السيرة النبوية عند أهل البيت (ع) المجلد الثاني

--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
.
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
على الكوراني العاملي
المجلد الثاني
الطبعة الثانية - منقحة ومزيدة
1438 - 2017
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
شابك : 9786006612881
شماره كتابشناسى ملى : 4793168
عنوان ونام پديد آور : السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام / على الكوراني العاملي
مشخصات نشر : قم ، دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 .
مشخصات ظاهري : 2 ج . / يادداشت : عربي .
يادداشت : چاپ دوم . / يادداشت : ج . 2 ( چاپ دوم : 1438 ق . = 2017 م . ) .
يادداشت : كتاب حاضر اولين بار در سال 1388 تحت عنوان " جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) " توسط انتشارات باقيات منتشر شده است .
عنوان ديگر : جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) .
موضوع : محمد ( ص ) . پيامبر اسلام . 53 قبل از هجريت - 11 ق . / موضوع : 632 . Muhammad . Prohpet . d
موضوع : سنت نبوي / موضوع : Wonts of the Prophet
موضوع : اسلام - - تاريخ - - ازآغاز تا 11 ق / موضوع : 632 Islam - - History - To
رده بندى ديويى : 93 / 297
رده بندى كنگره : 1396 9 ج 9 ك / 46 / Bp 24
سر شناسه : كورانى ، على ، 1944 - م . Kurani Ali
وضعيت فهرست نويسى : فيپا

  • *
    السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ( 2 )
    المؤلف : على الكوراني
    الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
    الطبعة : الأولى .
    تاريخ النشر : ذي قعدة 1438 ه‍ ق - July 2017
    المطبعة : باقرى - قم المقدسة .
    عدد المطبوع : 3000 نسخة .
    شابك : 1 - 88 - 6612 - 600 - 978
    دار المعروف
    للطباعة والنشر
    مركز النشر والتوزيع :
    إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
    جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
    www . maroof . org
    Email : nashremaroof @ gmail . com
    --------------------------- 5 ---------------------------

الفصل الأربعون

سورة الأنفال سورة بدر

الأنفال فضحت كثيراً من الصحابة البدريين !

اتفق الرواة على أن سورة الأنفال نزلت بعد معركة بدر ، وهى خمس وسبعون آية . وأكثر آياتها في شأن بدر ، وموقف الإسلام من قريش ، وتوجيه المسلمين في جوانب من الحرب والسلم ، وتشريع الخمس لآل النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال سعيد بن جبير : « قلت لابن عباس : سورة التوبة ؟ قال : التوبة ، بل هي الفاضحة ! ما زالت تنزل ومنهم ومنهم . حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها ! قلت : سورة الأنفال ؟ قال : تلك سورة بدر . قلت : فالحشر ؟ قال : نزلت في بنى النضير » . مسلم : 8 / 245 .
وقد تقدمت بعض آيات السورة ، وهذا نصها مع شرح مختصر لمضمون الآيات :

اختلافهم على الغنائم

1 . يسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . 1 .
بدأت السورة حديثها عن أكبر معركة في تاريخ الإسلام ، باختلاف المسلمين على الغنائم ! لتقول لهم أيها المسلمون إن مشكلتكم الطمع بالماديات فانتبهوا !
--------------------------- 6 ---------------------------

المؤمنون حقاً لا يختلفون على غنائم !

2 . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيتْ عَلَيهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يتَوَكَّلُونَ . أَلَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . 2 - 4 .
عرَّضت هذه الآيات بقسم من الصحابة البدريين ، فمدحت المؤمنين حقاً الذين لا يختلفون على غنائم ، لأنهم أصحاب إيمان عميق ، ووصفتهم بأنهم ينفقون مما رزقهم الله ، لأنهم ينتظرون مغفرته ورزقه في الآخرة !

صحابة يجادلون نبيهم وكأنهم يساقون إلى الموت !

3 . كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يجَادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَينَ كَأَنَّمَا يسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ ينْظُرُونَ . وَإِذْ يعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيرِيدُ اللهُ أَنْ يحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيحِقَّ الْحَقَّ وَيبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ . 5 - 8 .
ثم وبَّخهم عز وجل بتذكيرهم كيف أخرج نبيه ( صلى الله عليه وآله ) من بيته بالحق ، وقسم منهم خائفون يجادلون النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالباطل ، لأنه طرح عليهم احتمال الحرب وهم يريدون القافلة دون الحرب ! فكانوا كمن يساقون إلى الموت سوقاً رغماً عنهم !

الإمداد الإلهى للمسلمين في بدر

4 . إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . إِذْ يغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَينَزِّلُ عَلَيكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيطَانِ وَلِيرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ . إِذْ يوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ . 9 - 14 .
ذكرت الآيات خوف المسلمين واستغاثتهم بربهم عندما واجهوا جيش قريش ،
--------------------------- 7 ---------------------------
وكيف استجاب الله تعالى لهم وأمدهم بأنواع من المدد الغيبي ، المعنوي والمادي المنظور وغير المنظور . وجعلت استغاثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) استغاثتهم ، والاستجابة لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) استجابة لاستغاثة المسلمين .

الفرار إلى الصفوف الخلفية كالفرار من المعركة

5 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يوَلِّهِمْ يوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . 15 - 16 .
وهذا أمرٌ مشددٌ بأن لايفروا في المعركة ، وتهديدٌ لهم وتعريض بهم ! ولم ينقل فرار أحد منهم في بدر إلى خارج المعركة ، فلا بد أنها تقصد فرارهم من الصفوف الأمامية إلى الخلفية ، كما حدث عمر عن نفسه لما رأى العاص بن سعيد .
وتقدم قوله « ابن هشام : 2 / 464 » . « رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه ! فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له على فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله » !
وهذا اعتراف بالفرار من الزحف !

قاتلَ النبي « صلى الله عليه وآله » ورمى المشركين بكف حصى

6 . فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيبْلى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيدِ الْكَافِرِينَ .
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَخَيرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِى عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ . 17 - 19 .
أخبر الله عز وجل بأنه هو طرف المعركة ، وهو الذي قتل المشركين ، وهو الذي رمى بيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو الذي أجرى المعركة على يد المؤمنين ليمتحنهم ويجزيهم جزاء حسناً . وخاطب الكفار ودعاهم إلى التوبة ، وتوعدهم إن
عادوا بالهزيمة .
--------------------------- 8 ---------------------------

أمر الله المسلمين بطاعة الرسول « صلى الله عليه وآله » وذكرهم بنعمه عليهم

7 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يسْمَعُونَ . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يحْييكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحْشَرُونَ . وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض تَخَافُونَ أَنْ يتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . 20 - 26 .
ثم أكد عز وجل على حقيقة إيمانية عملية هي طاعة المؤمنين لنبيهم ( صلى الله عليه وآله ) طاعة كاملة ، وفيه تعريض بالذين جادلوه بعد وضوح الأمر ، خوفاً من المعركة ، ثم لم يطيعوه واختلفوا في الغنيمة ! وحذرهم من أن مخالفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ظلمٌ ينتج عنه فتنة لا تختص بفاعلها ، فعليهم نهيه عن المنكر . ثم ذكَّرهم عز وجل بنعمته عليهم وأنه هيأ لهم المدينة موطناً ومأمناً وقاعدة ، وأنعم عليهم بنصره ورزقه .

وحذرهم من خيانة الله ورسوله « صلى الله عليه وآله » وخيانة أنفسهم

8 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًاوَيكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيئَاتِكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ . 27 - 29 .
ثم حذرهم الله عز وجل من نوعين من الخيانة ، خيانة الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) بمخالفة أوامره . وخيانة أماناتهم بالتعدى على ما اؤتمن عليه أحدهم من حقوق الآخرين وأموالهم . وقد حدث ذلك في بدر ففي الطريق خان بعضهم الله ورسوله بجدلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) متعمدين ! وفى بدر اتهموه ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ وأخفى قطيفة من الغنائم فبرأه الله ! وبعضهم خان الأمانة وغلَّ ! وتحدثت الآية الثانية عن نعمة الفرقان بين الخير والشر والخطأ والصواب ، كما كانت بدر فرقاناً ميزت بين المسلمين والمشركين .
--------------------------- 9 ---------------------------

وذكَّر قريشاً بتآمرهم على الرسول « صلى الله عليه وآله » وعملهم لقتله

9 . وَإِذْ يمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيثْبِتُوكَ أَوْ يقْتُلُوكَ أَوْ يخْرِجُوكَ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ الْمَاكِرِينَ . وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْ آياتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ . وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَا كَانَ اللهُ لِيعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يسْتَغْفِرُونَ . وَمَا لَهُمْ أَلا يعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعْلَمُونَ . وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . 30 - 35 .
وهذه الفقرة في تكذيب قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وتآمرهم عليه لقتله أو نفيه من مكة ! وهى تؤكد أنهم فقدوا المنطق السَّلِيم بسبب تكبرهم ، فطلبوا من الله أن يقتلهم بحجارة من السماء إن كان محمد ( صلى الله عليه وآله ) صادقاً ! وهى حالة من العناد وعبادة الذات تجعل صاحبها عدوانياً وتعميه عن الإيمان ! وتعميهم حتى عن الإيمان بالكعبة التي يعيشون ببركتها ، ولذلك استحقوا العذاب الإلهي !

وذكَّر قريشاً بتآمرهم ضد الإسلام وهددهم

10 . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ينْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَينْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يحْشَرُونَ . لِيمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ وَيجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ ينْتَهُوا يغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَلِينَ . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يعْمَلُونَ بَصِير . وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ . 36 - 40 .
خصص الله هذه الفقرة لنشاط القرشيين ومن وراءهم ، وإنفاقهم الأموال لعداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخبر أنهم سيغلبون في هذا الصراع لأنه إرادة ربانية لفرز الأخيار من الأشرار . وأنذرهم بالهزيمة إن واصلوا معاركهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ،
--------------------------- 10 ---------------------------
وأطمعهم بالعفو عما أسلفوا إن انتهوا ، وأمر المسلمين بمواصلة قتالهم حتى يخمدوا فتنتهم ويزيحوهم من طريق انتشار الإسلام .

وشرَّع الله فريضة الخمس لبنى هاشم لأنهم أسسوا الأمة والدولة

11 . وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يوْمَ الْفُرْقَانِ يوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيقْضِى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَينَةٍ وَيحْيى مَنْ حَى عَنْ بَينَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ يرِيكَهُمُ اللهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمر وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِز . وَإِذْ يرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيتُمْ فِى أَعْينِكُمْ قَلِيلاً وَيقَلِّلُكُمْ فِى أَعْينِهِمْ لِيقْضِى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمور . 41 - 44 .
يقول الله بذلك للمسلمين : أيها المختلفون على الغنائم ، المتهمون لنبيهم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه سرق منها ! إنكم مدينون بانتصاركم لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وقرابته « عليهم السلام » ، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بالله تعالى وما عاينتم من فعله ! ألا ترون أن الله خطط ووقت وأدار المعركة ، ونصركم عليهم وحسم المعركة بالملائكة وبنى هاشم ، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة ؟ فأدوا إليهم المالية التي خصهم الله بها !

وأمر المسلمين بالثبات في الحرب وأن لا يبطروا كالمشركين

12 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يعْمَلُونَ مُحِيطٌ . وَإِذْ زَينَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِى مِنْكُمْ إِنِّى أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ . 45 - 48 .
أكدت الفقرة على خمسة أحكام وقواعد في الحرب : وجوب الثبات وحرمة الفرار ، وذكر الله كثيراً في الحرب ، وطاعة الرسول ، والمحافظة على وحدة الجبهة الداخلية
--------------------------- 11 ---------------------------
وحرمة التنازع والاختلاف ، وعدم الاعتداد بالنفس والبطر كحالة قريش في بدر ، التي غشها الشيطان فأساءت تقدير المعركة وانهزمت !

وحذرهم من المنافقين ومرضى القلوب في داخلهم

13 . إِذْ يقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . « 49 » . وهذه الآية ذكرت المسلمين بموقف المنافقين ، ومرضى القلوب وهم أخطر المنافقين ! فهؤلاء كانوا يتوقعون هزيمة المسلمين أمام قريش لأنها برأيهم أكثر وأقوي ، ويصفون المؤمنين بأنهم مغرورون بدينهم ووعد نبيهم ! ومعنى الآية : واذكروا إذ يقول هذان النوعان منكم إنكم مغرورون ، فهم لضعف إيمانهم يرون التوكل على الله والإيمان بوعده غروراً ، مع أنه
إيمان ويقين !

وحذرهم من عاقبة أعداء الرسل « عليهم السلام »

14 . وَلَوْ تَرَى إِذْ يتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ . ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ . كَدَاْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِى شَدِيدُ الْعِقَابِ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يكُ مُغَيرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يغَيرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ . 50 - 54 .
صوَّرت هذه الفقرة حالة الكفار عند الموت وفى الآخرة ، وذكرتهم بأنهم تجرى عليهم سنة الله في عقوبة المكذبين للرسل ، كآل فرعون ومن قبلهم ، الذين انطبقت عليهم قاعدة تغيير النعم وسلبها ، بسبب كفرانها وتغير أنفس أصحابها !

ونبه المسلمين إلى شرالدواب الخائنين

15 . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لايؤْمِنُونَ . الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ ينْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لايتَّقُونَ . فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
--------------------------- 12 ---------------------------
يذَّكَّرُونَ . وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لايحِبُّ الْخَائِنِينَ . 55 - 58 .
أنذرت هذه الفقرة الفئات اليهودية والقبائل التي عقد معها النبي ( صلى الله عليه وآله ) معاهدات تعايش وعدم اعتداء ، ثم نقض بعضهم عهده واعتدى على المسلمين . وأمرت النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمعالجة وضعهم والمبادرة إلى حربهم إن رأى بوادر الخيانة .

وعَلَّم المسلمين قواعد التعامل مع أعدائهم

16 . وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لايعْجِزُونَ . وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَاللهِ وَعَدُوَكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَئٍْ فِى سَبِيلِ اللهِ يوَفَّ إِلَيكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ . وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَإِنْ يرِيدُوا أَنْ يخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِى أَيدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَينَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . يا أَيهَا النَّبِى حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . يا أَيهَا النَّبِى حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِنْ يكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يفْقَهُونَ . الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِنْ يكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يغْلِبُوا أَلْفَينِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . 59 - 66 .
وهنا أنذر الله تعالى الكافرين ، وأمر المسلمين بأن يعدوا العدة لحربهم ، وأن يسالموهم إن أرادوا السلم ، ولا يخافوا من مناوراتهم السياسية .
وبين للمسلمين أن وحدتهم والتفافهم حول نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) نعمةٌ غير عادية ، وهى من فعل الله تعالى ولطفه بهم فعليهم أن يعرفوا قيمتها ويؤدوا حقها .
وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن يقاتل الكفار بمن أطاعه من المؤمنين حتى لو كانوا قلة .
ثم كشف سبحانه تراجع في مستوى المسلمين في بدر ! فقد أراد أن يكون المسلم الواحد منهم مقابل عشرة ، لكنه بسبب ضعفهم في بدر ، جعل الواحد منهم مقابل اثنين فقط ! وقد ظهر هذا الضعف بجدلهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) واختلافهم في الغنائم ، وخيانة بعضهم ، وجبن آخرين .
--------------------------- 13 ---------------------------

وبَّخ الذين سارعوا إلى أسر القرشيين قبل أن يثخنوا فيهم

17 . مَاكَانَ لِنَبِى أَنْ يكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثْخِنَ فِى الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لِمَنْ فِى أَيدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيرًا يؤْتِكُمْ خَيرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَإِنْ يريدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . 67 - 71 .
وفى هذه الآية تفاسير تنشأ من معنى الإثخان ، ومعنى عرض الدنيا الذي أراده الصحابة ، وتكليف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وموقفه بشأن الأسري .
والتفسير الصحيح : أن معنى الإثخان في الأرض الإثخان في قتال المشركين ، حيث نهاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد هزيمة المشركين أن يأخذوا منهم أسرى قبل أن يثخنوهم قتلاً ويدمروا قوتهم القتالية ، لكنهم أخذوا أسرى طمعاً في فدائهم ! وقد اختاره أبو الفتح الكراجكي « رحمه الله » في : التعجب من أغلاط العامة / 88 ، قال : « وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم : مَاكَانَ لِنَبِى أَنْ يكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثْخِنَ فِى الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا . . » .
فالآية تنهى عن الأسر قبل الإثخان ، وقد أثخن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الأرض وقطع مسافة طويلة ، لكن المسلمين لم يثخنوا في قتالهم ومطاردتهم ، واكتفى الواحد منهم بأسير ليأخذ فديته ! وهذا المعنى يتسق مع السياق : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وقوله : وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ . وقد اختاره السيد شرف الدين « رحمه الله »
في النص والاجتهاد / 323
واختاره السيد الخوئي « رحمه الله » في البيان / 365 ، قال : « المعروف بين الشيعة الإمامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم ، ولا يسقط قتله بالأسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم » .
واختار شبيهه صاحب الصحيح من السيرة : 5 / 111 ، قال : « كانت ثمة أوامر
--------------------------- 14 ---------------------------
خاصة بالنسبة لأسرى بدر بينها النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه ، ولكنهم قد أصروا على مخالفتها فاستحقوا العذاب العظيم ، ثم عفا الله عنهم رحمة بهم وتألفاً لهم » .
وتوجد تفاسير أخرى تنفى اللوم عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) . كقول السيد الميلاني إن النهى فيها يدل على الترفع ولا يدل على التحريم .
لكن عمر زعم أنه أصاب وأخطأ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن الله وافقه ونهى نبيه عن الأسر وأخذ الفداء ، فخالف النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنزلت الآية توبخه وتوبخ الأنصار لأنهم أخذوا الأسرى طمعاً بفدائهم ! راجع رواياتهم في تفسير الطبري : 10 / 55 .
ويرده أن الآية الأخيرة تدل على صحة أسرهم ، وقد تقدم من الكافي : 8 / 2020 : « نزلت في العباس وعقيل ونوفل وقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم ، وأبو البختري ، فأسروا ، فأرسل علياً فقال : أنظر من هاهنا من بني هاشم . . فجيئ بالعباس فقيل له : إفد نفسك وافد ابن أخيك ، فقال : يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي ؟ فقال : أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها : إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك ، فقال له : يا ابن أخي من أخبرك بهذا ؟ فقال : أتاني به جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله عز وجل فقال ومحلوفه : ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي ! أشهد أنك رسول الله ، قال : فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل . وفيهم نزلت هذه الآية » .

وأعلن الله وحدة الأمة من المهاجرين والأنصار

18 . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا اُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايتِهِمْ مِنْ شَئْ حَتَّى يهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَينَكُمْ وَبَينَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ . 72 - 75 .
أخبر الله أن بدر يوم الفرقان بين الحق والباطل وتمييز الأمة المسلمة عن غيرها .
--------------------------- 15 ---------------------------
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل ، وإنما كانا قبل ذلك اليوم هذا كذا ووضع كفيه أحدهما على الآخر » . الأصول الستة عشر / 2568 .
وجاءت هذه الفقرة ختاماً للسورة ، فبينت أن الأمة المسلمة أمة واحدة ، مهاجروها وأنصارها ، وأوجبت الهجرة إلى دولة الإسلام على كل مسلم ، إلا من أجاز لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أو أمرهم بالبقاء في بلادهم ، وقد استمرت هذه الفريضة حتى فتح مكة .
ثم أمر الله المسلمين أن يعتبروا الكفار أمة واحدة مهما كانت اختلافاتهم ، وحذرهم من وقوع فساد كبير في الأرض ، إن خالفوا ولم يوحدوا سياستهم تجاههم !

كثرة مكذوبات السلطة عن بدر !

تبين لك أن البدريين فيهم المميزون بإيمانهم وشجاعتهم ، وفيهم المتوسطون ، وفيهم المنافقون ، ومرضى القلوب . لكن رواة السلطة أكثروا المكذوبات فيهم ، ومنها ما يقصد به تنقيص مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومنها ما يقصد به إثبات مناقب كاذبة لصحابة يحبونهم ، ومنها للتغطية على مثالب آخرين يحبونهم !
فمن ذلك : قولهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نام يوم بدر : « فدنا القوم منهم ، فجعل الصديق يوقظه ويقول : يا رسول الله دنوا منا ، فاستيقظ » ! الدر المنثور : 3 / 167 وابن كثير : 2 / 405 .
ومنها : قولهم إن أول قتيل كان مهجع غلام لعمر ! ومستندهم في ذلك « يقال » ! ولم يبينوا متى قتل ومن قتله ! راجع الصحيح : 5 / 65 .
ومنها : قول عمر إنه قتل خاله هشام بن العاص ، وقد قتله على ( عليه السلام ) . « الواقدي : 1 / 149 » . على أن خالد بن الوليد كان لا يقبل أنه خاله وأن أم عمر من بنى مخزوم .
ومن مكذوباتهم قولهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطى سهماً من غنائم بدر لعثمان ، لأنه تخلف لتمريض زوجته بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وأنه أعطى لطلحة بن عبيد الله ولسعيد ابن عم عمر صاحب حديث العشرة المبشرة ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعثهما في استطلاع قافلة قريش ، والصحيح أنهما كانا في تجارة بالشام ! راجع الصحيح : 5 / 98 .
إلى كثير من المكذوبات في مناقب أبى بكر وعمر وعثمان وسعد بن أبي وقاص ، ومن على شاكلتهم ، للتعويض عن دورهم في المعركة !
--------------------------- 16 ---------------------------

الصحابة الأبرار الذين اسشتهدوا في بدر

في الصحيح من السيرة : 5 / 57 : « واستشهد من المسلمين ، قيل تسعة ، وقيل أحد عشر ، وقيل أربعة عشر ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار » .
والمشهور أربعة عشر ، ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار . البحار : 19 / 206 ، شرح النهج : 14 / 207 ، الطبري : 2 / 171 ، الطبقات : 2 / 17 ، النهاية : 3 / 366 والإمتاع : 1 / 119 .
وعدهم ابن هشام : 2 / 524 : عبيدة بن الحارث بن المطلب ، وعمير بن أبي وقاص ، وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة ، وعاقل بن البكير ، ومهجع مولى عمر ، وصفوان بن بيضاء ، وسعد بن خيثمة ، ومبشر بن عبد المنذر بن زنبر ، ويزيد بن الحارث « ابن فسحم » وعمير بن الحمام ، ورافع بن المعلي ، وحارثة بن سراقة بن الحارث ، وعوف ومعوذ ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد ، ابنا عفراء .

سورة الروم بشرت بالنصر في معركة بدر

كانت الدولتان الكبيرتان في عصرالنبى ( صلى الله عليه وآله ) فارس والروم . وقد مد الروم نفوذهم إلى مصر وبلاد الشام ، وكان النصارى في الجزيرة على ارتباط بهم ، خاصة نجران ، وكانت الحبشة قاعدتهم في أفريقيا .
ومد الفرس نفوذهم إلى العراق والبحرين واليمن ، وكانت بلاد الشام ومصر محل صراع بينهم وبين الروم ، وقد حكمها الفرس لمدة قرنين قبل المسيحية ، حتى غلبهم عليها الروم سنة 231 قبل الميلاد . وحاول الفرس في عهد كسرى أن يستعيدوا السيطرة عليها ، فكانت معارك بينهم وبين الروم ، ومنها معركة أذرعات وهى درعا الواقعة على الحدود السورية الأردنية ، فانتصر فيها الفرس وفرح مشركوا قريش الذين كانوا يتعاطفون مع الفرس لأنهم وثنيون مثلهم ، بينما تعاطف المسلمون مع الروم لأنهم أهل كتاب ، فنزلت سورة الروم تبشرهم بأن الروم سيغلبون الفرس وأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله أي نصرهم في بدر .
قال الله تعالى : بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . اَلَمِ . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِى أَدْنَى الأرض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
--------------------------- 17 ---------------------------
سَيغْلِبُونَ . فِى بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللهِ ينْصُرُ مَنْ يشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللهِ لا يخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايعْلَمُونَ . يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ . الروم : 1 - 7 .
قال في مجمع البيان : 8 / 43 والطبري : 21 / 22 : « هذه من الآيات الدالة على أن القرآن من عند الله عز وجل ، لأن فيها أنباء ما سيكون ، وما يعلم ذلك إلا الله عز وجل . قال عطية : سألت أبا سعيد الخدري عن ذلك ، فقال : التقينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومشركوا العرب ، والتقت الروم وفارس ، فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ، ففرحنا بنصرالله إيانا على مشركي العرب ونصرأهل الكتاب على المجوس ، فذلك قوله : وَيوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ » .
وفسرأهل البيت « عليهم السلام » فرح المؤمنين بفرحهم بانتصارهم على الفرس وفتحهم لبلادهم . « الكافي 8 / 269 » وفرحهم « بنصرالله عند قيام القائم ( عليه السلام ) » « تأويل الآيات : 1 / 434 » وفرحهم في القيامة : « يعنى نصر فاطمة لمحبيها » . « معاني الأخبار / 397 » . وعليه يكون معنى قوله تعالي : وَيوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ، فرحهم بأول النصر في بدر ، ثم بمراحل انتصار المؤمنين في الدنيا والآخرة .

بدأ تدهور الأمبراطورية الفارسية من أيام بدر !

قال اليعقوبي : 2 / 46 : « أعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل ، فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذى قار « الناصرية » فقالوا : عليكم بشعار التهامي فنادوا : يا محمد يا محمد ! فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبى نصروا . وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة ، أو خمسة » .
وقال اليعقوبي : 1 / 225 : « وأما يوم ذي قار ، فإنه لما قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر بعث إلى هانئ بن مسعود الشيباني أن ابعث إلى ما كان عبدي النعمان استودعك من أهله وماله وسلاحه . وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع ، فأبى هانئ وقومه أن يفعلوا ، فوجه كسرى بالجيوش من العرب والعجم ،
--------------------------- 18 ---------------------------
فالتقوا بذى قار فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فقلدوه أمرهم ، فقالوا لهانئ : ذمتك ذمتنا ولا نخفر ذمتنا ! فحاربوا الفرس فهزموهم ومن معهم من العرب ، وكان مع الفرس إياس بن قبيصة الطائي وغيره من إخوة معد وقحطان ، فأتى عمرو بن عدي بن زيد كسرى وأخبره الخبر فخلع كتفه فمات ! فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم » . راجع : المعارف لابن قتيبة / 603 والطبري : 1 / 600 .
وقال ابن خلدون : 2 ق : 1 / 302 : « وأما بنو عجل بن لجيم بن صعب ، وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار ، فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة ، وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر ، وكان منهم بنو أبى دلف العجلي ، كانت لهم دولة بعراق العجم » .
وفى الإصابة : 2 / 117 ، أن رئيس ربيعة حنظلة بن سيار ، بلغه انتصار النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر ونزول سورة الأنفال ، فأرسل خمس غنائمه من الفرس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال :
ونحن بعثنا الوفد بالخيل ترتمي * بهم قُلُصٌ نحو النبي محمدِ
بما لقى الهرموز والقوم إذ غزوا * وما لقى النعمان عند التورد »

  • *
    --------------------------- 19 ---------------------------

الفصل الحادي والأربعون

« الخلافة الإسلامية » تثأر من بني هاشم لقتلى بدر !

1 . تعصب قريش القبلي أشد من تعصب اليهود القومي

خسرت قريش في معركة بدر نحو سبعين من شخصياتها على يد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فرفعت شعار » قتلى بدر « وأقامت عليهم أكبر مناحة في التاريخ ! فلا توجد معركة أعمق تأثيراً في التاريخ من بدر ، وما زالت نتائجها ممتدةً في حياتنا إلى اليوم !
وإذا قارنا توظيف قريش لشعار قتلى بدر ، بتوظيف اليهود للهولوكوست ، نجد أن القرشيين فاقوا اليهود بالإبتزاز كثيراً ! وأول ابتزازهم سيطرتهم على الدولة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعزلهم عترته أهل بيته « عليهم السلام » .
قال عثمان لعلى ( عليه السلام ) : « ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم ، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين ، كأن وجوههم شنوف الذهب ، تشرب أنوفهم قبل شفاههم » !
أي وجوههم جميلة كأقراط الذهب وأنوفهم طويلة جميلة . نثر الدرر / 259 ، ابن حمدون / 1567 ، شرح النهج : 9 / 22 والمناقب : 3 / 21 .
فقريش لا يمكنها أن تحب بني هاشم أبداً ، لأنهم قتلوا ساداتها ! فهي صاحبة ثأر عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلى ( عليه السلام ) وجميع بني هاشم ، إلى يوم القيامة !
وقد أخبر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن قريشاً لن تنسى هزيمة بدر وقتل نخبة قادتها وفرسانها ! وبالفعل جعلتها كمحرقة اليهود ! واخترعت مبررات للانتقام من بني هاشم وشيعتهم ، وعزلت
--------------------------- 20 ---------------------------
بني هاشم عن الخلافة ، لأن في أعناقهم دماء قريش والعرب وقد أخذوا النبوة وهى كافية عليهم ، فالخلافة يجب أن تكون لبقية قبائل قريش !
لذلك قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : « فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنها ضغائن في صدور قوم ، أحقاد بدر وتِراتُ أحد ! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه إن ضلوا ثم وجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، فإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم ، فافعل أنت كذلك ، إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك » . كتاب سُلَيم / 305 .

2 . تأسست الخلافة القرشية على الثأر من بني هاشم !

اعترف ابن أبي الحديد ، وهو سنى معتزلي متعصب لأبى بكر وعمر ، أن ثارات بدر وأحُد أوجبت قيام خلافة قرشية على أساس الثأر من بني هاشم ، وقال إن بغض القرشيين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلى ( عليه السلام ) وبنى هاشم طبيعي حتى بعد أن أسلموا !
قال في شرح النهج : 13 / 299 : « ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له » علي « وانحرافها عنه ، فإنه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ! ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم ! وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهده اليوم عياناً ، والناس كالناس الأُوَل ، والطبائع واحدة ! فاحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم ، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ، ثم أسلمت ، أكان إسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ؟ كلا ، إن ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة ، لا كإسلام كثير من العرب ! فبعضهم أسلم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه !
واعلم أن كل دم أراقه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بسيف على ( عليه السلام ) وبسيف غيره ، فإن العرب بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله ) عصبت تلك الدماء بعلى بن أبي طالب وحده ، لأنه لم يكن في رهطه من
--------------------------- 21 ---------------------------
يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلى وحده ! وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته ، طالبت بها أمثل الناس من أهله !
لمَّا قَتَلَ قومٌ من بنى تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عَمْرواً عليهم :
من مُبْلغٌ عَمْراً بأن المَرْ * ء لم يخلق صَبارهْ
فاقتل زرارة لا أري * في القوم أمثلَ من زرارهْ !
فأمره أن يقتل زرارة رئيس بنى تميم ، ولم يكن قاتلاً أخ الملك ولاحاضراً قتله » !
أقول : يخاطب الشاعر الملك هند بن عمرو ملك الحيرة ، بأن الإنسان لم يخلق صَبَارة ، أي حجراً ، بل له إحساسات ومنها غريزة الثأر ، فيجب عليك أن تأخذ ثأرك من بنى تميم الذين قتل أحدهم أخاك حتى لو كان قتل خطأ ، وكان رئيسهم زرارة بن عدس غائباً عن قتله ، لكنه أنسب شخصية لتقتله بثأرك .
فأطاع الملك الشاعر وهاجم بنى تميم وقتل رئيسهم زرارة ، وقتل معه أكثر من مئتين ، وبقر بطون نسائهم وأحرقهم ! فالقاعدة عند القبائل أن الثأر لا ينسى بحال من الأحوال والأزمان ! وقريش لها ثأر عند محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأعظمه ثأرها في بدر وأحُد ، ولا يجوز أن تنساه حتى لو أسلمت !
وهذا اعتراف جرئ من ابن أبي الحديد ، وهو عالم متعصب للشيخين ، بأن خلافة قريش قامت على الثأر من بني هاشم ، وأن بطون قريش عصبت دماء قتلاها بعلى ( عليه السلام ) . أما وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعترته وجعلهم كالقرآن ، فلا يسقط ثأر قريش عندهم ! وأول الثأر أن تأخذ منهم دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتعزلهم .
وعلى المسلم المنصف أن يفهم النتيجة الضخمة لذلك ، على الإسلام كله .
ولذلك كانت أصوات علماء السلطة أنفسهم ترتفع أحياناً ، كما فعل قتادة !
قال أبان بن عثمان : « حدثني فضيل البرجمي قال : كنت بمكة وخالد بن عبد الله القشيري أمير « من قبل عبد الملك بن مروان » وكان في المسجد عند زمزم فقال : ادعوا لي قتادة ، قال : فجاء شيخ أحمر الرأس واللحية ، فدنوت لأسمع ، فقال
--------------------------- 22 ---------------------------
خالد : يا قتادة أخبرني بأكرم وقعة كانت في العرب ، وأعز وقعة كانت في العرب ، وأذل وقعة كانت في العرب ! فقال : أصلح الله الأمير ، أخبرك بأكرم وقعة كانت في العرب وأعز وقعة كانت في العرب ، وأذل وقعة كانت في العرب ، وهى واحدة ! قال خالد : ويحك واحدة ! قال : نعم أصلح الله الأمير . قال : أخبرني ؟ قال : بدر .
قال : وكيف ذا ؟ قال : إن بدراً أكرم وقعة كانت في العرب بها أكرم الله عز وجل الإسلام وأهله ، وهى أعز وقعة كانت في العرب بها أعز الله الإسلام وأهله ، وهى أذل وقعة كانت في العرب ، فلما قتلت قريش يومئذ ذلت العرب . فقال له خالد : كذبت لعمر الله إن كان في العرب يومئذ من هو أعز منهم .
ويلك يا قتادة أخبرني ببعض أشعارهم ؟ قال : خرج أبو جهل يومئذ وقد أعلم ليرى مكانه وعليه عمامة حمراء وبيده ترس مذهب وهو يقول :
ماتنقم الحرب الشموس مني * بازلُ عامين حديثُ السن
لمثل هذا ولدتنى أمي
فقال : كذب عدو الله إن كان ابن أخي لأ فرس منه ، يعنى خالد بن الوليد وكانت أمه قشيرية » من عشيرته « فقال : ويلك يا قتادة من الذي يقول : أُوفى بميعادى وأحمى عن حسب ؟ فقال : أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادى من يبارز ؟ فلم يخرج إليه أحد فقال : إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ، ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فليبرزن إلى رجل يجهزنى بسيفه إلى النار ، وأجهزه بسيفي إلى الجنة ! فخرج إليه على وهو يقول :
أنا ابن ذي الحوضين عبدِ المطلبْ * وهاشمِ المطعمِ في العامِ السَّغِبْ
أوفى بميعادى وأحمى عن حَسَبْ
فقال خالد : كذب لعمري ، والله أبو تراب ما كان كذلك ! فقال الشيخ : أيها الأمير إئذن لي في الانصراف ، قال : فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول : زنديقٌ ورب الكعبة ، زنديقٌ ورب الكعبة » ! الكافي : 8 / 111 . فالسلطة تريد إنكار بطولات على ( عليه السلام ) وكل تاريخه !
--------------------------- 23 ---------------------------

3 . ودون الرواة صفحات طويلة في حزن قريش على قتلى بدر

فقد حرَّمت قريش البكاء والزينة ، حتى أخذت بثارها نسبياً في معركة أحد ! قال ابن هشام : 2 / 474 : » ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا : لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم . وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده : زمعة بن الأسود ، وعقيل بن الأسود ، والحارث بن زمعة ، وكان يحب أن يبكى على بنيه ، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له ، وقد ذهب بصره : أنظر هل أُحِلَّ النَّحْبُ ، هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلى أبكى على أبى حكيمة ، يعنى زمعة ، فإن جوفي قد احترق . قال : فلما رجع إليه الغلام قال : إنما هي امرأة تبكى على بعير لها أضلته ، قال : فذاك حين يقول الأسود :
أتبكى أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكى على بكر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بنى هصيص * ومخزوم ورهط أبى الوليد
وبكى إن بكيت على عقيل * وبكى حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمى جميعاً * وما لأبى حكيمة من نديد
وفى ديوان الحماسة للمرزوقي : 1 / 617 : « على بدر تقاصرت الجدود : يريد أن الذي يجب البكاء له ما جرى على رؤساء قريش وأرباب الجدود فيهم ببدر ، وأن الحيف العظيم والخسران المبين والغبن الشديد في ذاك ، لا في ضلال بَكر ، أي بعير » .
ونظم شعراء قريش قصائد كثيرة في رثاء قتلى بدر ، نشروها بين العرب ، خاصة من شعر ابن الزِّبَعْرَي ، وضرار بن الخطاب ، والحاخام كعب بن الأشرف ، وكلها هجاء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والأنصار ، ومدح لمشركي قريش ، فكانت تقرأ في مجالس الأمراء ، وصارت ثقافة لمجالس الخمر ، حتى تأثر بها بعض المسلمين !
وسيأتي أن بعض الصحابة شربوا الخمر في المدينة ، وتغنوا بالنوح على قتلى بدر ! ومن شعر ضرار ، سيرة ابن هشام : 2 / 539 :
--------------------------- 24 ---------------------------
عجبت لفخر الأوس والحين دائر * عليهم غدا ، والدهر فيه بصائر
وفخر بنى النجار أن كان معشر * أصيبوا ببدر كلهم ثَمَّ صابر
فإن تك قتلى غودرت من رجالنا * فإنا رجال بعدهم سنغادر
وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم * بنى الأوس حتى يشتفى النفس ثائر
ومن شعرعبد الله بن الزبعرَى السهمي « ابن هشام : 2 / 541 » :
ماذا على بدر وماذا حوله * من فتية بيض الوجوه كرام
تركوا نبيهاً خلفهم ومنبهاً * وابنى ربيعة خير خصم فئام
والحارث الفياض يبرق وجهه * كالبدر جلى ليلة الأظلام
والعاصي بن منبه ذا مرة * رمحاً تميماً غير ذي أوصام
تنمى به أعراقه وجدوده * ومآثر الأخوال والأعمام . . .
واشتهرت قصيدته في أحُد أكثر من غيرها :
يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئاً قد فعل
أبلغن حسان عنى آية * فقريض الشعر يشفى ذا الغلل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
فسل المهراس من ساكنه ؟ * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
بسيوف الهند تعلو هامهم * عَلَلاً تعلوهمُ يعد نهل
فأجابه حسان بن ثابت :
ذهبتْ يا بن الزبعرى وقعةٌ * كان منا الفضل فيها لو عدل
--------------------------- 25 ---------------------------
ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحياناً دول
نضع الأسياف في أكتافكم * حيث نهوى عللاً بعد نهل
ومن شعركعب بن الأشرف اليهودي ، « ابن هشام 2 / 564 » :
« طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم * لا تبعدوا ، إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من أبيض ماجد * ذي بهجة يأوى إليه الضيع . .
وقال أياس بن زنيم يحرض مشركي قريش على قتل على ( عليه السلام ) :
في كل مجمع غاية أخزاكم * جذعٌ أبرُّ على المذاكى القرَّح
لله دركم ألمَّا تنكروا * قد ينكر الحرُّ الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم * ذبحاً وقتلاً قعصةً لم يذبح
أين الكهول وأين كل دعامة * في المعضلات وأين زين الأبطح
أفناهم قعصاً وضرباً يفتري * بالسيف يعمل حده لم يصفح
أعطوه خرجاً واتقوا بمصيبة * فعل الذليل وبيعة لم تربحِ »
الإصابة : 1 / 231 ، أنساب الأشراف / 188 وتاريخ دمشق : 42 / 8 .

4 . الشيخان يشربان الخمر وينوحان على قتلى بدر !

