6 / 290 وابن ماجة : 1 / 615 : « عن عائشة وأم سلمة قالتا : أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي ، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء ، ثم حشونا مرفقتين ليفاً فنفشناه بأيدينا ، ثم أطعمنا تمراً وزبيباً وسقينا ماء عذباً ، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ويعلق عليه السقاء . فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة » .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يسكن في بيت مع أمه فاطمة بنت أسد ، وعندما تزوج انتقل إلى بيته الجديد وسكنت معه والدته « عليها السلام » .
ففي ذخائر العقبى / 51 1 : « فقال علي لأمه فاطمة بنت أسد : إكفي بنت رسول الله الخدمة خارجاً ، سقاية الماء والحاجة وتكفيك العمل في البيت : العجن والطحن » .

8 . وصف أثاث بيت فاطمة ( عليها السلام )

في المناقب : 3 / 127 : « قال الصادق ( عليه السلام ) : وسكب الدراهم في حجره ، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين إلى أم أيمن لمتاع البيت ، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب ، وقبضة إلى أم سلمة للطعام ، وأنفذ عماراً وأبا بكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها . وكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم ، وخمار بأربعة دراهم ، وقطيفة سوداء خيبرية وسرير مزمل بشريط ، وفراشان من خيش مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم ، وأربع مرافق من أدم الطايف ، حشوها إذخر ، وستر من صوف ، وحصير هجري ، ورحاء اليد ، وسقاء من أدم ومخضب من نحاس ، وقعب للبن ، وشن للماء ، ومطهرة مزفتة ، وجرة خضراء ، وكيزان خزف . . ونطع من أدم ، وعباء قطراني ، وقربة ماء » . إلى آخر الروايات .
--------------------------- 650 ---------------------------

9 . أفخم الأعراس عرس فاطمة ( عليها السلام )

أقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر ربه عرساً لفاطمة وعلي « عليهما السلام » لا نظير له في تاريخ الأنبياء « عليهم السلام » ، فقد زوج بناته أو ربيباته قبل فاطمة « عليها السلام » وبعدها ، وتزوج هو ، وكانت احتفالاته مختصرة ، فكان يدعو من حضر إلى طعام من تمر وسمن وما شابه ، وانتهى الأمر .
وقد جاء في رواية الطبراني في الأوسط : 6 / 290 وابن ماجة : 1 / 615 : « عن عائشة : فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة » .
وضاق بعض حساد علي وفاطمة ( صلى الله عليه وآله ) بهذا الحديث فقالوا إنه كان أحسن عرس فقط بالحَيْس ، أي حلاوة التمر ، أو الطحين التي تحاس بالدهن !
ورووا « عن جابر : حضرنا عرس علي ، فما رأينا عرساً كان أحسن منه حَيْساً » « الطبراني الأوسط : 6 / 290 » . ثم حاولوا أن يضعفوا رواية ابن ماجة بسلم بن خالد الزنجي ، فقال في مجمع الزوائد : 4 / 50 : « وهو ضعيف وقد وثق » .
وقد وثقه ابن معين والدارقطني وابن حبان ، وهم من كبار الأئمة عندهم !
ففي تاريخ ابن معين : 1 / 50 : « سألت يحيى عن مسلم بن خالد الزنجي فقال ثقة » . وفي مشاهير ابن حبان / 234 : « كان أبيض مشرب الحمرة ، فلذلك قيل زنجي ! مات سنة تسع وسبعين ومائة ، وكان من فقهاء أهل مكة ، ومنه تخرج الشافعي وإياه كان يجالس قبل أن يلقى مالكاً » . « قال الدارقطني : ثقة » . تهذيب التهذيب : 10 / 117 .
فقد ضعفوه لروايته فضائل أهل البيت « عليهم السلام » ! قال بخاري في الضعفاء / 110 : « منكر الحديث » ! ولعلهم لبغضهم إياه سموه زنجياً ، مع أنه أبيض أحمر !

10 . وليمة الزفاف بعد شهر من العقد

أقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) وليمة عامة لعرس علي وفاطمة « عليهما السلام » ، ومدَّ السفر للناس في المسجد ، ففي مناقب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لأبي بكر بن مردويه / 198 ، ومناقب ابن شهرآشوب : 3 / 129 : « في حديث : فمكث علي تسعة وعشرين ليلة ، فقال له جعفر وعقيل : سله أن يدخل عليك أهلك ، فعرفت أم أيمن ذلك وقالت : هذا من أمر النساء
--------------------------- 651 ---------------------------
فخلت به أم سلمة فطالبته بذلك ، فدعاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : حباً وكرامة ، فأتى الصحابة بالهدايا ، فأمر بطحن البُر وخبزه ، وأمر علياً بذبح البقر والغنم ، فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يُفَصِّل « الذبيحة » ولم يُرَ على يده أثر دم !
فلما فرغوا من الطبخ أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن ينادى على رأس داره : أجيبوا رسول الله وذلك كقوله تعالى : وأذن في الناس بالحج « والناس في أماكنهم يسمعون دعوته » فأجابوا من النخلات والزروع ، فبسط النطوع في المسجد وصدر الناس ، وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وسائر نساء المدينة ، ورفعوا منها ما أرادوا ، ولم ينقص من الطعام شئ ! ثم عادوا في اليوم الثاني وأكلوا ! وفي اليوم الثالث أكلوا مبعوثة أبي أيوب ، ثم دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالصحاف فملئت ووجه إلى منازل أزواجه ، ثم أخذ صحفة وقال : هذا لفاطمة وبعلها .
ثم دعا فاطمة ، وأخذ يدها فوضعها في يد علي وقال : بارك الله لك في ابنة رسول الله يا علي نعم الزوج فاطمة ، ويا فاطمة نعم البعل علي .
وفي مناقب آل أبي طالب : 1 / 114 : « وأتى أبو أيوب بشاة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عرس فاطمة فنهاه جبرئيل عن ذبحها ، فشق ذلك عليه فأمر ( صلى الله عليه وآله ) زيد بن جبير الأنصاري فذبحها بعد يومين ، فلما طبخ أمر ألا يأكلوا إلا باسم الله وأن لا يكسروا عظامها ، ثم قال : إن أباأيوب رجل فقير ، إلهي أنت خلقتها وأنت أفنيتها وإنك قادر على إعادتها ، فأحيها يا حي لا إله إلا أنت . فأحياها الله وجعل فيها بركة لأبي أيوب وشفاء المرضى في لبنها ، فسماها أهل المدينة المبعوثة ، وفيها قال عبد الرحمن بن عوف أبياتاً منها :
ألم ينظروا شاة ابن زيد وحالها * وفي أمرها للطالبين مزيد
وقد ذبحت ثم استُجِرَّ إها بها * وفصلها فيما هناك يزيد
وأنضج منها اللحم والعظم والكلى * فهلهله بالنار وهو هريد
فأحيى له ذو العرش والله قادر * فعادت بحال ما يشاء يعود
--------------------------- 652 ---------------------------

11 . تزيين النساء لفاطمة ( عليها السلام )

« وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر نساءه أن يزينها ، ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة ، فاستدعين من فاطمة « عليها السلام » طيباً فأتت بقارورة ، فسألت عنها فقالت : كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيقول لي : يا فاطمة هاتي الوسادة فاطرحيها لعمك ، فكان إذا نهض سقط من بين ثيابه شئ فيأمرني بجمعه .
فسئل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن ذلك فقال : هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل !
وأتت بماء ورد ، فسألت أم سلمة عنه فقالت : هذا عرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كنت آخذه عند قيلولة النبي عندي .
وروي أن جبرئيل ( عليه السلام ) أتى بحلة قيمتها الدنيا ، فلما لبستها تحيرت نسوة قريش منها ، وقلن : من أين لك هذا ؟ قالت : هذا من عند الله » . المناقب : 3 / 130 .
وفي المعجم الكبير للطبراني : 22 / 408 : « عن عبد الله بن مسعود قال : سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، سمعته في غزوة تبوك يقول ونحن نسير معه : إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي « عليهما السلام » ففعلت ، قال جبريل : إن الله بنى جنة من لؤلؤة « ووصفها بتفصيل » قلت : يا جبريل لمن بنى الله هذه الجنة ؟ قال : بناها لفاطمة ابنتك وعلي بن أبي طالب ، سوى جنانها ، تحفة أتحفها وأقر عينيك يا رسول الله » .

12 . مراسم زفاف فاطمة لعلي « عليهما السلام »

في شرح الأخبار : 2 / 358 : « ثم قال : يا أسماء ، إملئي لي مخضب ماء وآتيني به ، فملأت وأتته به ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منه ومجَّه في فيه ، ثم غسل فيه وجهه وقدميه ، ودعا فاطمة « عليها السلام » فأخذ كفاً من ذلك الماء فنضحه على صدرها ، وأخذ كفاً ثانياً فنضحه على ظهرها ، ثم أمرها أن تشرب بقية الماء .
ثم دعا بعلي ( عليه السلام ) فصنع به مثل ذلك ، ثم قال : اللهم إنهما مني وأنا منهما ، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني ، فأذهبه عنهما وطهرهما . ثم قال : قُوما إلى بيتكما جمع الله بينكما ، وبارك لكما في سيركما ، وأصلح بالكما .
--------------------------- 653 ---------------------------
قالت أسماء : إنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يزل يدعو لهما لم يشرك في دعائه أحداً حتى توارى في حجرته » . وكشف الغمة : 1 / 382 ، كشف اليقين / 198 ، ينابيع المودة : 2 / 64 ، المناقب : 3 / 131 .
وفي رواية أنه ( صلى الله عليه وآله ) دعا لهما : « اللهم إنهما مني وأنا منهما ، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرهما . . . اللهم اجمع شملهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم . اللهم بارك فيهما وبارك عليهما ، وأنت وليهما في الدنيا والآخرة » . خصائص أمير المؤمنين / 115 ، مناقب أمير المؤمنين : 2 / 203 والبحار : 43 / 122 .
وفي مناقب آل أبي طالب : 3 / 130 ، عن كتاب مولد فاطمة « عليها السلام » للصدوق قال : « أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة « عليها السلام » وأن يفرحن ويرجزن ويكبرن ويحمدن ، ولا يقلن ما لا يرضي الله . قال جابر : فأركبها على ناقته ، وفي رواية على بغلته الشهباء ، وأخذ سلمان زمامها ، وحولها سبعون حوراء والنبي ( صلى الله عليه وآله ) وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ، ونساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) قدامها يرجزن . فأنشأت أم سلمة » . ثم ذكر أراجيز أم سلمة ، وعائشة ، وحفصة ، ومعاذة أم سعد بن معاذ .
وروى الطبراني في معجمه الكبير : 22 / 410 حديثاً مطولاً فيه ذكر مراسم زفاف فاطمة « عليها السلام » شبيهاً بحديث المناقب .
وفي المناقب : 3 / 130 : « تاريخ الخطيب ، وكتاب ابن مردويه ، وابن المؤذن ، وابن شيرويه الديلمي ، بأسانيدهم عن علي بن الجعد ، عن ابن بسطام ، عن شعبة بن الحجاج ، وعن علوان عن شعبة ، عن أبي حمزة الضبعي ، عن ابن عباس وجابر : أنه لما كانت الليلة التي زُفت فاطمة إلى علي « عليهما السلام » كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من خلفها ، يسبحون الله ويقدسونه » .
أقول : هذا مقام رباني عظيم ، حيث خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومعه كبار الملائكة « عليهم السلام » ، مع فاطمة « عليها السلام » من بيته إلى بيت علي ( عليه السلام ) الذي كان أول الأمر بعيداً نسبياً عن المسجد .
وفي شرح إحقاق الحق : 25 / 410 ، عن توضيح الدلائل للإيجي / 334 ، عن ابن سيرين ،
--------------------------- 654 ---------------------------
عن أم سلمة ، وسلمان من حديث : « حتى إذا صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عشاء الآخرة انصرف إلى بيت فاطمة « عليها السلام » فدعاها فأجلسها خلف ظهره ، ثم دعا علياً فأخذ بيد فاطمة فوضعها في يد علي وقال ( صلى الله عليه وآله ) : انطلقا إلى بيتكما ولا تحدثا شيئاً حتى آتيكما . فقامت فاطمة « عليها السلام » معه غير عاصية ولامتلكئة حتى دخلا بيتهما فجلسا على فراش ، ثم قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى دخل عليهما فجلس بينهما ، ثم قال لعلي : قم فائتني بماء ، فأخذ علي قعباً فاصطب من ماء شلوة فأتاه به ، فأخذ رسول الله القعب بيده ثم أخذ ملء فيه ماء فتمضمض به ثم أعاده في القعب ، فأخذ قبضة من الماء فنضح به رأس علي ووجهه وصدره ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : إشربه فشربه .
ثم قال لفاطمة : قومي فائتني بماء ، فجاءت به أيضاً في القدح ، فأخذ رسول الله ملء فيه فتمضمض به فأعاده في القدح ، ثم أخذ قبضة فنضح به رأس فاطمة ووجهها ونحرها . ثم قام وخلاهما . ولبث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أربعاً لا يدخل عليهما » .
وفي الإصابة : 8 / 265 : « وأخرج الدولابي في الذرية الطاهرة بسند جيد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة بني علي بفاطمة : لا تحدث شيئاً حتى تلقاني فدعا بماء فتوضأ منه ثم أفرغه عليهما وقال : اللهم بارك فيهما وبارك عليهما ، وبارك لهما في نسلهما » .
المعجم الكبير للطبراني : 22 / 409 : « فجاءت مع أم أيمن فقعدت في جانب البيت وأنا في جانب فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ههنا أخي ؟ فقالت : أم أيمن أخوك قد زوجته بنتك ! فدخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال لفاطمة ائتيني بماء ، فقامت إلى قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به فمج فيه ثم قال لها قومي فنضح بين ثدييها وعلى رأسها . ثم قال : اللهم أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . ثم قال لها أدبري فأدبرت فنضح بين كتفيها ، ثم قال : اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، ثم قال ائتيني بماء فعملت الذي يريده فملأت القعب ماء فأتيته به فأخذ منه بفيه ثم مجه فيه ثم صب على رأسي وبين يدي ثم قال : اللهم إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم ، ثم قال : أدخل على أهلك
بسم الله والبركة » .
--------------------------- 655 ---------------------------

13 . صديقات أمها ( عليها السلام ) حضرن عرسها

ورد في أحاديث زواج فاطمة « عليها السلام » ذكر أسماء بنت عميس وأم سلمة ، وكانتا صديقتين لأمها خديجة « عليها السلام » وروي أنها أوصتهما بفاطمة « عليها السلام » . وكانت أم سلمة مع زوجها أبي سلمة المخزومي ، فرجعوا إلى مكة ثم هاجروا إلى المدينة .
أما أسماء فأشكل بعضهم بأنها كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب في الحبشة « كشف الغمة للإربلي : 1 / 383 » لكنه يدل على أنها حضرت خصيصاً لخدمة الزهراء « عليها السلام » في عرسها ، وقد كثر مجئ المهاجرين من الحبشة إلى المدينة ، وشارك عدد منهم في بدر وأحد ، وبقي جعفر بن أبي طالب ينفذ المهام التي أمره بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمتعلقة بالحبشة ، فقد كانت مركز الروم في أفريقيا . وفي السنة السابعة أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفراً « رحمه الله » بالعودة مع بضعة أشخاص كانوا معه لأسباب مختلفة .
وقد روى الطبراني في معجمه الكبير : 22 / 412 وغيره حضور أسماء عرس فاطمة « عليها السلام » قال : « ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دخل فلما رأينه النساء ذهبن وبينهن وبين النبي ستر ، وتخلفت أسماء بنت عميس فقال لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : على رسلك من أنت ؟ قالت أنا التي أحرس ابنتك ، إن الفتاة ليلة تبنى بها لا بد لها من امرأة تكون قريبة منها إن عرضت لها حاجة ، أو أرادت شيئاً أفضت بذلك إليها . قال : فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك ، ومن خلفك ، وعن يمينك ، وعن شمالك ، من الشيطان الرجيم » .

14 . ولادة الإمام الحسن ( ( ع ) )

في أمالي الصدوق / 197 : « عن زيد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لما ولدت فاطمة « عليها السلام » الحسن ( عليه السلام ) قالت لعلي : سمه . فقال : ما كنت لأسبق باسمه رسول الله . فجاء رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال : ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء ! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها ، ثم قال لعلي ( عليه السلام ) : هل سميته ؟ فقال : ما كنت لأسبقك باسمه ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : وما كنت
--------------------------- 656 ---------------------------
لأسبق باسمه ربي عز وجل ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط واقرئه السلام وهنئه ، وقل له : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمه باسم ابن هارون ، فهبط جبرئيل فهنأه من الله عز وجل ، ثم قال : إن الله عز وجل يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون . قال : وما كان اسمه ؟ قال : شبر . قال : لساني عربي . قال : سمه الحسن ، فسماه الحسن .
فلما ولد الحسين ( عليه السلام ) أوحى الله عز وجل إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه وهنئه ، وقل له : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمه باسم ابن هارون ، قال : فهبط جبرئيل فهنأه من الله تبارك وتعالى ثم قال : إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم ابن هارون . قال : وما اسمه ؟ قال : شبير . قال : لساني عربي . قال : سمه الحسين ، فسماه الحسين » .
وفي الكافي : 1 / 461 : « ولد الحسن بن علي « عليهما السلام » في شهر رمضان في سنة بدر ، سنة اثنين بعد الهجرة . وروي أنه ولد في سنة ثلاث ومضى ( عليه السلام ) في شهر صفر في آخره من سنة تسع وأربعين ، ومضى وهو ابن سبع وأربعين سنة وأشهر » .
وفي الكافي : 6 / 33 : « عن الحسين بن خالد قال : سألت أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) عن التهنية بالولد متى ؟ فقال إنه قال : لما ولد الحسن بن علي هبط جبرئيل بالتهنية على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في اليوم السابع وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه ، وكذلك حين ولد الحسين ( عليه السلام ) أتاه في اليوم السابع فأمره بمثل ذلك .
قال : وكان لهما ذؤابتان في القرن الأيسر ، وكان الثقب في الأذن اليمنى في شحمة الأذن ، وفي اليسرى في أعلى الأذن ، فالقرط في اليمنى والشنف في اليسرى ، وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ترك لهما ذؤابتين في وسط الرأس . وهو أصح من القرن » .
وفي الهداية للصدوق / 70 : « وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة « عليها السلام » : أنقبي على أذني ابني الحسن والحسين خلافاً على اليهود » . وفي قاموس الكتاب المقدس / 316 : « وكانت عادة قومية عند الإسماعيليين أن يلبس الرجال أقراطاً » . قضاة : 8 25 و 26 .
أقول : اتفق جمهور المؤرخين على أن ولادة الإمام الحسن ( عليه السلام ) في نصف شهر رمضان ،
--------------------------- 657 ---------------------------
واختلفوا هل كانت في السنة الثانية للهجرة أو الثالثة ، تبعاً لتاريخ زواج علي وفاطمة ( صلى الله عليه وآله ) . والمرجح قول الإربلي في كشف الغمة : 2 / 136 : « أصح ما قيل في ولادته أنه ولد بالمدينة في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، وكان والده علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قد بنى بفاطمة « عليها السلام » في ذي الحجة من السنة الثانية
من الهجرة » .
فالمرجح أن الأمر الإلهي بزواج فاطمة بعلي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما كثر الخاطبون لها ( عليها السلام ) في السنة الأولى من الهجرة ، ولعله ( صلى الله عليه وآله ) عقد زواجهما في تلك الفترة ، كما روى ابن سعد واليعقوبي ، وأخر زفافها إلى السنة الثانية في ذي الحجة كما نصت رواية ابن المسيب عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « فقلت لعلي بن الحسين : فمتى زوج رسول الله فاطمة من علي ؟ فقال : بالمدينة بعد الهجرة بسنة وكان لها يومئذ تسع سنين » « الكافي 8 / 338 » . ومعنى تسع سنين أنها دخلت في العاشرة ، لأن ولادتها في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس للبعثة ، أي بعد أربع سنوات ونصف من البعثة التي كانت في رجب نصف السنة فحسبت سنة ، ويكون عمرها عند هجرته ( صلى الله عليه وآله ) في ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة من بعثته نحو ثمان سنين ، وعمرها عند زواجها في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة نحو تسع سنين ونصفاً ، وولدت الحسن ( عليه السلام ) وعمرها نحو عشر سنوات ونصفاً .
وتؤيد رواية اليعقوبي : 2 / 41 ما ذكرناه : « زوجها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من علي بعد قدومه بشهرين ، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما زوجها علياً قالوا في ذلك ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا زوجته ولكن الله زوجه » .
ورواية ابن سعد : 8 / 22 : « تزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رجب بعد مقدم النبي ( صلى الله عليه وآله ) المدينة بخمسة أشهر ، وبنى بها مرجعه من بدر » .
--------------------------- 658 ---------------------------

15 . ولادة الإمام الحسين ( ( ع ) )

في الكافي : 1 / 463 : « ولد الحسين بن علي « عليهما السلام » في سنة ثلاث ، وقبض ( عليه السلام ) في شهر المحرم من سنة إحدى وستين من الهجرة ، وله سبع وخمسون سنة وأشهر .
عن عبد الرحمن العرزمي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : كان بين الحسن والحسين « عليهما السلام » طهرٌ ، وكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشراً » .
وفي مصباح المتهجد / 826 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أن مولده ( عليه السلام ) في الثالث من شعبان .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 52 : « عن سُليم بن قيس الهلالي قال : سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول : كنت عند معاوية والحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن أبي سلمه ، وأسامة بن زيد يذكر حديثاً جرى بينه وبينه وأنه قال لمعاوية بن أبي سفيان : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ثم أخي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فإذا استشهد فابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ثم ابني الحسين ( عليه السلام ) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فإذا استشهد فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وستدركه يا علي ، ثم ابني محمد بن علي الباقر أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا عبد الله ، وتكملة اثني عشر إماماً ، تسعه من ولد الحسين . قال عبد الله : ثم استشهدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن أبي سلمه وأسامة بن زيد ، فشهدوا لي عند معاوية . قال سليم بن قيس : وقد كنت سمعت ذلك من سلمان وأبي ذر والمقداد وأسامة ، أنهم سمعوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفي كامل الزيارات / 140 : « عن إبراهيم بن شعيب الميثمي قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : إن الحسين بن علي « عليهما السلام » لما ولد أمر الله عز وجل جبرئيل ( عليه السلام ) أن يهبط في ألف من الملائكة فيهنئ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الله ومن جبرئيل ( عليه السلام ) ، قال : وكان مهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له : فطرس ، كان من الحملة فبعث في شي فأبطأ فيه ، فكسر جناحه وألقي في تلك الجزيرة يعبد الله فيها ست مائة عام ، حتى ولد الحسين ( عليه السلام ) فقال الملك لجبرئيل ( عليه السلام ) : أين تريد . قال : إن الله تعالى أنعم على محمد ( صلى الله عليه وآله ) بنعمة فبعثت أهنيه من الله ومني ، فقال : يا جبرئيل إحملني معك لعل
--------------------------- 659 ---------------------------
محمداً ( صلى الله عليه وآله ) يدعو الله لي ، قال فحمله فلما دخل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهنأه من الله وهنأه منه وأخبره بحال فطرس ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جبرئيل أدخله ، فلما أدخله أخبر فطرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحاله فدعا له النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : تمسح بهذا المولود وعد إلى مكانك . قال : فتمسح فطرس بالحسين ( عليه السلام ) وارتفع ، وقال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أما أن أمتك ستقتله وله عليَّ مكافاة أن لا يزوره زائر إلا بلغته عنه ، ولا يسلم عليه مسلِّم إلا بلغته سلامه ، ولا يصلي عليه مصل إلا بلغته عليه صلاته ، قال : ثم ارتفع » .
أقول : حديث فطرس صحيح السند فيجب قبوله ، لكن الإشكال فيه أنه يدل على ارتكاب الملائكة للذنوب واستحقاقهم للعقوبة ، وأنه يعارض قول تعالى : عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ . وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ . وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . لكن الصحيح أن هذه الآيات تتكلم عن زبانية جهنم المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول . فلا مانع أن هناك أنواع أخرى ، تصدر منهم المعصية مثل فطرس .
على أن المعصية أمر نسبي ، كما أن اعتراض الملائكة في استخلاف آدم ( عليه السلام ) عُدَّ معصية : قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ . « وروى في الكافي : 4 / 188 » : « فأعرض عنها « الملائكة » فرأت أن ذلك من سخطه فلاذت بعرشه ، فأمر الله ملكاً من الملائكة أن يجعل لها بيتاً في السماء السادسة يسمى الضراح بإزاء عرشه ، فصيره لأهل السماء يطوف به سبعون ألف ملك في كل يوم لا يعودون ويستغفرون » .

