في معرفة الله تعالى وحبه عز وجل

الدين هو الحب والبغض ؟

حب المؤمن لنبيه(ص) وإمامه(ع) حبٌّ خاصٌّ يصل أحياناً الى حد الهيام بشخصية النبي أو الإمام الفريدة المحبوبة ، التي اختارها رب العالمين لتكون قدوة وأسوة لعباده ، وجسد فيها إرادته تعالى ، وتجلت فيها أسماؤه الحسنى وأنواره والجذابة .

قال الفضيل بن يسار:«سألت أبا عبد الله(ع) عن الحب والبغض، أمن الإيمان هو؟ فقال: وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الآيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ». «الكافي:2/124» .

وفي مستدرك الحاكم «2/291»: «قال رسول الله(ص) : الشـرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء. وأدناه أن تحب على شئ من الجوْر وتبغض على شئ من العدل . وهل الدين إلا الحب والبغض . قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ الله ».

تفاوت الناس في طاقة الحب والبغض !

إن حُبَّ الذات أقوى الغرائز ، فكل إنسان يحب نفسه وما يتصوره خيراً لها ، أما الإيمان فيحتاج الى طاقة حبٍّ للخير وبغضٍ الشـر ، فهي التي تجعل الشخص يتفاعل مع الكون والطبيعة والمجتمع ، ومع العقائد والمشاعر ، فينبض قلبه وتجيش مشاعره حباً للخير وبغضاً للشر .

ويتفاوت الناس فيما منحهم الله من هذه الطاقة ، وفي تربيتها وتنميتها . وقويُّ العاطفة والحب للخير ، المملوءُ حيويةً ، مرشحٌ لأن يكون مؤمناً متديناً . أما ضعيف العاطفة ، الخامل ، الذي قلما يجيش قلبه للإيمان ، فهو شبيهٌ بالميت ، وليس مرشحاً للإيمان ، أو لدرجة عالية فيه .

لكن هذا الخامل في عالم الإيمان الذي لا يحسن حب الله ورسوله(ص) وأوليائه (ع) ، تراه يحب بدلهم في مقابلهم !

وقد وصف الله هذين النوعين من الناس فقال: وَمَا يَسْتَوِى الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. «فاطر:22».

وقال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا. «الأنعام:122».

لا قيمة لحب وبغض من لا عقل له

تحتاج طاقة الحب والبغض الى عقل يوجهها ويحفظ اعتدالها ، وهذا معنى الحب في الله والبغض في الله ، أي الخاضع لأحكام الشريعة .

ولا قيمة للحب والبغض بدون عقل ، لأن ضررهما أكثر من نفعهما !

ولذلك حذر الأئمة(ع) من قليل العقل ووصفوه بأنه لا دين له !

قال الإمام زين العابدين(ع) : ( إذا رأيتم الرجل قد حَسَّنَ سَمْتَه وهَدْيَه ، وتَمَاوَتَ في منطقه ، وتَخَاضَعَ في حركاته ، فَرُوَيْداَ لا يَغُرَّنَّكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجُبن قلبه فنصب الدين فخّاً لها ، فهو لا يزال يَخْتِلُ الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه .

وإذا وجدتموه يَعِفُّ عن المال الحرام ، فرويداً لا يغرنكم ، فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من يَنْبُو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شَوْهاء قبيحة فيأتي منها مُحَرَّماً !

فإذا وجدتموه يَعِفُّ عن ذلك فرويداً لا يَغُرَّنَّكُم ، حتى تنظروا ما عَقَدَهُ عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله .

فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغركم ، حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه ، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ؟ فإنَّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة ، حتى إذا قيل له اتَّقِ الله أخذته العزَّةُ بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد ، فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمدُّه ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ! فهو يُحِلُّ ما حَرَّم الله ويُحَرِّم ما أحل الله ، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها ! فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهيناً .

ولكن الرجل كلَّ الرجل نعمَ الرجل ، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله وقواه مبذولةً في رضا الله ، يرى الذلَّ مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تَبيد ولا تَنْفَد ، وأن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال .

فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا ، وإلى ربكم به فتوسلوا ، فإنه لا تُرَدُّ له دعوة ولا تَخِيبُ له طَلِبَة ). (الإحتجاج:1/54).

فالذي يعرف من يحب ويبغض ، وكيف ، هو صاحب العقل فقط .

قال الإمام الباقر(ع) : « قال رسول الله(ص) : وُدُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان . ألا ومن أحب في الله ، وأبغض في الله ، وأعطى في الله ، ومنع في الله ، فهو من أصفياء الله » . «الكافي «2/124».

وروى ابن عبد البر في التمهيد «17/430»: « قال رسول الله(ص) : يا عبد الله بن مسعود . قلت: لبيك يا رسول الله ، قال: تدري أي عرى الإيمان أوثق؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الولاية في الله ، والحب والبغض فيه » .

حب النبي(ص) وأهل بيته(ع) أرقى أنواع الحب

روى في الكافي «8/78» عن الإمام الصادق(ع) هذه الرواية العجيبة ، قال: «كان رجلٌ يبيع الزيت وكان يحب رسول الله(ص) حباً شديداً ، كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله(ص) !

وقد عَرف ذلك منه ، فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه ، حتى إذا كان ذات يوم دخل عليه فتطاول له رسول الله(ص) حتى نظر إليه ، ثم مضـى في حاجته فلم يكن بأسرع من أن رجع! فلما رآه رسول الله(ص) قد فعل ذلك أشار إليه بيده إجلس فجلس بين يديه فقال: مالك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل ذلك؟ فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبياً لَغَشِيَ قلبي شئٌ من ذكرك حتى ما استطعت أن أمضي في حاجتي ، حتى رجعت إليك ، فدعا له وقال له خيراً .

ثم مكث رسول الله(ص) أياماً لا يراه ، فلما فقده سأل عنه فقيل: يا رسول الله ما رأيناه منذ أيام ، فانتعل رسول الله(ص) وانتعل معه أصحابه وانطلق حتى أتوا سوق الزيت، فإذا دكان الرجل ليس فيه أحد، فسأل عنه جيرته فقيل:يا رسول الله مات ، ولقد كان عندنا أميناً صدوقاً، إلا أنه قد كان فيه خصلة ! قال: وما هي؟ قالوا: كان يرهق ، يعنون يتبع النساء . فقال رسول الله(ص) : رحمه الله ، والله لقد كان يحبني حباً لو كان نَخَّاساً لغفر الله له ».