بلغ من تأثير الإعلام القرشي ، أن مجالس الخمر والسمر في المدينة كان يقرأ فيها شعر الرثاء والنياحة على قتلى بدر ! وقد رووا أن مجلساً ضم أحد عشر صحابياً فيهم الشيخان أبو بكر وعمر ، شربوا الخمر وغنوا بالنوح على قتلى بدر !
فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبيده سعفة أو مكنسة يريد أن يضربهم !
وتتفاجأ بأن هذا الحديث صحيح عندهم ، فقد رواه تمام الرازي المتوفي : 414 ، في كتابه الفوائد : 2 / 228 ، برقم : 1593 وطبعة : 3 / 481 ، بسند صحيح عن عوف ، عن أبي القموص قال : « شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم فأخذت فيه ، فأنشأ يقول :
--------------------------- 26 ---------------------------
تَحَيى بالسلامة أمَّ بكرٍ * وهل لك بعد رهطك من سلام
ذرينى أصطبح يا بكر إني * رأيت الموت نقَّبَ عن هشام
فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ * بألف من رجال أو سوام
فكائن بالطوى طوى بدر * من القينات والخيل الكرام
فكائن بالطوى طوى بدر * من الشيزى تُكلل بالسنام
فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه ، فلما نظر إليه قال : أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله ، والله لا يلج لي رأساً أبداً ! فذهب عن رسول الله ما كان فيه ، وخرج ونزل عليه : فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون ؟ ! فقال عمر : انتهينا والله » .
ورواه الثعلبي في تفسيره : 2 / 142 دون أن يسميهما قال : « وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم ، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة ، ويشربونها في غير حين الصلاة ، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ، ويقول . . . فبلغ ذلك رسول الله فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه ، ورفع شيئاً كان بيده « سعفة » ليضربه ، فلما عاينه الرجل قال : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله ، والله لا أطعمها أبداً » .
ورواها ابن هشام : 2 / 549 بأطول منه ، وفيها أبيات أبى بكر في إنكارالآخرة قال :
« يخبرنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ » !
وفى الصحيح من السيرة : 5 / 301 :
أيوعدنى ابن كبشة أن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ
أيعجز أن يرد الموت عني * وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمان عني * بأنى تارك شهر الصيام
فقل الله يمنعني شرابي * وقل لله يمنعني طعامي »
وروى ابن حجر في الإصابة : 7 / 39 عن الفاكهي في كتاب مكة أن الرجل كان
--------------------------- 27 ---------------------------
أبا بكر ! وفيه : « شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول : فذكر الأبيات . فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبي بكر ، فلما نظر إلى وجهه محمراً ، قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله ! والله لا يلج لنا رأسا أبداً ! فكان أول من حرمها على نفسه ! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، ورثى قتلى بدر من المشركين » !
وذكر ابن حجر في فتح الباري : 10 / 31 ، أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت أبى طلحة ، وكانوا أحد عشر صحابياً ، وكان ساقيهم أنس بن مالك ! ثم قال : « ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس : كنت أسقى أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة . ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس ، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً ، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم ، وأبهمهم في رواية سُلَيمان التيمي عن أنس . ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس ، أن أبا بكر وعمر كانا فيهم ! وهو منكر ، مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطاً » !
يقصد أن سند الحديث صحيح وكان فيهم أبو بكر وعمر ، لكن مكانتهما كثيرة فهو حديث مستنكر ! لكن مذهبه إذا صح الحديث فلا قيمة لاستغراب معناه !
والأدهى من ذلك أن القصةكانت عند تواصل نزول سورة المائدة ، أي قبل وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشهر أو شهرين ! لأن آية : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . « المائدة : 91 » . من سورة المائدة ، وهى آخر سورة نزلت من القرآن ، قبيل وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
كما نلاحظ أن القصة انتشرت بين المسلمين ، وقالوا إن القصيدة لأبى بكر ! فنفت عائشة أن يكون أبوها نظم هذا الشعر ، ولم تنف مشاركته في الحفلة وإنشاده !
فقد روى بخارى في صحيحه : 4 / 263 دفاعها فقال : « عن عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر ، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن
--------------------------- 28 ---------------------------
عمها هذا الشاعر ، الذي قال هذه القصيدة ، ورثى كفار قريش :
وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام
تحيى بالسلامة أم بكر * وهل لي بعد قومي من سلام
يحدثنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام »
لكن عائشة لم تحل المشكلة ، لأنها نفت أن أباها نظم القصيدة ولم تنف إنشاده لها ! فالمهم عندها نفى نظمها لأنها تثبت كفر ناظمها وإنكاره النبوة والآخرة ، أما إنشادها فهو أقل مصيبةً !
وروى ابن حجر في الإصابة : 7 / 39 أنها كانت غاضبة لأن الناس لم يصدقوها ! « كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول : والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولكن تزوج امرأة من بنى كنانة ثم بنى عوف فلما هاجر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، فقال هذه القصيدة يرثى كفار قريش الذين قتلوا ببدر ، فتحامى الناس أبا بكر من أجل المرأة التي طلقها ، وإنما هو أبو بكر بن شعوب » .
تقصد أن أم بكر المخاطبة بالقصيدة هي زوجة أبيها لكنه طلقها عندما هاجر ، وتزوجها ابن شعوب وهو الذي نظم القصيدة ! راجع في الموضوع : أمالي الطوسي / 737 ، رواها بسبعة أبيات ، ابن هشام : 2 / 549 ورواها بتسعة أبيات ، الغدير : 6 / 251 ، 7 / 96 و 7 / 95 ، فتح الباري : 10 / 30 ، قد أطال في الموضوع ودافع بما يستطيع ، لكن كلامه فيه تعجب وتحير ، وسيرة ابن كثير : 2 / 535 ، مستدرك الوسائل : 17 / 83 ، السقيفة أم الفتن / 74 ، فيض القدير : 1 / 117 ، الإصابة : 7 / 38 ، الصحيح من السيرة : 5 / 301 و 304 ، مجمع الزوائد : 5 / 51 ، الهداية الكبري / 106 ، أمالي المرتضي : 2 / 18 ، النص والاجتهاد / 311 ، أحاديث الشعر للمقدسي / 57 ، النهاية : 3 / 412 ، تفسير الثعلبي : 2 / 142 والإصابة : 7 / 38 .
--------------------------- 29 ---------------------------

5 . دين قريش القبول بالتناقض !

من تناقض القرشيين أنهم أرادوا خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وبنفس الوقت أرادوا أن يأخذوا منه ثأر بدر ! وقد ظهرت « مناحتهم » على قتلى بدرعلى ألسنة « خلفاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) » ! الذين يعرفون جيداً أنه لولا معركة بدر لما كان إسلامٌ ، ولا خلافةٌ يجلسون على كرسيها ! ويعرفون أن الذي يجلس على كرسي خلافة محمد يفترض أنه مسلم ، وأنه إلى جانب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في معركة بدر ، وضد من قتلهم من المشركين ! لكن تعقيد الشخصية القرشية جعلتهم يتبنون نتيجة معركة بدر التي منها الخلافة ، ويتبنون « مناحة قومهم » على قتلى بدر ، لأنها تنفعهم ضد بني هاشم وتساعدهم في إبعادهم عن الخلافة !
قال عمر لابن عباس في محاورته الشهيرة في الخلافة : « كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجخفوا جخفاً « تكبراً » فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت . . أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول » ! تاريخ الطبري : 3 / 288 ، شرح النهج : 6 / 50 ، جمهرة الأمثال : 1 / 339 والعقد الفريد / 1378 .
وقال عبد الله بن عمر لعلى ( عليه السلام ) : « كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأحُد من ساداتهم سبعين سيداً ، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم » ! المناقب : 3 / 21 .
وتقدم قول عثمان لعلى ( عليه السلام ) مثل ذلك .
فالخليفة المحترم يعرف أنه لولا قتل بني هاشم لمشركي قريش في بدر ، لما كانت دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي يتنعم بحكمها ! ويعرف أن قتلى بدر طغاة ، عملوا لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر وقبلها . ويعرف أن قريشاً أعلنت إسلامها والمفروض أنها تبرأت من الشرك والمشركين !
ومع ذلك يعطى قريشاً الحق في كره بني هاشم ومطالبتهم بدماء مشركيها ! فاعجب لخليفةٍ يدين منطق الإسلام الذي يلبس ثوبه ويحكم بإسمه !
وعندما تقوم « الخلافة » على أساس الثأر من بني هاشم ، فمن الطبيعي أن تقوم بقتل الأئمة من عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتقمع شيعتهم ، وتشوه سمعتهم ، وتبيد
--------------------------- 30 ---------------------------
المصادر الثقافية لمذهبهم ! وما زالت هذه السياسة سارية في العالم الإسلامي إلى اليوم !
لاحظ جواب الزهراء لأم سلمة « عليها السلام » « المناقب : 2 / 49 » : « كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ فقالت : أصبحت بين كمد وكرب ! فُقِدَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) وظُلِمَ الوصي ، وهُتك والله حجابه ، وأصبحت إمامته مقتصة على غير ما شرع الله في التنزيل ، وسنها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في التأويل ! ولكنها أحقاد بدرية وتِرات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثارمن مخيلة الشقاق » .
وقال على ( عليه السلام ) لقريش : « وإني لصاحبكم بالأمس ، لعمر أبى وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة ، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد ! أما والله لو قلت ما سبق الله فيكم ، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم ، كتداخل أسنان دوارة الرحي ! فإن نطقت يقولون حسداً ! وإن أسكت فيقال ابن أبي طالب جزع من الموت ! هيهات هيهات ، الساعة يقال لي هذا ؟ ! وأنا المميت المائت ، وخواض المنايا في جوف ليل حالك » . الإحتجاج : 1 / 127 .
وقال عبد الرحمن بن جندب : « لما بويع عثمان ، سمعت المقداد بن الأسود الكندي يقول لعبد الرحمن بن عوف : والله يا عبد الرحمن ما رأيت مثل ما أُتِى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له عبد الرحمن : وما أنت وذاك يا مقداد ؟ قال : إني والله أحبهم لحب رسول الله لهم ويعتريني والله وجد لا أبثه بثة ، لتشرُّف قريش على الناس بشرفهم واجتماعهم على نزع سلطان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أيديهم !
فقال له عبد الرحمن : ويحك والله لقد اجتهدت نفسي لكم ! فقال له المقداد : أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون ، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر وأحد !
فقال له عبد الرحمن : ثكلتك أمك يا مقداد لا يسمعن هذا الكلام منك الناس ، أما والله إني لخائف أن تكون صاحب فرقة وفتنة . قال جندب : فأتيته بعد ما انصرف من مقامه وقلت له : يا مقداد أنا من أعوانك ، فقال : رحمك الله إن الذي نريد لايغنى فيه الرجلان والثلاثة . فخرجت من عنده فدخلت على على ( عليه السلام ) فذكرت له ما قال وما قلت . قال : فدعا لنا بالخير » . أمالي المفيد / 169 .
--------------------------- 31 ---------------------------
وقال في الصحيح من السيرة : 6 / 154 : « ولم تستطع قريش أن تنسى ثارات بدر وأحُد وسائر المعارك ، حتى أن حرب صفين كما قالت أم الخير بنت الحريش : كانت لإحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارات بنى عبد شمس ! بل إن مجزرة كربلاء وفاجعة قتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه كانت لها دوافع بدرية وإحن أحدية أيضاً ، فقد قال اللعين يزيد بن معاوية : ليت أشياخي ببدر شهدوا . . . ولما وصل رأس الحسين ( عليه السلام ) إلى المدينة رمى مروان بالرأس نحو قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : يا محمد يوم بيوم بدر » !
وفى تاريخ الطبري : 8 / 187 : « طلب يزيد بثارات المشركين عند المسلمين ، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ، ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها ! وشفى بذلك حقد نفسه وغليله ، وظن أن قد انتقم من أولياء الله وبلغ النوى لأعداء الله ، فقال مجاهراً بكفره ، ومظهراً لشركه :
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتكم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بنى أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبرٌ جاء ولا وحى نزل !
هذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه » !
وقد أجابت زينب « عليها السلام » يزيداً في مجلسه فقالت له : « أتقول : ليت أشياخي ببدر شهدوا . . غير متأثم ولامستعظم ، وأنت تنكث ثنايا أبى عبد الله بمخصرتك ! ولمَ لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك دماء ذرية رسول الله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب . ولتردنَّ على الله وشيكاً موردهم ، ولتودن أنك عميت وبكمت ، وأنك لم تقل : فاستهلوا وأهلوا فرحاً . . اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا » . بلاغات النساء لابن طيفور / 20 .
--------------------------- 32 ---------------------------
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « لقى المنهال بن عمرو علي بن الحسين بن علي ( عليه السلام ) فقال له : كيف أصبحت يا ابن رسول الله ؟ قال : ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت ؟ أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ! وأصبح خير البرية بعد محمد ( صلى الله عليه وآله ) يلعن على المنابر ! وأصبح عدونا يعطى المال والشرف ، وأصبح من يحبنا محقوراً منقوصاً حقه ، وكذلك لم يزل المؤمنون ! وأصبحت العجم تعرف للعرب حقها بأن محمداً منها ، وأصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً منها ، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقها بأن محمداً منها ، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها ! وأصبحنا أهل البيت لا يعرف لنا حق ! فهكذا أصبحنا يا منهال » ! تفسير القمي : 2 / 134 .

  • *
    --------------------------- 33 ---------------------------

الفصل الثاني والأربعون

النبي « صلى الله عليه وآله » والعرب من غزوة بدر إلى أحد

1 - ثلاث غزوات وعدة سرايا في سنة واحدة !

ينبغي التذكير بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسدد من ربه ، لا ينطق عن الهوى ولا يفعل إلا ما يؤمر به . ومن ذلك خروجه بنفسه لحرب عدوه ، أو إرساله سرايا .
« رجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من بدر في الثاني والعشرين من رمضان في السنة الثانية للهجرة وكانت حرب أحُد في الرابع عشر من شوال سنة ثلاث للهجرة » . المحبر / 111 .
وفى هذه السنة بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) عدة سرايا في مهمات دفاعية أو هجومية ، وشارك بنفسه في ثلاث غزوات ، وعدها بعضهم ستاً . عيون الأثر : 1 / 382 .
والصحيح أنها ثلاثة ، لكن تسميات الرواة لها متعددة .
كما بعث سرايا في مهمات خاصة لاغتيال يهود ناشطين في عداء الإسلام ، منها سرية سالم بن عمير لقتل أبى عفك اليهودي ، وسرية أخرى لقتل كعب بن الأشرف . « الطبقات : 2 / 27 » وسرية لقتل عصماء بنت مروان .

2 . غزوة بنى سُلَيم

غزوة بنى سُلَيم وبنى غطفان بناحية نجد ، وسماها بعضهم غزوة قرقرة الكَدَر لأنهم مروا فيها عليها ، والقرقرة الأرض الملساء ، والكَدَر اللون غير النقي . وهى نفسها غزوة الفرع ، وغزوة بحران ، وهو معدن بالحجاز ، « ابن هشام : 6 / 18 » قرب الفرع ، « الطبري : 2404 » وهى
--------------------------- 34 ---------------------------
نفسها غزوة ذي أمر ، لوحدة أحداثهما .
« ولما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة من بدر لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سُلَيم ، حتى بلغ ماء من مياههم يقال له الكَدَر ، فأقام عليه ثلاث ليال ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً . فأقام بها بقية شوال وذا القعدة ، وفادى في إقامته جل أسارى بدر من قريش » . إعلام الوري : 1 / 172 .

3 . غزوة ذات السويق

ثم كانت غزوة السويق ، وذلك أن أبا سفيان نذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وكان العرب مع عبادتهم الأصنام فيهم بقايا شريعة إبراهيم الحنيفية ومنها غسل الجنابة . فخرج أبو سفيان في مائة راكب من قريش ليبرَّ يمينه ، حتى إذا كان على بريد من المدينة أتى بنى النضير ليلاً ، فضرب على حيى بن أخطب بابه فأبى أن يفتح له ، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بنى النضير ، فاستأذن عليه فأذن له وسارَّه ، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه . وبعث رجلاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية يقال لها العريض ، فوجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له فقتلوهما ثم انصرفوا .
ونذر بهم الناس أحسُّوا فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكَدَر ، فرجع وقد فاته أبو سفيان ، ورأوا زاداً من أزواد القوم قد طرحوها يتخففون منها للنجاء . فقال المسلمون حين رجع رسول الله بهم : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة ؟ فقال : نعم » . إعلام الوري : 1 / 173 .
وفى إمتاع الأسماع : 1 / 123 ، عن ابن إسحاق أنه ( صلى الله عليه وآله ) غزا قريشاً حتى بلغ بحران معدناً بالحجاز من ناحية الفرع ، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولي ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً » .
والمرجح أنها نفس غزوة السويق ، وهى تدل على أن أبا سفيان لم يستطع تجنيد أكثر من مئتى راكب ، فجاء بهم خفية إلى قرب المدينة ، وتسلل ليلاً مع بضعة أشخاص
--------------------------- 35 ---------------------------
إلى حلفائه يهود بنى النضير في ضاحية المدينة ، فخاف رئيسهم حي بن أخطب أن يفتح له وينقض عهده مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فذهب أبو سفيان إلى رئيس آخر من بنى النضير هو ابن مشكم ، ففتح له وتداول معه في حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشرب معه الخمر ، ونصحه أن يرجع قبل أن يكتشف محمد ( صلى الله عليه وآله ) وجوده ، فرجع تلك الليلة ، لكنه أراد أن يقوم بعمل ما ، فأرسل بضعة نفر إلى مزرعة معبد بن عمرو الأنصاري المنفردة عن المدينة ، فقتلوه مع أجيره وأحرقوا زرعه ونخله !
فتبعهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأصحابه فأسرعوا وتخففوا من زادهم ورموه عن جمالهم ، وكان السويق وهو الحنطة المحمصة المطحونة ، يضاف إليها زيت أو سكر . فسميت غزوة السويق أو ذات السويق .

4 . غزوة ذي أمر

بعد غزوة السويق أقام ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم ، وكانت غزوة ذي أمر ، وذلك لما بلغه أن جمعاً من غطفان تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة ، عليهم رجل يقال له : دعثور بن الحارث بن محارب ، فخرج في أربع مائة وخمسين رجلاً ومعهم أفراس ، وهرب منه الأعراب فوق ذرى الجبال ونزل ( صلى الله عليه وآله ) ذا أمر وعسكر به ، وأصابهم مطر ، فذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لحاجته فأصابه المطر فبلَّ ثوبه ، فنزع ثيابه ونشرها لتجف وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها ، وكان وادى أمر بينه وبين أصحابه ، والأعراب ينظرون إلى ما يفعل ، فقالت الأعراب لدعثور وكان سيدهم وأشجعهم : قد أمكنك محمد وقد انفرد من بين أصحابه ، فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ، ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالسيف مشهوراً فقال : يا محمد من يمنعك منى اليوم ؟ قال : الله ! ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقام على رأسه وقال : من يمنعك مني ؟ قال : لا أحد ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، والله لا أكثِّر عليك جمعاً أبداً ! فأعطاه
--------------------------- 36 ---------------------------
رسول الله سيفه وأدبر ، ثم أقبل بوجهه وقال : والله لأنت خير مني ! قال رسول الله : أنا أحق بذلك منك . فأتى قومه فقيل له : أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك ؟ قال : قد كان والله ذلك ، ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري ، فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمداً رسول الله . والله لا أكَثِّرُ عليه ! وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يبْسُطُوا إِلَيكُمْ أَيدِيهُمْ فَكَفَّ أَيدِيهُمْ عَنْكُمْ . . » .
أقول : وردت روايات أخرى في قصة دعثور « راجع الصحيح : 6 / 17 » وكان اليهود وقريش يحركون بعض قبائل نجد مثل بنى سُلَيم للغارة على المدينة ، وكانت لهم سابقة في غزو المدينة ، ومعارك مع الأوس والخزرج ، فبادر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزوهم لدفع شرهم ، فتفرقوا ولم يواجهوه ، وهدى الله رئيسهم .

5 . سرية حارثة بن زيد لاعتراض قافلة قريش

وأشهر سرايا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد بدر ، سرية زيد بن حارثة لاعتراض قافلة قريش الذاهبة إلى الشام عن طريق العراق ، وقد سميت غزوة قرقرة الكَدَر ، لأنهم مروا عليها ، وغزوة بنى سُلَيم لأنهم مروا عليهم ، وغزوة القِرَدَة ، باسم ماء في نجد . كما سميت غزوة مع أنها سرية واسم الغزوة خاص بالتي يشارك فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال في إعلام الوري : 1 / 174 : « بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زيد بن حارثة بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستة أشهر ، فأصابوا عيراً لقريش على القردة فيها أبو سفيان ومعه فضة كثيرة ، وذلك لأن قريشاً قد خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ، فسلكوا طريق العراق واستأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان يدلهم على الطريق ، فأصاب زيد بن حارثة تلك العير وأعجزته الرجال هرباً . وفى رواية الواقدي : أن ذلك العير مع صفوان بن أمية ، وأنهم قدموا بالعير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأسروا رجلاً أو رجلين ، وكان فرات بن حيان أسيراً فأسلم ،
فتُرِكَ من القتل » .
--------------------------- 37 ---------------------------
فأعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) خمسها لبنى هاشم ، فبلغ عشرين ألف درهم ، وقسم الباقي بين المقاتلين . الإمتاع : 1 / 129 .
وفى الطبقات : 2 / 36 : « كانت لهلال جمادى الآخرة . . والقردة من أرض نجد بين الربذة والغمرة . وأسر فرات بن حيان فأتى به النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقيل له إن تسلم تترك ، فأسلم فتركه رسول الله » .

6 . محاولة قريش قتل النبي « صلى الله عليه وآله » ثأراً ببدر

كان صفوان بن أمية زعيم كنانة المتحالفة مع مشركي قريش ، وكان ثرياً فجَنَّدَ شخصاً لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأرسله متخفياً إلى المدينة .
ففي الخرائج : 1 / 119 من حديث على ( عليه السلام ) مع اليهودي عن معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « ومنها : أن المشركين لما رجعوا من بدر إلى مكة أقبل عمير بن وهب الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية بن خالد الجمحي ، فقال صفوان : قبح الله العيش بعد قتلى بدر ! قال عمير : أجل والله ما في العيش بعدهم خير ، ولولا دينٌ على لا أجد له قضاء ، وعيال لا أدع لهم شيئاً ، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه ، فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق ، وإن لي عندهم علة ، أقول قدمت على ابني هذا الأسير . ففرح صفوان بقوله وقال : يا أبا أمية هل نراك فاعلاً ؟ قال : إي ورب البنية . قال صفوان : فعلى دينك وعيالك أسوة عيالي ، وأنت تعلم أن ليس بمكة رجل أشد توسعاً على عياله مني . فقال عمير : قد عرفت بذلك يا أبا وهب . قال : صفوان : فإن عيالك مع عيالي لن يسعني شئ ويعجز عنهم ، ودَينك علي . فحمله صفوان على بعيره وجهزه وأجرى على عياله ما يجرى على عيال نفسه ، وأمر عمير بسيفه فشُحذ وسُمَّ ، ثم خرج إلى المدينة ، وقال لصفوان : أكتم على أياماً حتى أقدمها . فلم يذكرها صفوان ، فقدم عمير فنزل على باب المسجد وعقل راحلته وأخذ السيف فتقلده ، ثم عمد نحو رسول الله ، فلما رآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال له : ما أقدمك يا عمير ؟ قال : قدمت في أسيري
--------------------------- 38 ---------------------------
عندكم تفادوننا وتحسنون إلينا فيه فإنكم العشيرة . قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فما بال السيف ؟ قال : قبحها الله من سيوف وهل أغنت من شئ ! إنما نسيته حين نزلتُ وهو في رقبتي !
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فما شرطت لصفوان في الحجر ؟ ففزع عمير وقال : ماذا شرطت له ؟ قال : تحملت له بقتلى على أن يقضى دينك ويعول عيالك ، والله حائل بيني وبين ذلك ! قال عمير : أشهد أنك رسول الله وأنك صادق ، وأن لا إله إلا الله ، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء ، وإن هذا الحديث كان شيئاً بيني وبين صفوان كما قلت ، لم يطلع عليه غيرى وغيره ، وقد أمرته أن يكتم على أياماً فأطلعك الله عليه ، فآمنت بالله وبرسوله وشهدت أن ما جئت به صدق وحق ! قال ( صلى الله عليه وآله ) : علموا أخاكم القرآن ، وأطلقوا له أسيره .
فقال عمير : « إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله وقد هداني الله فله الحمد ، فأذن لي لألحق قريشاً فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام ، فأذن له فلحق بمكة ، وكان صفوان يسأل عن عمير فقيل له : إنه أسلم ، فطرح عياله ! وقدم عمير فدعاهم إلى الله وأخبرهم بصدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم معه نفر كثير » . ورواه في مغازى الواقدي / 71 ، في الإحتجاج : 1 / 333 ، مختصراً ورواه ابن هشام : 2 / 485 ، لكن زاد فيه منقبة لعمر بأنه هو الذي اكتشف عميراً وحذر منه النبي ( صلى الله عليه وآله ) !

  • *
    --------------------------- 39 ---------------------------

الفصل الثالث والأربعون

النبي « صلى الله عليه وآله » واليهود من غزوة بدرالى أحد

1 - حاخامات اليهود في زمن النبي « صلى الله عليه وآله »

يتشابه زعماء بطون قريش مع أقاربهم اليهود إلى حد كبير ، في عدائهم للنبي وعنادهم ! فقد كذَّبوه وآذوه ، وحاولوا قتله طول ثلاث عشرة سنة ، وبعدها !
ثم هاجر ( صلى الله عليه وآله ) عنهم وطلب منهم أن يتركوه والعرب ويقفوا على الحياد ، فلم يفعلوا ، وأصروا على حربه ، فحاربوه في بدر وانهزموا ، ولم يأخذوا العبرة . ثم أحُد والخندق ، ولم يأخذوا العبرة . وابتلاهم الله بالقحط والسنوات العجاف فكانوا كما قال الله عنهم : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يتَضَرَّعُونَ . وباغتهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة ففتحها وأجبرهم على خلع سلاحهم فلم يعتبروا !
وكذلك اليهود في إصرارهم على عداوته ( صلى الله عليه وآله ) وحماقتهم وفتح الحروب عليه ! فقد جاؤوا بعد المسيح ( عليه السلام ) إلى جزيرة العرب ، وسكنوا في تيماء وأم القرى وخيبر والمدينة ومكة ، ينتظرون النبي الموعود ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانوا يتوعدون به العرب وأنه سيأتي ويكونون معه ، وبذلك هيؤوا أهل المدينة للإيمان به ! ولما بعثه الله تعالى كفروا به ، لأنه من أولاد إسماعيل ( عليه السلام ) وليس من أولاد إسحاق ( عليه السلام ) ! وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ . بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيا أَنْ ينَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ . البقرة : 89 - 90 .
--------------------------- 40 ---------------------------
وكان اليهود مجموعات قبلية يرأسهم حاخاماتهم . وقد جاؤوا لهدف ديني هو انتظار بعثة النبي الموعود ومعهم كتبهم ، وتحالفوا في المدينة مع الأوس والخزرج واشتغلوا بالزراعة والتجارة والصياغة .
وكان لهم في كل منطقة مدرستان : المدراس لتدريس التوراة وتسمى الفهر ، « لسان العرب : 5 / 66 » والمشناة ، التي لتدريس التلمود أو الشريعة .
وكان أسوأ حاخاماتهم : كعب بن الأشرف رئيس بنى النضير ، وخليفته حيى بن أخطب ، فقد أفرطا في عداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتحريك قريش والعرب ضده !
وذكر ابن هشام : 2 / 358 أسماء اليهود الذين نصبوا العداء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان ابن إسحاق خبيراً بهم ، قال : « ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العداوة بغياً وحسداً وضغناً . . وكانت أحبار يهودهم الذي يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم وفيما يسألون عنه . . منهم : حيى بن أخطب ، وأخواه أبو ياسر بن أخطب ، وجدى بن أخطب ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وسلام بن أبي الحقيق ، وأخوه سلام بن الربيع . . والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وعمرو بن جحاش ، وكعب بن الأشرف ، وهو من طيئ ، ثم أحد بنى نبهان ، وأمه من بنى النضير ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، وكردم ابن قيس ، حليف كعب بن الأشرف ، فهؤلاء من بنى النضير .
ومن بنى ثعلبة بن الفطيون : عبد الله بن صوريا الأعور ، ولم يكن بالحجاز في زمانه أعلم بالتوراة منه ، وابن صلوبا ، ومخيريق ، وكان حبرهم ، أسلم .
ومن بنى قينقاع : زيد بن اللصيت . . وسعد بن حنيف ، ومحمود بن سيحان ، وعزيز بن أبي عزيز ، وعبد الله بن صيف . قال ابن إسحاق : وسويد بن الحارث ، ورفاعة بن قيس ، وفنحاص ، وأشيع ، ونعمان بن أضا ، وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي ، وشاس بن قيس ، وزيد بن الحارث ، ونعمان بن عمرو ، وسكين بن أبي سكين ، وعدى بن زيد ، ونعمان بن أبي أوفي ، أبو أنس ، ومحمود بن دحية ، ومالك بن صيف . . وكعب بن راشد ، وعازر ، ورافع بن أبي رافع ، وخالد ، وإزار بن أبي إزار . . ورافع بن حارثة ،
--------------------------- 41 ---------------------------
ورافع بن حريملة ، ورافع بن خارجة ، ومالك بن عوف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، وعبد الله بن سلام بن الحارث ، وكان حبرهم وأعلمهم ، وكان اسمه الحصين ، فلما أسلم سماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عبد الله ، فهؤلاء من بنى قينقاع .
ومن بني قريظة : الزبير بن باطا بن وهب ، وعزال بن شمويل ، وكعب بن أسد ، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقضه عام الأحزاب ، وشمويل بن زيد ، وجبل بن عمرو بن سكينة ، والنحام بن زيد ، وقردم بن كعب ، ووهب بن زيد ، ونافع بن أبي نافع ، وأبو نافع ، وعدى بن زيد ، والحارث بن عوف ، وكردم بن زيد ، وأسامة بن حبيب ، ورافع بن رميلة ، وجبل بن أبي قشير ، ووهب بن يهوذا ، فهؤلاء من بني قريظة .
ومن يهود بنى زريق : لبيد بن أعصم ، وهو الذي أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن نسائه . ومن يهود بنى حارثة : كنانة بن صورياء . ومن يهود بنى عمرو بن عوف : قردم بن عمرو . ومن يهود بنى النجار : سلسلة بن برهام .
فهؤلاء أحبار اليهود ، وأهل الشرور والعداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه » .
ومعنى قوله عن لبيد بن الأعصم بأنه أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن نسائه ، أنه سحر النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما زعمت عائشة فصار يتصور أنه قاربها ولم يقاربها ! وهذا عندنا من المكذوبات على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما بينا في محله .
قال في الصحيح : 6 / 21 : « اليهود شعب عنصرى مؤمن بتفوق عنصره على البشر كافة ! والناس عندهم لا قيمة لهم ولا اعتبار ، وإنما خلقوا لخدمة الإسرائيليين وحسب ! فكل الناس إذن يجب أن يكونوا في خدمتهم وتحت سلطتهم كما يقول لهم تلمودهم . فقد جاء في التلمود ما ملخصه : إن الإسرائيلى معتبر عند الله أكثر من الملائكة ، وإن اليهودي جزء من الله ، ومن ضرب يهودياً فكأنه ضرب العزة الإلهية ، والشعب المختار هم اليهود فقط ، وأما باقي الشعوب فهم حيوانات . ويعتبر اليهود غير اليهود أعداء لهم ولا يجيز التلمود أن يشفق اليهود على أعدائهم . ويلزم التلمود الإسرائيليين بأن يكونوا دنسين مع الدنسين ، ويمنع
--------------------------- 42 ---------------------------
من تحية غير اليهودي إلا أن يخشوا ضررهم ، ولا يجيزون الصدقة على غير اليهودي ويجوز لهم سرقة ماله وغشه . كما أن على الأمميين أن يعملوا ولليهود أن يأخذوا نتاج هذا العمل . ويجيز التلمود التعدي على عرض الأجنبي لأن المرأة إن لم تكن يهودية فهي كالبهيمة . ولليهودى الحق في اغتصاب غير اليهوديات . ويحرم على اليهودي أن ينجى غيره . إلى آخر ما هنالك » .
ولم يسلم منهم إلا النادر مثل الحاخام مخيريق ، وكان صادقاً ، واستشهد مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أحُد ، ورووا أن عبد الله بن سلام أسلم ، ولا أظنه صادقاً !

2 . كعب بن الأشرف رئيس بنى النضير

في المناقب : 1 / 48 : « قال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وفنحاص بن عازورا : يا محمد إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَينَا في التوراة أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ، فإن زعمت أن الله بعثك الينا فجئنا به نصدقك ، فنزلت : وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ . بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيا أَنْ ينَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ . البقرة : 89 - 90 .
وقوله : قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى بِالْبَينَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . أراد زكريا ويحيى وجميع من قتلهم اليهود » .
وفى مجمع البيان : 3 / 347 أن كعباً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند هجرته وطلب منه معجزة فأراه ، فاستكبر ولم يؤمن ! وسألوه عندما خرج من عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « أهو نبي ؟ فقال : هو هو ! فقيل : ماله عندك ؟ فقال : العداوة إلى الموت » !
وفى تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 92 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه ، وبينات نبوته ، كادته اليهود أشد كيد ، وقصدوه أقبح قصد ، يقصدون أنواره ليطمسوها ، وحججه ليبطلوها ! فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه : مالك بن الصيف ، وكعب بن الأشرف ، وحيى بن
--------------------------- 43 ---------------------------
أخطب ، وجدى بن أخطب ، وأبو ياسر بن أخطب ، وأبو لبابة بن عبد المنذر ، وشعبة . فقال مالك لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا محمد تزعم أنك رسول الله ؟
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين .
قال : يا محمد لن نؤمن لك أنك رسول الله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا ! ولن نشهد أنك عن الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط . وقال أبو لبابة بن عبد المنذر : لن نؤمن لك يا محمد أنك رسول الله ، ولا نشهد لك به حتى يؤمن ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي . وقال كعب بن الأشرف : لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنه ليس للعباد الاقتراح على الله تعالى ، بل عليهم التَّسْليم لله والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعله كافياً . أما كفاكم أنه أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوتي ودل على صدقي ؟ وبين لكم فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدى علي بن أبي طالب ، وأنزل على هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين ، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله وأن يتكلفوا شبهه . وأما هذا الذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربي عز وجل ، بل أقول إنما أعطاني ربى تعالى من دلالة هو حسبي وحسبكم ، فإن فعل عز وجل ما اقترحتموه فذاك زائد في تطوله علينا وعليكم ، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله كاف فيما أراده منا . قال : فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كلامه هذا أنطق الله البساط فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً صمداً حياً قيوماً أبداً ، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، ولم يشرك في حكمه أحداً ، وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله ، أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهرك على الدين كله ولو كره المشركون . وأشهد أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك ووصيك ، وخليفتك في أمتك . . فعجب القوم وقال بعضهم لبعض : ما هذا إلا سحر مبين ! فاضطرب البساط وارتفع . . وأنطق الله سوط أبى لبابة ، ثم أنطق حمار كعب بن الأشرف ، فقال : هذا سحر !
--------------------------- 44 ---------------------------
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا كعب بن الأشرف حمارك خير منك ! فلما انصرف القوم من عند رسول الله ولم يؤمنوا أنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ . . » .
وكان كعب يقود الحاخامات ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويتصلون بالمؤمنين من الأنصار ويلقون عليهم الشبهات ليكفروا ، ونزلت فيهم آيات كقوله تعالي : الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَينَا أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى بِالْبَينَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . آل عمران : 183 .
وقد وقع اليهود بطوائفهم الثلاث : قينقاع والنضير وقريظة ، معاهدات تعايش مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنهم كانوا يتعاونون خفيةً مع قريش ، وعندما انهزمت في بدر أصابهم الذهول ، وقصد كعب وابن أخطب مكة يحرضانهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وفى شرح النهج : 14 / 196 عن الواقدي ، قال : « وفرق الله عز وجل ببدر بين الكفر والإيمان ، وأذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود ، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضعت عنقه ! وقال قوم من المنافقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة ! وقالت يهود فيما بينها : هو الذي نجد نعته في كتبنا والله لاترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت ! وقال كعب بن الأشرف : بطن الأرض اليوم خير من ظهرها ! هؤلاء أشراف الناس وساداتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن قد أصيبوا ! وخرج إلى مكة فنزل على أبى وداعة بن ضبيرة ، وجعل يرسل هجاء المسلمين ، ورثى قتلى بدر من المشركين فقال :
طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر يستهل ويدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم * لا تبعدوا ، إن الملوك تُصرَّع
نبئت أن الحارث بن هشامهم * في الناس يبنى الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما * يسعى على الحسب القديم الأروع
قال الواقدي . . فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة عنه وأظهروا المراثي ، وقد كانوا حرَّموها كيلا يشمت المسلمون بهم ! وجعل الصبيان والجواري ينشدونها بمكة ، فناحت بها قريش على قتلاها شهراً ، ولم تبق دار بمكة إلا فيها النوح ،
--------------------------- 45 ---------------------------
وجَزَّ النساء شعورهن ، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها ! وخرجن إلى السكك وضربن الستور في الأزقة ، فخرجن إليها ينحن » ! ورواه ابن هشام بنحوه : 2 / 564 والمقريزي في الإمتاع : 12 / 179 باثني عشر بيتاً .
وفى أسباب النزول / 62 : « وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه ، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا : لتكونن كلمتنا واحدة ، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ . . » .

3 . غزوة النبي « صلى الله عليه وآله » ليهود بنى قينقاع بضاحية المدينة

كان بنو قينقاع صاغة يعملون بالذهب ، وليس عندهم بساتين ، ولهم سوق الذهب المعروف قرب المدينة . وكان بنو النضير أصحاب زراعة وبساتين ، ويشبههم بنو قريظة . وعددهم جميعاً بضعة آلاف نسمة .
قال في إعلام الوري : 1 / 157 : « قال علي بن إبراهيم بن هاشم : جاءته اليهود قريظة والنضير والقينقاع « كل يهود المدينة » فقالوا : يا محمد إلى مَ تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، وإني الذي تجدوني مكتوباً في التوراة ، والذي أخبركم به علماؤكم أن مخرجى بمكة ومهاجرى في هذه الحرة ، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام . فقال : تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبي يبعث في هذه الحرة ، مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالكسرة ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، ويضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقي ، وهو الضحوك القتال ، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر .
فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة ، على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ، ولا نتعرض لأحد من أصحابك ، ولا تتعرض لنا ولا لأحد من أصحابنا ، حتى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك !
--------------------------- 46 ---------------------------
فأجابهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً : أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه ، بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار ، والله بذلك عليهم شهيد . فإن فعلوا فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حل من سفك دمائهم ، وسبى ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم !
وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة ، وكان الذي تولى أمر بنى النضير حيى بن أخطب . فلما رجع إلى منزله قال له أخواه جدى بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب : ما عندك ؟ قال : هو الذي نجده في التوراة ، والذي بشرنا به علماؤنا ، ولا أزال له عدواً ، لأن النبوة خرجت من ولد إسحاق وصارت في ولد إسماعيل ، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً !
وكان الذي ولى أمر قريظة كعب بن أسد ، والذي تولى أمر بنى قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنه النبي المبعوث فهلمَّ نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين ! فلم تجبه قينقاع إلى ذلك » .
قال الشافعي في الأم : 4 / 181 : « ولم تخرج « اليهود » إلى شئ من عداوته ( صلى الله عليه وآله ) بقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر ، فكلم بعضها بعضاً بعداوته والتحريض عليه » . لكن في الصحيح : 6 / 36 : « بدأ اليهود قبل بدر بالتحريض على الرسول والمسلمين والتعرض لهم بمختلف أنواع الأذي ، فكان أبو عفك اليهودي يحرض على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويقول فيه الشعر ، فنذر سالم بن عمير أن يقتله أو يموت دونه ، فذهب إليه فقتله . . ثم كانت حرب بدر ونتائجها المذهلة ، فزاد ذلك من مخاوف اليهود والمشركين والمنافقين على حد سواء ، فصعَّدوا من نشاطاتهم » . وعدَّد أنشطتهم ضد المسلمين فقال : 6 / 30 :
« 1 - قد أشار الجاحظ إلى أنهم شبَّهوا على العوام واستمالوا الضعفة ، ومالؤوا الأعداء والحسدة ، ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة . الخ . . .
2 - طرح الأسئلة الإمتحانية على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهدف تعجيزه ! ويلاحظ أن هذه المحاولات كانت تبذل من قبل مختلف قبائل اليهود .
--------------------------- 47 ---------------------------
3 - ولما فشلوا في محاولاتهم محاربة الإسلام على صعيد الفكر ، اتجهوا نحو أسلوب الضغط الاقتصادي على المسلمين فيذكرون أن رجالاً من أهل الجاهلية باعوا يهوداً بضاعة ثم أسلموا وطلبوا من اليهود دفع الثمن فقالوا : ليس علينا أمانة ، ولا قضاء عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ! وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ! فجاء في الآية المباركة الرد عليهم : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يؤَدِّهِ إِلَيكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يؤَدِّهِ إِلَيكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيسَ عَلَينَا فِى الآمِّيينَ سَبِيلٌ وَيقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يعْلَمُونَ .
4 - ممالأة أعداء الإسلام ومساعدتهم بكل ما أمكنهم ، ولو بالتجسس .
5 - محاربة الإسلام أيضاً عن طريق إثارة الفتن بين المسلمين ، ولا سيما بين الأوس والخزرج ، ونذكر على سبيل المثال قضية شاس بن قيس .
6 - تآمرهم على حياة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) وتحريضهم الناس عليه .
7 - محاولات إثارة البلبلة وتشويش الأوضاع ، بإشاعة الأكاذيب وتخويف ضعاف النفوس من المسلمين .
8 - تآمرهم مع المنافقين على الإسلام ، وممالأتهم قريشاً على حرب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
9 - تآمرهم لمنع المسلمين من الخروج للحرب ، وكانوا يجتمعون في بيت سويلم اليهودي لأجل تثبيط الناس عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . وقد صبر الرسول عليهم ، تفادياً لحرب أهلية في مقره الجديد . . حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبي » .
أقول : من طريف أخبار اليهود أن بني قريظة والنضير كانوا حلفاء الأوس ، وبنى قينقاع حلفاء الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حرب ، فكانت كل فئة من اليهود تحارب مع حلفائها فتقاتل إخوانها وتقتل منهم ! فوبخهم الله تعالى وقال لهم : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاتُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ ياتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ
--------------------------- 48 ---------------------------
وَهُوَمُحَرَّمٌ عَلَيكُمُ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْى فِى الْحَياةِ الدُّنْياوَيوْمَ الْقِيامَةِ يرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .
البقرة : 84 - 85 .

4 . سارع بنو قينقاع بعد بدر إلى نقض عهدهم

كانت هزيمة قريش في بدر صاعقة على اليهود ، فأسرع الحاخام كعب بن الأشرف إلى مكة لتقوية قلوب القرشيين ، ونشط في عداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهجائه حتى أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتله ! كما أعلن بنو قينقاع نقض عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأخذوا يستعدون لحربه ، وكانوا صاغة اليهود وأكثرهم ثروة ، ولهم سوق الذهب في ضاحية المدينة ، المعروف باسم : سوق بنى قينقاع . الحموي : 4 / 424 .
وكان رئيس بنى قينقاع الحاخام مخيريق رضي الله عنه ، ورأَّسوه عليهم لأنه من بنى النضير وهم وقريظة من ذرية هارون ( عليه السلام ) ، لكنهم لم يطيعوه لما دعاهم إلى الإيمان بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ونصحهم بعدم نقض عهدهم معه .
وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج وطرف حلفهم عبادة بن الصامت ، وكان من النقباء وخيار الصحابة ، وعبد الله بن سلول ، وكان رأس المنافقين من أهل المدينة ومن الذين في قلوبهم مرض ، أي الطبقة السياسية في المنافقين .
وكانت قريش تراسل ابن سلول وبنى قينقاع قبل بدر ، تحثهم على حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومما كتبته إليهم : « إنكم آويتم صاحبنا ، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لتخرجنه ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم » !
فلما بلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقيهم فقال : لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ! فلما سمعوا ذلك من النبي ( صلى الله عليه وآله ) تفرقوا . فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا إلى اليهود بعد وقعة بدر : إنكم أهل الحلقة والحصون ، وإنكم لتقاتلن صاحبنا ، أو لنفعلن كذا وكذا . أبو داود : 2 / 33 .
--------------------------- 49 ---------------------------
هنا سارع بنو قينقاع فنقضوا عهدهم وأخذوا يستعدون للحرب ، فنزل قوله تعالي : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . قَدْ كَانَ لَكُمْ آيةٌ فِى فِئَتَينِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رَأى الْعَينِ وَاللهُ يؤَيدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يشَاءُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِى الأَبْصَارِ .
وفى تفسير القمي : 1 / 97 : « لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من بدرأتى بنى قينقاع وهو يناديهم ، وكان بها سوق يسمى سوق النبط ، فأتاهم رسول الله فقال : يا معشر اليهود قد علمتم ما نزل بقريش ، وهم أكثر عدداً وسلاحاً وكراعاً منكم ، فأدخلوا في الإسلام فقالوا : يا محمد أإنك تحسب حربنا مثل حرب قومك ؟ ! والله لو لقيتنا للقيت رجالاً ! فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ » . ونحوه ابن إسحاق : 3 / 294 .
وفى إعلام الوري : 1 / 175 : « كانت غزوة بنى قينقاع يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة . وروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حاصرهم ستة أيام حتى نزلوا على حكمه . . خرجوا من المدينة ، ونزلوا أذرعات » .
فكانت غزوتهم بعد بضعة وعشرين يوماً من رجوع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من معركة بدر .
وفى سيرة ابن إسحاق : 3 / 295 : « كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر وأحد ، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه ، فقام اليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال : يا محمد أحسن في موالي ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عنه رسول الله فقال : يا محمد أحسن ، فأعرض عنه رسول الله ، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له رسول الله وغضب رسول الله ثم قال : ويحك أرسلني ، فقال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي ، أربع مائة حاسر وثلاث مائة دارع ، منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة ! إني والله امرؤ أخشى الدوائر ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هم لك » !
وفى الطبري : 2 / 173 : « فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم ، فأرسلوهم ، ثم أمر بإجلائهم وغَنَّمَ الله عز وجل رسوله والمسلمين ما كان لهم
--------------------------- 50 ---------------------------
من مال ، ولم تكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لهم سلاحاً كثيراً وآلة صياغتهم ، وكان الذي ولى إخراجهم من المدينة بذراريهم عبادة بن الصامت فمضى بهم حتى بلغ بهم ذباب وهو يقول : الأقصى فالأقصي » .
ونحوه الطبقات : 2 / 29 ، وفيه : « وجدوا في حصنهم سلاحاً كثيراً وآلة الصياغة ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صفيه والخمس ، وفض أربعة أخماس على أصحابه ، فكان أول خمسٍ خُمِّسَ بعد بدر » .

