مكتبة الطالب(5) ـ صراع قريش مع النبي(ص)ـ

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 1 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مكتبة الطالب ( 5 )
صراع قريش مع النبي صلى الله عليه وآله
شريط لفعاليات قبائل قريش ضد النبي وآله صلى الله عليه وآله
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
برعاية المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني دام ظله
الطبعة الأولى - 1427
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 2 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الكتاب : . . . صراع قريش مع النبي صلى الله عليه وآله
المؤلف : . . . علي الكوراني العاملي
الناشر : . . . دار الهدى
الطبعة الأولى : . . . 1428 ه‍ ق
العدد : . . . 10000 نسخة
الشابك : . . . x - 168 - 497 - 964
1428 هجرية - 2007 ميلادية
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 3 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
وبعد ، فهذا فهرسٌ علميٌّ لصراع قريش مع النبي وآله صلى الله عليه وآله من بعثته إلى هجرته ، ثم إلى وفاته صلى الله عليه وآله . وهو سياق يساعد على معرفة معالم السيرة النبوية ، وبشكل خاص فهم خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ، ومنها بشارته بالأئمة الاثني عشر من عترته عليهم السلام ، وخطبة الغدير التي أعلن فيها ولاية علي عليه السلام على الأمة .
كما أنه يكشف منهج قريش في تكبرها وإصرارها على الباطل ، من فجر الإسلام إلى أن تلخصت في بني أمية وأتباعهم وامتدت إلى يومنا !
نرجو أن ينفعنا الله به في بلورة عقيدتنا ، وأن يشملنا بشفاعة النبي وآله الطاهرين صلوات الله عليهم .
علي الكوراني العاملي
في السابع من شهر رمضان المبارك 1427
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 4 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 5 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

القسم الأول : من قبل البعثة إلى الهجرة

1 - عدد جميع قبائل قريش نحو أربعين ألفاً !

كان عدد جميع قبائل قريش في زمن النبي صلى الله عليه وآله نحو أربعين ألف نسمة ، لأن غاية ما استطاعوا تجنيده لحرب الأحزاب مع أحابيشهم أربعة آلاف مقاتل حسب أقصى رواية ( عمدة القاري : 17 / 176 ) فلو حسبنا من كل عشرة أشخاص مقاتلاً ، يكون عدد كل قبائلهم أربعين ألفاً .
وكان عدد بطون قريش نحو عشرين قبيلة ، أشهرها : بنو هاشم بن عبد مناف ، وبنو أمية بن عبد شمس ، وبنو عبد الدار بن قصي ، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو أسد بن عبد العزى ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك ، وبنو عامر بن لؤي ، وبنو سهم بن عمرو ، وبنو جمح بن عمرو ، وبنو أنمار بن بغيض ، وبنو تيم بن مرة بن كعب ، وبنو عدي . . . إلخ .
لكن الفعل والتأثير كان محصوراً ببضع قبائل والباقون تبعاً لها ، فقد وصف ابن هشام اجتماعهم في دار الندوة لبحث ( مشكلة نبوة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 6 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
محمد صلى الله عليه وآله ) فقال في سيرته : 2 / 331 : ( وقد اجتمع فيها أشراف قريش : من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل . ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن بني أسد بن عبد العزى : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل ابن هشام . ومن بني سهم : نبيه ومنبه ابنا الحجاج . ومن بني جمح : أمية بن خلف . . ومن كان معهم غيرهم ممن لا يعد من قريش ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً . . . إلخ . ) .
وعلى نطاق أضيق ، كانت القبائل المهمة خمسة ، ارتضوا أن تضع الحجر الأسود مكانه واعتبروها تمثل الجميع ، وهي بنو هاشم ، قد مثلهم النبي صلى الله عليه وآله وقال : ( يأتي من كل ربع من قريش رجل ، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى ، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم ، وقيس بن عدي من بني سهم ، فرفعوه ووضعه النبي صلى الله عليه وآله في موضعه ) . ( الكافي : 4 / 218 ) .
وفي النتيجة النهائية : تنحصر قريش في بني هاشم وبني أمية ، فهم الذين واصلوا التأثير في الأحداث وصناعة التاريخ ، وبقية قريش تبعٌ
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 7 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لهم . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام أن مستقبل الأمة الصراع بين بني أمية وهاشم كما أن مستقبل العالم الصراع بين بني إسماعيل واليهود بني إسحاق ! قال الإمام الصادق عليه السلام : ( إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله ! قلنا صدق الله وقالوا كذب الله ! قاتل أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وآله وقاتل معاوية علي بن أبي طالب عليه السلام ! وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي ‘ والسفياني يقاتل القائم عليه السلام ) . ( معاني الأخبار / 346 ) .

2 - عناد قريش البدوي اليهودي !

سجل القرشيون رقماً قياسياً في العناد اليهودي البدوي ! فلم يقل أحد قبلهم ولا بعدهم : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . ( الأنفال : 32 ) . ومعناه : اللهم إنا لا نريد نبوة محمد ابن بني هاشم ، سواء كانت حقاً أو باطلاً ، فإن كانت حقاً فأهلكنا بعذاب من عندك ، فهو خير لنا ! !
( قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة ! فقال : أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ) . راجع تفسير القمي : 1 / 276 ، والصراط المستقيم : 3 / 49 .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 8 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

3 - قريش معدن الفَرْعَنَة

قريش مَنْجَمُ الفراعنة ! فقد حكم الله على زعمائهم بأنهم فراعنة تماماً فقال تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً . فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً . ( المزمل : 15 - 16 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله عن عدد منهم لما وقف على قتلى بدر : ( جزاكم الله من عصابة شراً ، لقد كذبتموني صادقاً وخونتموني أميناً ! ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى ) ! ( أمالي الطوسي : 1 / 316 ، ومجمع الزوائد : 6 / 91 . وراجع ابن هشام في : 1 / 207 ) .
وفرعون وقومه عندما أخذهم الله بالسنين طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو لهم ربه ، بينما أخذ الله قريش بالسنين بدعوة النبي صلى الله عليه وآله بعد فشلهم في غزوة الأحزاب ، فأصيبوا بالقحط والفقر ، فما دعوا ولا طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله أن يدعو لهم ، مع أنه أشفق عليهم وأرسل لهم أحمالاً من المواد الغذائية ! فأنزل الله فيهم : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ . ( المؤمنون : 76 ) . راجع مستدرك الحاكم : 2 / 394 ، ومعجم البلدان : 3 / 458 .
لكن أتباع بني أمية كذَّبوا القرآن ! وقالوا : ( ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده ( ص ) في أن يدعو الله لهم ، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم ) . ( النهاية : 6 / 101 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 9 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

4 - أكثر قريش حقَّ عليهم القول من ربهم

فقد أخبر الله عنهم أن أكثرهم قد أبلسوا وحق عليهم القول ، لذلك لن يؤمنوا ! قال تعالى : لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ . لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ . وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ . ( يس : 6 - 11 ) .
لكن أتباع زعماء قريش كذَّبوا القرآن ! وقالوا لم يحقَّ القول على أكثرهم ، بل أسلموا كلهم وحسن إسلام أكثرهم ، وصار منهم أئمة !

5 - اعتراف الجميع بتميز بني هاشم

اعترف الجميع بتميز فرع هاشم على بقية البطون في الفكر والقيم والشجاعة ، وكانت قبائل العرب والملوك يحترمونهم احتراماً خاصاً ، فحسدهم زعماء قريش وتحالفوا ضدهم من زمن هاشم وعبد المطلب !
وقد رتب هاشم رحلة الصيف إلى الشام وفلسطين ومصر وكتب معاهدات مع القبائل والملوك لتأمين سلامة قوافل قريش التجارية ، وتوفي مبكراً في إحدى سفراته في غزة في ظرف مشكوك ، فواصل
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 10 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عبد المطلب مآثره ورتب رحلة الشتاء إلى اليمن ، فمنَّ الله على قريش بفعلهما ، وأنزل سورة الإيلاف : ( لإيلافِ قُرَيْشٍ . إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) . فالسورة دعوة لهم إلى حفظ مكانة الكعبة وعبادة الله تعالى الذي أسكنهم آباءهم عندها ، وهيأ لهم موارد المعيشة !
وفي سيرة ابن هشام : 2 / 488 ، أن عمر كتب قبائل قريش في سجل الدولة فجعل أولهم بني هاشم . . ونحوه البيهقي في سننه ، قال : 6 / 364 : ( عن الشافعي وغيره ، أن عمر لما دون الدواوين قال : إبدأ ببني هاشم ، ثم قال : حضرت رسول الله ( ص ) يعطيهم وبني المطلب . . . فوضع الديوان على ذلك وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة . ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم ( أصل ) النسب ، فقال : عبد شمس إخوة النبي ( ص ) لأبيه وأمه دون نوفل فقدمهم ، ثم دعا بني نوفل يتلونهم . ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار ، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي وفيهم أنهم من المطيبين . . فقدمهم على بني عبد الدار ، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم . ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار . ثم استوت له تيمٌ ومخزوم . . . فقدمهم على مخزوم ثم دعا مخزوم يتلونهم .
ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب فقيل له : إبدأ بعَديّ ( قبيلة عمر ) فقال : بل أقر نفسي حيث كنت . . فقيل قَدَّمَ بني جمح ، ثم دعا بني
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 11 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سهم . . . ثم دعا بني عامر بن لؤي ، قال الشافعي : فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال : أكل هؤلاء تدعو أمامي ؟ ! فقال : يا أبا عبيدة إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه ، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا ) .

6 - هاشم وعبد المطلب أسَّسَا رحلة الشتاء والصيف

فقد رتب هاشم رحمه الله ( رحلة الصيف ) إلى الشام وفلسطين ومصر ، فسافر في الصحاري والدول ، وفاوض رؤساء القبائل والملوك الذين تمر قوافل قريش التجارية في مناطقهم ، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة عليها وضمان سلامتها . وفرحت قبائل قريش بإنجاز هاشم وبادرت إلى الاستفادة منه ، لكن زعماءها حسدوا هاشماً وتمنوا لو كان فخر ذلك لهم ! وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة ، في ظروف مشكوكة ! ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده فظهر ولده عبد المطلب وساد في قومه وواصل مآثر أبيه ، ورتب لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن ، وعقد معاهدات لحماية قوافلها مع القبائل التي تمر عليها ، ومع ملك اليمن ، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف .
وزاد حسد قريش لعبد المطلب لأن الله تعالى ألهمه أموراً عن طريق الرؤيا الصادقة أو الهاتف من الملائكة ، فأمره أن يحفر زمزم التي جفت وانقرضت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 12 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من قديم ، فحفرها ونبع ماؤها ووجد فيها غزالين من ذهب زين بهما باب الكعبة . وكان مطعم الحجيج ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار بسبب شحة الماء في مكة ، ساقي الحرم والحجيج ! وتعاظمت مكانة عبد المطلب في قريش وقبائل العرب ! فلم يتركه زعماء قريش حتى جرُّوه إلى الاحتكام للكهان ليأخذوا منه زمزم ، فنصره الله عليهم بكرامة حيث تاهوا وكادوا يهلكون من العطش فأنبع الله له الماء في الصحراء ، فسلموا له ورجعوا !
وفي آخر أيامه نذر عبد المطلب رحمه الله إن رزقه الله عشرة أبناء أن يذبح أحدهم قرباناً لرب الكعبة ، لأن العرب كانت تذبح أسراها قرباناً للات والعزى ! من هنا كانت قصة نذر عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وفدائه !
وعندما غزا الحبشة الكعبة طَمْأنَ الناس بأنهم لن يصلوا إليها فصدقت نبوءته ، وجعل الله كيدهم في تضليل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأكُولٍ !
ثم وضع عبد المطلب للناس سنناً ، فجعل الطواف سبعاً ، وكان بعض العرب يطوفون عرايا لأن ثيابهم ليست حلالاً فحرم عبد المطلب ذلك ، ونهى عن قتل الموؤودة ، وأوجب الوفاء بالنذر ، وعظم الأشهر الحرم ، وحرم الخمر والزنا وجعل عليه الحد ، ونفى البغايا ذوات الرايات إلى خارج مكة ، وحرم نكاح المحارم ، وأوجب قطع يد السارق ، وشدد على القتل وجعل ديته مئة من الإبل . . وأقر ذلك الإسلام مما يدل على أن عبد المطلب رحمه الله كان مؤمناً ملهماً من ربه وله مقام عنده !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 13 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال الإمام الصادق عليه السلام : ( يبعث عبد المطلب أمة وحده ، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء عليه السلام . وذلك أنه أول من قال بالبداء ) . ( الكافي : 1 / 447 ) .
وقصده عليه السلام بإيمانه بالبداء ما خاطب به عبد المطلب ربه عندما هاجمت الحبشة البيت ، وقد رواه ابن هشام وصححه : 1 / 33 ، قال : ( قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لا هُمَّ إن العبدَ يمنعُ رَحْله فامنع حلالكْ
لا يغلبنَّ صليبُهم ومِحالُهم غدواً مِحالكْ
إن كنتَ تاركهم وقبلتنا فأمرٌ مّا بدا لكْ
والمنمق / 76 ، والدر المنثور : 6 / 394 ، والنهاية : 4 / 332 .

7 - تحالف قريش ضد عبد المطلب

عقد أعداء عبد المطلب حلف " لعقة الدم " فعقد هو " حلف المطيبين "
قال المؤرخ الثقة ابن واضح اليعقوبي : 1 / 248 : ( ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم فقالوا : إمنعونا من بني عبد مناف . . . فتطيب بنو عبد مناف وأسد وزهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر ، فسموا حلف المطيبين . فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 14 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
في دمها ولعق منه فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبد الدار وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم ، فسموا اللعْقة ) . انتهى .
وقد جدد بنو هاشم حلف الفضول ، وشارك فيه النبي صلى الله عليه وآله وهو شاب وقال فيه كما روى أحمد : 1 / 190 : ( شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام ، فما أحب أن لي حمر النعم ) . وقال اليعقوبي : 2 / 17 : ( حضر رسول الله صلى الله عليه وآله حلف الفضول وقد جاوز العشرين ، وقال بعد ما بعثه الله : حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما يسرُّني به حُمْرُ النَّعم ، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت . وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة ، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر ، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بلَّ بحرٌ صوفة . وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه . . . فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره ، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم ) . ونحوه ابن هشام : 1 / 85 .

8 - أبو طالب حامي الرسول صلى الله عليه وآله يواجه كل قبائل قريش

ثم كان أبو طالب وابن أخيه أشد على قريش من عبد المطلب ! فما أن استراح زعماؤها من عبد المطلب حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قريش والعرب ، وفي أيامه وقعت المصيبة عليهم عندما بعث الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 15 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
محمداً بن عبد الله بن عبد المطلب بالنبوة صلى الله عليه وآله ، ودعا قريشاً إلى الإيمان به وطاعته ، فسارع زعماؤها عملاً بنصيحة اليهود وطالبوا بني هاشم أن يسلموهم محمداً صلى الله عليه وآله ليقتلوه ، حتى لا يصير له أنصار ويخرج عليهم ! فأعلن أبو طالب حمايته له ليبلِّغ رسالة ربه بكامل حريته ، وهدد قريشاً بالحرب إن مست منه شعرة ! وقاوم مؤامراتها ضده وأطلق قصائده في فضح زعمائها فسارت بشعره الركبان ، يمدح فيه محمداً صلى الله عليه وآله ويهجو زعماء قريش ، ويسمي زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) !

9 - أنساب قبائل قريش

إذا صحت أنساب بطون قريش إلى إسماعيل عليه السلام فإنهم ما عدا بني هاشم وقلة ، ذرية إسماعيل الفاسدة التي جمعت بين تعقيد اليهود كأبناء عمهم إسحاق ، وبين غطرسة رؤساء القبائل الصحراوية الخشنة !
على أن النبي صلى الله عليه وآله طعن في أنساب زعمائهم عندما بلغه كلامهم على بني هاشم ، فغضب وخطب خطبة قاصعة ، وتحداهم سلوني عن آبائكم وفضح بعضهم ! فخافوا وبركوا على قدميه ليعفو عنهم ! رواه بخاري وغيره وبحثناه في المسألة 59 من كتاب ألف سؤال وإشكال : 1 / 193 .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 16 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كما طعن علي عليه السلام في نسب بني أمية فكتب في رسالته إلى معاوية : ( ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ) . ( نهج البلاغة : 3 / 17 ) .
وقبلهما طعن فيهم أبو طالب رحمه الله في قصائده النبوية وهو نسابة قريش .