  • *
    --------------------------- 660 ---------------------------

الفصل الثامن والثلاثون

هدف سرايا النبي « صلى الله عليه وآله » وحروبه

1 - عدد سرايا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغزواته وحروبه ، وهدفها

أعلنت قبائل العرب عداءها مع قريش لأهل المدينة لأنهم بايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) على حمايته وقتال أعدائه : « فلما آووا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه ونصروا الله ودينه رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وتحالفت عليهم اليهود ، وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة » . أمالي الطوسي / 173 ، بمعناه الغارات للثقفي : 2 / 479 والحاكم : 2 / 401 .
وقد اعتمد النبي ( صلى الله عليه وآله ) لمواجهة هذا العداء إرسال السرايا ، وهي مجموعات مقاتلة صغيرة وكبيرة ، تبعث لأهداف محددة ومناطق محددة ، لمحاربة عدو يتعاون مع قريش ضد الإسلام ، أو يخشى منه أن يغزو المدينة .
واصطلح الرواة على اسم السرية إذا لم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيها ، فإن كان فيها سميت غزوة ، وهو مجرد اصطلاح ، وقد تكون السرية أكثر عدداً وأشد قتالاً . ثم نراهم خالفوا هذا الاصطلاح ، فسموا معركة مؤتة وغيرها غزوة .
ويمكن حصرأهداف سراياه وغزواته ( صلى الله عليه وآله ) بثلاثة : حماية الدولة ، وإظهار القوة لإرهاب من يفكر بالاعتداء ، ومحاولة جر قريش إلى الحرب .
قال ابن هشام : 4 / 1027 : « وكان جميع ما غزا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه سبعاً وعشرين غزوة . قاتل منها في تسع غزوات : بدر ، وأحد ، والخندق ، وقريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ،
--------------------------- 661 ---------------------------
وحنين ، والطائف . وكانت بعوثه ( صلى الله عليه وآله ) وسراياه ثمانياً وثلاثين » . فيكون المجموع نحو سبعين ، وقيل اثنان وسبعون ، شرح المغني : 5 / 339 .
وقال أهل البيت « عليهم السلام » إن مجموع سراياه وغزواته ( صلى الله عليه وآله ) ثمانون ، فعندما سُمَّ المتوكل نذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير ، فتحير الفقهاء في مبلغ المال ، فأرسل إلى الإمام الهادي ( عليه السلام ) فأجابه إن الكثير ثمانون ، لقوله تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ، وكانت ثمانين موطناً . وروي ذلك عن الصادق ( عليه السلام ) وأفتى به عدد من فقهائنا .
الكافي : 7 / 463 ، الفقيه : 3 / 368 و 4 / 206 ، التهذيب : 8 / 309 ، فقه الرضا / 274 ، المقنع / 411 ، المقنعة / 565 ، الخلاف : 3 / 359 ، المختلف : 8 / 188 والجواهر : 35 / 416 .
وكانت أول غزواته ( صلى الله عليه وآله ) بدر ، وآخرها تبوك قبيل وفاته ( صلى الله عليه وآله ) واستغرقت ثمانين يوماً ولم يقع فيها حرب ، لأن الروم انسحبوا من تبوك عندما توجه إليهم ، ووقع الأكيدر ملك الدومة في الأسر ، فكتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) معه صلحاً .
وأهم حروبه ( صلى الله عليه وآله ) : بدر ، وأحد ، والخندق ، وخيبر ، وفتح مكة ، وحنين ، ومؤتة . والباقي إما سرايا ، أو لم تكن فيها معركة تذكر .
وفي المناقب : 1 / 161 : « إن جميع ما غزا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ست وعشرون غزوة على هذا النسق : البواط ، العشيرة ، بدر الأولى ، بدر الكبرى ، السويق ، ذي إمرة ، أحد ، نجران ، بنو سليم ، الأسد ، بنو النضير ، ذات الرقاع ، بدر الآخرة ، دومة الجندل ، الخندق ، بنو قريظة ، بنو لحيان ، بنو قرد ، بنو المصطلق ، الحديبية ، خيبر ، الفتح ، حنين ، الطايف ، تبوك ، ويلحق بها بنو قينقاع .
وقاتل في تسع وهي : بدر الكبرى ، وأحد ، والخندق ، وبني قريظة ، وبني المصطلق ، وبني لحيان ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطايف .
وأما سراياه فست وثلاثون ، أو لها سرية حمزة لقى أبا جهل بسيف البحر في ثلاثين من المهاجرين » .
ومما تلاحظه في روايات السلطة في سرايا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وغزواته : أنهم عملوا لتوظيفها لتكبير أشخاص السلطة وأقاربهم وقبائلهم ، وطمس أدوار غيرهم !
--------------------------- 662 ---------------------------
فاخترعوا بطولات ومناقب كاذبة ، وادعوا حضور أشخاص لم يحضروا ، وأنكروا فرار أشخاص فروا ، وسرقوا أدوار أشخاص ونسبوها إلى آخرين !
ووصل أمرهم إلى إنكار غزوة بكاملها كغزوة ذات السلاسل التي كان قائدها علي ( عليه السلام ) ، واخترعوا بدلها غزوة لا وجود لها وسموها بنفس الاسم !
ثم حاولوا التخفيف عن أعداء الإسلام خاصة القرشيين ، حتى لو كان ثمن ذلك إلقاء اللوم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو المسلمين ، فجعلوا أخذ الأسرى منهم في بدر سبباً للعقوبة الإلهية للمسلمين بهزيمتهم في أحُد ، والعقوبة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بجرحه !
كما أنهم كذبوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في فعله وقوله ، وانتقصوا من شخصيته ( صلى الله عليه وآله ) أحياناً ، لتبرير فعل حاكم ، أو صحابي ، أو ادعاء منقبة له !

2 - معجزة إنشاء الأمة والمد الحضاري !

من عجائب نبينا ( صلى الله عليه وآله ) وخصائص شخصيته الربانية ، أنه استطاع أن ينشئ أكبر أمة وأكبر مد حضاري في تاريخ الأرض ، في مدة قياسية هي عشر سنوات بعد هجرته ، وبأقل كلفة عرفتها حركة كبرى ! حيث لم يتجاوز عدد القتلى من جيشه وجيوش أعدائه كما حسبه بعضهم 589 شخصاً !

3 - سرايا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغزواته قبل بدر

ذكرت مصادرنا وعدد من مصادرهم أن : « أول سرية سارت ولواء عقد في الإسلام ، لحمزة بن عبد المطلب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين إلى سيف البحر ، من ناحية العيص من أرض جهينة ، في ثلاثين راكباً من المهاجرين ، فلقي أبا جهل في ثلاث مائه راكب من قريش ، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني ، وكان موادعاً للفريقين ، وانصرفوا ولم يك بينهم قتال » . اليعقوبي : 2 / 44 .
وزعم ابن حجر في فتح الباري : 7 / 67 والاستيعاب : 1 / 370 أنها كانت بإمرة عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب . وهذا فهرس لسرايا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بدر من سيرة ابن هشام : 2 / 428 ، الطبري : 2 / 121 ، ذخائر العقبى / 175 ، إعلام الورى : 1 / 163 والصحيح من السيرة : 5 / 272 .
--------------------------- 663 ---------------------------
أول غزوة غزاها ( صلى الله عليه وآله ) في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه ، فخرج حتى بلغ الأبواء ، يريد قريشاً وبني ضمرة ، ثم رجع ولم يلق كيداً ، فأقام بالمدينة بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول ، وبعث عبيدة بن الحارث في ستين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ، فالتقى هو والمشركون على ماء يقال له أحياء ، وكانت بينهم الرماية ، وعلى المشركين أبو سفيان بن حرب .
ثم غزا ( صلى الله عليه وآله ) في شهر ربيع الآخر يريد قريشاً ، حتى بلغ بُوَاط ولم يلق كيداً .
ثم رجع ( صلى الله عليه وآله ) من العشيرة إلى المدينة فلم يقم بها عشر ليال ، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر ، وهي غزوة بدر الأولى ، وفاته كرز فلم يدركه .
فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأقام جمادى الآخرة ورجب وشعبان ، وكان بعث بين ذلك سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط ، فرجع ولم يلق كيداً .
ثم بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عبد الله بن جحش إلى نخلة ، في اثني عشر رجلاً من المهاجرين وقال : كنَّ بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال ، وكتب له كتاباً وقال : اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر ما فيه وامض لما أمرتك . فلما سار يومين وفتح الكتاب فإذا فيه : أن امض حتى ننزل نخلة ، فائتنا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم ، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب : سمعاً وطاعة ، من كان له رغبة في الشهادة فلينطلق معي ! فمضى معه القوم حتى إذا نزلوا النخلة مر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة ابنا عبد الله ، معهم تجارة قدموا بها من الطائف ، أدَم وزبيب ، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله وكان قد حلق رأسه ، فقالوا : عُمَّار ، ليس عليكم منهم بأس ، وأتمر أصحاب رسول الله وهي آخر يوم من رجب ، فقالوا : لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ، ولئن تركتموهم ليدخلن هذه الليلة مكة فليمتنعن منكم ! فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمر بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان
--------------------------- 664 ---------------------------
بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وهرب المغيرة بن عبد الله فأعجزهم ، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله فقال لهم : والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئاً ، وأسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا ، وقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، فأنزل الله سبحانه :
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَكَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ « البقرة / 217 » . فلما نزل ذلك أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العير وفداء الأسيرين ، وقال المسلمون : أتطمع لنا أن نكون غزاة ؟ فأنزل الله فيهم : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ « البقرة / 218 » . وكانت هذه قبل بدر بشهرين . ورد عبد الله بالخمس على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقسم الباقي بين أصحابه ، فكان أول خمس خمسه ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى رأس ثمانية أشهر من مهاجره الشريف ، عقد لعبيدة بن الحارث بن المطلب على ستين رجلاً ، ليلقوا أبا سفيان في بطن رابغ وكان في مئتين . وفي هذه السرية فر المقداد ، وعتبة بن غزوان ، « مهاجرين » إلى المسلمين .
وبعد ذلك كانت سرية سعد بن أبي وقاص على فريق من المهاجرين أيضاً ليعترضوا عيراً لقريش فسبقتهم . وقيل كان ذلك بعد بدر .
ثم كانت غزوة الأبواء ، خرج فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه يريد قريشاً وبني مرة بن بكر فتلقاه سيد بني مرة بالأبواء فصالحه ، ثم رجع ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة .
وبعدها كانت غزوة بواط ، جبل لجهينة ، قرب المدينة خرج ( صلى الله عليه وآله ) في مئتين من المهاجرين أيضاً ، يعترض عير بني ضمرة ، فبلغ بواطاً ورجع ولم يلق كيداً .
وبعدها بأيام قلائل كانت غزوة العشيرة ، يريد قريشاً ، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة ، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً .
--------------------------- 665 ---------------------------
وفيها كنَّى علياً ( عليه السلام ) بأبي تراب ، فروي عن عمار بن ياسر قال : « كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ، فقال لي علي : هل لك يا أبا اليقظان في هذه الساعة بهذا النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون . فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم ، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء « تراب ناعم » من الأرض فنمنا فيه ، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء ، فيومئذ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : يا أبا تراب لما عليه من التراب . فقال : ألا أخبركم بأشقى الناس ؟ قلنا : بلى يا رسول الله . قال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذا ووضع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده على رأسه ، حتى يبل منها هذه ، ووضع يده على لحيته » !
ثم كانت سرية ابن جحش في رجب أو في جمادى الثانية من السنة الثانية ، في ثمانية أو اثني عشر رجلاً من المهاجرين . وكتب له النبي ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً وأمره أن لا يفتحه حتى يسير يومين ، ففتحها بعد يومين فوجد فيها بعد البسملة : أما بعد ، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك ، حتى تنزل بطن نخلة ، فترصد بها عير قريش ، حتى تأتينا منها بخبر .

4 - مشروعية سياسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في السرايا والغزوات

1 . بهذه التحركات السريعة المتنوعة عرف أهل المدينة وجيرانهم اليهود ، ومن وراءهم من قريش والعرب ، أن الدولة التي أقامها النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوية ومتوثبة . فقد كان هذا هو الطريق الوحيد لردع ذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، وفراعنة قريش !
عرفوا يقظة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتنبهه لتحركاتهم ، وسرعة تحريكه لقواته ، ولو إلى مسافات بعيدة ، تصل أحياناً إلى مئات الكيلومترات .
ولذلك وادعه بنو مدلج وكتبوا معه صلحاً يتعهدون فيه بعدم قتاله ، وعدم معاونة أحد على قتاله ! مع أنهم قريبون من مكة ، ومع أن زعيمهم سراقة بن جشعم اعترض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في طريق هجرته ليقتله أو يأسره ويأخذ جائزة
--------------------------- 666 ---------------------------
قريش ، وكانت مئة بعير من قريش ! اليعقوبي : 2 / 39 والثاقب / 145 .
فقد تفاجأ سراقة عندما رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد خمسة عشر شهراً في وسط عشيرته ، في مئات من المسلمين مملوئين شجاعة وتوثباً ، فعقد معه معاهدة عدم اعتداء !
2 . لم يكتف النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإرسال القادة الشجعان في سرايا الاستطلاع والترهيب ، بل كان يشارك فيها شخصياً عندما يرى لزوم ذلك ، أو يأمره ربه به ، ونلاحظ أنه شارك في ثلاثة غزوات قبل بدر هي : الأبواء وبواط والعشيرة ، وهذا يعطي لدولته ودعوته جدية خاصة .
3 . كان هدف النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يقطع طريق تجارة قريش الأساسية ، وهي طريق المدينة إلى الشام وفلسطين ومصر ، وبذلك لا يبقى لها إلا طريق الطائف إلى نجد والعراق ، وطريق جدة إلى الحبشة ، وطريق اليمن ، لكن تجارتها إلى هذه المناطق ثانوية .
وقد حاولت قريش أن تسلك طريق العراق إلى الشام بعد معركة بدر ، فأثبت لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنها أيضاً تحت سيطرته !
ففي سيرة ابن إسحاق : 3 / 296 ، ابن هشام : 2 / 563 : « أن قريشاً كانت قد أخافت طريقها التي تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان ، فسلكوا طريق العراق ، وخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة ، وهو معظم تجارتهم ، واستأجروا من بني بكر بن وائل رجلاً يقال له فرات بن حيان يدلهم على الطريق ، وبعث رسول الله زيد بن حارثة في ذلك الوجه ، فلقيهم على ذلك الماء فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال » .
بل وقعت الطرق الأخرى تحت تهديد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما حصل في السنة السابعة عندما أسرت سرية للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ثمامة بن أثال زعيم اليمامة ، وعفا عنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم ثمامة وذهب إلى مكة فقالوا له : « صبوتَ ؟ ! قال : لا ، ولكني أسلمت مع محمد ، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . « الكافي : 8 / 299 ، تاريخ المدينة : 2 / 435 » . فجاء أبو سفيان إلى المدينة مستغيثاً ، فكتب اليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يرفع عنهم الحصار فرفعه . ابن هشام : 4 / 1053 وأسباب النزول / 211 .
--------------------------- 667 ---------------------------
4 . كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرف أن التحرش بقوافل قريش يعني الاستعداد لرد فعلها العنيف الذي قد يصل إلى الحرب ، بل هذا ما يريده ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد أوحى إليه ربه عز وجل : « اخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة ، فليس لك بمكة ناصر ، وانصب للمشركين حرباً . فعند ذلك توجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى المدينة » . « الكافي : 8 / 341 وتفسيرالعياشي : 1 / 257 » . ومعناه أن هذا المد الإسلامي يجب أن يتم ، والعقبة أمامه قريش ، ولا يمكن إزاحتها إلا بحربها وإخضاعها .
أما الوجه القانوني لأمر الرسول بحرب قريش ، فهو أن المالك للجميع هو الله تعالى ، وقد قال : وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ .
وهذا معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر : « قم يا علي ، قم يا حمزة ، قم يا عبيدة ، قاتلوا على حقكم الذي بعث به نبيكم » . « الفصول المهمة : 1 / 315 » . فحقهم على قريش أن الله الخالق المالك أرسل رسولاً ( صلى الله عليه وآله ) وأمره أن يبلغ دينه لعباده ، فكذبته قريش ومنعته هو وأصحابه من تبليغه للناس ، وظلمتهم واضطهدتهم ، فأعطاهم الله حق حربها وإزاحتها من طريقهم .
ويؤيد ذلك ما رواه ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 161 : « لما كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل بقوله : أُذِنَ للَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الآمُورِ . وقلده في عنقه سيفاً ، وفي رواية : لم يكن له غمد ، فقال له : حارب بهذا قومك حتى يقولون لا إله إلا الله » .
ويؤيد ذلك أيضاً ما رواه في الكافي : 5 / 10 : « عن حفص بن غياث ،
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سأل رجل أبي صلوات الله عليه عن حروب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان السائل من محبينا ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بخمسة أسياف ، ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب
--------------------------- 668 ---------------------------
أوزارها ، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم في ذلك اليوم ، فيومئذ : لايَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا .
وسيف منها مكفوف ، وسيف منها مغمود ، سله إلى غيرنا وحكمه إلينا .
وأما السيوف الثلاثة الشاهرة : فسيف على مشركي العرب قال الله عز وجل : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ . . فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام ، وأموالهم وذراريهم سبي على ما سن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإنه سبى وعفى وقبل الفداء . . الخ » .

  • *
    --------------------------- 669 ---------------------------

الفصل التاسع والثلاثون

معركة بدر . . يوم الفرقان

1 - معالم معركة بدر ونتائجها

1 . موقع بدر

في معجم البلدان : 1 / 358 ومعجم البكري : 1 / 231 : « ماء على ثمانية وعشرين فرسخاً من المدينة ، في طريق مكة » . أي نحو مئة وخمسين كيلو متراً من المدينة باتجاه مكة ، واسم الوادي الذي هو فيه يَلْيَل ، وهو يصب في البحر . لاحظ البلاذري : 1 / 288 .
أما زمان المعركة فكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان السنة الثانية للهجرة . كشف اليقين / 124 ، ابن هشام : 1 / 158 ، عن الإمام الباقر ( ( ع ) ) والطبري : 2 / 128 و 148 .

2 . كانت مدة المعركة نصف نهار

فقد انتهت ظهراً ، وبدأت مع طلوع الشمس برسالة النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى قريش بأنه لا يحب أن يبدأ حروبه بهم لأنهم قومه ، وطلب منهم أن يرجعوا ويتركوه والعرب ويكونوا على الحياد ! وقبل ذلك زعيمهم عتبة بن ربيعة ، وكان هو وأبو جهل المخزومي قائديْ قريش ، فركب عتبة بعيره وخطب في معسكرهم داعياً إلى قبول اقتراح النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأعلن أنه يدفع من ماله دية ابن الحضرمي الذي تطالب قريش النبي ( صلى الله عليه وآله ) بدمه لأن أحد سرايا النبي ( صلى الله عليه وآله ) قتلته . فقبل عامة الناس كلامه لكن أبا جهل رفض واتهمه بالجبن ووبخه وأفحش له القول ! فغضب عتبة
--------------------------- 670 ---------------------------
وثارت حميته الجاهلية ، فدعا أخاه شيبة وابنه الوليد ، ولبسوا عدة حربهم وبرزوا للقتال !
فبرز إليهم من بني هاشم : علي وحمزة وعبيدة ، وانتصروا عليهم ثم برز عدة أبطال من مشركي قريش ، فقتلهم علي وحمزة . ثم كانت الحملة العامة واستغرقت نحو ساعتين ، قتل فيها تسعة من المسلمين ، ونحو سبعين من المشركين ، ووقعت فيهم الهزيمة فأسر المسلمون منهم نحو سبعين ، فيهم شخصيات منهم . وجمع المسلمون الغنائم وأدوا الصلاة ، وسرعان ما اختلفوا عليها اختلافاً سيئاً ، واتهم بعضهم بعضاً بأنه غلَّ أشياء أي سرقها وأخفاها ، واتهم مرضى القلوب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ قطيفة ! أي عباءة ثمينة كانت لأحد زعماء المشركين ،
فكشف الله كذبهم وبرأ نبيه ( صلى الله عليه وآله ) .
ثم أنزل الله سورة الأنفال ، وفيها حقائق مهمة عن حال الصحابة ونقاط ضعفهم وقوتهم ، وعن معركة بدر ومستقبل الإسلام .

3 . وعد الله المسلمين بالنصر في بدر

اتفقت المصادر على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبر أصحابه قبل الخروج إلى بدر أن الله تعالى أمره أن يعترض قافلة قريش ، واحتمال أن تستنفر قريش لحربهم ، ولذلك كره قسم منهم الخروج ، كما قال الله تعالى : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . وكان ذلك يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان ، بعد ثمانية عشر شهراً للهجرة .
البحار : 19 / 232 .
ولما أفلتت القافلة وجاءهم خبر مجيئ قريش للحرب ، استشارهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) هل يواصلون السير للقاء قريش أو يرجعون ؟ فأشار أبو بكر وعمر والكارهون للحرب بالرجوع ، وأشار عدد من المؤمنين الشجعان بالمضي ، وكان أحسنهم موقفاً رئيس الأنصار سعد بن معاذ « رحمه الله » . فمشى بهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى وصلوا مساء إلى بدر ، فوجدوا المشركين سبقوهم إلى الماء ، فنزلوا وهم في حالة من التعب والخوف ، وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) ليلاً فاستقى لهم ، وبات يصلي ويدعو ربه فأنزل الله عليهم المطر ،
--------------------------- 671 ---------------------------
وقيل إنهم بقوا مدة بلا ماء .
ففي تفسير مقاتل : 2 / 7 : « ونزل المسلمون حيالهم على غير ماء ، وبينهم وبين عدوهم بطن واد فيه رمل ، فمكث المسلمون يوماً وليلة يصلون محدثين مجنبين . فحزن المسلمون وخافوا وامتنع منهم النوم ، فعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الحزن فألقى الله عليهم النعاس أمنة من الله ليذهب همهم ، وأرسل السماء عليهم ليلاً فأمطرت مطراً جواداً حتى سالت الأودية ، وملؤوا الأسقية وسقوا الإبل ، واتخذوا الحياض ، واشتدت الرملة وكانت تأخذ إلى كعبي الرجال » . راجع : المناقب : 1 / 122 ، تفسير الواحدي : 1 / 432 والطبري : 9 / 257 .
وفي تفسير ابن عبد السلام : 1 / 526 ، أن الذين : « غشيهم النعاس ببدر فهم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وكثير من أصحابه ، فناموا » . لكن سيأتي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم ينم ليلة بدر ، وأن النعاس نزل على المؤمنين دون مرضى القلوب الذين أهمتهم أنفسهم ! وسيأتي وصفهم في سورة الأنفال وفي أحُد ، وأن عيونهم بقيت « تبحلق » ولم ينزل عليهم أمنة ولا نعاساً ! قال تعالى : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئْ .

4 . عدد أهل بدر مقدس ، وليس كل البدريين مقدسين

كان عدد المسلمين أهل بدر ثلاث مئة وثلاث عشرة ، وقيل أكثر ، ففي المناقب : 1 / 161 : « خرج ( صلى الله عليه وآله ) سابع عشر شهر رمضان ، ويقال ثالثه في ثلاث مائة وسبعة عشر رجلاً في عدة أصحاب طالوت ، منهم ثمانون راكباً أو سبعون ، ويقال سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين ، ومائتي وثلاثين رجلاً من الأنصار وكان المقداد فارساً فقط . يعتقب النفر على البعير الواحد ، وكان بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبين أبي مرثد الغنوي بعير ويقال فرس . وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف » .
« فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين ، أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن نتعادَّ ففعلنا ، فإذا نحن ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ، فأخبرنا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعدتنا فسُرَّ بذلك
--------------------------- 672 ---------------------------
وحمد الله ، وقال عدة أصحاب طالوت . فقال : ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ فقلنا : يا رسول الله لا والله مالنا طاقة بقتال القوم ، إنما خرجنا للعير » . الطبراني الكبير : 4 / 174 ، مجمع الزوائد : 6 / 73 وحسنه . وراجع : الطبري : 2 / 138 .
أقول : قداسة عدد الثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً ليست بسبب أهل بدر ، لأن فيهم بنص سورة الأنفال من غلَّ من الغنائم ، وفيهم من اتهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ ! وفيهم مرضى القلوب ، وهم أسوأ أنواع المنافقين !
بل قداسة هذا العدد لأنه عدد الملائكة الذين كانوا مع نوح ( عليه السلام ) والذين نزلوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر ، وهم غير المسومين والمردفين ، وسيكونون مع الإمام المهدي ( عليه السلام ) وهذا عدد أصحاب المهدي الخاصين ، لكنهم كلهم أولياء الله ، ما فيهم منافق أو مريض القلب ، فهم مقدسون وعددهم .
ففي كمال الدين / 672 : « فإذا نشر راية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انحط إليه ثلاثة عشر ألف ملك وثلاث مائة وثلاثة عشر ملكاً ، كلهم ينتظر القائم ( عليه السلام ) ، وهم الذين كانوا مع نوح ( عليه السلام ) في السفينة ، والذين كانوا مع إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) حيث ألقي في النار ، وكانوا مع عيسى ( عليه السلام ) حيث رفع . وأربعة آلاف مسومين ومردفين » .
وفي غيبة النعماني / 322 : « وهم الذين كانوا مع موسى لما فلق له البحر . . ومعهم أربعة آلاف صعدوا إلى السماء يستأذنون في القتال مع الحسين ، فهبطوا إلى الأرض وقد قتل فهم عند قبره » . ودلائل الإمامة / 457 ، الخرائج : 2 / 782 وغيرها .