5 . رئيس بنى قينقاع خير بنى يهود

كان الحاخام مخيريق « رحمه الله » أغنى اليهود ، وقد وفقه الله للإسلام فقصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند وصوله إلى قباء وأسلم على يده ، ودعا قومه إلى الإسلام وأن ينصروه في أحد فأبوا ، فذهب إلى أحد بعد أن أوصى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بكل أمواله وكانت بساتين كبيرة وقاتل واستشهد في أحد رضي الله عنه .
قال في المناقب : 1 / 146 : « وكان مخرنق أحد بنى النضير حبراً عالماً أسلم وقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأوصى بماله لرسول الله وهو سبع حوائط وهي : المينب ، والصايفة ، والحسني ، ويرقد ، والعواف ، والكلاء ، ومشربة أم إبراهيم » .
وفى الإصابة : 6 / 46 : « كان عالماً وكان أوصى بأمواله للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى سبع حوائط . . . وشهد أحداً فقتل بها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : مخيريق سابق يهود ، وسلمان سابق فارس ، وبلال سابق الحبشة . . . فلما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أحُد قال لليهود : ألا تنصرون محمداً ؟ والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم ! فقالوا : اليوم يوم السبت ! فقال : لا سبت لكم ! وأخذ سيفه ومضى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فلما حضره الموت قال : أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء . . » .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 362 : « قال : لا سبت لكم ، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله . وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمواله فعامة صدقات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة منها » .
--------------------------- 51 ---------------------------
وقد أرى الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يوقف أموال مخيريق ، ويجعل ولايتها لابنته فاطمة الزهراء وذريتها « عليها السلام » ، وكذا نخل بنى النضير الذي أفاءه الله على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ولم يوجف عليه بخيل ولاركاب .
قال في فتح الباري : 6 / 140 : « فكان نخل بنى النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها . . . وبقى منها صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) التي في أيدي
بنى فاطمة رضي الله عنها » . لكن أبا بكر وعمر صادرا ه من الزهراء « عليها السلام » وصادرا فدكاً ، بحجة أنهما وليا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقالا إنهما يعطيان المأكل والمشرب لعترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !

6 . غزوة بنى النضير

لم يكتف بنو النضير وسيدهم كعب بخيانة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل حاولوا اغتياله ! فأمره الله تعالى أن يقتل كعباً وبعض شرارهم لينذرهم بذلك ، ثم يغزوهم .
« أجمعت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك ، وليخرج منا ثلاثون حبراً ، حتى نلتقى بمكان المنصف فيسمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالكتائب فحصرهم فقال لهم : إنكم والله لا تأمنون عندي ، إلا بعهد تعاهدوني عليه » . سنن أبي داود : 2 / 33 .
وفى الصحيح : 6 / 58 : « فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوقهم ، فجلست عند صائغ منهم لأجل حلى لها ، فأرادوها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ أو رجل آخر إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهى لا تشعر ! فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها ، فصاحت فوثب مسلم على من فعل ذلك فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستنصر أهل المسلم بالمسلمين فغضب المسلمون ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : ماعلى هذا أقررناهم ! فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم ، وقال : يا رسول الله أتولى الله ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار » .
--------------------------- 52 ---------------------------

7 . حاصر النبي « صلى الله عليه وآله » بنى النضير وانتصرعليهم بعلي « عليه السلام »

قال المفيد في الإرشاد : 1 / 92 ونحوه المناقب : 2 / 332 : « لما توجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بنى النضير عمل على حصارهم ، فضرب قبته في أقصى بنى خطمة من البطحاء فلما أقبل الليل رماه رجل من بنى النضير بسهم فأصاب القبة ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن تحول قبته إلى السفح ، وأحاط به المهاجرون والأنصار . فلما اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال الناس : يا رسول الله لا نرى علياً ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أراه في بعض ما يصلح شأنكم ! فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان يقال له عزورا ، فطرحه بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : كيف صنعت ؟ فقال : إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً ، فكمنت له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غِرة ، فأقبل مصلتاً سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود ، فشددت عليه فقتلته ، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريباً ، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم !
فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأمر أن تطرح في بعض آبار بنى حطمة ، وكان ذلك سبب فتح حصون بنى النضير . وفى تلك الليلة قتل كعب بن الأشرف . . « غير كعب المعروف » .
وفيما كان من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذه الغزاة وقتله اليهودي ، ومجيئه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) برؤوس التسعة النفر ، يقول حسان :
لله أي كريهة أبليتَها * ببنى قريظة والنفوس تطلَّعُ
أردى رئيسهم وآبَ بتسعة * طوراً يشلهم وطوراً يدفع »
وفى الصحيح : 8 / 92 تحت عنوان : الفتح على يد على ( عليه السلام ) : ما حاصله :
« كان لهذه الضربة تأثير كبير على معنويات بنى النضير ، وضج الرعب في قلوبهم فإن تصدى رجل واحد من المسلمين لعشرة منهم ، ثم قتل العشرة جميعاً ، يؤذن بأن
--------------------------- 53 ---------------------------
المسلمين قادرون على إبادتهم ، واستئصال شأفتهم بسهولة ويسر !
ويلاحظ أن شعر حسان ذكر أن هذه القضية وقعت في بني قريظة ، لكن الرواية تنص على حدوث ذلك في بنى النضير ، فيكون الخلل في الرواية لشعر حسان » .

8 . غرور بنى النضير عند جلائهم !

حكم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على بنى النضير بالجلاء عن المدينة بسبب خيانتهم وحربهم ، فهاجروا إلى درعا ، وتعمدوا أن يخرجوا بمظاهر الزينة والإحتفال !
قال في الصحيح ، ملخصاً : 8 / 174 : « فخرجوا ومعهم الدفوف والمزاميرتجلداً . . ثم شقوا سوق المدينة والنساء في الهوادج ، عليهن الحرير والديباج ، وقطف الخز الخضر والحمر ، قد صف لهم الناس فجعلوا يمرون قطاراً في إثر قطار ، فحملوا على ست مائة بعير . ومروا يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير . ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ورفع مسك الجمل : إن هذا المسك مملوء من الحلي . . نعده لخفض الأرض ورفعها ، فإن يكن النخل تركناه فإنا نقدم على نخل بخيبر .
فقد كان بنو النضير أهل جبروت وقسوة وبغى وعنجهية واعتداد بالنفس ، حتى إنهم ليظلمون إخوانهم من بني قريظة ، وهم أيضاً من بنى هارون ظلماً فاحشاً ، ومخالفاً لأحكام التوراة الصريحة ، وحتى لأحكام أهل الجاهلية ! واستقبلهم يهود خيبر بالنساء والأبناء والأموال ، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ، مارؤى مثله من حي من الناس في زمانهم » . وفى الصحيح : 8 / 142 : « تنص الروايات على أن الرجل من بنى النضير كان يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به » !

9 . بداية حشر اليهود بإجلاء بنى النضير

في تفسير القمي : 2 / 358 : « سورة الحشر مدنية آياتها أربع وعشرون : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سَبَّحَ للهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يخْرُجُوا . . .
--------------------------- 54 ---------------------------
سبب نزول ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود : بنو النضير وقريظة وقينقاع ، وكان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عهد ومدة فنقضوا عهدهم ، وكان سبب ذلك من بنى النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة ، يعنى يستقرض ، وكان قصد كعب بن الأشرف فلما دخل على كعب قال : مرحباً يا أبا القاسم وأهلاً ! وقام كأنه يضع له الطعام وحدث نفسه أن يقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويتبع أصحابه ، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك ، فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الأنصاري : إذهب إلى بنى النضير فأخبرهم أن الله عز وجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر ، فإما أن تخرجوا من بلدنا وإما أن تأذنوا بحرب !
فقالوا : نخرج من بلادك . فبعث إليهم عبد الله بن أبي ألا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمداً الحرب ، فإني أنصركم أنا وقومي وحلفاي ، فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم . فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيؤوا للقتال ، وبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع . فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكبر وكبر أصحابه ، وقال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : تقدم إلى بنى النضير ، فأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الراية وتقدم ، وجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأحاط بحصنهم . وغدر بهم عبد الله بن أبي ! وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم وخربوا ما يليه ، وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك ، وقالوا يا محمد : إن الله يأمرك بالفساد ؟ إن كان لك هذا فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه .
فلما كان بعد ذلك قالوا : يا محمد نخرج من بلادك وأعطنا ما لنا . فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياماً ، ثم قالوا : نخرج ولنا ما حملت الإبل ، فقال : لا ، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئاً فمن وجدنا معه شيئاً من ذلك قتلناه ، فخرجوا على ذلك ، ووقع قوم منهم إلى فدك ووادى القري ، وخرج منهم قوم إلى الشام ، فأنزل الله فيهم : هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيثُ
--------------------------- 55 ---------------------------
لَمْ يحْتَسِبُوا . . إلى قوله : شديد العقاب .
وأنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيخْزِى الْفَاسِقِينَ . . إلى قوله : رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ .
وأنزل الله عليه في عبد الله بن أبي وأصحابه : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يقُولُونَ لآخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ . . إلى قوله : ثُمَّ لا ينْصَرُونَ . ثم قال : مَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يعنى بنى قينقاع ، قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . ثم ضرب في عبد الله بن أبي وبنى النضير مثلاً ، فقال : كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِئٌ مِنْكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . . .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للأنصار : « إن شئتم دفعت إليكم فَيء المهاجرين منها ، وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم وتركتهم معكم ؟ قالوا : قد شئنا أن تقسمها فيهم ، فقسمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المهاجرين ودفعها عن الأنصار ، ولم يعط من الأنصار إلا رجلين : سهيل بن حنيف وأبو دجانة ، فإنهما ذكرا حاجة » .
وتقدم أن بنى النضير أخذوا ما حملت الإبل ، فلا بد أن يكون هؤلاء بنو قريظة .
وفى هذا الموضوع أربع مسائل :

المسألة الأولي : معنى حشر اليهود وهو موضوع السورة :

فقد سماه الله تعالى الحشر الأول ، ولا تجد في كلام المفسرين ما يقنعك بحشرهم الأول والثاني ! وغاية ما ذكروه أن الحشر الأول إجلاؤهم من الحجاز إلى الشام والثاني حشرهم في الآخرة من بلاد الشام أيضاً أو من عدن ! ورتبوا عليهما ما رووه من أن الشام أرض المحشر والمنشر ، وأن الناس يحشرون من عدن بنار تسوقهم إلى الشام أرض المحشر .
لكن يردُّه أن سورة الحشر نزلت في حشر بنى النضير ، وقد بدأ حشر اليهود ببنى قينقاع الذين أجلاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبلهم ؟ وأجابوا بأن بنى النضير أول من
--------------------------- 56 ---------------------------
حشروا إلى الشام ، ولا يصح ذلك لأن بنى قينقاع ذهبوا إلى أذرعات الشام ، وهى المعروفة اليوم بدرعا ، بينما ذهب أكثر بنى النضير إلى خيبر وقليل منهم إلى الشام !
والجواب المقنع : أن حشر اليهود الثاني يكون عند ظهور الإمام المهدى ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) ، ويعبر عنه بيوم الرجعة ، أي رجعة أهل البيت « عليهم السلام » . التفسير الأصفي : 2 / 1281 .
ويرتبط حشرهم بآيات إفسادهم في الأرض مرتين ، وقد كان إفسادهم الأول قبل الإسلام وانتهى بهزيمتهم وحشرهم الأول على يد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم كان إفسادهم الثاني بعد الإسلام وينتهى بحشرهم الثاني الذي قال عنه الله تعالى : وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرض فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا . الإسراء : 104 .
أما لماذا جعل الله تعالى إجلاء بنى النضير أول حشر اليهود وليس بنى قينقاع ؟ فقد يكون السبب أن بنى النضير كانت لهم أراض وبساتين فأجلاهم منها ، بينما كان بنو قينقاع صاغة وتجار ذهب ، وأن بنى النضير من ذرية هارون دون بنى قينقاع . فقد يكون للأرض ، أو لقادة بني إسرائيل ، دخلاً في بدء الإجلاء .
والجواب الأقوي : أن إجلاء اليهود وحشرهم بدأ ببنى قينقاع وتواصل ببقيتهم لكن الحكمة اقتضت تأخير نزول السورة التي ذكرت حشرهم إلى ما بعد إجلاء بنى النضير ، كما أجمع المفسرون ، أو بعد إجلاء بني قريظة كما هو محتمل ، ولعلها لو نزلت بعد إجلاء بنى قينقاع ، لأضر ذلك بخطة إجلاء الباقين .

المسألة الثانية : هل قطع النبي « صلى الله عليه وآله » نخل بنى النضير أو أحرقه ؟

ذكرت مصادر الجميع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر بقطع بعض النخلات من بساتين بنى النضير ، وقد تكون نخلات ملتفة تقع بين معسكره وحصونهم ، كانوا يتخذونها مخبأ لعمليات ليلية ، فقطع منها أو من سعفها الملتف بقدر الضرورة ، ويؤيده أنهم سموها البويرة أي الأرض الصغيرة التي كانت بوراً غير مغروسة ثم غرست .
لاحظ قول ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 170 : « ثم حاصرهم نيفاً وعشرين يوماً وأمر بقطع نخلات ، قوله : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ ، وهى البويرة في قول حسان » .
--------------------------- 57 ---------------------------
فالمقطوع هو نخلات قطعها المسلمون بإجازة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لغرض مشروع ! لكن رواة السلطة بالغوا في المسألة وصوروا الأمر كأنه إبادة منطقة نخيل واسعة ، وغرضهم أن يبرروا ما ارتكبه بعضهم في الفتوحات أو الحروب الداخلية من إحراق أشجار وبيوت ! لاحظ تضخيم البخاري : 5 / 23 : « حرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نخل بنى النضير وقطعه ، وهى البويرة ، فنزل : مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ » . وغرضه إثبات منقبة لبعض الصحابة كانوا بزعمه أعقل من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأرحم فنهوه عن ذلك !
قال السرخسي في المبسوط : 10 / 32 : « وأمر بقطع النخيل بخيبر حتى أتاه عمر فقال : أليس أن الله تعالى وعدك خيبر ؟ فقال : نعم . فقال : إذاً تقطع نخيلك ونخيل أصحابك ! فأمر بالكف عن ذلك ! ولما حاصر ثقيفاً أمر بقطع النخيل والكروم ، حتى شق ذلك عليهم » !
وفى السير الكبير : 1 / 55 : « قال الراوي : فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم : هذا مما قطع رسول الله ! والنطاة اسم حصن من حصون خيبر » !
وفى دلائل النبوة للبيهقي : 5 / 157 وسننه : 9 / 90 : « وزاد عروة في روايته قال : وأمر رسول الله المسلمين حين حاصروا ثقيفاً أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم ! فأتاه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله إنها عفاء لم تؤكل ثمارها ! فأمرهم أن يقطعوا ما أكلت ثماره الأول فالأول » !
كما رووا أن أبا بكر كان أعقل من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً فأوصى بأن لا يقطع الشجر ! فهي روايات موظفة لمدح عمر وأبى بكر ولو بالطعن بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ! تعويضاً لهما عن عدم مشاركتهما في قتال ! وهذا كافٍ لإسقاط الرواية .

المسألةالثالثة : لماذا جعل‌الله‌أرض بني‌النضير ملكاً خاصاً للنبي « صلى الله عليه وآله » ؟

نص القرآن على أن البلاد التي تفتح بدون قتال تكون ملكاً خاصاً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، قال تعالي : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيهِ مِنْ خَيلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يسَلِّطُ
--------------------------- 58 ---------------------------
رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . الحشر : 6 .
وفى المقنعة للمفيد / 278 : « الأنفال لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة في حياته ، وهى للإمام القائم مقامه من بعده خالصة ، كما كانت له عليه وآله السلام في حياته ، قال الله عز وجل : يسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ . وما كان للرسول من ذلك فهو لخليفته القائم في الأمة مقامه من بعده . والأنفال كل أرض فتحت من غيرأن يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، والأرضون الموات ، وتركات من لا وارث له من الأهل والقرابات ، والآجام ، والبحار ، والمفاوز ، والمعادن ، وقطايع الملوك . روى عن الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : نحن قوم فرض الله تعالى طاعتنا في القرآن ، لنا الأنفال ، ولنا صفو الأموال . يعنى بصفوها ما أحب الإمام من الغنائم واصطفاه لنفسه قبل القسمة ، من الجارية الحسناء والفرس الفارِهِ والثوب الحسن ، وما أشبه ذلك من رقيق أو متاع ، على ما جاء به الأثر من هذا التفسير عن السادة « عليهم السلام » » . وجواهر الكلام : 16 / 7 ، 117 ، 137 و 21 / 169 .
وقد اتفق المسلمون على أن أراضي بنى النضير خاصة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) دون غيره . ففي سنن أبي داود : 2 / 33 ، تاريخ المدينة : 1 / 173 وفتح الباري : 6 / 140 : « فكان نخل بنى النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها . . وبقى منها صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) التي في أيدي بنى فاطمة رضي الله عنها » .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 92 ونحوه المناقب : 2 / 332 : « واصطفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أموال بنى النضير ، فكانت أول صافية قسمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المهاجرين الأولين ، وأمر علياً ( عليه السلام ) فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقة ، فكان في يده أيام حياته ، ثم في يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعده ، وهو في ولد فاطمة « عليها السلام » حتى اليوم » .
أقول : يضاف إلى ما أجمع عليه فقهاؤنا ما روته مصادرنا : أن الله تعالى مَلَّكَ الأرض كلها لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) وبعده للإمام من أهل بيته « عليهم السلام » كقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله : خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة ، فما كان لآدم فلرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما كان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد « عليهم السلام » » . الكافي : 1 / 409 .
وفى الكافي : 1 / 407 ، عن أبي خالد الكابلي عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « وجدنا في كتاب
--------------------------- 59 ---------------------------
على ( عليه السلام ) أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ، ونحن المتقون والأرض كلها لنا ، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها . فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها ، فهو أحق بها من الذي تركها ، يؤدى خراجها إلى الامام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف ، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء ، جائز له ذلك من الله » . الكافي : 1 / 408 .
وقد صادروها بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم ردها عمر ، ثم صادروها وادعوا أنهم
أولى بها . . الخ .
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه الخطط السياسية / 311 :
1 - ترك رسول الله الحوائط السبعة اللاتي وهبهن له مخيريق .
2 - ما وهبه الأنصار إياه ، وهو كل ما ارتفع من أراضيهم الزراعية .
3 - أراضي بنى النضير الزراعية ونخيلها .
4 - ثمانية أسهم من مجموع : 36 سهماً من أراضي خيبر .
5 - أراضي وادى القرى الزراعية .
وبعد وفاة الرسول استولى عليها أبو بكر . جاء في مجمع الزوائد : 9 / 39 عن عمر ، أنه « لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله ! قال فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك . فقلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير !
قرارات اقتصادية لا بد منها : لإجبار الآل الكرام على الاحتكام للسلطة ، بغض النظر عن طبيعة القرارات التي ستصدر عنها .
--------------------------- 60 ---------------------------
1 - تجريد الآل الكرام من سلاح خطير وهو المال ، فإذا استعمله الآل الكرام ، فقد يؤلفون به قلوب المسلمين ويستميلونهم لصالح قضيتهم .
2 - ربط الآل الكرام بالسلطة الحاكمة ، وجعل رغيفهم بيد هذه السلطة ، لتضمن السيطرة الكاملة عليهم وتحييدهم وإلغاء دورهم كقيادة سياسية شرعية .
3 - عزل الآل الكرام شعبياً حتى تميل عنهم أعين الناس .
4 - الحيلولة العملية بين الآل الكرام والمطالبة بالجمع بين النبوة والخلافة .
تحقيق هذه الأهداف :
فقد فاوض الآل الكرام واحتكموا إلى السلطة ، فحكمت السلطة بتنفيذ قراراتها الاقتصادية ، وحرمانهم من التركة ومن المنح ومن سهم ذوى القربى ! وبموت فاطمة انصرف الناس عن علي فشق بنفسه طريق المصالحة وبايع هو وبنو هاشم وسلموا بالأمر الواقع ! فعساه أن يتمكن يوماً من اطلاع الأمة على الحقيقة المرة وأن يبصر الناس بالتقاطيع الأساسية للمنظومة السياسية الإلهية فيقارنوا بينها وبين ما حدث في التاريخ » !
من أين يأكلون بحق السماء ؟ !
قال في الخطط السياسية / 321 ، تحت هذا العنوان : مشكلة الآل الكرام الحقيقية أنه محظور عليهم أن يأخذوا الصدقة فهي محرمة عليهم ، لذلك خصهم الله تعالى بسهم ذوى القربى لتغطية هذه الناحية . هل يعيش الآل الكرام وأهل البيت عيش السوقة ؟ هل يتسولون الناس ؟ من أين يأكلون ؟
عن أنس بن مالك أن أبا بكر قال لفاطمة عندما سألته عن سهم ذوى القربى : أفَلَكِ هو ولأقربائك ؟ قالت نعم ، قال : لا ، أنفق عليكم منه . وقال مرة : السهم لكم في حال حياة النبي ، وبعد موته ليس لكم . و « في سنن الترمذي : 7 / 111 » أن أبا بكر قال : إني أعول من كان يعول رسول الله ، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه !
فالدولة إذاً هي تنفق على أهل بيت محمد بدليل قول أبى بكر : إن رسول الله قال لا نورث ما تركناه فهو صدقة ، أن يأكل آل محمد من هذا المال ، ليس لهم أن
--------------------------- 61 ---------------------------
يزيدوا على المأكل . فالحاكم يقدم لهم المأكل ولا يزيدون على المأكل ! فطوال التاريخ يجب على أهل البيت أن يرتبطوا بالحاكم الذي يقدم لهم المأكل ، ومن الحشمة وحسن الخلق أن يطيع الإنسان من يطعمه » ! راجع البخاري : 2 / 200 ،
أبا داود : 2 / 49 والنسائي : 2 / 179 .

المسألة الرابعة : مسجد الفضيخ وتحريم الخمر

قال في الصحيح : 8 / 186 ما حاصله : « قال اليعقوبي وغيره : في هذه الغزوة شرب المسلمون الخمر فسكروا فنزل تحريم الخمر . . قال في الروضة : إن غزوة بنى النضير سنة ثلاث : وإن تحريم الخمر بعد غزوة أحد . وروى القمي أنه لما نزل تحريم الخمر خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسجد فقعد فيه ، ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينتبذون فيها فأكفأها كلها وقال : هذه كلها خمر وقد حرمها الله . وكان أكثر شى أكفئ يومئذ من الأشربة الفضيخ فلذلك سمى المسجد بمسجد الفضيخ .
وأكثر من ذلك كله جرأة على الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ما رووه عن ابن عمر : أن النبي أتى بجرة فضيخ فلذلك سمى مسجد الفضيخ ! والفضيخ : عصير العنب وشراب يتخذ من التمر . ومسجد الفضيخ هو المعروف بمسجد رد الشمس .
ونقول : إن تحريم الخمر كان في مكة ، فإن صح شئ من هذه الرواية فلابد أن يكون الصحابة خالفوا حكم الله فيها وارتكبوا الحرام فنهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . وقد يكون أتى به فرفضه ونهى عنه » .

  • *
    --------------------------- 62 ---------------------------

الفصل الرابع والأربعون

تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة

1 - مكة قبل بيت المقدس قبلة آدم ونوح وإبراهيم « عليهم السلام »

منذ أن أسكن الله آدم ( عليه السلام ) وبنيه في الأرض ، أمرهم أن يتجهوا في صلاتهم إلى مركز في الأرض يسمى القبلة ، فكانوا يصلون إلى الكعبة ، فهي كما قال الله تعالى : إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . ثم جعل الله بيت المقدس قبلة لإبراهيم ( عليه السلام ) ، وأمره في نفس الوقت أن يجدد بناء الكعبة .
وعندما بعث الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أمره أن يتجه إلى قبلة جده إبراهيم ( عليه السلام ) لحكمة ، ثم أمره بعد هجرته أن يتجه إلى القبلة الأولى لأجداده آدم والأنبياء « عليهم السلام » ، وأنزل عليه : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ ينْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ .
وقد جعل اليهود قبلة إبراهيم ( عليه السلام ) قبلة قومية وتعصبوا لها وفضلوها على الكعبة ، مع أن الكعبة أقدم منها ، وقد جدد إبراهيم ( عليه السلام ) بناءها .
في الكافي : 4 / 239 قال زرارة « رحمه الله » : « كنت قاعداً إلى جنب أبى جعفر ( عليه السلام ) وهو محتبٍ مستقبل الكعبة فقال : أما إن النظر إليها عبادة ، فجاءه رجل من بجيلة يقال له : عاصم بن عمر فقال لأبى جعفر : إن كعب الأحبار كان يقول : إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة ! فقال أبو جعفر : فما تقول فيما قال كعب ؟ فقال : صدق ، القول ما قال كعب !
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : كذبت وكذب كعب الأحبار معك ، وغضب ! قال زرارة : ما رأيته
--------------------------- 63 ---------------------------
استقبل أحداً بقول كذبت غيره ! ثم قال : ما خلق الله عز وجل بقعة في الأرض أحب إليه منها ، ثم أومأ بيده نحو الكعبة ، ولا أكرم على الله عز وجل منها ، لها حرَّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض ، ثلاثة متوالية للحج : شوال وذو العقدة وذو الحجة ، وشهر مفرد للعمرة رجب » .

2 . الكعبة والأمة الوسط

قال الله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ ينْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّينَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يعْمَلُونَ . وَلَئِنْ أَتَيتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ . .
الَّذِينَ آتَينَاهُمُ الْكِتَابَ يعْرِفُونَهُ كَمَا يعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يعْلَمُونَ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيرَاتِ أَينَ مَا تَكُونُوا يأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . وَمِنْ حَيثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون . وَمِنْ حَيثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيثُ مَاكُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلايكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاتَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلأُتِمَّ نِعْمَتى عَلَيكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون . البقرة : 143 - 150 .
قال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة : 6 / 368 : « في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سألته هل كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلى إلى بيت المقدس ؟ قال نعم . فقلت أكان يجعل الكعبة خلف ظهره ؟ فقال أما إذا كان بمكة فلا ، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم ، حتى حُوِّل إلى الكعبة .
وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي بإسناده إلى الصادق أن
--------------------------- 64 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلى بمكة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة ، وبعد هجرته ( صلى الله عليه وآله ) صلى بالمدينة سبعة أشهر ، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة ، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويقولون له أنت تابعٌ لنا تصلى إلى قبلتنا ، فاغتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك غماً شديداً ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمراً ، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بنى سالم قد صلى من الظهر ركعتين ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ . الآية . فصلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة . وقال الصدوق في الفقيه . . ثم أخذ بيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحول وجهه إلى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أول صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة . وبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة ، فكانت أول صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين . فقال المسلمون : صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأنزل الله عز وجل : وَمَا كَانَ اللهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ . يعنى صلاتكم إلى بيت المقدس » .
أقول : وروينا ، أن تحويل القبلة كان في النصف من رجب في السنة الثانية للهجرة كما في مسارّ الشيعة للمفيد / 57 ، إقبال الأعمال : 3 / 254 وغيرهما .
وفى تهذيب الأحكام : 2 / 43 : « إن بنى عبد الأشهل أتوْهم وهم في الصلاة وقد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس فقيل لهم : إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة ، فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين . فلذلك سمى مسجدهم مسجد القبلتين » .
وروى في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 491 ، مناقشة اليهود للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في تغيير القبلة إلى الكعبة ، وفيه : « وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن ، أفحقاً كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل ، فإن ما يخالف الحق فهو باطل . أو باطلاً كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة ، فما يؤمننا أن تكون إلى الآن على باطل ؟
--------------------------- 65 ---------------------------
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « بل ذلك كان حقاً وهذا حق ، يقول الله : قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يهْدِى مَنْ يشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به ، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به ، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به ، فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم . ثم قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لقد تركتم العمل يوم السبت ، ثم عملتم بعده من سائر الأيام ، ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده ، أفتركتم الحق إلى الباطل أو الباطل إلى حق ، أو الباطل إلى باطل أو الحق إلى حق ؟ قولوا كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم ! قالوا : بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق » .

3 . ترك بنو أمية الكعبة وحججوا الناس إلى بيت المقدس !

لما سيطر ابن الزبير على الحجاز ، استغل موسم الحج لنشر أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بنى مروان ولعنهم ، فخاف عبد الملك بن مروان من ذلك فمنع الحج ، وأمر الناس أن يحجوا بدل مكة إلى بيت المقدس !
قال اليعقوبي : 2 / 261 : « فضج الناس وقالوا : تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا ؟ ! فقال لهم : هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس . وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام . وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة ! فبنى على الصخرة قبة ، وعلق عليها ستور الديباج ، وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وأقام بذلك أيام بنى أمية » ! !
فانظر إلى جرأة حكومات الخلافة على تحريف الإسلام ، والى ضعف دين المسلمين ومطاوعتهم لها ! وفى مقابل ذلك قام الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بنشاط واسع لتركيز مكانة الكعبة الشريفة ، وإحباط عمل السلطة ، كما وثقناه في سيرته ( عليه السلام ) .

  • *
    --------------------------- 66 ---------------------------

الفصل الخامس والأربعون

زواج النبي « صلى الله عليه وآله » بعائشة وحفصة

زوجات الأنبياء « عليهم السلام » فيهم الصالحات والطالحات

اعتقادنا أن كل أعمال النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر ربه ، فكما أنه لا ينطق عن الهوي ، لا يفعل عن الهوي ، وزواجه ( صلى الله عليه وآله ) كله بأمر ربه ، وحِكْمَته وأغراضه متعددة ، لجلب منفعة للرسالة أو دفع مفسدة عنها . لكنه لا يدل على اختيار إلهي لتلك الزوجة وأسرتها ، إلا إذا نص النبي ( صلى الله عليه وآله ) على ذلك . فلا قيمة لما تخيله البعض أو زعموه .
وقد بين الله عز وجل ذلك في المثل الذي ضربه لنساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بزوجتى نوح ولوط ، فقال : : ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ . وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ . التحريم : 10 - 12 .
فلا يصح الإستدلال على مدح نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقوله تعالي : وَالطَّيبَاتُ للَّطَّيبِينَ وَالطَّيبُونَ للَّطَّيبَاتِ ، لأن الآية تقصد أهل الجنة ، لا أهل الدنيا .
وقد روت عائشة في مدح نفسها كثيراً ، وادعت أن جبرئيل جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بصورتها على منديل حرير ، وقال له : « هذه زوجتك في الدنيا والآخرة » . « تاريخ بغداد : 11 / 221 » . ورووا أن جبرئيل طبع صورتها على كف النبي ( صلى الله عليه وآله ) » ! وشهد الذهبي بأنه مكذوب ، ميزان الإعتدال : 3 / 44 .
--------------------------- 67 ---------------------------
وقال الشيخ أبو رية في كتابه أبو هريرة شيخ المضيرة / 135 : « أسرع أبو هريرة فتبرع بحديث من كيسه يقول فيه : إن طول تلك الخرقة ذراعان وعرضها شبر » !
ونحن لانثق بأحاديث عائشة ، وحفصة خاصة في مدح نفسيهما وأسرتيهما ، ونعتقد أنه تزوجهما لمصلحة ، وأنهما عملتا ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتظاهرتا عليه بنص القرآن ، فأنزل الله فيهما : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ . عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيبَاتٍ وَأَبْكَارًا .
وأنهما عصتا الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) وشقتا عصا المسلمين ، وخرجت عائشة على إمامها ( عليه السلام ) ، وسببت قتل ألوف المسلمين ، وانقسام الأمة !

عائلتا عائشة وحفصة

اسمها عائشة بنت أبي بكر واسمه عتيق بن أبي قحافة ، وقبيلته بنو تيم بن مرة . وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل ، وقبيلته بنو عَدِي ، وهما من القبائل الصغيرة ، ولعل عدد تيم عند بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) نحو ثلاث مئة نفر ، وعدد قبيلة عدى لا يبلغ مئة . ولم يكن لهما موقع بين قبائل مكة ، ولذلك قال أبو سفيان لعلى ( عليه السلام ) عندما تفاجأ ببيعة أبى بكر كما في تاريخ الطبري : 2 / 449 : « ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً » !
وذكر المؤرخ ابن حبيب في المنمق / 80 ، أن بنى عدى سرقوا ناقة لبنى عبد شمس فطردوهم من مكة ! « فارتحلوا ، وتعرض بنو سهم لهم وأنزلوهم بين أظهرهم ، وقالوا : والله لاتخرجون ! وأم سهم بن عمرو الأَلُوف بنت عدى بن كعب ، فأقاموا وهم حلف بنى سهم » .
وقال ابن حبيب / 129 ، إنهم لقلتهم لم يكن لهم رئيس : « ولم يكن من قريش قبيلة إلا وفيها سيد يقوم بأمرها ويطلب بثأرها ، إلا عدى بن كعب » .
وكان مسكنهم خارج مكة في الحثمات ، وقد رأيت الحثمات قريباً من غار ثور ،
--------------------------- 68 ---------------------------
وهى صخرات سوداء كبار ليس بينها فسحة لنصب خيمة كبيرة .
قال البكري في معجمه : 2 / 425 : « الحثمة بفتح أوله وإسكان ثانيه : صخرات بأسفل مكة بها رَبْعُ عمر بن الخطاب » . ومعجم البلدان : 2 / 218 ولسان العرب : 12 / 115 .
وعليه ، فقد ولدت عائشة وحفصة ونشأتا في بيت عادى فقير ، ولاصحة لزعم عائشة بأن أباها كان ثرياً ، وأنه كان ينفق على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !

مبالغة عائشة في فضائل أبيها وثروته

أكثروا من روايات عائشة عن هجرة أبيها وثروته الطائلة ، وعن هجرتها وفضائلها هي . مع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صادف أبا بكر في طريق هجرته فأخذه معه ، وأمر علياً ( عليه السلام ) في الغار أن يشترى منه بعيراً لدليله ابن أريقط ، فاشتراه من أبى بكر ونقَّده الثمن أربع مئة درهم أو ثمان مئة كما روى ابن حجر ، ثم مات البعير في الطريق فاستأجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعيراً لدليله لبقية الطريق !
وعندما وصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى قباء أصرَّ عليه أبو بكر أن يدخل إلى المدينة فأبي ، فتركه من عصر ذلك اليوم وذهب إلى السنح فلا تسمع له خبراً في الهجرة !
أما عن ثروة أبى بكر : فكان في الجاهلية معلم صبيان وصار خياطاً . ولما ولى أمر المسلمين ، قال لهم : » إني أحتاج إلى القوت فجعلوا له في كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال . والنبي ( صلى الله عليه وآله ) كان قبل الهجرة غنياً بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش ، وبعد الهجرة لم يكن لأبى بكر شئ البتة . منهاج الكرامة / 187 .
وعندما استُخلف أبو بكر قال : « إن حرفتى لم تكن لتعجز عن مؤونة أهلي ، وقد شغلت بأمر المسلمين وسأحترف للمسلمين في مالهم ، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال » . « الطبقات : 3 / 184 » . فجعلوا له كل يوم درهمين ونصف شاة . « مغنى ابن قدامه : 11 / 377 » . ثم جعلوا له ألفي درهم في السنة : « فقال زيدونى فإن لي عيالاً ، وقد شغلتمونى عن التجارة ، فزادوه خمس مائة » . الطبقات : 3 / 184 .
وفى الطبقات : 3 / 186 : « فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر ، يغدو على
--------------------------- 69 ---------------------------
رجليه إلى المدينة ، وربما ركب على فرس له ، وعليه إزار ورداء ممشق ، فيوافى المدينة فيصلى الصلوات بالناس ، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح . فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى عمر بن الخطاب . وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة فيجَمِّع بالناس . وكان رجلاً تاجراً ، فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع ، وكانت له قطعة غنم تروح عليه ، وربما خرج هو نفسه فيها » .
قال في منهاج الكرامة / 187 : » أما إنفاقه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكذب ، لأنه لم يكن ذا مال ، فإن أباه كان فقيراً في الغاية وكان ينادى على مائدة عبد الله بن جدعان بمد في كل يوم يقتات به ! فلو كان أبو بكر غنياً لكفى أباه » .
أقول : تبارت أسماء بنت أبي بكر مع أختها عائشة في الحديث عن ثروة أبيهما التي حرمهم إياها وأنفقها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالت أسماء « مسند أحمد : 6 / 350 » : « لما خرج رسول الله وخرج معه أبو بكر ، احتمل أبو بكر ماله كله معه ، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم ، قالت : وانطلق بها معه ، قالت : فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره ، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ! قالت قلت : كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً ، قالت فأخذت أحجاراً فتركتها فوضعتها في كوة لبيت كان أبى يضع فيها ماله ، ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال ! قالت : فوضع يده عليه فقال : لا بأس ، إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفى هذا لكم بلاغ . قالت : ولا والله ما ترك لنا شيئاً ، ولكني قد أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك » ! ورواه الحاكم : 3 / 5 والزوائد : 6 / 59 وصححاه ، واعتمده أئمتهم كالشاطبي ، فقال في الإعتصام : 2 / 201 : « فإنه هاجر بجميع ماله وكان خمسة آلاف » .
ثم إن أسماء بنت أبي بكر كانت عند الهجرة في المدينة ، فقد هاجرت مع زوجها الزبير وكانت حاملاً بعبد الله ، وولدته في قباء عندما وصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ومن جهة أخري : رووا في % صحيح مسلم : 6 / 117 : « بينا أبو بكر قاعد وعمر
--------------------------- 70 ---------------------------
معه إذ أتاهما رسول الله ( صلى % الله عليه وآله ) فقال : ما أقعدكما هاهنا ؟ قالا : أخرجنا الجوع من بيوتنا »
وفى % الترغيب والترهيب : 3 / 148 : « فانطلقوا حتى % أتوا باب أبى % أيوب الأنصاري % فأطعمهم » ! وقال الرازي % في % تفسيره : 4 / 169 : « وأما الجوع فقد أصابهم في % أول مهاجرة النبي % إلى % المدينة لقلة أموالهم » .
فأين صارت ثروة أبى % بكر جد الفخر الرازي ، وهل ضاعت في % طريق الهجرة ؟ ! فالصحيح أن الجائعين كانا الشيخين وكان النبي % ( صلى % الله عليه وآله ) مدة سنة في % بيت أبى % أيوب « رحمه الله » .
أما عائشة فرفعت سقف ثروة أبيها وجعلتها خيالية فتحير فيها علماء السلطة ! قالت كما في % سنن النسائي : 5 / 358 « : « فخرتُ بمال أبى % في % الجاهلية ، وكان ألف ألف أوقية ! فقال النبي % ( صلى % الله عليه وآله ) « عليهم السلام » أسكتى % يا عائشة فإني % كنت لك كأبى % زرع لأم زرع ! ثم أنشأ رسول الله ( صلى % الله عليه وآله ) يحدث أن إحدى % عشرة امرأة اجتمعن في % الجاهلية ، فتعاهدن لتخبرن كل امرأة بما في % زوجها ولا تكذب ، فتحدثت كل منهن بمدح أو ذم ، وكانت آخرهم أم زرع فمدحته ، وذكرت أنه تزوج عليها ثم طلقها فتزوجت شاباً وأعطاها كثيراً ، لكنها بقيت تمدح أبا زرع وتفضله عليه ، فقالت عائشة في % آخر الحديث : « قلت : يا رسول الله بل أنت خير من أبى زرع » . وروته مصادرهم ووثقه علماؤهم أو صححوه ، كتهذيب الكمال : 23 / 392 ، ميزان الإعتدال : 3 / 375 ، مجمع الزوائد : 4 / 317 ، فتح الباري :
9 / 222 ، تاريخ بخارى الكبير : 1 / 224 ، تهذيب الكمال : 21 / 416 ، تهذيب التهذيب : 8 / 325 ، سنة ابن أبي عاصم / 225 ، إعانة الطالبين : 4 / 199 والطبراني الكبير : 23 / 174 .
وتبلغ الأوقية في ذلك الوقت أربعين درهماً ، وفى زمن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ألف درهم ، « الأوزان والمقادير / 16 » فتكون ثروة أبى بكر حسب قول عائشة ألف مليون درهم ، وهو أمرٌ غير معقول ! ولهذا اضطر الذهبي إلى معالجة هذه الكذبة فحذف منها صفراً ! قال في سيره : 2 / 185 : « وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة فإنه يكون أربعين ألف درهم ، وفى ذلك مفخر لرجل تاجر ، وقد أنفق ماله في ذات الله ، ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم ، فأخذها صحبته . أما ألف ألف أوقية فلا تجتمع إلا لسلطان كبير » .
والصحيح أن الألف الثانية أيضاً زائدة ، ولا يمكن فصلها عن أختها لأن علماءهم
--------------------------- 71 ---------------------------
تلقوا الخبر وصححوه برواية : ألف ألف أوقية !
كما تبرع الذهبي بأن أبا بكر أنفق المليون درهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة ، لأن ذلك لم يروه أحد حتى في صاع حنطة في سنوات حصارهم في الشعب ! ولا بدراهم يسيرة أعطاها لمسلم ، إلا ما زعموه من شرائه لبلال ، ولم يثبت ، أما ما زعموه من إنفاقه على ابن خالته مسطح ، فقد كان يعمل معه .
قال الأميني « رحمه الله » في الغدير : 8 / 50 : ونضدت له « عائشة » ثلاث مائة وستين كرسياً في داره ، وأسدلت على كل كرسي حلة بألف دينار ، كما سمعته عن الشيخ محمد زين العابدين البكري ، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمل من لوازم وآثار وأثاث ورياش ، ومناضد وأوانى وفرش ، لا تقصر عنها في القيمة ! وما يلزم من خدم وحشم ، وقصور شاهقة وغرف مشيدة ، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواش وضيع وعقار ، إلى غيرها من توابع !
من أي حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل الرجل على مليون أوقية من النقود ؟ وكان يومئذ يوم فاقة لقريش ، وكانوا كما وصفتهم الصديقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبا بكر والقوم معه : كنتم تشربون الطَّرَق ، وتقتالون الوَرق ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله ( صلى الله عليه وآله ) » !
وقال المفيد « رحمه الله » في الإفصاح / 229 ، ما خلاصته : « لو كان للرجلين فضل حسب ما ادعيتموه لوجب أن تأتى به الأخبار وترويه نقلة السير والآثار ، بل وجب أن يظهر على حد يوجب علم اليقين ، لأن جميع الدواعي إلى انتشار فضائل الرجلين متوفرة ! ألا ترى أنهما كانا أميري الناس ، وكان المُظهر لولايتهما من زمانهما إلى هذه الحال هو الظاهر على عدوه ، والمظهر لعداوتهما مهدور الدم أو خائفاً مطروداً عن البلاد ! حتى صار القتل مسنوناً لمن أظهر ولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإن كان مظهراً لمحبة أبى بكر وعمر ! ومن تبرأ من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حكموا له باعتقاد السنة وولاية أبى بكر وعمر وعثمان ، ونال القضاء والشهادات والإمارات ، وقربت منازلهم من خلفاء بنى أمية وبنى العباس بالعصبيه لهؤلاء والدعاء إلى
--------------------------- 72 ---------------------------
إمامتهم ، والتخرص بما يضيفونه إليهم من الفضل الذي يخالف القرآن وتنفيه السنة ، ويستحيل في العقول » !
وأما عمر فكان أفقر من أبى بكر : فقد حدث عن نفسه أنه كان يرعى بعيراً لأبيه ولا يعطيه قوته ! قال عمر ، تاريخ المدينة لابن شبة 2 / 655 : « لقد رأيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان ، وكان والله ما علمت فظاً غليظاً . . وأنا في إبل للخطاب ، أحتطب عليها مرة وأختبط عليها أخري ! آتى بالخَبْط وهو ورق الشجر . »
وفى كنز العمال : 4 / 589 : « أخذ عمر يحدث عن نفسه فقال : لقد رأيتني وأختاً لي نرعى على أبوينا ناضحنا قد ألبستنا أمنا نقبتها ، وزودتنا من الهينة فنخرج بناضحنا فإذ طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي وخرجت أسعى عرياناً فنرجع إلى أمنا وقد جعلت لنا لعبة من ذلك الهينة فياخصباه » !
أي صنعت لهم طعاماً عصيدة من حب الحنظل على شكل هِينَة ، وهى الزَّنَمَة المدلاة تحت فم الماعز كالأصابع . الفائق : 3 / 405 وشرح النهج : 12 / 20 .
وعندما كبر عمر صار مبرطشاً . ففي النهاية لابن الأثير : 1 / 119 : « وهوالدلال أو الساعي بين البائع والمشتري ، وورد في الحديث كان عمر رضى الله تعالى عنه في الجاهلية مبرطشاً ، أي كان يكترى للناس الإبل والحمير ويأخذ عليه جعلاً ، أو هو بالسين المهملة كما ذهب إليه ابن دريد » . وتاج العروس : 9 / 58 ولسان العرب : 6 / 26 .