10 - وقاحة قريش وإصرارها على قتل النبي صلى الله عليه وآله

بلغت وقاحة زعماء قريش وإصرارهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله أنهم جاؤوا إلى أبي طالب رحمه الله بشاب بدله ليعطيهم إياه ويقتلوه !
روى ابن هشام : 1 / 173 ، والطبري : 2 / 67 ، وابن إسحاق : 2 / 133 ( مخطوطة القرويين ) ، قال : ( ثم إن قريشاً حين عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وآله مشوا إليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغنا : يا أبا طالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد جمالاً وشباباً ونهادة ، فهو لك نصره وعقله فاتخذه ولداً لا تنازع فيه ، وخل بيننا وبين ابن أخيك هذا الذي فارق دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومه وسفه أحلامهم ، فإنما رجل كرجل ، لنقتله فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مغبة ! فقال لهم أبو طالب : والله ما أنصفتموني تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه هذا والله لا يكون أبداً ) . انتهى . واشتد الأمر مع قريش وتأهب أبو طالب للحرب وأطلق
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 17 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قصائده في مدح النبي صلى الله عليه وآله وذم زعماء قريش ! وقد أورد ابن هشام : 1 / 173 ، عدداً من قصائده ، وبتر كثيراً منها ، وأورد هنا قصيدة مطلعها :
ألا قل لعمرو والوليد ومطعمٍ . . ألا ليت حظي من حياطتكم بكرُ
وقال : ( تركنا منها بيتين أقذع فيهما ) ! ولعله طعن في نسبهم !
كما قال أبو طالب رحمه الله قصيدة يمدح موقف بني هاشم عندما : ( رأى أبو طالب من قومه ما سرَّه في جدهم معه وحدبهم عليه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضل رسول الله ( ص ) فيهم ومكانه منهم ، ليشد لهم رأيهم ، وليحدبوا معه على أمره فقال :
إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر * فعبد مناف سرُّها وصميمها
وإن حصلت أشرافُ عبد منافها * ففي هاشمٍ أشرافها وقديمُها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً * هو المصطفى من سرها وكريمُها
تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفُر وطاشت حلومها
وكنا قديماً لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صُعْرَ الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء ، وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها ) .
كما أطلق رحمه الله قصيدة أخرى يصف فيها الموقف مع قريش :
( ولما رأيت القوم لا ود فيهمُ * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض عضب من تراث المقاول
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 18 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن * علينا بسوء أو ملح بباطل . . .
كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا * ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم نحوكم غير عزل * يبيض حديث عهدها بالصياقل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في رحمة وفواضل
لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد * وأحببته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل * إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش * يوالي إلهاً ليس عنه بغافل . . . ) .

11 - النبأ العظيم على قريش : وصية محمد صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام !

بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله في المرحلة الأولى من نبوته رسولاً خاصاً إلى عشيرته الأقربين وهم بنو عبد المطلب ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ويختار الذي يقبل منهم دعوته ونصرته ، وزيراً له ووصياً وخليفة ، فأنزل عليه : ( فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ . وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ . وَأَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ أَتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ) . ( الشعراء : 213 - 215 ) . فجمعهم النبي صلى الله عليه وآله وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم وقال لهم كما رواه النسائي في خصائصه / 86 عن علي عليه السلام : ( يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، وقد رأيتم من هذه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 19 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الآية ما قد رأيتم ( إشباعهم من طعام قليل ) وأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي ؟ فلم يقم إليه أحد ، فقمت إليه وكنت أصغر القوم فقال : أجلس . ثم قال : ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول أجلس ، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي . ثم قال : فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي ) . انتهى . وتسمى هذه المرحلة من نبوته وسيرته عليه السلام ( بيعة العشيرة ) لأنه طلب منهم أن يبايعوه على الإسلام فاستجاب له منهم علي عليه السلام فاتخذه بأمر ربه وزيراً ووصياً . كما استجاب له عمه أبو طالب وجعفر وحمزة سراً فأسلموا . واستجاب له الجميع ما عدا أبي لهب لحمايته من قريش ليدعو الناس إلى دينه بحريته !
وقد شاع ذلك في قريش فكان نبأ عظيماً عليهم ، زادهم غيظاً وعداوة لبني هاشم ، ونزل فيهم قوله تعالى : ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ النَّبَأ الْعَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . كَلا سَيَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ . ( الكافي : 1 / 207 ، و 418 ، و : 8 / 30 ، وعيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 9 ) .
وقد طمست خلافة القبائل القرشية هذه المرحلة وحذفتها من سيرة النبي صلى الله عليه وآله بالكامل ، وضخمت بدلها مرحلة بيت الأرقم بن أبي الأرقم ! وروت الضد والنقيض في تفسير قوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ حتى جعلت عشيرته الأقربين كل قريش !
كما طمست حديث الدار الذي وصف دعوة النبي صلى الله عليه وآله لعشيرته الأقربين بني عبد المطلب وحديثه معهم ، واختياره علياً عليه السلام خليفة له
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 20 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بأمر ربه وأمرهم بطاعته ، وكيف سخر منه أبو لهب واتهمه بأنه سحرهم فأشبعهم من طعام قليل ! وسخر من اختياره علياً عليه السلام وصياً فقال لأبي طالب إن محمداً يأمرك أن تسمع لابنك وتطيع !
ومع حرص الخلافة القرشية على إخفاء الحق ، بقيت منه أجزاء تدل على تفسير الآية الصحيح ، روتها مصادرهم وصححتها مثل : مسند أحمد : 1 / 159 ، ومجمع الزوائد : 8 / 302 ، وشواهد التنزيل : 1 / 547 ، وتفسير ابن كثير : 3 / 363 ، وتاريخ دمشق : 42 / 46 ، وطبقات ابن سعد : 1 / 187 ، وتهذيب الكمال : 9 / 147 ، والرياض النضرة / 396 ، ومن مصادرنا : مناقب آل أبي طالب : 1 / 305 ، وسعد السعود / 105 ، والتعجب لأبي الفتح الكراجكي / 133 ، والمراجعات / 299 ، والغدير : 2 / 280 ، وقد بحث الموضوع السيد الميلاني في دراسات في منهاج السنة / 287 .

12 - تعذيب قريش لمن أسلم من شبانها وعبدانها

في السنة الرابعة للبعثة آمن عدد من شبان قريش وعبدانها ، وقد يصل عددهم إلى مئتي شخص ، وبعضهم شخصيات مهمة كحمزة وجعفر من بني هاشم ، وخالد بن سعيد بن العاص من بني أمية ، ومصعب بن عمير من بني عبد الدار ، وأبو سلمة من بني مخزوم ، وأكثرهم عبدان أو قرشيون عاديون ، فلما توتر وضع أبي طالب رحمه الله مع قريش ( وثبت كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، فمنع الله رسوله ( ص ) بعمه أبي طالب ) . ( تاريخ الذهبي : 1 / 162 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 21 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فعذب القرشيون نحو مئة ممن أسلم من أولادهم وعبيدهم وإمائهم وحلفائهم الأحرار كعائلة ياسر والد عمار ، وكانوا يمانيين حلفاء لمخزوم ، فعذبهم أبو جهل حتى قتل سمية زوجة ياسر وأم عمار ، فكانت أول شهيدة في الإسلام رحمها الله . وكان أشد التعذيب على بضعة عشر نفراً كخباب بن الأرت وبلال بن رباح وعمار بن ياسر ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وبعضهم هددهم زعماء عشيرتهم بالقتل إن لم يرجعوا عن الإسلام كأبي سلمة المخزومي الذي هدده أبو جهل فلجأ إلى خاله أبي طالب واستجار به : ( لما استجار بأبي طالب مشى إليه الرجال من بني مخزوم ، فقالوا : يا أبا طالب لقد منعت منا ابن أخيك محمداً فمالك ولصاحبنا تمنعه منا ؟ ! قال : إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي ) ! ( ابن هشام : 1 / 248 ) .
وهنا تقرأ من رواة السلطة أكاذيب كثيرة في تعداد من عذب لإسلامه ومقدار تعذيبهم ، وفي شراء فلان للعبيد المعذبين !
وعندما تزايد اضطهاد قريش للمسلمين الذين تطالهم أيديهم ، بدأت الهجرة إلى الحبشة ، وكان أول المهاجرين أبا سلمة : ( أسلم بعد عشرة أنفس فكان الحادي عشر من المسلمين ، هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة ، قال مصعب الزبيري : أول من هاجر إلى أرض الحبشة أبو سلمة بن عبد الأسد ) . ( الاستيعاب : 3 / 939 ، عن ابن إسحاق ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 22 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ويظهر أنه كان يقيم فترة في الحبشة ويرجع ، لأنه في حماية خاله أبي طالب رحمه الله ، فقد كان أول المهاجرين إلى المدينة أيضاً ! ( الحاكم : 4 / 16 ) .
وجمع النبي صلى الله عليه وآله أكثر المسلمين المعذبين فبلغوا نحو ثمانين شخصاً وأرسلهم إلى الحبشة بإمرة جعفر بن أبي طالب ، وكتب أبو طالب معه رسالة إلى النجاشي ملك الحبشة ، فأحسن استقبالهم وحمايتهم !
وبادر زعماء قريش فأرسلوا وفداً برئاسة عمرو بن العاص إلى النجاشي يطالبونه برد المهاجرين ، فرد هداياهم ورفض طلبهم .
وهنا تقرأ كذب قريش بأن النبي صلى الله عليه وآله مدح آلهة المشركين ، في فرية الغرانيق التي روتها صحاحهم ( بخاري : 2 / 32 ، و : 4 / 244 ومسلم : 2 / 88 ) ! وأن النبي صلى الله عليه وآله سجد لها وسجد معه زعماء قريش ، فوصل الخبر إلى المهاجرين بأن النبي صلى الله عليه وآله صالح قريشاً ! فرجعوا فوجدوا أن الشيطان أجرى على لسانه مدح الأصنام ، وأن جبرئيل نزل ووبخه على ذلك ! فعادوا إلى الحبشة ! ( راجع مسألة 46 من كتابنا : ألف سؤال وإشكال ) .

13 - منافقون من قريش يدخلون في الإسلام

رأى منافقون من قريش أن الإسلام مشروعٌ مغرٍ يؤمل له النجاح ، فكان واحدهم يطمع أن يجد له موقعاً فيه ينقله من مهانة الهامش القبلي إلى مركز أفضل مع هذا المتنبئ من بني هاشم ! وكانوا هؤلاء المنافقون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 23 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يستعجلون النبي صلى الله عليه وآله وبني هاشم الأبطال أن يقاتلوا تحالف قريش لعلهم ينتصرون عليهم ! فأنزل الله فيهم قرآناً وصفهم بأنهم أسوأ أنواع المنافقين ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ ) آية 31 من سورة المدثر التي نزلت أوائل البعثة ! وعندما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله إلى مواجهة قريش في بدر جبنوا فنزل فيهم : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) ( النساء : 77 ) . راجع الطبري : 5 / 233 .

14 - قريش تحاصر بني هاشم حتى يسلموها محمداً !

عجزت قريش عن قتل النبي صلى الله عليه وآله وخافت من حرب بني هاشم ! ( فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وأن أبا طالب لا يسلمه . . . كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمداً فيقتلوه ! وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا ، وختموا على الصحيفة بثمانين خاتماً . . . ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب بن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم ، بعد ست سنين من مبعثه ، فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 24 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله ماله ، وأنفق أبو طالب ماله ، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها ، وصاروا إلى حد الضر والفاقة .
ثم نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : إن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم إلا المواضع التي فيها ذكر الله . . ) . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 31 ) . ورُويَ أن مدة الحصار أربع سنوات أو خمساً ، وقد انضم بنو كنانة إلى قريش في صحيفة المقاطعة .
وتلاحظ هنا كذب رواة السلطة في السيرة عن بطولة فلان الذي أعز الله به الإسلام ، وإنفاق فلان الذي أغنى الله به الإسلام ! لكنك لا تجد موقف بطولة أمام قريش ، ولا صاع حنطة وصل إلى شعب بني هاشم !

15 - قريش تضاعف جهدها لقتل النبي صلى الله عليه وآله بعد وفاة ناصره رحمه الله

ما أن توفي أبو طالب عليه السلام حتى قرر زعماء قريش قتل محمد صلى الله عليه وآله بكل وسيلة ، فأفشل الله كيدهم ، وهيأ لرسوله صلى الله عليه وآله الأنصار أهل المدينة فآمن عدد منهم والتقى بهم النبي صلى الله عليه وآله في موسم الحج خفية ودعوه إلى المدينة وبايعوه بما عرف باسم بيعة العقبة الأولى ، وطلب منهم أن يختاروا اثني عشر نقيباً ويوافوه في الموسم الثاني ، فجاؤوا وبايعوه على الإسلام وأن يحموه وذريته مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ولا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 25 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ينازعوا الأمر أهله ، وبعدها هاجر النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة التي تقع على طريق قريش التجاري مع بلاد الشام ومصر !

16 - قريش تشن الحروب على النبي صلى الله عليه وآله بعد هجرته

اشتد غضب زعماء قريش لأن النبي صلى الله عليه وآله أفلت من قبضتهم وهاجر ، فأخذوا يضغطون على أهل المدينة ، بالإغراء والوعيد ومكائد اليهود ففشلوا ، لأن أكثرية أهل المدينة أسلموا وأقام النبي صلى الله عليه وآله فيها دولته الإسلامية ، فأخذوا يفكرون بحرب ابن هاشم وأنصاره ، فحاربوه في بدر ، أي قطعوا نحو 300 كيلومتر أكثر من نصف الطريق إلى المدينة ، وكانت هزيمة شديدة لهم حيث قتل النبي صلى الله عليه وآله من أبطالهم سبعين وأسر مثلهم ، فأثر ذلك فيهم حقداً على بني هاشم لم يغيره الإسلام ! فقد قال عثمان في خلافته لعلي عليه السلام : ( ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تشرب آنافهم قبل شفاههم ) . ( ابن حمدون / 1567 ونثر الدرر / 259 وشرح النهج : 9 / 22 ) .
واستعدَّت قريش للانتقام فحشدت قوتها وجاءت إلى مدخل المدينة وحاربت النبي صلى الله عليه وآله في معركة أحد ، وكانت المعركة في أولها نصراً للنبي صلى الله عليه وآله وفي آخرها لقريش ، حيث قتلت عمه حمزة رحمه الله في سبعين من المسلمين ، فاعتبرتها جبراناً لهزيمة بدر ، وافتخر بها شاعرها فقال :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 26 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ليت أشياخي ببدر شهدوا . . جزع الخزرج من وقع الأسَلْ
قد قتلنا القرم من ساداتكم . . وعدلنا مَيْلَ بدر فاعتدل
لأهلُّوا واستهلوا فرحاً . . ثم قالوا يا يزيدُ لا تُشَل
لست من خندف إن لم أنتقم . . من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا . . خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
واستمرت قريش بعد إسلامها تستشهد بهذا الشعر ، كما فعل يزيد عندما جاؤوه برأس الحسين عليه السلام ! ( الطبري : 8 / 187 ) .
وقال الفرزدق : ( حضرت الوليد بن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح ( شرب خمر الصباح ) فقال لابن عائشة : تغنى بشعر ابن الزبعرى : ليت أشياخي ببدر شهدوا . . . الخ . فقال ابن عائشة : لا أغني هذا يا أمير المؤمنين ! فقال : غنه وإلا جدعتُ لهواتك ! قال فغناه ، فقال أحسنت والله إنه لعلى دين ابن الزبعرى يوم قال هذا الشعر ) . ( الطبري : 6 / 337 ) .

17 - حرب الأحزاب خطة يهودية بالكامل

فقد كانت حرب التحالف اليهودي العربي ضد الإسلام ! حيث تطورت علاقة قريش باليهود بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله ، وكانوا يتراسلون ويلتقون ويتشاورون معهم فيما يفعلونه لقتل النبي صلى الله عليه وآله وإطفاء نوره !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 27 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وعندما عجزت قريش عن تحقيق انتصار في بدر وأحد ، نشط اليهود على مدى سنتين يستنفرون قبائل العرب ويعقدون معهم التحالفات لحرب محمد صلى الله عليه وآله واستئصاله ! وجاء رئيس حاخامتهم كعب بن الأشرف إلى مكة في سبعين راكباً ( أسباب النزول للواحدي / 103 ) ( فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وآله . . قال أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد ! زاد في نص آخر قوله : ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ! ففعلوا ! قال النفر : فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ثم نحلف بالله جميعاً لا يخذل بعضنا بعضاً ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل ، ففعلوا فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا ) !
ثم واصل اليهود جولتهم على العرب ، ( فخرجت اليهود حتى أتت غطفان ، وقيس عيلان ، وأخذت قريش في الجهاز وسيرت في العرب تدعوهم إلى نصرها ، وألبوا أحابيشهم ومن تبعهم ، ثم خرجت اليهود حتى جاؤوا بني سليم فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش ، ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا ، فأنعمت بذلك غطفان . . . وخرج بهم عيينة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 28 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بن حصن على أشجع ( قبيلة ) وذكر البعض أن كنانة بن أبي الحقيق جعل نصف تمر خيبر لغطفان في كل عام ) ! ( الصحيح من السيرة للسيد جعفر مرتضى : 9 / 25 ) .
وحشد اليهود وقريش جيشاً كبيراً بلغ بضعة عشر ألفاً بقيادة أبي سفيان وغزوا المدينة وحاصروها في معركة الخندق ، وتحرك معهم اليهود وكانت حصونهم قرب المدينة ، فقام كبير حاخامتهم كعب بن الأشرف بنقض عهده مع النبي صلى الله عليه وآله ومزق صحيفته أمام اليهود وجمع رؤساءهم : الزبير بن باطا ، وشاس بن قيس ، وعزال بن ميمون ، وعقبة بن زيد ، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد ! ( الصحيح من السيرة : 8 / 41 ) . لكنهم مع ذلك جبنوا عن الخروج إلى المعركة فتصور أبو سفيان أنهم غدروا !
وبرز بطل قريش والعرب عمرو بن ود مع رفقاء له فعبروا الخندق وطلب المبارزة فخافه المسلمون ، وبرز إليه علي عليه السلام فقتله ثم برز له ابنه فقتله ! ففتَّ ذلك في عضد أبي سفيان والأحزاب وأرسل الله عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ( الأحزاب : 9 ) فوقع الإرتباك في معسكرهم وسارعوا بالإنسحاب والهزيمة ! ( راجع جواهر التاريخ : 2 / 19 ) .