أقول: النَّخَّاس بائع الجواري ، وهو عادةً يقع في الحرام ويرتكب الزنا معهن. ومعنى كلام النبي(ص) : أن حب الشاب بياع الزيت له وهيامه به ، يغلب ذنوبه حتى لو كانت كذنوب نخاس زناء .

ونلاحظ في الحديث شهادة رفقاء هذا الشاب بصدقه وأمانته ، فذلك من تأثير حبه للنبي(ص) ، وإن بقيت عنده معاصٍ في سلوكه .

كما نلاحظ عمق حبه رضي الله عنه حتى أنه لا يستطيع أن يذهب الى عمله كل يوم حتى ينظر نظرة الى رسول الله(ص) .

وأن حبه العميق هذا دله على أنه يرى رسول الله(ص) لآخر مرة ، فرجع اليه ليراه رؤية مودع ، ثم توفي بعد ذلك رضي الله عنه !

وقال بريد بن معاوية العجلي(رحمه الله) «تفسير العياشي:1/167»: «كنت عند أبي جعفر«الإمام الباقر(ع) » إذ دخل عليه قادمٌ من خراسان ماشياً ، فأخرج رجليه وقد تغلفتا «ورمتا من المشي» وقال: أما والله ما جاء بي من حيث جئت إلا حبكم أهل البيت !

فقال أبو جعفر(ع) :والله لو أحبنا حجر حشـره الله معنا ، وهل الدين إلا الحب ، إن الله يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ . وقال: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ . وهل الدين الا الحب .

وقال ربعي بن عبد الله: قيل لأبي عبد الله « الإمام الصادق(ع) »: جعلت فداك إنا نسمى بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فينفعنا ذلك؟ فقال: إي والله ، وهل الدين إلا الحب؟ قال الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ».

أقول: يدل قوله(ع) : لو أحبَّنا حجرٌ حَشَـَرُه الله معنا ، على أن الجمادات لها أرواح بحسبها كما نذهب اليه. قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .

كما يدل على أن الحشر يوم القيامة شامل لذوات الأوراح والنبات والجماد .

وفسره بعضهم بأن معناه: لو أحبنا شخص قلبه حجر لصلح بحبنا وحشره الله معنا، فيكون معناه تأثير حبهم(ع) في حسن العاقبة . لكنه تفسير ضعيف .

أما وجه نفع تسمية أولادنا بأسماء أهل البيت(ع) ، فلأنه يقربنا من الله تعالى فينفعنا ، كما ينفع أولادنا بتأثير وضعي وشرعي .

الفرق بين الحب والعشق

استعمل العرب مادة عَشِقَ في الحب المفرط ، واشتهر في حب الرجل للمرأة والعكس، فعندما تقول فلان عاشق فمعناه مغرم بحب امرأة ، ولا يفهم منه غير ذلك إلا بقرينة . «العين:1/124».

وقال ابن فارس«4/321»: « يدل على تجاوز حد المحبة » . ويحتمل أن يكون أصلها فارسياً ، لأن «إيشك» الفهلوية تعني غرام الرجل والمرأة .

ولم يستعمل القرآن كلمة العشق ، واستعمل بدلها الحب في أكثر من سبعين مورداً ، ولعل السبب أنها أوسع منها وأكثر احتراماً .

وقد فرق ابن الرومي بين العشق فجعله للغانيات ، وجعل الحب لعلي وأهل البيت(ع) ، قال «مناقب آل أبي طالب:2/230»:

يا هندُ لم أعشق ومثلي لا يَرَى***** عِشْقَ النساءِ ، ديانةً وتحَرُّجَا

لكنَّ حبي للوصي مخيمٌ***** في الصدر يسـرحُ في الفؤاد تولجا

فهو السـراج المستنير ومن به***** سببُ النجاة من العذاب لمن نجا

لكن النبي(ص) استعمل العشق للعبادة ، فقال «الكافي:2/83»: «أفضل الناس من عشق العبادة ، فعانقها وأحبها بقلبه ، وباشرها بجسده وتفرغ لها فهولايبالي على ماأصبح من الدنيا على عسر أم على يسر».

ونلاحظ أنه(ص) استعمل أوصاف العاشقين من المعانقة والمباشرة ، لينقل معنى العشق الجنسي الى العشق المعنوي للعبادة لتكون محبوبة العابد ، يهيم بتلاواتها ، ويأنس بركوعها وسجودها ، ويتلذذ بعطش صومه وجوعه !

كما رود عن النبي(ص) أنه جعل العشق أشد درجةً من الشوق ، فقال: « إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة ، وإن الجنة لأعشق لسلمان من سلمان إلى الجنة » . «روضة الواعظين/282».

ليس كل عشق مذموماً

العشق المذموم: مايصرف الإنسان عن واجب ، أو يوقعه في حرام .

أما ما عداه فهو عشق حلال ، وقد يكون مستحباً مندوباً اليه ، كما رأيت في وصف النبي(ص) لعاشق العبادة .

وقد ذمَّ أمير المؤمنين(ع) عشق الدنيا، وقصده الذي يسيطر على الإنسان فيرى الأمور بمنظار نفعي ، وليس بمنظار عقلاني رباني .

قال(ع) «نهج البلاغة:1/211»: « سبحانك خالقاً ومعبوداً ، بحسن بلائك عند خلقك . خلقت داراً وجعلت فيها مأدبة: مشـرباً ومطعماً ، وأزواجاً وخدماً، وقصوراً وأنهاراً ، وزروعاً وثماراً . ثم أرسلت داعياً يدعو إليها فلا الداعي أجابوا ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئاً أعشى بصـره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ، ولمن في يده شئ منها » !

وقد ذمَّ الإمام الصادق(ع) العشاق الهائمين ،لأنهم ينشغلون بعشقهم عن ذكر الله تعالى ، ففي علل الشرائع «1/140» قال المفضل بن عمر: «سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق(ع) عن العشق فقال: قلوبٌ خلت من ذكر الله ، فأذاقها الله حب غيره ».

وقال في عمدة القاري «14/127»: « وروى البزار بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: من عشق وعَفَّ وكتم ومات ، مات شهيداً ». وهو مدحٌ لمن لم يرتكب حراماً . ولم يرفعه الى النبي(ص) .