كم كان عمر عائشة لما تزوجها النبي « صلى الله عليه وآله »

روت في زواجها لا تصح ، فقد قالت إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عقد زواجه عليها وعمرها ست سنين ، وتزوجها وعمرها تسع سنين ، لكنهم قالوا إنها أصغر من أختها أسماء بعشر سنين : « عن ابن أبي الزناد أن أسماء بنت أبي بكر كانت أكبر من عائشة بعشر سنين » . البيهقي : 6 / 204 ، سير أعلام النبلاء : 3 / 380 ، تاريخ دمشق : 69 / 10 وسبل السلام : 1 / 39 .
وفى تهذيب الأسماء : 2 / 597 : « ولدت أسماء قبل هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بسبع وعشرين سنة ، وكان لأبيها أبى بكر حين ولدت إحدى وعشرون سنة » .
--------------------------- 73 ---------------------------
ومعناه أن عمر عائشة كان سبع عشرة سنة ، فأين الست سنين والتسع ؟ !
ومن ناحية ثانية ، كان عمر أبيها لما ولدت أسماء إحدى وعشرون سنة ، فعمره لما ولدت عائشة إحدى وثلاثون ، وعمره لما هاجر ست وخمسون لأنهم قالوا إنه أكبر من النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاث سنين ، فيكون عمر عائشة عند الهجرة خمساً وعشرين .
فأين الست سنين والتسع ؟ !
ومما يؤيد أن سن عائشة أكبر مما قالت سن أمها أم رومان فقد كانت في الجاهلية زوجة ابن سخبرة وولدت له الطفيل ، وجاؤوا من الأردن مع ابنهما وغلامهما ابن فهيرة وسكنوا في مكة ، ومات زوجها ابن سخبرة ، فتزوجها أبو بكر وولدت له ولدين : عبد الرحمن وعائشة ولم تلد له بعدهما ويبدو أنها بلغت سن اليأس ، وكان عبد الرحمن في بدر مع المشركين فطلب أن يبارزه أبوه فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما رووا : متعنا بنفسك يا أبا بكر . فلا بد أن يكون عبد الرحمن في العشرينات أوالثلاثينات ، وعائشة بعده مباشرة ، فأين الست سنوات والتسع ؟ !
النهاية : 8 / 95 ، الحاكم : 3 / 474 ، الحلبية : 2 / 414 ، البيهقي : 8 / 186 و 6 / 204 ، الإستيعاب 2 / 824 و 616 وسبل السلام : 1 / 39 . راجع في ابن سخبرة : الطبقات : 8 / 276 ، التعديل والتجريح : 3 / 1155 ، تهذيب الكمال : 13 / 389 ، تهذيب التهذيب : 8 / 149 والإصابة : 3 / 421 ، 4 / 117 و 8 / 391 .

ادعت عائشة أنها لم تتزوج قبل النبي « صلى الله عليه وآله »

لكن روى ابن سعد : 8 / 59 بسند صحيح عندهم : « خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عائشة بنت أبي بكر الصديق فقال : إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير ، فدعني حتى أسلها منهم ، فاستسلها منهم فطلقها ، فتزوجها رسول الله » .
وفى الطبراني الكبير : 23 / 26 : « وكان أبو بكر قد زوجها جبير بن مطعم فخلعها منه » .
وفى صفة الصفوة : 2 / 15 والمنتظم : 5 / 302 : « دعني حتى أسلها من جبير سلاً رفيقاً » .
يضاف اليه أنها كانت تكنى أم عبد الله ، فقد يكون لها ولد من مطعم بن جبير اسمه عبد الله ومات . روى البيهقي : 9 / 311 : « أنها قالت : يا رسول الله ألا تكنينى
--------------------------- 74 ---------------------------
فكل نسائك لها كنية ؟ فقال : بلى إكتنى بابنك عبد الله ، فكانت تكنى أم عبد الله . وفسروا ذلك بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قصد ابن أختها عبد الله بن الزبير ، لكن لم يعهد أن امرأة من العرب تكنت بابن أختها ! وروى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لها تَكَنَّي ، والصحيح أنها هي التي طلبت منه كنية ، وغرضها أن يسمى لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولداً حتى ترزقه ! أحمد : 6 / 186 ، الحاكم : 4 / 278 ، الطبراني الكبير : 23 / 18 ، الطبقات : 8 / 66 ، مفرد البخاري / 183 وغيرها .

عائشة أكثر نساء النبي « صلى الله عليه وآله » كلاماً

وأكثرهن إثارة للجدل ! فقد أثارت بأقوالها وأفعالها إشكالات وأسئلة عجز عن جوابها محبوها ، ومن أولها خروجها على الخليفة الشرعي وشقها عصا المسلمين ، وإشعالها حرب الجمل التي قتل فيها ألوف بدون سبب ، وقد هزمت فيها شر هزيمة ورجعت مملوءة غيظاً ! وكانت تقول : « إن يوم الجمل لمعترض في حلقي ، ليتني متُّ قبله أو كنت نسياً منسياً » ! مسند ابن راهويه : 2 / 34 .
ثم يعجزون عن تبرير إرسالها بضعة رجال إلى أختها وزوجة أخيها ، لترضع الواحد منهم ، فيصيرمحرماً عليها كما تزعم ، ويدخل عليها مع أنه أجنبي !
وكانت تحتجب عن الحسن والحسين « عليهما السلام » مع أنهما من محارمها ! ولم تزر فاطمة « عليها السلام » في مرضها ، وقد زارها أبو بكر وعمر !
ثم يعجزون عن تفسيرمدحها المفرط لنفسها ، وحديثها عن ملبسها ومأكلها ونومها ويقظتها وجمالها وفضلها على نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وادعت أنها كانت أحبهن اليه ( صلى الله عليه وآله ) ، كما تحدثت بابتذال عن أمورها الشخصية مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ثم مدحت أمها بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعا المسلمين إلى أن يتفرجوا عليها ، فقال : « من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين ، فلينظر إلى أم رومان ! الطبقات : 8 / 277 .
وقال الحشوية إنها تقصد أن يتأملها بعين البصيرة لا البصر . فيض القدير : 6 / 197 .
وقد رأت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تولى دفن فاطمة بنت أسد ونزل في قبرها وقال إنها أمي ! فقالت إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نزل في قبر أمها أم رومان ! الإصابة : 8 / 392 .
--------------------------- 75 ---------------------------

حَكَمَتْ عائشة في دولة أبيها !

وصادرت قبرالنبى ( صلى الله عليه وآله ) وقالت إنه أعطاها المكان الذي دفن فيه ، فهو غرفتها . وأخذت امتيازات مالية ومعنوية كثيرة ، واستمرت على هذه الحالة في حكم عمر فكان يعطيها سنوياً مبلغاً كبيراً ، ويهديها هدايا كثيرة ، فصارت من أثرياء الصحابة واشترت بيتاً كبيراً في المدينة ، ثم باعته إلى معاوية بمئة وثمانين ألف درهم وقيل بمئتى ألف ، الطبقات : 8 / 165 . راجع جواهر التاريخ : 3 .

قطع عثمان مخصصاتهما فثارتا عليه

ولما قطع عثمان مخصصاتهما جاءتاه معترضتين فقال : « لا أجد لك موضعاً في الكتاب ولا في السنة ، وإنما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما ، وأنا لا أفعل ! قالت له : فأعطني ميراثي من رسول الله » . أمالي المفيد / 125 .
« وكان متكئاً فجلس وقال : ستعلم فاطمة أي ابن عم لها أنا اليوم ! ثم قال لهما : ألستما اللتين شهدتما عند أبويكما ولفقتما معكما أعرابياً يتطهر ببوله ، مالك بن أوس بن الحدثان ، فشهدتما معه أن النبي قال : لا نورث » . المسترشد / 508 .
وفى كتاب سُليم بن قيس / 242 : « لا والله ولا كرامة لكما ولا نَعِمْتُ عنه ! ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما ، فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله يقول : النبي لا يورث ، ما ترك فهو صدقة ! ثم لقنتما أعرابياً جلفاً يبول على عقبيه ويتطهر ببوله » مالك بن أوس بن الحدثان « فشهد معكما ! ولم يكن في أصحاب رسول الله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي . « أما والله ما أشك أنه قد كذب على رسول الله وكذبتما عليه معه ، ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما ! فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه » !
وفى رواية الجوهري في السقيفة : 82 ، وشرح النهج : 9 / 5 ، أنهما تكلمتا في المسجد تحركان الناس على عثمان فقال : « إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما ، وأنا بأصلهما
--------------------------- 76 ---------------------------
عالم ! فقال له سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله ؟ فقال : وفيم أنت وما هاهنا ، ثم أقبل نحو سعد عامداً ليضربه ، فانسل سعد من المسجد » .
وأصرت عائشة وحفصة على ادعاء إرثهما من النبي ( صلى الله عليه وآله ) لتبرير دفن أبويهما في ملكه ( صلى الله عليه وآله ) ! فكان الشيعة يحتجون عليهما . ومن أمثلة احتجاجهم ما رواه في الفصول المختارة / 74 ، أن الفضال بن الحسن بن فضال مرَّ على أبي حنيفة : « وهو في جمع كثير يملى عليهم شيئاً من فقهه وحديثه ، فقال لصاحب كان معه : والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة ! فقال صاحبه : إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله ومنزلته وظهرت حجته ، فقال : مه هل رأيت حجة كافر علت على مؤمن ؟ ثم دنا منه فسلم عليه فرد ورد القوم بأجمعهم السلام . فقال : يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخاً يقول : إن خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب وأنا أقول : إن أبا بكر خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبعده عمر ، فما تقول أنت رحمك الله ؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال : كفى بمكانهما من رسول الله كرماً وفخراً ، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره ، فأي حجة أوضح لك من هذه ؟ فقال له فضال : إني قد قلت ذلك لأخي فقال : والله لئن كان الموضع لرسول الله دونهما ، فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق ، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد أساءا وما أحسنا إليه ، إذ رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما ! فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال قل له : لم يكن لهما ولا له خاصة ، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما . فقال له فضال : قد قلت له ذلك فقال : أنت تعلم أن النبي مات عن تسع حشايا ، فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع ، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر ، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك ، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفاطمة ابنته تمنع الميراث ؟ فقال أبو حنيفة : يا قوم نحوه عنى فإنه والله رافضي خبيث » !
--------------------------- 77 ---------------------------

زعمت أن النبي « صلى الله عليه وآله » جعل الخلافة لأبيها وأولاده !

فقد وضعت حديثاً مقابل حديث : إيتونى بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً . . فقالت : « قال لي رسول الله في مرضه : أدعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولي » . مسلم : 7 / 110 وأحمد : 6 / 144 .
ورواه بخاري : 7 / 8 و 8 / 126 بلفظ : « أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه وأعهد ، أن يقول القائلون ، أو يتمنى المتمنون » .
وقال ابن حجر : 1 / 186 و 13 / 177 : « أفرط المهلب فقال فيه دليل قاطع في خلافة أبى بكر ، والعجب أنه قرر بعد ذلك أنه ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يستخلف » !
أما عبد الرحمن بن أبي بكر فصرح أكثر من أخته فقال : « قال رسول الله : إئتونى بكتاب وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً » . مجمع الزوائد : 5 / 181 .
أي ليكتب الخلافة لأبى بكر وبنيه ! ولم يذكروا سبباً مقنعاً لعدم كتابة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الخلافة لهم ! ولم يذكروا هل قال أحدٌ إن نبيكم يهجر ، لا تقربوا له شيئاً ، حسبنا كتاب الله ! ولم يذكروا أن الصحابة لغطوا واختلفوا ، فطردهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : قوموا عني !
إن حديث عائشة في مسلم والبخاري يفسرلنا المقصود النبوي بالحديث المتواتر : إيتونى بدواة وقرطاس . ولا يدع مجالاً للشك بأن هذه الأحاديث وضعوها مقابله !
وقد عملت عائشة ليكون أخوها عبد الرحمن خليفة ، فقتله معاوية ، ثم عملت ليكون ابن عمها طلحة خليفة ، فقتله مروان في معركة الجمل .
ثم كانت تمدح موسى بن طلحة ، الذي ادعى أنه المهدى الموعود ، وأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، ولكنه لم يصل إلى شئ ، ولم يملأ شيئاً !

واشتهرت عائشة بجرأتها على النبي « صلى الله عليه وآله »

من ذلك قولها له ( صلى الله عليه وآله ) : « ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك » ! البخاري : 6 / 24 .
وقالت له مرة في كلام غضبت عنده : أنت الذي تزعم أنك نبي الله ! وقالت
--------------------------- 78 ---------------------------
له مرة : ما تشبع من أم سلمة ! وكانت تتفقده وتعقبته ليلة لما ذهب إلى زيارة البقيع . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يصلى وهى نائمة معترضة بين يديه ، أو مادة رجلها .
وزعمت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سُحر فكان يتخيل أنه قاربها ولم يقاربها !
وقالت : مرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بيتي فمرضته وقبض ولم يشهده غيرى والملائكة !
وقالت : سلَّمَ جبرئيل على وبلغنى سلام الله !
وقالت : إنها رأت جبرئيل ( عليه السلام ) ، ولم تره امرأة غيرها .
وقالت : نزل الوحي على رسول الله وهى معه في لحاف واحد .
وقالت : صُوِّرت لرسول الله قبل أن أصور في رحم أمي !
وقالت : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقاربها وهى حائض !
وقالت إن آية رضاع الكبير كانت تحت سريرها فأكلتها السخلة .
وكانت تكره علياً والعباس فقالت : قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من أراد أن ينظر إلى رجلين من أهل النار فلينظر اليهما ! راجع المراجعات / 325 .

وكانت معجبة بطلحة التيمي وابنه موسي

كان طلحة يأتيها فيجلس معها فنهاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأجابه طلحة بخشونة وجاهلية ! ثم قال : لئن مات محمد لأتزوجن عائشة ! « فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » لاتقومن هذا المقام بعد يومك هذا ! فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمى والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي ! قال النبي : قد عرفت ذلك . إنه ليس أحد أغْيرُ من الله وإنه ليس أحد أغْير مني ! فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمى لأتزوجنها من بعده ! فأنزل الله هذه الآية : وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا » . سنن البيهقي : 7 / 69 ، الدر المنثور : 5 / 214 .
ثم عملت ليكون طلحة الخليفة بعد عثمان ، فتفاجأت ببيعة المسلمين لعلى ( عليه السلام ) ! فقالت : وددتُ أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا ! وكانت في الطريق إلى المدينة فرجعت إلى مكة وضربت خيمتها في حجر إسماعيل ، وأخذت تُخذِّلُ الناس
--------------------------- 79 ---------------------------
عن بيعة على ( عليه السلام ) ، وأعلنت أن عثمان قتل مظلوماً وأنها ستطلب بدمه ! والتحق بها طلحة والزبير في مكة ، وأرسلوها لأم سلمة لتخرج معهم على على ( عليه السلام ) ! فنهتها أم سلمة وحذرتها وأقامت عليها الحجة فوعدتها أن لاتذهب ، ثم ذهبت راكبةً على الجمل الأدبب كما أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى وصلت إلى الحوأب فنبحتها كلابها كما أخبر ( صلى الله عليه وآله ) فقالت ردوني فشهدوا لها بأن المكان ليس الحوأب !
وروى الجميع تحذيرات النبي ( صلى الله عليه وآله ) للمسلمين من فتنتها ، فقد روى البخاري أنه ( صلى الله عليه وآله ) أشار إلى بيتها وقال : هاهنا الفتنة ! وقال لها عندما شكت من وجع رأسها : ماضرك لو متِّ قبلي ! وحذرها أن تكون التي تخرج فتنبحها كلاب الحوأب . وكان سعيد بن العاص معها فلما نبحتها كلاب الحوأب رجع .

أدارت عائشة معركة الجمل سبعة أيام

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن جند المرأة ، والقاسطين ، وأهل النهروان ، ملعونون على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وأرسل ابن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة للمفاوضة ، فقالت ليس بيني وبينه إلا السيف ، مغترة بكثرة جيشها وقلة جيش على ( عليه السلام ) . وخرجت راكبة الجمل الأدبب تعبئ أصحابها ! وانسحب الزبير وقتل طلحة قبل بدء المعركة ، وبقيت وحدها ، وأدارت المعركة سبعة أيام ! وفى اليوم السابع نشر على ( عليه السلام ) راية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهزمهم وسقط الجمل ، فأرسل أخاها محمداً فحملها من ساحة المعركة ، وأعلن العفو العام ومنع أن يعتدى على أحد ، وزارها في منزلها ، ثم أعادها إلى المدينة يحرسها نساء ملثمات وهى تحسبهن رجالاً !
وقالوا إنها ندمت وتابت ، ومدحت علياً ( عليه السلام ) لكن لما جاءها خبر قتله سجدت شكراً لله ! فاستنكرت عليها زينب بنت أم سلمة فقالت : إذا نسيت فذكروني !

قتل معاوية أخويها وسَكَّتَها

لما جاءها خبر قتل معاوية لأخيها محمد بن أبي بكر في مصر وإحراق جثته ، بكت عليه ولعنت معاوية وعمرو بن العاص ! وزاد من غيظها أن ضرتها أم
--------------------------- 80 ---------------------------
حبيبة أخت معاوية أرسلت لها كبشاً مشوياً وقالت : هكذا فعلنا بأخيك محمد ! فلم تأكل عائشة شواء كل عمرها !
لكن معاوية استرضاها بالمال فسكتت عن قتله لأخيها ، ثم ساءت علاقتها به لما أراد أن يأخذ البيعة ليزيد ، ودعا مروان في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيعة يزيد فوقف عبد الرحمن بن أبي بكر في وجهه وتشاتما ، فأمر مروان الشرطة بأخذه فهرب إلى غرفة عائشة ، فخرجت إلى المسجد وشتمت مروان ، وهرَّبت أخاها من المدينة ، فقتلوه بالسم قرب مكة .
ثم أرضاها معاوية بالمال فسكتت عن قتله لأخيها الثاني ، وفى مسند أحمد : 4 / 92 : « عن سعيد بن المسيب أن معاوية دخل على عائشة فقالت له : أما خفت أن أُقعد لك رجلاً فيقتلك ؟ فقال : كيف أنا في الذي بيني وبينك ، حوائجك ؟ قالت : صالح . قال : فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عز وجل » .
وتوفيت في عهد معاوية سنة 57 ، وقيل قتلها بالسم ، وقيل وقعت في بئر حفره لها في طريقها ، وكانت تصيح وهى تحتضر : إني أحدثت بعد رسول الله فلا تدفنونى عنده ! يا ليتني لم أخلق ، لوددت أنى كنت مدرة ، ولم أكن شيئاً مذكوراً ! ودفنت في البقيع ، وصلى عليها أبو هريرة .

نقاط عن حفصة زوجة النبي « صلى الله عليه وآله »

كان أبو بكر وعمر يعملان للتقرب السياسي من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أكثر من جميع أصحابه ، ولكن الله عز وجل أمره أن لايصطدم بأصحابه ، وأن يترك الأمور تجرى بشكل طبيعي ، لتجرى مقادير الله وقوانينه في هداية الأمم وضلالها .
وقد رأى عمر أن زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من عائشة امتيازٌ مهم لأبى بكر ، ولم تكن عنده بنت ليعرضها على النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا حفصة وهى أرملة كبيرة السن غير جميلة ! لذلك لم يعرضها عليه وعرضها على عثمان وأبى بكر فرفضا !
ففي مسند أحمد : 2 / 27 : « عن ابن عمر قال : لما تأيمَتْ حفصة وكانت تحت خنيس
--------------------------- 81 ---------------------------
بن حذافة ، ولقى عمر عثمان فعرضها عليه فقال عثمان : مالي في النساء حاجة وسأنظر ! فلقى أبا بكر فعرضها عليه فسكت ! فوجد عمر في نفسه على أبى بكر ، فإذا رسول الله قد خطبها ، فلقى عمر أبا بكر فقال : إني كنت عرضتها على عثمان فردنى وإني عرضتها عليك فسكتَّ عني ، فلأنا عليك كنت أشد غضباً منى على عثمان وقد ردني ! فقال أبو بكر إنه قد كان ذكر من أمرها وكان سراً ، فكرهت أن أفشى السر » . وفى الإصابة : 8 / 85 ، أن عمر عرضها على أبى بكر أولاً !
وفى الطبقات : 8 / 83 و 189 ، أن عمر شكى أبا بكر وعثمان للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فخطبها منه ففرح فرحاً شديداً ! ولهذا لما طلقها النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال عمر : « يا ويح حفصة » .
وفى البخاري : 3 / 103 وأحمد : 1 / 33 : « قد خابت حفصة وخسرت ، قد كنت أظن هذا كائناً » !
وعندماتزوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفصة اكتفى بوليمة عادية كبقية زوجاته : « تزوج حفصة أو بعض أزواجه فأولم عليها بتمر وسويق » . مكارم الأخلاق / 212 والمنتقي / 181 .
أما عرس عائشة فكان بدون وليمة ، ففي مسند أحمد : 6 / 438 : « عن أسماء بنت يزيد قالت : كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعي نسوة قالت : فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن » ! أما عرس الزهراء « عليها السلام » فأقام لها أوسع مراسم أقامها نبي في تزويج ابنته ، كما بينا في محله !
وكان زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفصة : « في شعبان على رأس ثلاثين شهراً قبل أحد » « الطبقات : 8 / 83 » . أي قبل ولادة الحسن بشهر وأيام ، لأنه ولد منتصف شهر رمضان سنة ثلاث . وأما مهرها فكان أربع مئة درهم . « ابن هشام : 4 / 1059 » .
وفى الطبقات : 8 / 86 : « توفيت حفصة في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان وهى يومئذ ابنة ستين سنة » . وقد صغروا من عمرها لأنهم نصوا على أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وأكثر . الحاكم : 4 / 15 .
كانت حفصة أكبر أولاد أبيها ، وقد اشتق كنيته من اسمها فتكنى بأبى حفص ، وكانت معتمدته في أموره ، فكان يضع نسخة القرآن التي يريد أن ينشرها عندها ،
--------------------------- 82 ---------------------------
قال البخاري : 5 / 211 ، 6 / 98 و 8 / 119 : « وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر » .
وعندما وحَّد عثمان نسخة القرآن حاول أن يأخذها منها فلم تعطها ، لأن فيها اجتهادات عمر الكثيرة المخالفة للقرآن المعروف ! فلما ماتت أخذها مروان وأحرقها ! قال ابن شبة في تاريخ المدينة : 3 / 1003 : « عن ابن شهاب قال : حدثني أنس قال : لما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن المصاحف ليمزقها ، وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضاً فمنعتها إياه ! قال الزهري : فحدثني سالم قال : لما توفيت حفصة أرسل مروان إلى ابن عمر بعزيمة ليرسلن بها ، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابن عمر فشققها ومزقها ، مخافة أن يكون في شئ من ذلك خلاف لما نسخ عثمان » !
وكانت حفصة قوية الشخصية جداً ، وجعلها عمر وصيته : « وقال أحمد بن حنبل : إن عمر أوصى إلى حفصة » . « الأم للشافعي : 7 / 236 » . وخصها بالولاية على ما أوقفه على ذريته ، وأهمها بساتين خيبر « ثمغ » التي أهداها له اليهود في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وكان لها مخصصات من الخليفة ، فأوقفت ذهباً على نساء عشيرتها : « ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب » . المجموع : 15 / 325 .

اعترف محبوها أنها كانت تؤذى النبي « صلى الله عليه وآله »

كانت حفصة تؤمن بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكن ذلك لم يمنعها من مخالفته ، وحتى مقاطعته وأذيته ! قال عمر : « فدخلت على حفصة فقلت : أتغاضب إحداكن رسول الله اليوم حتى الليل ؟ فقالت : نعم » . صحيح بخاري : 3 / 103 .
قال عمر : « وكان بيني وبين امرأتي كلام فأغلظت لي فقلت لما وإنك لهناك ؟ قالت : تقول هذا لي وابنتك تؤذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! » صحيح بخاري : 7 / 47 .
وكانت تعرف حرص عمر على استمرار زواجها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه يغضب من سوء أخلاقها معه ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنها مع ذلك كانت تخالفه وتؤذيه !
ففي السيرة ، الحلبي : 3 / 406 : « شجر بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبين حفصة أمر فقال لها : إجعلى
--------------------------- 83 ---------------------------
بنى وبينك رجلاً . قالت : نعم . قال : فأبوك إذن ، فأرسلت إلى عمر فجاء ، فلما دخل عليها قال لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) تكلمي . فقالت : بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقاً ! فرفع عمر يده فوجأها في وجهها فقال له النبي : كف يا عمر ، فقال عمر : يا عدوة الله النبي لا يقول إلا الحق ، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي ! » وتفسير السمعاني : 4 / 276 ، مجمع البيان : 8 / 151 ، عن الواحدي ، عن ابن عباس .
وفى الكافي : 6 / 138 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أن زينب قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تعدل وأنت رسول الله ! وقالت حفصة : إن طلقنا وجدنا أكفاءنا في قومنا ! فاحتبس الوحي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عشرين يوماً ، قال : فأنف الله عز وجل لرسوله فأنزل : يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً . . إلى قوله : أَجْرًا عَظِيمًا . قال : فاخترن الله ورسوله ولو اخترن أنفسهن لبنَّ » .
وقد طلق النبي ( صلى الله عليه وآله ) حفصة مرتين ورجع إليها ، وكانت الثانية في السنة التاسعة قبيل غزوة تبوك ، كما نص أبوها ورواه البخاري وغيره . أما الأولى فيبدو أنها في نفس سنة زواجه بها ، كما في الطبقات : 8 / 84 والحاكم : 4 / 15 : « عن قيس بن زيد أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) طلق حفصة بنت عمر ، فأتاها خالاها عثمان وقدامة ابنا مظعون فبكت وقالت : والله ما طلقني رسول الله عن شبع ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدخل عليها فتجلببت ، فقال رسول الله : إن جبريل أتاني فقال لي أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة » . وتوفى خالها عثمان بن مظعون بعد رجوعه من بدر . الطبري : 2 / 177 .
وفى الإصابة : 8 / 86 : « طلق رسول الله حفصة بنت عمر فبلغ ذلك عمر ، فحثا التراب على رأسه وقال : مايعبأ الله بعمر وابنته بعدها ! فنزل جبريل من الغد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر » .
والصحيح أن الله تعالى أمر نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بزواجها ثم بطلاقها ثم بإرجاعها ، لمصالح لا تتعلق بأبيها ولا بإيمانها وعبادتها كما زعموا ، فقد ضرب الله لها ولعائشة مثلاً بامرأتي نوح ولوط وهما كافرتان . بل لتحزبها مع عائشة وعملهما
--------------------------- 84 ---------------------------
ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما نصت سورة التحريم . قالت عائشة : « إن نساء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كنَّ حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة . والحزب الآخر : أم سلمة وسائر نساء رسول الله » . بخاري : 3 / 132 .

نزلت فيها وفى عائشة آية النهى عن السخرية

ولم تكن صفية من حزبهما ، قال المجموع : 15 / 353 : « بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى تبكى وقالت : قالت لي حفصة : أنت ابنة يهودي ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي فبمَ تفتخر عليك ؟ ثم قال : إتقى الله يا حفصة » .
وروى الجميع أن آية : لا يسخر قوم من قوم ، نزلت في حفصة وعائشة ! لسخريتهما من صفية بنت حيي ، ففي تفسير القمي : 2 / 321 : « نزلت في صفية بنت حيى بن أخطب وكانت زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها يا بنت اليهودية ! فشكت ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لها : ألا تجيبنهما ؟ فقالت بماذا يا رسول الله ؟ قال قولي : أبى هارون نبي الله ، وعمى موسى كليم الله ، وزوجي محمد رسول الله ، فما تنكران مني ؟ فقالت لهمافقالتا : هذا علمك رسول الله ! فأنزل الله في ذلك : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يكُنَّ خَيرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان وَمَنْ لَمْ يتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . والحاكم : 4 / 29 ، عمدة القاري / 122 ، الأحوذي : 10 / 267 ، أوسط الطبراني : 8 / 236 .
وفى أسباب النزول للواحدي / 263 ، أن سبب نزول الآية أن حفصة وعائشة سخرتا من أم سلمة « وذلك أنها ربطت حقويها بسبنية وهى ثوب أبيض وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره ، فقالت عائشة لحفصة : أنظرى ما تجر خلفها كأنه لسان كلب . . » !
واتفقت حفصة مع عائشة على الكذب والحيلة ! ففي الكافي : 5 / 568 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدخلت عليه وهو في
--------------------------- 85 ---------------------------
منزل حفصة والمرأة متلبسة متمشطة ، فدخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت : يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج وأنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد ، فهل لك من حاجة ، فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : خيراً ودعا لها ثم قال : يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيراً فقد نصرني رجالكم ورغبت في نساؤكم ، فقالت لها حفصة : ما أقل حياءك وأجراك وأنهمك للرجال ! فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كفى عنها يا حفصة فإنها خير منك ، رغبت في رسول الله فلمتها وعيبتها ، ثم قال للمرأة : إنصرفى رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك في وتعرضك لمحبتي وسروري ، وسيأتيك أمرى إن شاء الله ، فأنزل الله عز وجل : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى إِنْ أَرَادَ النَّبِى أَنْ يسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ . « الأحزاب : 50 » قال : فأحل الله عز وجل هبة المرأة نفسها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يحل ذلك لغيره » .
وفى الخصال / 419 ، أن اسمها : خولة بنت حكيم السلمي . وروى أنها أسدية .
وفى الحدائق : 23 / 98 : « الظاهر أنه بعد نزول الآية على أثر هذه الواقعة ، نكح النبي ( صلى الله عليه وآله ) المرأة ولا إيجاب هنا ولا قبول » .

كانت حفصة عنيفة فقتلت امرأتين !

قتلت عائشة امرأة واحدة ، زعمت أنها كتبت لها سحراً ، أماحفصة فقتلت امرأتين زعمت أنهما كتبتا لها سحراً ! « المحلي : 11 / 395 » . وروى في الطبقات : 3 / 356 ، أنها دفعت عبيد الله بن عمر لقتل الهرمزان وجفينة طفلة أبى لؤلؤة ، على أثر قتل عمر ! قال أخوها عبد الله : « يرحم الله حفصة فإنها ممن شجع عبيد الله على قتلهم » !

كانت حفصة وعائشة حليفتين

وكان تحالفهما كتحالف أبويهما ، وكانت حفصة تقلد عائشة في كثير من الأمور ، وقد أخذت برأيها في رضاع الكبير ، فكانت ترسل الأجنبي إلى أختها لترضعه خمس رضعات ويدخل عليها ! الأم للشافعي : 7 / 236 .
--------------------------- 86 ---------------------------
« وأرسلت عائشة إلى حفصة وغيرها من أمهات المؤمنين كما نص عليه غير واحد من أثبات أهل الأخبار ، تسألهن الخروج معها إلى البصرة ، فما أجابها إلى ذلك منهن إلا حفصة ، لكن أخاها عبد الله أتاها فعزم عليها بترك الخروج ، فحطت رحلها بعد أن همت » . النص والاجتهاد / 432 .

تهديد الله تعالى لعائشة وحفصة !

اتفق الجميع على أن نزول سورة التحريم كان بسبب أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ائتمن حفصة على سره فأذاعته ، وتآمرت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) هي وعائشة ! فهددهما الله تعالى بأشد تهديد وضرب الله لهما مثلاً بكافرتين من زوجات الأنبياء « عليهم السلام » خانتا زوجيهما في أمر الرسالة ، وأمر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أن يشدد على المنافقين والمنافقات ، فقال تعالي : يا أَيهَا النَّبِى جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ .
قال المفيد في المسائل العكبرية / 77 : « جاء في حديث الشيعة عن جعفر بن محمد ( عليه السلام ) أن السر الذي كان من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بعض أزواجه إخباره عائشة أن الله أوحى إليه أن يستخلف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأنه قد ضاق ذرعاً بذلك ، لعلمه بما في قلوب قريش له من البغضاء والحسد والشنآن ، وأنه خائف منهم فتنة عاجلة تضر بالدين ، وعاهدها أن تكتم ذلك ولا تبديه وتستره وتخفيه . فنقضت عهد الله سبحانه عليها في ذلك وأذاعت سره إلى حفصة ، وأمرتها أن تعلم أباها ليعلمه صاحبه ، فيأخذ القوم لأنفسهم ويحتالوا في بعض ما يثبته رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حديث طويل له أسباب مذكورة . ففعلت ذلك حفصة واتفق القوم على عقد بينهم إن مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولايؤتوهم مقامه ، واجتهدوا في تأخيرهم والتقدم عليهم ، فأوحى الله إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بذلك وأعلمه ما صنع القوم وتعاهدوا عليه ، وأن الأمر يتم لهم محنة من الله تعالى للخلق بهم . فأوقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) عائشة على ذلك وعرفها ما كان منها من إذاعة السر ، وطوى عنها الخبر بما علمه من تمام الأمر لهم ، لئلا تتعجل إلى
--------------------------- 87 ---------------------------
المسرة به وتلقيه إلى أبيها فيتأكد طمع القوم فيما عزموا عليه ، وهو قوله تعالي : عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ، فالبعض الذي عرفه ما كان منها من إذاعة سره ، والبعض الذي أعرض عنه ذكر تمام الأمر لهم » .
وروى الطبراني في الكبير : 12 / 91 ، عن ابن عباس : « فقال لها رسول الله : لاتخبرى عائشة حتى أبشرك ببشارة ، فإن أباك يلي من بعد أبي بكر إذا أنا مت ، ويلي عمر من بعده ، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة ! »
وقد بحثنا ذلك في اتهامهم لمارية القبطية رضي الله عنها ، ونزول براءتها .
هذا ، وقد انفردت حفصة بأحاديث لم يروها غيرها ! مثل حديث أن أهل بدر كلهم في الجنة ، وأهل بيعة الرضوان كلهم في الجنة ، وحديث : « اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر » . فهي متهمة بوضعها ! راجع : الإفصاح للمفيد / 219 .

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها

في مناقب آل أبي طالب : 1 / 138 : « وميمونة بنت الحارث الهلالية خالة ابن عباس ، وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي ، ثم عند أبي زيد بن عبد العامري ، خطبها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفر بن أبي طالب ، وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بسَرَف ، وهو على عشرة أميال من مكة . » تزوجها « في سنة سبع ، وماتت في سنة ست وثلاثين . وأفضلهن خديجة ، ثم أم سلمة ، ثم ميمونة » .
وفى الكافي : 5 / 368 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين تزوج ميمونة بنت الحارث أوْلَمَ عليها وأطعم الناس الحَيس . » وهو التمر بالسمن .
وذكر في الإصابة : 8 / 328 ، أنها آخر من مات من أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) . لكن يظهر أن أم سلمة ماتت بعدها ، فقد عاشت إلى خلافة يزيد ووقعة الحرة سنة 63 .
وروى ابن عبد البر في الإستيعاب : 4 / 1917 ، أن العباس اقترح على النبي ( صلى الله عليه وآله ) الزواج بها : « فقال له العباس : يا رسول الله تأيمت ميمونة بنت الحارث بن حزن بن أبي رهم بن عبد العزي ، هل لك في أن تزوجها ؟ فتزوجها
--------------------------- 88 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو مُحرم . فلما أن قدم مكة أقام ثلاثاً فجاءه سهيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة فقال : يا محمد أُخرج عنا ، اليوم آخر شرطك ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » دعوني أبتنى بامرأتي وأصنع لكم طعاماً . فقال : لا حاجة لنا بك ولا بطعامك ، أخرج عنا » ! فأجابه سعد بن عبادة بشتيمة فهدأه النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وهذا يدل على فظاظة سهيل بن عمرو وعدائه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والإسلام ! ولهذه الصفات اختارته قريش لقيادتها بعد فتح مكة وعزلت أبا سفيان واتهمته بأنه خضع لمطلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخلع سلاحها ! ويدل على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أراد أن يتأخر في مكة ويدعو القرشيين إلى وليمة عرسه ، ليخفف العداء ويهدئ الأجواء المتوترة بينهم ، ولو قبلوا بذلك لكان خيراً لهم ، لأن نجمهم كان في أفول ونجم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في صعود .
وغطى ابن هشام : 3 / 829 فظاظة سهيل بن عمرو مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزعم أن الذي جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش .
وفى الحدائق : 22 / 3 وقاموس الرجال : 12 / 345 : « بلغ سعيد ابن المسيب أن عكرمة قال : تزوجها وهو محرم فقال : كذب عكرمة ! قدم وهو محرم فلما حل تزوجها . فخرج وخلف أبا رافع وقال : إلحقنى بميمونة ، فحملها على قلوص ، فجعل أهل مكة ينفرون بها ويقولون : لا بارك الله لك ! فوافى النبي بسرف وهو على أميال من مكة ، فبنى بها بسرف . ودفنت بسرف سنة 61 » .