5 . كان عدد المشركين تسع مئة وخمسون

ففي الدر المنثور : 3 / 165 : « فنفروا على كل صعب وذلول ، وقال أبو جهل : أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة ! سيعلم أنمنع عيرنا أم لا ؟ فخرجوا بخمسين وتسع مائة مقاتل وساقوا مائة فرس ، ولم يتركوا كارهاً للخروج يظنون أنه في صَغْو محمد وأصحابه ، ولا مسلماً يعلمون إسلامه ، ولا أحداً من بني هاشم ، إلا من لا يتهمون « كأبي لهب ، كان مريضاً وهلك يوم وصل خبر بدر » إلا أشخصوه معهم ،
--------------------------- 673 ---------------------------
فكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث ، وطالب بن أبي طالب ، وعقيل بن أبي طالب ، في آخرين ، فهنالك يقول طالب بن أبي طالب :
يا رب إما يخرجن طالبْ * بمقنب من هذه المقانبْ
في نفر مقاتل يحاربْ * فليكن المسلوب غير السالبْ
والراجع المغلوب غير الغالبْ .
ونحوه الكافي : 8 / 375 وفيه : « فقالت قريش : إن هذا لعلينا فردوه ! وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه كان أسلم » .
لكن طالباً « رحمه الله » لم يرجع إلى مكة ولم يُعرف مصيره ، فالمرجح أن القرشيين قتلوه !
« أجمعت قريش لحرب رسول الله بأحابيشها ومن أطاعهم من قبائل بني كنانة وأهل تهامةكل أولئك قد استُغووا على حرب رسول الله » . ابن إسحاق : 3 / 302 .
وروي أن معهم من الأحابيش ألفين ، والصحيح أن الأحابيش كانوا قلة : « لم يشهد بدراً إلا قرشي أو أنصاري ، أو حليف لأحد الفريقين » . عبد الرزاق : 5 / 348 .
ويدل على عددهم عدد الأباعر المنحورة لطعامهم ، ففي المحبر / 161 والمنمق / 389 ، لابن حبيب : « المطعمون من قريش لحرب يوم بدر : أبو جهل وهو عمرو بن هشام بن المغيرة ، نحر أول يوم عشراً ، ثم نحر أمية بن خلف تسعاً ، ثم نحر سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي عشراً ، ثم شيبة بن ربيعة نحر عشراً ، ثم نحر منبه ونبيه ابنا الحجاج عشراً ثم نحر أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد عشراً ، ثم نحر العباس بن عبد المطلب وكان أخرج إلى بدر كارهاً ، عشراً . وذكر محمد بن عمرأن قريشاً لم تطعم من الطعام العباس لعلمها بهواه وميله مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنه أخرج مكرهاً » .
وروي أن المطعمين كانوا اثني عشر ونزل فيهم قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ . راجع : إعلام الورى : 2 / 168 ، شرح النهج : 14 / 205 ، تفسير الثعلبي : 4 / 355 ، أسباب النزول للواحدي / 159 ، تفسير البيضاوي : 3 / 106 ، فتح القدير : 5 / 318 والمعارف / 154 .
--------------------------- 674 ---------------------------

6 . نزل الملائكة في بدر ومعهم جبرئيل ( ( ع ) )

وقد رآهم علي ( عليه السلام ) لما ذهب ليستقي وسلموا عليه ، ففي تفسير القمي 1 / 256 : « ثم رفع يده ( صلى الله عليه وآله ) إلى السماء وقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد . ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العَرَق عن وجهه ويقول : هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين ، قال : فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق وريح ، قد وقعت على عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقائل يقول : أقدم حيزوم أقدم حيزوم ! وسمعنا قعقعة السلاح من الجو » !
وفي المناقب : 1 / 118 : « ظهروا على الخيل البُلْق بالثياب البيض يوم بدر ، يقدمهم جبرئيل على فرس يقال له حيزوم » .
وفي المناقب : 1 / 161 : « قال علي وابن عباس في قوله : مُسَوَّمِين : كان عليهم عمايم بيض أرسلوها بين أكتافهم . وسمع غفاري في سحابة حمحمة الخيل وقائل يقول : أقدم حيزوم . قال رجل : يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ذاك ضَرْبُ الملائكة . لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر ، وإنما أتوا بالمدد » .
وفي تفسير الثعلبي : 4 / 234 : « قال أبو داود المازني وكان شهد بدراً : اتبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر ، فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل سيفي ! فعرفت أنه قتله غيري ! وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه ، قال : لقد رأيت يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف ! وقال ابن عباس : حدثني رجل عن بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ، ننتظر الواقعة على من يكون الدبرة ، فننتهب مع من ينتهب ! قال : فبينما نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلاً يقول : أقدم حيزوم . قال : فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات ، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت » .
وتاريخ الطبري : 2 / 152 . وسيأتي أنهم سلموا على علي ( عليه السلام ) لما ذهب ليلاً ليستقي .
--------------------------- 675 ---------------------------

7 . وكان الشيطان في معركة بدر

واتفقت الرواية على أنه جاء بصورة سراقة بن مالك زعيم بني مدلج ، ليُطَمْئِنَ قريشاً بأن كنانة لن يهاجموا مكة إن ذهبت قريش لحرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال ابن هشام : 2 / 445 : « لما أجمعت قريش المسير ، ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر فكاد ذلك يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة ، فقال : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه ، فخرجوا سراعاً » .
وفي أمالي الطوسي / 176 : « تمثل إبليس لعنه الله في أربع صور : تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال لقريش : لاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ .
وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى : إن محمداً والصباة معه عند العقبة فأدركوهم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للأنصار : لا تخافوا فإن صوته لن يعدوهم .
وتصور يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد ، وأشار عليهم في النبي ( صلى الله عليه وآله ) بما أشار ، فأنزل الله : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
وتصور يوم قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في صورة المغيرة بن شعبة فقال : أيها الناس لا تجعلوها كسروانية ولا قيصرانية ، وسعوها تتسع فلا تردُّوها في بني هاشم فتنتظر بها الحبالى » !
وفي المناقب : 1 / 163 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « كان إبليس في صف المشركين أخذ بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث : يا سُرَاقُ أين ، أتخذلنا على هذه الحالة ؟ ! فقال له : إني أرى مالاترون ، فقال : والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب « الجعسوس : القصير الذميم » فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس ! فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ! فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ! فقالوا : إنك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم ، فلما
--------------------------- 676 ---------------------------
أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان » .
وفي البحار : 19 / 342 عن عمارة الليثي قال : « حدثني شيخ صياد من الحي كان يومئذ على ساحل البحر قال : سمعت صياحاً : يا ويلاه يا ويلاه ، قد ملأ الوادي : يا حرْباه يا حرباه ! فنظرت فإذا سراقة بن جعشم فدنوت منه فقلت : مالك فداك أبي وأمي ؟ فلم يُرجع إليَّ شيئاً ! ثم أراه اقتحم البحر ورفع يديه ماداً يقول : يا رب ما وعدتني ! فقلت في نفسي : جُنَّ وبيت الله سراقة ! وذلك حين زاغت الشمس عند انهزامهم يوم بدر » .
وفي المناقب : 2 / 74 : « عن ابن عباس : لما تمثل إبليس لكفار مكة يوم بدرعلى صورة سراقة بن مالك ، وكان سائق عسكرهم إلى قتال النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأمرالله تعالى جبرئيل فهبط إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه ألف من الملائكة ، فقام جبرئيل عن يمين أمير المؤمنين ، فكان إذا حمل عليٌّ حمل معه جبرئيل ، فبصر به إبليس فولى هارباً وقال : إني أرى ما لا ترون ! قال ابن مسعود : والله ما هرب إبليس إلا حين رأى أمير المؤمنين فخاف أن يأخذه ويستأسره ويعرفه الناس فهرب ، فكان أول منهزم » !
أقول : يبدو أن هذا هو السبب في وضعهم حديث هروب الشيطان من عمر ! فقد رووا هروبه من علي ( عليه السلام ) في بدر ، فزعموا أنه كان يهرب من عمر كل عمره !
قال بخاري : 4 / 96 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاًّ « طريقاً » إلا سلك فجاً غير فجك » . وبذلك فضلوا عمر على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن بخاري نفسه روى عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ يقطع الصلاة عليَّ ، فأمكنني الله منه » . بخاري : 4 / 94 . راجع : ألف سؤال وإشكال : 2 / 474 .

8 . كان شعار المسلمين في بدر : يا نصر الله اقترب اقترب

ففي الكافي : 5 / 47 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « شعارنا : يا محمد يا محمد . وشعارنا يوم بدر : يا نصرالله اقترب اقترب . وشعار المسلمين يوم أحد : يا نصرالله اقترب . ويوم بني النضير : يا روح القدس أرح . ويوم بني قينقاع : يا ربنا لا يغلبُنَّك . ويوم الطائف : يا رضوان . وشعار يوم حنين : يا بني عبد الله . ويوم الأحزاب : حم لا يبصرون . ويوم
--------------------------- 677 ---------------------------
بني قريظة : يا سلام أسلمهم . ويوم المريسيع وهو يوم بني المصطلق : ألا إلى الله الأمر . ويوم الحديبية : ألا لعنة الله على الظالمين . ويوم خيبر يوم القموص : يا علي آتهم من عل . ويوم الفتح : نحن عباد الله حقاً حقاً . ويوم تبوك : يا أحد يا صمد . ويوم بني الملوح : أمت أمت . ويوم صفين : يا نصر الله .
وشعار الحسين ( عليه السلام ) : يا محمد . وشعارنا : يا محمد » .
وروي عنه ( عليه السلام ) : « قدم أناس من مزينة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ما شعاركم ؟ قالوا : حرام ، قال : بل شعاركم : حلال . وروي أن شعار المسلمين يوم بدر : يا منصور أمت ، ويوم أحد للمهاجرين : يا بني عبد الرحمن ، وللأوس : يا بني عبد الله » .
وفي جواهر الكلام : 21 / 55 : « ينبغي اتخاذ الشعار في الحرب ، وهو النداء الذي يعرف به أهلها ، فيكون علامة على ذلك » .

2 . معركة بدر فرقانٌ في تكوين الأمة الإسلامية

1 . حدد الله هدف معركة بدر

بقوله عز وجل : « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلامِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ .
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ . لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ . وَللهِ مَا فِي لسَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ »
فالهدف : إهلاك طرفٍ ، أي قطعة من قبائل قريش ، وكبْتُ الباقين وهزيمتهم !
وروي عن علي ( عليه السلام ) أنه قال : « أما بنو مخزوم فقطع الله دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين » . فتح الباري : 7 / 235 .
ورووا عن ابن عباس أنه سأل عمر عن هذه الآية : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ
--------------------------- 678 ---------------------------
كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ : « فقال من هم ؟ قال : هم الأفجران من بني مخزوم وبني أمية ، أخوالي وأعمامك ! فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر ، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين » . فتح الباري : 8 / 287 .
لكن معنى الآية : أن الله تعالى أراد أن يستأصل بعضهم سياسياً ، ويخرجهم من ساحة الصراع مع الإسلام ، بقتل زعمائهم ! لذلك لم نرَ لهم أي دور مهم في التاريخ ، وهم : بنو عبد الدار أصحاب راية قريش ، وقد قتل علي ( عليه السلام ) منهم في بدر وأحُد بضعة عشر قائداً ! كما استأصل الله بني المغيرة سياسياً ، وهم العائلة المالكة في بني مخزوم ، فقد انطفأت مخزوم بعد مقتل أبي جهل في بدر ، ولم يبرز منهم إلا خالد بن الوليد ! فعزله عمر سياسياً حتى مات في بيته في حمص ! ثم برز بعده ابنه عبد الرحمن وأحبه أهل الشام ، وطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده ، فقتله بالسم ! وبه انتهى بنو المغيرة سياسياً كلياً .
كما أراد عز وجل من معركة بدر أن يكبت الكافرين من قريش ، أي يخزيهم بالهزيمة والأسر ، ويمهل بعضهم ويتوب عليهم إن أسلموا وتابوا .
وقد عدَّهم الإمام الباقر ( عليه السلام ) من المُرْجَوْن لأمر الله فقال : « المرجَوْن : هم قوم قاتلوا يوم بدر وأحد ويوم حنين ، وسلِموا ، ثم أسلموا بعد تأخر ، فإما يعذبهم وإما يتوب عليهم » . تفسير العياشي : 2 / 110 .
ومعنى قوله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) : لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ . وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ : أنه يجب أن تتبع إرادة الله تعالى لأن الأمر له ، فهو صاحب العلم والحكمة المطلقيْن ، وله أهداف في الإنسان بقانون صراع الخير والشر .

2 . سمى الله بدراً يوم الفرقان

أي في تكوين الأمة المسلمة ، لأنه ميزها عن المشركين ، قال تعالى : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئْ قَدِيرٌ . الأنفال : 41 .
--------------------------- 679 ---------------------------
فهي الفرز الاجتماعي الضروري لتكوين أمة الإسلام وتمييزها عن غيرها ، حتى لو حدث فيها اختلاط بعد ذلك . ففي الأصول الستة عشر / 86 أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال عن بدر : « هو الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ، وهو اليوم الذي فرق الله بين الحق والباطل ، وإنما كان قبل ذلك اليوم هذا كذا ، ووضع كفيه أحدهما على الآخر . وإنما كان ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ خرج في طلب العير . وأهل بدر الذين شهدوا إنما كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ، ولم يريدوا القتال إنما ظنوا أنها العيرالتي فيها أبو سفيان ، فلما أتى أبو سفيان الوادي نزل في بطنه عن ميسرة الطريق ، فقال : إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى . قلت له : ما العُدوة الدنيا ؟ قال : مما يلي الشام ، والعدوة القصوى : مما يلي مكة . قلت : فالعدوتان بين ضفتي الوادي ؟ فقال : نعم . قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ونادى الشيطان على جبل مكة : إن هذا محمد في طلب العير ، فخرجوا على كل صعب وذلول » .
والراوي مهتم بالمكان ، والإمام ( عليه السلام ) يقصد الفرز الاجتماعي العقائدي ، ولأهمية هذا الفرقان خلده الله تعالى في شريعته ، فكانت ليلة بدر ويومها من الأوقات الفضيلة ، تستحب فيهما العبادة والغسل : « ليلة سبع عشرة من شهر رمضان ، وهي ليلة التقى الجمعان » . الحدائق : 4 / 180 وصححه .
وفي الطبراني الكبير : 9 / 221 : « التمسوا ليلة القدر لسبع عشرة خلت من رمضان صبيحة يوم بدر يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان . وفي إحدى وعشرين ، وفي ثلاث وعشرين ، فإنها لا تكون إلا في وتر » .

3 . بدر فرقانٌ في تكوين شيعة العترة

فقد شرع الله الخمس لقرابة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) قبل بدر ، لكنه ربطه بالإيمان بما أنزل يومها : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَاأَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . يقول عز وجل : أيها المختلفون على الغنائم ، المتهمون لنبيهم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ
--------------------------- 680 ---------------------------
وسرق منها ! إنكم مدينون بوجودكم وانتصاركم لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وقرابته « عليهم السلام » ، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بما عاينتم ! ألا ترون أن الملائكة وبني هاشم هم الذين حققوا النصر ، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة ؟ !
وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني « رحمه الله » / 341 : « فلما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة أنزل الله عليه : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى . . » .
قال البيضاوي : 3 / 109 : « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ : متعلق بمحذوف دل عليه : وَاعْلَمُوا . أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء ، فسلموه إليهم » .
وفي الكافي : 8 / 63 : « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ، فنحن والله عنى بذي القربى ، الذين قرننا الله بنفسه وبرسوله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفي كتاب سُلَيْم بن قيس « رحمه الله » / 228 : « قال سُلَيْم : ثم أقبل « علي ( عليه السلام ) » على العباس وعلى من حوله ثم قال : ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن ؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا فقال : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ » .
فالفرقان في سورة الفرقان بثلاث معان : فرقان الأمة وتمييزها عن غيرها . وفرقان الموالين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في أهل بيته من الأمة . وفرقان البصيرة للمؤمن ليميز بين الحق والباطل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا . الفرقان : 29 .

4 . كان تشريع الخمس قبل بدر

وإن نزلت آيته على أثر بدر ، ففي كتاب الأوائل للطبراني / 90 : « أول خمس خُمِّسَ عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مغانم عبد الله بن جحش » .
وفي الدرر / 100 : « ثم قدموا بالعير والأسيرين وقال لهم عبد الله بن جحش إعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ففعلوا فكان أول خمس في الإسلام » . ونحوه أسباب النزول للواحدي / 43 ، الطبقات : 2 / 75 ، تفسير الثعلبي : 2 / 140 ، البغوي : 1 / 189 ، الطبقات : 2 / 11 و 30 ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 69 والصحيح من السيرة : 4 / 335 .
--------------------------- 681 ---------------------------
كما اتفقت المصادر على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عيَّنَ مسؤولاً عن الخمس هومحمية بن جزء . ففي صحيح مسلم : 3 / 118 ، أن شابين من بني هاشم طلبا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يستعملهما على الصدقات فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس ! ادعوا لي محمية ، وكان على الخمس ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب . قال فجاءاه فقال لمحمية : أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن عباس فأنكحه ، وقال لنوفل بن الحارث : أنكح هذا الغلام ابنتك . وقال لمحمية : أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا » . ونحوه ابن هشام : 3 / 820 ، أحمد : 4 / 166 ، البيهقي : 7 / 31 ، فتح الباري : 11 / 9 ، ابن خزيمة : 4 / 56 ، الطبقات : 2 / 64 و 4 / 198 والإصابة : 6 / 37 .
أقول : كان تشريع الخمس قبل بدر ، لكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يأخذه في بدر خاصة ، ربما لأن بعضهم أساء الأدب واتهمه بأنه غلَّ قطيفة ! الصحيح من السيرة : 5 / 90 .
وفي تفسير القمي : 1 / 255 : « فلم يخمس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ببدر وقسمه بين أصحابه ثم استقبل يأخذ الخمس بعد بدر » . ومثله الشافعي في أحكام القرآن : 2 / 183 .
وقال البخاري وابن جرير وغيرهما إن غنائم بدر خمست . سيرة ابن كثير : 2 / 469 .

3 - خلاصة معركة بدر

1 . يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ !

في تفسير علي بن إبراهيم القمي : 1 / 256 : في قوله تعالى : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ . قال : « كان سبب ذلك أن عيراً لقريش خرجت إلى الشام فيها خزائنهم ، فأمر رسول الله أصحابه بالخروج ليأخذوها ، فأخبرهم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين إما العير وإما قريش أن أظفُر بهم ، فخرج في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ، فلما قارب بدر كان أبو سفيان في العير فلما بلغه أن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قد خرج يتعرض العير ، خاف خوفاً شديداً ومضى إلى الشام ، فلما وافى البَهْرة « موضع باليمامة » اكترى ضمضم الخزاعي بعشرة دنانير وأعطاه
--------------------------- 682 ---------------------------
قلوصاً وقال له : إمض إلى قريش وأخبرهم أن محمداً والصُّبَاة « المسلمين » من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فأدركوا العير ! وأوصاه أن يخرم ناقته ويقطع أذنها حتى يسيل الدم ويشق ثوبه من قبل ودبر ! فإذا دخل مكة ولى وجهه إلى ذنب البعير وصاح بأعلى صوته : يا آل غالب ، اللطيمة اللطيمة ، العير العير ، أدركوا أدركوا ، وما أراكم تدركون ! فإن محمداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم .

2 . منام عاتكة بنت عبد المطلب

« رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيام كأن راكباً قد دخل مكة ينادي : يا آل غُدر يا آل فهر ! أغدوا إلى مصارعكم صبح ثالث !
ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجراً فدهدهه من الجبل ، فما ترك من دور قريش إلا أصابها منه فلذة ، وكأن وادي مكة قد سال من أسفله دماً ! فانتبهت ذعرة فأخبرت العباس بذلك ، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة ، فقال عتبة : مصيبة تحدث في قريش ، وفشت الرؤيا في قريش ! وبلغ ذلك أبا جهل فقال : ما رأت عاتكة هذه الرؤيا ، وهذه نبية ثانية في بني عبد المطلب ! واللات والعزى لننتظر ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقاً فهو كما رأت ، وإن كان غير ذلك لنكتبن بيننا كتاباً أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ولا نساءً من بني هاشم !
فلما مضى يوم قال أبو جهل : هذا يوم قد مضى ، فلما كان اليوم الثاني قال أبو جهل : هذان يومان قد مضيا ، فلما كان اليوم الثالث وافى ضمضم ينادي في الوادي : يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة . . فتصايح الناس بمكة وتهيؤوا للخروج ، وقام سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأبو البختري بن هشام ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ونوفل بن خويلد ، فقالوا : يا معشر قريش والله ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه ، أن يطمع محمد والصباة من أهل يثرب أن يتعرضوا لعيركم التي فيها خزائنكم ، فوالله ما قرشي ولا قرشية إلا ولها في هذه العير شئ فصاعداً ، وإنه الذل والصغار أن يطمع محمد في أموالكم ويفرق بينكم وبين متجركم ، فأخرجوا » . تفسير القمي : 1 / 256 .
--------------------------- 683 ---------------------------

3 . أثرياء قريش يمولون الحرب

أخرج صفوان بن أمية خمس مائة دينار وجهز بها ، وأخرج سهيل بن عمرو خمس مائة ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرجوا مالاً ، وحملوا وقوَّوْا ، وخرجوا على الصعب والذلول ، ما يملكون أنفسهم ! كما قال الله تعالى : خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ، وأخرجوا معهم العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب . وأخرجوا معهم القينات . يشربون الخمر ، ويضربون بالدفوف !

4 . جيش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المتواضع الفقير

وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ، فلما كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بشير بن أبي الدعناء ، ومجد بن عمرو ، يتجسسان خبر العير ، فأتيا ماء بدر وأناخا راحلتيهما واستعذبا من الماء ، وسمعا جاريتين قد تشبثت إحداهما بالأخرى وتطالبها بدرهم كان لها عليها فقالت : عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا ، وهي تنزل غداً هاهنا ، وأنا أعمل لهم وأقضيك ، فرجع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبراه بما سمعا ، فأقبل أبو سفيان بالعير فلما شارف بدر تقدم العير وأقبل وحده حتى انتهى إلي ماء بدر ، وكان بها رجل من جهينة يقال له كسب الجهني فقال له : يا كسب هل لك علم بمحمد وأصحابه ؟ قال : لا : قال : واللات والعزى لئن كتمتنا أمر محمد لا تزال قريش معادية لك آخر الدهر ، فإنه ليس أحد من قريش إلا وله في هذه العير النش فصاعداً فلا تكتمني ، فقال : والله مالي علم بمحمد ، وما بال محمد وأصحابه بالتجار ، إلا أني رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا واستعذبا من الماء وأناخا راحلتيهما ورجعا ، فلا أدري من هما .
فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما ففت أبعار الإبل بيده فوجد فيها النوى فقال : هذه علايف يثرب ، هؤلاء عيون محمد ، فرجع مسرعاً وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر وتركوا الطريق ومروا مسرعين ، ونزل جبرئيل على
--------------------------- 684 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره أن العير قد أفلتت ، وأن قريشاً قد أقبلت لتمنع عن عيرها ، وأمره بالقتال ووعده النصر .
وكان نازلاً ماء الصفراء فأحب أن يبلو الأنصار لأنهم إنما وعدوه أن ينصروه في الدار ، فأخبرهم أن العير قد جازت ، وأن قريشاً قد أقبلت لتمنع عن عيرها ، وأن الله قد أمرني بمحاربتهم ، فجزع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك وخافوا خوفاً شديداً ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أشيروا عليَّ ، فقام الأول « أبو بكر » فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ، ما آمنتْ منذ كفرتْ ، ولا ذلت مند عزَّت ، ولم تخرج « أنت » على هيئة الحرب ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أجلس فجلس ، قال : أشيروا علي ، فقام الثاني « عمر » فقال مثل مقالة الأول ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أجلس فجلس !
ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراش لخضنا معك ، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ، ولكنا نقول : امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون ! فجزَّاهُ النبي ( صلى الله عليه وآله ) خيراً ثم جلس . ثم قال : أشيروا عليَّ ، فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا ؟ قال : نعم ، قال : فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره ؟ قال : نعم ، قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت ، والذي أخذت منه أحب إلي من الذي تركت منه ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ! فجزَّاه خيراً .
ثم قال سعد : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، والله ما خضت هذا الطريق قط ومالي به علم ، وقد خلفنا بالمدينة قوماً ليس نحن بأشد جهاداً منهم ، ولو علموا أنه الحرب لما تخلفوا ، ولكنا نَعُدُّ لك الرواحل ونلقى عدونا ، فإنا لصُبَّرٌ عند اللقاء أنجادٌ في الحرب ، وإنا لنرجو أن يقر الله عينك بنا ، فإن يك ما تحب فهو ذلك وإن يكن غير ذلك قعدت على رواحلك فلحقت بقومنا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أو يحدث الله غير ذلك ، كأني بمصرع
--------------------------- 685 ---------------------------
فلان هاهنا وبمصرع فلان هاهنا وبمصرع أبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومنبه ونبيه ابني الحجاج ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله الميعاد !
فنزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بهذه الآية : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ . . إلى قوله : وَلَوْكَرِهَ المُجْرِمُون . فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالرحيل حتى نزل عشاءً على ماء بدر وهي العدوة الشامية ، وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانية .

5 . عقلاء من بني عبد مناف ضد الحرب ، لكن !

ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام بن هاشم بن عبد المطلب فقال له : أما ترى هذا البغي ، والله ما أبصر موضع قدمي ! خرجنا لنمنع عِيرنا وقد أفلتت فجئنا بغياً وعدواناً ، والله ما أفلح قوم قط بغوا ، ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كله ولم نسر هذا المسير ! فقال له أبو البختري : إنك سيد من سادات قريش ، تَحَمَّل العير التي أصابها محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك ، فقال عتبة : أنت عليَّ بذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن حنظلة ، يعني أبا جهل ، فسر إليه وأعلمه أني قد تحملت العير التي قد أصابها محمد ، ودم ابن الحضرمي . فقال أبو البختري فقصدت خباءه فإذا هو قد أخرج درعاً له فقلت له : إن أبا الوليد بعثني إليك برسالة ، فغضب ثم قال : أما وجد عتبة رسولاً غيرك ؟ فقلت : أما والله لو غيره أرسلني ما جئت ولكن أبا الوليد سيد العشيرة ، فغضب أشد من الأولى فقال : تقول سيد العشيرة ! فقلت : أنا أقوله وقريش كلها تقوله ! إنه قد تحمل العير ودم ابن الحضرمي .
فقال : إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام ويتعصب لمحمد ! فإنه من بني عبد مناف وابنه معه « أبو حذيفة » ويريد أن يُخذِّل بين الناس ! لا ، واللات والعزى حتى نقتحم عليهم بيثرب ، ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك ، ولا يكونن بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه !
--------------------------- 686 ---------------------------

6 . خاف المسلمون من جيش قريش !

وبلغ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كثرة قريش ففزعوا فزعاً شديداً وبكوا واستغاثوا فأنزل الله على رسوله : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . « الأنفال / 9 - 10 » . فلما مشى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وَجَنَّهُ الليل ألقى الله على أصحابه النعاس حتى ناموا ، وأنزل الله تبارك وتعالى عليهم السماء ، وكان نزل الوليد في موضع لا يثبت فيه القدم ، فأنزل الله عليهم السماء حتى تثبت أقدامهم على الأرض ، وهو قول الله تعالى : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ . وذلك أن بعض أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) احتلم : وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ، وكان المطر على قريش مثل العزالى « كصب القرب » وكان على أصحاب رسول الله رذاذاً ، بقدر ما لبَّد الأرض .

7 . وخاف المشركون من المسلمين !

وخافت قريش خوفاً شديداً فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات ، فبعث رسول الله عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود فقال : أدخلا في القوم وأتياني بأخبارهم ، فكانا يجولان في عسكرهم لا يرون إلا خائفاً ذعراً ، إذا صهل الفرس وثب على جحفلته ! فسمعوا منبة بن الحجاج يقول :
لا يترك الجوع لنا مبيتا
لا بد أن نموت أو نميتا .
قال ( صلى الله عليه وآله ) : والله كانوا شباعى ولكنهم من الخوف قالوا هذا ، وألقى الله على قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى : سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ . فلما أصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عبأ أصحابه وكان في عسكره فرَسان : فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد ، وكان في عسكره سبعون جملاً يتعاقبون عليها ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وعلي بن أبي طالب على جمل ، يتعاقبون عليه والجمل لمرثد ، وكان في عسكر قريش أربع مائة فرس ، فعبأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه
--------------------------- 687 ---------------------------
بين يديه وقال : غضوا أبصاركم ، ولا تبدؤوهم بالقتال ، ولا يتكلمن أحد ، فلما نظر قريش إلى قلة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال أبو جهل : ما هم إلا أكلة رأس ، ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد ! فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كميناً ومدداً ؟ فبعثوا عمر بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً فجال بفرسه حتى طاف إلى معسكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم صعد الوادي وصوب ، ثم رجع إلى قريش فقال : ما لهم كمين ولا مدد ، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع ، أما ترونهم خرساً لا يتكلمون ، يتلمظون تلمظ الأفاعي ، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم ، وما أراهم يولون حتى يقتلون ، ولا يقتلون حتى يقتلون بعددهم ، فارتؤوا رأيكم ! فقال أبو جهل : كذبت وجبنت وانتفخ منخرك ، حين نظرت إلى سيوف يثرب !

8 . وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا

فزع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين نظروا إلى كثرة قريش وقوتهم ، فأنزل الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، وقد علم الله أنهم لايجنحون ولايجيبون إلى السلم وإنما أراد سبحانه بذلك ليطيِّب قلوب أصحاب رسول الله ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى قريش فقال : يا معشر قريش ما أحد من العرب أبغض إليَّ من أن أبدأ بكم ، خَلُّوني والعرب فإن أكُ صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً ، وإن أك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري ، فارجعوا .
فقال عتبة : والله ما أفلح قوم قط ردوا هذا ! ثم ركب جملاً له أحمر فنظر إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يجول في العسكر وينهى عن القتال ، فقال : إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، فإن يطيعوه يرجعوا ويرشدوا ، فأقبل عتبة يقول : يا معشر قريش اجتمعوا واستمعوا . ثم خطبهم فقال : يُمْنٌ رَحْبٌ فرحبٌ مع يمن . يا معشر قريش : أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، وارجعوا إلى مكة واشربوا الخمور وعانقوا الحور ، فإن محمداً له إلٌّ « عهد » وذمة ، وهو ابن عمكم
--------------------------- 688 ---------------------------
فارجعوا ولا تنبذوا رأيي ، وإنما تطالبون محمداً بالعير التي أخذها محمد بنخيلة ، ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعليَّ عقله . فلما سمع أبو جهل ذلك غاظه وقال : إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام ، ولئن رجعت قريش بقوله ليكونن سيد قريش آخر الدهر ، ثم قال : يا عتبة نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب وجبنت وانتفخ سحرك ، وتأمر الناس بالرجوع ، وقد رأينا ثارنا بأعيننا !
فنزل عتبة عن جمله وحمل علي أبي جهل وكان على فرس فأخذ بشعره ، فقال الناس : يقتله ، فعرقب فرسه وقال : أمثلي يُجَبَّن ، وستعلم قريش اليوم أينا ألأم وأجبن وأينا المفسد لقومه ، لا يمشي إلا أنا وأنت إلى الموت عياناً ! ثم قال : هذا حبائي وخياره فيه وكل جانٍ يده إلى فيه ! ثم أخذ بشعره يجره فاجتمع الناس فقالوا : يا أبا الوليد اللهَ اللهَ لا تَفُتَّ في أعضاد الناس ، تنهى عن شئ وتكون أوله ! فخلصوا أبا جهل من يده ، فنظر عتبة إلى أخيه شيبة ، ونظر إلى ابنه الوليد فقال : قم يا بنيَّ فقام ، ثم لبس درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه ، فلم يجدوها لعظم هامته ، فاعتم بعمامتين ثم أخذ سيفه وتقدم هو وأخوه وابنه ونادى : يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش ! فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار عَوْد ومُعَوَّد وعَوف من بني عفراء فقال عتبة : من أنتم ، انتسبوا لنعرفكم . فقالوا : نحن بنو عَفْرَا أنصار الله وأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال : ارجعوا فإنا لسنا إياكم نريد ، إنما نريد الأكفاء من قريش ! فبعث إليهم رسول الله أن ارجعوا فرجعوا ، وكره أن يكون أول الكرة بالأنصار ، فرجعوا ووقفوا موقفهم .

9 . أطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم

ثم نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان له سبعون سنة فقال له : قم يا عبيدة ، فقام بين يديه بالسيف ، ثم نظر إلى حمزة بن عبد المطلب فقال : قم يا عم ، ثم نظر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : قم يا علي وكان أصغرهم ، فقال : فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم ، قد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفي نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عبيدة عليك بعتبة ،
--------------------------- 689 ---------------------------
وقال لحمزة عليك بشيبة ، وقال لعلي عليك بالوليد بن عتبة . فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقال عتبة من أنتم ، إنتسبوا لنعرفكم ؟ فقال عبيدة : أنا عبيدة بن حارث بن عبد المطلب ، فقال كفوٌ كريم ، فمن هذان ؟ قال حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ، فقال : كفوان كريمان ، لعن الله من أوقفنا وإياكم هذا الموقف ! فقال شيبة لحمزة : من أنت ؟ فقال أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وقال له شيبة : لقد لقيت أسد الحلفاء ، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد الله ! فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة ففلق هامته ، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها وسقطا جميعاً ، وحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما ، وكل واحد يتقي بدرقته . وحمل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه ! فقال علي ( عليه السلام ) : فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض ! ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : ياعليُّ أما ترى الكلب قد أبهر عمك ! فحمل علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا عم طأطئ رأسك ، وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فطير نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه ، وحمل عبيدة بين حمزة وعلي ( عليه السلام ) حتى أتيا به رسول الله فنظر إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واستعبر ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست شهيداً ؟ فقال : بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي . قال : أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه ، قال وأي أعمامي تعني ؟ قال أبو طالب حيث يقول :
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً
ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرَّع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد لله بأرض الحبشة ؟ ! فقال : يا رسول الله أسخطتَ عليَّ في هذه الحالة ؟ فقال : ما سخطت عليك ، ولكن ذكرتَ عمي ، فانقبضت لذلك » .
--------------------------- 690 ---------------------------

10 . أبو جهل ينصح قريشاً !

وقال أبو جهل لقريش : لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر أبناء ربيعة ، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزراً ، وعليكم بقريش فخذوهم أخذاً حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التي كانوا عليها . . .
وجاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : أنا جاركم ، ادفعوا إليَّ رايتكم ، فدفعوها إليه وجاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول الله ، ويخيل إليهم ويفزعهم ، وأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية ، فنظر إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : غضوا أبصاركم ، وعضوا على النواجذ ، ولا تسلوا سيفاً حتى آذن لكم ، ثم رفع يده إلى السماء وقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد . ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العرق عن وجهه ويقول : هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين ، قال : فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق وريح ، قد وقعت على عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقائل يقول : أقدم حيزوم أقدم حيزوم ! وسمعنا قعقعة السلاح من الجو ! ونظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع ورمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال : ويلك يا سراقة تفتُّ في أعضاد الناس ، فركله إبليس ركلة في صدره وقال : إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ ! وهو قول الله : وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٌْ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ . . . قال وحمل جبرئيل ( عليه السلام ) على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر وقال : رب أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى يوم الدين !
وروي في الخبر أن إبليس التفت إلى جبرئيل وهو في الهزيمة فقال : يا هذا أبَدَا لكم فيما أعطيتمونا ؟ فقيل لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أترى كان يخاف أن يقتله ؟ فقال : لا ولكنه كان يضربه ضرباً يشينه منها إلى يوم القيامة !

11 . شاهت الوجوه !

وأنزل على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) : إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ
--------------------------- 691 ---------------------------
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ . قال أطراف الأصابع . وخرج أبو جهل من بين الصفين فقال : اللهم إن محمداً قطعنا الرحم وأتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة ! فأنزل الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَخَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ . ثم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كفاً من حصى فرمى به وجوه قريش وقال : شاهت الوجوه ! فبعث الله رياحاً تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم لايفلتنَّ فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام . فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون ، والتقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل بن هشام على فخذيه ، وضرب أبو جهل عمرو على يده فأبانها من العضد ، فتعلقت بجلدة فاتكأ عمرو على يده برجله ثم نزا في السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده ! وقال عبد الله بن مسعود : انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحط في دمه فقلت : الحمد لله الذي أخزاك ، فرفع رأسه فقال : إنما أخزى الله عبد بن أم عبد الله لمن الدين ويلك ؟ قلت : لله ولرسوله وإني قاتلك ! ووضعت رجلي على عنقه فقال : ارتقيت مرتقىً صعباً يارويعي الغنم ! أما إنه ليس شئ أشد من قتلك إياي في هذا اليوم إلا تولى قتلي رجل من المطيبين أو رجل من الأحلاف ! فاقتلعت بيضة كانت على رأسه ، فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : يا رسول الله البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام ، فسجد لله شكراً .

12 . أسرى من بني هاشم

وأسر أبو بشرالأنصاري العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ، وجاء بهما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : هل أعانك عليهما أحد ؟ قال : نعم رجل عليه ثياب بياض ، فقال رسول الله : ذاك من الملائكة ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : للعباس إفد نفسك وابن أخيك ، فقال : يا رسول الله قد كنت أسلمت ، ولكن
--------------------------- 692 ---------------------------
القوم استكرهوني ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقاً فإن الله يجزيك عليه ، وأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا . ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا عباس إنكم خاصمتم الله فخصمكم ، ثم قال : إفد نفسك وابن أخيك ، وقد كان العباس أخذ معه أربعين أوقية من ذهب ، فغنمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما قال للعباس إفد نفسك فقال : يا رسول الله إحسبها من فدائي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا ، ذاك أعطانا الله منك ، فأفد نفسك وابن أخيك ، فقال العباس : فليس لي مال غير الذي ذهب مني ، قال : بلى المال الذي خلفته عند أم الفضل بمكة فقلت لها إن حدث عليَّ حدث فاقسموه بينكم . فقال : ماتتركني إلا وأنا أسأل الناس بكفي !
فأنزل الله على رسوله في ذلك : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَإِنْ يُريِدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . الأنفال / 70 - 71 .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعقيل : قد قتل الله يا أبا يزيد : أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشىبة بن ربيعة ، ونبيه ومنبه ابني الحجاج ، ونوفل بن خويلد ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط ، وفلاناً وفلاناً . فقال عقيل : إذاً لا تنازع في تهامة ، فإن كنت قد أثخنت القوم وإلا فاركب أكتافهم ! فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من قوله . وكان القتلى ببدر سبعين والأسرى سبعين ، قتل منهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سبعة وعشرين ولم يأسر أحداً ، فجمعوا الأسارى وقرنوهم في الحبال وساقوهم على أقدامهم ، وجمعوا الغنائم . وقتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال ، فمنهم سعد بن خثيمة ، وكان من النقباء .

13 . الرحيل من بدر إلى المدينة

« فرحل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونزل الأثيل عند غروب الشمس ، وهو من بدر على ستة أميال فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة وهما في قران واحد ، فقال النضر لعقبة : يا عقبة أنا وأنت من المقتولين ، فقال عقبة : من
--------------------------- 693 ---------------------------
بين قريش ؟ قال : نعم لأن محمداً قد نظر الينا نظرة رأيت فيها القتل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي عليَّ بالنضر وعقبة ، وكان النضر رجلاً جميلاً عليه شعر ، فجاء علي فأخذ بشعره فجره إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال النضر : يا محمد أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أجريتني كرجل من قريش ، إن قتلتهم قتلتني وإن فاديتهم فاديتني ، وإن أطلقتهم أطلقتني . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا رحم بيني وبينك ، قطع الله الرحم بالإسلام ، قدمه يا علي فاضرب عنقه ! فقال عقبة : يا محمد ألم تقل لا تُصبر قريش أي لا يقتلون صبراً ، قال : أفأنت من قريش ؟ إنما أنت علج من أهل صفورية ، لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له ، لست منها ! قدمه يا علي فاضرب عنقه ، فقدمه وضرب عنقه !
فلما قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) النضر وعقبة ، خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلهم فقاموا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا رسول الله قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين ، وهم قومك وأساراك ، هبهم لنا يا رسول الله وخذ منهم الفداء وأطلقهم ، فأنزل الله عليهم : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .
أقول : النص المتقدم لعلي بن إبراهيم « رحمه الله » وأكثره موافق لرواية المصادر السنية وقد ضمنه روايات عن المعصومين « عليهم السلام » ، كما في محاولة جبرئيل ضرب إبليس .
كما ضمنه رأيه في تفسير بعض الآيات كآية فداء الأسرى ، ولا نوافقه عليه ، لأنه جعل نزولها وتحليل الفداء للمسلمين بعد ستة أميال من المسير من بدر ، وقد تقدم في كلامه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) طلب من عمه العباس في بدر أن يفدي نفسه ، ومعناه أن تشريع الفداء كان من بدر ، ولم ينزل في طريق العودة منها !
مضافاً إلى الإشكال بأنه كيف يحلل الله شيئاً ثم يعاقب عليه ، فقد أحل لهم الفداء فكيف يعاقبهم بخسارة سبعين رجلاً منهم ! وستأتي مسألة أسرى بدر .
--------------------------- 694 ---------------------------

4 - أضواء من سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بدر

1 . رسالة أبي جهل إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

روى في الإحتجاج : 1 / 40 عن الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) أن أبا جهل أرسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رسالة قبيل بدر ، وهي : « يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة ، ورمت بك إلى يثرب ، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك ، إلى أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار جهنم ، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد ، لقصد آثارك ودفع ضرك وبلائك ، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ، ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك ، فيلجؤه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك ، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك ، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم باصطلامهم لك ، وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب ، كما يأتون على أموالك وعيالك ، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح !
وأُدِّيَتْ هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل ، وهكذا أُمِر الرسولُ ليُجبِّن المؤمنين ، ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للرسول : قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك ؟ قال : بلى . قال : فاسمع الجواب :
إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني ، ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني ، وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق ! لن يضر محمداً من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه .
قل له : يا أبا جهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان ، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن ، إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوماً ، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي ! وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان
--------------------------- 695 ---------------------------
وذكر عدداً من قريش في قليب بدر ، مقتولين ! أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين ، وأحملهم على الفداء الثقيل !
ثم نادى ( صلى الله عليه وآله ) جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الأخلاط : ألا تحبون أن أريكم مصارع هؤلاء المذكورين ، مصرع كل واحد منهم ؟
قالوا : بلى . قال : هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر ، وهناك البلاء الأكبر لأضع قدمي على مواضع مصارعهم ، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة ، ولا قليلاً ولا كثيراً !
فلم يَخُفَّ ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وحده قال : نعم بسم الله . فقال الباقون : نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ولا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لسائر اليهود : فأنتم ماذا تقولون ؟ فقالوا : نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لانَصَبَ لكم في المسير إلى هناك ، أخطوا خطوة واحدة ، فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك !
قال المسلمون : صدق رسول الله فلنُشَرَّفْ بهذه الآية ، وقال الكافرون والمنافقون : سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد ، وتصير دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه ! قال : فخطى القوم خطوة ثم الثانية ، فإذا هم عند بئر بدر ، فتعجبوا ! فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراع ، فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها ، قال : هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري ويجهز عليه عبد الله بن مسعود ، أضعف أصحابي .
ثم قال : إذرعوا من البئر من جانب آخر ثم من جانب آخر ثم من جانب آخر ، كذا وكذا ذراعاً وذراعاً ، وذكر أعداد الأذرع مختلفة ، فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هذا مصرع عتبة ، وهذا مصرع شيبة ، وذاك مصرع الوليد ، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ! وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم
--------------------------- 696 ---------------------------
ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم ، ونسب الموالي منهم إلى مواليهم .
ثم قال : أوقفتم على ما أخبرتكم به ؟ قالوا : بلى . قال : إن ذلك من الله لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوماً في اليوم التاسع والعشرين ، وعداً من الله مفعولاً ، وقضاءً حتماً لازماً .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم . فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الكتابة أذكر لكم . فقالوا : يا رسول الله فأين الدواة والكتف ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ذلك للملائكة ! ثم قال : يا ملائكة ربي أكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب ، واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفاً من ذلك ! ثم قال : يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها وأخرجوها واقرؤوها ، فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة قرأوها وإذا فيها ذكر ما قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك سواء لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر . فقال : أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم ، وشرفاً للمؤمنين منكم ، وحجة على أعدائكم ، فكانت معهم !
فلما كان يوم بدر ، جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا تزيد ولا تنقص ، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبتها الملائكة ، لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر ، فقبل المسلمون ظاهرهم ، ووكلوا باطنهم إلى خالقهم » .

2 . سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ

أنزل الله قبل بدر سورة القمر وأخبر فيها بأن قريشاً ستنهزم ! وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر : مصلتاً سيفه يتلو قوله تعالى : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . واشترك في حرب بدر بنفسه ، وقاتل قتالاً شديداً « الصحيح : 5 / 43 » . وكان ( صلى الله عليه وآله ) أخبرهم عن هزيمتهم في أول بعثته عندما طلبوا منه معجزة : « فقالوا له : يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ، ولا أحد من بيتك ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : وما تسألون ؟ قالوا
--------------------------- 697 ---------------------------
تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله على كل شئ قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق ؟ قالوا نعم . قال : فإني سأريكم ما تطلبون ، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير ، وأن فيكم من يطرح في القليب ، ومن يحزب الأحزاب ! ثم دعا ربه فأراهم ما طلبوا فازدادوا كفراً » ! نهج البلاغة : 2 / 157 .

3 . من أدعية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بدر وغيرها

وكان ( صلى الله عليه وآله ) يعلم أنه سيقاتل في بدر ، لكنه تألف أصحابه واستشارهم مرتين ، « فتح الباري 7 / 223 » أولاهما قبل حركته من المدينة ، والثانية عندما بلغه نجاة القافلة ومجئ قريش لحربه ، وذلك تطبيقاً لقوله تعالى : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ . ثم عزم ( صلى الله عليه وآله ) ولم يهتم لتخويف مرضى القلوب الذين قالوا : غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ . ولالجدل الصحابة المنهارين : كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ! وكان في سفره وفي ليلة بدر ويومها ، يدعو ربه تعالى .
ومن أدعيته ( صلى الله عليه وآله ) لما خرج من المدينة : « اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، وعراة فاكسهم ، وجياع فأشبعهم ، وعالةٌ فأغنهم من فضلك . قال : فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهراً ، للرجل البعير والبعيران ، واكتسى من كان عارياً ، وأصابوا طعاماً من أزوادهم ، وأصابوا فداء الأسرى » . الإمتاع : 12 / 178 .
وعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما نظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى كثرة المشركين وقلة المسلمين استقبل القبلة وقال : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض . فنزلت : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ » . الصحيح 5 / 35 .
وبات ( صلى الله عليه وآله ) في ليلة بدر يدعو : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فلما أن طلع الفجر نادى : الصلاة عباد الله ، فجاء الناس من تحت الشجر والجحف ، فصلى بنا رسول الله وحرض على القتال » . الطبري : 2 / 134 .
--------------------------- 698 ---------------------------
« ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده » القرطبي : 3 / 256 . وعن علي ( عليه السلام ) قال : « إغتنموا الدعاء عند خمسة مواطن : عند قراءة القرآن ، وعند الأذان ، وعند نزول الغيث ، وعند التقاء الصفين ، وعند دعوة المظلوم .
كان ( صلى الله عليه وآله ) إذا لقي العدو قال : اللهم إنك أنت عصمتي وناصري ومعيني . اللهم بك أصول وبك أقاتل . وكان ( صلى الله عليه وآله ) إذا لقي العدو عبأ الرجَّالة وعبأ الخيل والإبل .
كان ( صلى الله عليه وآله ) إذا زحف للقتال يعبئ الكتائب ويفرق بين القبائل ، ويقدم على كل قوم رجلاً ، ويصفف الصفوف ، ويكردس الكراديس ، ثم يزحف إلى القتال .
كان ( صلى الله عليه وآله ) إذا زحف للقتال جعل ميمنةً ، وميسرةً وقلباً يكون هو فيه ، ويجعل لها روابط ويقدم عليها مقدمين ، ويأمرهم بخفض الأصوات والدعاء ، واجتماع القلوب ، وشهر السيوف ، وإظهار العدة ، ولزوم كل قوم مكانهم ، ورجوع كل من حمل إلى مصافه بعد الحملة » . دعائم الإسلام : 1 / 371 .
وقال ابن مسعود : « ما سمعنا مناشداً ينشد حقاً له أشد مناشدة من محمد يوم بدر يقول : اللهم إني أنشدك ما وعدتني ، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد . ثم التفت كأن وجهه القمر فقال : كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية » . الزوائد : 6 / 82 .
وأراد بخاري أن يمدح أبا بكر فذمه ، فزعم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أفرط في الدعاء حتى نهاه أبو بكر ! قال في صحيحه : 6 / 54 : « قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في قبة : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم ! فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك ! وهو يَثب « يقفز » في الدرع ! فخرج وهو يقول : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر » ! وتعبيره لا يخلو من انتقاص النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وهم لا يتورعون عن الطعن في نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ، لمدح من يحبونه من الصحابة !