18 - ضعف قريش بعد حرب الأحزاب

بعد معركة الأحزاب لم تستطع قريش أن تجمع العرب ثانية ، فقد أثبتت فشلها الإداري والعسكري ! وظهر النبي صلى الله عليه وآله كقوة صاعدة مهابة .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 29 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كما أخذ اليهود يضعفون بعد أن عاقب النبي صلى الله عليه وآله المجاورين منهم للمدينة ، لنقضهم عهد التعايش معه صلى الله عليه وآله ودورهم في حملة الأحزاب !
واستثمر النبي صلى الله عليه وآله ضعف قريش فأكثر من سراياه لدعوة قبائل العرب للإسلام وإخضاع المعادين منهم ، ودعا الله تعالى على قريش فأصابها قحط وجوع ، حتى أكلوا القطط والكلاب والميتة والدم ! وزاد من قحطهم أن سيد اليمامة ثمامة ، أسلم وقطع الميرة عنهم !
قال في الكافي : 8 / 299 : ( عن أبي جعفر عليه السلام أن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي صلى الله عليه وآله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : اللهم أمكني من ثمامة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : إني مخيرك واحدة من ثلاث : أقتلك ، قال : إذاً تقتل عظيماً ! أو أفاديك ، قال : إذاً تجدني غالياً ، أو أمُنُّ عليك قال : إذاً تجدني شاكراً . قال : فإني قد مننت عليك . قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ، وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك ، وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق ) ! وقال في الإستيعاب : 1 / 214 : ( فخرج حتى قدم مكة فلما سمع به المشركون جاءوه فقالوا : يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك ؟ قال : لا أدري ما تقولون إلا إني أقسمت برب هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شئ مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمد عن آخركم ! قال : وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم ) !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 30 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لكن رغم هذه الحالة المزرية التي وصلت إليها قريش ، لم تخضع لربها ولا آمنت برسوله صلى الله عليه وآله ولا تنازلت عن فرعنتها ! وقد وصف الله تعالى حالتهم مع النبي صلى الله عليه وآله بقوله : وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ . وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ . وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ . حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ . ( المؤمنون : 73 - 77 ) . قال في أسباب النزول / 211 : ( فحالَ ( ثمامة ) بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة ، وأخذ الله تعالى قريشاً بسنيِّ الجدب حتى أكلوا العِلْهِز ( الوبر والدم ) ! فجاء أبو سفيان إلى النبي ( ص ) فقال : أنشدك الله والرحم إنك تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ! فأنزل الله تعالى هذه الآية : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ . وكذب أبو سفيان ، فلا آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله ولا هو دعا الله تعالى ولا طلب من النبي صلى الله عليه وآله أن يدعو لهم ، ولا شكره على ما أرسله لهم من مواد غذائية ومال ، ولا شكره على رسالته إلى ثمامة بفك الحصار التجاري عن مكة !
وقال في الإستيعاب : 1 / 214 : ( فلما أضر بهم كتبوا إلى رسول الله إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها ، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلى بيننا وبين ميرتنا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 31 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فافعل . فكتب إليه رسول الله أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم ) . راجع : أنساب الأشراف / 1760 ، وفتح القدير : 3 / 494 ، وابن هشام : 4 / 1054 ، وعيون الأثر : 2 / 63 ، وسيرة ابن كثير : 4 / 93 ومناقب آل أبي طالب : 1 / 72 ، وتفسير الطبري : 18 / 59 ، وتأويل مختلف الحديث / 233 ، والحاكم : 2 / 394 وابن حبان : 3 / 247 ) . وكان إسلام ثمامة رحمه الله ومنعه التموين عن قريش ، في السنة السادسة للهجرة ، أي بعد حرب الأحزاب بقليل . فكانت السنوات السادسة والسابعة والثامنة قاسية اقتصادياً على قريش ، فساعدت على خضوع قريش لمعاهدة الصلح والاعتراف بالنبي صلى الله عليه وآله في غزوة الحديبية في السنة السابعة ، كما ساعدته على تكوين جيشه الكبير الذي فاجأ به قريش العاتية في عقر دارها وأجبرها على التسليم وخلع سلاحها ! ويبدو أن بخاري اشتبه فذكر قصة ثمامة في صحيحه : 5 / 117 ، في أحداث العام العاشر تحت عنوان ( باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال ) . وقد ( تبرك ) ابن كثير بالاقتداء بخطئه ! قال في النهاية : 5 / 59 : ( ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة وهو أشبه ، ولكن ذكرناه هاهنا اتباعاً للبخاري رحمه الله ) !

19 - قريش تصدُّ النبي صلى الله عليه وآله عن البيت الحرام !

أراد النبي صلى الله عليه وآله من غزوة الحديبية أن يثبت للناس أن قريشاً ليست أهلاً لولاية بيت الله تعالى ، فهي متكبرة عنيدة ، رغم ضعفها وسقوط سمعتها عند العرب ، ورغم العذاب الإلهي لها بالقحط والفقر وحاجتها
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 32 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
إلى موسم الحج لتحريك اقتصادها المتردي ! فتهيأ صلى الله عليه وآله في أواخر سنة ست للهجرة مع ألف وأربع مئة من أصحابه وأعلن أنه يقصد العمرة ، ولا يريد حرب قريش ، وطلب منهم السماح له أن يدخل مكة ويؤدي مناسكه مع أصحابه ، زواراً معتمرين مسالمين ! لكن قريشاً رفضت ذلك واعتبرته دخولاً لمكة عنوةً عنهم ، وتأهبت للقتال على معرفتها بأنها لا تستطيع منع النبي صلى الله عليه وآله إذا قرر أن يدخل مكة بالقوة .
وتتابعت الرسل بينهم وقد عسكر النبي صلى الله عليه وآله في الحديبية على بعد 26 كيلو متراً من مكة ، فبعث عثمان بن عفان الأموي رسولاً إلى قريش ، بعد أن اعتذر عمر بن الخطاب لأنه يخاف من قريش ولا عشيرة له تحميه ! ( ابن هشام : 3 / 779 ) . وعرفت قريش ليونة النبي صلى الله عليه وآله فقد جاء بأصحابه محرمين وساقوا معهم الهدي ، وأمرهم أن ينزلوا بعيداً عن مكة وقال : ( والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أعطيتهم إياها ) . ( صحيح بخاري : 3 / 178 ) . وقال له أصحابه ليس في المكان ماء قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( فأخرج صلى الله عليه وآله سهماً من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له إذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فأغرسه فيها ، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عيناً من تحت السهم ) . ( الإحتجاج : 1 / 325 ) .
وانتهت المفاوضات بتوقيع صلح الحديبية وكانت أهم مواده : اعتراف قريش بدولة محمد صلى الله عليه وآله ( وأنه من أحب أن يدخل في عهد رسول
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 33 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الله ( ص ) وعقده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ) . ( الطبري : 2 / 324 ) . ( وشرطوا أنهم يخلون مكة له من قابل ثلاثة أيام ويخرجون عنها حتى يدخلها بسلاح الراكب وأن الهدنة بينهم ثلاث سنين لا يؤذون أحداً من أصحاب رسول الله ولا يمنعونه من دخول مكة ) . ( اليعقوبي : 2 / 54 ) وأن يرد إلى قريش من جاءه مسلماً منهم ، ولا يردوا إليه من جاءهم من أصحابه !
( فأمر رسول الله المسلمين أن يحلقوا وينحروا هديهم في الحل ، فامتنعوا وداخل أكثر الناس الريب ، فحلق رسول الله ونحر فحلق المسلمون ونحروا . وانصرف رسول الله إلى المدينة ) . ( اليعقوبي : 2 / 54 ) .
وفرحت قريش بهذا الصلح واعتبرته نصراً على محمد صلى الله عليه وآله ، بينما عده الله تعالى فتحاً مبيناً وغفراناً لذنب محمد ( عند قريش ) ، وأنزل سورة الفتح في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله من الحديبية !
وروى الجميع اعتراض عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وآله ، ويفهم من أحاديثه أنه لم يبايع يومئذ ، وأن النبي صلى الله عليه وآله أعرض بوجهه عنه ، فقد كان يصر على النبي صلى الله عليه وآله أن يدخل مكة ويحتلها وينتقم من قريش ، ولم يقتنع بتوضيحاته بل شك في نبوته ، وكان يبحث عن أنصار للثورة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 34 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عليه ! قال : ( والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي ( ص ) فقلت : ألست نبي الله ؟ قال : بلى ، فقلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ ! قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ) . ( مصنف عبد الرزاق : 5 / 339 ، ورواه بخاري : 1 / 182 ، وحذف منه اعتراف عمر بأنه شك في نبوة النبي صلى الله عليه وآله ! وروى الواقدي : 2 / 607 ، عن ابن عباس وأبي سعيد ، أن عمر قال : ( ارتبت ارتياباً ما ارتبته منذ أسلمت إلا يومئذ ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة من القضية لخرجت . . لو كنا مائة رجل على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً ) . انتهى . لكن لم تمض سنة حتى تغير رأي عمر في قريش ، وصار سهيل بعد فتح مكة أعز أصدقائه ، فتوسط له عند النبي صلى الله عليه وآله أن يعامل قريشاً كأنها دولة مستقلة ، وسيأتي . راجع في صلح الحديبية : الدر المنثور : 6 / : 74 ، وبخاري : 3 / : 178 : و : 6 / 45 : ، و : 5 / 69 ، ومسلم : 5 / 175 ، وأحمد : 4 / 323 ، و 329 ، والاحتجاج : 1 / 325 ) .
وهنا تجد الكثير من مكذوبات السلطة في تبرئة عمر ، وفي تعميم الآيات التي مدحت الصحابة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان ، قال الله تعالى : لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً . ( الفتح : 18 ) . فالآية تنص على الرضا عن المؤمنين منهم في ظرف البيعة ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ ( الْمُؤْمِنِينَ إِذْ ) يُبَايِعُونَك ) لكنهم جعلوها نصاً على
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 35 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عدالتهم جميعاً وحكماً لهم بالجنة ، ولو كانت كذلك لقال عز وجل : لقد رضي الله عن الذين يبايعونك ، بدون إذ ، وبدون وصف المؤمنين !
على أنهم نقضوا كلامهم بما صححوه من أن بعض الذين بايعوا تحت الشجرة شهد لهم النبي صلى الله عليه وآله بالنار مثل أبي الغادية يسار بن سبع المزني قاتل عمار بن ياسر ، أو قاتل عثمان عبد الرحمن بن عديس البلوي الذي حاصر عثمان في سبع مئة من المصرين ، وكان في أول قتلته . راجع : جواهر التاريخ : 1 / 188 ، والاستيعاب : 2 / 411 ، ومجمع الزوائد : 9 / 95 ، والكبير للطبراني : 1 / 78 ، وتاريخ دمشق : 39 / 532 ، وتهذيب الكمال : 19 / 457 ، وتلخيص الحبير لابن حجر : 5 / 275 والطبري : 3 / 405 والطبقات : 3 / 65 ، ونفحات الأزهار : 9 / 223 .

20 - قريش تنقض عهدها مع النبي صلى الله عليه وآله !

عاد النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة بعد صلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، فأقام فيها بقية ذي الحجة ، وفي محرم سنة سبع توجه بجيشه إلى خيبر وفتحها . وبعد رجوعه إلى المدينة توجه إلى مكة للعمرة كما شرطت له قريش ( وهي عمرة القضاء ، فدخل مكة على ناقة بسلاح الراكب ، وأخلتها قريش ثلاثاً ) . ( اليعقوبي : 2 / 54 ) .
لكن صلح الحديبية لم يستمر طويلاً ، لأن قريشاً كاليهود لا تفي بعهد ولا ذمة ! فقد اعتدى بنو كنانة حلفاء قريش على خزاعة وهم حلفاء بني هاشم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 36 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فأعانتهم قريش ! ( وغدرت قريش فقتلت رجلاً من خزاعة ممن دخل في شرط رسول الله صلى الله عليه وآله ) . ( اليعقوبي : 2 / 54 ) .
قال الطبري : 2 / 323 : ( فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل . . . حتى بَيَّتَ خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلاً وتحاوزوا واقتتلوا ورفدت قريش على بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً . . كان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين : صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، مع عيرهم وعبيدهم . . . فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ( ص ) من العهد والميثاق . . . خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله المدينة وكان ذلك مما هاج فتح مكة ، فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال :
لا هُمَّ إني ناشدٌ محمداً حلفَ أبينا وأبيك الأتْلدا
فوالداً كنا وكنت ولداً ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا . . .
إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فقتلونا ركَّعاً وسجَّداً
يقول قد قتلونا وقد أسلمنا فقال رسول الله ( ص ) حين سمع ذلك : قد نصرت يا عمرو بن سالم . . . . كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة . . . ! ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله المدينة . . . فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة ابنة رسول الله وعندها الحسن بن علي غلام
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 37 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يدب بين يديها ، فقال : يا علي إنك أمسُّ القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة ، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً . إشفع لنا إلى رسول الله ! قال : ويحك يا أبا سفيان ، والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ! فالتفت إلى فاطمة فقال : يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بُنَيَّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما بلغ بنيَّ ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير على رسول الله أحد ! قال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني ، فقال له : والله ما أعلم شيئاً يغنى عنك شيئاً ، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ! قال : أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال : لا والله ما أظن ، ولكن لا أجد لك غير ذلك ! فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق ، فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته فوالله ما ردَّ عليَّ شيئاً . . . ) . الخ . وسيرة ابن هشام : 4 / 854 ، وتاريخ الذهبي : 2 / 522 .
لقد وجد النبي صلى الله عليه وآله في غدر قريش سبباً كافياً لينهي كبرياءها ويفتح مكة ، فأخذ يتجهز بجيشه وإخفاء خبره عن قريش !

21 - فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة واستسلام قريش

كانت غزوة الحديبية في ذي القعدة سنة ست للهجرة ، وعمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع ، وفتح مكة في شهر رمضان سنة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 38 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثمان . ( سنن البيهقي : 3 / 491 ) . فما أحس القرشيون إلا والنبي صلى الله عليه وآله فاجأهم معسكراً في مشارف مكة بجيش من عشرة آلاف من جنود الله ، فأسقط في أيديهم واضطروا أن يقبلوا بخلع سلاحهم والتسليم ! وجاءه أبو سفيان بشفاعة عمه العباس فعفا عنه بعد أن أعلن إسلامه الشكلي ! وأرسله النبي صلى الله عليه وآله أمامه إلى مكة ، وقام أهلها سماطين ينظرون إلى دخول رسول الله صلى الله عليه وآله في جيشه ، وتقدم براية الفتح بين يديه شاب أنصاري خزرجي هو عبد الله بن رواحة رحمه الله ، وهو ينشد لقريش :
خلوا بني الكفار عن سبيله * فاليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله
فقال له عمر بن الخطاب : يا ابن رواحة ، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : مه يا عمر ، فوالذي نفسي بيده لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل ! ( البيهقي في سننه : 10 / 228 ونحوه الترمذي : 4 / 217 ، والذهبي في سير الأعلام : 1 / 235 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 39 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

القسم الثاني : من بعد فتح مكة إلى وفاته صلى الله عليه وآله !

22 - زعماء قريش وجنودهم طلقاء وليسوا عُتقاء !