أم المؤمنين ميمونة من أهل الجنة

وردت أحاديث في مدح ميمونة رضي الله عنها وفى بعضها شهادة لها بالجنة . واتفقت أحاديثنا على أنها كانت موالية لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ففي الأصول الستة عشر / 62 ، عن جابر بن يزيد الجعفي قال : « قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا ينجو من النار وشدة تغيظها وزفيرها وقرنها وحميمها من عادى علياً وترك ولايته وأحب من عاداه ! فقالت ميمونة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) : والله ما أعرف من أصحابك يا رسول الله من يحب علياً إلا قليلاً منهم ! فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : القليل
--------------------------- 89 ---------------------------
من المؤمنين كثير ، ومن تعرفين منهم ؟ قالت : أعرف أبا ذر والمقداد وسلمان ، وقد تعلم أنى أحب علياً بحبك إياه ونصيحته لك . قال فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : صدقت ، إنك صديقة ، امتحن الله قلبك للإيمان . »
وفى أمالي الطوسي / 505 ، عن : « يزيد بن الأصم قال : قدم شقير بن شجرة العامري المدينة ، فاستأذن على خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكنت عندها فقالت : إئذن للرجل ، فدخل فقالت : من أين أقبل الرجل ؟ قال : من الكوفة . قالت : فمن أي القبائل أنت ؟ قال : من بنى عامر . قالت : حُييت ، إزدد قرباً ، فما أقدمك ؟ قال : يا أم المؤمنين ، رهبت أن تكبسنى الفتنة لما رأيت من اختلاف الناس فخرجت . قالت : فهل كنت بايعت علياً ؟ قال : نعم . قالت : فارجع فلا تزولن عن صفِّه ، فوالله ما ضل ولا ضُلَّ به . قال : يا أماه فهل أنت محدثتى في علي بحديث سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قالت : اللهم نعم ، سمعت رسول الله يقول : على آية الحق ، وراية الهدي ، على سيف الله يسله على الكفار والمنافقين ، فمن أحبه فبحبي أحبه ، ومن أبغضه فببغضي أبغضه ، ومن أبغضني أو أبغض علياً لقى الله عز وجل ولا حجة له » !
ورواه في شرح الأخبار / 256 ، عن أبي قتادة بسنده عن أبي إسحاق ، وفيه : « فأردت الخروج معه فوجدت في نفسي من ذلك وجئت أسألك . قالت : أخرج معه فإنه لن يضل ولن يضل به . قال أبو إسحاق : وما شك في علي إلا فاسق » .
وقد وبخت ميمونة عائشة لما أرادت الخروج وذكرتها بحديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
يا حميراء إنك لتقاتلين علياً وأنت ظالمة له ! قالت نعم . الجمل لابن شدقم / 106 .
وفى الخصال / 363 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « رحم الله الأخوات من
أهل الجنة فسماهن : أسماء بنت عميس الخثعمية وكانت تحت جعفر بن أبي طالب ، وسلمى بنت عميس الخثعمية وكانت تحت حمزة . وخمس من بنى هلال : ميمونة بنت الحارث كانت تحت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأم الفضل عند العباس اسمها هند ، والغميصاء أم خالد بن الوليد ، وعزة كانت في ثقيف تحت الحجاج
--------------------------- 90 ---------------------------
بن علاط . وحميدة ولم يكن لها عقب » .
وفى مقاتل الطالبيين / 11 ، أن هنداً أم ميمونة قيل فيها : « الجرشية أكرم الناس أحماءً « أصهاراً » وجرش من اليمن ، وابنتها أسماء بنت عميس تزوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر ، ثم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . وابنتها الأخرى ميمونة أم المؤمنين زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وابنتها الأخرى لبابة أم الفضل أخت ميمونة أم ولد العباس بن عبد المطلب . وابنتها الأخرى سلمى بنت عميس أم ولد حمزة بن عبد المطلب . وأحماء هذه الجرشية : رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ، والحمزة ، والعباس ، وجعفر ، وأبو بكر . ومن أحمائها أيضاً الوليد بن المغيرة المخزومي » . فأم خالد بن الوليد أخت أسماء بنت عميس ، ومن هنا كانت نجابة بعض أولاد خالد
كالمهاجر بن خالد « رحمه الله » .

  • *
    --------------------------- 91 ---------------------------

الفصل السادس والأربعون

غزوة أحد

1 . استعداد قريش لحرب أحُد

تلقى زعماء قريش ضربة شديدة في بدر ، فقد خسروا سبعين فارساً وسبعين أسيراً ! وانهزمت بقيتهم إلى مكة في حالة من الذل والغيظ ! وكانت قافلتهم التي نجت من النبي ( صلى الله عليه وآله ) محتبسة في دار الندوة فقالوا لأصحابها : يا معشر قريش إن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم ، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرنا ! وكانوا يربحون بالدينار ديناراً فبلغ المال خمسين ألف دينار . وقيل نزل يومها قوله تعالي : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ينْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَينْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يغْلَبُونَ . « نزلت في أبي سفيان ، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ، وكانت الأوقية اثنين وأربعين مثقالاً » . عين العبرة / 53 .
« وكانت وقعة أحد في شوال ، بعد بدر بسنة » . تاريخ اليعقوبي : 2 / 47 .
وبعثت قريش رسلها إلى قبائل كنانة وتهامة يستنصرونهم ، وبرز أبو سفيان زعيماً لقريش بلا منازع ، بعد أن قُتل منافساه عتبة بن ربيعة الأموي وأبو جهل المخزومي ، فقام لإثبات زعامته بغارة على ضواحى المدينة في مئتى راكب ، ليبِرَّ يمينه ! ووصل إلى ضواحى المدينة ليلاً ، والتقى بأحد زعماء اليهود ، وأغار على مزرعة للأنصار فقتل رجلين ، وعندما قصده النبي ( صلى الله عليه وآله ) سارع بالهرب وتخفف أصحابه من مؤونتهم ، فأخذها المسلمون وسميت غزوة ذات السويق !
--------------------------- 92 ---------------------------
وخلال سنة حشدت قريش ثلاثة آلاف مقاتل ، فيهم سبع مائة دارع ومئتا فارس وتوجهوا إلى المدينة ومعهم فتيانٌ بالمعازف وغلمان بالخمور ، وخمس عشرة امرأة من نساء شخصياتهم ، فيهن هند زوجة أبي سفيان ، يغنين ويضربن بالدفوف ليحمسنهم للثأر لقتلى بدر ، ومعهم أبو عامر الفاسق الذي ترك المدينة كراهيةً لمحمد ، وسكن مكة مع خمسين رجلاً من الأوس ، وكان يحرض قريشاً ويقول لهم إنهم على الحق ومحمد على الباطل ، ويزعم لهم أن أهل المدينة معه !
وفى مقابل هؤلاء كان المسلمون سبع مئة مقاتل ، فيهم مائتا دارع ، وفارسان . الصحيح من السيرة : 6 / 77 ، النص والاجتهاد / 341 وابن هشام : 3 / 581 .
ولما وصل القرشيون إلى الأبواء وفيها قبر أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) اقترحت عليهم هند أن ينبشوه ويأخذوا رمتها رهينة ، ليأخذوا فداءها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قالت : « فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير ، إنه كان بها براً » . الصحيح : 6 / 85 .
فتشاوروا ثم أعرضوا عن ذلك ، خوفاً من أن تنبش قبور موتاهم في مناطق المسلمين وحلفائهم ! ووصلوا إلى ذي الحليفة قبل المدينة بقليل ، فتركوا خيولهم وإبلهم ترعى زروع أهل المدينة ، وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) من يخمِّن عددهم وعُدتهم ، ثم واصلوا مسيرهم حتى نزلوا في آخر وادى قُبا عند جبل أحد ، قبالة المدينة .

2 . رؤيا النبي « صلى الله عليه وآله » واستعداده للدفاع

عندما بلغ أهل المدينة تحرك قريش لحربهم قال قسم منهم نتحصن في المدينة ونرد هجوم قريش من مداخلها وسككها وأزقتها ، وقال آخرون بل نخرج إليهم فنقاتلهم خارجها ، لأنه ما غُزِى قومٌ في عقر دارهم إلا ذلوا !
قال ابن إسحاق : 3 / 303 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للمسلمين : إني قد رأيت بقراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة وتأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث قد نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها . وكان رأى عبد الله بن أبي سلول مع رسول الله . فقال رجال من
--------------------------- 93 ---------------------------
المسلمين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم أو رضخنا » . وابن هشام : 3 / 583 ، تفسير الطبري : 4 / 94 .
وقال علي بن إبراهيم في تفسيره : 1 / 110 : « كان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، لأنه قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون ، فلما رجعوا إلى مكة قال أبو سفيان : يا معشر قريش لاتدعوا النساء تبكى على قتلاكم ، فإن البكاء والدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد ! ويشمت بنا محمد وأصحابه ! فلما غزوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم أحد أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح .
فلما أرادوا أن يغزوا رسول الله إلى أحُد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها فجمعوا الجموع والسلاح . فلما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أن الله قد أخبره أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة ، وحث أصحابه على الجهاد والخروج ، فقال عبد الله بن أبي سلول وقومه : يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها ، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح ، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا ، وما خرجنا إلى أعدائنا قط إلا كان الظفر لهم . فقام سعد بن معاذ « رحمه الله » وغيره من الأوس فقالوا : يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام ، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا ! لا ، حتى نخرج إليهم فنقاتلهم ، فمن قتل منا كان شهيداً ، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله ، فقبل رسول الله قوله وخرج مع نفر من أصحابه يبتغون موضع القتال كما قال الله : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » .
والظاهر أن رأى سعد بن معاذ كان سبب قبول النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالخروج إليهم ، لأن سعداً أكبر زعيم عند الأنصار .
--------------------------- 94 ---------------------------

3 . النبي « صلى الله عليه وآله » يختار مكان معسكره

لم يكن للعدو طريق لمهاجمة المدينة إلا من وادى قباء وهى غربى المدينة وتمتد من الجنوب إلى الشمال . أما الجهات الأخرى فمرتفعات أو بساتين يصعب النفوذ منها ، لذلك هاجمت قريش المدينة في أحُد من وادى قباء . وينتهى الوادي بجبل أحد الذي يعترضه ويمتد بعكسه من الشرق إلى الغرب ، ويوجد قبله جبلٌ صغير اسمه : جبل عَينَين ، وهو جبل الرماة ، ويسمى يوم أحد يوم عَينين أيضاً .
ويظهر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خرج صبح الجمعة أو قبله واختار مكاناً لمعسكره ، كما قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالي : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ، أي خرجت غدوةً صباحاً ، ثم تابع النبي ( صلى الله عليه وآله ) مشاورة أصحابه في الخروج أو البقاء في المدينة ، واتخذ قراره بالخروج ، وصلى بهم الجمعة وخرج بهم بعد الصلاة وباتوا في أحد ، وكانت المعركة صبيحة السبت .
وعسكر المشركون في الوادي مقابل جبل عينين ، فاختار النبي ( صلى الله عليه وآله ) غربى قبر حمزة ليكون ظهرهم محمياً بجبل أحد ووجههم إلى المشركين ، فكان جبل عينين عن يسارهم . وكان المسلك الوحيد للالتفاف عليهم من خلف جبل عَينين من جهة المدينة ، وهو معبر ضيق تجرى فيه عين المِهْراس التي تنبع من آخر الوادي من جهة أحد . لذلك أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) خمسين من الرماة أن يتخذوا مواقعهم في أصل جبل الرماة من جهة المدينة ، وشدد عليهم أن لا يتركوا مواقعهم !
وقد رأيت عين المهراس سنة 1961 ميلادية ، بين قبرحمزة والمسجد الذي في شرقيه ، وهى نبع على عمق بضعة أمتار ، ينزل اليه في درج واسع ، لكن الوهابيين ردموها وأزالوها . ويسمى يوم أحُد يوم المِهْراس أيضاً ، وسيأتي أن علياً ( عليه السلام ) كان يأتي بالماء من المهراس وفاطمة « عليها السلام » تغسل جراح النبي ( صلى الله عليه وآله ) . أمالي الطوسي / 551 .
--------------------------- 95 ---------------------------

4 . انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولي

في صبيحة يوم السبت منتصف شوال سنة ثلاث للهجرة صفَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين في أحُد ، ووضع الرماة الخمسين شرقي جبل عينين .
ابن إسحاق : 3 / 301 .
وفى تفسير القمي : 1 / 112 : « وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري فبرز ونادي : يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إلي ! فبرز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول :
ياطلحُ إن كنت كما تقولُ * لنا خيولٌ ولكم نَصول
فاثبت لننظر أينا المقتول * وأينا أولى بما تقول
فقد أتاك الأسد الصؤول * بصارم ليس به فلول
ينصره القاهر والرسول
فقال طلحة : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : قد علمتُ يا قُضَيم أنه لايجسر على أحد غيرك ! فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أمير المؤمنين بالجحفة ، ثم ضربه على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره وسقطت الراية ! فذهب على ( عليه السلام ) ليجهز عليه فحلَّفه بالرحم فانصرف عنه ، فقال المسلمون : ألا أجهزت عليه ؟ قال : قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً !
وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحه فقتله على ( عليه السلام ) وسقطت الراية على الأرض . فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله على ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض .
فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله على ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض .
فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله على ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض . وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله على ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية إلى الأرض .
فأخذها عبد الله بن أبي جميلة بن زهير فقتله على ( عليه السلام ) وسقطت الراية
إلى الأرض !
--------------------------- 96 ---------------------------
فقَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التاسع من بنى عبد الدار ! وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزةً وسقطت الراية إلى الأرض ! فأخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على يمينه فقطعها ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين على شماله فقطعها وسقطت الراية إلى الأرض ، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ، ثم قال : يا بنى عبد الدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم ؟ فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فقتله ، وسقطت الراية إلى الأرض !
فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها !
وحدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي : يا قُضَيم ؟ قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبى طالب ، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرمونه بالحجارة والتراب فشكى ذلك إلى علي ( عليه السلام ) فقال : بأبى أنت وأمي يا رسول الله ، إذا خرجت فأخرجني معك فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتعرض الصبيان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون قضمنا على قضمنا علي ! فسمى لذلك : القَضِيم » !
وقال ابن هشام : 3 / 593 : « وأرسل رسول الله إلى علي بن أبي طالب : أن قدم الراية فتقدم على فقال : أنا أبو القُضَم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين : أن هل لك يا أبا القضم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم ، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه على فصرعه ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟ فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتنى عنه الرحم ، وعرفت أن الله عز وجل قد قتله » .
وفى الكافي : 8 / 111 أن خالد بن عبد الله القشيري أمير مكة سأل قتادة : « من الذي يقول : أوفى بميعادى وأحمى عن حسب ؟ ! فقال : أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادى من يبارز ؟ فلم يخرج إليه أحد
--------------------------- 97 ---------------------------
فقال : إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فليبرزن إلى رجل يجهزنى بسيفه إلى النار وأجهزه بسيفي إلى الجنة ، فخرج إليه علي بن أبي طالب وهو يقول :
أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب * وهاشم المطعم في العام السغب
أوفى بميعادى وأحمى عن حسب *
فقال خالد : كذب لعمري ، والله أبو تراب ما كان كذلك ! فقال الشيخ : أيها الأمير إئذن لي في الانصراف ، قال : فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول : زنديق ورب الكعبة ، زنديق ورب الكعبة » !
أقول : هذا يدل على حرص السلطة على إخفاء دور على ( عليه السلام ) . وقد ارتاعت قريش بقتل طلحة وأصحاب الألوية ، وتزعزعت صفوفها ، فلم يتقدم لحمل رايتهم بعدهم ، إلا امرأة جمعتها عن الأرض ولم ترفعها ! فأصدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمره بالحملة فتقدم على وحمزة وأبو دجانة وفرسان المسلمين وحملوا عليهم ، فكانت هزيمة المشركين : « فانكشف الكفار حينئذ عن المسلمين هاربين على غير انتظام ، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن . فلما نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلهم الذي أمروا أن لا يفارقوه ، فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير فلم ينتهوا وقالوا : ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ! فقال عبد الله : والله لا أجاوز أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! وثبت مكانه مع أقل من عشرة ، فنظر خالد بن الوليد المخزومي إلى قلة من في الجبل من الرماة ، فكرَّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم ، ومثلوا بعبد الله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه ! وهجموا على المسلمين وهم غافلون وتنادوا بشعارهم يا للعزى يا لهُبل ، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون فكان البلاء ، وقتل حمزة سيد الشهداء وسبعون من صناديد المهاجرين والأنصار ، وأصيب النبي بأبى هو وأمي بجروح يقرح
--------------------------- 98 ---------------------------
القلوب ذكرها ويهيج الأحزان بيانها ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته . وإنما كان هذا البلاء كله لمخالفة أوامره ونواهيه » . الفصول المهمة / 114 .

5 . هزيمة المسلمين بعد انتصارهم !

قال علي بن إبراهيم في تفسيره : 1 / 111 : « أمَّرَ رسول الله على الرماة وهم خمسون رجلاً عبد الله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف ، وهو يومئذ معلم بثياب بياض وقال : اِنضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا أثبت مكانك لا نؤتين من قبلك . إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة ، فلا تبرحوا والزموا مراكزكم . ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ، وقال لهم إذا رأيتمونا قد اختلطنا بهم فأخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا من ورائهم . فحملت الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ، ووقع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في سوادهم . . .
فانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة وأقبلوا يصعدون في الجبال وفى كل وجه ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إني أنا رسول الله ، إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله » !
وفى تفسير فرات / 94 : « عن حذيفة قال : « رفع البيضة عن رأسه وجعل ينادي : أيها الناس أنا لم أمت ولم أقتل ، وجعل الناس يركب بعضهم بعضاً لايلوون على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا يلتفتون إليه : فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة ، فلم يكتفوا بالهزيمة حتى قال أفضلهم رجلاً في أنفسهم : قتل رسول الله ، فلما آيس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من القوم رجع إلى موضعه الذي كان فيه فلم يزل علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا دجانة ذهب الناس فالحق بقومك ! فقال أبو دجانة : يا رسول الله ما على هذا بايعناك وبايعنا الله ، ولا على هذا خرجنا يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ يبَايعُونَكَ إِنَّمَا يبَايعُونَ اللَّهَ يدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا دجانة أنت في حل من بيعتك فارجع ، فقال أبو دجانة : يا رسول الله لاتحدث نساء
--------------------------- 99 ---------------------------
الأنصار في الخدور أنى أسلمتك ورغبت نفسي عن نفسك يا رسول الله ، لا خير في العيش بعدك . قال : فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحةً فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به . قال : وعلى لا يبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله على يديه حتى انقطع سيفه ، فلما انقطع سيفه جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله انقطع سيفي ولا سيف لي ، فخلع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيفه ذا الفقار فقلد ه علياً ، ومشى إلى جمع المشركين ، فكان لايبرز إليه أحد إلا قتله ، فلم يزل على ذلك حتى وهت دراعته ، فنظر رسول الله إلى السماء وقال : اللهم إن محمداً عبدك ورسولك جعلت لكل نبي وزيراً من أهله لتشد به عضده وتشركه في أمره ، وجعلت لي وزيراً من أهلي ، علي بن أبي طالب أخي ، فنعم الأخ ونعم الوزير ، اللهم وعدتني أن تمدنى بأربعة آلاف من الملائكة مردفين ، اللهم وعدك وعدك ، إنك لا تخلف الميعاد ، وعدتني أن تظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون .
قال : فبينما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدعو ربه ويتضرع إليه ، إذ سمع دوياً من السماء فرفع رأسه فإذا جبرئيل ( عليه السلام ) على كرسي من ذهب ومعه أربعة آلاف من الملائكة مردفين وهو يقول : لا فتى إلا على ولا سيف إلا ذو الفقار ، فهبط جبرئيل على الصخرة وحفت الملائكة برسول الله فسلموا عليه ، فقال جبرئيل : يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى لقد عجبت الملائكة المقربون لمواساة هذا الرجل لك بنفسه . فقال : يا جبرئيل ما يمنعه يواسينى بنفسه وهو منى وأنا منه . فقال جبرئيل : وأنا منكما ، حتى قالها ثلاثاً . ثم حمل علي ، وحمل جبرئيل والملائكة ، ثم إن الله تعالى هزم جمع المشركين وتشتت أمرهم » .
وفى إمتاع الأسماع : 1 / 144 : « انكشف المشركون منهزمين لايلوون ، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح ، ولكن المسلمين أُتُوا من قبل الرماة . وبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم ، إذ دخلت الخيول تنادى فرسانها بشعارهم : يا للعزى يا لهبل ! ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون وكل
--------------------------- 100 ---------------------------
منهم في يده أو حضنه شئ قد أخذه ، فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً ، وتفرق المسلمون في كل وجه ! وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا .
ونادى إبليس عند جبل عينين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة : إن محمداً قد قتل : ثلاث صرخات ، فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين ! واختلط المسلمون وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من العجلة والدهش ، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو برده بن نيار وما يدري ! وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر ! والتقت أسياف المسلمين على اليمان حسيل بن جابر وهم لا يعرفونه حين اختلطواوحذيفة يقول : أبى أبي » !
وفى تفسير الطبري : 4 / 194 ، عن السدى قال : « لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه فدخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها . عن ابن إسحاق قال : فرَّ عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة » !
قال ابن إسحاق : 3 / 306 : « قال الزبير : لقد رأيتني أنظر إلى خدم « خلاخيل » هند ابنة عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ، ما دون أخذهن قليل ولا كثير ! إذ مالت الرماة عن العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل فأُتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل ! فانكفأنا وانكفؤوا علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم ! فانكشف المسلمون فأصاب منهم العدو فكان يوم بلاء وتمحيص ، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة » .

6 - ثبت مع النبي « صلى الله عليه وآله » أول الأمر بضعة أشخاص

روى المفيد في الإرشاد : 1 / 80 ، عن زيد بن وهب قال : « وجدنا من عبد الله بن مسعود يوماً طِيبَ نفس فقلنا له : لو حدثتنا عن يوم أحُد وكيف كان ؟ فقال : أجل ثم ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحرب فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « أخرجوا إليهم على اسم الله فخرجنا ، فصفَّنا لهم صفاً طويلاً ، وأقام على الشعب خمسين رجلاً من الأنصار
--------------------------- 101 ---------------------------
وأمَّر عليهم رجلاً منهم وقال : لا تبرحوا عن مكانكم هذا وإن قتلنا عن آخرنا ، فإنما نؤتى من موضعكم هذا ! إلى أن قال : وثبت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأبو دجانة الأنصاري ، وسهل بن حنيف يدفعون عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكثر عليهم المشركون ، ففتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عينيه فنظر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد كان أغمي عليه مما ناله فقال : يا علي ما فعل الناس ؟ قال : نقضوا العهد وولوا الدبر ، فقال له : فاكفنى هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي ، فحمل عليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكشفهم ، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية أخرى فكر عليهم فكشفهم ، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه ( صلى الله عليه وآله ) بيد كل واحد منهما سيفه ليذب عنه . قال زيد بن وهب : قلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف ؟ ! قال : انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده ، وثاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفر ، وكان أولهم عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، ولحقهم طلحة بن عبيد الله .
فقلت له : فأين كان أبو بكر وعمر ؟ قال : كانا ممن تنحي . قال قلت . فأين كان عثمان ؟ قال : جاء بعد ثلاثة من الوقعة ، قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لقد ذهبت فيها عريضة ! قال فقلت له : فأين كنت أنت ؟ قال : كنت فيمن تنحي ! قال فقلت له : فمن حدثك بهذا ؟ قال : عاصم وسهل بن حنيف . قال قلت له : إن ثبوت على في ذلك المقام لعجب ! فقال : إن تعجبت من ذلك لقد تعجبت منه الملائكة ، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ! فقلت له : فمن أين علم ذلك من جبرئيل ؟ فقال : سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنه فقال : ذاك جبرئيل .
وفى حديث عمران بن حصين قال : لما تفرق الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في يوم أحد ، جاء على متقلداً سيفه حتى قام بين يديه ، فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رأسه إليه فقال له : ما لك لم تفر مع الناس ؟ فقال : يا رسول الله أأرجع كافراً بعد إسلامي ! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار له إلى قوم آخرين
--------------------------- 102 ---------------------------
فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم ! فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله ، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة على لك بنفسه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وما يمنعه من هذا ، وهو منى وأنا منه ! فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : وأنا منكما » .
وزعموا أن أبا بكر ثبت في أحد ولم يهرب فقال ابن سعد : 2 / 42 : « وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكرالصديق وسبعة من الأنصار » لكنهم كذَّبوا أنفسهم فقالوا كان في أوائل من رجع من الهزيمة ! قال ابن سعد : 3 / 155 : « عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد » .

7 - بقي النبي « صلى الله عليه وآله » وعلي « عليه السلام » وحدهما

فبعد جرح أبى دجانة ونسيبة ، لم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا على ( عليه السلام ) ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) كما في الكافي : 8 / 110 : « انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فغضب غضباً شديداً قال : وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق ، قال : فنظر فإذا على ( عليه السلام ) إلى جنبه فقال له : إلحق ببنى أبيك مع من انهزم عن رسول الله ! فقال : يا رسول الله لي بك أسوة ! قال : فاكفنى هؤلاء ، فحمل فضرب أول من لقى منهم . فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى جبرئيل على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي » .
وفى الإرشاد : 1 / 89 : « فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أبشر يا علي ، فإن الله منجز وعده ، ولن ينالوا منا مثلها أبداً » . وفى تفسير القمي : 1 / 115 : « ولم يبق مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا أبو دجانة الأنصاري سماك بن خرشة وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فكلما حملت طائفة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استقبلهم فيدفعهم عن رسول الله ويقتلهم ، حتى انقطع سيفه . وبقيت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نسيبة بنت كعب وكانت تخرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزواته تداوى الجرحي ، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع ، فحملت عليه فقالت : يا بنى إلى أين تفر عن الله وعن رسوله ؟ ! فردته فحمل عليه رجل فقتله ، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بارك الله عليك
--------------------------- 103 ---------------------------
يا نسيبة ، وكانت تقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصدرها وثدييها ويديها ، حتى أصابتها جراحات كثيرة !
وحمل ابن قميئة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أروني محمداً لانجوتُ إن نجا ! فضربه على حبل عاتقه ، ونادى قتلت محمداً واللات والعزي !
ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه : يا صاحب الترس ألق ترسك ، ومُرَّ إلى النار ! فرمى بترسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس ، وكانت تقاتل المشركين فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لَمَقَامُ نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان !
ولم يكن يحمل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد إلا يستقبله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فإذا رأوه رجعوا ! فانحاز رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ناحية أحُد فوقف . فلم يزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه ! وسمعوا منادياً ينادى من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي . وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل ، فقال أبو سفيان وهو على الجبل : أعلُ هبل ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين قل له : الله أعلى وأجل . فقال : يا علي إنه قد أنعم علينا ! فقال على ( عليه السلام ) : بل الله أنعم علينا .
ثم قال أبو سفيان : يا علي أسألك باللات والعزى هل قتل محمد ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك ! والله ما قتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو يسمع كلامك ! فقال : أنت أصدق ، لعن الله ابن قميئه زعم أنه قتل محمداً » .

أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتي !

في كشف اليقين / 59 : « خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً فرحاً مسروراً وقال : أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتي ! أما أنه الفتى فلأنه سيد العرب . وأما ابن الفتى فلأنه ابن إبراهيم خليل الرحمن ( عليه السلام ) الذي نزل في حقه : قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يذْكُرُهُمْ يقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . وأما أنه أخو الفتي ، فلأنه أخو على ( عليه السلام ) الذي قال جبريل عنه أنه : إنه لا فتى إلا علي » .
--------------------------- 104 ---------------------------

8 - نزل جبرئيل « عليه السلام » وبقى مع النبي « صلى الله عليه وآله » حتى انسحب المشركون

يفهم من حديث دعائم الإسلام : 1 / 374 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أن جبرئيل ( عليه السلام ) بقي مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى انسحب المشركون ، قال : « لما كان يوم أحد وافترق الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وثبت معه على ( عليه السلام ) وكان من أمر الناس ما كان ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : إذهب يا علي ، فقال : كيف أذهب يا رسول الله وأدعك ! بل نفسي دون نفسك ودمى دون دمك ، فأثنى عليه خيراً . ثم نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى كتيبة قد أقبلت فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل هشام بن أمية المخزومي ، ثم جاءت كتيبة أخرى فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل عمر بن عبد الله الجمحي ، ثم أقبلت كتيبة أخرى قال : إحمل عليها يا علي . فحمل عليها ففرقها وقتل شيبة بن مالك أخا بنى عامر بن لؤي ، وجبرئيل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال جبرئيل : يا محمد إن هذه للمواساة ! فقال : يا جبرئيل ، إنه منى وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما يا محمد » .

9 - ركز المشركون على قتل النبي « صلى الله عليه وآله » في أحُد فأصابته جراحات

« لما اشتد البلاء وعظم الخطب بفرار المسلمين ، أرهف المشركون لقتل رسول الله غِرار عزمهم ، وأرصدوا لذلك جميع أهبهم ، فتعاقد خمسة من شياطينهم على ذلك ، كانوا كالفدائية في هذا السبيل وهم : عبد الله بن شهاب الزهر » والد الزهري المعروف وهو يهودي حداد حليف بنى زهرة « وعتبة بن أبي وقاص ، وابن قميئة الليثي أبي بن خلف ، وعبد الله بن حميد الأسدي القرشي ، لعنهم الله وأخزاهم ، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته الميمونة ، وأما عتبة فرماه - تبَّت يداه - بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشق شفته ، وأما ابن قميئة قاتله الله فكمَّ وجنته ودخل من خلف المغفر فيها وعلاه بالسيف - شُلَّت يداه - فلم يطق أن يقطع فسقط ( صلى الله عليه وآله ) إلى الأرض . وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربته فأخذها رسول الله منه وقتله بها ، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري شكر الله سعيه وأعلى في الجنان مقامه ، فإنه ممن أبلى يومئذ بلاء حسناً . ثم حمل ابن قميئة على مصعب
--------------------------- 105 ---------------------------
بن عمير وهو يظنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقتله ، ورجع إلى قريش يبشرهم بقتل محمد ، فجعل الناس يقولون : قتل محمد قتل محمد ! فانخلعت قلوب المسلمين جزعاً وكادت نفوسهم أن تزهق هلعاً ، وأوغلوا في الهرب مدلهين مدهوشين ، لا يرتابون في قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد أسقط في أيديهم » . الفصول المهمة للسيد شرف الدين / 118 .
وفى المناقب : 1 / 166 : « فرماه ابن قمئة بقذافة فأصاب كفه ، ورماه عبد الله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه ، وضربه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد على وجهه ، فشج رأسه فنزل عن فرسه ، ونهبه ابن قمئة ، وقد ضربه على جنبه » !
وروى ابن هشام : 3 / 597 ، نحوه وذكر أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلي ، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته ، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، ووقع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيده !
وفى تفسير فرات / 93 : « إنتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى صخرة فاستتر بها ، ليتقى بها من السهام سهام المشركين » .
« فلما انتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى فم الشعب خرج على ( عليه السلام ) حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليشرب منه فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه » . والمناقب : 1 / 96 ، 102 والخرائج / 62 .
وقد كسر خوذته عبد الله بن شهاب جد الزهري فجُرح في رأسه ، وأَدمى وجهه فوق حاجبه عبد الله أو عمرو بن قمئة وجرحه في وجنته ، وكسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص ، وجرح شفته السفلى من داخل فمه الشريف . « مقدمة فتح الباري / 287 » . وفى فتح الباري : 7 / 286 : ( شُجَّ وجهه وكسرت رباعيته ، وجرحت وجنته وشفته السفلى من باطنها ، ووهى منكبه من ضربة ابن قمئة وجحشت ركبته ) .
وفى صحيح البخاري : 7 / 19 : ( عن سهل بن سعد الساعدي قال : لما كسرت على رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البيضة وأدمى وجهه وكسرت رباعيته وكان على يختلف بالماء
--------------------------- 106 ---------------------------
في المجن ، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم ، فلما رأت فاطمة « عليها السلام » الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرقأ الدم ) .
وفى مصنف ابن أبي شيبة : 4 / 586 : ( شُجَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكسرت رباعيته ، وذلق من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه وتركه أصحابه ، فجاء أبي بن خلف يطلب بدم أخيه أمية بن خلف فقال : أين هذا الذي يزعم أنه نبي فليبرز لي فإن كان نبياً قتلني ! فأخذ ( صلى الله عليه وآله ) الحربة ثم مشى إليه فطعنه فصرعه عن دابته ، وحمله أصحابه فاستفردوه فقالوا : ما نرى بك بأساً ! فقال : إنه قد استسقى الله دمي ، إني لأجد لها ما لو كان على مضر وربيعة لوسعتهم ) .
وفى الدرر لابن عبد البر / 148 : ( فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل . وجُرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في وجهه ، وكُسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة على رأسه . . وكان الذي تولى ذلك من النبي عمرو بن قمئة الليثي وعتبة بن أبي وقاص ، وقد قيل إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله في جبهته ، وأكبت الحجارة على رسول الله حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين فخر على جنبه فأخذ على بيده ) .
وفى شرح الأخبار : 1 / 94 : ( عن عمر بن علاء ، قال : لما كان يوم أحد وتفرق الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ضُرب رسول الله ستين ضربة بالسيف ، وعليه يومئذ درعان قد تظاهر بينهما ، وكسرت رباعيته وشج في وجهه وتفرق الناس عنه ، وبقى معه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال له رسول الله : إرجع يا علي ، فقال : إلى أين أرجع عنك يا رسول الله ؟ أرجع كافراً بعد أن أسلمت ! وأقبل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كردوس من المشركين . فقال لعلي : فاحمل إذن على هؤلاء ، فحمل عليهم ففرجهم وأصاب منهم . فقال جبرائيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا محمد إن هذه للمواساة . فقال : يا جبرائيل : إنه منى وأنا منه . فقال جبرائيل : وأنا منكما ) .
وفى النص والاجتهاد / 343 : ( وقاتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ قتالاً شديداً ، فرمى بالنبل حتى فنى نبله ، وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره ، وأصيب بجرح في وجنته ، وآخر
--------------------------- 107 ---------------------------
في جبهته ، وكسرت رباعيته السفلي ، وشقت بأبى هو وأمي شفته وعلاه ابن قمئة بالسيف . وقاتل دونه على ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي الله عنهم وأرضاهم ، وترس أبو دجانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه ، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد ، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرجع إلى قريش يقول لهم : قتلت محمداً ، فجعل الناس يقولون : قتل محمد ، قتل محمد ! فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد ، وكان أول من عرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كعب بن مالك ، فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله حي لم يقتل ، فأشار إليه ( صلى الله عليه وآله ) أن أنصت ) . لئلا يعرفوا مكانه .
وروينا عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « إعلام الوري : 1 / 179 » : ( فلما دنت فاطمة « عليها السلام » من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأته قد شُج في وجهه وأدمى فوه إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء ، فلا يتراجع منه شئ ! قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب .
قال أبان بن عثمان : حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت : كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء ؟ قال : لا والله ما قبضه الله إلا سليماً ، ولكنه شُجَّ في وجهه . قلتُ : فالغار في أحُد الذي يزعمون أن رسول الله « عليهما السلام » صار إليه ؟ قال : والله ما برح مكانه ، وقيل له : ألا تدعو عليهم ؟ قال : اللهم اهد قومي ) !

10 - أشد الأيام على النبي « صلى الله عليه وآله »

« روى عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : أنه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العباس بن علي فاستعبر ثم قال : ما من يوم أشد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من يوم أحُد ، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب . ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) : ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل
--------------------------- 108 ---------------------------
يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه ! وهو يذكرهم بالله فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً » ! مقتل الحسين « عليه السلام » مخنف / 176 .

11 - أصعب اللحظات في حياة علي « عليه السلام »

وصف على أصعب اللحظات في أحُد ، كما في الإرشاد : 1 / 86 والمناقب : 2 / 315 ، قال : « لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره ، فقلت : ما كان رسول الله ليفر وما رأيته في القتلي ، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء ، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي : لأقاتلن به عنه حتى أقتل ، وحملت
على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد وقع على الأرض مغشياً عليه ، فقمت على رأسه فنظر إلى وقال : ما صنع الناس يا علي ؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك ! فنظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي : رد عنى يا علي هذه الكتيبة فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار .
فقال لي النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أما تسمع يا علي مديحك في السماء ، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي . فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه على نعمته » .
وتقدم من الإرشاد : 1 / 80 ، قوله : « وقد كان أغمي عليه ( صلى الله عليه وآله ) مما ناله » ! لما جرح ووقع في الحفرة وتكاثر عليه المشركون ، وجاء على وجبرئيل فأخذاه إلى الصخرة .
وفى المناقب لابن سُلَيمان : 1 / 466 ، عن ابن أبي ليلى قال : « لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه ! جرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقتل حمزة ، وانكشف الناس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتركوه وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب . . الخ . » .

12 - قميص النبي « صلى الله عليه وآله » الذي أصيب به في أحد

في الكافي : 1 / 236 ، « عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من حديث ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما حضرته الوفاة عرض على عمه العباس أن يأخذ تراثه ويقضى دينه ومواعيده ، فاعتذر بأنه ل
--------------------------- 109 ---------------------------
ايطيق ، فعرض ذلك على على ( عليه السلام ) فقبله فأعطاه تراثه ، وفيه : والقميص الذي أسرى به فيه ، والقميص الذي جرح فيه يوم أحد » .
وروى ابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) / 88 ، أن المهدى ( عليه السلام ) عندما يظهر : « يكون عليه قميص رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي كان عليه يوم أحد » .

13 - لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة ؟ !

كان القرشيون يقولون : نقتل محمداً ونردف الكواعب من المدينة ، أي نأتى بالسبايا من الأنصار ! « ندموا على انصرافهم عن المسلمين ، وتلاوموا فقالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم » ! مجمع البيان : 2 / 446 .
وفى مناقب آل أبي طالب : 1 / 109 : « لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا : ما صنعنا ! قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركناهم إذ هم ! وقالوا : إرجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا » .
لكن الذي حدث أن قائدهم أبا سفيان أصابه الذعر من على ( عليه السلام ) وكان يرى جبرئيل ( عليه السلام ) معه راكباً فرساً أشقر ، فقرر العودة إلى مكة !
فاعجب من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل علياً ( عليه السلام ) وحده خلفهم وهم ثلاثة آلاف ، فذهب غير هياب ، ولما فاجأهم من أمامهم قالوا هذا الذي فعل فينا الأفاعيل ! وصاح أبو سفيان بأنا منسحبون فلماذا تتبعنا !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 318 » : « لما رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) اختلاج ساقيه من كثرة القتال ، رفع رأسه إلى السماء وهو يبكى وقال : يا رب وعدتني أن تظهر دينك وإن شئت لم يعْيك . فأقبل على ( عليه السلام ) إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله أسمع دوياً شديداً وأسمع أقدم حيزوم ، وما أهمُّ أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه ! فقال هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة . . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي إمض بسيفك حتى تعارضهم ، فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص « الإبل » وجنبوا
--------------------------- 110 ---------------------------
الخيل فإنهم يريدون مكة ، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنبون القلاص فإنهم يريدون المدينة ، فأتاهم على ( عليه السلام ) فكانوا على القلاص فقال أبو سفيان لعلي : يا علي ما تريد ! هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة فانصرف إلى صاحبك ! فأتبعهم جبرئيل فكلما سمعوا وقع حافر فرسه جدوا في السير ! وكان يتلوهم ، فإذا ارتحلوا قالوا : هو ذا عسكر محمد قد أقبل ! فدخل أبو سفيان مكة فأخبرهم الخبر ، وجاء الرعاة والحطابون فدخلوا مكة فقالوا : رأينا عسكر محمد كلما رحل أبو سفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم » !

14 - علي « عليه السلام » بطل أحُد وصاحب انتصاراتها

قال ابن هشام : 3 / 655 : « أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي ، يمدح علي بن أبي طالب ، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، صاحب لواء المشركين يوم أحد :
لله أي مذبَّبٍ عن حرمة * أعنى ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخْولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة * تركتْ طليحة للجبين مجدَّلا
وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم * بالسفح إذ يهْوُون أخولَ أخولا
وعللت‌سيفك بالدماءولم يكن * لتردَّه ظمآنَ حتى ينهلا »
والإرشاد : 1 / 90 ، رسائل المرتضي : 4 / 125 والنهاية : 7 / 372 .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 90 : « ذكر أهل السير قتلى أحُد من المشركين ، فكان جمهورهم قتلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فروى عبد الملك بن هشام قال . . كان صاحب لواء قريش يوم أحُد طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، قتله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وقتل ابنه أبا سعيد بن طلحة ، وقتل أخاه كلدة بن أبي طلحة ، وقتل عبد الله بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبد العزي ، وقتل أبا الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي ، وقتل الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أخاه أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أرطاة بن شرحبيل ، وقتل هشام بن أمية ، وعمرو بن
--------------------------- 111 ---------------------------
عبد الله الجمحي ، وبشر بن مالك ، وقتل صواباً مولى بنى عبد الدار ، فكان الفتح له ورجوع الناس من هزيمتهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمقامه يذب عنه دونهم ! وتوجه العتاب من الله تعالى إلى كافتهم لهزيمتهم يومئذ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار ، وكانوا ثمانية نفر وقيل : أربعة أو خمسة » .
وقال العلامة في كشف اليقين / 131 : « وكان جمهور قتلى أحُد مقتولين بسيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان الفتح ورجوع الناس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثبات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .
وفى الثاقب في المناقب / 63 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قَتَل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوم أحد أربعة عشر رجلاً ، وقتل سائر الناس سبعة ، وأصابه يومئذ ثمانون جراحة ، فمسحها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلم ينفح منها شئ » .
وفى المناقب : 1 / 385 و 2 / 78 : « عن أبان بن عثمان ، أنه أصاب علياً يوم أحد ستون جراحة ، وأصاب علياً يوم أحد ستة عشر ضربة ، وهو بين يدي رسول الله يذب عنه في كل ضربة يسقط إلى الأرض ، فإذا سقط رفعه جبرئيل . .
أصابني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح فأخذ بضبعى فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان ، قال على ( عليه السلام ) : فأتيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخبرته فقال : يا علي أقر الله عينك ، ذاك جبرئيل » .
وفى المناقب : 3 / 85 ، عن زيد بن علي قال : « كسرت زند على يوم أحد وفى يده لواء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسقط اللواء من يده ، فتحاماه المسلمون أن يأخذوه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة . وفى رواية غيره : فرفعه المقداد وأعطاه علياً » . ورواه السرخسي في المبسوط : 1 / 73 .
وفى تحفة الفقهاء للسمرقندي : 1 / 90 ، أنه كسر زنداه يومئذ ! ولم يذكر متي ، ولعله في الجولة الأولى بعد قتله أصحاب الألوية ، وقد واصل جهاده وكأنه لم يصبه شئ فقد مسح النبي ( صلى الله عليه وآله ) جراحه !
--------------------------- 112 ---------------------------
وفى المناقب : 1 / 341 : « المعروفون بالجهاد : علي ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، وسعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب وسعد بن معاذ ، ومحمد بن مسلمة . وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلى ( عليه السلام ) في شوكته وكثرة جهاده . فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة . وقد أجمعت الأمة على أن علياً ( عليه السلام ) كان المجاهد في سبيل الله والكاشف الكروب عن وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، المقدم في ساير الغزوات إذا لم يحضر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً ، وما كان قط تحت لواء أحد ، ولا فر من زحف ! وإنهما فرَّا في غير موضع ، وكانا تحت لواء جماعة » .
فأعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذا الفقار يومها إلى علي ( عليه السلام ) وكان نزل في بدر فأعطاه علياً ( عليه السلام ) في بدر وقاتل به ، أما يوم أحد فأعطاه إياه عندما تقطع سيفه فصار له ، ونادى جبرئيل في أحُد بندائه يوم بدر .
أقول : مع كل هذا ترى رواة السلطة ينتقصون علياً ( عليه السلام ) ويذمونه ، فقد قالوا إنه أعطى سيفه لفاطمة « عليها السلام » لتغسله وافتخر فقال : « خذيه فلقد أحسنت به القتال » ! فوبخه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : « إن كنت قد أحسنت القتال اليوم ، فلقد أحسن سهل بن حنيف وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وأبو دجانة » . « الحاكم 3 / 409 والحلبية 2 / 547 » . وهذا من الحقد القرشي على على ( عليه السلام ) !