4 . وعطش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاستقى لهم علي ( ( ع ) )

لما وصلوا إلى بدر نزلوا على غير ماء لأن قريشاً سبقتهم إلى الماء ، أو لأن عين بدر كانت مملوكة كما يظهر . وعطش النبي ( صلى الله عليه وآله ) فذهب علي ( عليه السلام ) ليلاً وجاء له بالماء . وفي
--------------------------- 699 ---------------------------
الصباح أنزل الله عليهم المطر فاستقوا واغتسلوا ، وألقى الله عليهم النعاس فناموا ، وبقي النبي ( صلى الله عليه وآله ) تلك الليلة يصلي ويدعو ربه . وكانت ليلة جمعة .

5 . كانت وقعة بدر يوم جمعة

وفي يوم الجمعة يوم بدر صلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمسلمين الفجر وصفَّهم ، وأرسل إلى قريش يقترح عليهم الرجوع وعدم الحرب ، واستجاب له عتبة بن ربيعة لكن أبا جهل جَبَّنَه ! فأخذت عتبة الحمية وبرز هو وابنه الوليد وأخوه شيبة ، فبرز إليهم أبناء عفراء من الأنصار ، فأبوا وطلبوا أن يبرز إليهم أكفاءهم ، فاختار النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهم ثلاثة من بني هاشم ، علياً ، وحمزة ، وعبيدة ، ونصرهم الله تعالى على فرسان قريش . وبارز علي ( عليه السلام ) وحمزة عدة أخرى فقتلاهم ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين بالزحف وزحف معهم وقاتل ، وهزم الله المشركين شر هزيمة !
قال علي ( عليه السلام ) : « لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً . . كنا إذا احمرَّ البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه » . مكارم الأخلاق / 18 .
وكان علي ( عليه السلام ) في المعركة قرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ناولني كفاً من حصى ، فرمى بها في وجوههم وقال لهم : شاهت الوجوه ! فلم يبق أحد منهم إلا ولى الدبر لذلك منهزماً » . الدر النظيم / 152 .
وفي إعلام الورى / 169 : « فكثر الله المسلمين في أعين الكفار ، وقلل المشركين في أعين المؤمنين كيلا يفشلوا ، وأخذ رسول الله كفاً من تراب فرماه إليهم وقال : شاهت الوجوه ! فلم يبق منهم أحد إلا اشتغل بفرك عينيه » . وفي رواية « فما بقي أحد إلا امتلأت عينه من الحصباء ، وأفواههم ومناخرهم » . المناقب : 1 / 164 .
وفي الطبري : 2 / 150 : « ثم نفحهم بها وقال لأصحابه : شدوا ، فكانت الهزيمة » .
وفي الصحيح : 5 / 53 : « وبالمناسبة فإن عائشة قالت في حرب الجمل : ناولوني كفاً من تراب ، فناولوها فحثت في وجوه أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقالت :
--------------------------- 700 ---------------------------
شاهت الوجوه ، كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأهل بدر ! فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى ! وليعودنَّ وبالك عليكِ إن شاء الله ! وَنَظَرَتْ إلى علي ( عليه السلام ) وهو يجول بين الصفوف في حرب الجمل فقالت : أنظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله يوم بدر ، أما والله ما ينتظر بكم إلا زوال الشمس ، وهكذا كان » .
أقول : وزعموا أن أبا بكر كان مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في العريش ، لكن لم يكن عريش في بدر ، ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاتل وأبو بكر وعمر لم يقاتلا ، وذهبا إلى خلف !

6 . خاطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فراعنة المشركين

أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يُلقى قتلى المشركين في بئر مهجورة لاماء فيها ، ثم وقف عليهم وخاطبهم فأحياهم الله وسمعوه ، قال لهم : « لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ، أخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه ، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فقال له عمر : يا رسول الله ما خطابك لهامٍ قد صَدِيَتْ ؟
فقال له : مَهْ يا ابن الخطاب ! فوالله ما أنت بأسمع منهم ! وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد ، إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم » .
« فقال المنافقون : إن رسول الله يكلم الموتى ! فنظر إليهم فقال : لو أذن لهم في الكلام لقالوا : نعم ، وإن خير الزاد التقوى » . رواه الصدوق في الفقيه : 1 / 180 ، تصحيح الإعتقاد / 92 ، الصحيح من السيرة : 5 / 64 ، الطبري : 2 / 155 ، ابن هشام : 2 / 466 ، القرطبي : 7 / 377 وسمى منهم بضعة رجال .

7 . أبو جهل فرعون الفراعنة

كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يدعو على أبي جهل ويعتبره فرعون الفراعنة ، ويوم بدر أحاطت بأبي جهل قبيلته « ولما كان يومئذٍ ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالوا : أبو الحكم لايُخلص إليه ! فإن ابني ربيعة قد عجلا وبطرا ، ولم تُحام عليهما عشيرتهما ، فاجتمعت بنومخزوم فأحدقوا به فجعلوه في مثل الحرْجة ، وأجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلاً منهم فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة فصمد له علي ( عليه السلام ) فقتله وهو يراه أبا جهل ،
--------------------------- 701 ---------------------------
ومضى عنه وهو يقول : خذها وأنا ابن عبد المطلب !
ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة ، فصمد له حمزة وهو يراه أبا جهل فضربه فقتله وهو يقول : خذها وأنا ابن عبد المطلب !
ثم ألبسوها حرملة بن عمرو فصمد له علي ( عليه السلام ) فقتله ، وأبو جهل في أصحابه ! ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم ، فأبى أن يلبسها » ! مغازي الواقدي / 47 .
أقول : كان أبو جهل في المعركة محاطاً ببني مخزوم وغيرهم من قريش و : « لما اصطفت الخيلان يوم بدر رفع أبو جهل يده وقال : اللهم إنه أقطعنا للرحم ، أتانا بما لا نعرفه فأجئه بالعذاب ، فأنزل الله : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع » . القمي : 2 / 385 .
أي جاء تفسيرها . ولما اشتدت المعركة انشغل بنو مخزوم بأنفسهم ، وانفرجوا عن زعيمهم أبي جهل ، فاشترك في قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ ابن عفراء ، وأجهز عليه ابن مسعود أضعف أصحاب النبي ، كما أخبرالنبي ( صلى الله عليه وآله ) الدرر / 110 .
ووقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) على مصارع عتاة قريش بعد المعركة وخاطبهم : « جزاكم الله من عصابة شراً ، لقد كذبتموني صادقاً ، وخونتموني أميناً ! ثم التفت إلى أبي جهل فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحَّدَ الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى » أمالي الطوسي : 1 / 316 والزوائد : 6 / 91 .

8 . أبو حذيفة بن عتبة وابنه محمد

كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مسلماً مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان ابنه محمد شيعياً من أبطال فتح الشام ومصر . وفي الطبري : 2 / 156 : « لما أمر بهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يُلْقَوْا في القليب ، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب ، فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغني في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير ، فقال : يا أبا حذيفة لعلك دخلك من شأن أبيك شئ ، أو كما قال ؟ فقال : لا والله يا نبي الله ، ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد
--------------------------- 702 ---------------------------
الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك . قال فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) له بخير وقال له خيراً » .

9 . وخاطب علي ( ( ع ) ) طلحة في البصرة وقاضي القضاة

فعل علي ( عليه السلام ) بعد معركة الجمل في البصرة ، شبيهاً بما فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر . قال المفيد في الإرشاد : 1 / 256 : « فمر بكعب بن سور فقال : هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف يزعم أنه ناصر أمه ، يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعلم ما فيه ، ثم استفتح فخاب كل جبار عنيد ، أما إنه دعى الله أن يقتلني فقتله الله . أجلسوا كعب بن سور ، فأُجلس فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا كعب ، لقد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ؟ ثم قال : أضجعوا كعباً .
ومرَّ على طلحة بن عبيد الله فقال : هذا الناكث بيعتي والمنشئ الفتنة في الأمة والمُجْلب عليَّ ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي ! أجلسوا طلحة فأُجلس ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا طلحة بن عبيد الله ، قد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدتَ ما وعد ربك حقاً ! ؟ ثم قال : أضجعوا طلحة ، وسار . فقال له بعض من كان معه : يا أمير المؤمنين أتكلم كعباً وطلحة بعد قتلهما ؟ قال : أما والله إنهما لقد سمعا كلامي ، كما سمع أهل القليب كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم بدر » .

10 . أفطر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخالفه بعضهم فسماهم العصاة

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافراً أفطر . إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر ، فشربه وأفطر ، ثم أفطر الناس معه ، وتمَّ ناسٌ على صومهم ، فسماهم العصاة ! وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . الفصول المهمة : 1 / 691 .
وفي سنن النسائي : 4 / 177 : « فدعا بقدح من الماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون ، فأفطر بعض الناس وصام بعض ، فبلغه أن ناساً صاموا فقال : أولئك العصاة » ! لكن الشافعي برر للعصاة ووقف معهم فقال : « بلغه أن ناساً صاموا فقال : أولئك العصاة ،
--------------------------- 703 ---------------------------
فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله تعالى ، فأما من رأى الفطر مباحاً وصام وقويَ على ذلك ، فهو أعجب إليَّ » . الترمذي : 2 / 107 .
كما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يحرص على الإعتكاف في شهر رمضان ، فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : « كانت بدر في شهر رمضان ، فلم يعتكف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما كان من قابل اعتكف عشرين ، عشراً لعامه ، وعشراً قضاءً لما فاته » . الكافي : 4 / 175 .

5 . أضواء من سيرة علي ( ( ع ) ) في بدر

1 . أحس علي ( ( ع ) ) بالملائكة وسلموا عليه

بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) ليلة بدر ليستقي لهم ، فأحس بنزول مجموعات الملائكة ، ففي تفسير العياشي : 2 / 65 : « عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لما عطش القوم يوم بدر ، انطلق علي ( عليه السلام ) بالقربة يستقي وهو على القليب ، إذ جاءت ريح شديدة ثم مضت ، فلبث ما بدا له ، ثم جاءت ريح أخرى ثم مضت ، ثم جاءت أخرى كادت أن تشغله وهو على القليب ، ثم جلس حتى مضت ، فلما رجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بذلك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما الريح الأولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة ، والثانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة ، والثالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة ، وقد سلموا عليك وهم مدد لنا ، وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى حتى يقول : وَقَالَ إِنِّي بَرِيٌْ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ » .
وفي المناقب : 2 / 80 عن : « محمد بن ثابت بإسناده عن ابن مسعود ، والفلكي المفسر ، بإسناده عن محمد بن الحنفية قال : بعث رسول الله علياً في غزوة بدر أن يأتيه بالماء حين سكت أصحابه عن إيراده . . . وفي رواية : ما أتوا إلا ليحفظوك ، وقد رواه عبد الرحمن بن صالح بإسناده عن الليث وكان يقول : كان لعلي في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاث مناقب ، ثم يروي هذا الخبر ، قال الحميري :
وسلم جبريل وميكال ليلةً * عليه وإسرافيلُ حياه معربا
--------------------------- 704 ---------------------------
أحاطوا به في ردءة جاء يستقي * وكل على ألف بها قد تحزبا
ثلاثة آلافٍ ملائكَ سلموا * عليه فأدناهم وحِيّاً ومرحبا »
وفي أمالي الطوسي / 547 ، أنه ( عليه السلام ) قال حين ناشد المسلمين بعد قتل عثمان : « فهل فيكم من سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة ، وفيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ليلة القليب لما جئتُ بالماء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غيري ؟ ! قالوا : لا » .

2 . علمه الخضر « عليهما السلام » دعاء قبل بدر

ففي التوحيد للصدوق / 89 : « قال ( عليه السلام ) : رأيت الخضر ( عليه السلام ) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له : علمني شيئاً أُنصرُ به على الأعداء ، فقال : قل : يا هوَ ، يا من لا هوَ إلا هو . فلما أصبحت قصصتها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لي : يا علي عُلِّمْتَ الاسم الأعظم ، فكان على لساني يوم بدر . وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قرأ : قُلْ هُوَ الله أحَد ، فلما فرغ قال : يا هو ، يا من لا هو إلا هو ، اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين . وكان علي ( عليه السلام ) يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد ، فقال له عمار بن ياسر :
يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات ؟ قال : اسم الله الأعظم وعماد التوحيد لله
لا إله إلا هو ، ثم قرأ : شَهِدَ الله أنَّهُ لا إلهَ إِلَّا هُو ، وآخر الحشر ، ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال . وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه ، والله هوالمستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات » .
وهذا يدل على أن سر الاسم الأعظم وتأثيره إنما هو في من يعلمه ومن يدعو به .

3 . بدر أول معركة خاضها علي ( ( ع ) )

كانت معركة بدر أول حرب يخوضها علي ( عليه السلام ) ، وكان عمره نحو أربع وعشرين سنة ، على الرواية المشهورة بأن عمره عند البعثة عشر سنين ، وعلى رواية الإثنتي عشرة سنة يكون عمره ( عليه السلام ) ستاً وعشرين ، وكانت بدر بعد أربع عشرة سنة ونصفاً من البعثة .
ولم يشترك ( عليه السلام ) قبلها في حرب لكن كان له تجربتان في القتال في مكة بعد هجرة
--------------------------- 705 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) حيث كمن له فارسٌ في الليل ليفاجأه ويقتله : « فصاح علي به صيحة خرَّ على وجهه وجلله بسيفه » « المناقب 1 / 335 » فكانت هذه أول صيحة له وأول ضربة سيف !
ثم في طريق هجرته ( عليه السلام ) لما أرسلت قريش بضعة فرسان ليردوه ، يقودهم فارس معروف بفتكه ، فأدركوه قريب ضجنان : « فأهوى له جَنَاح بسيفه فراغ علي ( عليه السلام ) عن ضربته ، وتختله علي ( عليه السلام ) فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيَاً فيه حتى مسَّ كاثبة فرسه » ! أمالي الطوسي / 470 .
فكانت هذه ثاني ضربة لعلي ( عليه السلام ) ! والكاثبة : مجتمع الكتف . أي شقت ضربته كتف الفارس وبدنه ، حتى وصلت إلى مرتفع ظهر فرسه !
وفي نسخة المناقب : 2 / 312 أن سعد بن أبي وقاص رأى علياً يوم بدر : « يحمحم فرسه » وقد كان راجلاً ولم يكن عنده فرس ، فهو تصحيف لما رواه الخوارزمي في مناقبه / 158 ، عن سعد : « قال معاوية : أتحب علياً ؟ قلت : وكيف لا أحبه وقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، ولقد رأيته بارز يوم بدر وهو يُحمحم كما يحمحم الفرس ، ويقول :
ما تنقمُ الحرب العوان مني * بازلُ عامين حديثٌ سني
سنحْنَحْلُ الليل كأني جني * لمثل هذا ولدتني أمي !
فما رجع حتى خضب سيفه » . ومناقب ابن سُلَيْمان : 2 / 569 ، الصراط المستقيم : 2 / 4 ، الفايق : 1 / 95 ، ينابيع المودة : 1 / 158 ، النهاية لابن الأثير : 2 / 412 ، لسان العرب : 11 / 52 وفيه : يقول : أنا مستجمع الشباب مستكمل القوة . وابن هشام : 2 / 463 ، روى أن أبا جهل تمثل بهذا الشعر ! .

4 . سطع نجم علي ( ( ع ) ) في بدر

وبرز بطلاً فاق عمه حمزة « رحمه الله » ، حيث قتل قرينه ، وساعد حمزة على قتل قرينه : « وحمل أمير المؤمنين على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فأخرج السيف من إبطه ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : يا علي أما ترى
--------------------------- 706 ---------------------------
الكلب قد أبهر عمك ! فحمل علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فطرح نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه » . المناقب : 1 / 311 .
وفي الفصول المهمة لابن الصباغ : 1 / 315 ، أن المبارزة كانت بالترتيب : بارز عليٌّ ( عليه السلام ) الوليد ، ثم بارز حمزة عتبة ، ثم بارز عبيدة شيبة . « برز الوليد لعلي فقال : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقتله » . الطبقات : 2 / 23 وابن كثير : 2 / 414 .
ولم يذكر رواة السلطة أنه ( عليه السلام ) قتل قرن حمزة وأجهز على قرن عبيدة ، قالوا : « أما علي فلم يمهل الوليد أن قتله » . « ابن هشام 2 / 456 » ومعناه أنه برز مع صاحبيه لقرنيهما !
وفي الدر النظيم / 152 : « ثم بارز أمير المؤمنين ( عليه السلام ) العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه ، فلم يلبث إلا أن قتله . وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله ، وبرز بعده طعيمة بن عدي فقتله ، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش . ولم يزل ( عليه السلام ) يقتل واحداً منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين قتيلاً . وتولى كافة من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين الشطر الآخر ، وكان قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للشطر بمعونة الله تعالى له وتوفيقه وتأييده ونصره ، وكان الفتح له بذلك » .
وفي الإرشاد : 1 / 74 : « فاختلفا ضربتين أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واتقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين فأبانتها . فروي أنه كان يذكر بدراً وقتله الوليد فقال في حديثه : كأني أنظر إلى وميض خاتمه في شماله ، ثم ضربته ضربة أخرى فصرعته وسلبته ، فرأيت به ردعاً من خَلوق « طيب » فعلمت أنه قريب عهد بعرس » .
وفي إعلام الورى : 1 / 170 : « قتل علي ( عليه السلام ) ببدر من المشركين : الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان شجاعا فاتكاً ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية والد سعيد بن العاص ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، شجره بالرمح وقال : والله لاتخاصمنا في الله بعد اليوم أبداً ! ونوفل بن خويلد ، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بحبل وعذبهما يوماً إلى الليل ، وهو عم الزبير بن العوام .
--------------------------- 707 ---------------------------
ولما أجلت الوقعة قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من له علم بنوفل ؟ فقال ( عليه السلام ) : أنا قتلته ، فكبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه .
وروى جابر عن الباقر عن أمير المؤمنين « عليهما السلام » قال : لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم ، وقد قتلت الوليد بن عتبة ، إذ أقبل إليَّ حنظلة بن أبي سفيان ، فلما دنا مني ضربته بالسيف فسالت عيناه ، ولزم الأرض قتيلاً » .
« قتل ( عليه السلام ) من المشركين في بدر نصف السبعين وشارك في قتل النصف الآخر ! وقد عدَّ الشيخ المفيد ستة وثلاثين بأسمائهم ممن قتلهم علي ( عليه السلام ) ، وقال ابن إسحاق : أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي » . الصحيح من السيرة : 5 / 59 .
وفي كشف الغمة : 1 / 181 : « قال الواقدي في كتاب المغازي : جميع من يحصى قتله من المشركين ببدر تسعة وأربعون رجلاً ، منهم من قتله علي وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً ، شرك في أربعة وقتل بانفراده ثمانية عشر ، وقيل إنه قتل بانفراده تسعة بغير خلاف وهم : الوليد بن عتبة بن ربيعة خال معاوية قتله مبارزة ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية ، وعامر بن عبد الله ، ونوفل بن خويلد بن أسد وكان من شياطين قريش ، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه ، وعبد الله ابن المنذر بن أبي رفاعة ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، وحاجب بن السايب . وأما الذين شاركه في قتلهم غيره فهم : حنظلة بن أبي سفيان أخو معاوية وعبيدة بن الحارث ، وزمعة وعقيل ابنا الأسود بن المطلب .
وأما الذين اختلف الناقلون في أنه قتلهم أو غيره فهم : طعيمة بن عدي ، وعمير بن عثمان بن عمرو ، وحرملة بن عمرو ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العباس بن قيس ، وأوس الجمحي ، وعقبة بن أبي معيط صبراً ، ومعاوية بن عامر . فهذه عدة من قيل إنه قتلهم في هذه الرواية ، غير النضر بن الحارث فإنه قتله صبراً بعد القفول من بدر . هذا من طرق الجمهور .
فأما المفيد فقد ذكر في كتابه الإرشاد . . أثبت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتلهم ببدر من المشركين ، على اتفاق فيما نقلوه من
--------------------------- 708 ---------------------------
ذلك واصطلاح ، فكان ممن سموه . فذلك ستة وثلاثون رجلاً ، سوى من اختلف فيه ، أو شرك أمير المؤمنين فيه غيره ، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه . وعلى اختلاف المذهبين في تعيين عدة المقتولين ، فقد اتفقا على أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتل النصف ممن قتل ببدر أو قريباً منه !
وقال المفيد « رحمه الله » : فمن مختصرالأخبار التي قد جاءت بشرح ما أثبتناه ، ما رواه شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب ، قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس إلا المقداد بن الأسود ، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنه كان منتصباً في أصل شجرة يصلي ويدعو حتى الصباح » ! راجع في من قتلهم ( ( ع ) ) في بدر : شرح الأخبار : 1 / 263 ، أعيان الشيعة : 6 / 245 ، مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي / 199 ، شرح النهج : 18 / 19 وغيرها .

5 . يقاتل ثم يعود ليطمئن على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )

وكان جبرئيل ( عليه السلام ) يوجه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قتاله فكان يقاتل شوطاً ثم يرجع إلى مركزه ويدعو . ويظهر أنه بعد أن ألقى كف الحصى على المشركين ، واصل الدعاء حتى وقعت الهزيمة ، قال علي ( عليه السلام ) : « لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال ، ثم جئت مسرعا لأنظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما فعل . فجئت فإذا هو ساجد يقول : يا حي يا قيوم ، يا حي يا قيوم ، لا يزيد عليها . فرجعت إلى القتال ، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً . فذهبت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك ، حتى فتح الله عليه » . الصحيح من السيرة : 5 / 68 .
وروت ذلك عامة مصادرهم ، وفي بعضها أنه ( ( ع ) ) رجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مرتين ، كما في النسائي : 6 / 157 ، الطبقات : 2 / 26 ، الحاكم : 1 / 147 وصححه . وفي مجمع الزوائد : 10 / 147 ، أنها ثلاث مرات ، وكذا الثعالبي عن الترمذي ، وغيره .
وشارك النبي ( صلى الله عليه وآله ) في القتال ، وقال علي ( عليه السلام ) : « رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » .
مكارم الأخلاق / 18 .
--------------------------- 709 ---------------------------

6 . مدحه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بدر ورفع بيده

وأكد للمسلمين أنه وزيره ووليهم من بعده ، ففي الإحتجاج : 1 / 209 : « قال ( عليه السلام ) في احتجاجه على أعضاء شورى عمر : نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيده يوم بدر فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه وهو يقول : ألا إن هذا ابن عمي ووزيري فوازروه وناصحوه ، فإنه وليكم بعدي ، غيري ؟ قالوا لا » .