هذا ، وقد شاع عند الصوفية والعامة التعبير بعشق النبي وآله(ص) ، وقد استنكره بعضهم ، لكن لا أرى فيه بأساً ، وقد استعمله النبي(ص) للعبادة .

لايُعرف الله عز وجل إلا بإمامٍ

عندما نقول يجب على الإنسان معرفة الله تعالى ، فالمقصود معرفة وجوده عز وجل ، ومعرفة توحيده ، وصفاته .

أما معرفة ذاته عز وجل فهو فوق طاقة البشر ، ولذا نهانا النبي(ص) عن التفكر في ذات الله تعالى ، وأمرنا أن نتفكر في عظمة مخلوقاته .

وبما أن معرفة الناس لله تعالى وتصوراتهم عنه أنواعٌ ، وعبادتهم له أنواعٌ أيضاً ، فكان من الضروري أن يتلقوا معرفته من مصدر اختاره هو ونصبه حجة لعباده ، نبياً ، أو إماماً(ع) .

فالحمد لله على أنه بعث لنا رسولاً، ونصب بعده أئمةً ، نتلقى منهم دينه ونتعلم منهم حبه ، ولولا ذلك لتهنا في معرفته في كل واد ، وعرفناه خيالاً وضلالاً ، وأحببناه هواءً وهباءً !

فما أكثر الذين يتخيلون أنهم عرفوه ، وما عرفوا إلا معبوداً صنعوه بأفكارهم الناقصة ، وما عبدوا إلا رباً تخيلوه بأذهانهم القاصرة ، فهم ما بين صرعى ذات اليمين والشمال ، أو مُكِبِّينَ على وجوههم !

وما أسعد الذين عرفوه عن طريق أوليائه ، الذين عينهم ليُعرف بهم ، ولهذا كانت معرفة الأئمة(ع) مقدمة لمعرفة الله تعالى .

وصدق الإمام الحسين(ع) في قوله: (أيها الناس ، إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ، فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي ، فما معرفة الله ؟ قال معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته .

قال مصنف هذا الكتاب: يعني ذلك أن يعلم أهل كل زمان أن الله هو الذي لا يخليهم في كل زمان عن إمام معصوم ، فمن عبد رباً لم يُقم لهم الحجة ، فإنما عبد غير الله عز وجل ). (علل الشرائع:1/9).

ومعنى كلام الصدوق(رحمه الله) أن من عدل الله تعالى أن يقيم الحجة ، ويعين إماماً . وهذا أمرٌ يضاف الى أن معرفته تعالى تتوقف على دلالة إمام .

وصدق الإمام الباقر(ع) حيث قال: « إنما يَعرف الله تعالى ويعبده من عرف إمامه منا أهل البيت . ومن لايعرف الإمام منا أهل البيت ، فإنما يعرف ويعبد غير الله ، هكذا والله ضلالاً ». (الكافي:1/181).

وحيث قال(ع) : (إنما يعبد الله من يعرف الله ، فأما من لايعرف الله ، فإنما يعبده هكذا ضلالاً. قلت: جعلت فداك فما معرفة الله ؟ قال: تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله(ص) وموالاة علي(ع) والإئتمام به وبأئمة الهدى والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم ، هكذا يعرف الله عز وجل) . (الكافي:1/180).

وصدق الإمام الصادق(ع) في قوله:(الأوصياء هم أبواب الله لتي يؤتى منها ولولاهم ماعُرِفَ اللهُ تعالى وبهم احتج الله على خلقه». (الكافي:1/193).

أقول: يبدو هذا الكلام دعوى ثقيلة ، لأنه ينفي المعرفة الصحيحة عن غير الآخذين من أهل البيت(ع) . لكنك تعرف صدقها عندما ترى الى أين وصل الذين عرفوه عن غير طريقهم ، وكيف وقعوا في مطبات عظيمة ، ودخلوا في طامات كبرى ، لا مخرج منها إلا بالعودة الى أهل البيت(ع) .

روى في كفاية الأثر/156، عن علي(ع) قال: (دخلت على رسول الله(ص) في بيت أم سلمة وقد نزلت هذه الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً. فقال رسول الله(ص) : يا علي هذه الآية نزلت فيك وفي سبطيَّ والأئمة من ولدك . فقلت: يا رسول الله وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي ، ثم ابناك الحسن والحسين ، وبعد الحسين علي ابنه ، وبعد علي محمد ابنه ، وبعد محمد جعفر ابنه ، وبعد جعفر موسى ابنه ، وبعد موسى علي ابنه ، وبعد علي محمد ابنه ، وبعد محمد علي ابنه ، وبعد علي الحسن ابنه ، والحجة ولد الحسن.

هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله تعالى عن ذلك فقال: يا محمد هم الأئمة بعدك ، مطهرون معصومون ) !

(السلام على مَحَالِّ معرفة الله ، السلام على مساكن ذكر الله ، السلام على مظاهر أمر الله ونهيه.. السلام على الأدلاء على الله.. السلام على الذين من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله ، ومن عرفهم فقد عرف الله ، ومن جهلهم فقد جهل الله ، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله ، ومن تخلى منهم فقد تخلى من الله ). (الفقيه:2/680 ).

( الْحَمْدُ لِلَّه عَلَى مَا عَرَّفَنَا مِنْ نَفْسِه ، وأَلْهَمَنَا مِنْ شُكْرِه ، وفَتَحَ لَنَا مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِرُبُوبِيَّتِه ، ودَلَّنَا عَلَيْه مِنَ الإِخْلَاصِ لَه فِي تَوْحِيدِه ، وجَنَّبَنَا مِنَ الإِلْحَادِ والشَّكِّ فِي أَمْرِه». (الصحيفة السجادية/30) .

لا يُحَبُّ الله إلا بالتعلم من إمام

قال الإمام الرضا(ع) في خطبة له (التوحيد/35): (أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفة الله توحيده ، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه ، لشهادة العقول أن كلَّ صفةٍ وموصوفٍ مخلوق ، وشهادة كل مخلوقٍ أن له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كل صفة وموصوف بالإقتران ، وشهادة الإقتران بالحدث ، وشهادة الحدث بالإمتناع من الأزل ، الممتنع من الحدث ، فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته ) .