أعلن النبي صلى الله عليه وآله عند فتح مكة أن كل زعماء قريش وجنودهم وبقية أهل مكة أسرى حرب بيده ، وأنهم فعلاً طلقاء معفوٌّ عنهم ! فلا هو قتلهم ، ولا أخذ منهم فدية ، ولا أعتقهم ! قال الطبري في تاريخه : 2 / 337 : ( عن قتادة السدوسي أن رسول الله قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . . . . يا معشر قريش ويا أهل مكة : ما ترون أني فاعلٌ بكم ؟ ! قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم . ثم قال : إذهبوا فأنتم الطلقاء ! فأعتقهم رسول الله وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً وكانوا له فَيْئاً ، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء ) . انتهى .
وقد أخطأ الطبري ، فإن النبي صلى الله عليه وآله أطلقهم ولم يعتقهم فقد سماهم ( طلقاء قريش ) بينما أعتق أهل الطائف وسماهم ( عتقاء ثقيف ) ! وأخرج الطرفين من أمته وجعلهم ملحقين بها إلحاقاً ! وقد رووا ذلك بسند صحيح ، فتحير فقهاء الخلافة في فقهه وداخوا ، والى اليوم لم يَصْحُوا !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 40 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف ، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ) ! رووه بأسانيد فيها على شرط الشيخين !
( مسند أحمد : 4 / 363 بروايتين ، ومجمع الزوائد : 10 / 15 ، وصححه الحاكم : 4 / 80 ، وقال عنه في الزوائد : 10 / 15 : رواه أحمد والطبراني بأسانيد وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح ، وقد جوده . . فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي . راجع أيضاً مغني ابن قدامة : 7 / 321 ، ومبسوط السرخسي : 10 / 39 ، وأحمد : 3 / 279 ، وسنن البيهقي : 6 / 306 ، و 8 / 266 و : 9 / 118 ، وكنز العمال : 12 / 86 ) .
وقد تنبه أتباع الأمويين كالألباني إلى أنه لا حل لمشكلة قريش مع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ما دام اسم ( الطلقاء ) وصمة على جبينهم ! لذا حاول تضعيف أحاديث الطلقاء ( سلسلة أحاديثه الضعيفة : 3 / 307 - 1163 ) مع أنها صحيحة السند ، ثابتة عند الجميع حتى صار اسم ( الطلقاء ) كالعلم في مصادر الحديث وفقه المذاهب ! قال بخاري : 5 / 105 : ( لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي عشرة آلاف ، والطلقاء ، فأدبروا . . ) . وقال مسلم : 3 / 106 : ( ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده ) . انتهى . بل بقي مع بني هاشم !
وعليه ، فإن النبي صلى الله عليه وآله استرقَّ ثقيفاً وقريشاً ، ثم أعتق ثقيفاً فكان ولاؤهم له ولآله عليهم السلام بينما أبقى قريشاً وأهل مكة بين الاسترقاق والعتق ! وهو حكم خاص بهم ، كالذي يقول لعبيده : إذهبوا وافعلوا ما شئتم ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 41 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فيبقى ملكه عليهم وعلى ذراريهم . ويعني أن النبي صلى الله عليه وآله لم يخيرهم بين الإسلام والقتال ، بل اختاروا القتال فأخذهم أسرى .
أما إعلانهم الإسلام فقد رتب عليه أحياناً أحكام المسلمين وألزمهم بالجهاد معه في حنين ، وأخذ من نسائهم البيعة . لكنه رتب عليهم أحياناً أخرى أحكام المشركين ولم يرجع إليهم عبيدهم الذين هاجروا إليه بعد فتح مكة ! وهذا يعني أنه صلى الله عليه وآله والإمام بعده من أهل بيته عليه السلام مخيران بين ترتيب أحكام الإسلام أو أحكام الكفر عليهم ، حسب ما يراه مصلحة ! هذا ، وقد بحثنا في جواهر التاريخ : 2 / 94 ، فتوى عمر في الطلقاء بأن حكم الأمة محرم عليهم ! فقد روى ابن سعد في الطبقات : 3 / 342 ، عن عمر أنه قال : ( هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد ، وفي كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ ) . وتاريخ دمشق : 59 / 145 ، وأسد الغابة : 4 / 387 وكنز العمال : 5 / 735 ، و : 12 / 681 ، وتاريخ الخلفاء / 113 ، والغدير : 7 / 144 ، و 10 / 30 ، ونفحات الأزهار : 5 / 350 . وهو يدل على أن الخلافة كانت مطروحة في زمن النبي صلى الله عليه وآله .

23 - قَبِلَ النبي صلى الله عليه وآله من القرشيين إسلامهم الشكلي !

وقَبِلَ النبي صلى الله عليه وآله إسلام القرشيين الشكلي ، ودعاهم إلى الذهاب معه لحرب النجديين في حنين ! فاستجابوا له وشاركوا معه بألفي مقاتل . ( ابن هشام : 4 / 891 ) . وسبب استجابتهم أنهم فكروا أن محمداً ابن أخ كريم ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 42 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقد عفا عنا وفتح لنا المجال لمشاركته في حربه وسلمه ، ودولته دولة قريش وعزه عزها ، وهي دولة كبيرة ، فلماذا نتركها بأيدي أنصاره الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين ! وبذلك وجهت قريش عملها لمرحلة ما بعد محمد صلى الله عليه وآله وصار هدفها أن يشركها في خلافته مع عترته أو تمنعه من ترتيب الأمر لهم ، لأن بني هاشم تكفيهم النبوة بزعمهم ، أما خلافة النبي صلى الله عليه وآله فيجب أن تكون لبقية قبائل قريش !
وكان يرون أن هذا المنطق لا يتنافى مع العمل لاغتيال محمد ! بشرط أن يكون سرياً أو فردياً ممن له ثأر عنده فيبكون عليه ويرثون سلطانه !
ولذا شاركوا معه في الحرب فذهبوا معه إلى حُنين حيث جمعت قبائل هوازن وغطفان النجدية جموعها لحرب النبي صلى الله عليه وآله ، وكان جيشه عشرة آلاف مقاتل ، وجعل القرشيين قواتهم في مقدمته وما أن واجههم كمين من هوازن برشقة سهام حتى انهزموا فارِّين ! فسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين جميعاً ! وثبت النبي صلى الله عليه وآله ومعه بنو هاشم فقط كالعادة ، وقاتلوا بقوة وردوا كمين هوازن وهجومهم ، ثم رجع المسلمون الفارون ، وكتب الله لهم النصر . واستغلت قريش الهزيمة فقامت بعدة محاولات لقتل النبي صلى الله عليه وآله ! مما يشير إلى أن الهزيمة كانت مدبرة مع قبائل هوازن ! وقد روى علماء السلطة ومنهم ابن كثير المتعصب لقريش عن النضير بن الحارث قائد قوات قريش المشاركة في حنين ، قال في سيرته : 3 / 691 : ( كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس ، فكان يقول : الحمد لله الذي من علينا بالإسلام ، ومنَّ علينا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 43 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بمحمد ولم نمت على ما مات عليه الآباء وقتل عليه الأخوة وبنو العم . ثم ذكر عداوته للنبي وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد ! قال : ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه فلم يمكننا ذلك ! فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إنْ شعرتُ إلا برسول الله ( ص ) فقال : أنضيرُ ؟ قلت : لبيك . قال : هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟ قال : فأقبلت إليه سريعاً فقال : قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع ! قلت : قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . فقال رسول الله : اللهم زده ثباتاً ! قال النضير : فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتاً في الدين وتبصرة بالحق . فقال رسول الله : الحمد لله الذي هداه ) .
كما روى ابن هشام : 4 / 46 ، اعتراف قائد قرشي آخر ، قال : ( وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار : قلتُ اليومَ أدركُ ثأري من محمد ، وكان أبوه قُتل يوم أحد ، اليوم أقتل محمداً ! قال : فأدرت برسول الله لأقتله فأقبل شئ حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك ، وعلمت أنه ممنوع مني ) . انتهى . فهذا إقرارٌ من زعيمين قرشيين يفترض أنهما أسلما في مكة وذهبا لنصرة النبي صلى الله عليه وآله على أعدائه ! بينما اعترفا بأنهما حاولا قتل النبي صلى الله عليه وآله فلم يستطيعا ، ثم ادعيا أنه آمنا بالله تعالى ! وقد نصت مصادر السيرة على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عندما انهزم المسلمون في حنين أول الأمر فأظهروا فرحهم وكفرهم ! قال ابن هشام : 4 / 46 : ( فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله ( ص )
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 44 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لمعه في كنانته ! ( كان يحمل صنمه مع سهامه ) وصرخ جبلة بن الحنبل . . ألا بطل السحر اليوم ) !
أقول : جبلة هذا أخ صفوان بن أمية المخزومي الذي أرسل شخصاً ليقتل النبي صلى الله عليه وآله ثأراً بأبيه الذي قتل في بدر . قال ابن هشام : 2 / 485 : ( جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير ، في الحجر ، وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش وممن كان يؤذى رسول الله ( ص ) وأصحابه ويلقون منه عناء وهو بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر . . . فذكر أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان : والله إن في العيش بعدهم خير ، قال له عمير : صدقت والله ، أما والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لي قبلهم علة : ابني أسير في أيديهم ، قال : فاغتنمها صفوان وقال : عليَّ دينك أنا أقضيه عنك ، وعيالك أواسيهم ما بقوا لا يسعني شئ ويعجز عنهم ، فقال له عمير : فاكتم عني شأني وشأنك ، قال : أفعل . قال : ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسمّ ، ثم انطلق حتى قدم المدينة . . . ) . انتهى .
وكشف الله لرسوله صلى الله عليه وآله عميراً وأفشل محاولته وزعموا أن عمر كشفه ! ولم يكتف صفوان بمحاولته تلك بل قتل بأبيه مسلماً صبراً في مكة ، هو زيد بن الدثنة رحمه الله . ( ابن هشام : 3 / 669 ) وعندما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة هرب صفوان خوفاً من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 45 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
القتل ، قال ابن هشام : 4 / 874 : ( خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه ، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمِّنه صلى الله عليك ، قال : هو آمن قال : يا رسول الله ، فأعطني آية يعرف بها أمانك ، فأعطاه رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة فخرج بها عمير حتى أدركه ، وهو يريد أن يركب في البحر ، فقال : يا صفوان ، فداك أبي وأمي ، الله الله في نفسك أن تهلكها فهذا أمان من رسول الله قد جئتك به ، قال : ويحك أغرب عني فلا تكلمني ! قال : أي صفوان فداك أبي وأمي ، أفضل الناس ، وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمك ، عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك ! قال : إني أخافه على نفسي ! قال : هو أحلم من ذاك وأكرم . فرجع معه حتى وقف به على رسول الله ، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني ، قال : صدق ، قال : فاجعلني فيه بالخيار شهرين قال : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر ) ! انتهى .
ورغم كفر صفوان وفعلته وصرخة أخيه الكافر ، أعطاه النبي صلى الله عليه وآله من غنائم حنين ثلاث مئة ناقة فقال : ( والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ ، فما برح يعطيني حتى أنه لأحب الناس إليَّ ) . ( صحيح مسلم : 7 / 75 ) .
( (
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 46 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

24 - عزلت قريش رئيسها أبا سفيان لليونته مع النبي صلى الله عليه وآله !

بادرت قريش بعد فتح مكة إلى عزل رئيسها أبي سفيان ! ونصبوا بدله سهيل بن عمرو ، فحكم سهيل مكة وعزل عملياً حاكمها الذي نصبه النبي صلى الله عليه وآله وهو عتاب بن أسيد الأموي !
بل أهانت قريش أبا سفيان واتهمته بأنه ضعف أمام النبي صلى الله عليه وآله واتفق معه على الاستسلام : ( حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ! فقامت إليه ( زوجته ) هند بنت عتبة بن ربيعة فأخذت شاربه فقالت : اقتلوا الحميت الدسم فبئس طليعة قوم ! قال : ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم وإنه قد جاء ما لا قبل لكم به ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ! قالوا قاتلك الله وما يغني غناء دارك ؟ قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن . فهذا حديث متصل الاسناد صحيح ) . ( معاني الآثار لابن سلمة : 3 / 322 وثقات ابن حبان : 2 / 48 ، ونهاية ابن كثير : 4 / 332 ، والحميت : الزق الأسود ) . بل اعتبرت قريش أن أبا سفيان وبني أمية خانوهم ومالوا إلى أبناء عمهم بني هاشم فكلهم بنو عبد مناف ، وأن النبي صلى الله عليه وآله كافأهم فنصب أموياً حاكماً على مكة !
لذلك شلَّتْ قريش حاكمهم وعزلت رئيسها أبا سفيان فاضطر للذهاب إلى المدينة فدبر له النبي صلى الله عليه وآله عملاً وعينه مسؤول جمع زكوات نجران !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 47 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما سهيل بن عمرو فهو عندهم مفاوض صلب ، استطاع أن يرد جيش محمد صلى الله عليه وآله عنهم من الحديبية قبل سنة ، وفرض عليه شروطاً لمصلحة قريش ! وهو من الأشداء تاريخياً على محمد والعاملين لقتله ، وممن عذب المسلمين على إسلامهم ومنهم ولده أبو جندل ! وهو الخطيب في قريش بعد بدر لأخذ ثأرهم من محمد ! ( سير أعلام النبلاء : 1 / 194 ) .
وهو من قادة قريش الذين كان يلعنهم محمد ! ويدعو عليهم في صلاته بأسمائهم ! قال الصنعاني في تفسيره : 1 / 242 : ( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر ، هم : أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو جهل وسهيل بن عمرو ) . انتهى . لذلك زعَّمته قريش بالإجماع والتفَّت حوله ، وقاطعت الحاكم من قبل النبي صلى الله عليه وآله ونبذته حتى اختبأ ! وأخذ سهيل يكاتب النبي صلى الله عليه وآله ويتصرف كرئيس دولة مستقلة مقابل دولة النبي صلى الله عليه وآله ! وبلغت جرأته أقصاها فكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله يطالبه بأن يرجع شباناً قرشيين وعبيداً أسلموا والتحقوا بالنبي صلى الله عليه وآله ( وقد روي أنهم ثلاثة وعشرون عبداً من الطائف من جملتهم أبو بكرة كما ذكره البخاري في المغازي ) . ( نيل الأوطار : 8 / 157 ) فلم يردهم النبي صلى الله عليه وآله لهم وقال إنهم عتقاء الله فجاء سهيل في وفد من قريش إلى المدينة وذهب معه أبو بكر وعمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وطالبوه أن يردهم إليهم ، وقال له سهيل إن كان عذرهم طلب التفقه فنحن نفقههم ! فغضب رسول الله ( ص ) وقال : ما أراكم تنتهون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 48 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا الدين ! وأبى أن يردهم وقال : هم عتقاء الله عز وجل ) . ( أبو داود : 1 / 611 ) . وفي رواية الحاكم الصحيحة : 2 / 138 ، و 4 / 298 : ( فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله ! فقال لعمر : ما ترى ؟ فقال مثل قول أبي بكر ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضرب رقابكم على الدين ! فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا . قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد ، وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها ) . وفي الطبراني : 4 / 158 : ( ما أنتم بمنتهين حتى أبعث إليكم رجلاً يضرب رقابكم على الدين ) .
أقول : هذه حادثة ضخمة تكشف حقيقة مذهلة هي : أن القرشيين بعد كل جرائمهم التاريخية مع النبي صلى الله عليه وآله وعفوه عنهم وإعلانهم الإسلام ، يطالبونه بوقاحة يهودية بالاعتراف باستقلالهم السياسي ! لذلك حذف بعضهم اسم أبي بكر وعمر وقال : ( فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم ، فغضب رسول الله . . . ) . ( الحاكم : 2 / 125 ) .
ولذلك كذبوا فجعلوا الحادثة قبل فتح مكة ليقولوا إن سهيل بن عمرو طالب النبي صلى الله عليه وآله بتنفيذ شرط صلح الحديبية بأن يرد إليهم من جاءه منهم ! ليرفعوا بذلك الطعن عن سهيل وأبي بكر وعمر وبقية زعماء قريش الذين أيدوا مطلب سهيل ! ولكنهم بذلك طعنوا في النبي صلى الله عليه وآله بأنه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 49 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لم ينفذ تعهده وقال : هؤلاء عتقاء الله ! قال الترمذي : 5 / 298 : ( لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين فقالوا يا رسول الله : خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا ، وليس لهم فقه في الدين ، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا ، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم ! فقال النبي ( ص ) : يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلبه على الإيمان ! قالوا : من هو يا رسول الله ؟ فقال له أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟ وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟ قال هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها . هذا حديث حسن صحيح ) . ونحوه أبو داود : 1 / 611 ، وفيه : ( فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم ! فغضب رسول الله ( ص ) وقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش . . . ! وأبى أن يردهم وقال : هم عتقاء الله عز وجل ) . انتهى .
فالحادثة بعد فتح مكة وقولهم إنها بعد الحديبية من تزويراتهم لتبرئة أئمتهم والطعن بالنبي صلى الله عليه وآله ! فلو كانت قبل فتح مكة لردهم النبي صلى الله عليه وآله ووفى بشرطه ! ولَمَا قالوا ( سنفقههم ) !
لقد غضب النبي صلى الله عليه وآله من تفكير قريش ووقاحتها ! وأعلن يأسه من أن تصلح ويحسن إسلامها ، لأنها مصابة بمرض يهودي هو التكبر على الحق فلا تخضع للحق إلا بقوة السيف ! وهو سيف النبي صلى الله عليه وآله أو علي عليه السلام الذي ترتعد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 50 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
منه فرائصهم ، فقد قتل كل المسلمين نصف أبطال قريش ، وقتل وحده نصفهم أو أكثر ! ولذا ورد أن النبي صلى الله عليه وآله أبهم تهديده وقال : ( أنا ، أو خاصف النعل ) . ( الحاكم : 4 / 298 ) . بل أمر النبي صلى الله عليه وآله علياً في حياته أن يهدد قريشاً إن ارتدت !
ففي مجمع الزوائد : 9 / 134 ، عن ابن عباس قال : ( إن علياً كان يقول في حياة رسول الله ( ص ) : إن الله عز وجل يقول : أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى . والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت . لا والله ، إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه ، فمن أحق به مني ) !
كما تدل الحادثة على أن النبي صلى الله عليه وآله حكم بكفر أصحاب هذا الطلب ! فقوله صلى الله عليه وآله : ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) أي عن الكفر ومعاداة الله ورسوله صلى الله عليه وآله ! وقوله إن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين يدل على أنهم ليسوا عليه ولا يسكتون عن العمل ضده إلا بالسيف ! ورفضه إرجاع أبنائهم وعبيدهم يدل على أنهم عنده مشركون فلو كانوا مسلمين لاحترم ملكيتهم ، لأنه لا يستحل مال امرئ مسلم .
لكن ذلك لم ينفع مع قريش ! فقد استمر سهيل يحكم مكة والحاكم الشرعي عتَّاب معزولاً ، بل خائفاً أن يقتلوه مع أنه مكي أموي ! وعندما وصل خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله إلى مكة شاع أن القرشيون أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام واشتد الخطر على عتَّاب فاختبأ ! حتى وصلهم تطمين ببيعة أبي بكر التيمي وأن بني هاشم لن يحكموا بعد محمد صلى الله عليه وآله ! فخطب سهيل في قريش بنفس
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 51 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
خطبة أبي بكر في المدينة ومفادها : من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات ! ونحن لا نعبد محمداً بل هو رسول بلغ رسالته ومات ! وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش وقد اختارت قريش أبا بكر حاكماً لها ، فاسمعوا له وأطيعوا . وأصدر سهيل أمره لعتاب : أخرج من مخبئك ، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة بن تيم بن مرة ! قال ابن هشام : 4 / 1079 : ( فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ، وظهر عتاب بن أسيد ) !