7 . وكان معه جبرئيل وميكائيل وعزرائيل ( ( عليهم السلام ) )

« وكان جبرئيل يقاتل عن يمين علي ( عليه السلام ) وميكائيل عن يساره ، وملك الموت قدامه » . « المناقب : 3 / 54 » . وسماه المشركون : الموت الأحمر . المناقب : 3 / 43 .
وسماه الطلقاء والمنافقون : قَتَّال العرب ، فعندما حمل الحسين ( عليه السلام ) على جيش عمر بن سعد الحسين في كربلاء وكانوا ثلاثين ألفاً ، قال لهم عمر بن سعد : « الويل لكم أتدرون من تبارزون ! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتَّال العرب فاحملوا عليه من كل جانب » . المناقب : 3 / 258 .
وسموه : قاتل الأحبة ، ففي جواهر الكلام : 21 / 331 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما زار عائشة بعد معركة الجمل : « انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له ، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار ، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن : هذا قاتل الأحبة ، فلم يقل لهن شيئاً وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها ، وسمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير لا والله وبلى والله ، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة ، فقال لها يا صفية فأتته مسرعة ، فقال ألا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني قاتل الأحبة ! ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه وأومأ إلى ثلاث حجر ! فذهبت إليهن وقالت لهن : فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت ولا قائمة إلا قعدت ! قال الأصبغ وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها ، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش ، وفي الأخرى عبد الله
--------------------------- 710 ---------------------------
بن الزبير وأهله ! فقيل للأصبغ : فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم ، أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلمَ استبقيتموهم ؟ ! قال : قد ضربنا والله بأيدينا إلى قوائم سيوفنا ، وأحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل وأوسعهم عفواً » .

8 . كانت بدر ثالث امتحان لأمير المؤمنين ( ( ع ) )

تحدث أمير المؤمين ( عليه السلام ) عن بدر في مناسبات ، واعتبرها أحد امتحاناته الربانية السبعة التي وفقه الله للنجاح فيها ، فقال له حبر يهودي إن كتبنا تقول إن وصي هذا النبي يمتحن في حياته وبعد وفاته ، فأخبرني كم هذه الإمتحانات وما هي ؟ فأجابه ( عليه السلام ) : « وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن ابني ربيعة وابن عتبة ، كانوا فرسان قريش ، دَعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع صاحبيَّ رضي الله عنهما وقد فعل ، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة ، سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي . واستشهد ابن عمي في ذلك « رحمه الله » » . الخصال / 367 .
وذكر ( عليه السلام ) بدراً ، رداً على قولهم إنهم بايعوا أبا بكر يوم السقيفة خوفاً على الإسلام فقال ( عليه السلام ) : « ما لنا ولقريش ؟ وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيَّد الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى الله فوق رؤوسهم رؤوسنا ، واختارنا الله عليهم فنقموا عليه أن اختارنا عليهم ! وسخطوا ما رضي الله وأحبوا ما كره الله ! فلما اختارنا عليهم شركناهم في حريمنا وعرفناهم الكتاب والسنة ، وعلمناهم الفرايض والسنن وحفظناهم الصدق واللين ، وديَّناهم الدين والإسلام ، فوثبوا علينا وجحدوا فضلنا ومنعونا حقنا ، وأَلَتُونا أسباب أعمالنا !
اللهم فإني أستعديك على قريش فخُذ لي بحقي منها ، ولا تدع مظلمتي لها ، وطالبهم يا رب بحقي ، فإنك الحكم العدل .
يا معشر المهاجرين والأنصار : أين كانت سبقة تيمٍ وعديٍّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة ؟ ألا كانت يوم الأبواء إذ تكاتفت الصفوف وتكاثرت الحتوف
--------------------------- 711 ---------------------------
وتقارعت السيوف ؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد وُدّ ، وقد نفح بسيفه وشمخ بأنفه وطمح بطرفه ! وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر إذ الأرواح في الصَّعْداء ترتقي ، والجياد بالصناديد ترتدي ، والأرض من دماء الأبطال ترتوي ؟
ثم عدَّد ( عليه السلام ) وقايع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقرَّعهما بأنهما في كل هذه المواقف كانا مع النظارة ! ثم قال : ما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا من قريش ؟ أنا صاحب هذه المشاهد وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال الحميدة . . . » . المناقب : 2 / 46 .
وذكر ( عليه السلام ) بدراً ، في رسالة إلى معاوية : « فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحلسونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل . ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه ، بحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان آمن . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا احمر البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة ! فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أحد ، وقتل جعفر يوم مؤتة . وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة ، ولكن آجالهم عُجلت ، ومنيته أُجلت .
فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ،
والحمد لله على كل حال » . نهج البلاغة : 3 / 8 .
وفي رسالة له ( عليه السلام ) إلى معاوية : « وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانباً واخرج إليَّ واعف الفريقين من القتال ، ليعلم أينا المرين على قلبه والمغطى على بصره ! فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوي ، ما استبدلت ديناً ولا استحدثت نبياً . وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ، ودخلتم فيه مكرهين » . نهج البلاغة : 11 / 8 .
وفي رسالة له ( عليه السلام ) إلى معاوية أيضاً : « فأنا ابن عبد المطلب صاحب ذلك
--------------------------- 712 ---------------------------
السيف ، وإن قائمه لفي يدي ، وقد علمتَ من قتلتُ من صناديد بني عبد شمس ، وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم ، وأيتمت أبناءهم وأيَّمت نساءهم ، وأذكرك ما لست له ناسياً يوم قتلت أخاك حنظلة وجررت برجله إلى القليب ، وأسرت أخاك عمراً فجعلت عنقه بين ساقيه رباطاً ، وطلبتك ففررت ولك حصاص » « نهج السعادة : 4 / 213 » . والحصاص : ركض الشيطان إذا سمع الأذان ، وركض الكلب إذا اشتد عدوه وهو يمصع بذنبه - نهاية ابن الأثير : 1 / 396 .

9 . نزل جبرئيل بذي الفقار على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بدر

1 . نزل به جبرئيل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
ففي الكافي : 1 / 234 و 8 / 267 ، وأمالي الصدوق / 364 « عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « سألته عن ذي الفقار سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أين هو ؟ قال : هبط به جبرئيل من السماء ، وكانت حليته من فضة ، وهو عندي » .
وفي الاحتجاج : 1 / 200 أن علياً ( عليه السلام ) قال في احتجاجه على أعضاء شورى عمر : « نشدتكم بالله هل فيكم أحد نوديَ باسمه من السماء يوم بدر : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا عليٌّ ، غيري ؟ قالوا : لا » .
وفي الفقيه للصدوق : 4 / 178 : « كان له سيفان ، يقال لأحدهما ذو الفقار والأخرى : العون ، وكان له سيفان آخران يقال لأحدهما : المخذم ، والآخر الرسوم » .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 88 : « وكان رسم رايته العقاب ، وكانت سوداء على عمل الطيلسان ، وكان له سيف يقال له المخدام وسيف يقال له الرسوب ، وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار ، وقد روي أن جبريل نزل به من السماء ، فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبراً ، وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة ، وفيه حلقتان فضة ، ورمحه المثوي حربته العنزة ، وكان يمشي بها في الأعياد بين يديه ويقول : هكذا أخلاق السنن ، وقوسه الكتوم وكنانته الكافور ، ونبله المتصلة ، وترسه الزلوق ، ومغفره السبوع ، ودرعه ذات الفضول وفيها زردتان زائدتان ، وفرسه السكب ،
--------------------------- 713 ---------------------------
وفرس آخر المرتجز ، وفرس آخر السجل ، وفرس آخر البحر » .
2 . سُمِّيَ ذو الفقار لفقراته ولأنه يفقر من ضرب به
في علل الشرائع : 1 / 160 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنما سمي سيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذا الفقار ، لأنه كان في وسطه خط في طوله ، فشبه بفقار الظهر ، فسميَ ذا الفقار بذلك ، وكان سيفاً نزل به جبرئيل ( عليه السلام ) من السماء ، وكانت حلقته فضة ، وهو الذي نادى به مناد من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي .
وروي أنه سمي ذا الفقار ، لأنه ما ضرب به أحدٌ إلا افتقر في الدنيا والآخرة ، وهو معنى منتزع من اسمه .
وفي المناقب : 3 / 81 : « عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إنما سمي سيف أمير المؤمنين ذو الفقار ، لأنه كان في وسطه خطة في طوله مشبهة بفقار الظهر . وزعم الأصمعي أنه كان فيه ثماني عشرة فقرة . تاريخ أبي يعقوب : كان طوله سبعة أشبار ، وعرضه شبر ، وفي وسطه كالفقار . قال ابن حماد :
فأنزل الله ذا الفقار له * مع جبرئيل الأمين منتجبا
وقيل إن النبي ناوله * جريدة رطبة لها اجتلبا
فانقلبت ذا الفقار في يده * كرامة من إلهه وحبا
سيف يكون الإله طابعه * فكيف ينبو وأن يقال نبا
وقال الزاهي :
من هزم الجيش يوم خيبره * وهز باب القموص واقتلعه
من هز سيف الإله بينكم * سيف من النور ذو العلى طبعه
أبو عبد الله ( عليه السلام ) : نظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي .
القاضي أبو بكر الجعاني بإسناده عن الصادق ( عليه السلام ) : نادى ملك من السماء يوم أحد يقال له رضوان : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، ومثله في إرشاد المفيد ، وأمالي الطوسي عن عكرمة وأبي رافع . وقد رواه السمعاني في فضائل
--------------------------- 714 ---------------------------
الصحابة ، وابن بطة في الإبانة ، إلا انهما قالا : يوم بدر . قال أحمد بن علوية :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا أبو حسن فتى الفتيان
قال النبي أما علمت بأنه * مني ومنه أنا وقد أبلاني
جبريل قال له واني منكما * فمضى بفضل خلاصة الخلان
وقال أبو مقاتل بن الداعي العلوي :
ومن مشى جبريل مع ميكاله * عن جانبيه في الحروب إذا مشى
ومن ينادي جبرئيل معلناً * والحرب قد قامت على ساق الردى
لا سيف إلا ذو الفقار فاعلموا * ولا فتى إلا علي في الورى
وقال الزاهي :
لا فتى في الحروب غير علي * لا ولا صارم سوى ذي الفقار
وقال العوني :
من صاح جبريل بالصوت العلي به * دون الخلائق عند الجحفل اللجب
فخرا ولا سيف إلا ذو الفقار ولا * غير الوصي فتى في هفوة الكرب
وقال منصور الفقيه :
من قال جبرئيل والأرماح شارعة * والبيض لامعة والحرب تشتعل
لا سيف يذكر إلا ذو الفقار ولا * غير الوصي إمام أيها الملل
وقال آخر :
جبريل نادى في الوغى * والنقع ليس بمنجل
والمسلمون بأسرهم * حول النبي المرسل
والخيل تعثر بالجما * جم والوشيح الذيل
هذا النداء لمن له * الزهراء ربة منزل
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
وقال غيره :
--------------------------- 715 ---------------------------
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا علي للطغاة طعون
ذاك الوصي فما له من مشبه * فضلاً ولا في العالمين قرين
ذاك الوصي وصي أحمد في الورى * عف الضماير للإله أمين
وقال آخر :
من كان يمدح ذا ندى لنواله * فالمدح مني للنبي وآلهِ
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى * إلا علي في أوان قتالهِ
نادى النبي له بأعلى صوته * يا رب من والى علياً والهِ » .
3 . أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى
في معاني الأخبار للصدوق / 119 : « إن أعرابياً أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخرج إليه في رداء ممشق فقال : يا محمد لقد خرجت إليَّ كأنك فتى . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : نعم يا أعرابي أنا الفتى ، ابن الفتى ، أخو الفتى . فقال : يا محمد ، أما الفتى فنعم ، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى ؟ فقال : أما سمعت الله عز وجل يقول : قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، فأنا ابن إبراهيم ، وأما أخو الفتى فإن منادياً نادى في السماء يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، فعلي أخي وأنا أخوه » .
4 . ما ضربت به أحداً إلا ودخل النار !
كتب ( عليه السلام ) إلى حاكمٍ خان بيت المال : « فسبحان الله ، أما تؤمن بالمعاد ؟ أو ما تخاف نقاش الحساب ؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب ! كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً ؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين ، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد . فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك ، لأعذرن إلى الله فيك ، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار » ! نهج البلاغة : 3 / 62 .
--------------------------- 716 ---------------------------
5 . قىل كان يَعْوَجُّ فيقيمه علي ( عليه السلام ) بركبته
وفي شرح النهج : 2 / 282 في حربه ( عليه السلام ) للخوارج : « التفت إلى أصحابه فقال لهم : شدوا عليهم فأنا أول من يشد عليهم . وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ، ثم يخرج فيسويه بركبتيه ، ثم يحمل به » .
6 . انكسر سيفه يوم أحد فأعطاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذا الفقار
في علل الشرائع : 1 / 7 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال في أحُد : « وكان علي ( عليه السلام ) كلما حملت طائفة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استقبلهم وردهم حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه . فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال يا رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه سيفه ذا الفقار ، فما زال يدفع به عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى أثر وانكسر ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) وقال : يا محمد ، إن هذه لهي المواساة من علي لك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل وأنا منكما . وسمعوا دوياً من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي » .
الخرائج : 1 / 148 قال علي ( عليه السلام ) : « انقطع سيفي يوم أحد فرجعت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : إن المرء يقاتل بسيفه ، وقد انقطع سيفي ، فنظر إلى جريدة نخل عتيقة يابسة مطروحة فأخذها بيده ، ثم هزها فصارت سيفه ذا الفقار فناولنيه ، فما ضربت به أحداً إلا وقده بنصفين » .
أقول : يظهر من ذلك أن سر ذي الفقار من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنه كان له وقد يعطيه لعلي ( عليه السلام ) في المعركة ، ولما انكسر في أحد عوض الله نبيه بأن أمره أن يهز جريدة النخل اليابسة ، فكانت ذا الفقار بنفس خصائصه . وروي أنه ( صلى الله عليه وآله ) أعطاه لعلي ( عليه السلام ) لما برز إلى عمرو بن ود ، بعد أحُد بستين .
وفي المناقب : 3 / 81 : « وقد روى كافة أصحابنا أن المراد بهذه الآية : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ ، ذو الفقار أنزل به من السماء على النبي فأعطاه علياً .
وسئل الرضا ( عليه السلام ) من أين هو ؟ فقال : هبط به جبرئيل من السماء ، وكان حلية من فضة وهو عندي . وقيل : أمر جبرئيل أن يتخذ من صنم حديد في اليمن فذهب علي
--------------------------- 717 ---------------------------
وكسره واتخذ منه سيفين : مخذم ، وذا الفقار وطبعهما عمير الصيقل ، وقيل : صار إليه يوم بدر أخذه من العاص بن منبه السهمي وقد قتله ، وقيل : كان من هدايا بلقيس إلى سُلَيْمان ، وقيل : أخذه من منبه بن الحجاج السهمي في غزاة بني المصطلق بعد أن قتله ، وقيل : كان سعف نخل نفث فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فصار سيفاً ، وقيل : صار إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم بدر فأعطاه علياً ( عليه السلام ) ، ثم كان مع الحسن ، ثم مع الحسين ، إلى أن بلغ المهدي ( عليه السلام ) » .
والذي أرجحه أن ذا الفقار نزل من السماء ، ولكنه كان قابلاً للكسركأي سيف ، فانكسر بيد علي ( عليه السلام ) مرات ، وعوضه الله بسعفة نخل صارت بيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذا الفقار .
وفي إحداها أمر نبيه بأن يصنعه من حديد هو قاعدة صنم في اليمن وأصل ذلك الحديد من سليمان ( عليه السلام ) ، فبعث علياً ( عليه السلام ) وأتى به وأعطاه للحداد فصنع منه ذا الفقار .
ففي بصائر الدرجات / 206 : « عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : جاء جبرئيل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال يا محمد ، إن باليمن صنماً من حجارة ، له مقعد من حديد ، فابعث إليه حتى يجاء به ، قال فبعثني النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى اليمن فجئت بالحديد ، فدفعته إلى عمر الصيقل ، فضرب عنه سيفين ذا الفقار ومُخَذَّماً ، فتقلد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مخذماً وقلدني ذا الفقار ، ثم إنه صار إليَّ بعدُ مخذم » .
أقول : ظاهر قوله تعالى : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ ، أنه نازل من السماء ، وقيل إنه غبار من كواكب أخرى . وورد أن للمهدي ( عليه السلام ) أنصاراً من كواكب أخرى حديدهم ليس كحديدكم ، فيبدو أن حديد ذي الفقار يختلف عن الحديد العادي ، وقد روي أن ضربته تترك أثراً كالكي بالنار ، ولم أعثر عليها الآن ، وهي من روايات صفين .
7 . وقاتلَ الحسين ( عليه السلام ) بذي الفقار يوم عاشوراء
في أمالي الصدوق / 222 : « ثم وثب الحسين ( عليه السلام ) متوكئاً على سيفه ، فنادى بأعلى صوته ، فقال : أنشدكم الله ، هل تعرفوني ؟ قالوا : نعم ، أنت ابن رسول الله وسبطه . . قال : فأنشدكم الله ، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنا
--------------------------- 718 ---------------------------
متقلده ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : فأنشدكم الله ، هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنا لابسها ؟ قالوا : اللهم نعم . . قال : فبم تستحلون دمي ، وأبي الذائد عن الحوض غداً ، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادي عن الماء ، ولواء الحمد في يدي جدي يوم القيامة ؟ قالوا : قد علمنا ذلك كله ، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً ! فأخذ الحسين ( عليه السلام ) بطرف لحيته ، وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة ، ثم قال : اشتد غضب الله على قوم قتلوا نبيهم ، واشتد غضب الله على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم » .
8 . ذو الفقار في مواريث النبي ( صلى الله عليه وآله )
في الكافي : 1 / 236 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تباري الريح ، قال : فأطرق ( صلى الله عليه وآله ) هنيئة ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح . قال : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثم قال : يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي . قال العباس : فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال : تختم بهذا في حياتي ، قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم . ثم صاح : يا بلال عليَّ بالمغفر ، والدرع ، والراية ، والقميص ، وذي الفقار ، والسحاب ، والبرد ، والأبرقة ، والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك - يعني الأبرقة - فجييء بشقة كادت تخطف الأبصار ، فإذا هي من أبرق الجنة فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها ، وقال : يا محمد اجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة . ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميصين القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر ، وقلنسوة العيدين والجمع ، وقلنسوة كان
--------------------------- 719 ---------------------------
يلبسها ويقعد مع أصحابه . ثم قال : يا بلال علي بالبغلتين : الشهباء والدلدل ، والناقتين : العضباء والقصوى ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وحيزوم ، وهو الذي كان يقول أقدم حيزوم ، والحمار عفير ، فقال : أقبضها في حياتي . فذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إن أول شيء من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قطع خطامه ثم مر يركض ، حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها ، فكانت قبره » .
9 . ذو الفقار من علامات الإمام ( عليه السلام )
في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) « عليهم السلام » 1 / 192 قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « للإمام علامات : يكون أعلم الناس وأحكم الناس وأتقى الناس وأحلم الناس وأشجع الناس وأسخى الناس وأعبد الناس . . ويكون عنده سلاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسيفه ذو الفقار » .
10 . طلبه المسور ابن مخرمة من الإمام زين العابدين ( عليه السلام )
ففي مسند أحمد : 4 / 226 والبخاري : 4 / 47 : « ابن شهاب أن علي بن حسين حدثه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية ، مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه لقيه المسور بن مخرمة فقال له : هل لك إلي من حاجة تأمرني بها ؟ فقلت له : لا ، فقال : فهل أنت معطي سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه . وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليهم أبداً حتى تبلغ نفس » .
وفي فتح الباري : 6 / 149 : « والذي يظهر أن المراد بالسيف المذكور ذو الفقار الذي تنفله يوم بدر ، ورأى فيه الرؤيا يوم أحد » .
وذكر ابن حجروغيره أن غرض المسور حفظ السيف له إكراماً لجدته فاطمة « عليها السلام » .
11 . وقالوا إنه كان سيف منبه بن الحجاج
قال البلاذري في أنساب الأشراف : 1 / 14 : « وأما نبيه فقتله علي بن أبي طالب . وقتل أيضاً العاص بن منبه ، وكان صاحب ذي الفقار ، سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وذلك الثبت . وبعضهم يقول : إنه كان سيف منبه » .
--------------------------- 720 ---------------------------
وقال الواقدي في المغازي : 1 / 103 : « عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : تنفل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيفه ذا الفقار يومئذٍ ، وكان لمنبه بن الحجاج » .
وقال الطبري : 2 / 172 : « وفي غزوة بدر انتقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيفه ذا الفقار وكان لمنبه بن الحجاج . وفيها غنم جمل أبي جهل ، وكان مهرياً يغزو عليه » .
أقول : لعلهم وضعوا هذه الروايات ليسلبوا علياً فضيلة نزول ذي الفقار من السماء .
12 . وادعاه العباسيون والحسنيون
قال العيني في عمدة القاري : 15 / 33 : « ولم يزل ذو الفقار عنده ( صلى الله عليه وآله ) حتى وهبه لعلي رضي الله تعالى عنه قبل موته ثم انتقل إلى آله . وكانت له عشرة أسياف منها : ذو الفقار ، تنفله يوم بدر » .
وفي الطبري : 6 / 219 : « الأصمعي قال : رأيت الرشيد أمير المؤمنين بطوس متقلداً سيفاً فقال لي : يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار ؟ قلت بلى جعلني الله فداك ، قال : استل سيفي هذا ، فاستللته فرأيت فيه ثمان عشرة فقارة » .
وفي وفيات الأعيان : 6 / 330 : « كان سبب وصوله إلى هارون الرشيد فيما ذكره أبو جعفر الطبري بإسناد متصل إلى عمر بن المتوكل عن أمه وكانت أمه تخدم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قالت : كان ذو الفقار مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم قتل في محاربته لجيش أبي جعفر المنصور العباسي والواقعة مشهورة ، فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه وكان له عليه أربع مائة دينار وقال له خذ هذا السيف ، فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه منك وأعطاك حقك » .
وفي الكافي : 1 / 233 : قيل للإمام الصادق ( عليه السلام ) إن شخصين يزعمان أن عبد الله بن الحسن عنده سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : « والله ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه ، ولا رآه أبوه ، اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين ، فإن كانا صادقين فما علامة في مقبضة ، وما أثر في موضع مضربه !
--------------------------- 721 ---------------------------
وإن عندي لسيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن عندي لراية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودرعه ولأمته ومغفره ، فإن كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟
وإن عندي لراية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المغلبة ، وإن عندي ألواح موسى وعصاه ، وإن عندي لخاتم سُلَيْمان بن داود ، وإن عندي الطست الذي كان موسى يقرب به القربان ، وإن عندي الاسم الذي كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة . وإن عندي لمِثْل التابوت الذي جاءت به الملائكة . ومَثَلُ السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل ، في أي أهل بيت وجد التابوت على أبوابهم أوتوا النبوة ، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة ، ولقد لبس أبي درع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخطت على الأرض خطيطاً ولبستها أنا فكانت وكانت ، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله » .
وصححه المجلسي الأول في روضة المتقين : 12 / 243 وقال : « وفي البصائر في الموثق كالصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لبس أبي درع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذات الفضول فخطت ، ولبستها أنا ففضلت » .
إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة المتواترة فيما تقدم .
وفي بصائر الدرجات / 205 : « أتاني إسحاق بن جعفر فعظم عليّ بالحق والحرمة السيف الذي أخذه هو سيف رسول الله . فقلت : لا ، كيف يكون هذا وقد قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل حيثما دار
دار الأمر » .

10 . غُلُوُّ السُّلطة في الصَّحابة البدريين ، غَيْر علي

كانت معركة بدر معجزة ربانية ، وسر إعجازها النبي ( صلى الله عليه وآله ) والملائكة ، وبطولة علي ( عليه السلام ) وبني هاشم . وقد سرقت السلطة القرشية ذلك وأعطته لكل الصحابة وجعلتهم جميعاً كالملائكة : أبطالاً أخياراً أبراراً ، من أهل الجنة !
ويكفي جواباً على زعمهم : سورة الأنفال التي نزلت خصيصاً في بدر ،
--------------------------- 722 ---------------------------
وكشفت سقوط صحابة بدريين خرجوا من المدينة على كره كأنهم يساقون إلى الموت !
ومنهم من أراد من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يرجع ولا يقاتل قريشاً ، بنص رواة « الخلافة » !
ومنهم من كان يلحُّ على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة أن يقاتل قريشاً فيقول لهم كفوا أيديكم واصبروا ، فلما كتب عليه القتال في بدر اعترضوا على ربهم لماذا كتب عليهم القتال ، ونكصوا عن مبارزة الفرسان ، وفروا إلى خلف الصفوف ، جبناً وحباً للحياة ! فوبخهم الله تعالى بقوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً !
ومنهم : من اختلفوا على الغنائم ، واتهموا بعضهم البعض طمعاً بدراهم معدودات أو بفرس أو بعير ، أو ثوب قماش ، أو نصف كيس شعير !
ومنهم : من أعماه الطمع وأفقده دينه فاتهم نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بأنه سرق قطيفةً أو عباءة ! فكذبهم الله تعالى بقوله : وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ !
ونورد في العناوين التالية بعض الحقائق عن مواقف بعض الصحابة في بدر :

6 . منافقون تحمسوا للقتال في مكة ونكصوا في بدر !