وفي التوحيد للصدوق/285: (جاء أعرابي إلى النبي(ص) فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم ، قال: ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل عن غرائبه؟ قال الرجل: ما رأس العلم يا رسول الله ؟ قال : معرفة الله حق معرفته . قال الأعرابي: وما معرفة الله حق معرفته؟ قال : تعرفه بلا مثلٍ ، ولا شِبْهٍ ، ولا نِدٍّ ، وأنه واحدٌ أحد ، ظاهرٌ باطن، أولٌ آخر ، لا كفوَ له ولا نظير . فذلك حق معرفته ).

وقرأ الإمام الصادق(ع) قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، ثم قال: يا حفص، الحب أفضل من الخوف. ثم قال: والله ما أحبَّ الله من أحب الدنيا ووالى غيرنا ، ومن عرف حقنا وأحبنا ، فقد أحب الله تبارك وتعالى ). (الكافي:8/129).

وقال رسول الله(ص) : ( أنا سيد ولد آدم ، وأنت يا علي والأئمة من بعدك سادة أمتي ، من أحبنا فقد أحب الله ، ومن أبغضنا فقد أبغض الله ، ومن والانا فقد والى الله ، ومن عادانا فقد عادى الله ، ومن أطاعنا فقد أطاع الله ، ومن عصانا فقد عصى الله ). (أمالي الصدوق/563).

وقال الله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ ) .

فالذين آمنوا يحبون الله تعالى أكثر من حب أصحاب الأنداد لأندادهم ، أي آلهتهم وأئمتهم الذين اتخذوهم بدون سلطان من الله .

والمقصود بالمؤمنين في الآية: أهل البيت(ع) (العياشي:1/62)لأن حبه تعالى متوقفٌ على معرفته ، فإن لم يعرفه فهو يحب شيئاً من تصوره !

والأئمة المعصومون(ع) أعرف الناس به ، فهم أشدُّ الناس حباً له .

وقال الإمام الصادق(ع) (الكافي:8/248): (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم ، ولنعموا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله .

إن معرفة الله عز وجل أُنْسٌ من كل وحشة ، وصاحبٌ من كل وحدة ، ونورٌ من كل ظلمة ، وقوةٌ من كل ضعف ، وشفاءٌ من كل سقم .

ثم قال(ع) : وقد كان قبلكم قومٌ يُقتلون ويُحرقون ويُنشـرون بالمناشير وتَضيق عليهم الأرض برحبها ، فما يردهم عما هم عليه شئ مما هم فيه ، من غير تِرَةٍ وَتروا مَن فعل ذلك بهم ، ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فاسألوا ربكم درجاتهم ، واصبروا على نوائب دهركم ، تدركوا سعيهم ).

وقال الشهيد الثاني في مُسَكِّن الفؤاد/27:(جعل النبي(ص) الحب لله من شرط الإيمان فقال: لايؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ولايتحقق الحب في قلب أحد لأحد مع كراهته لفعله وسخطه به ، بل مع عدم رضاه على وجه الحقيقة ، لا على وجه التكلف والتعنت .

وفي أخبار داود (ع) : يا داود ، أبلِغ أهل أرضي أني حبيبُ من أحبني وجليسُ من جالسني ، ومؤنسٌ لمن أنس بذكري ، وصاحبٌ لمن صاحبني ، ومختارٌ لمن اختارني ، ومطيعٌ لمن أطاعني .

ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه ، إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي .

من طلبني بالحق وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني . فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ، ومجالستي ومؤانستي ، وأْنسوا بي أؤنسْكم ، وأسارعْ إلى محبتكم .

وأوحى الله تعالى إلى بعض الصديقين: إن لي عباداً من عبادي ، يحبوني وأحبهم ، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، فإن أخذت طريقتهم أحببتك ، وإن عدلت عنهم مقتُّك .

فقال: يا رب وما علامتهم؟ قال: يُراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب ، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام ، وفرشت الفرش ، ونصبت الأسرة ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، نصبوا إليَّ أقدامهم وافترشوا لي وجوههم ، ونا جوني بكلامي ، وتملقوني بإنعامي ، ما بين صارخٍ وباكٍ ، وما بين متأوهٍ وشاكٍ ، وبين قائمٍ وقاعدٍ ، وبين راكعٍ وساجد . بعيني ما يتحملون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبي . أقلُّ ما أعطيهم ثلاثاً: الأول: أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني كما أخبر عنهم . والثاني: لو كانت السماوات الأرضون وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم . والثالث: أقبل بوجهي عليهم ، أفترى من أقبلت بوجهي عليه ، يعلم أحدٌ ما أريد أن أعطيه ) .

ضلال النواصب في معرفة الله تعالى وحبه

من يَضِلُّ في معرفة الله تعالى يَضِلُّ في حُبه ، ومن أعرض عن أئمة العترة الذين نصبهم الله بعد نبيه(ص) وجعلهم عِدْلَ القرآن ، ولم يتلقَّ دينه منهم يَضِلُّ لا محالة في معرفة الله تعالى ، وحبه !

وقد وصل النواصب الى الدرك الأسفل من الجهل، فزعموا أن الله تعالى جَسَدٌ محدودٌ ينزل ويصعد ، وجعلوه مخلوقاً خاضعاً لقوانين الزمان والمكان ، واتبعوا ما تشابه من القرآن ، وجعلوا لله تعالى يداً ورجلاً وأعضاء ، وتركوا محكمهُ كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىٌْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وجعلوا خالق الكون عز وجل شاباً أمرد ، وافتروا على نبيه(ص) وزعموا أنه رآه بعينه شاباً شعره أجعد يلبس نعلين من ذهب !

وأول من زرع هذه المقولات كعب الأحبار في زمن عمر، فاستنكر ذلك أهل البيت(ع) ، ورده أمير المؤمنين(ع) في مجلس عمر .

ثم استنكرته عائشة فقالت: (من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، وهو يقول:لا تدركه الأبصار) (البخاري:8/166). وقالت: ( من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله والله يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب).(الترمذي:4/328 ).

لكن النواصب ردوا قول أهل البيت(ع) وقول عائشة ، وأشربوا التجسيم وحب الشاب الأمرد ، كما أشرب اليهود حب العجل!