25 - خطة قريش اليهودية بتكثيف وجودها في المدينة !

من فعاليات قريش بعد فتح مكة ، أنها كثفت وجود الطلقاء في المدينة للقيام بفعاليات تمنع النبي صلى الله عليه وآله أن يرتب حكم عترته من بعده !
فقد بلغ عدد القرشيين في المدينة بضعة آلاف مع أنه لم يكن منهم قبل فتح مكة إلا مئة شخص أو مئتين ! قال في فتح الباري : 8 / 116 : ( وعند الواقدي أيضاً أن عدة ذلك الجيش ( جيش أسامة ) كانت ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش ) ! ومعناه أن القرشيين الذين سجلهم النبي صلى الله عليه وآله في جيش أسامة وأراد أن يخلي منهم المدينة قرب وفاته ، كانوا سبع مئة ، وإذا حسبنا مقاتلاً من كل عائلة من خمسة نفرات ، يكون عدد الطلقاء في المدينة أكثر من ثلاثة آلاف ! وقد ذكر المؤرخون أن عدد سكان المدينة عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله اثنا عشر ألفاً ، ومعناه أن الطلقاء كانوا وجوداً مكثفاً مؤثراً في الأمور التي تتطلب جمهوراً ! لذلك يجب أن نقدر تأثيرهم على مجرى الأحداث في أيام النبي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 52 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الأخيرة صلى الله عليه وآله ، خاصة يوم دعا الناس ليكتب لهم عهده وتأمينه الأمة من الضلال بعده ، فاختلف الحاضرون وصاحوا القول ما قاله عمر ، لا تُقَرِّبوا له دواةً حسبنا كتاب الله ، وارتفعت أصواتهم ومنعوا النبي صلى الله عليه وآله أن يكتب عهده !
فمَن هم الذين صاحوا ورفضوا أعظم عرض لنبي على أمته . . إلا الطلقاء ؟ ! ومن الذين فرضوا بيعة أبي بكر بالقوة ، وهاجموا بيت فاطمة الزهراء عليها السلام وهددوا بني هاشم ومن معهم بحرقه عليهم . . إلا الطلقاء !

26 - حملة القرشيين في المدينة للطعن في بني هاشم !

ومن فعاليات قريش بعد فتح مكة ، أنها نظمت حملة شرسة للطعن في بني هاشم عشيرة النبي صلى الله عليه وآله ، وقالوا إن محمداً نخلة نبتت في كبوة أي مزبلة ! وأحاديث ذلك كثيرة في مصادرهم ، منها ما رواه الترمذي وحسنه : 5 / 243 : ( عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض . فقال النبي ( ص ) : إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين ، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً ) .
ونحوه مجمع الزوائد : 8 / 215 ، وفيه : أتى ناس من الأنصار النبي ( ص ) فقالوا إنا نسمع من قومك ، حتى يقول القائل منهم إنما مثل محمد نخلة نبتت في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 53 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الكبا . . . الخ . رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) . ونحوه عن ابن عمر قال : ( إنا لقعود بفناء رسول الله ( ص ) إذ مرت امرأة فقال رجل من القوم : هذه ابنة محمد ! فقال رجل من القوم : إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبي ( ص ) فجاء النبي ( ص ) يعرف في وجهه الغضب ثم قام على القوم فقال : ما بال أقوال تبلغني عن أقوام . . . الخ . وفيه : عن ابن عباس أن صفية عمة النبي صلى الله عليه وآله شكت له فقالت : ( استقبلني عمر بن الخطاب فقال إن قرابتك من رسول الله ( ص ) لن تغني عنك من الله شيئاً ! قال فغضب النبي ( ص ) وقال : يا بلال هجر بالصلاة ! فهجر بلال بالصلاة فصعد المنبر ( ص ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ! كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ، فإنها موصولة في الدنيا والآخرة . . . . ثم خرجت من عند رسول الله ( ص ) فمررت على نفر من قريش . . . فقالوا إن الشجرة لتنبت في الكبا ! قال فمررت إلى النبي ( ص ) فأخبرته فقال : يا بلال هجر بالصلاة . . . قال فلما سمعت الأنصار بذلك قالت قوموا فخذوا السلاح فإن رسول الله ( ص ) قد أغضب ! قال فأخذوا السلاح ثم أتوا النبي ( ص ) لا ترى منهم إلا الحدق حتى أحاطوا بالناس فجعلوهم في مثل الحرة ، حتى تضايقت بهم أبواب المساجد والسكك ، ثم قاموا بين يدي رسول الله ( ص ) فقالوا : يا رسول الله لا تأمرنا بأحد إلا أبرنا عترته ! فلما رأى
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 54 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
النفر من قريش ذلك قاموا إلى رسول الله ( ص ) فاعتذروا وتنصلوا فقال رسول الله ( ص ) : الناس دثار والأنصار شعار ، فأثنى عليهم وقال خيراً ) .
وفي أحمد : 1 / 207 ، أن العباس شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : ( يا رسول الله إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ! قال فغضب النبي غضباً شديداً وقال : والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ) . وفيه : ( إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث فإذا رأونا سكتوا ! فغضب رسول الله ودرَّ عِرْقٌ بين عينيه . ) . والترمذي : 5 / 317 ، وصححه . والنسائي في فضائل الصحابة / 22 ، والحاكم : 3 / 333 ، وابن شيبة : 7 / 518 ، والطبراني الكبير : 20 / 285 ، وغيرهم كثير .
ومن مصادرنا ما رواه الطوسي في أماليه / 308 ، بسنده عن أنس قال : ( رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله قافلين من تبوك فقال لي في بعض الطريق : ألقوا لي الأحلاس والأقتاب ففعلوا ، فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله فخطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : معاشر الناس ، مالي إذا ذكر آل إبراهيم تهللت وجوهكم ، وإذا ذكر آل محمد كأنما يفقأ في وجوهكم حب الرمان ؟ ! فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ، ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب ، لأكبه الله في النار ) ! انتهى .
أقول : هذا باب واسع رووا فيه وروينا الكثير ، وهو يدلك على صراع قريش مع النبي صلى الله عليه وآله بعد فتح مكة وفعالياتهم لصرف الأمر عن عترته
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 55 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وغضبه منهم ! ولم يقف الأمر عند حادثة واثنتين وجواب نبوي أو جوابين ، حتى دعا النبي صلى الله عليه وآله الأنصار بالسلاح وخطب وفي إحدى المرات كان معه جبرئيل عليه السلام فبين مقام بني عبد المطلب ، ورد مقولات القرشيين وتحداهم وقال سلوني عن أنسابكم ! حتى قام بعضهم ووقع على قدميه طالباً العفو . . الخ . وقد بحثناه في المسألة 59 من كتاب ألف سؤال وإشكال .

27 - من تأثيرات قريش نزول سورة التحريم في حفصة وعائشة

ومن تأثيرات قريش بعد فتح مكة ، أن علاقة النبي صلى الله عليه وآله بزوجتيه القرشيتين عائشة وحفصة ساءت كثيراً حتى نزلت فيهما سورة التحريم !
وقد نصت السورة على أن النبي صلى الله عليه وآله أسرَّ بأمر خطير إلى بعض أزواجه وأكد عليها أن لا تقوله لأحد ، فعصته وأفشت سره وتآمرت مع صاحبتها ضده ! فأطلعه الله على ذلك وهددهما ، وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط الكافرتين . وهذه فقرات من سورة التحريم : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَات أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . . وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ . . . إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ . عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا . . . يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 56 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ .
أما رواة الخلافة القرشية فيقولون لك إن المسألة كانت مسألة عائلية فنية تتعلق بغيرة نساء النبي صلى الله عليه وآله وأخطائهن مع النبي صلى الله عليه وآله !
ويريدونك أن تغمض عينيك وعقلك عن أن الآيات تتحدث عن خطر عظيم على النبي صلى الله عليه وآله والإسلام ، وتحشد لمواجهته أعظم جيش : وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ! فهل تحتاج معالجة قضية زوجية محضة إلى جيش إلهي لا يستنفر إلا في حالات الطوارئ القصوى ؟ ! ومن هو هذا الشخص أو الجهة التي صغت إليها قلوبهما وأطاعتاها ، غير قريش ؟ ولمصلحة من تعاونتا على الرسول صلى الله عليه وآله إلا لمصلحة قريش ؟ ! وهل خرجتا بذلك من الإسلام وجددتا إسلامهما ؟ . . الخ .

28 - من تأثيرات قريش هجر النبي صلى الله عليه وآله أزواجه شهراً !

ومن تأثيرات قريش بعد فتح مكة ، أن النبي صلى الله عليه وآله غضب على بعض زوجاته لإفشائها سره ، ثم أمره الله أن يهجر نساءه شهراً فهجرهن وترك المدينة وسكن على بعد كيلومترات منها في العوالي عند مارية ، ثم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 57 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أنزل الله آية التخيير لنسائه بين البقاء معه والطلاق ! وذلك في السنة التاسعة للهجرة ( مغني المحتاج : 3 / 343 ) . قال الصدوق رحمه الله في الفقيه : 3 / 517 : ( قال أبي رضي الله عنه في رسالته إليَّ : إعلم يا بني أن أصل التخيير هو أن الله تبارك وتعالى أنفَ لنبيه صلى الله عليه وآله في مقالة قالتها بعض نسائه : أيَرى محمد أنه لو طلقنا لا نجد أكفاءنا من قريش يتزوجونا ؟ فأمر الله نبيه أن يعتزل نساءه تسعاً وعشرين ليلة ، فاعتزلهن النبي صلى الله عليه وآله في مشربة أم إبراهيم ، ثم نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً فاخترن الله ورسوله فلم يقع الطلاق ، ولو اخترن أنفسهن لبِنَّ ) .
لكن رواة قريش قالوا إنه آلاهن ، أي حلف أن يهجرهن في المضجع شهراً ، فعاتبه ربه وأمره بالرجوع ! قال الترمذي : 5 / 95 : ( وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهراً فعاتبه الله في ذلك فجعل له كفارة اليمين ) ! وقال بخاري : 1 / 100 : ( وآلى من نسائه شهراً ، فجلس في مشربة له درجتها من جذوع . . . ونزل لتسع وعشرين فقالوا : يا رسول الله إنك آليت شهراً ، فقال : إن الشهر تسع وعشرون ) . انتهى . وزعموا أن سبب ذلك طلباتهن ، وليس قريشاً والخلافة ، ولا سورة التحريم ، ولا اتهامهن لمارية !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 58 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال في أسباب النزول / 240 : ( قال المفسرون : حين غار بعض نساء النبي وآذينه بالغيرة وطلبن زيادة النفقة فهجرهن رسول الله شهراً حتى نزلت آية التخيير ) . انتهى . أقول : يقصدون بالإيلاء أن النبي صلى الله عليه وآله أقسم أن يهجر نساءه فوبخه الله على يمينه ! وأنزل عليه الآيات من سورة البقرة : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ . لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . ( البقرة : 225 - 227 ) . وهذا لا يصح بحال لأن آيات الإيلاء في سورة البقرة وقد نزلت قبل ذلك بسنوات ، وغضب النبي صلى الله عليه وآله على نسائه في السنة التاسعة أو العاشرة للهجرة !
ثم إن الإيلاء نوع من الطلاق كان في الجاهلية ، فكان الزوج يؤلي أي يحلف أن يهجر زوجته فتطلق ، فجعل الله مدته بنص القرآن أربعة أشهر ، ولا يكون الإيلاء شهراً بإجماع كل المذاهب !
لكن القرشيين يكذبون ثم يكذبون ليغطوا غضب النبي صلى الله عليه وآله على حفصة وعائشة ، ويخفوا سبب هجره لنسائه ، كما أخفوا اتهامهم لمارية ونفيهم إبراهيم عنه صلى الله عليه وآله ! ليخفوا صراع قريش معه على خلافته !