قال الله عزَّ وجل : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً .
فالآية تتحدث عن منافقين كانوا في مكة يطالبون النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتال المشركين فأمرهم بكف أيديهم ، ولم يأمر بكف اليد في المدينة ، فلما كتب الله عليهم القتال بعد الهجرة ، ظهر نفاقهم وأنهم جبناء يخافون الناس أكثر مما يخافون الله !
كما ظهرت وقاحتهم فاعترضوا على الله تعالى لماذا كتب عليهم القتال الآن ؟ ! وكشفت أسماء بعضهم رواية الواحدي في أسباب النزول / 111 وابن حجر : 2 / 918 ، قال : « نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهم عبد الرحمن بن عوف ، والمقداد بن الأسود ، وقدامة بن مظعون ، وسعد بن أبي وقاص ، كانوا يلقون
--------------------------- 723 ---------------------------
من المشركين أذى كثيراً ويقولون : يا رسول الله إئذن لنا في قتال هؤلاء ، فيقول لهم : كفوا أيديكم عنهم ، فإني لم أومر بقتالهم ، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة ، وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين ، كرهه بعضهم وشق عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية » !
وروى الحاكم : 2 / 66 و 307 ، أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، وأصحاب له ، وصححه على شرط بخاري ، قال : « أتوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة ؟ ! فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ! فأنزل الله تبارك وتعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ » . والنسائي : 3 / 3 و 6 / 325 ، البيهقي : 9 / 11 ، والطبري في تفسيره : 5 / 234 .
وروى الطبري أيضاً أنها نزلت في : « أناس من أصحاب رسول الله . كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد . . فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم » !
وقال الرازي في تفسيره : 10 / 184 : « والأولى حمل الآية على المنافقين ، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله : وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، ولا شك أن من هذا كلام المنافقين . فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً » .
وسمَّى الثعلبي : 3 / 345 منهم أربعة ورجح أنها : « نزلت في قوم كانوا مؤمنين ، فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن وتخلفوا عن الجهاد . ويدل عليه أن الله لايتعبد الكافر والمنافق بالشرائع ، بل يتعبدهم أولاً بالإيمان ثم بالشرائع ، فلما نافقوا نبه الله على أحوالهم . وقد قال الله مخبراً عن المنافقين أنهم آمنوا ثم كفروا » . وقال البغوي : 1 / 453 : « يخشون الناس : يعني يخشون مشركي مكة » .
وفي برهان الزركشي : 1 / 422 : « فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ . هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا من القوم : الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ » .
وفي تنوير المقباس من تفسير ابن عباس / 74 : « إذا فريق منهم : طائفة ، منهم طلحة بن عبد الله . يخشون الناس : يخافون أهل مكة » .
--------------------------- 724 ---------------------------
وفي العجاب لابن حجر : 2 / 918 : « من هذا الفريق طلحة بن عبيد الله ، كذا قال ، ولعله كان ممن قال ذلك أولاً ، وأما الفريق الذين قالوا : لم كتبت علينا القتال فاللائق أنهم ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ، وطلحة كان من الراسخين » !
وتصدى علماء السلطة للدفاع عمن ذمهم الله ، فقالوا إن خوفهم طبيعي ! وقال بعضهم يستحيل أن يكون هؤلاء من الصحابة ، فردوا بذلك القرآن !
قال القرطبي : 5 / 281 : « معاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة ، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين » !
وهذه مكابرة منهم أو ردٌّ على الله تعالى ! لأن المذمومين صحابة منافقون كانوا في بدر ! وهم أكثر من خمسة ، وقد جبنوا في بدر وتخبؤوا خلف المقاتلين ، وطمعوا بالغنائم واتهموا البعض بالغل والسرقة ! واتهموا نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ قطيفة حمراء ! وتجد بقية صفاتهم في سورة الأنفال الفاضحة !
وقد خلطوا بهم شخصاً بريئاً هو المقداد « رحمه الله » ! ونسُوا أنهم رووا أن ، موقفه عكس ذلك تماماً ! ففي البخاري : 5 / 187 أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) استشار أصحابه فقال المقداد : « يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، ولكن إمض ونحن معك ! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله » . ومعنى سُرِّيَ عنه : أنه ارتاح لكلامه بعد غضبه من أهل آية : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، الذين خوَّفوه من قريش ، وأنها ما ذلت منذ عزت ، وأن من قاتلها ذل !

7 . مرضى القلوب « مكيون بدريون » !

ذكر الله تعالى « الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » في اثنتي عشرة آية ، وجعلهم قسماً مقابل المؤمنين والمنافقين والمشركين . وحذر منهم من أوائل البعثة في سورة المدثر فقال : وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً . . وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً . « المدّثّر : 31 » ثم ذكرهم في معركة بدر فقال : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . الأنفال / 49 .
--------------------------- 725 ---------------------------
ثم ذكرهم في معركة الأحزاب : هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا . الأحزاب / 11 - 12 .
وقد دلس أتباع السلطة فجعلوهم قسماً من المنافقين مع أنهم قسم مقابلهم ! ثم جعلوا المنافقين كلهم من المدينة وقالوا ليس في القرشيين منافق ! لكنهم اصطدموا بآية كفوا أيديكم ، وهي في صحابة كبار وبالآية 31 من المدثر المكية ، ، فهم موجودون في مكة قبل الهجرة إذن ، لكن أتباع السلطة القرشية يكابرون !
قال في الكشاف : 4 / 184 : « فإن قلت : كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون ، والسورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما نجم بالمدينة ؟ قلت : معناه : وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة » .
وهذه مكابرة أخرى لإبعاد النفاق عن القرشيين ! لأن الآية نزلت في مكة في منافقين موجودين ، وليس في أناس سيأتون بعد بضع عشرة سنة !
ومن مكابرتهم أيضاً حصرهم سبب النفاق بالخوف لإبعاده عن القرشيين ، مع أن سببه قد يكون الطمع بموقعٍ مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل هو أكثر إغراءً لشخص معدم من عشيرة معدمة ، يسمع بأن كنوز كسرى وقيصر ستقع في يد ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ولهذا السبب نجد أن القرآن حذر من مرضى القلوب القرشيين في مكة ، ثم في بدر ، وأحد ، والأحزاب ، وبقية حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وبعده !
وتدلك صفاتهم على أنهم طبقة سياسية منافقة ، لها طموح سياسي مفرط ، وأنهم حشريون يتدخلون في كل قضية ! بل يحددون لله تعالى ما يجب أن يفعله ، ويقولون إن جعله زبانية جهنم تسعة عشر اشتباه ! مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً ؟ !
وتراهم يسخرون من المؤمنين الذين أطاعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشجعوه على المضي إلى بدر لقتال قريش : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ !
وتراهم يعترضون على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويحملونه مسؤولية الهزيمة في أحُد ، لأنه لم يشركهم في القيادة ، ولم يأخذ برأيهم في الإدارة ! يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالايُبْدُونَ لَكَ . . يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌْ مَاقُتِلْنَا هَاهُنَا !
--------------------------- 726 ---------------------------
ولم يتراجع فضولهم ولا خفَّ جُبنهم ، فوصفهم الله تعالى في حرب الأحزاب : وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا . . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاغُرُورًا . الأحزاب / 10 و 12 .
وكشف الله تعالى عدداً من صفاتهم ، ورسم فيها خوفهم : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ . طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمر فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ . محمّد / 20 - 21 .
ثم أخبرهم الله تعالى بأنهم سيحكمون الأمة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويفسدون ! وأنهم استحقوا اللعن والطرد من رحمته ، لأنهم عرفوا الهدى جيداً ثم كفروا ، وأخفوا كفرهم ! وأخبرهم بأنهم عقدوا اتفاقية سرية مع اليهود على طاعتهم في إبعاد عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن خلافته ! فقال عز وجل : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ . أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا . إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَانَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . محمّد / 22 - 26 .
وقد أقسم الإمام الصادق ( عليه السلام ) على أن مرض قلوبهم هو عداوة أهل البيت « عليهم السلام » ، لأن هدفهم من إسلامهم سرقة دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) والوصول إلى الحكم وإبعاد عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قال ( عليه السلام ) في حديث النداء السماوي : « ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض . والمرض والله عداوتنا » . غيبة النعماني / 267 .
فمرضى القلوب هم الطبقة السياسية من المنافقين ، الذين يعشيون ذواتهم فقط ويقيسون الأمور والأشياء بالنفع والضرر المادي الشخصي ، ويزيدون على المنافقين بأنهم يفسرون الأمور دائماً بالمعادلات السياسية ، ويتعاملون مع النبي ( صلى الله عليه وآله )
بهذه المعادلة ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً !
وقد يصير المنافق من مجموعة مرضى القلوب ، كما في قوله تعالى عن ولاء اليهود والنصارى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ . وهذا قول رئيس المنافقين ابن سلول « تفسير القمي 1 / 170 والطبري 6 / 376 » لكنه أيضاً من مرضى
--------------------------- 727 ---------------------------
القلوب ، لطموحه ومنهجه السياسي المادي !
وهذا هو السبب في وصف الله تعالى لمرض القلب بأنهم رجس ، لأن أحدهم يجعل نفسه إلهاً مقابل الله تعالى ، وقيِّماً على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، بل على ربه عز وجل ! وهذا عمل شيطاني يستحق صاحبه عليه العقوبة ، قال تعالى : وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ . التوبة : 125 .
وقد حاول رواة السلطة إبعاد الرجس عن القرشيين ، وجعلوه لأناس ارتدوا وحاربوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقتلوا في بدر ! قال ابن إسحاق : 3 / 290 : « كانوا أسلموا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هاجر إلى المدينة وحبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا ، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعاً ، فهم فتية مسلمون ! فمن بني أسد بن عبد العزى بن قصي الحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ، ومن بني مخزوم أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة ، ومن بني جمح علي بن أمية بن خلف ، ومن بني سهم العاص بن منبه بن الحجاج » .
ونحوه تفسير الطبري : 10 / 29 ، عن مجاهد ، وفيه : « خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قالوا : غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم » ! وتفسير الصنعاني : 2 / 261 ، مجمع الزوائد : 6 / 78 ، فتح الباري : 8 / 198 وشرح النهج : 14 / 156 .
وهذا التفسير مضحك ، لأن الذين قاتلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع قريش مع المشركين ومن المشركين ، فلا يوصف بأنه من فئة المنافقين أو من فئة الذين في قلوبهم مرض ! ولايطمح أن يكون له شراكة في القيادة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقول : هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَئ ؟ !
وقد أجاد صاحب تفسير الميزان : 9 / 109 فقال : « سياق الآية الظاهر في حضورهم ، وقولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك . والذي ذكره لا ينطبق على الآية البتة فالقرآن لا يسمي المشركين منافقين ولا الذين في قلوبهم مرض » .
وقصده أنه القرآن يعبر عن الكفار بالمشركين ، ولا يسميهم مرضى القلوب ومنافقين .
--------------------------- 728 ---------------------------

8 . « صحابة » اتهموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه غلَّ

يأخذك العجب عندما تقرأ أن الصحابة البدريين « الأبرار الأخيار » بعد انتصارهم في بدر ، اختلفوا على الغنائم وتشاجروا وساءت أخلاقهم ، واتهم بعضهم بعضاً ، وبلغ بهم الأمر أن اتهموا نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه سرق قطيفة ، فبرأه الله تعالى !
قال عبادة بن الصامت كما في تاريخ الذهبي : 2 / 64 : « نزلت الأنفال حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) فقسمه بين المسلمين على السواء » .
ومن المؤكد أن هؤلاء المتشاجرين على الحطام ، ليسوا أبطال بدر ولا صنَّاع نصرها ، ولا أظن أن فيهم مقاتلاً حتى من الدرجة الثانية والثالثة ! بل هم من الذين يلتطون خلف الصفوف ! والذين اتهموا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه سرق قطيفة ، لا يمكن أن يكونوا مؤمنين به ! وأما الذي سرق قطيفة وطمرها بعيداً في التراب ، واتهم بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) فهو كأي بدوي سارق مُفْترٍ ، لامن الصحابة ولا المؤمنين !
وخلاصة ما حدث بعد المعركة : أن قريشاً انهزمت عند الظهر فانشغل بعض المسلمين بتعقب الفارين ، وكان همُّ بعضهم أن يأخذ أسيراً ليربح فِدْيته ، مع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نهاهم عن الأسر حتى يثخنوا فيهم . وقسم آخر منهم سارع إلى أخذ الغنائم ، وكانت كلها : « مئة وخمسين من الإبل وعشرة أفراس . وعند ابن الأثير : ثلاثين فرساً ، ومتاعاً ، وسلاحاً ، وأنطاعاً ، وأدماً كثيراً » . الصحيح : 5 / 89 .
والمتاع : الوسائل . والأنطاع : ما يفرش . والأدم المواد الغذائية : كالجبن واللحم .
واشتكى بعضهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن فلاناً أخذ لنفسه شيئاً ، أو أخذ كثيراً ، فلم يترك له شيئاً ، فأمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يردوا جميع ما أخذوه حتى ينزل فيه أمر الله ، فردوه على مضض ، وفقدوا بعضه ، ومنه القطيفة التي اتهموه ( صلى الله عليه وآله ) بها .
وساق النبي ( صلى الله عليه وآله ) الأسرى والغنائم حتى وصل إلى الصفراء ، فنزلت سورة الأنفال ، وفيها أن الغنائم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) خاصة فوزعها عليهم بالسوية ، وقتل هناك أحد أشرار قريش ، وساق بقية الأسرى إلى المدينة . قال الطبري : 2 / 156 : « ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
--------------------------- 729 ---------------------------
أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع فاختلف المسلمون فيه » !
وقال علي بن إبراهيم القمي : 1 / 126 : « كان سبب نزولها أنه كان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت ، فقال رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما لنا لا نرى القطيفة ، ما أظن إلا أن رسول الله أخذها ! فأنزل الله في ذلك : وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ . الخ . فجاء رجل إلى رسول الله فقال : إن فلاناً غل قطيفة فأخبأها هنالك ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بحفر ذلك الموضع ، فأخرج القطيفة » !
وفي شرح النهج : 14 / 168 ، أنهم طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يستغفر له فلم يفعل ! وفي الترمذي : 4 / 297 وأبي داود : 2 / 243 : « فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها » .
وفي عدد من رواياتهم بدون لعل ! كالطبراني الكبير : 11 / 288 ، وتفسير الطبري : 4 / 206 ، عن ابن عباس قال : « كانت قطيفة فقدت يوم بدر فقالوا : أخذها رسول الله » ! وفي تفسير الثعالبي : 2 / 134 : « وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً » .
وفي أسباب النزول / 84 ، والعجاب لابن حجر : 2 / 777 وغيرهما : « لكن المنافقين اتهموا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في شي من الغنيمة ، فأنزل الله عز وجل : وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ . . » .
فقد اعترف أتباع السلطة بأن البدريين كان فيهم منافقون ، فلماذا لا يكون فيهم مرضى القلوب وهم سادتهم ؟ ! وكيف يقال لهؤلاء : عدول ومن أهل الجنة ؟ !
وفي أمالي الصدوق / 164 : « قال علقمة : فقلت للصادق ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور ، وقد ضاقت بذلك صدورنا ! فقال ( عليه السلام ) : يا علقمة ، إن رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ! فكيف تَسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحججه « عليهم السلام » ؟ ! ألم ينسبوا يوسف ( عليه السلام ) إلى أنه هم بالزنا ؟ ألم ينسبوا أيوب ( عليه السلام ) إلى أنه ابتلي بذنوبه ؟ ألم ينسبوا داود ( عليه السلام ) إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها ؟ وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها ؟ ألم ينسبوا موسى ( عليه السلام ) إلى أنه عنين ، وآذوه حتى برأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً ؟ ألم ينسبوا جميع أنبياء الله إلى أنهم سحرة طلبة الدنيا ؟ ألم ينسبوا مريم بنت عمران « عليها السلام » إلى أنها حملت بعيسى من رجل نجار اسمه يوسف ؟ !
--------------------------- 730 ---------------------------
ألم ينسبوا نبينا محمداً ( صلى الله عليه وآله ) إلى أنه شاعر مجنون ؟ ألم ينسبوه إلى أنه هوى امرأة زيد بن حارثة فلم يزل بها حتى استخلصها لنفسه ؟ ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى أظهره الله عز وجل على القطيفة وبرأ نبيه ( صلى الله عليه وآله ) من الخيانة ، وأنزل بذلك في كتابه : وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ !
ألم ينسبوه إلى أنه ينطق عن الهوى في ابن عمه علي ( عليه السلام ) حتى كذبهم الله عز وجل فقال سبحانه : مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى . . » . النجم : 3 ، 4

9 . سبب تعمد « الخلافة » الغلو في أهل بدر ؟

قال في الصحيح من السيرة : 5 / 134 ، تحت عنوان : أهل بدر مغفور لهم : « ويذكرون أنه حينما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتجهز لفتح مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يحذرهم ، وأعطاه امرأة لتوصله إليهم ، فأخبر جبرئيل النبي بالأمر فأرسل علياً ونفراً معه إلى روضة خاخ ، موضع بين مكة والمدينة ، ليأخذوا الكتاب منها ، فأدركوها في ذلك المكان وفتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً ، فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذبنا ، وسل سيفه وقال لها : أخرجي الكتاب وإلا لأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها ! فرجعوا بالكتاب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأرسل إلى حاطب فسأله عنه فاعترف به ، وادعى أنه إنما فعل ذلك لأنه خشيهم على أهله ، فأراد أن يتخذ عندهم يداً ، فصدقه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعذره ، لكن عمر بن الخطاب رأى أن حاطباً خان الله ورسوله فطلب من النبي أن يضرب عنق حاطب فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أليس من أهل بدر ؟ لعل الله - أو إن الله - اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم » ! قال الحلبي : وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه لأنه إذا وقع يقع مغفوراً ، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه . وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا ، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر حُدَّ وكان بدرياً . وقال الحلبي أيضاً : وفي الخصائص الصغرى نقلاً عن شرح جمع الجوامع أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب
--------------------------- 731 ---------------------------
مايفسق به غيرهم . ورووا عنه ( صلى الله عليه وآله ) قوله : لن يدخل النار أحد شهد بدراً .
ونقول : « إذا كان شرب البدري للخمر لا يضر ولا يحتاجون للتوبة من الكبائر ، فليكن الزنا حتى بالمحارم غير مضر لهم أيضاً ! وكذلك تركهم الصلاة وسائر الواجبات وغيرها ! وليكن أيضاً قتل النفوس كذلك ، ولقد قتلوا عشرات الألوف في وقعتي الجمل وصفين ، وقتلوا العشرات سراً وجهراً غيلة وصبراً ! فإن ذلك كله لا يضر ، ولا يوجب لهم فسقاً ولا عقاباً » ! انتهى .
أقول : أكد النبي ( صلى الله عليه وآله ) على مكانة عترته الطاهرين « عليهم السلام » طوال حياته ، وجعلهم وصيته المؤكدة لأمته فقال : « إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي » فقامت قريش باضطهادهم ، ونصبت مقابلهم الصحابة وزعمت أنهم كلهم عدول ، بل ادعت لبعضهم العصمة وفضلته على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأساليب ملتوية !
فكل ما تراه من مبالغة في الصحابة وغلو فيهم ، وفضائل مكذوبة لهم ، إنما هو من أعمال السلطة لجعلهم وجوداً مقابل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته الطاهرين « عليهم السلام » .
ومن ذلك غلوهم في أهل بدر حيث جعلوهم كلهم صانعي تاريخ الإسلام مع أن قسماً منهم كانوا عالةً على المسلمين حتى إذا انتصروا ادعوا أنهم أبطال النصر !
راجع كتاب : نظرية عدالة الصحابة ، للمحامي الأردني ، خير من كتب في الموضوع .

10 . التعجب من أغلاط العامة في الصحابة !

قال أبو الفتح الكراجكي « رحمه الله » في كتابه : التعجب من أغلاط العامة / 83 : « الفصل الحادي عشر في أغلاطهم في الصحابة : ومن عجيب أمرهم غلوهم في تفخيم الصحابة وإفراطهم في تعظيمهم ، وقولهم لا يدخل الجنة مستنقص لأحد منهم ، وليس بمسلم من روى قبيحاً عنهم ! ويقولون إنا لا نعرف لأحد منهم بعد إسلامه عيباً ، وليس منهم من واقع ذنباً ، ويجعلون من خالفهم في هذا زنديقاً ، ومن ناظرهم فيه أو طلب الحجة منهم عليه ، مبتدعاً شريراً .
هذا ولهم في الرسل المصطفين والأنبياء المفضلين ، الذين احتج الله تعالى بهم
--------------------------- 732 ---------------------------
على العالمين صلوات الله عليهم أجمعين ، أقوال تقشعر منها الجلود ، وترتعد لها القلوب ، ولا تثبت عند سماعها النفوس ، يتدينون بذكرها ، ويتحملون بنشرها ، ويغتاظون على من أنكرها ودحضها ، كغيظهم على من أضاف إلى أحد الصحابة بعضها ، فينسبون آدم وحواء إلى الشرك ، وإبراهيم الخليل إلى الإفك والشك ، ويوسف إلى ارتكاب المحظور والجلوس من زليخا مجلس الفجور ، وموسى إلى أنه قتل نفساً ظلماً ، وداود إلى أنه عشق امرأة أوريا وحمله عشقها إلى أن قتل زوجها وتزوجها ، ويونس إلى أنه غضب على الله تعالى .
ويقولون في سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله ) في تزويجه بامرأة زيد بن حارثة ، وفي غير ذلك من الأقوال القبيحة المفتعلة ما لا ينطلق لمؤمن بذكره لسان ، ولا يثبت لمسلم عند سماعه جنان ، ولا يطلقه عاقل ، ولا يجيزه منه إلا كافر جاهل ! فإذا قيل لهم إن جميع الأخبار الواردة في ذلك باطلة ، وسائر الآيات التي تظنون أنها تقتضيه متأولة ، وقد شهدت العقول بعصمة الأنبياء « عليهم السلام » ودل القرآن على فضلهم وتميزهم عن الأنام ، فوجب أن تتأول الأقوال بما يوافق مقتضى الإستدلال . قالوا إذا سمعوا هذا الكلام : هذا ضلال وترفض ، وهو فتح باب التزندق ! فياليت شعري كيف صار الهتف بالأنبياء « عليهم السلام » بالباطل إسلاماً وستراً ، والطعن على بعض الصحابة بالحق ضلالاً وكفراً ؟ ! وكيف صار القادح في الأفاضل المصطفين « عليهم السلام » ثبتاً صديقاً ومن قدح في أحد قوم غير معصومين رافضياً زنديقاً ؟ ! ألم يسمعوا قول الله تعالى في أنبيائه صلوات الله عليهم : وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ، وقوله سبحانه وتعالى لأصحاب نبيه : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ .
وقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني ! فأي نسبة بين الطبقتين ، وأي تقارب بين القبيلتين ، لولا ما مع خصومنا من العصبية التي حرمتهم حسن التوفيق . وقد قال بعض المعتزلة لأحد الشيعة : إن أمركم معشر الشيعة لعجيب ، ورأيكم طريف غير مصيب ، لأنكم أقدمتم على وجوه الصحابة الأخيار ، وعيون الأتقياء الأبرار ، الذين سبقوا إلى الإسلام واختصوا بصحبة الرسول
--------------------------- 733 ---------------------------
وشاهدوا المعجزات ، وقطعت أعذارهم الآيات ، وصدقوا بالوحي ، وانقادوا إلى الأمر والنهي ، وجاهدوا المشركين ، ونصروا رسول رب العالمين ، ووجب أن يحسن بهم الظنون ، ويعتقد فيهم الإعتقاد الجميل ، فزعمتم أنهم خالفوا الرسول ، وعاندوا أهله من بعده ، واجتمعوا على غصب حق الإمام وإقامة الفتنة في الأنام ، واستأثروا بالخلافة ، وسارعوا إلى الترأس على الكافة ، وهذا مما تنكره العقول وتشهد أنه مستحيل ، فالتعجب منكم طويل !
فأجابه : أما المؤمنون من الصحابة الأخيار ، والعيون من الأتقياء الأطهار ، فمن هذه الأمور مبرؤون ، ونحن عن ذمهم متنزهون ، وأما من سواهم ممن ظهر زللهم وخطؤهم ، فإن الذم متوجه إليهم ، وقبيح فعلهم طرق القول عليهم ، ولو تأملت حال هؤلاء الأصحاب لعلمت أنك نفيت عنهم خطأ قد فعلوا أمثاله ونزهتهم عن خلاف قد ارتكبوا أضعافه ، وتحققت أنك وضعت تعجبك في غير موضعه ، وأوقعت استطرافك في ضد موقعه ، فاحتشمت من خصمك ، ورددت التعجب إلى نفسك . وهؤلاء القوم الذين فضلتهم وعظمتهم ، وأحسنت ظنك بهم ونزهتهم ، هم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة بين رجلي ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) طلباً لقتله .
وهم الذين كانوا يضحكون خلفه إذا صلى بهم ، ويتركون الصلاة معه وينصرفون إلى تجاراتهم ولهوهم ، حتى نزل القرآن يهتف بهم .
وهم الذين جادلوا في خروجه إلى بدر ، وكرهوا رأيه في الجهاد ، واعتقدوا أنه فيما دبره على غير الصواب ، ونزل فيهم : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ .
وهم الذين كانوا يلتمسون من النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكة القتال وينازلونه في الجهاد منازلة ويرون أن الصواب خلاف ما تعبدوا به في تلك الحال من الكف والإمساك ، فلما حصلوا في المدينة وتكاثر معهم الناس ، ونزل عليهم فرض الجهاد وأمروا بالقتال كرهوا ذلك وطلبوا التأخير من زمان إلى زمان ، ونزل فيهم : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
--------------------------- 734 ---------------------------
قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ .
وهم الذين أظهروا الأمانة والطاعة ، وأضمروا الخيانة والمعصية ، حتى نزل فيهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الأنفال : 27 .
وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم ، حتى نزل فيهم : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
وهم الذين شكوا يوم الخندق في وعيد الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) وخبثت نياتهم ، فظنوا أن الأمر بخلاف ما أخبرهم به النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ نزل فيهم : إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا .
وهم الذين نكثوا عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونقضوا ما عقده عليهم في بيعته تحت الشجرة ، وأنفذهم إلى قتال خيبر فولوا الدبر ونزل فيهم : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً .
وهم الذين انهزموا يوم حنين وأسلموا النبي ( صلى الله عليه وآله ) للأعداء ، ولم يبق معه إلا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وتسعة من بني هاشم ، ونزل فيهم : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . وأمثال ذلك مما يطول بشروحه الذكر !
وهم الذين قال الله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . .
وهم الذين قال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لاتبعتموه ! قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن إذاً ؟
وهم الذين قال لهم : ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .
وهم الذين قال لهم : إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة ، وإنه سيجاء برجال من
--------------------------- 735 ---------------------------
أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي ؟ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم !
وهم الذين قال لهم : بينما أنا على الحوض إذ مُرَّ بكم زمراً فتفرق بكم الطرق فأناديكم : ألا هلموا إلى الطريق ، فينادي مناد من ورائي : إنهم بدلوا بعدك ، فأقول : ألا سحقاً ألا سحقاً . وهم الذين قال لهم عند وفاته : جهزوا جيش أسامة ولعن من تخلف عنه ، فلم يفعلوا .
وهم الذين قال ( صلى الله عليه وآله ) لهم : إئتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي فلم يفعلوا وقال أحدهم : دعوه فإنه يهجر ! ولم ينكر الباقون عليه !
هذا مع إظهارهم الإسلام واختصاصهم بصحبة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورؤيتهم الآيات ، وقطع أعذارهم بالمعجزات ! فانظر الآن أينا أحق بأن يتعجب ، وأولانا بأن يتعجب منه : من أضاف إلى هؤلاء الأصحاب ما يليق بأفعالهم ، ومن جعلهم فوق منازل الأنبياء « عليهم السلام » ، وهذه أحوالهم » ؟ !