قال إمامهم ابن تيميه في بيان تلبيس الجهمية ، تحقيق الدكتورمحمد البُريدي المطبوع بأمر الملك فهد بالمدينة المنورة (7/288) ، وكذلك قال في كتاب: التأسيس في الرد على أساس التقديس (3/241): (فيقتضـي أنها رؤية عين ، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي في صورة شاب أمرد ، له وَفْرة ، جَعْدٌ قَطَطٌ ، في روضة خضراء ) .

وقال تلميذه ابن كثير في تفسيره (6/448) :(إسناده على شرط الصحيح ).

وروى في طبقات الحنابلة (2/45) عدة أحاديث وفيها أنه شاب أمرد عليه عباءة خضراء . وفي أحاديث أخرى أن ربهم يلبس حُلَّةً حمراء ! (السنة لابن أبي عاصم/433، ومسند أحمد:2/290) .

وكذلك فسروا حديث:لا تُقبح وجهه ، فإن الله خلق آدم على صورته ، بأن معناه على صورة الله ، وليس على صورة الشخص المشتوم !

وقد فصلناه في كتاب: الوهابية والتوحيد ، وكتاب ألف سؤال وإشكال .

وعلى هذا يكون معنى قول الوهابي:لا إله إلا الله:لا إله إلا الشاب الأمرد ! ومعنى قوله: إني أحب الله: أنه يحب الشاب الأمرد !

ويكون معنى دعوته المسلمين الى التوحيد: توحيد الشاب الأمرد ! ومعنى شرك من خالفه: أنه أشرك بعبادة الشاب الأمر د !

فاعجب لهذا البؤس والضلال الغليظ ، الذي يصرفون المليارات لتعميم ثقافته على الأمة الإسلامية والعالم ، باسم الإسلام !

واشكر الله أنك عرفت ربك سبحانه عن طريق أهل البيت(ع) ، لا عن طريق كعب ، وأبي هريرة ، وبني أمية !

وافهم معنى قولنا لأهل البيت(ع) : بكم عُرِفَ الله ، وبكم عُبِدَ الله .

قال العلامة الحلي(قدس سره) في منهاج الكرامة/39: (وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد ، راكباً على حمار ، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفاً يضع كل ليلة جمعة فيه شعيراً وتبناً ، لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح ، فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء: هل من تائب هل من مستغفر!

تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى .

وحكيَ عن بعض المنقطعين التاركين من شيوخ الحشوية، أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نَفَّاطٌ ومعه أمرد حسن الوجه قطط الشعر ، على الصفات التي يصفون ربهم بها ، فألحَّ الشيخ بالنظر إليه وكرره ، وأكثر تصويبه إليه ، فتوهم فيه النفاط ، فجاء إليه ليلاً فقال: أيها الشيخ رأيتك تلحُّ بالنظر إلى هذا الغلام ، وقد أتيتك به ، فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم ، فحَرِدَ الشيخ عليه وقال: إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله تعالى ينزل على صورة هذا الغلام ، فتوهمت أنه الله تعالى ! فقال له النفاط: ما أنا عليه من النفاطة ، أجود مما أنت عليه من الزهد ، مع هذه المقالة ) !

وحاول ابن تيمية أن يرد عليه فقال في منهاج السنة (2/631): ( هذه الحكاية وأمثالها دائرة بين أمرين ، إما أن تكون كذباً محضاً ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد ، وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب ، وأدنى العامة أعقل منه وأفقه .

وعلى التقديرين فلا يضرذلك أهل السنة شيئاً ،لأنه من المعلوم لكل ذي علم أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان ، ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا ، مع أنها صحيحة واقعة .

وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد أنها كذب محض عليهم ، وضعها إما هذا المصنف أو من حكاها له للشناعة ، وهذا هو الأقرب ، فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ، ما لا يَرُوجُ عليهم معه مثل هذا ) .

لكن ابن الجوزي وهو إمام الحنابلة ذكر ما يؤيد حكاية العلامة الحلي(رحمه الله) عن حنابة بغداد ، قال في كتابه: دفع شبه التشبيه/101: ( ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة : أبو عبد الله بن حامد ، وصاحبه القاضي ، وابن الزاغوني ، فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضـى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته ، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات ، وعينين وفماً ولهوات ، وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات ، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً ، وصدراً وفخذاً ، وساقين ورجلين ! وقالوا : ما سمعنا بذكر الرأس . وقالوا: يجوز أن يُمَسَّ ويَمُس ، ويُدني العبد من ذاته . وقال بعضهم: ويتنفس. ثم يُرضُونَ العوام بقولهم: لا كما يعقل !

وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسميةً مبتدعةً لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث ، ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل ، حتى قالوا صفة ذات ، ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة ومجئ ، وإتيان على معنى بِرٍّ ولُطف ، وساقٍ على شدة ، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة ، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين ! والشئ إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن .

ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ، ويقولون: نحن أهل السنة!وكلامهم صريح في التشبيه ، وقد تبعهم خلق من العوام ) !

وكذا قال ابن عساكر في كتابه: تبيين كذب المفتري/311:

(وتمادت الحشوية في ضلالتها والإصرار على جهالتها، وأبوْا إلا التصـريح بأن المعبود ذو قَدم وأضراسٍ ، ولهوات وأنامل ، وأنه ينزل بذاته ، ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد ، بشعر قطط ، وعليه تاجٌ يلمع ، وفي رجليه نعلان من ذهب .

وحُفظ ذلك عنهم وعللوه ودونوه في كتبهم ، وإلى العوام ألقوه ، وأن هذه الأخبار لا تأويل لها ، وأنها تجري على ظواهرها ، وتُعتقد كما ورد لفظها ، وأنه تعالى يتكلم بصوت كالرعد كصهيل الخيل .

وينقمون على أهل الحق لقولهم أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال ، منعوتٌ بالعلم والقدرة ، والسمع والبصر، والحياة والإرادة ، والكلام ، وهذه الصفات قديمة ، وأنه يتعالى عن قبول الحوادث ، ولا يجوز تشبيه ذاته بذات المخلوقين ، ولا تشبيه كلامه بكلام المخلوقين ) !

أقول: فالناصبي إما أن يكون مثل ذلك الشيخ الأبله ، الذي أصاب النفاط بأنه خير منه ، لأن النفاط ينزه الله تعالى ، والوهابي (العالم) يتخيل أن ربه شاب أمرد ، يعبده ويتقرب اليه ! وكفى بذلك ضلالاً في العقيدة والسلوك !