29 - من أعمال قريش اتهامهم مارية القبطية زوجة النبي صلى الله عليه وآله

ومن تأثيرات قريش بعد فتح مكة ، إيذاؤهم للنبي صلى الله عليه وآله في زوجته مارية القبطية ، خاصة بعد أن رزقه الله منها ولداً ! قال علي عليه السلام : ( إن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 59 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
العرب كرهت أمر محمد صلى الله عليه وآله وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ! ونَفَّرت به ناقته ! مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته ) ! ( شرح النهج : 20 / 298 ) . وقال ابن كثير : 3 / 710 : ( رجع رسول الله إلى المدينة لليال بقين من ذي الحجة في سفرته هذه ( فتح مكة ) . . . وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله من مارية القبطية ، فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولداً ذكراً ) .
وقال في الطبقات : 8 / 212 : ( عن عائشة قالت : ما غرتُ على امرأة إلا دون ما غرتُ على مارية ! وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة ، وأعجب بها رسول الله ( ص ) وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا ، فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها حتى فرغنا لها فجزعت ، فحولها إلى العالية فكان يختلف إليها هناك فكان ذلك أشد علينا ، ثم رزق الله منها الولد وحرمنا منه ) . انتهى .
أقول : لخصت عائشة بقولها : فرغنا لها فجزعت ، ثلاث سنوات من صراعها مع مارية ، ومعناه أنها وحفصة وحزبهن تفرغن لأذية مارية المؤمنة الغافلة الغريبة ! ونقلت السيرة أذيتهن لها بالكلام والأفعال وحتى الضرب والجر بالشعر ! فخاف النبي صلى الله عليه وآله عليها وعلى حملها ، وكان له بستان في العوالي يسكن فيه غلامه أبو رافع رحمه الله وزوجته سلمى وكانت مؤمنة عاقلة ، وجيرانهم أنصار مؤمنون ، فبنى فيه النبي صلى الله عليه وآله غرفة لمارية وأسكنها هناك ، فأبعدها عن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 60 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عائشة وحفصة ، وكان يذهب إليها . لكن عائشة وحزبها زاد عداؤهم لمارية عندما رزقت بإبراهيم ‘ ، ودخل العنصر القرشي لأنه صار للنبي صلى الله عليه وآله وارث من صلبه ! وقد بلغت جرأتهم أن قالوا للنبي صلى الله عليه وآله إن ابنه إبراهيم لا يشبهه !
قال في شرح النهج : 9 / 190 : ( وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمى ويستشرى حتى كان منها في أمره في قصة مارية ما كان ) . وصرحت مصادرنا بأن عائشة اتهمت مارية ، فقالت للنبي صلى الله عليه وآله بعد موت إبراهيم ( ما الذي يحزنك عليه إنه ابن جريح القبطي ! فبعث النبي علياً ليقتله فخاف منه جريح فتسلق نخلة في بستان فانكشف ثوبه فإذا ليس له ما للرجال ، فرجع علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره بما رأى فقال صلى الله عليه وآله : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت ، ثم نزلت هذه الآية : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . ( تفسير القمي : 2 / 318 ) .
وفي المنتظم : 3 / 346 ، عن عائشة : ( لما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إلي فقال : أنظري إلى شبهه بي ، فقلت ما أرى شبهاً ) ! لكن الحاكم : 4 / 39 روى عن عائشة أن الذي اتهم مارية الناس ، قالت : ( أهديت مارية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ومعها ابن عم لها ، قالت فوقع عليها ( النبي صلى الله عليه وآله ) وقعة فاستمرت حاملاً ، قالت فعزلها عند ابن عمها ، قالت فقال أهل الإفك والزور : من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره ! وكانت أمةً قليلة اللبن ، فابتاعت له ضائنة لبون فكان يغذى بلبنها فحسن عليه لحمه ، قالت عائشة : فدُخل به على النبي صلى الله عليه وآله ذات يوم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 61 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فقال : كيف ترين ؟ فقلت من غُذِّيَ بلحم الضأن يحسن لحمه . قال : ولا الشبه ؟ قالت : فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت ما أرى شبهاً ! قالت وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله ما يقول الناس ! فقال لعلي : خذ هذا السيف فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته ! قالت : فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً ، قال فلما نظر إلى علي ومعه السيف استقبلته رعدة ، قال فسقطت الخرقة فإذا هو لم يخلق الله له ما للرجال ، شئ ممسوح ) .
وفي الطبقات : 8 / 212 : ( بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله ( ص ) في سنة سبع من الهجرة بمارية وبأختها سيرين ، وألف مثقال ذهباً ، وعشرين ثوباً ليناً ، وبغلته الدلدل وحماره عفير ويقال يعفور ، ومعهم خِصْيٌ يقال له مابور شيخ كبير ، كان أخا مارية . . . فجاء أبو رافع زوج سلمى فبشر رسول الله بإبراهيم فوهب له عبداً ، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان ) . انتهى . وقد روت خبر مارية القبطية مصادر الحديث والسيرة ، ونصت على أن الذي اتهموها به هو هذا الخصي الممسوح ، راجع : رسالة حول خبر مارية للمفيد ، وأمالي المرتضى : 1 / 54 ، وسيرة ابن إسحاق : 5 / 252 ، وأنساب الأشراف / 362 ، والطبقات : 1 / 137 ، واليعقوبي : 2 / 87 ، وحلية الأولياء : 3 / 177 ، وصفة الصفوة : 2 / 78 ، والأحاديث المختارة : 2 / 353 ، ومسند البزار : 2 / 237 ، وغوامض الأسماء : 1 / 498 ، ومجمع الزوائد : 4 / 329 ، والآحاد والمثاني : 5 / 450 ، والفائق : 1 / 287 ، وتاريخ دمشق : 3 / 236 ، والنهاية : 5 / 325 ، وسيرة ابن كثير : 4 / 600 ، وسبل الهدى : 11 / 219 ، وكنز العمال : 5 / 454 . ويسهل عليك أن تجد أصابع قريش ، في قول عائشة من رواية الحاكم : ( قالت فعزلها عند ابن عمها ، قالت فقال أهل الإفك والزور : من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره ) . ومعناه بزعمهم أن النبي صلى الله عليه وآله الذي كان يرأس دولة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 62 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كبيرة في السنة العاشرة للهجرة ، بحاجة إلى ابن ليرثه ليجعله في وصاية أحد حتى يكبر ! فهذا هو تفكير ( الناس ) أصحاب الإفك الذين قال الله فيهم : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ! والحل عندهم أن يتهموا النبي صلى الله عليه وآله في عرضه لينفوا عنه ابنه وتنجح خطتهم لوراثة ملكه صلى الله عليه وآله ! وحيث لم ينفع ذلك وأنزل الله براءة مارية ، فالحل قتل هذا الطفل المرشح لخلافة أبيه ، وسُمُّ اليهود حاضر ، ونساؤهم اللواتي ينفذن !
ومما يحيرك في موضوع إبراهيم وأمه مارية ‘ ، أنك تجد حضور عمر بن الخطاب ، فقد روى في مجمع الزوائد : 9 / 161 ، أن النبي صلى الله عليه وآله ذهب إلى مارية ( فوجد قريبها عندها فوقع في نفسه من ذلك شئ كما يقع في أنفس الناس فرجع متغير اللون فلقي عمر فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم فأخذ السيف . . . وساق نفس رواية علي وأن عمر وجده ممسوحاً فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وطمأنه ، فقال له رسول الله : صلى الله عليه وآله ( ألا أخبرك يا عمر إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي وبشرني أن في بطنها غلاماً مني وأنه أشبه الناس بي ، وأمرني أن أسميه إبراهيم وكنَّاني بأبي إبراهيم ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها لتكنيت بأبي إبراهيم كما كناني جبريل عليه السلام ) . انتهى . فالرواية تقول إن الذي شك بمارية واتهمها هو النبي صلى الله عليه وآله فقد ذهب إليها إلى العوالي فوجد عندها رجلاً أجنبياً ، فرجع ولم يدخل بيتها وشكى إلى عمر ، فأخذ عمر سيفه ليقتل القبطي فوجده ممسوحاً فرجع ليطمئن النبي صلى الله عليه وآله ، فوجد أن الله قد بشره وطمأنه !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 63 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ومع أنهم ضعفوها وصححوا رواية أن الذي أرسله النبي صلى الله عليه وآله هو علي عليه السلام ، لكن وجود الرواية يدل على أن عرض النبي صلى الله عليه وآله وكرامته كانت تلوكها أكاذيبها تلك العصبة بألسنتها ، وأن المسألة تتعلق بسمعة النبي صلى الله عليه وآله وخلافته ، والمستفيد منها قريش التي تريد أن ترثه دون عترته !
وأغرب منها الرواية التي اختارها بخاري في صحيحه : 3 / 103 : ( عن عبد الله بن عباس قال : لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي ( ص ) اللتين قال الله لهما : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ، فحججت معه فعدل وعدلت معه بالإداوة ، فتبرز حتى جاء فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي اللتان قال إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ ؟ فقال : واعجبي لك يا ابن عباس ! عائشة وحفصة . ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال : إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي ( ص ) فينزل هو يوماً وأنزل يوماً ، فإذ نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره وإذا نزل فعل مثله ، وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار ، فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولمَ تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ( ص ) ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل ! فأفزعني ذلك فقلت : خابت من فعلت منهن بعظيم . ثم جمعت عليَّ ثيابي فدخلت على حفصة فقلت : أتغاضب إحداكن رسول الله ( ص ) اليوم حتى
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 64 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الليل ؟ فقالت : نعم فقلت : خابت وخسرت أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله ( ص ) فتهلكين ! لا تستكثري على رسول الله ولا تراجعيه في شئ ولا تهجريه واسأليني ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى رسول الله ( ص ) ، يريد عائشة .
وكنا تحدثنا أن غسان ( قبائل غسان الشامية ) تنعل النعال لغزونا ، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أنائم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه وقال : حدث أمر عظيم ! قلت : ما هو أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم منه وأطول ! طلق رسول الله ( ص ) نساءه ! قال : قد خابت حفصة وخسرت ! كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون ! فجمعت عليَّ ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي ( ص ) فدخل مشربة له فاعتزل فيها ، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي قلت ما يبكيك أولم أكن حذرتك ، أطلقكن رسول الله ؟ ! قالت : لا أدري هوذا في المشربة فخرجت فجئت المنبر ، فإذا حوله رهط يبكى بعضهم ، فجلست معهم قليلاً . ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي هو فيها فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي ( ص ) ثم خرج فقال : ذكرتك له فصمت ! فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت فذكر مثله ، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت استأذن لعمر ، فذكر مثله فلما وليت منصرفاً فإذا الغلام يدعوني قال أذن لك رسول الله ( ص ) فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثر الرمل بجنبه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 65 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : طلقت نساءك ؟ فرفع بصره إليَّ فقال : لا ، ثم قلت وأنا قائم أستأنس : يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم فذكره ، فتبسم النبي ( ص ) . ثم قلت : لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي ( ص ) يريد عائشة فتبسم أخرى ، فجلست حين رأيته تبسم ، ثم رفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة ( جمع إهاب وهو الجلد ) ، فقلت : أدع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله ، وكان متكئاً فقال : أوَفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ، فقلت : يا رسول الله استغفر لي . فاعتزل النبي ( ص ) من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة ، وكان قد قال : ما أنا بداخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله ، فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة : إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عداً ، فقال النبي : الشهر تسع وعشرون ، وكان ذلك الشهر تسع وعشرون ) .
أقول : هنا عدة مسائل تعمدت رواياتهم أن تخلط بينها ، وهي مختلفة موضوعاً وزماناً ، فآيات الإيلاء في سورة البقرة أول الهجرة ، وتهمة عائشة في السنة الخامسة في غزوة المريسيع ، وتهمة مارية في السنة التاسعة بعد حملها بإبراهيم عليه السلام ، ولا يتسع المجال لبحث هذه المواضيع .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 66 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

30 - ومن أعمال قريش بتوجيه اليهود محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله

وأكبر محاولاتهم ليلة العقبة في طريق عودته صلى الله عليه وآله من غزوة تبوك ، في شهر رجب سنة تسع للهجرة أي بعد فتح مكة بعشرة أشهر ( ابن هشام : 4 / 943 ) .
وكانت محاولة متقنة ، نفذتها مجموعة من نحو عشرين شخصاً ، عرفوا أن النبي صلى الله عليه وآله سيمر ليلاً من طريق جبلي بينما يمر الجيش من طريق أطول في الوادي ، وكانت خطتهم أن يكمنوا أعلى الجبل حتى إذا وصل النبي صلى الله عليه وآله إلى المضيق ألقوا عليه صخوراً تنحدر بقوة وتقتله ! ثم ينزلون ويضيعون أنفسهم في الجيش ويبكون على النبي صلى الله عليه وآله مع الباكين ، ويصفقون على يد أحد زعمائهم ويعلنونه خليفة ! وقد تركهم الله تعالى حتى بدؤوا بإلقاء الصخور فجاء جبرئيل عليه السلام وأضاء الجبل عليهم ، فرآهم النبي صلى الله عليه وآله وناداهم بأسمائهم ، وأراهم لمرافقيْه حذيفة بن اليمان وعمار ! فسارعوا بالفرار ونزلوا وضيعوا أنفسهم في المسلمين !
وجاء الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله أن لا يعاقبهم ولا يعلن أسماءهم ! لأنهم من شخصيات قريش ، فلو كشفهم لأعلنت قريش الردة عن الإسلام ، بحجة أن محمداً صلى الله عليه وآله ليس نبياً ، بل أسس ملكاً وأعطى كل شئ بعده لبني هاشم ، ولم يعط لقريش والعرب شيئاً ! وأنه أراد أن يقتل أصحابه حتى لا ينافسوا عترته على خلافته ! وهذا يعني الحاجة من جديد إلى بدر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 67 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأحد والخندق وفتح مكة ! ولن تكون نتائج هذه الدورة أفضل من الدورة الأولى ! لذلك كان الحل السكوت عنهم ، ما داموا يعلنون قبول الإسلام ونبوة النبي صلى الله عليه وآله ، ويتبرؤون من خيانتهم . وفي نفس الوقت أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يتم عليهم الحجة ويجاهدهم سياسياً ، ويتلو عليهم ما نزل فيهم من القرآن ، وهو قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ . ( التوبة : 73 - 74 ) . لكن تفاسير الخلافة تقول لك لا علاقة أبداً لهذه الآيات بقريش ، فالذين هموا بما لم ينالوا وكفروا بعد إسلامهم ، منافقون من الأنصار أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وقالوا كلمة الكفر وطعنوا بالنبي صلى الله عليه وآله ! وذلك لإخفاء أسماء المنافقين أبطال مؤامرة العقبة وجعلهم من الأنصار ! وأفلتت منهم روايات فيها أسماء قرشية معروفة ، وضعفوا رواتها كالوليد بن جُمَيْع ، مع أن أكثر أهل الجرح والتعديل وثقوه !
وقد كان الصحابة يعرفون المنافق عندما يموت ولا يصلي على جنازته حذيفة ! ولم يصلِّ حذيفة على جنازة أي زعيم قرشي مات في حياته أبداً !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 68 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كما رووا أن بعض الصحابة فضح نفسه فسأل حذيفة وعماراً عن نفسه : هل رأياه في الجبل ليلة العقبة ؟ ليأخذ منهما براءة من النفاق والمشاركة في مؤامرة قتل النبي صلى الله عليه وآله ! قال مسلم : 8 / 123 : ( كان بين رجل ( ؟ ) من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال فقال له القوم : أخبره إذ سألك ! قال : كنا نُخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) . انتهى .
ولن تجد سبباً لتغطيتهم على المتآمرين إلا أنهم من كبار قريش !

31 - حملة القرشيين الشرسة للطعن في علي عليه السلام

ومن فعاليات قريش بعد فتح مكة ، قيامهم بحملة طعن وافتراء على علي عليه السلام خاصة ، وفي مصادرهم من ذلك أكثر من عشرين مفردة ! منها افتراؤهم عليه بأنه خطبَ بنت أبي جهل فغضب النبي صلى الله عليه وآله وهدد بأن يطلق منه ابنته الزهراء « سلام الله عليها » ! وقد اتفقت مصادرهم على روايتها ! وأخذ فقهاؤهم يفسرون غضب النبي صلى الله عليه وآله المزعوم وكيف خالف القرآن ومنع صهره أن يتزوج على ابنته ؟ ! وقد فنَّدَ روايتهم آية الله السيد الميلاني وأثبت كذبها ، في ( رسالة في حديث خطبة علي عليه السلام بنت أبي جهل ) ! وقال عن أصل الكذبة ( أخرج البخاري هذا الحديث في غير موضع من كتابه . . . إن علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة « سلام الله عليها » فسمعتُ رسول الله يخطب الناس
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 69 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال : إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها . . . والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله أبداً . . . سمعت رسول الله يقول وهو على المنبر : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن ، ثم لا آذن ، ثم لا آذن ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم ! فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها . . . إن علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكح بنت أبي جهل ! فقام رسول الله فسمعته حين تشهد يقول : أما بعد ، أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني ، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها ! والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد ! فترك علي الخطبة ) . ( فتح الباري : 6 / 161 ، و : 7 / 68 ، و : 9 / 268 ) .
ومن مفردات افترائهم : حديث بريدة الأسلمي رحمه الله ، وفقد صححوه أيضاً ، وبحثه آية الله الميلاني في رسالة : ( حديث الولاية ) وبحثناه في العقائد الإسلامية : 4 / 93 ، والانتصار : 7 / 97 ، وهو حجة بالغة على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وخلافته . قال بريدة كما في مسند أحمد : 5 / 356 : ( بعث رسول الله ( ص ) بعثين إلى اليمن على أحدهما علي بن أبي طالب ، وعلى الآخر خالد بن الوليد فقال : إذا التقيتم فعليٌّ على الناس ، وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده ، فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين ، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية ، فاصطفى عليٌّ امرأة من السبي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 70 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لنفسه ، قال بريدة : فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله ( ص ) يخبره بذلك فلما أتيت النبي ( ص ) دفعت الكتاب فقرئ عليه فرأيت الغضب في وجه رسول الله ( ص ) فقلت يا رسول الله هذا مكان العائذ ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه ففعلت ما أرسلت به فقال رسول الله : لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي ، وإنه مني وأنا منه ، وهو وليكم بعدي ) .
وفي مسند أحمد : 5 / 351 : ( فكتب الرجل ( خالد ) إلى نبي الله ( ص ) فقلت ابعثني فبعثني مصدقاً ، قال : فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق ، قال فأمسك ( النبي صلى الله عليه وآله ) يدي والكتاب وقال : أتبغض علياً ؟ ! قال قلت : نعم ، قال : فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حباً ، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة ! قال : فما كان أحد من الناس بعد قول رسول الله ( ص ) أحب إلي من علي ) . وتاريخ دمشق : 42 / 196 ، وأسد الغابة : 1 / 176 ، ومجمع الزوائد : 9 / 127 ، وقال : في الصحيح بعضه رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير عبد الجليل بن عطية وهو ثقة وقد صرح بالسماع وفيه لين . وسنن النسائي : 5 / 136 وخصائصه / 102 ، وفيهما : قال عبد الله يعني ابن بريدة : فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي ( ص ) في هذا الحديث إلا أبو بريدة .
وفي تاريخ دمشق : 42 / 191 : ( قال فأخذنا يميناً أو يساراً ، قال فأخذ علي فأبعد ( أي راوح خالد مكانه ، بينما توغل علي صلى الله عليه وآله بجيشه وأكمل فتح اليمن ) فأصاب سبياً فأخذ جارية من الخمس ، قال بريدة : وكنت من أشد الناس بغضاً لعلي وقد علم ذلك خالد بن الوليد ، فأتى رجل خالداً فأخبره أنه أخذ جارية من الخمس ، فقال ما هذا ! ثم جاء آخر ثم أتى آخر ، ثم تتابعت الأخبار على ذلك ، فدعاني خالد فقال : يا بريدة قد عرفت الذي صنع ، فانطلق بكتابي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 71 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هذا إلى رسول الله فأخبره ، وكتب إليه ، فانطلقت بكتابه حتى دخلت على رسول الله فأخذ الكتاب فأمسكه بشماله ، وكان كما قال الله عز وجل لا يكتب ولا يقرأ ، وكنت رجلاً إذا تكلمت طأطأت رأسي حتى أفرغ من حاجتي ، فطأطأت رأسي وتكلمت فوقعت في علي حتى فرغت ، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله قد غضب غضباً لم أره غضب مثله قط إلا يوم قريظة والنضير ! فنظر إليَّ فقال : يا بريدة إن علياً وليكم بعدي ! فأحب علياً فإنه ( لا ) يفعل ( إلا ) ما يؤمر ! قال فقمت وما أحد من الناس أحب إلي منه ! وقال عبد الله بن عطاء : حدثت بذلك أبا حرب بن سويد بن غفلة فقال : كتمك عبد الله بن بريدة بعض الحديث أن رسول الله قال له : أَنافَقْتَ بَعْدي يا بريدة ؟ ! ) . وفي مجمع الزوائد : 9 / 128 : ( قال بعث رسول الله علياً أميراً على اليمن وبعث خالد بن الوليد على الجبل . . . فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال : اغتنمها فأخبر النبي ( ص ) ما صنع ! فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله ( ص ) في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا : ما الخبر يا بريدة ؟ فقلت : خيراً ، فتح الله على المسلمين . فقالوا : ما أقدمك ؟ قلت : جارية أخذها علي من الخمس ، فجئت لأخبر النبي فقالوا فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي ! ورسول الله يسمع الكلام ، فخرج مغضباً فقال : ما بال أقوام ينتقصون علياً ! من تنقص علياً فقد تنقصني ، ومن فارق عليا فقد فارقني ! إن علياً مني وأنا منه ، خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يا بريدة أما علمت أن لعلي أكثر من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 72 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الجارية التي أخذ وإنه وليكم بعدي ؟ ! فقلت : يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً ! قال فما فارقته حتى بايعته على الإسلام ) .
وروى فيه عن أحمد ووثقه ، عن عمرو بن شاس أنه كان في فتح اليمن مع علي عليه السلام فشكاه ، قال : ( حتى سمع بذلك رسول الله فدخلت المسجد ذات غداة ورسول الله جالس في ناس من أصحابه فلما رآني أبَدَّ لي عينيه يقول حدد إليَّ النظر حتى إذا جلست قال : يا عمرو والله لقد آذيتني ! قلت : أعوذ بالله من أذاك يا رسول الله ! قال : بلى من آذى علياً فقد آذاني ) . وفي رواية : ( إخسأ يا عمرو ! هل رأيت من على جوراً في حكمه أو أثرة في قسمه ؟ قال : اللهم لا ، قال : فعلام تقول الذي بلغني . . . فغضب رسول الله حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال من أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله . ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله تعالى . وروى عن سعد بن أبي وقاص وصححه ، قال : كنت جالساً في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي فأقبل رسول الله ( ص ) غضبان يعرف في وجهه الغضب ، فتعوذت بالله من غضبه فقال : ما لكم ومالي ! من آذى علياً فقد آذاني ) . انتهى .
أقول : لاحظتَ أنهم كذَّبوا أنفسهم في زعمهم أن علياً عليه السلام خطب بنت أبي جهل . . فقد رووا هنا أن علياً عليه السلام ( تزوج ) بجارية ولم يغضب النبي صلى الله عليه وآله ولا فاطمة « سلام الله عليها » ! لكن شاهدنا هذا الجو القرشي الخبيث ضد علي عليه السلام ! فقد أرسله النبي صلى الله عليه وآله إلى اليمن بعد أن عجز خالد عن فتحها وبقي يراوح بجيشه ستة أشهر ، ثم فتحها الله على يدي علي عليه السلام
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 73 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فانضمت إلى دولة الإسلام في السنة العاشرة ! والقرشيون مشغولون في إسقاط شخصية علي عليه السلام ، وصرف النبي صلى الله عليه وآله عن استخلافه !
كما لاحظتَ تزويرهم لإخفاء الواقع ! ولكنهم لم يبلغوا جميعاً بعض ما بلغه من يسمونه الإمام البخاري ، الذي ألف ( صحيحه ) بنفقة المتوكل العباسي ! فقد أعرض عن هذه الأحاديث كلها وروى بدلها : 5 / 110 : ( بعث النبي صلى الله عليه وآله علياً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض علياً ، وقد اغتسل فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا ؟ فلما قدمنا على النبي ذكرت ذلك له فقال : يا بريدة أتبغض علياً ؟ قلت : نعم ، قال : لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك ) . انتهى .
يقول لك بخاري إن خالداً جاهد وفتح وغنم فأرسل النبي صلى الله عليه وآله علياً ليقبض منه الخمس وفيه أموال وجوار ، فرأينا علياً اغتسل ، أي أخذ جارية منها قبل تقسيمها ، وبات معها ! وعندما رجعنا إلى المدينة أخبرت النبي صلى الله عليه وآله فقال لا بأس فسهمه في الخمس أكثر لأنه من آل الرسول ، فلا تبغضه يا بريدة ! هذا كل ما في الأمر عند بخاري !
ولم يكتف بخاري بالإنتقاء والتدليس لمدح خالد ونقص علي عليه السلام ، بل بتر حديثاً صحيحاً وحذف منه أن علياً عليه السلام فتح اليمن بعد أن عجز عنها خالد ! قال في صحيحه : 5 / 110 : ( سمعت البراء : بعثنا رسول الله ( ص ) مع خالد بن الوليد إلى اليمن ، قال : ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه فقال :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 74 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مُر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ، ومن شاء فليقفل ، فكنت فيمن عقب معه قال فغنمت أواق ذوات عدد ) . انتهى .
لكن أصل الحديث كما في سنن البيهقي : 2 / 369 ، وأمهات المصادر : ( عن البراء قال بعث النبي ( ص ) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ، ثم إن النبي ( ص ) بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يُقفل خالداً ومن كان معه ، إلا رجل ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه ، قال البراء : فكنت ممن عقب معه ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي ، وصفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله ( ص ) فأسلمت همدان جميعاً فكتب علي إلى رسول الله ( ص ) باسلامهم فلما قرأ رسول الله ( ص ) الكتاب خر ساجداً ثم رفع رأسه فقال : السلام على همدان السلام على همدان . أخرج البخاري صدر هذا الحديث . . . فلم يسقه بتمامه ) ! وفي الطبري : 2 / 389 : ( فأقام عليه ستة أشهر لا يجيبونه إلى شئ ، فبعث النبي علي بن أبي طالب . . ) . وذكر في فتح الباري : 8 / 52 ، بعض رواياته وفيها خبر الجارية ، وقال : ( أورد البخاري هذا الحديث مختصراً وعند الترمذي . . . في حديث البراء قصة الجارية ) .
وبهذا تعرف أن جماعة المتوكل العباسي الناصبي ارتضوا البخاري العجمي إماماً ، لأنه يجيد ما يحتاجون إليه من فنون التحريف والتعتيم !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 75 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