15 - حب علي « عليه السلام » فريضة لا رخصة فيها

في الجواهر السنية / 301 ، عن سلمان الفارسي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « هبط جبرائيل ( عليه السلام ) يوم أحد وقد انهزم المسلمون ولم يبق غير على ( عليه السلام ) ، وقد قتل الله على يده يومئذ من المشركين من قتل فقال جبرئيل : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبر علياً أنى عنه راض ، وأنى آليت على نفسي أن لا يحبه عبد إلا أحببته ، ومن أحببته لم أعذبه بناري ، ولا يبغضه عبد إلا أبغضته ، ومن أبغضته ما له في الجنة من نصيب ! قال : وهبط على جبرئيل ( عليه السلام ) يوم الأحزاب لما قتل علي بن أبي طالب عمرواً فارسهم فقال : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني افترضت الصلاة
--------------------------- 113 ---------------------------
على عبادي فوضعتها عن العليل الذي لايستطيعها ، وافترضت الزكاة فوضعتها عن المقل ، وافترضت الصيام فوضعته عن المسافر ، وافترضت الحج فوضعته عن المعدم ومن لا يجد السبيل إليه ، وافترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات وأهل الأرض ، فلم أعذر فيه أحداً ! فمر أمتك بحبه فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه ، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه » !

16 - جاءت فاطمة الزهراء « عليها السلام » منقضة كالصقر إلى قلب المعركة !

في إعلام الوري : 1 / 177 : « ذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة فصاحت فاطمة « عليها السلام » ، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا وضعت يدها على رأسها ، وخرجت فاطمة « عليها السلام » تصرخ ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : فلما دنت فاطمة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأته قد شج في وجهه وأدمى فوهُ إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ !
قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب !
قال أبان بن عثمان : حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت : كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء ؟ قال ( عليه السلام ) : لا والله ما قبضه الله إلا سَليماً ولكنه شُجَّ في وجهه . قلت : فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صار إليه ؟ قال : والله ما برح مكانه ، وقيل له ( صلى الله عليه وآله ) : ألا تدعو عليهم ؟ قال : اللهم اهد قومي » .
وفى المناقب : 1 / 166 : « وصاح إبليس من جبل أحد : ألا إن محمداً قد قتل ! فصاحت فاطمة « عليها السلام » ووضعت يدها على رأسها ، وخرجت تصرخ » !
وفى تفسير القمي : 1 / 124 : « خرجت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقعدت بين يديه ، فكان إذا بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكت لبكائه ، وإذا انتحب انتحبت » ! وكان بكاؤه ( صلى الله عليه وآله ) حباً وشكراً لفاطمة « عليها السلام » ، وبكاؤها تأثراً لوحدته وجراحه !
--------------------------- 114 ---------------------------
ومعنى ذلك أنها حضرت عندما جاء على وجبرئيل « عليهما السلام » بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى ظل الصخرة ، بعد أن جرح ووقع في حفرة ، فجاء بها الله تعالى لتغسل جراحه وتكون إلى جنبه ! فجاءت ركضاً تمشى في سفوح وادى قُبا الشرقية ، لأن الوادي كانت بيد جيش قريش ، ولو رأوها لأخذوها أسيرة ، وكان ذلك نصراً عظيماً لهم !
ويظهر أنها جاءت وحدها ، فلم تذكر المصادر أحداً معها !
كما أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما أرسل علياً ( عليه السلام ) خلف جيش قريش ، بقيت فاطمة معه وحدهما ، وهذا خطر آخر تعرض له النبي ( صلى الله عليه وآله ) والزهراء « عليها السلام » !
وقد طمس رواة السلطة دورها « عليها السلام » في أحُد ، ولم يشيدوا بمجيئها إلى المعركة والناس فارُّون ! وغاية ما رووه أنها وعلياً « عليهما السلام » غسلا جرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
قال بخارى في صحيحه : 3 / 227 : « لما كسرت بيضة النبي ( صلى الله عليه وآله ) على رأسه وأدمى وجهه وكسرت رباعيته ، كان على يختلف بالماء في المجن وكانت فاطمة « عليها السلام » تغسله ، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه يعنى رمادها ، فرقأ الدم » .

17 - الصحابة الهاربون على جبل أحد

في سيرة ابن إسحاق : 3 / 309 ، وغيره ، أن أنس بن النضر : « انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم « انهاروا » فقال : ما يجلسكم ؟ ! قالوا : قتل رسول الله ! قال : فما تظنون بالحياة بعده ؟ ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل « رحمه الله » » .
وفى الطبري : 2 / 201 : « فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أَمَنَةً من أبي سفيان ! يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ! قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ! اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل » .
--------------------------- 115 ---------------------------
وهذا يدل على أن همهم كان تدبير سلامتهم ، وأخذ الأمان من أبي سفيان ، ويدل قولهم فارجعوا إلى قومكم أو إلى دين قومكم ، على أنهم قرشيون !

18 - نادى النبي « صلى الله عليه وآله » الفارين بأسمائهم

في شرح النهج : 15 / 24 ، عن محمد بن مسلمة قال : « سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لايلوون عليه ، سمعته يقول : إلى يا فلان ، إلى يا فلان ، أنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فما عرج عليه واحد منهما ومضيا ، فأشار ابن معد إلى أي إسمع ، فقلت : وما في هذا ؟ قال : هذه كناية عنهما . فقلت : ويجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما .
قال : ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما . قلت له : هذا ممنوع . فقال : « دعنا من جدلك ومنعك ، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وأنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحاً » .
وروى الطبري في تفسيره : 4 / 193 : « خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران قال : لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروي ، والناس يقولون : قتل محمد » ! والأروي : العنزة الجبلية التي تجيد تسلق الصخور !
ونص الرواة على أن طلحة كان مع الفارين في الجبل عند الصخرة . وذكر ابن مسعود أنه كان من أول الراجعين ، لكن بعد انتهاء المعركة !
وقد كثرت مكذوبات رواة السلطة في ادعاء حضور فلان وفلان بعد فرارهم ، وكذا الحوار الذي اخترعوه بين أبي سفيان وعمر وأبى بكر ! مع أنهم كانوا على الصخرة فوق جبل أحُد يريدون إرسال أحد إلى أبي سفيان ليأخذوا منه الأمان ، فلو كان يسمع صوتهم لما احتاجوا إلى إرسال أحد اليه ! راجع الصحيح من السيرة : 6 / 203 .

19 - ولحقهم علي « عليه السلام » في أول فرارهم ووبخهم !

في تفسير القمي : 1 / 114 : « وروى عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال : كنت أماشى فلاناً « عمر » إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه ، ماذا يا فلان ؟ قال ويحك
--------------------------- 116 ---------------------------
أما ترى الهزير القضم ابن القضم . فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب ، فقلت له : يا هذا هو علي بن أبي طالب ! فقال : أدن منى أحدثك عن شجاعته وبطولته ، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال ، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه ، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا ، فرأيت علياً كالليث يتقى الدر ، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال : شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلى أين تفرون ، إلى النار ؟ ! فلم نرجع ، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال : بايعتم ثم نكثتم ؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل ! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً ، أو كالقدحين المملوين دماً ، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا ، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت : يا أبا الحسن الله الله ، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفى الفرة ، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني ، فما زلت أسكن روعة فؤادي ! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة » !

20 - بعض الصحابة الهاربين كفروا وشبعوا كفراً !

قال أحد الهاربين يوم أحد : « والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا ! إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل ! فترخصوا في الفرار حينئذ » ! الدر المنثور : 2 / 80 .
وقال مرضى القلوب منهم : « قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي : قد قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأول » ! تفسير الطبري : 4 / 151 .
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 80 : « وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول . . وأخرج ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس أن رسول الله اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة والناس يفرون ورجل قائم على الطريق يسألهم : ما فعل رسول الله ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون : والله ما ندري ما فعل ! فقال : والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا وقالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل ! فترخصوا في الفرار » .
--------------------------- 117 ---------------------------

21 - قالوا كل التقصير من النبي « صلى الله عليه وآله » !

قال عمر : « فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفرَّ أصحاب رسول الله عن النبي ، فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه وأنزل الله : وَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بأخذكم الفداء » ! « مجمع الزوائد : 6 / 115 » . وصححه ابن حجر في العجاب : 2 / 780 .
وهو معنى قوله تعالي : يقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ مَا لايبْدُونَ لَكَ يقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا . .

22 - شهادة حمزة عم النبي « صلى الله عليه وآله »

في تفسير القمي : 1 / 117 : « وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر ، فكلما انهزم رجل من قريش رفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت : إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا ، وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد . وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشياً عهداً لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطيتك رضاك . وكان وحشى عبداً لجبير بن مطعم ، حبشياً ، فقال وحشي : أما محمد فلا أقدر عليه وأما على فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه .
قال : فكمنت لحمزة فرأيته يهدُّ الناس هدّاً فمر بي فوطأ على جرف نهر فسقط ، فأخذت حربتى فهززتها ورميته فوقعت في خاصرته وخرجت من مثانته مغمسة بالدم ، فسقط ، فأتيته فشققت بطنه وأخذت كبده وأتيت بها إلى هند فقلت لها : هذه كبد حمزة ! فأخذتها في فيها فلاكتها فجعلها الله في فيها مثل الداغصة فلفظتها ورمت بها ! فبعث الله ملكاً فحملها وردها إلى موضعها !
فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : يأبى الله أن يدخل شيئاً من بدن حمزة النار ، فجاءت إليه هند فقطعت مذاكيره ، وقطعت أذنيه ، وجعلتهما خرصين وشدتهما في عنقها ، وقطعت يديه ورجليه » ! ونحوه الإرشاد : 1 / 83 .
--------------------------- 118 ---------------------------
وفى المناقب : 1 / 166 : « قال الصادق ( عليه السلام ) : فزرقه وحشى فوق الثدي فسقط ، وشدوا عليه فقتلوه ، فأخذ وحشى الكبد فشد بها إلى هند ، فأخذتها فطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة فلفظتها ! ورأى الحليس بن علقمة أبا سفيان وهو يشد الرمح في شدق حمزة فقال : أنظروا إلى من يزعم أنه سيد قريش ما يصنع بعمه الذي صار لحماً ؟ ! وأبو سفيان يقول : ذق يا عقق . وأتت هند وجدعت أنفه وأذنه ، وجعلت في مخنقتها بالذريرة مدة » .
وفى رسائل المرتضي : 4 / 125 ، أن هنداً نذرت يوم بدر أن تأكل كبد حمزة ( عليه السلام ) .
وفى شرح الأخبار : 1 / 268 : « قال وحشي : رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسفيه هداً ما يقوم له أحد ، فاستترت بشجرة أو قال بحجر منه ليدنو إلى فأرميه بالحربة من حيث لا يراني ، إذ لم أكن أقدر على مواجهته ، فإني على ذلك إذ بسباع بن عبد العزى قد سبقني إليه يريد نزاله . . ثم حمل عليه حمزة حملة أسد فضربه بالسيف ، فكأنما أخطى رأسه ووقف عليه وقد خر ميتاً وهو لا يراني ، وأرسلت الحربة إليه ، فأصبته في مقتل فسقط ميتاً ! يخبر وحشى بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد جاء مسلماً وسأله عن ذلك ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا وحشى غيب عنى وجهك ، فلا أراك » !
وفى تفسير القمي : 1 / 123 : « فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى وقف عليه فلما رأى ما فعل به بكى ثم قال : والله ما وقفت موقفاً قط أغْيظَ على من هذا المكان ! لئن أمكنني الله من قريش لأمثلن بسبعين رجلاً منهم ! فنزل عليه جبرئيل فقال : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بل أصبر . . فألقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على حمزة بُردة كانت عليه فكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه وإذا مدها على رجليه بدا رأسه ، فمدها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش وقال : لولا أنى أحذر نساء بنى عبد المطلب لتركته للعادية والسباع حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع والطير ! وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالقتلى فجمعوا فصلى عليهم ودفنهم في مضاجعهم ، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة » .
وفى تاريخ اليعقوبي : 2 / 49 : « فجزع عليه رسول الله جزعاً شديداً وقال : لن أصاب بمثلك وكبَّر عليه خمساً وسبعين تكبيرة » .
--------------------------- 119 ---------------------------
وقال ابن هشام : 3 / 607 : « أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بحمزة فسجّى ببردة ، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ، ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة . قال ابن إسحاق : وقد أقبلت فيما بلغني صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لابنها الزبير بن العوام : إلقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها فقال لها : يا أمه ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأمرك أن ترجعي ، قالت : ولم ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله .
فلما جاء الزبير إلى رسول الله فأخبره بذلك ، قال : خل سبيلها ، فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له ، ثم أمر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدفن » .
« عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة » . « مسند أحمد : 5 / 135 » . وروى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « أشهد أنكم أحياء عند الله ، فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفس محمد بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة » . مجمع الزوائد : 3 / 60 .
وفى كشف الغمة : 1 / 189 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سئل على منبر الكوفة عن قوله تعالي : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ ينْتَظِرُ . . فقال : اللهم غفراً ، هذه الآية نزلت في وفى عمى حمزة وفى ابن عمى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر ، وأما عمى حمزة فإنه قضى نحبه شهيداً يوم أحد ، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه ، وأومى بيده إلى لحيته ورأسه ، عهدٌ عهده إلى حبيبي أبو القاسم ( صلى الله عليه وآله ) » !
وفى شرح الأخبار : 1 / 282 : « ثم انصرف ( صلى الله عليه وآله ) راجعاً إلى المدينة وانصرف الناس معه ، فلما دخل المدينة مر على دور الأنصار وهم يبكون قتلاهم ، فذرفت عيناه ( صلى الله عليه وآله ) فبكى ثم قال : لكن حمزة لا بواكى له ! فأمر الأنصار نساءهم أن يبكين عليه ففعلن ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهن يبكين حمزة على باب المسجد فقال : إرجعن رحمكن الله ، فقد آسيتن بأنفسكن ، ونهاهن عن النوح وقال : كل نادبة
--------------------------- 120 ---------------------------
كاذبة إلا نادبة حمزة » . وقد روته مصادرهم ، كمسند أحمد : 1 / 463 وفتح الباري : 7 / 272 .
وفى الطرائف / 503 : « قيل لعبد الله بن يحيي : هل تصلى مع معاوية ؟ قال : لا والله لا أجد فرقاً بين الصلاة خلفه وبين الصلاة خلف امرأة يهودية حائض ، ولذا لو صليت خلفه تقية أعدتها ! وسئل شريك عن فضائل معاوية فقال : إن أباه قاتلَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو قاتلَ وصى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمه أكلت كبد حمزة عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وابنه قتل سبط النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وهو ابن زنا ! فهل تريد له منقبة بعد ذلك » !

23 - شهادة الحاخام مخيريق أفضل بني إسرائيل

في المناقب : 1 / 146 : « أسلم وقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأوصى بماله لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو سبع حوائط وهي : المينب ، والصايفه ، والحسني ، ويرقد ، والعواف ، والكلاء ، ومشربة أم إبراهيم » . وقد ذكرناه في اليهود بعد بدر .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 362 : « وكان من حديث مخيريق وكان حبراً عالماً ، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل ، وكان يعرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصفته وما يجد في علمه ، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك ، حتى إذا كان يوم أحُد وكان يوم أحُد يوم السبت قال : يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون إن نصر محمد عليكم لحق ، قالوا : إن اليوم يوم السبت ، قال : لا سبت لكم ، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله ، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغني يقول : مخيريق خير يهود . وقبض رسول الله أمواله فعامة صدقات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة منها » .

24 - جهاد أبى دجانة الأنصاري « رحمه الله »

في شرح الأخبار : 1 / 273 : « أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيفاً بيده فهزه وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقال الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله ، فأعرض عنه رسول الله وقال : من يأخذ بحقه ؟ فقام إليه أبو دجانة الأنصاري وكان من أبطال الأنصار فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : ألا يقف به في الكبول يعنى أواخر الصفوف وأن يضرب به
--------------------------- 121 ---------------------------
في العدو حتى ينحني . فقال : أنا آخذه يا رسول الله فدفعه إليه ، فأخذه أبو دجانة وهو مالك بن حرشة أخو بنى سعدة من الأنصار ، ثم أخرج عصابة معه حمراء فتعصب بها فقالت الأنصار : تعصب أبو دجانة عصابته قد نزل الموت ، وكان ذلك من فعله . ثم خرج يتبختر بين الصفين ويقول :
إني امرؤٌ عاهدنى خليلي * ونحن بالسفح لذي النخيل
ألا أقوم الدهر في الكبول * أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنها مشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا المقام . قال الزبير : فقلت : منعني رسول الله السيف وأعطاه أبا دجانة ، والله لأتبعنه حتى لأنظر ما يصنع ، فاتبعته حتى هجم في المشركين فجعل لا يلقى منهم أحداً إلا قتله ، فقلت : الله ورسوله أعلم ! قال : وكان في المشركين رجل قد أبلى ولم يدع منا جريحاً إلا دق عليه أي قتله فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما ، فالتقيا واختلفا بضربتين فضرب المشرك أبا دجانة ضربة بسيفه فاتقاها أبو دجانة بدرقته فعضب السيف ، وضربه أبو دجانة فرمى برأسه !
ثم رأيته حمل السيف على مفرق رأس هند ابنة عتبة ثم عدله عنها ! فقيل : لأبى دجانة في ذلك ! فقال : رأيت إنساناً يخمِّش الناس خمشاً شديداً يعنى يحركهم القتال فصدرت إليه يعنى قصدته فلما حملت السيف على رأسه لأضربه وَلْوَلَ ، فإذا به امرأة فأكرمت سيف رسول الله من أن أضرب به امرأة » ! ومسلم : 7 / 151 .
وفى علل الشرائع : 1 / 7 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأبو دجانة سماك بن خرشة ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا دجانة أما ترى قومك ؟ قال : بلي . قال : إلحق بقومك قال : ما على هذا بايعت الله ورسوله ! قال : أنت في حل . قال : والله لا تتحدث قريش بأنى خذلتك وفررت حتى أذوق ما تذوق ! فجزَّاه النبي خيراً ، وكان على كلما حملت طائفة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استقبلهم وردهم حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه ، فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا
--------------------------- 122 ---------------------------
رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه ( عليه السلام ) سيفه ذا الفقار ، فما زال يدفع به عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى أثَّر وانكسر ، فنزل عليه جبرئيل وقال : يا محمد ، إن هذه لهى المواساة من على لك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنه منى وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما » .
قال : مصنف هذا الكتاب « رحمه الله » : قول جبرئيل ( عليه السلام ) : وأنا منكما تمنٍّ منه لأن يكون منهما ، فلو كان أفضل منهما لم يقل ذلك ولم يتمن أن ينحط عن درجته إلى أن يكون ممن دونه ، وإنما قال : وأنا منكما ، ليصير ممن هو أفضل منه فيزداد محلاً إلى محله وفضلاً إلى فضله » .
ورواه فرات في تفسيره / 93 ، عن حذيفة وفيه : « فلما سمع رسول الله كلامه ورغبته في الجهاد إنتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى صخرة فاستتر بها ليتقى بها من السهام سهام المشركين ، فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحة فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به » .
وفى الإرشاد : 2 / 386 ، عن المفضل عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « يخرج القائم ( عليه السلام ) من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً ، خمسة عشر من قوم موسى ( عليه السلام ) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون ، وسبعة من أهل الكهف ، ويوشع بن نون ، وسلمان ، وأبا دجانة الأنصاري ، والمقداد ، ومالكاً الأشتر ، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً » . ومعجم أحاديث الإمام المهدي « عليه السلام » : 5 / 122 .

25 - جهاد نسيبة أم عمارة بنت كعب المازنية

في تفسير القمي : 1 / 115 : « وبقيت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نسيبة بنت كعب المازنية ، وكانت تخرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزواته تداوى الجرحي ، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه فقالت : يا بنى إلى أين تفر عن الله وعن رسوله ؟ ! فردته فحمل عليه رجل فقتله ، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بارك الله عليك يا نسيبة . وكانت تقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصدرها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة !
--------------------------- 123 ---------------------------
وحمل ابن قميئة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أروني محمداً لا نجوت إن نجا ، فضربه على حبل عاتقه ، ونادى قتلت محمداً واللات والعزي .
ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه : يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار ! فرمى بترسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان » .
وقال ابن هشام : 3 / 599 : « وقاتلت أم عمارة ، نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد . فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري : أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول : دخلت على أم عمارة ، فقلت لها : يا خالة أخبريني خبرك ، فقالت : خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراح إلي ، قالت : فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور ، فقلت : من أصابك بهذا ؟ قالت : ابن قمئة أقمأه الله ! لما ولى الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أقبل يقول : دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله فضربني هذه الضربة فلقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان » .
وفى قاموس الرجال : 12 / 347 : « شهدت نسيبة العقبة مع زوجها ، وشهدت أحداً وشهدت اليمامة . قاتلت حين كر المشركون فضربها ابن قميئة ضربة بالسيف على عاتقها ، وقاتلت نسيبة يوم اليمامة فقطعت يدها وهى تريد
مسيلمة لتقتله » .
--------------------------- 124 ---------------------------

26 - دخل الجنة ولم يصلِّ ركعة

كان عمرو بن قيس قد تأخر إسلامه ، فلما بلغه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الحرب أخذ سيفه وترسه وأقبل كالليث العادي يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم خالط القوم فاستشهد ، فمر به رجل من الأنصار فرآه صريعاً بين القتلى فقال : « يا عمرو أنت على دينك الأول ؟ فقال معاذ الله ، والله إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم مات ! فقال رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله إن عمرو بن قيس قد أسلم فهو شهيد ؟ فقال : إي والله إنه شهيد ، ما رجل لم يصل لله ركعة دخل الجنة غيره » .

27 - شهادة حنظلة غسيل الملائكة « رحمه الله »

في شرح الأخبار : 1 / 269 : « وبارز يومئذ أبو سفيان حنظلة بن أبي عامر الغسيل من الأنصار ، فصرع حنظلة أبا سفيان وعلاه ليقتله ، فرآه شداد بن الأسود فجاءه من خلفه فضربه فقتله ، وقام أبو سفيان من تحته ، وقال : حنظلة بحنظلة ! يعنى ابنه حنظلة المقتول ببدر ، الذي ذكر أن علياً ( عليه السلام ) قتله يومئذ .
ولما انهزم المشركون عن أحد وقف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على قتلى المسلمين ، وأمر بدفنهم في مصارعهم ، ورد من حمل منهم فدفن هناك ، وأمر بدفنهم في ثيابهم وبدمائهم من غير أن يغسلوا كما يفعل بالشهداء ، فرأى الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر الأنصاري . فلما قدم المدينة قال : سلوا عنه امرأته . فقالت : فلما سمع بخروج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج مبادراً وهو جنب من قبل أن يغتسل . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فلذلك ما رأيت من غسل الملائكة إياه » . ونحوه ابن هشام : 3 / 592 .
وفى تفسير القمي : 1 / 112 : « وكان حنظلة بن أبي عامر رجل من الخزرج ، قد تزوج في تلك الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد ، بنت عبد الله بن أبي سلول ودخل بها في تلك الليلة . . فأصبح وخرج وهو جنب ، فحضر القتال فبعثت امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار لما أراد حنظلة أن يخرج من عندها وأشهدت عليه أنه قد واقعها ، فقيل
--------------------------- 125 ---------------------------
لها : لم فعلت ذلك ؟ قالت رأيت في هذه الليلة في نومى كأن السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انضمت ، فعلمت أنها الشهادة ، فكرهت أن لا أشهد عليه فحملت منه . فلما حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكرين فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرص وسقط أبو سفيان إلى الأرض وصاح : يا معشر قريش أنا أبو سفيان ، وهذا حنظلة يريد قتلي ، وعدا أبو سفيان ومر حنظلة في طلبه ، فعرض له رجل من المشركين فطعنه ، فمشى المشرك في طعنته فضربه فقتله ، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حزام وجماعة من الأنصار ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : رأيت الملائكة يغسلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من ذهب ، فكان يسمى غسيل الملائكة » .

28 - جهاد رُشَيد الهَجَرى في أحُد

واسمه عبد الرحمن بن عقبة ، قال : « شهدت مع نبي الله يوم أحد فضربت رجلاً من المشركين فقلت : خذها منى وأنا الغلام الفارسي ، فبلغت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هلا قلت : خذها منى وأنا الغلام الأنصاري » . أحمد : 5 / 295 ، راجع : جواهر التاريخ : 2 / 406 .

29 - أبو عزة الذي أراد اغتيال النبي « صلى الله عليه وآله »

في الخرائج : 1 / 149 : « كان أبو عزة الشاعر ، حضر مع قريش يوم بدر يحرض قريشاً بشعره على القتال ، فأسر في السبعين الذين أسروا . فلما وقع الفداء على القوم قال أبو عزة : يا أبا القاسم تعلم أنى رجل فقير فامنن على بناتي ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن أطلقتك بغير فداء أتكثر علينا بعدها ؟ قال : لا والله . فعاهده أن لا يعود ، فلما كانت حرب أحد دعته قريش إلى الخروج معها ليحرض الناس بشعره على القتال ، فقال : إني عاهدت محمداً ألا أكثر عليه بعدما من علي . قالوا : ليس هذا من ذاك ، إن محمداً لا يسلم منا في هذه الدفعة ، فقلبوه عن رأيه فلم يؤسر يوم أحد من قريش غيره ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ألم تعاهدني ؟ قال : إنما غلبوني
--------------------------- 126 ---------------------------
على رأيي فامنن على بناتي . قال : لا ، تمشى بمكة وتحرك كتفيك فتقول : سخرت من محمد مرتين ! المؤمن لايلسع من جحر مرتين ! يا علي اضرب عنقه » . والخلاف : 4 / 193
وابن إسحاق : 3 / 302 .

30 - النبي « صلى الله عليه وآله » يشفى عين قتادة من أجل عروسه

في كشف الغمة : 1 / 187 : « أصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته ، قال : فجئت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : يا رسول الله إن تحتى امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني ، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني ! فأخذها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فردها فأبصرت وعادت كما كانت لم تؤلمه ساعة من ليل أو نهار ، فكان يقول : بعد أن أسن هي أقوى عيني ، وكانت أحسنهما » . ونحوه الإحتجاج : 1 / 332 والثاقب في المناقب / 64 .

31 - عندما اضطرب المسلمون قتلوا والد حذيفة خطأ !

« اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبى حذيفة يوم أحد ولا يعرفونه ، فقتلوه ، فأراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يدِيه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين » . أحمد : 5 / 429 .

32 - لعن النبي « صلى الله عليه وآله » أبا سفيان يوم أحُد

روى في الخصال / 397 ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، قال : « إن رسول لله ( صلى الله عليه وآله ) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن في كلهن لا يستطيع إلا أن يلعنه ، أولهن : يوم لعنه الله ورسوله وهو خارج من مكة إلى المدينة مهاجراً وأبو سفيان جائى من الشام ، فوقع فيه أبو سفيان يسبه ويوعده وهمَّ أن يبطش به فصرفه الله عن رسوله .
والثانية : يوم العير إذا طردها ليحرزها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلعنه الله ورسوله .
والثالثة : يوم أحد قال أبو سفيان : أُعل هبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان : لنا عزى ولا عزى لكم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الله مولانا ولا مولى لكم .
والرابعة : يوم الخندق يوم جاء أبو سفيان في جميع قريش فرد هم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وأنزل الله عز وجل في القرآن آيتين في سورة الأحزاب فسمى أبا سفيان وأصحابه كفاراً ، ومعاوية مشرك عدو لله ولرسوله .
--------------------------- 127 ---------------------------
والخامسة : يوم الحديبية والهدى معكوفاً أن يبلغ محله ، وصد مشركوا قريش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن المسجد الحرام وصدوا بُدْنَهُ أن تبلغ المنحر ، فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يطف بالكعبة ولم يقض نسكه ، فلعنه الله ورسوله .
والسادسة : يوم الأحزاب يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش وعامر بن الطفيل بجمع هوازن وعيينة بن حصن بغطفان ، وواعد لهم قريظة والنضير أن يأتوهم فلعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القادة والأتباع وقال : أما الأتباع فلا تصيب اللعنة مؤمناً ، وأما القادة فليس فيهم مؤمن ولا نجيب ولا ناج .
والسابعة : « يوم حملوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في العقبة وهم اثنا عشر رجلاً من بنى أمية وخمسة من سائر الناس فلعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من على العقبة غير النبي ( صلى الله عليه وآله ) وناقته وسائقه وقائده . قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : جاء هذا الخبر هكذا . والصحيح أن أصحاب العقبة كانوا أربعة عشر » . والاحتجاج : 1 / 408 وشرح الأخبار : 2 / 165 .

33 - لماذا قرر المشركون أن يبقوا عمر بن الخطاب ولا يقتلوه ؟

قال ابن هشام : 2 / 282 : « وكان ضرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد ، فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول : أنج يا ابن الخطاب . لا أقتلك ! فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه » ! وقد عقد في الصحيح من السيرة : 6 / 235 فصلاً ، لمعرفة سبب قول ضرار بن الخطاب لعمر بن الخطاب : « والله ما كنت لأقتلك » ! وكان ضرار بن الخطاب مقرباً من أبي سفيان ، وهو من فرسان قريش وشعرائها ، وشعره في هجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) مشهور !
وكذا جرى لعمر في غزوة الخندق وتعمد المشركين تركه وعدم المساس به !

34 - فداءً لك يا رسول الله !

« عن أنس قال : « لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة فقالوا : قتل محمد ! حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة ، فخرجت امرأة من الأنصار متحزنة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها ، لا أدرى أيهم استقبلت أولاً ، فلما
--------------------------- 128 ---------------------------
مرت على آخرهم قالت : من هذا ؟ قالوا : أخوك وأبوك وزوجك وابنك ! قالت : ما فعل النبي ؟ قالوا : أمامك ، فمشت حتى جاءت إليه فأخذت بناحية ثوبه وجعلت تقول : بأبى أنت وأمي يا رسول الله لاأبالى إذا سلمت من عطب » مسكن الفؤاد / 72 .

35 - بركة النبي « صلى الله عليه وآله » على تمر جابر الأنصاري

في الخرائج : 1 / 154 ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « استشهد والدي بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم أحد وهو ابن مائتي سنة ، وكان عليه دين ، فلقيني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً فقال : ما فعل دين أبيك ؟ قلت : على حاله . فقال : لمن هو ؟ قلت : لفلان اليهودي . قال : متى حينه ؟ قلت : وقت جفاف التمر . قال : إذا جففت التمر فلا تحدث فيه حتى تعلمني واجعل كل صنف من التمر على حدة . ففعلت ذلك وأخبرته ( صلى الله عليه وآله ) ، فصار معي إلى التمر وأخذ من كل صنف قبضة بيده وردها فيه ، ثم قال : هات اليهودي . فدعوته فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إختر من هذا التمر أي صنف شئت فخذ دينك منه . فقال اليهودي : وأي مقدار لهذا التمر كله حتى آخذ صنفاً منه ؟ ولعل كله لا يفي بديني ! فقال : إختر أي صنف شئت فابتدئ به ، فأومى إلى صنف الصيحاني فقال : أبتدئ به ؟ فقال : إفعل باسم الله ، فلم يزل يكيل منه حتى استوفى منه دينه كله ، والصنف على حاله ما نقص منه شئ ! ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا جابر هل بقي لأحد عليك شئ من دينه ؟ قلت : لا . قال : فاحمل تمرك بارك الله لك فيه ، فحملته إلى منزلي وكفانا السنة كلها ، فكنا نبيع لنفقتنا ومؤونتنا ونأكل منه ، ونهب منه ونهدي ، إلى وقت التمر الحديث ، والتمر على حاله إلى أن جاءنا الجديد » .

36 - قزمان مثلٌ لسيئ التوفيق

في سيرة بن هشام : 2 / 368 و 605 : « قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : كان فينا رجل أتى لا يدرى ممن هو يقال له قزمان ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول إذا ذكر له : إنه لمن أهل النار ! قال : فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس ، فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بنى
--------------------------- 129 ---------------------------
ظفر . قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون له : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر . قال : بماذا أبشر ؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت . قال : فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته فقتل به نفسه » !

37 - عثمان يؤوى عمه المشرك القاتل !

كان معاوية بن المغيرة بن العاص الأموي ابن عم عثمان بن عفان ، شديد العداء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى هدر دمه ، وهو جدُّ عبد الملك بن مروان لأمه .
وكان مع أبي سفيان في جيش أحد ، ولما انهزم القرشيون أمام المسلمين في الجولة الأولى هرب ابن المغيرة فدخل المدينة وآوى إلى بيت ابن عمه عثمان ، فتشفع فيه عثمان وألح على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأمهله ثلاثاً على أن لا يراه في المدينة ولا حولها ، ولعن من أعانه وجهزه فجهزه عثمان ، وتأخر في المدينة ليأخذ أخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقريش ! فنزل جبرئيل وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكانه أيام حمراء الأسد ، فأرسل علياً وعماراً فقتلاه ! وحكى الإمام الصادق ( عليه السلام ) قصته كما في الكافي : 3 / 251 قال : « إن الفاسق آوى عمه المغيرة بن أبي العاص وكان ممن هدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دمه ، فقال لابنة رسول الله : لا تخبري أباك بمكانه كأنه لا يوقن أن الوحي يأتي محمداً ! فقالت : ما كنت لأكتم رسول الله عدوه ! فجعله بين مشجب له ولحفه بقطيفة ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوحي فأخبره بمكانه فبعث إليه علياً ( عليه السلام ) وقال : اشتمل على سيفك وائت بيت ابنة ابن عمك ، فإن ظفرت بمعاوية بن المغيرة فاقتله !
فأتى البيت فجال فيه فلم يظفر به فرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره فقال : يا رسول الله لم أره ، فقال : إن الوحي قد أتاني فأخبرني أنه في المشجب ! ودخل عثمان بعد خروج على فأخذ بيد عمه فأتى به النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلما رآه أكب عليه ولم يلتفت إليه ! وكان نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) حيياً كريماً فقال : يا رسول الله هذا عمي ، هذا المغيرة بن أبي العاص وقد والذي بعثك بالحق آمنته . قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : وكذب ، والذي بعثه بالحق ما آمنه ! فأعادها ثلاثاً أنى آمنته ، وأعادها أبو عبد الله ( عليه السلام ) ثلاثاً ، إلا أنه يأتيه
--------------------------- 130 ---------------------------
عن يمينه ثم يأتيه عن يساره ، فلما كان في الرابعة رفع رأسه إليه فقال له : قد جعلته لك ثلاثاً فإن قدرتُ عليه بعد ثالثة قتلته ، فلما أدبر قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم العن المغيرة بن أبي العاص ، والعن من يؤويه ، والعن من يحمله ، والعن من يطعمه ، والعن من يسقيه ، والعن من يجهزه ، والعن من يعطيه سقاء أو حذاء أو رشاء أو وعاء ، وهو يعدهن بيمينه !
وانطلق به عثمان فآواه وأطعمه وسقاه وحمله وجهزه ، حتى فعل جميع ما لعن عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) من يفعله به ! ثم أخرجه في اليوم الرابع يسوقه فلم يخرج من أبيات المدينة حتى أعطب الله راحلته ونقب حذاه وورمت قدماه ، فاستعان بيديه وركبتيه وأثقله جهازه حتى وجس به ، فأتى شجرة فاستظل بها ، لو أتاها بعضكم ما أبهره ذلك ! فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوحي فأخبره بذلك فدعا علياً ( عليه السلام ) فقال : خذ سيفك وانطلق أنت وعمار وثالث لهم فأت المغيرة بن أبي العاص تحت شجرة كذا وكذا ، فأتاه على فقتله .
فضرب عثمان بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أنت أخبرت أباك بمكانه ! فبعثت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تشكو ما لقيت ، فأرسل إليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إقنى حياءك ، ما أقبح بالمرأة ذات حسب ودين في كل يوم تشكو زوجها ! فأرسلت إليه مرات كل ذلك يقول لها ذلك ، فلما كان في الرابعة دعا علياً ( عليه السلام ) وقال : خذ سيفك واشتمل عليه ثم ائت بيت ابنة ابن عمك فخذ بيدها ، فإن حال بينك وبينها أحد فاحطمه بالسيف ، وأقبل بها إلى رسول الله ! فلما نظرت إليه رفعت صوتها بالبكاء واستعبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبكي ، ثم أدخلها منزله وكشفت عن ظهرها ، فلما أن رأى ما بظهرها قال : ثلاث مرات : ماله قتلك قتله الله ! وكان ذلك يوم الأحد ، وبات عثمان ملتحفاً بجاريتها فمكث الاثنين والثلاثاء وماتت في اليوم الرابع ، فلما حضر أن يخرج بها أمر رسول الله ( عليه السلام ) فاطمة « عليها السلام » فخرجت ونساء المؤمنين معها ، وخرج عثمان يشيع جنازتها ، فلما نظر إليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتبعن جنازتها ! قال ذلك ثلاثاً ، فلم ينصرف فلما كان في الرابعة قال : لينصرفن أولأسمين باسمه ، فأقبل عثمان متوكئاً على مولى له ممسك ببطنه فقال : يا رسول الله إني أشتكى بطني ،
فإن رأيت أن تأذن لي أنصرف ، قال : انصرف . وخرجت فاطمة « عليها السلام » ونساء المؤمنين
--------------------------- 131 ---------------------------
والمهاجرين فصلين على الجنازة » . راجع الصحيح من السيرة : 6 / 206 ، الخرائج : 1 / 94 ، الدرر / 158 وابن هشام : 3 / 617 .

38 - أسماء شهداء أحُد وقتلى المشركين فيها

في سيرة ابن هشام : 3 / 635 : » قال ابن إسحاق : واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من المهاجرين من قريش ، ثم من بني هاشم بن عبد مناف : حمزة بن عبد المطلب بن هشام رضي الله عنه ، قتله وحشي ، غلام جبير بن مطعم . ومن بنى أمية بن عبد شمس : عبد الله بن جحش ، حليف لهم ، من بنى أسد بن خزيمة . ومن بنى عبد الدار بن قصي : مصعب بن عمير قتله ابن قمئة الليثي . ومن بنى مخزوم بن يقظة : شماس بن عثمان . أربعة نفر . ومن الأنصار ، ثم من بنى عبد الأشهل : عمرو بن معاذ بن النعمان ، والحارث بن أنس بن رافع ، وعمارة بن زياد بن السكن . قال ابن هشام : السكن : ابن رافع بن امرئ القيس ، ويقال : السكن . قال ابن إسحاق : وسلمة بن ثابت بن وقش ، وعمرو بن ثابت بن وقش . رجلان .
قال ابن إسحاق : وقد زعم لي عاصم بن عمر بن قتادة : أن أباهما ثابتاً قتل يومئذ . ورفاعة بن وقش ، وحسيل بن جابر ، أبو حذيفة وهو اليمان ، أصابه المسلمون في المعركة ولا يدرون ، فتصدق حذيفة بديته على من أصابه .
وصيفي بن قيظي ، وحباب بن قيظي ، وعباد بن سهل ، والحارث بن أوس بن معاذ . اثنا عشر رجلاً . ومن أهل راتج : إياس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبد الأشهل ، وعبيد بن التيهان .
قال ابن هشام : ويقال : عتيك بن التيهان وحبيب بن يزيد بن تيم . ثلاثة نفر . ومن بنى ظفر : يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع . رجل ومن بنى عمرو بن عوف ، ثم من بنى ضبيعة بن زيد : أبو سفيان بن الحارث ابن قيس بن زيد ، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن نعمان بن مالك بن أمة ، وهو غسيل الملائكة ، قتله
شداد بن الأسود بن شعوب الليثي . رجلان .
--------------------------- 132 ---------------------------
قال ابن هشام : قيس : ابن زيد بن ضبيعة ، ومالك : ابن أمة بن ضبيعة .
قال ابن إسحاق : ومن بنى عبيد بن زيد : أنيس بن قتادة . رجل . ومن بنى ثعلبة بن عمرو بن عوف : أبو حية ، وهو أخو سعد بن خثيمة لأمه . قال ابن هشام : أبو حية : ابن عمرو بن ثابت . قال ابن إسحاق : وعبد الله بن جبير النعمان وهو أمير الرماة . رجلان . ومن بنى السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس : خيثمة أبو سعد بن خيثمة . رجل . ومن حلفائهم من بنى العجلان : عبد الله بن سلمة رجل . ومن بنى معاوية بن مالك : سبيع بن حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة . رجل .
قال ابن هشام : ويقال . سويبق بن الحارث بن حاطب بن هيشة .
قال ابن إسحاق : ومن بنى النجار ، ثم من بنى سواد بن مالك بن غنم : عمرو بن قيس ، وابنه قيس بن عمرو . قال ابن هشام : عمرو بن قيس : ابن زيد بن سواد .
قال ابن إسحاق : وثابت بن عمرو بن زيد ، وعامر بن مخلد . أربعة نفر . ومن
بنى مبذول : أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو بن ثقف بن مالك بن مبذول ، وعمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو . رجلان . ومن بنى عمرو بن مالك : أوس بن
ثابت بن المنذر . رجل .
قال ابن هشام : أوس بن ثابت ، أخو حسان بن ثابت . قال ابن إسحاق : ومن بنى عدى بن النجار : أنس بن النضر بن ضمضم ابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار . رجل ، قال ابن هشام : أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك : خادم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . ومن بنى مازن بن النجار : قيس بن مخلد ، وكيسان ، عبد لهم . رجلان . ومن بنى دينار بن النجار : سليم بن الحارث ، ونعمان بن عبد عمرو . رجلان . ومن بنى الحارث بن الخزرج : خارجة بن زيد بن أبي زهير ، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير ، دفنا في قبر واحد ، وأوس بن الأرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب . ثلاثة نفر . ومن بنى الأبجر ، وهم بنو خدرة : مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر ، وهو أبو أبي سعيد الخدري . قال ابن هشام : اسم أبي سعيد الخدري : سنان ، ويقال : سعد . قال ابن إسحاق : وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عباد بن
--------------------------- 133 ---------------------------
الأبجر ، وعتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر . ثلاثة نفر . ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج : ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد ابن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة ، وثقف بن فروة بن البدي . رجلان . ومن بنى طريف ، رهط سعد بن عبادة : عبد الله بن عمرو بن وهب ابن ثعلبة بن وقش بن ثعلبة بن طريف ، وضمرة ، حليف لهم من بنى جهينة . رجلان . ومن بنى عوف بن الخزرج ، ثم من بنى سالم ، ثم من بنى مالك بن العجلان ابن زيد بن غنم بن سالم : نوفل بن عبد الله ، وعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك ابن العجلان ، ونعمان بن مالك بن ثعلبة بن فهر بن غنم بن سالم ، والمجذر بن زياد ، حليف لهم من بلي ، وعبادة بن الحسحاس . دفن النعمان بن مالك ، والمجذر ، وعبادة ، في قبر واحد . خمسة نفر . ومن بنى الحبلي : رفاعة بن عمرو . رجل ، ومن بنى سلمة ، ثم من بنى حرام : عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام ، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام ، دفنا في قبر واحد ، وخلاد بن عمرو بن الجموح ، وأبو أيمن ، مولى عمرو بن الجموح . أربعة نفر . ومن بنى سواد بن غنم : سليم بن عمرو بن حديدة ، ومولاه عنترة ، وسهل ابن قيس بن أبي كعب بن القين . ثلاثة نفر . ومن بنى زريق بن عامر : ذكوان بن عبد قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان . رجلان . قال ابن إسحاق : فجميع من استشهد من المسلمين مع رسول الله من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلاً .
قال ابن هشام : وممن لم يذكر ابن إسحاق من السبعين الشهداء الذين ذكرنا ، من الأوس ، ثم من بنى معاوية بن مالك : بن تميلة ، حليف لهم من مزينة . ومن بنى خطمة - واسم خطمة : عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس - الحارث بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة . ومن بنى الخزرج ، ثم من بنى سواد بن مالك : مالك بن إياس . ومن بنى عمرو بن مالك بن النجار : إياس بن عدي . ومن بنى سالم بن عوف : عمرو بن إياس .