بل يظهرأن الشذوذ الجنسي انتشر بينهم ، بسبب هذه العقيدة الفاحشة !

ضلال القائلين بوحدة الوجود من أهل التصوف والعرفان

قال إمامهم ابن عربي (الفتوحات:2/459):(فاختلاف العالم بأسره لا يخرجه عن كونه واحد العين في الوجود، فزيدٌ ما هو عمرو ، وهما إنسان فهما عين الإنسان لا غيره ، فمن هنا تعرف العالم من هو وصورة الأمر فيه ، إن كنت ذا نظر صحيح.. فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها !

فما نظرتْ عيني إلى غير وجههِ
وما سمعت أذني خلافَ كلامه

فكلُّ وجودٍ كان فيه وجودُه
وكل شخيصٍ لم يزل في منامه

فتعبير رؤيانا لها في منامنا
فمن لامَ فليلحق به في ملامه).

وقال في فصوص الحكم/389: (فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا ، لأن ذواتنا عين ذاته ، لامغايرة بينهما إلا بالتعين والإطلاق . أو شهدنا نفوسنا فيه ، لأنه مرآة ذواتنا . وإذا شَهِدَنا أي الحق شهدَ نفسه أي ذاته التي تعينت وظهرت في صورتنا ، أو شهد نفسه فينا ، لكوننا مرآةً لذاته وصفاته ).

وقال في فصوص الحكم:1/83: « فالأمر منه إِليك ومنك إِليه . غير أنك تسمى مكلَّفاً وما كلَّفك إِلا بما قلت له كلفني بحالك وبما أنت عليه ، ولا يسمَّى مكلَّفاً ، إسم مفعول:

فيحمدني وأحمدُه
ويعبدني وأعبدُه
ففي حال أقرُّ به
وفي الأعيان أجحده
فيعرفني وأنكره
وأعرفه فأشهده
فأنى بالغنى وأنا
أُساعده فأسعده
لذاك الحق أوجدني
فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا
وحقق فيَّ مقصده)

وقال في الفتوحات (12/578):(فعلامة الحب الإلهي حب جميع الكائنات في كل حضـرةٍ معنوية أو حسية أو خيالية أو متخيلة . ولكل حضرة من هذه الحضرات عينٌ من إسمه تعالى ).

وقال في شرح فصوص الحكم (2/325): (لاعجب في نظر ابن عربي أن أحب النبي النساء ، لأن المرأة جزء من الرجل، والأصل يحن إلى فرعه والكل يحن إلى جزئه . وليس حب النبي النساء إلا مثالًا جزئياً يوضح مبدأً عاماً يسير عليه الوجود بأسره ، وهو الحب الإلهي الذي هو حنين الحق إلى الخلق ، ولكن الفرع يحن إلى أَصله أيضاً ، والجزء إلى كله: ومن هنا جاء حنين الخلق إلى الحق ، وإن كان في الحقيقة حنيناً للحق إلى نفسه في صورة الخلق المتعين .

أما شوق الحق إلى الخلق ، فهو شوق الكل إلى أجزائه ، والكل والأجزاء مستعملان هنا على سبيل المجاز . وقد ظهر في صورتين، الأولى: في حنين الذات الإلهية إلى الظهور على مسـرح الوجود الخارجي ، ذلك الحنين الذي كان علة الخلق ، وإليه الإشارة في الحديث القدسي بقوله تعالى: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق فبه عرفوني .

والصورة الثانية: هي حنين الحق المتجلي في صور الوجود إلى الرجوع إلى نفسه: أي حنين الكل المتعين بصورة الجزء إلى الرجوع إلى الكل العام . وهذا بعينه حنين الخلق إلى الحق ، لأن المشتاق عين المشتاق إليه في الحقيقة ، وإن كان غيره بالتعين ) !

وقال في شرح الفتوحات: 3 /21:(وقد قال الشعر كثيرون من متصوفي الإسلام.. وتخصصوا في ألوان منه آثروا على غيرها ، فأولعت رابعة العدوية (185ه‍ ) بالشعر في الحب الإلهي ، وهي القائلة:

أحبك حبين حبَّ الهوى
وحباً لأنك أهلٌ لذاكا

فأما الذي هو حبُّ الهوى
فكشفُك لي الحجبَ حتى أراكا

وأما الذي أنت أهلٌ له

فلست أرى الكون حتى أراكا

وصَوَّرَ الحلاج ( 309 هـ ) الحلول بصور شتى، منها قوله:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحنُ رُوحَانِ حللنا بدَنا

فإذا أبصـرتني أبصـرتَه
وإذا أبصـرتَه أبصـرتنا ).

أقول: عابد الشاب الأمرد أحسن حالاً من القائل بوحدة الوجود ، لأن عابد الأمرد يعرف من يعبد ويحب ، ولو في خياله !

لكن القائل بوحدة الوجود عليه أن يُحب كل الوجود ، لأنه كله الله تعالى ! ولا يستطيع أن يكره شيئاً حتى إبليس وفرعون ، والشر وأصحابه !

فقد حكم ابن عربي بأن عبادة اليهود للعجل كانت توحيداً ، قال في (الفصوص:1/191): (فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل ، لعلمه بأن الله قد قضى ألَّا يُعْبَد إلا إياه: وما حكم الله بشئ إلا وقع . فكان عتب موسى أخاه هارون ، لِمَا وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه . فإن العارف من يرى الحق في كل شئ ، بل يراه كل شئ فكان موسى يربي هارون تربية علم ، وإن كان أصغر منه في السن ) !

وقال في الفصوص (1/191): (لم ينكر موسى إذن على عبدة العجل عبادتهم إلَّا من حيث إنهم حصروا المعبود المطلق في تلك الصورة الخاصة ، التي هي صورة العجل ، مع أن المعبود المطلق يأبى الحصر ، لأنه عين كل ما يعبد.. وقال له: أنْظُرْ إِلى إِلهِكَ ، فسماه إلهاً بطريق التنبيه للتعليم ، لما علم أنه بعض المجالي الإلهية )! (وراجع الفصوص:2/285و192) .

وقال في إيمان فرعون:( وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق . فقبضه طاهراً مطهراً ليس فيه شئ من الخبث ، لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئاً من الآثام ، والإسلام يَجُبُّ ماقبله ، وجعله آيةً على عنايته سبحانه بمن شاء ، حتى لاييأس أحد من رحمة الله).(الفصوص:1/201).