32 - محاولة القرشيين أن يشركهم النبي صلى الله عليه وآله في الخلافة

فقد طلب زعماؤها من النبي صلى الله عليه وآله أن يجعل الخلافة تدور في قبائل قريش ، أو يشرك مع علي وبني هاشم غيرهم من البطون ! فرفض النبي صلى الله عليه وآله طلبهم لأنه لا يملك شيئاً مع الله تعالى فلم يعط لعلي وبنيه عليهم السلام الإمامة من عنده ليمنعها من عنده ! وقد ورد عندنا في تفسير قوله تعالى : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، أنها تشمل الشرك في النية ، والشرك الذي أرادوه من النبي صلى الله عليه وآله في النص على خليفته ! ( جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب ، فلو عدلت به إلى غيره لكان أولى . فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ . فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك ! فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس إليه ليتم لك أمرك ولا يخالف الناس عليك . فنزلت الآية . . والمعنى فيها لئن أشركت مع علي في الإمامة غيره ليحبطن عملك ) . ( تنزيه الأنبياء / 167 ، والكافي : 1 / 427 ، والمناقب : 2 / 239 ، وتفسير القمي : 2 / 251 ، وفرات / 370 ) . .
( (
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 76 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

القسم الثالث : من فعاليات قريش في حجة الوداع

33 - هدفان للنبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع

كان للنبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع هدفان : أن يُبلَّغ أمته ولاية عترته من بعده عليهم السلام ، ويعلمها مناسك الحج . فلم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام واتساع الدولة الإسلامية ، إلا أن يبلغ آخر الفرائض بشكل عملي ، ويرتب الحكم بعده لعترته الطاهرين عليهم السلام . وكان زعماء قريش يعرفون ما يريده صلى الله عليه وآله ، فهم يخوضون معه معركة خلافته منذ فتح مكة !
وفي حجة الوداع زادت فعالية النبي صلى الله عليه وآله لتكريس ولاية علي عليه السلام وأئمة العترة ، وزادت قريش فعاليتها لمنع ذلك ! قال رجل لعلي عليه السلام : ( يا أمير المؤمنين أرأيت لو كان رسول الله ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم وأنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ؟ قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ! إن العرب كرهت أمر محمد صلى الله عليه وآله وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفَّرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته ! ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 77 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وسلماً إلى العز والأمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً وبازلها بكراً ! ثم فتح الله عليها الفتوح ، فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً . . ) . ( شرح النهج : 20 / 298 ) . وتقدم اتهامهم لزوجته صلى الله عليه وآله ، ومحاولتهم اغتياله في غزوة تبوك !

34 - النبي صلى الله عليه وآله يضغط على قريش في حجة الوداع

تضاعف عمل زعماء قريش في حجة الوداع ! وقد بحثنا في خطب النبي صلى الله عليه وآله إخفائهم بشارته صلى الله عليه وآله بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، والكثير من مضامين خطبه في مكة وعرفات ومنى ، ثم في غدير خم والمدينة !
وقد بدأ النبي صلى الله عليه وآله أعماله السياسية في مكة بتخليد مكان مؤتمر قريش لمحاصرة بني هاشم ! فأعلن صلى الله عليه وآله في خطبته بمكة أن موعده مع المسلمين مكان اجتماع زعماء قريش يوم قرروا حصار بني هاشم ! كما في صحيح بخاري : 5 / 92 : ( نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر ! يعني بذلك المحصب ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب ، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي ) . ورواه في : 4 / 246 و 8 / 194 و : 2 / 158 ، ومسلم : 4 / 86 ، وأحمد : 2 / 322 و 237 و 263 و 353 و 540 . والبيهقي : 5 / 160 . فنزل في ذلك
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 78 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المنزل وبات فيه ليلة عرفات في طريقه إليها ( الدارمي : 2 / 47 ) ثم نزل فيه بعد عرفات طيلة أيام التشريق ! ( الزوائد : 3 / 250 ) . ثم نزل فيه بعده أهل البيت عليهم السلام فعرف بمنازل بني هاشم .
أراد النبي صلى الله عليه وآله بذلك أن يعرِّف المسلمين بحادثة وقعت في هذا المكان قبل أربع عشرة سنة من حجة الوداع ! وكلها فخرٌ لبني هاشم وعارٌ على قريش ! فقد كان مؤتمرهم في خيف بني كنانة بالمحصب ، وتقاسموا باللات والعزى ووقعوا على محاصرة بني هاشم حتى يسلموهم النبي صلى الله عليه وآله فيقتلوه ! وكتبوا الصحيفة وختمها أربعون زعيماً منهم أو ثمانين ، ودام حصارهم نحو أربع سنين إلى قبيل هجرته صلى الله عليه وآله !
أراد أن يعرِّف المسلمين تاريخ الإسلام وتكاليف الوحي الذي وصلهم ، وأين هو معدن الإسلام ، وأين يقع معدن الكفر ! وأن يبلغ رسالة مباشرة إلى من بقي من فراعنة قريش من رؤساء مؤتر المقاطعة ، بأنهم حملوا وزر هذا الكفر والعار ، ثم ارتكبوا بعده ما هو أعظم في حروبهم للنبي صلى الله عليه وآله ، ولم يتراجعوا حتى غزاهم في مكة بسيوف بني هاشم والأنصار ، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل ! وها هم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله ورسوله وهم كارهون !
لقد أهلك الله تعالى بعض قادة مؤتمر المحصب ، بالموت ، وبسيف علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولكن العديد منهم كسهيل بن عمرو ، وأبي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 79 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبي الأعور السلمي وغيرهم من زعماء قريش وكنانة ، ما زالوا أحياءً حاضرين تحت منبر النبي صلى الله عليه وآله يسمعون كلامه ! وكانت تصرفاتهم وتأثيرهم على بعض أصحابه تدل على فرحتهم بأن النبي صلى الله عليه وآله أعلن قرب وفاته ، فهم يعدون العدة لحصار جديد لبني هاشم ، وهذه المرة باسم الإسلام ! فأراد أن يذكرهم بأن الله تعالى قد أحبط الله حصارهم القديم ، وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً ولو بعد حين ! ثم واصل النبي صلى الله عليه وآله تبليغ رسالة ربه ، والتمهيد لإعلان خلافة عترته عليهم السلام ، فأكد كما رأيت في خطبه في مكة وعرفات ومنى والخيف ، على مقام أهل بيته الطاهرين عليهم السلام فسماهم مع القرآن ( الثقلين ) ، وبلَّغ الأمة أن الله تعالى فرض عليها طاعتهم كالقرآن وأنه سيسألها يوم القيامة عن القرآن والعترة ؟ وبشرها بأن الله جعل بعده منهم اثني عشر إماماً ربانياً عليهم السلام ، وحذر قريشاً والصحابة من منازعتهم الأمر والطمع في السلطة ، ووصف لهم مشهد الصحابة الذين سيعصونه كيف سيمنعون من ورود حوضه ولقائه . وأخبرهم أن الله أعلى قدر آل محمد عليهم السلام فحرَّم عليهم الصدقات ، وجعل لهم مالية خاصة هي الخمس .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 80 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم أطلق لعنته كما تقدم على من ادعى إلى غير أبيه ، وتولى غير مواليه ، ومنع أجيراً أجره ، وفسر ذلك بأبوته صلى الله عليه وآله للأمة ، وولايته وعترته عليها ، وأن الله جعل مودتهم عليهم السلام أجر تبليغه الرسالة .
كما كان من أعماله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ، أنه ميز فاطمة « سلام الله عليها » في أضحيتها عن نسائه ، وجعل علياً عليه السلام شريكه في أضحيته وجعلها مائة ناقة ، بعدد التي فدى بها جده عبد المطلب أباه عبد الله ‘ عندما نذر أن يذبح أحد أولاده لرب البيت عز وجل .
ودافع بحسم عن علي عليه السلام عندما وافاه إلى الحج من اليمن بعد أن أكمل فتحها ، وشكوه له بأنه لم يعطهم من حلل نجران فقال لهم صلى الله عليه وآله : ( إرفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب فإنه خشن في ذات الله عز وجل ، غير مداهن في دينه ) . ( الإرشاد : 1 / 172 )
وبانتهاء الحج ، اعتبر النبي صلى الله عليه وآله أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه ، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك ، فلو طلب منها بيعة علي بخلافته فقد تطعن في نبوته ، وتتهمه بأنه يريد إقامة ملك لبني هاشم كملك كسرى وقيصر ! ثم تقود حركة ردة في العرب وتخوفهم من ملك بني هاشم ، الذي سيبدأ بعلي عليه السلام ابن الثلاث وثلاثين سنة ، ثم يكون للحسن ثم للحسين ‘ وهما دون العشر سنوات ، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة « سلام الله عليها » إلى يوم القيامة ! وقد صدرت كلمات زعمائهم بهذا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 81 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المضمون وكأنهم لم يشموا رائحة الإسلام ! وكأن الملك لمحمد صلى الله عليه وآله وهو الذي يريد أن يعطيه لعترته عليهم السلام ! راجع موقف حذيفة بن اليمان رحمه الله الذي هو بإجماع المسلمين موضع سر النبي صلى الله عليه وآله ، فقد عاش رحمه الله حتى بايع المسلمون علياً عليه السلام ، وكان والياً على المدائن ، فكتب كتاباً قرأه على المسلمين ، وخطب خطبة دعا فيها إلى بيعة علي عليه السلام ، ثم حدث المسلمين بعمل قريش من عهد النبي صلى الله عليه وآله ضده وضد أهل بيته عليهم السلام . ( بحار الأنوار : 28 / 87 ) .

35 - قريش تكتب الصحيفة الملعونة الثانية لعزل العترة

إن التأمل فيما قالته مصادرهم عن ظروف صدور حديث النبي صلى الله عليه وآله في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام في خطبة عرفات ومنى ، ثم في المدينة ، وضياع هوية هؤلاء الأئمة الربانيين عليهم السلام ، يجعل الباحث يطمئن بأن زعماء قريش كانوا حاضرين يعملون لإبعاد عترة النبي صلى الله عليه وآله عن السلطة بعده ، وجعلها في قبائل قريش الأخرى ! ولا بد أن يكون ما ذكرته مصادرهم من لغطٍ وكلامٍ وضجةٍ وصراخٍ في وسط خطبة النبي صلى الله عليه وآله في عرفات وغيرها ، عندما وصل إلى نسب الأئمة الاثني عشر من أهل بيته عليهم السلام ، كانت من فعاليات قريش ضد بني هاشم ، ولا بد أن النبي صلى الله عليه وآله وبخهم عليها وقال لهم في أنفسهم قولاً بليغاً !
ولا نتوقع من مصدر قرشي أن يروي أن قريشاً لم تكن مرتاحة لكلام النبي صلى الله عليه وآله وخطبه في حجة الوداع ! وأن سهيل بن عمرو وبقية زعمائها كانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم ، وأنهم كثفوا مداولاتهم مع
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 82 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
القرشيين المهاجرين لمعالجة هذا الاتجاه النبوي الخطير ! لكن يكفي أن تسألهم : أين حديث الأئمة الاثني عشر عليهم السلام في خطب حجة الوداع ؟ !
أما مصادرنا فروت أن نشاط القرشيين تضاعف في حجة الوداع حتى كتبوا صحيفة بينهم ، سمتها مصادرنا ( الصحيفة الملعونة ) تعاهدوا فيها أن يمنعوا بني هاشم من الخلافة ! فكانت صحيفة جديدة ضد بني هاشم ، لكنها هذه المرة سرية وهدفها ليس محاصرتهم حتى يسلموهم محمداً صلى الله عليه وآله ليقتلوه ، بل عزلهم سياسياً بعد النبي صلى الله عليه وآله ! كما أنها ليست باسم اللات والعزى بل باسم الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله !
قال الإمام الباقر عليه السلام : ( دخلت مع أبي الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين فقال : في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله صلى الله عليه وآله أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً ) ! ( الكافي : 4 / 545 ) .
وكان منهم أبو عبيدة بن الجراح الذي ذكرت مصادرهم أن النبي صلى الله عليه وآله لقبه أمين الأمة ) . ( صحيح بخاري : 5 / 120 ) . لكن مصادرنا روت أنهم وضعوا الصحيفة عنده فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله فاكتفى بإتمام الحجة عليهم وترك لهم حرية العمل : ( فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال له : بخٍ بخٍ مَنْ مِثْلُكَ وقد أصبحت أمين هذه الأمة ؟ ! ثم تلى : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً . . ) . وهذا معنى صحيفة المسجى التي أحب علي عليه السلام أن يلقى الله بها ! ( الصراط المستقيم : 3 / 150 والبحار : 28 / 105 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 83 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