  • *
    --------------------------- 134 ---------------------------

الفصل السابع والأربعون

آيات معركة أحد كشفت أكثرية الصحابة !

ستون آية في معركة أحد

نزلت في معركة أحد أكثر من ستين آية ، فيها حقائق مهمة عملَ رواة الحكومة القرشية على إخفائها أو تحريفها ، لمدح بعض الصحابة أو التغطية عليهم ، وسلب مناقب آخرين ! ونورد فيما يلي نص الآيات ، وفهرساً لأهم موضوعاتها :
قال الله تعالى في سورة آل عمران : « وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يكْفِيكُمْ أَن يمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . لِيقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يكْبِتَهُمْ فَينْقَلِبُوا خَائِبِينَ . لَيسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئٌ أَوْ يتُوبَ عَلَيهِمْ أَوْ يعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ . وَللهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأرض يغْفِرُ لِمَنْ يشَاءُ وَيعَذِّبُ مَنْ يشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ . وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ ينْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يصِرُّوا
--------------------------- 135 ---------------------------
عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ . قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأرض فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِن يمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ وَلِيعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيمْحَقَ الْكَافِرِينَ .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ . وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ ينْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَنْ يضُرَّ اللهَ شَيئًا وَسَيجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ .
وبعدها آية الانقلاب والكفر الذي حصل في الصحابة لخبر قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ ينْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَنْ يضُرَّ اللهَ شَيئًا وَسَيجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ !
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ .
وَكَأَينْ مِنْ نَبِى قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيرُ النَّاصِرِينَ .
سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ ينَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ . وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمر وَعَصَيتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يرِيدُ الأَخِرَةَ ثُمَّ
--------------------------- 136 ---------------------------
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاتَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَى لا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يظُنُّونَ بِاللهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيةِ يقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ مَا لايبْدُونَ لَكَ يقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِى بُيوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيبْتَلِى اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ .
يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لآخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِى الأرض أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يحْيى وَيمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِمَّا يجْمَعُونَ . وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ .
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ . إِنْ ينْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى ينْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا كَانَ لِنَبِى أَنْ يغُلَّ وَمَنْ يغْلُلْ يأْتِ بِمَا غَلَّ يوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لايظْلَمُونَ .
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يعْمَلُونَ . لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ .
أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . وَمَا أَصَابَكُمْ يوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإِيمَانِ يقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَالَيسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يكْتُمُونَ . الَّذِينَ قَالُوا لآخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
--------------------------- 137 ---------------------------
وَيسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يحْزَنُونَ . يسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لايضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ . الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلايحْزُنْكَ الَّذِينَ يسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يضُرُّوا اللهَ شَيئًا يرِيدُ اللهُ أَلا يجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمان لَنْ يضُرُّوا اللهَ شَيئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلايحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . مَا كَانَ اللهُ لِيذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيهِ حَتَّى يمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيبِ وَلَكِنَّ اللهَ يجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
وَلايحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيطَوَقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يوْمَ الْقِيامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .
لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِياءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقَ . ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ . الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَينَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى بِالْبَينَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَينَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ . لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور . وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَينُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاتَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يشْتَرُونَ .
لاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيحِبُّونَ أَنْ يحْمَدُوا بِمَا لَمْ يفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ
--------------------------- 138 ---------------------------
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِى الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يذْكُرُونَ اللهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيا ينَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ . فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ . آل عمران : 121 - 195 .

أهم موضوعات آيات أحد

1 . ذكرت الآية الأولى ذهاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) صباحاً ليختار مكاناً لمعسكر المسلمين في أحُد ، ثم ذكَّرهم الله تعالى بحركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد صلاة الجمعة إلى أحد ، وكيف تخلف عنه المنافقون وهم ثلث الجيش بقيادة رئيسهم ابن سلول ، فهمت طائفتان من غيرهم أن تتخلفا ، وهم بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، لكن الله عصمهم . البحار : 20 / 17 .
2 . وجاءت الآيات السبع بعدها تذكيراً ببدر : وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ . إلى قوله : غَفُورٌ رَحِيمٌ . فذكرهم بنصره إياهم وقد كانوا قلة ضعفاء ، وأخبرهم أنه عز وجل هو الذي يدير الصراع مع المشركين ، وفق المصلحة التي تهدف إلى نصرة نبيه وتثبيت دينه ، والمغفرة لمن يشاء من عباده وتعذيب بعض من يستحق .
3 . وجاءت الآيات التسع بعدها : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . . إلى قوله : وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، توجيهات اقتصادية واجتماعية وتربوية للمسلمين .
4 . والآيات الثلاث بعدها : ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ . . إلى قوله : يمْحَقَ الْكَافِرِينَ ، توجيه للمسلمين أن لايضعفوا لما أصابهم في معركة أحد من قتل وجراح وهزيمة ، وأخبرهم بأن الله تعالى أذن بذلك ليحقق أربعة أهداف : تمييز المؤمنين ، واتخاذ الشهداء منهم ، وتمحيص المؤمنين ، ومحق الكافرين .
--------------------------- 139 ---------------------------
5 . ثم نبهت الآية بعدها : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ . . المسلمين أن لا يتصوروا أنهم يمكنهم أن يدخلوا الجنة بدون أن يثبتوا عملياً جهادهم وصبرهم !
6 . ثم وبختهم الآية : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ . . بأنهم كانوا قبل أحُد يتمنون الموت في سبيل الله ، لكنهم عندما رأوا الموت والشهادة هرب أكثرهم !
7 . وبعدها آية الانقلاب : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . . تحدثت عن انقلاب الصحابة عندما شاع خبر قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وقال بعضهم : لو كان نبياً ما قتل ! وقال بعضهم : إرجعوا إلى دينكم الأول ! وقال بعضهم : من يذهب ويأخذ لنا أماناً من أبي سفيان !
8 . وقررت الآية بعدها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ . . أن تعريض الإنسان نفسه للشهادة لايقصِّر عمره ، لأن الموت حتى لو تمت شروطه الظاهرة لا يتحقق إلا بإذن خاص من الله تعالى ! وهو إذن يتبع قانون الثواب والعقاب ، وهو قانونٌ يتبع إرادة الإنسان ونيته !
9 . ثم مدح الله عز وجل في الآيات الثلاث التي بعدها من سماهم الرِّبِّيين : وَكَأَينْ مِنْ نَبِى قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيونَ كَثِيرٌ . وهم الذين ثبتوا في المعركة ولم يضعفوا ولم يستكينوا ، فهو نص بمدح على وأبى دجانة ونسيبة ، ومن ثبت من الصحابة واستشهد في الجولة الثانية ، وأولهم حمزة .
10 . ثم كشف عز وجل في الآيتين بعدها : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا . . عن تأثير الكفار على بعض الصحابة لأنهم يتولونهم ! وحذرهم من أن موالاتهم تجرهم إلى الانقلاب على أعقابهم ، وأن عليهم أن يتولوا بدلهم الله تعالى ومن أمرهم بموالاته : بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيرُ النَّاصِرِينَ !
11 . وفى الخمس آيات التي تلتها : سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ . . إلى قوله : إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ، تحدث عز وجل عن معركة أحد وانتصارهم فيها أولاً ، ثم انهيارهم وفرارهم المعيب ، وتركهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهجوم المشركين وسيوفهم ،
--------------------------- 140 ---------------------------
وهروبهم إلى جبل أحُد وغيره ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يناديهم فلا يرجعون !
ومع ذلك فقد وعدهم بأنه سيلقى الرعب في قلوب الكفار في المعركة القادمة وذكرهم بأنه صدقهم وعده في أحُد ، ولكنهم لما رأوا النصر والغنائم نسوا ربهم وأرادوا الدنيا فابتلاهم بالهزيمة ، وقلَّ منهم الربيون الذين ثبتوا وأرادوا الآخرة .
12 . وفى الآيات الثلاث التي تلتها : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا . . إلى قوله : لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ ، صحح الله عز وجل نظرتهم إلى الموت ، ونهاهم عن نظرة الكفار التي ابتلاهم الله بها لتكون حسرة في قلوبهم . بينما النظرة الإسلامية للموت بأنه مجرد انتقال إلى الأحسن ، وحشرٌ إلى الله تعالى .
13 . وفى الآيات الثلاث التي تلتها : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ . . إلى قوله : وَهُمْ لايظْلَمُونَ ، أخبر نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بأن لينه مع المسلمين كان من أسباب نجاحه وإلا لنفروا منه وعنه ، وأوصاه أن يواصل هذا اللين ويطيب خاطرهم ويعفو عن أخطائهم ويستغفر الله لهم ، ويشاورهم فيما يناسب من الأمور ، فإذا عزم حسب أمر ربه ، فليتوكل عليه ولا يهتم بمن خالفه .
ثم وبَّخ الذين اتهموه ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ قطيفة من الغنائم ، وأوضح لهم أن الغل لا وجود له عند الأنبياء ( عليه السلام ) لأنهم يريدون الآخرة ، أما الذين يريدون الدنيا ويخونون المال العام ، فهم غير الأنبياء والأوصياء « عليهم السلام » وخيار المؤمنين !
14 . وفى الأربع التي تلتها : أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ إلى قوله : إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ نبه المسلمين إلى عدم الخلط في المقاييس ونوعيات الناس ، وأن لايجعلوا الذين اتبعوا رضوان الله كمن خانوا الله ورسوله والمسلمين ، فغلوا أو نقضوا بيعتهم وفروا من المعركة ! ونبههم إلى أن درجات هؤلاء متفاوتة عند الله تعالى .
15 . وفى الآيات السبع التي تلتها : وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا إلى قوله : وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، أخبر عز وجل عن حياة الشهداء عند ربهم ونعيمهم ، وأنهم يستبشرون بمن بقي منهم حياً من الربيين : الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ . . وخرجوا
--------------------------- 141 ---------------------------
في اليوم التالي لتعقب المشركين وإبلاغهم رسالة قوة . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ . .
16 . وفى الآيات الأربع : وَلايحْزُنْكَ الَّذِينَ يسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ . . . إلى قوله : فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، عزَّى الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) عن خسارة الذين كانوا « مسلمين » فسارعوا بالكفر واشتروه بالإيمان وكفروا بالكامل ، فهددهم بالعذاب الأليم ، وأخبرهم بأنه يملى لهم ويمهلهم إلى مدة ، فلا يغتروا بذلك !
ثم بين عز وجل أن « المؤمنين » من الصحابة وغيرهم فيهم الخبيث والطيب ، وأن القانون الإلهى يعمل فيهم لفرزهم : حَتَّى يمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ ، وأن هذا القانون وانطباقاته من غيب الله تعالى الذي لا يطلع عليه المؤمنين !
17 . ثم تحدث عز وجل في الآيات الخمس التي تلتها : وَلايحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ . . إلى قوله : وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ، عن بخل بعض الأغنياء عن الإنفاق في سبيل الله ، وأشار إلى منطق البخل عند جيرانهم اليهود الذين قالوا إن الله فقير يطلب منا الإنفاق ، وقالوا إن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) لم يأتنا بالآية المكتوبة عندنا .
18 . ثم بين تعالى في خمس آيات أن الدنيا كلها موقتة وعمر الإنسان فيها محدود : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ . . والجزاء على العمل يوم القيامة .
ونبه المسلمين على أن ابتلاءات وخسارات في الأنفس والأموال تنتظرهم ، وأذى من أهل الكتاب والمشركين . فلا يكونوا كأهل الكتاب الذين نبذوا الكتاب وحرفوه لأغراض دنيوية . ثم حذر الذين يفرحون بقدراتهم ويحبون أن تنسب إليهم مناقب كاذبة ، بأنهم سيصيبهم العذاب !
19 . وختم عز وجل آياته عن معركة أحد بلوحة من خمس آيات : إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض . . رسمت المؤمنين الرِّبيين ، المهاجرين منهم خاصة ، في مستواهم الفكري الرفيع ومعرفتهم بالله تعالى ومفاهيمهم عنه ، وعبادتهم له وتضرعهم اليه بأن يختم لهم مع الأبرار . فاستجاب لهم بأنه سيجزيهم رجالاً ونساءً ثواباً
--------------------------- 142 ---------------------------
حسناً ، لإيمانهم ، وهجرتهم ، وإخراجهم من ديارهم ، وتحملهم الأذي ، وقتالهم وشهادتهم في سبيله ! وهذا لا ينطبق إلا على قلة قليلة من المهاجرين ، وعمدتهم عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبرار بني هاشم .

حقائق مهمة في آيات أحُد

في هذه الآيات أبحاث مهمة نشير إلى أكثرها مساساً بأحُد وسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
أ . قلنا إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذهب صباح الجمعة أو الخميس سراً واستطلع معسكر قريش واختار مكان معسكره ، بدليل قوله تعالي : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ . . وكتم ذلك كما كتمه الله تعالى وأشار له بخفاء . وهذا من الحكمة النبوية واللين بالمسلمين .
ب . نزلت آيات بدر ضمن آيات أحُد لتذكير المسلمين بنصر الله لهم ، وأن قانونه في ذلك لم يتغير وإنما تغير المسلمون بحبهم للغنيمة ثم تركوها وانهزموا ! وقال لهم في سورة الأنفال وهى سورة بدر : ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يكُ مُغَيرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يغَيرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . « الأنفال : 53 » . فالتغيير إلى الأسوأ بسلب النعمة الموجودة مشروط بتغيرالمسلمين إلى الأسوأ . أما التغيير إلى الأحسن وإعطاء النعمة ، فلا يتوقف على تغيير الناس إلى الأحسن !
ج . الأهداف المذكورة في قوله تعالي : وَتِلْكَ الأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ ، وَلِيعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيمْحَقَ الْكَافِرِينَ . إنما تتحقق بقانون مداولة الأيام بين خيار الناس وشرارهم ، وقوانين صراع الهدى الإلهى والضلال البشري ، والتدخلات الإلهية لمصلحة المؤمنين تحصل أحياناً بقوانين ، وستتحقق غلبة الخير على يد المهدى الموعود ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) وتقوم دولة العدل وتنتهى دولة الشر إلى يوم القيامة ، وهى بقانون أيضاً .
د . يبدو من قوله تعالي : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ . . أن من شروط دخول المسلم الجنة الجهاد والصبر وعدم الفرار من المعركة ، أو الوصول إلى هذا المستوى الإيماني ، وهو أمر صعب ، والمؤكد أنه شرط في أصحاب
--------------------------- 143 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين عاصروه .
ه - . دلت آية الانقلاب على أن الإرتداد حصل من عدد من الصحابة يوم أحُد ! فقد قال بعضهم قتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ولو كان نبياً ما قتل ، إرجعوا إلى دينكم الأول ، وبحثوا عمن يذهب إلى ابن سلول ليأخذ لهم أماناً من أبي سفيان . الخ .
و . من المسائل المهمة في أحُد وغيرها حكم الفارين بعد بيعتهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عدم الفرار ، وبعد نداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيهم بالرجوع وإمعانهم في الصعود على جبل أحُد ، كما وصفهم الله تعالى ! وقد نص القرآن على أن مأواهم جهنم : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يوَلِّهِمْ يوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . الأنفال : 16 .
وفى علل الشرائع : 1 / 203 ، أن عبد الله بن يزيد الأباضى قال لهشام بن الحكم : « من أين زعمت يا هشام أنه لابد أن يكون « الإمام » أعلم الخلق ؟ قال إن لم يكن عالماً لم يؤمن أن يقلب شرايعه وأحكامه فيقطع من يجب عليه الحد ويحد من يجب عليه القطع ! وتصديق ذلك قول الله عز وجل : أَفَمَنْ يهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يهِدّى إِلا أَنْ يهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيفَ تَحْكُمُونَ . . . قال له : فمن أين زعمت أنه لا بد أن يكون أشجع الخلق ؟ قال لأنه قيمهم الذي يرجعون إليه في الحرب ، فإن هرب فقد باء بغضب من الله ، ولا يجوز أن يبوء الإمام بغضب من الله ، وذلك قوله عز وجل : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . . الآية » . وعليه ، فكل من فرَّ فقد استحق غضب الله وجهنم ، إلا إذا ثبتت توبته . وقد يقال : إن الله تعالى عفا عنهم فقال : ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ . وقال : إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ . فهذا العفو يعنى غفران الله لذنبهم مهما كان عظيماً ، ومن عفا الله عن ذنبه فلا ذنب له .
والجواب : أن عثمان أجاب بذلك عبد الرحمن بن عوف عندما عيره بفراره يوم أحد فقال له : « وأما قولك فررت يوم أحد . . وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ . . فلم تعيرني بذنب
--------------------------- 144 ---------------------------
قد عفا الله عنه ! » . مجمع الزوائد : 9 / 85 وحسنه .
لكن الصحابة قالوا إن العفو في آيات أحُد خاص بالرماة ، أو بالذين رجعوا من هربهم ! ففي الحاكم : 2 / 296 والطبراني الكبير : 10 / 301 : « وإنما عنى بهذا الرماة » .
بل فسره عدد من أئمتهم بأنه ليس عفواً عن ذنب بل عفوٌ تكويني بأنه لم يسمح باستئصالهم . ففي عمدة القاري : 17 / 141 : « قال ابن جريج : ولقد عفا عنكم بأن لم يستأصلكم ، وكذا قال محمد بن إسحاق ، رواه ابن جرير » .
وفى تفسير الطبري : 4 / 175 ، أن الحسن البصري كان يستنكر تفسيرهم هذا العفو بالعفو عن ذنبهم : « قال الحسن وصفق بيديه : وكيف عفا عنهم وقد قتل منهم سبعون ، وقتل عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكسرت رباعيته وشج في وجهه ؟ ! قال الله عز وجل : قد عفوت عنكم إذ عصيتمونى أن لا أكون استأصلتكم » .
فالعفو في آيات أحد خاص بمن رجع من هروبه ، وهم قلة ، أو بالرماة وهم أقل ، أو هو عفو تكويني وليس عفواً عن الفرار وترك الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
ولو سلمنا أنه عفو عن ذنب مضي ، فقد كان بعده ذنب مثله ، وهو الفرار في غزوة الخندق وخيبر وحنين !
وقد يقال : إن الله تعالى رضى عن الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة بقوله : لَقَدْ رَضِى اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً . « الفتح : 18 » . وهو يعنى غفران ذنوبهم قبل بيعة الشجرة .
والجواب : أنه تعالى قال : لَقَدْ رَضِى اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَكَ ، ولم يقل : رضى عن الذين يبايعونك ! فقيد الرضا بظرفٍ وبالإيمان ، ولو سلمنا إطلاقه فقد كان ذلك في الحديبية في السنة السابعة ، وقد بايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن لايفروا في معركة ، ثم فروا بعدها بسنة في حنين فنقضوا بيعتهم ! فلا يشملهم العفو السابق .
ز . لم يقتصر أمر هؤلاء الصحابة على الفرار ، بل ارتدوا وصاحوا داعين إلى الردة والاستسلام ! ووقف أحدهم على تل يدعو المنهزمين للتَّسْليم إلى أبي سفيان ! وروى أتباع السلطة كل ذلك لكنهم أخفوا أبطال القصة فقالوا : نادى مناد : ألا إن محمداً قد
--------------------------- 145 ---------------------------
قتل فارجعوا إلى دينكم الأول ! وقال أناس : لو كان نبياً ما قتل !
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 80 : « وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول » . إلى آخر ما تقدم .
وقال الفخر الرازي : 9 / 22 : « وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين : إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار : إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل » . وهو أنس بن النضر . « ابن هشام : 3 / 600 » وكان حواره مع عمر وطلحة وأصحاب الصخرة ! ولم يرو أحدٌ أنهم جددوا إسلامهم !
ح . تدل آيات أحُد أن الصحابة كانوا أنواعاً : فمنهم المجاهدون الثابتون المحسنون ، وهم الربيون الذين لايهنون ولا يحزنون . ومنهم المنافقون . ومنهم : المؤمنون أصحاب الذنوب ، الذين استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فهربوا ! وهؤلاء طائفتان : فمنهم : مؤمنون ضعفوا وفروا فأصابهم الغم والندم
وأنزل الله عليهم النعاس : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ . ومنهم من لم ينزل عليه النعاس ، وبقيت عيونهم تبحلق !
ففي تفسير القمي : 1 / 120 : « وتراجع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المجروحون وغيرهم فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأحب الله أن يعرِّف رسوله الصادق منهم والكاذب ، فأنزل الله عليهم النعاس في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون إلى الأرض وكان المنافقون الذين يكذبون لايستقرون ، قد طارت عقولهم وهم يتكلمون بكلام لا يفهم » .
والأسوأ من الجميع : وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يظُنُّونَ بِاللهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيةِ ولم يهمهم الرسول ولا المسلمون ولم ينزل الله عليهم النعاس ! وهؤلاء هم مرضى القلوب وأصحاب آية الانقلاب ! وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات خطيرة :
1 - أنهم طائفة مقابل المؤمنين ، وإن اشتركوا مع الفارين منهم .
2 - أن ظنهم بالله جاهلي فهم كاليهود يتعاملون مع الله تعالى بميزان مادي كما
--------------------------- 146 ---------------------------
يتعامل المشركون مع أصنامهم ! ولايعتقدون بحكمته تعالى وإدارة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بل يرون أن قيادتهم أفضل ، ويحملون النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولية الهزيمة : يقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌْ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا !
3 - أنهم يظهرون للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أنهم مؤمنون به وهم كاذبون ، لأنهم يريدون الشراكة في القيادة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو بدونه ! يخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ مَا لايبْدُونَ لَكَ ، من رفضهم لقيادتك ! وهم يتكلمون باسم المسلمين لأن غرضهم قيادتهم بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ويحاولون بهذا الكلام الخبيث تحريك المسلمين ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فهم كابن سلول بل أشد خطراً منه .
4 - مشكلتهم ومرضهم عبادة ذواتهم بدل الله تعالى ، وإطاعة هواهم بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولذا كانت هذه الصفة أول صفاتهم : وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ، أما أمر الإسلام كدين وأمر المسلمين كأمة ، فلا يهمهم إلا كأداة لهدفهم !
ط - وبهذا تعرف مشكلة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع هذه الطائفة من منافقى صحابته فهم في كمين له ينتظرون فرصة ليطرحوا أنفسهم بديلاً عنه ( صلى الله عليه وآله ) لقيادة المسلمين ! فطمأنه الله مما يفعلونه وقال له : وَلايحْزُنْكَ الَّذِينَ يسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يضُرُّوا اللهَ شَيئاً يرِيدُ اللهُ أَلا يجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
ي - سمى القرآن هذه الطائفة في مكة وفى بدر وفى الأحزاب « مرضى القلوب » وذكرهم في اثنتي عشرة آية ، ووصفهم في أحُد بأشد أوصافهم ولم يسمهم باسمهم الرسمي ، وكأن سبب ذلك أن مرض قلوبهم خرج إلى العلن ، وصار كفراً وتحميلاً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولية الهزيمة وطرحوا أنفسهم بديلاً له لقيادة المسلمين !
وقد فسر الإمام الصادق ( عليه السلام ) مرض قلوبهم بأنه عداوة أهل البيت « عليهم السلام » فقال : ( عليه السلام ) : « والمرض والله عداوتنا » . لأن هدفهم دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) والعقبة أمامهم هم العترة ! غيبة النعماني / 267 .

  • *
    --------------------------- 147 ---------------------------

الفصل الثامن والأربعون

مختارات من شعر أحد

أكثرَ القرشيون والمسلمون من الشعر في أحد

وهو كثيرٌ ، نكتفي بمختارات نقلها ابن هشام : 3 / 639 . منها لعبد الله بن الزِّبَعْرَى في يوم أحد :
يا غرابَ البين أسمعتَ فقل * إنما تنطق شيئاً قد فعل
أبلغن حسان عنى آية * فقريض الشعر يشفى ذا العلل
كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترَّت ورجل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقداماً بطل
فسل المهراس من ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
تم خفوا عند ذاكم رُقَّصاً * رقَصَ الحفَّان يعلو في الجبل
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا مَيلَ بدر فاعتدل
فأجابه حسان بن ثابت :
ذهبَتْ يا ابن الزِّبَعْرى وقعةٌ * كان منا الفضل فيها لو عدل
ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحياناً دول
--------------------------- 148 ---------------------------
نضع الأسياف في أكتافكم * حيث تهوى عللاً بعد نهل
إذ تولون على أعقابكم * هرباً في الشعب أشباه الرَّسَل
إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الجبل
برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصراً فنزل
وعلونا يوم بدر بالتقي * طاعة الله وتصديق الرسل
وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاجٍ رفل
وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديثَ المثل
ورسول الله حقاً شاهد * يوم بدر والتنابيل الهبل
نحن لا أمثالكم ولد استها * نحضر البأس إذا البأس نزل
وقال كعب بن مالك يبكى حمزة وقتلى المسلمين :
نشجتَ وهل لك من منشجِ
وكنتَ متى تدكرْ تلجَجِ
تذكر قوماً أتاني لهم
أحاديث في الزمن الأعوج
وقتلاهم في جنان النعيم
كرام المداخل والمخرج
بما صبروا تحت ظل اللواء
لواء الرسول بذى الأضوج
غداة أجابت بأسيافها
جميعاً بنو الأوس والخزرج
وأشياع أحمد إذ شايعوا
على الحق ذي النور والمنهج
فما برحوا يضربون الكماة
ويمضون في القسطل المرهج
كذلك حتى دعاهم مليك
إلى جنة دوحة المولج
فكلهم مات حر البلاء
على ملة الله لم يحرج
كحمزة لما وفى صادقاً
بذى هبة صارم سلجج . . .
أولئك لا من ثوى منكم
من النار في الدرك المرتج
--------------------------- 149 ---------------------------
فأجابه ضرار بن الخطاب الفهري فقال :
أيجزع كعب لأشياعه * ويبكى من الزمن الأعوج
فقولا لكعب يثنى البكا * وللنئ من لحمه ينضج
فياليت عمراً وأشياعه * وعتبة في جمعنا السورج
فيشفوا النفوس بأوتارها * بقتلى أصيب من الخزرج
ومقتل حمزة تحت اللواء * بمطرد مارن مخلج
وحيث انثنى مصعب ثاوياً * بضربة ذي هبة سلجج
بأحد وأسيافنا فيهم * تلهب كاللهب الموهج
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكى أخاها حمزة :
أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبى من أعجم وخبير
فقال الخبير إن حمزة قد ثوي * وزير رسول الله خير وزير
دعاه إله الحق ذو العرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور
فذلك ما كنا نرجى ونرتجي * لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزناً محضرى ومسيري
على أسد الله الذي كان مدرهاج * يذود عن الإسلام كل كفور
فياليت شلوى عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادنى ونسور
أقول وقد أعلى النعي عشيرتي * جزى الله خيراً من أخ ونصير
وقال عبد الله بن رواحة يبكى حمزة :
بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغنى البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا * أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعاً * هناك وقد أصيب به الرسول
--------------------------- 150 ---------------------------
أبا يعلى لك الأركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبراً * فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عنى لؤياً * فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعاً * عليه الطير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرا جميعاً * وشيبة عضه السيف الصقيل
ومتركنا أمية مجلعباً * وفى حيزومه لدن نبيل
وهام بنى ربيعة سائلوها * ففي أسيافنا منها فلول
ألا يا هند فابكى لا تملي * فأنت الواله العبري الهبول
ألا يا هند لا تبدى شماتاً * بحمزة إن عزكم ذليل
وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة :
أتعرف الدار عفا رسمها * بعدك صوب المسبل الهاطل
ساءلتها عن ذاك فاستعجمت * لم تدر ما مرجوعة السائل ؟
دع عنك دارا قد عفا رسمها * وابك على حمزة ذي النائل
المالئ الشيزى إذا أعصفت * غبراء في ذي الشبَم الماحل
والتارك القرن لدى لبدة * يعثر في ذي الخرص الذابل
واللابس الخيل إذ أجحمت * كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من هاشم * لم يمر دون الحق بالباطل
--------------------------- 151 ---------------------------
مال شهيداً بين أسيافكم * شلت يدا وحشى من قاتل
أظلمت الأرض لفقدانه * واسود نور القمر الناصل
صلى عليه الله في جنة * عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزاً لنا * في كل أمر نابنا نازل
وكان في الإسلام ذا تدرأ * يكفيك فقد القاعد الخاذل
لا تفرحى يا هند واستحلبي * دمعاً واذرى عبرة الثاكل
وابكى على عتبة إذ قطه * بالسيف تحت الرهج الجائل
إذ خرَّ في مشيخة منكم * مِن كل عات قبله جاهل
أرداهم حمزة في أسرة * يمشون تحت الحلق الفاضل
غداة جبريل وزير له * نعم وزير الفارس الحامل
وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة :
يا مى قومي فاندبنْ * بسحيرة شجو النوائح
كالحاملات الوقر بالثقل * الملحات الدوالح
المعولات الخامشات * وجوه حرات صحائح
وكأن سيل دموعها الأنصاب * تخضب بالذبائح
ينقضن أشعاراً لهن * هناك بادية المسائح
وكأنها أذناب خيل * بالضحى شمس روامح
ولقد أصاب قلوبها * مجل له جلب قوارح
إذ أقصد الحدثان من * كنا نرجِّى إذ نشايح
أصحاب أحْد غالهم * دهر ألمَّ له جوارح
من كان فارسنا * وحامينا إذا بعث المسالح
--------------------------- 152 ---------------------------
يا حمزُ لا والله لا * أنساك ما صر اللقائح
ذكرتني أسْد الرسول * وذاك مدرهنا المنافح
يعلو القماقم جهرة * سبط اليدين أغر واضح
لا طائش رعش ولا * ذو علة بالحمل آنح
بحر فليس يغب جاراً * منه سيب أو منادح
لهفى لشبان رزئناهم * كأنهم المصابح
شم بطارقة غطارفة * خضارمة مسامح
المشترون الحمد بالأموال * إن الحمد رابح
والجامزون بلجمهم * يوما إذا ما صاح صائح
يا حمز قد أوحدتني * كالعود شذبه الكوافح
أشكو إليك وفوقك الترب * المكور والصفائح
وقال حسان يذكر قتل على ( عليه السلام ) أصحاب اللواء يوم أحد :
منع النوم بالعشاء الهموم * وخيال إذا تغور النجوم . .
من حبيب أضاف قلبك منه * سقم فهو داخل مكتوم
يا لقومي هل يقتل المرء مثلي * واهن البطش والعظام سؤوم
وأنا الصقرعند باب ابن سلمي * يوم نعمان في الكبول سقيم
تلك أفعالنا وفعل الزبعري * خامل في صديقه مذموم
رب حلم أضاعه عدم المال * وجهل غطى عليه النعيم
ما أبالي أنب بالحزن تيس * أم لحانى بظهر غيب لئيم
ولى البأس منكم إذ رحلتم * أسرة من بنى قصى صميم
تسعة تحمل اللواء وطارت * في رعاع من القنا مخزوم
وأقاموا حتى أبيحوا جميعاً * في مقام وكلهم مذموم
--------------------------- 153 ---------------------------
وقريش تفر منا لواذا * أن يقيموا وخف منها الحلوم
لم تطق حمله العواتق منهم * إنما يحمل اللواء النجوم
واعتبرها ابن هشام أحسن ما قيل مع أنها ليست كذلك ! وقال : « قال حسان هذه القصيدة منع النوم بالعشاء الهموم ، ليلاً ، فدعا قومه فقال لهم : خشيت أن يدركني أجلى قبل أن أصبح فلا ترووها عني » . ولعلها كانت أطول من ذلك فحذفوا منها مدحه لعلى ( عليه السلام ) ! فقد روى ابن هشام : 3 / 655 مدح الحجاج السلمى لعلى ( عليه السلام ) لقتله أصحاب الألوية ، قال :
لله أي مذبِّبٍ عن حرمة * أعنى ابن فاطمة المعمَّ المُخولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة * تركت طليحة للجبين مجدلا
وشددت شدة باسل فكشفتهم * بالجر إذ يهوون أخول أخولا
وقال عائذ بن عمران بن مخزوم :
ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها
باتت تعاتبنى هند وتعذلني * والحرب قد شغلت عنى مواليها
سقناكنانة من أطراف ذي يمن * عرض‌البلاد على ما كان يزجيها
قالت كنانة أنى تذهبون بنا ؟ * قلنا : النخيل فأموها ومن فيها
نحن‌الفوارس‌يوم الجر من أحد * هابت معد فقلنا نحن نأتيها
فأجابه حسان بن ثابت :
سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم * إلى الرسول فجند الله مخزيها
أوردتموهاحياض‌الموت‌ضاحية * فالنار موعدها والقتل لاقيها
جمعتموها أحابيشاً بلا حسب * أئمة الكفر غرتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقينه فيها
كم من أسير فككناه بلا ثمن * وجز ناصية كنا مواليها
--------------------------- 154 ---------------------------
وقال عبد الله بن الزبعرى يبكى قتلى المشركين :
ألا ذرفت من مقلتيك دموع * وقد بان من حبل الشباب قطوع
وشط‌بمن‌تهوى المزار وفرقت * نوى الحي دار بالحبيب فجوع
فذر ذا ، ولكن‌هل أتى أم مالك * أحاديث قومي والحديث يشيع
عشية سرنا في لهام يقودنا * ضرور الأعادى للصديق نفوع
فلما رأونا خالطتهم مهابة * وعاينهم أمر هناك فظيع
وودوا لو أن الأرض ينشق ظهرها * بهم وصبور القوم ثم جزوع
بأيماننا نعلو بها كل هامة * ومنها سمام للعدو ذريع
فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم * ضباع وطير يعتفين وقوع
وجمع بنى النجار في كل تلعة * بأبدانهم من وقعهن نجيع
ولولا علو الشعب غادرن أحمداً * ولكن علا والسمهرى شروع
فأجابه حسان بن ثابت فقال :
أشاقك من أم الوليد ربوع * بلاقع ما من أهلهن جميع
عفاهن صيفي الرياح وواكف * من الدلو رجَّاف‌السحاب هموع
فلم يبق إلا موقد النار حوله * رواكد أمثال الحمام كنوع
فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم * وكان لهم ذكر هناك رفيع
وحامى بنو النجار فيه وصابروا * وما كان منهم في اللقاء جزوع
أمام رسول الله لا يخذلونه * لهم ناصر من ربهم وشفيع
وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم * ولا يستوى عبد وفى ومضيع
بأيديهم بيض إذا حمش الوغي * فلا بد أن يردى لهن صريع
أولئك قوم سادة من فروعكم * وفى كل قوم سادة وفروع
بهن نعز الله حتى يعزنا * وإن كان أمر ياسخين فظيع
--------------------------- 155 ---------------------------
فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم * قتيل ثوى لله وهو مطيع
فإن جنان الخلد منزلة له * وأمر الذي يقضى الأمور سريع
وقتلاكم في النار أفضل رزقهم * حميم معاً في جوفها وضريع
وقال عمرو بن العاص في يوم أحد :
خرجنا من الفيفا عليهم كأننا * مع الصبح من رضوى الحبيك المنطق
تمنت بنو النجار جهلاً لقاءنا * لدى جنب سلع والأماني تصدق
فما راعهم بالشر إلا فجاءة * كراديس خيل في الأزقة تمرق
أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا * ودون القباب اليوم ضرب محرق
كأن رؤوس الخزرجيين غدوة * وأيمانهم بالمشرفية بروق
فأجابه كعب بن مالك :
ألا أبلغا فهراً على نأى دارها * وعندهم من علمنا اليوم مصدق
بأنا غداة السفح من بطن يثرب * صبرنا ورايات المنية تخفق
صبرنا لهم والصبر منا سجية * إذا طارت الأبرام نسمو ونرتق
لنا حومةٌ لا تستطاع يقودها * نبي أتى بالحق عفٌّ مصدق
ألا هل أتى أفناء فهر بن مالك * مقطع أطراف وهام مفلق
وقال ضرار بن الخطاب :
لما أتت من بنى كعب مزينة * والخزرجية فيها البيض تأتلق
وجردوا مشرفيات مهندة * وراية كجناح النسر تختفق
فقلت يوم بأيام ومعركة * تنبى لماخلفها ماهزهز الورق . . . الخ .
--------------------------- 156 ---------------------------
وقال عمرو بن العاص :
لما رأيت الحرب ينزو * شرها بالرضف نزوا
وتناولت شهباء تلحو * الناس بالضراء لحوا . . . الخ .
فأجابهما كعب بن مالك :
أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه * والصدق عنه ذوى الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم * أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد * فيه مع النصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا * والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفهاً * فرأى من خالف الإسلام تضليل . . الخ
وقال كعب أيضاً يبكى حمزة :
صفية قومي ولا تعجزي * وبكِّى النساء على حمزة
ولا تسأمى أن تطيلى البكا * على أسد الله في الهزة
فقد كان عزاً لأيتامنا * وليث الملاحم في البزة
يريد بذاك رضا أحمد * ورضوان ذي العرش والعزة
وقد رووا لكعب بن مالك قصائد في رثاء حمزة وشهداء أحُد ، فيها :
رقت همومك فالرقاد مسهد * وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد
ولقد هددت لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد
قرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسودد
والعاقر الكوم الجلاد إذ غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد
والتارك القرن الكمي مجدلاً * يوم الكريهة والقنا يتقصد
وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لبدة شثن البراثن أربد
--------------------------- 157 ---------------------------
عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد
وأتى المنية معلماً في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد
شتان من هو في جهنم ثاوياً * أبداً ومن هو في الجنان مخلد
ومن مقطوعاته :
فإن تسألى ثم لاتُكذبي * يخبرك من قد سألت اليقينا
بأنا ليالي ذات العظام * كنا ثمالاً لمن يعترينا
تلوذ النجود بأذرائنا * من الضر في أزمات السنينا
ويوم له رهج دائم * شديد التهاول حامى الارينا
شهدنا فكنا أولى بأسه * وتحت العماية والمعلمينا
وعلمنا الضرب آباؤنا * وسوف نعلم أيضا بنينا
سألت بك ابن الزبعرى فلم * أنبئك في القوم إلا هجينا
خبيثاً تطيف بك المنديات * مقيماً على اللؤم حينا فحينا
تبجست تهجو رسول المليك * قاتلك الله جلفا لعينا
تقول الخنا ثم ترمى به * نقى الثياب تقيا أمينا
ومنها :
سائل قريشاً غداة السفح من أحد * ماذا لقينا وما لاقَوْا من الهرب
فكم تركنا بها من سيد بطل * حامى الذمار كريم الجد والحسب
فينا الرسول شهابٌ ثم يتبعه * نور مضى له فضل على الشهب
الحق منطقه والعدل سيرته * فمن يجبه إليه ينجُ من تبب
يمضى ويذمرنا عن غير معصية * كأنه البدر لم يطبع على الكذب
بدا لنا فاتبعناه نصدقه * وكذبوه فكنا أسعد العرب
جالوا وجلنا فما فاءوا وما رجعوا * ونحن نثفنهم لم نأل في الطلب
ليس سواء وشتى بين أمرهما * حزب الإله وأهل الشرك والنصب
--------------------------- 158 ---------------------------
ومنها :
ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الأرض خرق سيره متنعنع
صحار وأعلام كأن قتامها * من البعد نقع هامد متقطع
مجالدنا عن ديننا كل فخمة * مذربة فيها القوانس تلمع
ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا * علامَ إذا لم نمنع العرض نزرع
وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتطلع
تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصرنا * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكم هول المنيات واطمعوا
وكونوا كمن يشرى الحياة تقرباً * إلى ملك يحيا لديه ويرجع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الأمر لله أجمع
فسرنا إليهم جهرة في رحالهم * ضحياً علينا البيض لا نتخشع
فجئنا إلى موج من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين إن كثرنا وأربع
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحي * وليس لأمر حمسه الله مدفع
ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع
وراحوا سراعاً موجفين كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع
فنلنا ونال القوم منا ، وربما * فعلنا ، ولكن ما لدى الله أوسع
ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمى الذمار ويمنع
بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من إظفارها نتوجع

  • *
    --------------------------- 159 ---------------------------

الفصل التاسع والأربعون

غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أُحد !

التدخل الإلهى في انسحاب قريش

لا نجد سبباً مادياً لسحب قريش جيشها من أحُد قبل أن تحقق هدفها في قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) واحتلال المدينة ، إلا التدخل الإلهي ! فقد بعث الله الملائكة فقاتلوا مع علي ( عليه السلام ) حتى انسحب المشركون ، ثم بعث علياً ( عليه السلام ) لاعتراضهم ليتأكد من أن وجهتهم مكة وليست المدينة !