بل على هذا المذهب لا يستطيع المتصوف أن يحب شيئاً غير ذاته ، لأنها بزعمه كل شئ ، أو جزء من الشئ الأكبر !

والنتيجة:أن الناصبي يعبد الولد الأمرد ، وصاحب وحدة الوجود يعبد نفسه.

وكل هذا الضياع والضلال ، لابتعادهما عن مصدر معرفة الله تعالى وحبه .

حب المؤمن من حب الله تعالى

حب الناس وكرههم

أعرف أشخاصاً ، يحب أحدهم كل الناس حتى الذين يكرهونه ، فهو بطبيعته محب ، وكأنه لايُحسن أن يبغض أحداً !

كل الناس عنده طيبون ، أو فيهم طيبةٌ تُحب ، ولا شغل له بسوئهم ، فهو لايراه ، وإن رآه تغاضى عنه!

وإذا أحرجته بأن فلان سئ خبيث فلماذا تحبه ، أخرج له المعاذير ، أو شكك بما يقال عن سيئاته !

وأعرف أشخاصاً ، يكره أحدهم كل الناس ، حتى نفسه أحياناً ، فهولا يرى إلا سوء الناس وخبثهم وظلمهم ، وأعمالهم الشيطانية ، فكأنه لا يستطيع أن يحب أحداً ، لأنه لا يرى فيهم ما يستحق أن يُحب !

وأعرف نوعاً ثالثاً يحب الناس ، لكنه يتعب من حبه لهم ، فيكرههم !

وأنواعاً أخرى من الناس ، ممن يحب الآخرين أو لا يحبهم .

ومنهم سريع الحب والبغض ، وبطيؤه . ومنهم ثابتٌ في حب وبغضه ، ومنهم متغير الحب والبغض لأدنى سبب !

والسؤال هنا: أي الأنواع من هؤلاء صحيحٌ ، لنقتديَ به ؟

هنا تظهر الحاجة لوجود إمام نتعلم منه: من نحب وكيف نحب ، ومن نبغض وكيف ؟ فالضوابط مهما كانت محددة ، يبقى فيها متسع للخطأ ، أما الإنسان القدوة فهو أكثرتحديداً ، وأبلغ تفهيماً للناس .

وما دمنا محرومين من الإمام الحاضر القدوة لغيابه صلوات الله عليه ، فإن سيرة المعصومين(ع) ونصوص الكتاب والسنة هي المرجع لتحديد النمط الصحيح ، للحب والبغض . وهي بمجموعها تدعو الى الحب والبغض معاً، والى التوازن فيهما ، لأن الولاية والبراءة أساس الدين .

ولهذا ترى الحب في القرآن موجهاً الى الله تعالى ورسوله(ص) والمؤمنين والخير والقيم الدينية والإنسانية . وترى البغض موجهاً الى أعداء الله تعالى ، والشيطان والكفار والشر .

يُحشر المرء مع من يحب

تقدم قول الإمام الباقر(ع) : (والله لو أحبنا حجرٌ حشـرهُ الله معنا ، وهل الدين إلا الحب ). « تفسير العياشي:1/167» .

وقد تواتر الحديث في أن المؤمن تُغفر ذنوبه ، ويَشفَعُ له أئمة أهل البيت الذين يحبهم(ع) ، كما يَشْفَعُ هو لغيره !

ففي تفسير القمي(2/123) عن الإمام الباقر(ع) بسند صحيح قال: ( والله لنشفعن في المذنبين من شيعتنا حتى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ . فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . قال: من المهتدين، قال: لأن الإيمان قد لزمهم بالإقرار ) .

وفي شرح الأخبار (3/461): (أبو الجارود، قال:قلت لجعفر بن محمد(ع) بأن الناس يعيبونا بحبكم . قال: أعدْ عليَّ ، فأعدت عليه . فقال: لكني أخبرك أنه إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الخلائق في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ويفقدهم البعيد ، ثم يأمر الله النار فتزفر زفرة يركب الناس لها بعضهم على بعض ، فإذا كان ذلك قام محمد نبينا(ص) فيشفع ، وقمنا فشفعنا ، وقام شيعتنا فشفعوا ، فعند ذلك سواهم : فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. َلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. والله يا أبا الجارود ما طلبوا الكرة إلا ليكونن من شيعتنا ) !

وفي شرح الأخبار (3/452): (وعن جعفر بن محمد(ع) أنه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي شيعتنا ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، وذلك أن الله تعالى يفضلنا ويفضل شيعتنا حتى إنا لنشفع ويشفعون ، فلما رأى ذلك من ليس منهم ، قالوا: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ).

وفي الكافي(8/78) بسند صحيح:(عن مُيسر قال:دخلت على أبي عبدالله (ع) فقال: كيف أصحابك؟ فقلت: جعلت فداك لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا! قال : وكان متكئاً فاستوى جالساً ، ثم قال: كيف قلت؟ قلت: والله لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ! فقال: أما والله لا يدخل النار منكم اثنان لا والله ولا واحد ، والله إنكم الذين قال الله عز وجل: وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ . أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ . إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ . (صاد:62-64) ثم قال : طلبوكم والله في النار ، فما وجدوا منكم أحداً ).

وفي الكافي(8/101)عن الإمام الباقر(ع) قال: ( وإن الشفاعة لمقبولة وما تقبل في ناصب ، وإن المؤمن ليشفع لجاره وما له حسنة ، فيقول: يا رب جاري كان يكف عني الأذى فيشفع فيه ، فيقول الله تبارك وتعالى: أنا ربك وأنا أحق من كافأ عنك ، فيدخله الجنة وما له من حسنة !

وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنساناً ، فعند ذلك يقول أهل النار: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) .

وقال المفيد في أوائل المقالات/79: ( إن رسول الله(ص) يشفع يوم القيامة في مذنبي أمته من الشيعة خاصة فيشفعه الله عز وجل .

ويشفع أمير المؤمنين(ع) في عصاة شيعته فيشفعه الله عز وجل .

وتشفع الأئمة(ع) في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفعهم .

ويشفع المؤمن البَرُّ لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفعه الله . وعلى هذا القول إجماع الإمامية إلا من شذ منهم ، وقد نطق به القرآن وتظاهرت به الأخبار ، قال الله تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان:فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. وقال رسول الله(ص) : إني أشفع يوم القيمة فأشفع، فيشفع عليٌّ فيشفع).