11 . ماذا قال الشيخان لما استشارهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشأن بدر ؟

وصف الله تعالى في لوحة خالدة إلى يوم الدين ، خوف بعض الصحابة وانهيارهم لما أمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالخروج لاعتراض قافلة قريش ! فقال عز وجل : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ . وأخبرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن الله وعده إحدى الطائفتين ، إما العير وإما النفير ! فأفلتت منهم القافلة وبلغهم أن قريشاً جاءت لحربهم ، فاستشارهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وطلبوا منه الرجوع وعدم قتال قريش !
قال مسلم في صحيحه : 5 / 170 : « شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان ، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه » . ولم يبين لماذا أعرض عنهما !
وفي الدر المنثور : 3 / 165 : « فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إنها قريش وعزها ! والله ما ذلت منذ عزت ، ولا آمنت منذ كفرت ، والله لتقاتلنك ، فتأهب
--------------------------- 736 ---------------------------
لذلك أهبته وأعدد له عدته » . وعيون الأثر : 1 / 327 والنهاية : 3 / 321 .
وهنا حذفوا الفقرة الحساسة وهي قوله للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ولم تخرج على هيئة الحرب » ! أي إرجع ولا تقاتل قريشاً لأنك لم تستعد ! أو حرفوها وجعلوها : والله لتقاتلنك فتأهب لذلك واعدد له عدته ! أو نسبوها إلى شخص مجهول !
لكن موقف الشيخين واضح ، وهو التحذير من مواجهة قريش وطلب الرجوع !
قال في الكشاف : 2 / 143 ، تخريج الأحاديث : 2 / 11 ، السيرة الحلبية : 2 / 385 وغيرها : « فاستشار النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه وقال : ما تقولون ؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ! فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ثم ردد عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ! فقالوا يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدو » !
فهؤلاء الذين أجابوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهذا الكلام المنافق ، هم الذين قال الله عنهم : يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ؟ الأنفال / 6
وكمثال لتعصب علماء السلطة وتغطيتهم على فلان وفلان : أن ابن حزم الذي حكم بأن أصحاب هذه الآية فساق !
قال في الأحكام : 6 / 308 : « وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة ، فعندنا فهو فاسق مردود الشهادة . قال الله تعالى : يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ . فذم عز وجل من عاند بعد أن تبين له الحق » .
لكن مَن هم الفساق الذين جادلوا في الحق ! لقد ذابوا كالملح ، وذاب جواب أبي بكر وعمر ، وقال رواة قريش : إنهما قالا وأحسنا ، وكان الله يحب المحسنين !
فقد قالت روايتهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعرض عنهما وتغير وجهه ، ثم فرح وأشرق وجهه بموقف المقداد « بخاري : 5 / 4 » .
لكن رواة الخلافة يصرون على قولهم : إنهما قالا فأحسنا ! فتح الباري : 7 / 223 .
وفي المناقب : 1 / 162 : « شاور النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه في لقائهم أو الرجوع ؟ فقال أبو بكر وعمر كلاماً فأجلسهما ! ثم قال المقداد وسعد بن معاذ كلاماً فدعا لهما وسُرَّ ، ونزل :
--------------------------- 737 ---------------------------
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ » . آل عمران / 151
وفي تفسير القمي : 1 / 158 وتفسير أبي حمزة / 180 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ملخصاً : « نزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلت منذ عزت ، ولم تخرج على هيئة الحرب ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أجلس فجلس . ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أجلس فجلس . ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها وقد آمنا بك وصدقنا ، وشهدنا أن ما جئت به حق ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ . ولكنا نقول : امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون ! فجزَّاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خيراً على قوله ذاك .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : أشيروا عليَّ أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، لأن أكثر الناس منهم ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ، ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا ونساءنا . فكان ( صلى الله عليه وآله ) يتخوف أن لا يكون الأنصار يرون أن عليهم نصرته ، إلا على من دهمه بالمدينة من عدو . فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا ؟ فقال : نعم . قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت ، واترك منها ما شئت ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ، ولعل الله عز وجل أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ! ففرح بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : سيروا على بركة الله ، فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده ، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وفلان وفلان ، وأمر رسول الله بالرحيل وخرج إلى بدر » .
--------------------------- 738 ---------------------------

12 . افتراؤهم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه أخطأ وأصاب عمر !

بحثنا في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 2 / 355 قصة أسرى بدر التي زعم عمر أنه أصاب فيها وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخطأ !
وخلاصتها : أن آيات الأنفال صريحة في أن عمله ( صلى الله عليه وآله ) كان بتوجيه ربه عز وجل ، لاحظ قوله تعالى : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ . وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ . الأنفال : 5 - 8 .
ولم يدَّع أحدٌ يومها ولا في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه أخطأ في الحرب ، أو في أخذ أسرى أو في إطلاقهم مقابل فدية ! لكن عمر ادعى في خلافته أنه نهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن أخذ الأسرى القرشيين المحترمين ، ونهاه عن أخذ الفدية منهم فلم يطعه ، فعاقبه الله في معركة أحد ، فانهزم جيشه وقتل منهم سبعون ، وأصيب هو ( صلى الله عليه وآله ) ! فنزلت آيات توبخه والمسلمين على ذنبهم في بدر ، وتؤيد رأي عمر !
قال في مجمع الزوائد : 6 / 115 : « عن عمر بن الخطاب قال : فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفرَّ أصحاب رسول الله عن النبي ، فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، وأنزل الله عز وجل : أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ، بأخذكم الفداء » !
وهذا الحديث الصحيح عندهم ، ظالمٌ وباطلٌ : أولاً : لأن التوبيخ في الآية ليس للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بل للذين أرادوا غنيمة القافلة وخافوا من القتال ، ومنهم أبو بكر وعمر كما تقدم ! وللذين أخذوا الأسرى ولم يقتلوهم فيثخنوا في الأرض .
ثم إن روايتهم التي جعلوها فضيلة لعمر وطعناً بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، متهافتة !
ففي الدر المنثور : 3 / 163 : « فقال : ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ فقلنا يا رسول الله لا والله مالنا طاقة بقتال القوم ، إنما خرجنا للعير . إلى أن قال : فقتلنا
--------------------------- 739 ---------------------------
وأسرنا ، فقال عمر : يا رسول الله ما أرى أن تكون لك أسرى فإنما نحن داعون مؤلفون ، فقلنا معشر الأنصار : إنما يحمل عمر على ما قال حسده لنا ، فنام رسول الله ثم استيقظ ثم قال : ادعوا لي عمر فدعي له فقال له : إن الله قد أنزل عليَّ : ما كان لنبي أن تكون له أسرى . . » وحسَّنه في الزوائد : 6 / 73 .
وهو يدل على أن عمر وأبا بكر قالا : لا طاقة لنا بقتال قريش ، وأن عمر كان معارضاً لأخذ الأسرى تعصباً أن يأسرهم الأنصار فيربحوا فديتهم ! ثم زعموا بعد ذلك أن عمر كان أشد على المشركين ، وأن رأيه كان أن تضرب أعناقهم !
ثم إن عمر زعم أنه اعترض في بدر فنزلت الآية مؤيدة لرأيه ، لأن بدراً لم تكن إثخاناً كافياً يحلل أخذ الأسرى ! فدعاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقرأها له وأقرَّ أن عمر أصاب وأنه ( صلى الله عليه وآله ) أخطأ وبكى على ذنبه ! ومع ذلك خالف ( صلى الله عليه وآله ) أمر ربه وأخذ الأسرى وساقهم إلى المدينة ! ثم عصى ربه ثانية فأخذ منهم الفداء !
وقد روى ذلك أحمد : 1 / 30 ، برواية طويلة عن عمر يحكي فيها منقبته ، قال : « فأخذ منهم الفداء فلما أن كان من الغد قال عمر : غدوتُ إلى النبي فإذا هو قاعد وأبو بكر وإذا هما يبكيان ! فقلت يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك . فقال النبي : الذي عرض عليَّ أصحابك من الفداء ! لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة ! وأنزل الله عز وجل : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض . فلما كان يوم أحُد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ! فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي عن النبي وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه ! وأنزل الله تعالى : أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا . . . بأخذكم الفداء » ! ومسلم : 3 / 158 و 170 ، مجمع الزوائد : 6 / 113 و 115 و 118 ، أحمد : 1 / 32 وأبي داود : 1 / 608 .
فقد زعم عمر أن رأيه كان قتل الأسرى فوافقه الوحي ، لكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عصى ولم يقتلهم ! ثم وزعم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخذ الفداء في اليوم الثاني فنزلت الآية توبخه فقعد هو وأبو بكر يبكيان على ذنبهما ! ومع ذلك عاد بالأسرى إلى المدينة وأخذ
--------------------------- 740 ---------------------------
الفداء ! فمن يصدق أن الله تعالى ناقض نفسه فأحل لهم الغنائم والأسرى وعفا عنهم ، ثم عاقبهم في أحُد ! وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكى على ذنبه ، ثم أصر عليه ؟ !

13 . معنى : حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض

معنى الإثخان في الأرض : الإثخان في قتل المشركين ، وقد نهاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد هزيمة المشركين أن يأخذوا أسرى قبل أن يثخنوهم قتلاً ويدمروا قوتهم القتالية ، لكنهم أخذوا أسرى قبل ذلك طمعاً في فدائهم ! فالتوبيخ في الآية لهؤلاء وليس للنبي ( صلى الله عليه وآله ) كما تصوره عمر وتبعه رواة الخلافة !
قال أبو الفتح الكراجكي « رحمه الله » في : التعجب من أغلاط العامة / 88 : « وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم : مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا . . » .
واختاره السيد الخوئي كما سيأتي . فلم يبق مكان لكثير مما رووه وقالوه !

14 . أكذوبة : لو نزل العذاب ما نجى منه إلا ابن الخطاب !

أرادوا مدح عمر بن الخطاب فوضعوا على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « لو نزل العذاب لما نجا منه إلا ابن الخطاب » ! ومعناه أن الجميع بمن فيهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانوا في معرض العذاب الإلهي لأخذهم أسرى بدر وفدائهم ، إلا عمر !
ومع أنهم اعترفوا بأنه حديث مكذوب ، إلا أن علماءهم كانوا وما زالوا يستشهدون به ويصححونه عملياً ! فهو كحديث : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » ينصون على أنه موضوع مكذوب ، لكنهم يستشهدون به ، في الفضائل ، والعقائد ، والفقه ، والتفسير ، وخطب المساجد !
قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 202 : « عن ابن عمر قال . . . فأخذ رسول الله بقول أبي بكر ففاداهم رسول الله ، فأنزل الله : لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . فقال رسول الله : إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر » .
--------------------------- 741 ---------------------------
وقال السرخسي في المبسوط : 10 / 139 : « قال ( صلى الله عليه وآله ) : لو نزل العذاب ما نجا منه إلا عمر ، فإنه كان أشار بقتلهم » ! وقال الغزالي في المستصفى / 170 : « حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر : لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر » .
وفي تفسير ابن الجوزي : 3 / 258 : « فلقي النبي عمر فقال : كاد يصيبنا في خلافك بلاء » .
وقال الكاشاني في بدائع الصنائع : 7 / 119 : « وأشار سيدنا عمر إلى القتل ، فقال رسول الله : لو جاءت من السماء نار ما نجا إلا عمر » !
وقد تناقض الجصاص فقال في أحكام القرآن : 3 / 94 : « يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأنه : مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى . ومن الناس من يجيز ذلك على النبي ( صلى الله عليه وآله ) من طريق اجتهاد الرأي ! ويجوز أيضاً أن يكون النبي أباح لهم أخذ الفداء ، وكان ذلك معصية صغيرة ! فعاتبه الله والمسلمين عليها » !
وحاول القرطبي في تفسيره : 8 / 45 ، إبعاد التوبيخ عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجعله على الذين أمروه به ، ثم جعله على الذين باشروا الحرب ! ثم جعله على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! واعتذر عنه بأنه انشغل عن الإثخان بالحرب وعن قتل الأسرى !
فانظر إلى هذا التناقض والتخبط والإصرار على تفضيل عمر على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وسر القضية في أسرى بدر : تعصب عمر ضد الأنصار ، لأنهم أخذوا زعماء قريش أسرى في بدر ، ثم أطلقوهم بفدية وكانوا يَمُنُّون بذلك عليهم ! فاضطغن ذلك القرشيون عليهم وتبعهم عمر ، وحملوا مسؤوليته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ولم أجد من وافقنا من علمائهم في تبرئة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، إلا قلة كالفخر الرازي حيث قال في المحصول : 6 / 15 : « إذا جوزنا له ( صلى الله عليه وآله ) الاجتهاد فالحق عندنا أنه لا يجوز أن يخطئ ، وقال قوم : يجوز بشرط أن لا يقر عليه . لنا : أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ . فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ ، وذلك ينافي كونه خطأ .
واحتج المخالف بقوله تعالى : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ . وقال تعالى : في أسارى بدر : لَوْلاكِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا
--------------------------- 742 ---------------------------
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . فقال عليه الصلاة والسلام : لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب ، وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء .
والجواب عن هذه الوجوه : في الكتاب الذي صنفناه في عصمة الأنبياء « عليهم السلام » » .
ثم ، إن عمر زعم أن العذاب نزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين في أحُد لأخذهم الفداء من قريش في بدر فهل نجا منه هو ، وقد وصف نفسه فقال : « لما كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى « عنزة جبلية » والناس يقولون قتل محمد » ! ألا يكفيه من نزول العذاب الذي جعله على النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين ، أنه شمله قول الله تعالى : وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . الأنفال 16 .
ثم رأينا المشركين قرروا عدم قتله في أحد ، فما هو السبب ؟ !
ففي سيرة ابن هشام : 2 / 282 والدر المنثور : 2 / 88 : « وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب « وليس أخاه » يوم أحُد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول : أنج يا ابن الخطاب . لا أقتلك » !
فهل كان عفوهم عنه في أحد يا ترى ، بسبب تعصبه لهم ضد الأنصار !

15 . أكذوبة مشاورة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأبي بكر في العريش

اخترع أتباع أبي بكر وعمر دوراً لهما في العريش ، أي في الخيمة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) استبقى أبا بكر ليستشيره في إدارة المعركة !
قال ابن هشام : 2 / 457 : « ثم عدَّل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق ، ليس معه فيه غيره » .
يقصد بذلك أن أبا بكر لم يقاتل ، لأنه كان يحرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنهم رووا أن الأنصار كانوا يحرسونه ( صلى الله عليه وآله ) . ففي سيرة ابن هشام : 2 / 458 : « وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متوشحٌ السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخافون عليه كرة العدو » .
--------------------------- 743 ---------------------------
ثم إنه من الثابت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاتل في بدر قتالاً شديداً ولم يكن معه أبو بكر ولا عمر ، فأين كانا وقت القتال ؟ قال علي ( عليه السلام ) : « لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » !
« مكارم الأخلاق للطبرسي / 18 » . ورواه مجمع الزوائد : 9 / 12 ، بطرق وحسنه ، وابن أبي شيبة : 7 / 578 ، تاريخ دمشق : 4 / 14 ، كنز العمال : 10 / 397 وقال إن الطبري صححه .
إذن لا بد من القول إن أبا بكر كان مثل عمر يحفظ نفسه بالفرار إلى الصفوف الخلفية ، فقد حدَّثَ عمرعن نفسه بأنه كان في أطراف المعركة فرأى العاص بن أبي أحيحة فهابه وهرب منه ! قال لابنه سعيد بن العاص : « مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه ! فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له علي فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله !
فقال له علي : اللهم غفراً ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم ، فما لك تهيِّج الناس عليَّ ؟ فكفَّ عمر . وقال سعيد : أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب » . ابن هشام 2 / 464 وكشف الغمة 1 / 186 .
فقد برأ عمر نفسه من قتل العاص ، واعترف أنه هرب منه ، فآيات الفرار إلى الصفوف الخلفية تشمله !
ومع ذلك ادعوا أنه وأبابكركانا في العريش ! وغرضهم تفضيلهما على علي ( عليه السلام ) الذي تحمل نصف أعباء المعركة ، وجندل بسيفه نصف قتلى بدر من طغاة قريش !
وقد أجابهم علماؤنا على ذلك ، فقال الشريف المرتضى « رحمه الله » في الفصول المختارة / 34 : « إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في العريش أفضل من جهاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف لأنهما كانا مع النبي في مستقره يدبران الأمر معه ، ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه . . إلى أن قال : فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما ، فقد ثبت أنه كان
--------------------------- 744 ---------------------------
كاملاً وأنهما كانا ناقصين عن كماله ، وكان معصوماً وكانا غير معصومين ، وكان مؤيداً بالملائكة وكانا غير مؤيدين ، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك ، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما » !
وقال المفيد في الإفصاح / 198 : « ثم يقال لهم : خبرونا عن حبس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا بكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه ، وتدبيرهما الأمر معه أقلتم ذلك ظناً أو حدساً ، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين ؟ فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم ، فكفاهم بذلك خزياً في مقالهم وشناعةً وقبحاً ، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه ، وهل ذلك من وجه العقل أدركوه أم وجوه السمع والتوقيف ؟ ! فلا يجدون شيئاً يتعلقون به من الوجهين جميعاً . ثم يقال لهم » .
وقد واصل المتأخرون الافتخار بما اخترعه أسلافهم وزادوا عليه ! فجعل ابن تيمية أبا بكر وعمر أشجع من علي ( عليه السلام ) ! وأغمض عن فرارهما في بدر وأحد وخيبر وحنين وغيرها ! قال في منهاجه : 8 / 86 و 78 : « فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة . . وأبو بكر وعمر مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن ! قال أبو محمد بن حزم : وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً ، والجهاد أفضل الأعمال . قال : وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة : أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان ، والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير ، والجهاد باليد في الطعن والضرب أقل مراتب الجهاد ! ثم قال ابن تيمية : « وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب ، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم ، فإن أبا بكر باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي من أول الإسلام إلى آخره ، ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل ، وكان يقدم على المخاوف يقي النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله ، وهو في ذلك كله مقدم !
وكان يوم بدر مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله ، وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي ويعاونه . ولما قام النبي ( صلى الله عليه وآله )
--------------------------- 745 ---------------------------
يدعو ربه ويستغيث ويقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبداللهم اللهم . . جعل أبو بكر يقول له : يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك ! وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته » ! وكرره في مجموع فتاواه : 28 / 257 .
وقد رد علماء الشيعة المعاصرون على هذر ابن تيمية وابن حزم ! راجع الغدير : 7 / 200 ، محاضرات في الإعتقادات للسيد الميلاني : 1 / 324 ، دراسات في منهاج السنة / 214 ، الصحيح من السيرة : 5 / 41 وقد شكك في أصل وجود العريش في بدر .

آيتان في الفرار إلى الصفوف الخلفية

لم ينقلوا فرار أحد من المسلمين في بدر ، لكن نزلت آيتان في سورة الأنفال وهي سورة بدر ، تنهيان عن الفرار من الزحف ، فلا بد أنها تقصدان من فروا من الصفوف الأمامية إلى الخلفية . كما أنها تحذير من الفرار في المستقبل !
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 15 - 16 .
وسيأتي بسند صحيح عندهم ، أن أحد عشر صحابياً فيهم أبو بكر وعمر ، شربوا الخمر بعد بدر ، وتغنوا بالنوح على قتلى المشركين في بدر ! فلا حول ولا قوة إلا بالله .

  • *
    --------------------------- 746 ---------------------------
    « تم المجلد الأول من السيرة النبوية عند أهل البيت « عليهم السلام » »
    --------------------------- 747 ---------------------------
    --------------------------- 748 ---------------------------
    --------------------------- 749 ---------------------------
    --------------------------- 750 ---------------------------
    --------------------------- 751 ---------------------------
    --------------------------- 752 ---------------------------
    --------------------------- 753 ---------------------------
    --------------------------- 754 ---------------------------
    --------------------------- 755 ---------------------------
    --------------------------- 756 ---------------------------
    --------------------------- 757 ---------------------------
    --------------------------- 758 ---------------------------
    --------------------------- 759 ---------------------------
    --------------------------- 760 ---------------------------
    --------------------------- الغلاف 2 ---------------------------
    سيرة ابن هشام هي السيرة الرسمية عند جمهور المسلمين ، وقد أخذها من سيرة ابن إسحاق وصاغها كما تريد الخلافة العباسية . وقد ألف علماء الشيعة عددا من الكتب في السيرة ، وهي بشكل عام نقد للسيرة الرسمية .
    أما هذه السيرة فهي تتحرى رواية أهل البيت عليهم السلام ورأي علماء مذهبهم في أحداث السيرة النبوية .
    دار المعروف
    للطباعة والنشر
    إيران - قم - شارع مصلى القدس - رقم 682
    تلفون : 2532939140 ( 0 ) 0098