36 - جبرئيل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع

اعتبر زعماء قريش أن حجة الوداع مرَّت بسلامٍ نسبياً ، فقد تحدث محمدٌ كثيراً عن بني هاشم وعن عترته وذريته من أبناء فاطمة ، وأن الله اختارهم وجعل منهم الأئمة إلى آخر الدهر ، وحرم عليهم الصدقات وفرض لهم الخمس ، ولكنه لم يتخذ إجراءاً عملياً كأن يلزم قريشاً بأن يبايعوا علياً كبير عترة محمد ، بصفته الإمام الأول من العترة !
كان جبرئيل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بأوامر ربه ، ( فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل فقال : يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك : إنه قد دنا أجلك ومدتك وأنا مستقدمك على ما لا بد منه ولا عنه محيص ، فاعهد عهدك وقدم وصيتك ، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء ، فسلمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب ، فأقمه للناس علماً ) . ( الإحتجاج : 1 / 69 ) .
وفي آخر أيام الحج نزل عليه جبرئيل عليه السلام وقال له : ( إن الله يأمرك أن تدل أمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم لتلزمهم الحجة ) . ( شواهد التنزيل : 1 / 253 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 84 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله يفكر في طريقة الإعلان ، نظراً إلى وضع قريش المتشنج ، وقال في نفسه : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل ! لذلك قرر أن ينفذ هذا الأمر في المدينة ، بعد أن يمهد لذلك ، ويستعين بالأنصار .
ورحل النبي صلى الله عليه وآله من مكة على هذه النية ، لكن في اليوم الثالث من مسيره قريب الجحفة ، جاءه جبرئيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار ، وقال له : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) . ( المائدة : 67 ) .
فخاف النبي صلى الله عليه وآله وخشع لربه ، وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره إلى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم وصل إلى مشارف الجحفة ، وهي بلدة عامرة على بعد ميلين أو أقل ، لكنه أراد تنفيذ أمر ربه المشدد فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي . . فقال للناس : أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي ! وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين ويوقفوا من تأخر منهم ونزل عن ناقته ، وكان جبرئيل إلى جانبه ينظر إليه نظرة الرضا وهو يراه يرتجف من خشية ربه ، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول : تهديدٌ ووعدٌ ووعيدٌ ، لأمضين في أمر الله ، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبني العقوبة الموجعة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 85 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
في الدنيا والآخرة ! وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار على يمينه إلى دوحة أشجار ، فمال إليها النبي صلى الله عليه وآله وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ .
قالوا : فبينا نحن كذلك إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله ينادي : أيها الناس أجيبوا داعي الله ! فأتيناه مسرعين في شدة الحر ، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه ، ونادى مناديه بالصلاة جامعة ، فقد حانت الصلاة وقبلها فريضة ولاية عترته الطاهرة ، ولا بد أن يبلغها عن ربه للمسلمين مهما قال فيه قائلون ، وقال فيهم قائلون ! !
وتجمع المسلمون حول نبيهم صلى الله عليه وآله وكان يوماً قائظاً شديد الحر ، بعد أن كسحوا تحت الأشجار ، ونصبوا أحجاراً كالمنبر ووضعوا عليها حدائج الإبل ، ولم يتسع لهم الظل تحت دوحة الغدير وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة ، فجلس قسم منهم في الشمس أو استظل بظل ناقته !
روي أن الذين كانوا في حجة الوداع مئة وعشرين ألفاً ، أما بعد الحج فأهل مكة رجعوا إليها ، والبعض بلادهم عن طريق الطائف ، وآخرون عن طريق جدة . أما الذين كان طريقهم على الجحفة فكانوا عشرة آلاف أو أكثر ، قال الإمام الصادق عليه السلام : ( العجب مما لقي علي بن أبي طالب ! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه ، والرجل يأخذ حقه بشاهدين ) . ( الوسائل : 18 / 17 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 86 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بدأ النبي صلى الله عليه وآله خطبة الغدير بحمد الله تعالى والثناء عليه ، وإشهاد الله والناس على عبوديته المطلقة لربه العظيم سبحانه . ثم قدم لهم عذره لأنه أنزلهم في مكان قليل الماء والشجر في حر الظهيرة ، وأخبرهم أن جبرئيل عليه السلام نزل عليه في مسجد الخيف وأمره أن يقيم علياً للناس ، قال : ( إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وخفت الناس أن يكذبوني فقلت : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ، ويقول قائل ! فأتتني عزيمة من الله بَتْلَةٌ ( قاطعة ) في هذا المكان إن لم أبلغها ليعذبني ! وضمن لي العصمة من الناس فأوحى إليَّ : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . ثم قال صلى الله عليه وآله : لا إله إلا هو ، لا يؤمن مكره ، ولا يخاف جوره ، أقرُّ له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية ، وأؤدي ما أوحيَ إليَّ حذراً من أن لا أفعل ، فتحلَّ بي منه قارعةٌ لا يدفعها عني أحدٌ ، وإن عظمت حيلته .
أيها الناس : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت . فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟ قالوا : يا رسول الله بلى ، فأومأ رسول الله إلى صدره وقال : وأنا معكم . ثم قال صلى الله عليه وآله : أنا لكم فرط وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وسعته ما بين
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 87 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
صنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب قِدْحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين . فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان ؟ قال : الأكبر : كتاب الله طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا . والأصغر : عترتي أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، سألت ربي ذلك لهما ، فلا تَقَدَّموهم فتهلكوا ، ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ، ولا تُعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : قم يا علي . فقام علي وأقامه النبي صلى الله عليه وآله عن يمينه وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادي والحاضر ، وعلى الأعجمي والعربي ، والحر والمملوك والصغير والكبير .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 88 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟ فقال صلى الله عليه وآله : ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ) !
وأفاض النبي صلى الله عليه وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الاثني عشر من بعده : علي والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين عليهم السلام واحداً بعد واحد مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم ، حتى يردوا عليَّ حوضي . ثم أشهد المسلمين مراتٍ على أنه قد بلغ عن ربه فشهدوا له ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب .
وقام آخرون فسألوه ، فأجابهم . . . وما أن أتم خطبته حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً . ( المائدة : 3 ) فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بعدي . ونزل عن المنبر وأمر أن تنصب لعلي خيمة ليهنئه المسلمون بولايته عليهم ، وأمر نساءه بتهنئته فجئن إلى باب خيمته وهنأنه فغمسن أيديهن في سطل ماء علامة البيعة ! وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة !
وجاء حسان بن ثابت ، وقال : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن ، فقال : قل على بركة الله ، فأنشد حسان :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 89 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُم * بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليُّكُمْ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليُّ فإنني * رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى علياً معاديا
أقول : روايات الغدير أوسع مما ذكرنا وإنما أردنا خلاصتها ، وأخذنا التسلسل من مصادرنا مثل : كمال الدين وتمام النعمة للصدوق / 276 ، والاحتجاج للطبرسي : 1 / 70 ، وروضة الواعظين للنيسابوري / 89 ، والمسترشد / 117 ، وغيرها . وروت مصادر السنة حديث الغدير متواتراً ، كما تراه في كتاب الغدير للأميني رحمه الله .
ومن رواياته في مصادر السنيين ما في صحيح مسلم : 7 / 122 قال : ( عن يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله ( ص ) وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه ! لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ( ص ) . قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ( ص ) ، فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلفونيه . ثم قال : قام رسول الله ( ص ) يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خُمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 90 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي . فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ! ! ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم ) . ورواه أحمد : 2 / 366 ، وغيره . . وغيره .

37 - محاولة قريش قتل النبي صلى الله عليه وآله في عودته من حجة الوداع

وفي عودة النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع حاول المنافقون قتله في عقبة هرشى بعد غدير خم ، وكانت محاولتهم شبيهةً بها في ليلة العقبة في عودته من تبوك ، بل ذكرت بعض رواياتنا أن أشخاصها كانوا أنفسهم !
وهي من أدلة إصرار قريش العجيب على قتله صلى الله عليه وآله من أول بعثته !
وعقبة هَرْشَى أو جبل هرشى ، أو عقبة لِفْت ، أو ثنية هرشى ، مكان في منتصف الطريق بين مكة والمدينة ، ولها طريقان كعقبة تبوك ! ( معجم البلدان : 5 / 20 و : 5 / 449 ، ومعجم ما استعجم : 4 / 1350 ، وعمدة القاري : 4 / 273 ) .
( فأقبل بعضهم على بعض وقالوا إن محمداً يريد أن يجعل هذا الأمر في أهل بيته كسنة كسرى وقيصر إلى آخر الدهر ، ولا والله ما لكم في الحياة من حظ إن أفضى هذا الأمر إلى علي بن أبي طالب ! وإن محمداً عاملكم على
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 91 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ظاهركم وإن علياً يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم ، فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدموا رأيكم فيه . ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي صلى الله عليه وآله ناقته على عقبة هرشى ، وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك ، فصرف الله الشر عن نبيه صلى الله عليه وآله ) . ( بحار الأنوار : 28 / 97 ) . ( قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال ! وقال هاهنا ما قال ! وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له ، فاجتمعوا أربعة عشر نفراً وتآمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وقعدوا في العقبة وهي عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء ، فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها لينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما جن الليل تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته ، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل يا محمد إن فلاناً وفلاناً قد قعدوا لك ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : من هذا خلفي ؟ فقال حذيفة اليماني : أنا يا رسول الله حذيفة بن اليمان ، قال سمعت ما سمعت ؟ قال : بلى قال فاكتم ، ثم دنا رسول الله صلى الله عليه وآله منهم فناداهم بأسمائهم ! فلما سمعوا نداء رسول الله صلى الله عليه وآله فروا ودخلوا في غمار الناس ) ! ( تفسير القمي : 1 / 174 ) .

38 - النبي صلى الله عليه وآله يأمر بتفريغ المدينة من قريش !

بعد حجة الوداع بقي النبي صلى الله عليه وآله في المدينة بقية ذي الحجة ومحرم وصفر ، ولم يكن يشتكي شيئاً ، وفي منتصف صفر ظهر عليه المرض وبقي مريضاً نحو أسبوعين حتى لحق بجوار ربه الكريم ، في الثامن والعشرين من صفر .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 92 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وفي هذه المدة وقعت أحداث لا يتسع لها المجال ، وكان منها مواصلة قريش فعالياتها لأخذ خلافة النبي صلى الله عليه وآله وعزل أهل بيته ! وفي المقابل واصل النبي صلى الله عليه وآله تبليغ رسالة ربه في إمامة أهل بيته عليهم السلام ، وكشف ما تحيكه قريش لعزلهم وأخذ السلطة ! ومما روته مصادرنا أن النبي صلى الله عليه وآله تحدث عن المتآمرين على قتله في عقبة هرشى ، وهم أنفسهم الذين كتبوا صحيفة وتحالفوا في الكعبة ! فقال صلى الله عليه وآله : ( ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ؟ ! فجاؤوا إلى رسول الله فحلفوا إنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً ، ولم يريدوه ولم يكتموا شيئاً عن رسول الله ، فأنزل الله : يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ . . الآية ) . ( تفسير القمي : 1 / 174 ) . كما نزلت في محاولاتهم السابقة ، فقد تكرر نزول آيات أكثر من مرة كآية : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ، وغيرها .
كما روت مصادرنا ومصادرهم أن النبي صلى الله عليه وآله قام بعمل رسولي ، فأمر المسلمين بالتوجه إلى حرب الروم في مؤتة رداً على المعركة التي استشهد فيها عدد من قادة المسلمين وجنودهم منهم جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ، وأمَّرَ على الجيش أسامة بن زيد ، وأمره أن يثأر لأبيه ، وكان أسامة شاباً شجاعاً أسود ابن ثمانية عشرة سنة ! أراد بذلك أن يرسخ قدرة الدولة الإسلامية ويأخذ بثأر شهداء مؤتة ، كما أراد إبطال خطط قريش وتفريغ المدينة منهم قبيل وفاته ، حيث أمرهم جميعاً أن يكونوا في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 93 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
جيش أسامة ، مع زعماء الأنصار واستثنى بني هاشم فأبقاهم ، وكان عدد القرشيين في جيش أسامة سبع مئة كما ذكر ابن حجر عن الواقدي ! وعقد النبي صلى الله عليه وآله لواء أسامة بيده وأمره أن يسير ولا يتأخر ، وقد أراد بذلك مضافاً إلى إبعاد المعارضين لعلي عليه السلام أن فخرج أسامة بمن معه وعسكر خارج المدينة ، ولكن القرشيين تثاقلوا عن الالتحاق بمعسكره ، وثبطوا معهم من استطاعوا ، ثم طعنوا في تأمير النبي صلى الله عليه وآله لأسامة لأنه شاب ابن 18 سنة ، فصعد النبي صلى الله عليه وآله المنبر رغم مرضه وردَّ اعتراضهم بغضب وأكد أن أسامة أهل للإمرة كأبيه الذي طعنوا في تأميره له من قبل ! وأمرهم بتعجيل الحركة ، لكنهم واصلوا تسويف الوقت والذهاب إلى المعسكر عندما يأمرهم ثم الرجوع إلى المدينة ! فصعد النبي صلى الله عليه وآله المنبر وشدد على وجوب حركتهم ولعن من تخلف عن جيش أسامة ! ومع ذلك ظلوا يتعللون عن الالتحاق بالمعسكر بحجة أن النبي صلى الله عليه وآله مريض حتى توفي ، فنفذوا خطتهم ضد عترته عليهم السلام .

39 - آخر محاولة من النبي صلى الله عليه وآله أفشلتها قريش !

دعا النبي صلى الله عليه وآله زعماء الأنصار والمهاجرين وهو على فراش مرضه ، ليكتب لهم عهده . فعرفت قريش أنه يريد أن يكتب عهداً بخلافة عترته عليهم السلام ، وقررت مواجهته بوقاحة ورفض ذلك ، وتهديده بالردة إن أصر على كتابة عهده ! وكان يوم الخميس قبيل يوم الاثنين الذي توفي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 94 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فيه صلى الله عليه وآله ! ولذلك سمى ابن عباس الحادثة فاجعة يوم الخميس ( رزية يوم الخميس ) !
وقام بمهمة المواجهة عمر بن الخطاب ، الذي ارتضاه سهيل بن عمرو والبقية زعيماً عاماً لقريش بصفته صحابياً جريئاً ، يستطيع أن يقود حركة إبعاد بني هاشم عن خلافة النبي صلى الله عليه وآله ! فقاد عمر أعنف مواجهة في تاريخ النبوات على الإطلاق ، وما أن قال النبي صلى الله عليه وآله : إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً إن تمسكتم به لا تضلون بعدي أبداً ، حتى وقف عمر في وجهه وقال له بصراحة : ( حسبنا كتاب الله ) لا نريد كتابك وتأمينك من الضلال ولا عترتك ! وقام الطلقاء المحتشدون وصاحوا في وجه النبي صلى الله عليه وآله : القول ما قاله عمر ! القول ما قاله عمر ! وقد روت ذلك الصحاح وبحثناه بالتفصيل في جواهر التاريخ : 1 / 75 ، بعنوان : رفض قريش للعهد النبوي وترتيبها بيعة السقيفة ، وفي كتاب ألف سؤال وإشكال : 2 / 369 ، بعنوان : انقلاب الأمة على نبيها صلى الله عليه وآله في حياته .
40 - العمل الرسولي والعمل السياسي !
كان إعلان غدير خم عملاً ربانياً ، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية ، وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق السياسة وفرض الأمر الواقع !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 95 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقد يغلب العمل السياسي العمل الرسولي آنياً ، ويفرض الأمر الواقع ، لكنها غلبةٌ لا قيمة لها عند العقل ولو استمرت سنين ، أو استمرت قروناً !
وقد نفذت قريش خطتها يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وصفَقَتْ على يد أبي بكر ، وجاؤوا في اليوم التالي إلى أهل البيت عليهم السلام يطلبون منهم البيعة وإلا أحرقوا عليهم دارهم ! فرفض علي عليه السلام وأجابهم جواباً شديداً اتهمهم فيه بخيانة الرسول صلى الله عليه وآله ! وفي اليوم التالي هاجموا بيت علي وفاطمة ‘ وجمعوا الحطب على باب الدار وأضرموا فيه النار مهددين بإحراق البيت عليهم إن لم يبايعوا . . . إلى آخر ما جرى .
في تلك الأيام قرر علي وفاطمة ‘ أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعتهم التي شرط النبي صلى الله عليه وآله عليهم فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ، فبايعوه على ذلك ! وكانت فاطمة « سلام الله عليها » مريضة من إسقاط حملها في الهجوم على بيتها فحملها علي عليه السلام على دابة ، ومعهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم ، في أعظم جَاهَة عرفها التاريخ ، وداروا على بيوت رؤساء الأنصار في ليلتين ، وكلماهم فكان قول أكثرهم : يا بنت رسول الله لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعلي أحداً ! فقالت : وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحد عذراً ! ( الخصال : 1 / 173 ) .
فمنطق الزهراء « سلام الله عليها » هو منطق أبيها صلى الله عليه وآله ، وقيمة العمل بحجته عند الله وعند العقل ، وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة في جميع الأمور ، ومنها حق عترته الطاهرين عليهم السلام الذين اصطفاهم ربهم لإمامة هذه الأمة .