حب المؤمنين قيمة عليا في الدين

روى الصدوق في الخصال/243:(عن ابن عباس: قال رسول الله(ص) : سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل تصدق بيمينه فأخفاه عن شماله ، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل ، ورجل لقيَ أخاه المؤمن فقال: إني لأحبك في الله عز وجل ، ورجل خرج من المسجد وفي نيته أن يرجع إليه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها ، فقال: إني أخاف الله رب العالمين ).

وروى في الكافي(2/178) عن الإمام الباقر(ع) بسند صحيح، قال:(إن لله عز وجل جنةً لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق ، ورجل زار أخاه المؤمن في الله ، ورجل آثر أخاه المؤمن في الله ). انتهى.

وتسأل: وهل يحبه ويزوره ويؤثره على نفسه ، حتى لو آذاه وتكلم عليه وعاداه ؟ والجواب: نعم ، حتى لو فعل ذلك .

وقد عَلَّمَنَا تلاميذ أهل البيت(ع) أن نجعل تعاملنا مع أمير المؤمنين(ع) فيكون هو طرفنا في المعاملة ، لأنا نسامح المؤمن من أجله .

روى الكشي في رجاله (2/783): (أن يونس بن عبد الرحمن قيل له:إن كثيراً من هذه العصابة يقعون فيك ويذكرونك بغير الجميل ، فقال: أشهدكم أن كل من له في أمير المؤمنين(ع) نصيب ،فهو في حل مما قال).

وروى الكشي(2/281): (كنا عند أبي الحسن الرضا(ع) وعنده يونس بن عبد الرحمن، إذ استأذن عليه قوم من أهل البصرة، فأومى أبو الحسن(ع) إلى يونس: أدخل البيت ، فإذا بيت مسبل عليه ستر ، وإياك أن تتحرك حتى تؤذن لك. فدخل البصريون وأكثروا من الوقيعة والقول في يونس، وأبو الحسن(ع) مطرق ، حتى لما أكثروا وقاموا فودعوا وخرجوا: فأذن ليونس بالخروج ، فخرج باكياً فقال: جعلني الله فداك أني أحامي عن هذه المقالة ، وهذه حالي عند أصحابي ! فقال له أبو الحسن(ع) : يا يونس وما عليك مما يقولون إذا كان إمامك عنك راضياً ، يا يونس حدث الناس بما يعرفون ، واتركهم مما لا يعرفون ، كأنك تريد أن تكذب على الله في عرشه . يا يونس وما عليك أن لو كان في يدك اليمنى درة ثم قال الناس بعرة ، أو قال الناس درة ، أو بعرة فقال الناس درة ، هل ينفعك ذلك شيئاً ؟ فقلت: لا . فقال: هكذا أنت يا يونس ، إذ كنت على الصواب وكان إمامك عنك راضياً لم يضرك ما قال الناس .

وفي رواية: يايونس إرفق بهم فإن كلامك يدقُّ عليهم.قلت:إنهم يقولون لي زنديق! قال لي:وما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة يقول الناس هي حصاة ، وما كان ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس لؤلؤة)!

محركا الخوف والرجاء

من القصص الرمزية عن القيامة: أن رجلاً كان يمشـي الى مكانه في المحشـر ، فرأى صديقه جالساً وأمامه كيسٌ فيه ذنوبه وهو يبكي فسأله: ما بك؟ قال: هذا كيس ذنوبي فكيف أواجه به ربي؟ فقال له: أوَتخافُ من هذا ، ونحن ذاهبون الى أرحم الراحمين ! قم معي ، ومد يده الى الكيس وألقاه على ظهره ، فإذا يه يجر عربة كبيرة مملوءة من أكياس ذنوبه !

فالأول غلب عليه الخوف من ذنوبه والعقاب عليها ، والثاني غلب عليه الرجاء بالمغفرة مع أن ذنوبه أضعاف ذنوب صاحبه .

فأي الحالَيْن أصح: شدة الخوف ، أم شدة الرجاء ؟

أجابت أحاديث النبي وآله(ص) أن الإنسان يجب أن يعيش بالحالتين معاً ، فيكون راجياً وخائفاً ، وبالطبع ليس في آن واحد ، بل تتناوب عليه الحالتان ، فيعيش حالة الخوف تارة ، والرجاء أخرى .

قال الحارث بن المغيرة إنه سأل الإمام الصادق(ع) (الكافي:2/67): (ما كان في وصية لقمان ؟ قال: كان فيها الأعاجيب ، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عز وجل خيفةً لو جئته ببر الثقلين لعذبك ، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك ! ثم قال أبو عبد الله(ع) : كان أبي يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء ، لو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا ، ولو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا ).

وقال الإمام الصادق(ع) قال: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو . المؤمن بين مخافتين: ذنبٌ قد مضى لايدري ما صنعَ الله فيه، وعمرٌ قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف ). (الكافي:2/71).

فهذه الأحاديث تدل على أن حالتي الخوف والرجاء مطلوبتان بنفس المستوى، فهما كالمحركين للإنسان بالدفع والجذب . وهو يتحرك بهذه مرة ، وهذه مرة ، وبمزيج منهما مرة . والخوف والحزن مطلوب أكثر من الرجاء ، لقول الإمام الصادق (ع) : (ولايصلحه إلا الخوف).

لكن الذي يحدث أن بعض الأشخاص يغلب عليه الخوف ، وبعضهم الرجاء ، ولا بأس بذلك ما دام عنده خوف ورجاء ، وإن تحرك بغيره .

قال أمير المؤمنين(ع) :إلهي، ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا شوقاً إلا جنتك ، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك). (نهج الحق/248).

أي أخاف عقابك وأطمع في ثوابك لكن يحركني الى عبادتك عاملٌ آخر.

والحاصل: أنه يجب أن يكون في شخصية المؤمن مخزونٌ من خوف من الله ورجائه ، يتواردان عليه كل في مناسبته ، ولايضره أن يغلب عليه أحدهما فيكون طابع شخصيته ، بسبب ثقافته ، أو تكوينه ، أو تقويته هو لذلك .

وهذا كله في الدنيا ، أما يوم القيامة والمحشر فيناسبه الأمل والرجاء ، أكثر من خوف صاحب الكيس .