غزوة حمراء الأسد خاصة بالمجروحين في أحُد

قال القمي في تفسيره : 1 / 124 : « فلما دخل رسول الله المدينة نزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلا من به جراحة ! فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منادياً ينادى يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم ، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها ! فأنزل الله على نبيه : وَلاتَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يألَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لايرْجُونَ . . فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح ، فلما بلغ رسول الله بحمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحاء ، قال عكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، وعمرو بن عاص ، وخالد بن الوليد : نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم يعنى حمزة ، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال : تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب فقال أبو سفيان : هذا النكد والبغي قد ظفرنا بالقوم وبغينا ! والله ما أفلح قوم قط بغوا » . أي إرجعوا يكفينا انتصارنا .
--------------------------- 160 ---------------------------
وفى شرح الأخبار : 1 / 282 : « وخرجوا معه ( صلى الله عليه وآله ) من غد يوم الاثنين حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهى من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ومر به معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عَيبَة نصحٍ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بتهامة لا يخفون عنه شيئاً بها ، ومعبد يؤمئذ مشرك ، فقال : يا محمد والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عز وجل عافاك فيهم ، ثم مضى يريد مكة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بحمراء الأسد ، فلقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد اجتمعوا للرجوع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه وذلك أنهم اجتمعوا هنالك وقالوا : والله ما صنعنا شيئاً ، أصبنا جل القوم وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ! فلما رأى أبو سفيان معبداً قال له : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً ، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ذلك وندموا على ما صنعوا ، وبهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط !
قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترحل حتى نرى نواصي الخيل ! قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم حتى نستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيت أن قلت أبياتاً أردت أن أبعث بها إليك ، ثم جئت بنفسي . قال : وما قلت ؟ قال :
كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلةٍ * عند اللقاء ولا ميلٍ معازيل
فظلت عدواً أظن الأرض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول
وقلت ويلُ ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل الحزم ضاحية * لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا أحصى قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
فساء ذلك أبا سفيان ومن معه ! وقال لهم صفوان بن أمية بن خلف : إن القوم قد
--------------------------- 161 ---------------------------
حزبوا أي غضبوا ، وقد خشيت إن عاودتموهم أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، وقد أصبتم ما أصبتم فارجعوا ! فرجعوا .
ولقى أبو سفيان ركباً من عبد القيس يريدون المدينة يمتارون منها ، فقال : هل تبلغون عنى محمداً رسالة ، وأنا أحمل لكم جمالكم إذا انصرفتم زبيباً بعكاظ ؟
قالوا : نعم . قال : تخبروه أنا أزمعنا الرجوع إليه وإلى أصحابه لنستأصل شأفتهم ، فمروا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بحمراء الأسد فقالوا ذلك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كالأمس الذاهب وانصرف إلى المدينة » . ونحوه البحار : 20 / 110 ، عن تفسير النعماني .
أقول : أخذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) معه دليلاً وأرسل أمامه ثلاثة رجال لاستطلاع العدو ، فأمسك المشركون اثنين وقتلوهم فدفنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما وصل إليهم ونجا الثالث .
كما استعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إيقاد النيران المتعددة العالية لنشر خبر مسيره وتخويف المشركين ، وروى أنهم أشعلوا خمس مئة نار ، مع أنهم كانوا نحو سبعين ! وهذا يكشف عدد الثابتين مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبضمنهم الذين رجعوا من الفرار وشاركوا في دفن شهداء أحُد ، وهم عشر السبع مئة الذين ذهبوا إلى أحُد .
هذا ، وقد ذكر رواة السلطة أسماء صحابة في حمراء الأسد ، وجعلوا فيهم فارين ولم يكونوا جرحي ! راجع : الصحيح : 6 / 302 ، المناقب : 1 / 167 والطبقات : 2 / 49 وعيون الأثر : 2 / 7 .
وفى هذه الغزوة نزل قوله تعالي : « الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » . آل عمران : 172 - 175 .

  • *
    --------------------------- 162 ---------------------------

الفصل الخمسون

أهم الأحداث بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب

1 - سرية جبل قَطَن
جبل قطن في نجد في ديار بنى أسد وعبس « معجم البلدان : 4 / 375 » . ويقع : « غرب القصيم على بعد 170 كم من مدينة بريدة » . موقع : http : / / www . harb - tribe . net / showtopic . asp ? id = 79
قال في الصحيح من السيرة : 7 / 143 ، ملخصاً : « كان بين أحد والخندق عدد من السرايا والغزوات وكان لها نتائج إيجابية على الصعيد السياسي والاجتماعي والعسكري . وكثير منها يحتاج إلى بحث وتمحيص ، وهى حسب الترتيب الزمني : سرية أبى سلمة إلى قطن في أول محرم بعد أحُد وكانت أحُد في شوال ، وكان مع أبي سلمة مئة وخمسون رجلاً من الأنصار والمهاجرين ، منهم أبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وأسيد بن خضير ، وسالم مولى أبى حذيفة ، وغيرهم .
وسببها أن رجلاً من طئ قدم المدينة فأخبر صهره أن طليحة وسلمة ابني خويلد سارا في قومهما ومن أطاعهما وقالوا : نسير إلى محمد في عقر داره ونصيب من أطرافه ، ونخرج على متون الخيل والنجائب المخبورة ، فإن أصبنا نهباً لم ندرك وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها ، معنا خيل ولا خيل معهم ، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش .
فقال رجل منهم اسمه قيس بن الحارث : يا قوم ، إن دارنا لبعيدة من يثرب ، وقد مكثت قريش دهراً تسير في العرب تستنصرها ولهم وتر يطلبونه ، وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل سوى
--------------------------- 163 ---------------------------
أتباعهم وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاث مئة رجل ، فلا آمن أن تكون الدائرة عليكم . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأبى سلمة : سر حتى تنزل أرض بنى أسد فأغر عليهم قبل أن تلاقى عليك جموعهم . فخرج وكان الطائي دليلاً خريتاً أي ماهراً ، فأغذ السير فسار بهم أربعاً إلى قطن ، وسلك بهم غير الطريق وسار بهم ليلاً ونهاراً ، فأغار أبو سلمة على سرحهم ودوابهم وأصابوا ثلاثة أعبد كانوا رعاة ، وهرب الباقون ، وأخبروا بمجئ أبى سلمة فخافوا وهربوا عن منازلهم في كل وجه ، فجمعوا ما قدروا عليه من الأموال ورجعوا إلى المدينة » .

2 - سرية يوم الرجيع

الرجيع وبئر معونة : إسمان لمكانين بين مكة والمدينة ، وبئر معونة أقرب إلى المدينة . البكري : 2 / 641 و 4 / 1246 وعمدة القاري : 17 / 163 .
وروت مصادر السيرة أنه وقعت فيهما غزوتان ، وفى روايتهم تعارض وتهافت ، ولم يصلنا فيهما شئ يذكر عن أهل البيت « عليهم السلام » ، والمرجح أنهما حادثتان صغيرتان ضخموهما لمدح شخص أو جماعة .
قال ابن هشام : 3 / 667 : « يوم الرجيع في سنة ثلاث » وسماه ابن سعد في الطبقات : 2 / 55 : « سرية مرثد بن أبي مرثد » . وخلاصة ماذكراه : أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد أحد رهط من قبيلتى عضل والقارة وقالوا له : يا رسول الله إن فينا إسلاماً ، فابعث نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ، فبعث نفراً ستة هم : مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب ، وخالد بن البكير الليثي ، حليف بنى عدى بن كعب ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، أخو بنى عمرو بن عوف من الأوس ، وخبيب بن عدي من الأوس أيضاً ، وزيد بن الدثنة من بنى بياضة من الخزرج ، وعبد الله بن طارق حليف الأوس ، وأميرهم مرثد ، حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز غدرت بهم هذيل وقالوا لهم ما نريد قتلكم ولكن نبيعكم إلى قريش ! فقاتلهم خمسة فقتلوا وهم
--------------------------- 164 ---------------------------
عاصم ومرثد وخالد ومعتب وعبد الله بن طارق ، واستأسر زيد وخبيب فأخذوهم وباعوهما إلى أهل مكة فقتلوهما ، وأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد زوجة طلحة بن أبي طلحة وكانت معه في أحد ، وقالوا إن عاصماً قتل زوجها وأبناءها ، فنذرت أن تشرب برأسه خمراً ! ولما أرادوا قطع رأسه جاءت الزنابير وحمته منهم ، وجاء سيل في الليل فأخذ جثته . واستقرب صاحب الصحيح من السيرة : 7 / 167 ، أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل هؤلاء أو بعضهم عيوناً على قريش ، فأمسكوا منهم زيداً وخبيباً وقتلوهما .
قال : « وما عدا ذلك فهو مشكوك فيه ، إن لم نقل إن فيه الكثير مما نقطع بأنه مكذوب وموضوع أو محرف عن عمد ، أو عن غير عمد » .

3 - سرية بئر معونة

وهى تشبه غزوة الرجيع وغزوة بنى لحيان ، وسماها ابن هشام : 3 / 677 : حديث بئر معونة في صفر سنة أربع . ونقل عن ابن إسحاق أن الزعيم النجدي أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة ، جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطلب منه أن يبعث رجالاً من أصحابه إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إني أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء : أنا لهم جار ، فبعث أربعين رجلاً ، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو من بنى ساعدة ، ومنهم الحارث بن الصمة ، وحرام بن ملحان ، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ، في رجال من خيار المسلمين ، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة ، فبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عامر بن الطفيل ، فقتله عامر واستعان بقبائل من بنى سُلَيم هم : عصية ورعل وذكوان ، فقصدوهم وقتلوهم عن آخرهم !
وقالوا إن عمرو بن أمية الضمري أراد الثأر لهم ، فقتل رجلين من قوم متحالفين مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فالتزم ( صلى الله عليه وآله ) بإعطاء ديتهما . وأكثروا من مناقب شهداء بئر معونة خاصة عامر بن فهيرة غلام أبى بكر وزعموا أنه رفع إلى السماء ، وأنه نزل فيهم قرآن ونسخ ! فقد
--------------------------- 165 ---------------------------
روى بخارى في صحيحه : 3 / 204 / 208 ، 4 / 35 و 5 / 42 ، روايات في أنه نزلت آية : ألا بلغوا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا ! في شهداء بئر معونة الذين غدر بهم أهل نجد من قبائل رعل وذكوان وعصية من بنى لحيان ، وأن المسلمين قرؤوا هذه الآية ! ومسلم : 2 / 135 وأحمد بروايات : 3 / 109 ، 210 ، 215 ، 255 و 289 والبيهقي : 2 / 199 .
وذكروا في أكثرها أنها نسخت بعد ذلك ، أو رفعت ! وكله غير صحيح !
وقال ابن سعد في الطبقات : 2 / 53 : « وجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خبر أهل بئر معونة وجاءه تلك الليلة أيضاً مصاب خبيب بن عدي ، ومرثد بن أبي مرثد ، وبعث محمد بن مسلمة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذا عمل أبى براء ، قد كنت لهذا كارهاً .
ودعا رسول الله على قتلتهم بعد الركعة من الصبح فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم سنين كسنى يوسف . اللهم عليك ببنى لحيان ، وعضل ، والقارة وزغب ، ورعل ، وذكوان ، وعصية ، فإنهم عصوا الله ورسوله .
وأقبل عمرو بن أمية سار أربعاً على رجليه ، فلما كان بصدور قناة لقى رجلين من بنى كلاب قد كان لهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمان فقتلهما وهو لا يعلم ذلك ، ثم قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بمقتل أصحاب بئر معونة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبْتَ من بينهم . وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتل العامريين فقال : بئس ما صنعت ، قد كان لهما منى أمان وجوار ، لأدينهما ، فبعث بديتهما إلى قومهما » . « وإعلام الورى 1 / 186 والمناقب 1 / 168 » . راجع أيضاً غزوة بنى لحيان : 1 / 188 و 1 / 170 ، فيبدو أنهما متحدتان .

4 - غزوة بدر الموعد

وتسمى بدر الصغري ، وبدر الصفراء ، وبدر الثانية ، وبدر الآخرة ، وكانت في شوال بعد أحد بسنة ، لأن أبا سفيان قال في أحُد : موعدنا معكم العام القادم في بدر الصفراء ، فقبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وبدر الصفراء قرية قرب ينبع بين مكة والمدينة ، وفيها سوق سنوى للعرب . سبل الهدي : 4 / 282 .
--------------------------- 166 ---------------------------
قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم : المواجهة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) / 241 : « عممت قريش موعد اللقاء وأخذت تستعدى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتجمع الأموال استعداداً للخروج ، وفرضت ضريبة على سكان مكة ولأول مرة في تاريخها ، ولم يترك أحد إلا وينبغي أن يدفع مالاً لا يقل عن « أوقية » مساهمة بالمجهود الحربي ، فجمعوا الأموال العظيمة ورصدوها لحرب محمد وآله ومن والاهم .
ومع اقتراب الموعد كره أبو سفيان قائد تحالف البطون هذا الخروج ، وندم على قوله وتحديده الموعد ، وتعرض لملامة الكثير من قومه ، وتمنى عدم خروج الرسول للموعد لأن العام جدب : « والأرض مثل ظهر الترس ليس فيها لبعير شئ » ولكن البطون كرهت أن يخرج محمد ولا يخرجون ، فيجترئ عليها فأحبت أن يكون الخلف من قبله . وفى غمرة حيرتها قدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة فاتفقوا معه على أن يعطوه عشرين ناقة ، مقابل أن يخَذِّل أصحاب محمد !
ورجع الرجل وأخذ يشيع بأن أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب العرب وجاء محمد وأصحابه بما لا قبل لهم به ! وأشار على أهل المدينة أن يبقوا في المدينة ولايخرجوا ، لأنهم إن خرجوا فلن يفلت منهم أحد هذه المرة !
ونجح الرجل بغرس كراهية الخروج في قلوب الكثير من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! وفرح المنافقون واليهود وتصوروا أن محمداً لن يفلت من هذه الجموع التي يصفها نعيم بن مسعود ! ونجح نعيم بتثبيط بعض الصحابة وإلقاء الرعب في قلوبهم ! قال عثمان بن عفان يصف حالته وأمثاله ممن أصغوا لنعيم : لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا فما أرى أحداً له نية في الخروج » . مغازى الواقدي : 1 / 387 .
كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يرصد آثار دعاية نعيم فجمع الناس وحثهم على الخروج ، ثم قال : والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد ! عندئذ تشجع من وَهَنَ من المسلمين وخرج مع النبي 1500 مقاتل ومعهم عشرة أفراس ، فأعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) رايته لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) . وغاية المسلمين من الخروج كانت ملاقاة البطون على الموعد ، ومع هذا تزودوا ببضائع ، وأقاموا في بدر الصفراء ثمانية أيام ورجعوا بخير وفضل
--------------------------- 167 ---------------------------
من الله ، وربح الدينار ديناراً .
أما أبو سفيان فقد أطلع قريش على الخطة التي رسمها لنعيم ، وبين لهم أن العام عام جدب ، واقترح عليهم أن يسيروا يومين فيرجعوا ، فخرجت البطون وهم ألفان ، ومعهم خمسون فرساً ، وانتهوا إلى مجنة فشربوا السويق وعادوا ، بعد أن بلغهم خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وقال صفوان بن أمية لأبى سفيان : قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم ، وقد اجترؤوا علينا ورأوا أنا قد أخلفناهم وإنما خلفنا الضعف عنهم ! وأخذوا يعدون العدة لغزو النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما بعد » . الواقدي : 1 / 384 .
أقول : كان نعيم بن مسعود يسكن في المدينة ، ولا بد أن يكون تثبيطه للصحابة استغرق أياماً فعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) لإحباطه ، حيث ورد في نصوصه : « وصار يطوف فيهم حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين ولم يبق لهم نية في الخروج واستبشر المنافقون واليهود » . الصحيح من السيرة : 8 / 372 .
لكن رواة السلطة لا يذكرون ذلك ، لأنه يكشف الصحابة الذين جَبَّنوا المسلمين ! وذكروا طرفاً منه في تفسير قوله تعالي : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ . . راجع : الصحيح من السيرة : 8 / 362 ، ابن هشام : 3 / 697 ، الطبقات : 2 / 59 ، اليعقوبي : 2 / 67 ، تفسير الطبري : 2 / 230 ، تفسير مقاتل : 1 / 204 ، الثعلبي : 3 / 209 والعجاب لابن حجر : 2 / 793 .
وروى ابن هشام : 3 / 698 ، قصيدة لحسان ، وقصيدة لكعب بن مالك ، وفيها :
وعدنا أبا سفيان بدراً ، فلم نجد * لميعاده صدقاً ، وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا * لأبت ذميماً وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمراً أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله ، أفٍّ لدينكم * وأمركم الشئ الذي كان غاويا
فإني وإن عنفتمونى لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا » .
--------------------------- 168 ---------------------------

5 - غزوة دومة الجندل

دُومة الجندل بضم الدال وبفتحه ، هي مدينة الجوف ، والآن محافظة في شمال المملكة السعودية . قال ابن هشام : 3 / 699 : « ثم غزا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دومة الجندل في شهر ربيع الأول . . قال ابن إسحاق : ثم رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يصل إليها ، ولم يلق كيداً فأقام بالمدينة بقية سنته » .
وهذا اختصار مخل لأنه روى أن الأكيدر ملك دومة الجندل وحاكمها من قبل هرقل الروم كان يجمع الجيش لغزو المدينة وكان يظلم « الضافطة » أي التجار جالبى البضائع ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) باغتهم فكان يسير بجيشه ليلاً ويكمن نهاراً ووصل إلى دومة الجندل ، فهرب الأكيدر ومن جمعهم ولم يقابلوه ، وغنم من مواشيهم وأموالهم ، ورجع سالماً .
وأهم أهداف غزوة دومة الجندل : ردع الذين يتصورون أن قريشاً هزمت المسلمين في أحُد فصار بإمكانهم غزوهم . وردع الروم عن التفكير بحشد جيش لحاكم دومة الجندل ليغزو المدينة . وتقوية قلوب المسلمين وإفهامهم أن هزيمتهم في أحُد كانت نشازاً ، وأن وعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين ما زال قائماً ، وسيأخذون بلاد كسرى وقيصر لا محالة ! وسيأتي ذكرها في غزوة تبوك .

6 - غزوة ذات الرقاع

في الصحيح من السيرة : 8 / 265 ، ملخصاً : « بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن أنماراً وثعلبة وغطفاناً قد جمعوا جموعاً بقصد غزو المسلمين ، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربع مئة وقيل في سبع مئة ، حتى أتى وادى الشقرة من أرض غطفان من نجد فأقام بها يوماً ، وبث السرايا فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحداً ، فسار حتى أتى محالهم فلما عاينوهم هربوا إلى الجبال والأودية ولم يكن قتال . ورجع ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة فوصل إلى صرار يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم . وهو بئر جاهلية على ثلاثة أميال من المدينة في طريق العراق . وكانت غيبته ( صلى الله عليه وآله ) خمس عشرة ليلة ، وتسمى هذه
--------------------------- 169 ---------------------------
الغزوة أيضاً بغزوة الأعاجيب لما وقع فيها من أمور عجيبة ، وتسمى أيضاً بغزوة محارب ، وغزوة بنى ثعلبة وغزوة بنى أنمار . وقيل إنها في السنة الرابعة في شهر ربيع الآخر بعد غزوة بنى النضير بشهرين وعشرين يوماً ، وقيل في محرم ، وقيل كانت في سنة خمس » .
وفى إعلام الوري : 1 / 188 والمناقب : 1 / 170 : « لقى بها جمعاً من غطفان ولم يكن بينهما حرب ، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلاة الخوف ثم انصرف بالناس . . وقيل إنما سميت بذلك لأن أقدامهم نقبت فيها ، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق » .
وفى الكافي : 8 / 127 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « نزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه : أنا أقتل محمداً ! فجاء وشد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالسيف ثم قال : من ينجيك منى يا محمد ؟ فقال : ربى وربك ! فنسفه جبرئيل ( عليه السلام ) عن فرسه فسقط على ظهره ! فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ السيف وجلس على صدره ، وقال : من ينجيك منى يا غورث ؟ فقال جودك وكرمك يا محمد ! فتركه فقام وهو يقول : والله لأنت خير منى وأكرم » .
وفى الكافي : 3 / 456 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأصحابه في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف ففرق أصحابه فرقتين ، أقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه فكبر وكبروا ، فقرأ وأنصتوا وركع فركعوا وسجد فسجدوا ، ثم استتم رسول الله قائماً وصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض ، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو . وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصلى بهم ركعة ثم تشهد وسلم عليهم فقاموا فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض » .
وفى بصائر الدرجات / 370 : « عن جابر بن عبد الله قال : لما أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من
--------------------------- 170 ---------------------------
غزوة ذات الرقاع وهى غزوة بنى ثعلبة غطفان ، حتى إذا كان قريباً من المدينة إذا بعير حل يرقل حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوضع جرانه على الأرض ثم خرخر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هل تدرون ما يقول هذا البعير ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : إنه أخبرني أن صاحب عمل عليه حتى إذا أكبره وأدبره وأهزله أراد أن ينحره ويبيع لحمه ! ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جابر إذهب به إلى صاحبه فأتني به . فقلت : لا أعرف صاحبه . قال : هو يدلك . قال : فخرجت معه حتى انتهيت إلى بنى واقف فدخل في زقاق فإذا بمجلس فقالوا : يا جابر كيف تركت رسول الله وكيف تركت المسلمين ؟ قلت صالحون ، ولكن أيكم صاحب هذا البعير ؟ قال بعضهم : أنا ، فقلت أجب رسول الله . قال : مالي ؟ قلت : استعدى عليك بعيرك ! قال : فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن بعيرك أخبرني أنك عملت عليه حتى إذا أكبرته وأدبرته وأهزلته أردت نحره وبيع لحمه . قال الرجل : قد كان ذلك يا رسول الله . قال : بعه مني . قال : بل هو لك يا رسول الله . قال : بل بعه مني ، فاشتراه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم ضرب على صفحته فتركه يرعى في ضواحى المدينة ، فكان الرجل منا إذا أراد الروحة والغدوة منحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فقال جابر : رأيته وقد ذهب عنه دبره وصلح » !
وروى ابن هشام : 3 / 692 هذه الغزوة بنحو ما تقدم ، وروى ابن إسحاق قصة الجمل ، قال جابر : « خرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف ، فلما قفل رسول الله قال : جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : مالك يا جابر ؟ قال قلت : يا رسول الله ، أبطأ بي جملي هذا ، قال : أنخه ، قال : فأنخته ، وأناخ رسول الله ثم قال : أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع لي عصاً من شجرة ، قال : ففعلت . قال : فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات ، ثم قال : إركب ، فركبت ، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة . قال : وتحدثت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لي : أتبيعنى جملك هذا يا جابر ؟ قال قلت : يا رسول الله بل أهبه لك ، قال : لا ، ولكن بعنيه . قال قلت : فسُمنيه قال : قد أخذته بدرهم ، قال قلت : لا ، إذن تغبننى يا رسول الله ، قال : فبدرهمين ، قال قلت : لا ، قال : فلم يزل يرفع لي
--------------------------- 171 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى بلغ الأوقية قال فقلت : أفقد رضيت يا رسول الله ؟ قال : نعم ، قلت : فهو لك ، قال : قد أخذته ، قال ثم قال : يا جابر تزوجت بعد ؟ قال : قلت : نعم يا رسول الله ، قال : أثيباً أم بكراً ؟ قال : قلت : لا بل ثيباً قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ! قال قلت : يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعاً ، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن ، قال : أصبت إن شاء الله ، أما إنا لو قد جئنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسمعتْ بنا فنفضت نمارقها . قال : قلت : والله يا رسول الله مالنا من نمارق ، قال : إنها ستكون ، فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً ، قال : فلما جئنا صراراً أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم ، فلما أمسى رسول الله دخل ودخلنا ، قال : فحدثت المرأة الحديث ، وما قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قالت : فدونك فسمع وطاعة .
قال : فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله قال : ثم جلست في المسجد قريباً منه ، قال وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرأى الجمل فقال : ما هذا ؟ قالوا : يا رسول الله ، هذا جمل جاء به جابر ، قال : فأين جابر ؟ قال : فدعيت له ، قال : فقال : يا بن أخي خذ برأس جملك ، فهو لك ، ودعا بلالاً فقال له : إذهب بجابر فأعطه أوقية .
قال : فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئاً يسيراً . قال فوالله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه من بيتنا ، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا ، يعنى يوم الحرة » .

  • *
    --------------------------- 172 ---------------------------

الفصل الحادي والخمسون

غزوة الأحزاب أو الخندق

1 - تحالف أحزاب العرب واليهود ضد النبي « صلى الله عليه وآله »

سماها الله تعالى حرب الأحزاب ، لأن أحزاب العرب واليهود تحالفوا فيها على غزو المدينة ، لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، واستئصال بنى عبد المطلب !
كان ذلك في شهر شوال من السنة الرابعة ، كما اختاره عدد من المؤرخين ومنهم صاحب الصحيح ، وهو الأقرب ، والمشهور أنها في السنة الخامسة . ويظهر أنها كانت في أواخر شوال ، لأن محاصرة بني قريظة التي كان بعدها مباشرة لمدة أسبوعين ، كانت في أواخر ذي القعدة وأوائل ذي الحجة .
وكانوا يحفرون الخندق من شهر رمضان فقد كان خوات بن جبير صائماً وأغمى عليه وهو يعمل في الخندق ، فنزلت فيه الآية : أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ . . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَينَ لَكُمُ الْخَيطُ الأَبْيضُ مِنَ الْخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ . الكافي : 4 / 98 .
وكان عدد جيش الأحزاب عشرة آلاف على أقل تقدير ، وروى بضعاً وعشرين ألفاً ، وكانوا عدة فرق : جيش قريش ، وجيش هوازن ، وبنى سُلَيم ، وبنى مرة ، وبنى أشجع ، وبنى أسد ، ثم يهود قريظة في شرقي المدينة .
وكان عدد المسلمين المدافعين عن المدينة تسع مئة ، إلى ألف مقاتل .
واستمر الحصار نحو شهر ، حتى استطاع بعض فرسان المشركين بقيادة عمرو بن ود
--------------------------- 173 ---------------------------
العامري أن يعبروا الخندق ، فبرز اليه على ( عليه السلام ) وقتله وقتل بعض من عبر معه ، وهرب الباقون . ثم أرسل الله عليهم ريحاً فاضطرب عسكرهم وانهزموا !
واتفقت المصادر على أن تجميع الأحزاب ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكرة يهودية ، فبعد معركة بدر وأحُد ، وإجلاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنى النضير لنقضهم ميثاق التعايش ، ذهب حاخامات اليهود وزعماؤهم وفداً إلى مكة برئاسة الحاخام كعب بن أسد ، وكان هو الذي وقع عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي . . . فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمداً . . قال أبو سفيان : هذا الذي أقدمكم ونازعكم ؟ قالوا : نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله . قال أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد .
زاد في نص آخر قوله : ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ! قال النفر : فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثم نحلف بالله جميعاً : لايخذل بعضنا بعضاً ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ، ما بقي منا رجل ! ففعلوا ، فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا ، فاتعدوا لوقت وقَّتوه .
فقال أبو سفيان : يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم ، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد ؟ فنحن عُمار البيت وننحر الكوم « الناقة السمينة » ونسقى الحجيج ونعبد الأصنام ؟
قالوا : اللهم أنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه . فأنزل الله في ذلك : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . النساء : 51 .
فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله . فخرجت اليهود حتى أتت غطفان ، وقيس عيلان ، وأخذت قريش في الجهاز ، وسيرت في
--------------------------- 174 ---------------------------
العرب تدعوهم إلى نصرها ، وألَّبوا أحابيشهم ومن تبعهم .
ثم خرجت اليهود حتى جاؤوا بنى سُلَيم ، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش . ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا ، فأنعمت بذلك غطفان .
ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن . . وذكر البعض أن كنانة بن أبي الحقيق جعل نصف تمر خيبر لغطفان في كل عام » ! الصحيح من السيرة : 9 / 25 .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 402 : « قال ابن إسحاق : وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة : حيى بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق أبو عمار ، ووحوح بن عامر ، وهوذة بن قيس » .
أقول : لاحظ أن جولتهم شملت قبائل تهامة ونجد ، وأنهم أعطوا للنجديين موسم ثمار خيبر أجرة على حربهم ، كما تعهدوا أن يشاركوهم في المعركة .
وعندما وصل أبو سفيان بجيش الأحزاب إلى المدينة وحاصرها ، تحرك اليهود في حصونهم ، فقام كعب بنقض عهده مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومزق صحيفته ، وجمع رؤساء قومه وهم : الزبير بن باطا ، وشاس بن قيس ، وعزال بن ميمون ، وعقبة بن زيد ، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد ! « الصحيح من السيرة : 8 / 41 » لكنهم جبنوا عن الخروج ، فتصور أبو سفيان أنهم غدروا به ، فساعد ذلك على هزيمته !

2 - كانت قريش تجمع الأحزاب والنبي « صلى الله عليه وآله » يحفر الخندق

رُوِى أن سلمان الفارسي « رحمه الله » اقترح على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحفروا خندقاً حول المدينة لمنع الأحزاب من دخولها ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك فخطَّ مكان الخندق وأمر المسلمين بحفره . ففي رسائل المرتضي : 4 / 117 : « أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفر الخندق وكان قد أشار بحفره سلمان الفارسي ، فلما رأته العرب قالوا : هذه مكيدة فارسية . واسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد » .
ورجح صاحب الصحيح من السيرة : 9 / 79 قول الواقدي بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي
--------------------------- 175 ---------------------------
أشار بحفر الخندق ، فاختلف فيه المسلمون ، فتكلم سلمان عن الحكمة فيه ، وأن الفرس يخندقون على مدنهم لصد هجوم العدو ، فاقتنعوا بحفر الخندق .
ومن مصادرنا شرح الأخبار : 2 / 287 عن علي ( عليه السلام ) أن جبرئيل أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفره .

3 - خطَّ النبي « صلى الله عليه وآله » مكان الخندق وقسَّم العمل فيه

قال في الصحيح من السيرة : 9 / 88 ، ملخصاً : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ركب فرساً وخطَّ لهم موضع الخندق ، ما بين جبل بنى عبيد خَرْبَى إلى راتج ، حسب قول الواقدي ، وعند القمي : الخندق طولاً من أعلى وادى بطحان غربى الوادي مع الحرة إلى غربى مصلى العيد ، ثم إلى مسجد الفتح ، ثم إلى الجبلين الصغيرين اللذين في غربى الوادي . وكان طوله نحواً من خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع ، وعمقه سبعة أذرع . وجعل له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثمانية أبواب ، على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة ، يحفظونه من تسلل العدو .
وكان الخندق من الجهة الغربية الشمالية للمدينة ، أما بقية الجهات فكان فيها حواجز طبيعية ، تضاريس أو بيوت ، يسهل منع العدو من النفوذ منها .
وجعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) معسكره مقابل الخندق في سفح جبل سلع ، فكان الجبل إلى يساره وخلفه ، وعن يساره حرة الوبرة الوعرة ، وعن يمينه حرة وأقم الوعرة .
وتفاوتت الرواية في مدة الحفر ويبدو أنها نحو شهر ، وقد عمل فيه المسلمون بسرعة ليتم قبل قدوم الأحزاب ، وفرغوا منه قبل وصولهم بثلاثة أيام .
وقسَّم النبي ( صلى الله عليه وآله ) العمل فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب ، والأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بنى عبيد ، وجعل لكل قبيلة حداً ، وجعل كل أربعين ذراعاً بين عشرة ، وبدأ ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه في حفر الخندق فأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين وعلى ( عليه السلام ) ينقل التراب ، حتى عرق النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقول : لا عيشَ إلا عيش الآخرة . اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين .
--------------------------- 176 ---------------------------
فلما نظر الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحفر ، اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب ، فلما كان في اليوم الثاني بكَّروا إلى الحفر ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يحمل التراب على ظهره أو على عاتقه ، ثم يجلس حتى يستريح ، وجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله نحن نكفيك فيقول : أريد مشاركتكم في الأجر . قال أبو واقد : ولقد رأيته يوماً بلغ منه فجلس ، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر .
وكان المسلمون في فقر شديد أيام حفر الخندق ، حتى كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشد على بطنه حجراً من الجوع .
وفى عيون أخبار الرضا : 1 / 43 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « كنا مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة « عليها السلام » ومعها كسرة خبز ، فدفعتها إلى النبي فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما هذه الكسرة ؟ قالت : قرصاً خبزتها للحسن والحسين ، جئتك منه بهذه الكسرة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث » !

4 - محاصرة الأحزاب للمدينة

أ . قال الله تعالى يصف جيش الأحزاب : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِى الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . سورة الأحزاب 9 - 11 .
في المناقب : 1 / 170 : « إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ : أي من قبل المشرق . وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ : أي من المغرب . . فخرج إليه أبو سفيان بقريش ، والحارث بن عوف في بنى مرة ، ووبرة بن طريف ومسعود بن جبلة في أشجع ، وطليحة بن خويلد الأسدي في بنى أسد ، وعيينة بن حصن الفزاري في غطفان وبنى فزارة ، وقيس بن غيلان وأبو الأعور السلمى في بنى سُلَيم . ومن اليهود حيى بن أخطب ، وكنانة بن الربيع ، وسلام بن أبي الحقيق ، وهوذة بن قيس الوالي في رجالهم ، فكانوا ثمانية عشر ألف رجل ، والمسلمون في ثلاثة آلاف . وكان الكفار على الخمر والغناء والمدد والشوكة ، والمسلمون كأن على رؤسهم
--------------------------- 177 ---------------------------
الطير لمكان عمرو ! والنبي جاثٍ على ركبتيه باسط يديه ، باكية عيناه ، ينادى بأشجى صوت : يا صريخ المكروبين يا مجيب دعوة المضطرين ، إكشف همى وكربي ، فقد ترى حالي » .
وفى الصحيح من السيرة : 9 / 178 ملخصاً : « ذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرساً . وقال ابن إسحاق كان المسلمون سبع مئة ، وقال البخاري كانوا ألفاً أو نحوها ، ونرجح قول ابن إسحاق للأمور التالية :
1 - قصة إطعام جابر لأهل الخندق جميعاً وكانوا سبع مئة رجل أو ثمان مئة ، أو ألف رجل .
2 - روى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنهم تسع مئة رجل ، وقد تكون تسع تصحيفاً لسبع .
3 - روى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتب حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل ، وكان هذا عام الحديبية . وما جرى في الخندق يوضح أن عدد سكان المدينة لا يصل إلى الخمسة آلاف نسمة . ووافى المشركون المدينة وأحاطوا بها واختلفت الأقوال في عددهم ، فقال المسعودي : سارت إليه قريش وغطفان وسُلَيم وأسد وأشجع وقريظة ونضير ، وغيرهم من اليهود ، فكان عدة الجميع أربعة وعشرين ألفاً ، منها قريش وأتباعها أربعة آلاف . وقال ابن شهرآشوب : كانوا ثمانية عشر ألف رجل . . وقال المسعودي إنه كان معهم ثلاث مئة فرس وألف وأربع مئة بعير ، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب » .
ب . قال في شرح الأخبار : 1 / 292 : « ونظر المشركون إلى الخندق فتهيبوا القدوم عليه ولم يكونوا قبل ذلك رأوا مثله ، وقالوا إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفها ! فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم وخيلهم ورجلهم ويدعون المسلمين : ألا هلم للقتال والمبارزة ، فلا يجيبهم أحد إلى ذلك ولا يرد عليهم فيه شيئاً . ولزموا مواضعهم كما أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد عسكروا في الخندق ، وأظهروا العدة ولبسوا السلاح ووقفوا في مواقفهم ، وتهيب المشركون أن يلجوا الخندق عليهم » .
--------------------------- 178 ---------------------------
وجعلوا معسكراتهم بعيدة عن الخندق نسبياً حتى لا يكونوا في مرمى المسلمين .
« أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد » . البحار : 20 / 199 .
« وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً ، ويغدو خالد بن الوليد يوماً ، ويغدو عمرو بن العاص يوماً ، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً ، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوماً ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ، ويتفرقون مرة ويجتمعون مرة أخري ، ويناوشون المسلمين ويقدمون رماتهم فيرمون ، وإذْ أبو سفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق يطلب مضيقاً من الخندق ، فرماهم المسلمون حتى رجعوا . . وكان أسيد بن حضير يحرس في جماعة ، فإذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولوا ، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في قَرٍّ شديد وجوع . وكان عمرو بن العاص وخالد كثيراً ما يطلبان غرة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه ، فكانت للمسلمين معهما وقائع في تلك الليالي . .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشارك في دفع المشركين عندما يقصدون الخندق ، ويوجه المسلمين إلى رميهم بالسهام أو الحجارة فيرجعون . وكان رماة المسلمين على أبواب الخندق وفى نقاط مناسبة ، وعمدة سلاحهم الحجارة ، وقد جمعوها أيام حفر الخندق : « ويخرج المهاجرون والأنصار في نقل التراب وعلى رؤوسهم المكاتل ، ويرجعون بها بعد إلقاء التراب منها ، وقد ملأوها حجارة من جبل سلع ، وهى أعظم سلاحهم ، يرمون بها » . إمتاع الأسماع : 1 / 225 .
« ومضى على الفريقين قريب من شهر ، لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة ، حتى أنزل الله النصر » . سعد السعود لابن طاووس / 138 .
ج . وقع حدثان في أيام الحصار أثَّرا على معنويات المسلمين : الأول : نقض بني قريظة عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وانضمامهم عملياً إلى قريش . والثاني : إصابة سعد بن معاذ
--------------------------- 179 ---------------------------
بسهم من المشركين إصابة شديدة ! فقد كانت قريش ومن معها من الأحزاب يحاصرون المدينة من غربيها ، وكانت مساكن بني قريظة شرقي المدينة « حَرَّة بني قريظة » فكانوا مع الأحزاب طوقاً شبه كامل عليها ، وكان خطر بني قريظة يعادل خطر بقية الأحزاب ! قالت أم سلمة رضي الله عنها : « شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، وكنا بالحديبية ، وفى الفتح ، وحنين ، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا أخوف عندنا من الخندق ! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة « الطوق » وأن قريظة لا نأمنها على الذراري ، فالمدينة تحرس حتى الصباح ، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا » . إمتاع الأسماع : 1 / 235 .
لذلك أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بتجميع النساء والأطفال في « الآطام » أي المباني المحصنة المرتفعة ، قال في الصحيح : 9 / 269 : « وكانت حراستهم تتركز على الأمور الرئيسية وهي : 1 - مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . 2 - العسكر . 3 - الخندق . 4 - المدينة . 5 - الرصد لتحركات العدو . 6 - النساء والذراري وتعاهدهم في الآطام . 7 - أبواب الخندق .
قال النويري وغيره : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل ، وزيد بن حارثة في ثلاث مئة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير ، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة . وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة . وكانت المدينة تحرس حتى الصباح يسمع فيها التكبير حتى يصبحوا » . والطبقات : 2 / 67 .
وكان مسؤول الحراسة والعسكر كله على ( عليه السلام ) ، ففي تفسير القمي : 2 / 186 : « وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على العسكر كله ، بالليل يحرسهم ، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم » .
وعندما نقض بنو قريظة عهدهم ومزقوا نسخته وأعلنوا الحرب على المسلمين : « كان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان . . وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلاً ، وبعث حيى بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف ، فيغيروا بهم فجاء الخبر
--------------------------- 180 ---------------------------
بذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعظم البلاء » . « الإمتاع : 1 / 233 » . فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهم « سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة يستخبرون الأمر ، فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم إن وجدوا الغدر حقاً أن يخبروه تعريضاً لئلا يفُتُّوا في أعضاد الناس » . الصحيح : 9 / 197 .
ورفض ثلاثة أشخاص من بني قريظة نقض العهد وخرجوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلموا وكانوا معه ، وهم « بنو سَعْنة » : أسد وأسيد وثعلبة .
الصحيح : 8 / 138 .
« وأرسلت قريظة إلى أبي سفيان ومن معه من الأحزاب يوم الخندق ، أن أثبتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم » . اللمع للسيوطي / 93 .
وفى الإمتاع : 1 / 241 ، أن أبا سفيان ذهب إلى بني قريظة يحثهم على مهاجمة المدينة ، فأبوا أن يقاتلوا حتى يأخذوا سبعين رجلاً من قريش وغطفان رهاناً !
وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) زيد بن حارثة في ثلاث مئة ، وأسلم بن حريش في مئتين تتقدمهم خيل المسلمين وأمرهم أن يظهروا التكبير ، وشدد على حراسة المدينة من جهة قريظة ، وكان يرسل مجموعات الاستطلاع والكمائن ، فخافت قريظة !
ورووا قصة صفية عمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما كانت النساء والذراري في الآطام ، قالت : « فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آتٍ ، قالت فقلت : يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله ، قال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت : فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته . قالت : فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسان إنزل
--------------------------- 181 ---------------------------
إليه فاسلبه ، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . قال : مالي بسلبه من حاجة » . ابن هشام : 3 / 711 وأمالي الطوسي / 261 .
د . كان الوقت يعمل لصالح المسلمين بسبب فقدان الأحزاب مصدر تموين جيشهم وعلف خيلهم وإبلهم ، وبسبب تعدد قياداتهم واختلاف أمزجتهم ، فالوقت آخر الصيف وقد أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يجمعوا غلالهم ولا يتركوا شيئاً خارج المدينة .
قال في إمتاع الأسماع : 1 / 223 : « خرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة ، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، وقادوا معهم ثلاث مائة فرس وكان معهم ألف بعير وخمس مائة بعير .
ولاقتهم سُلَيم بمر الظهران في سبع مائة يقودهم سفيان بن عبد شمس وهو أبو أبى الأعور السلمي ، الذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين ، وخرجت بنو أسد وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي ، وخرجت بنو فزارة في ألف يقودهم عيينة بن حصن ، وخرجت أشجع في أربع مائة يقودهم مسعود بن رحيلة . . وخرجت بنو مرة في أربع مائة يقودهم الحارث بن عوف . . .
وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من بنى كنانة حتى نزلت وادى العقيق ، ونزلت غطفان بجانب أحد ومعها ثلاث مائة فرس ، فسرحت قريش ركابها في عضاة وادى العقيق ، ولم تجد لخيلها هناك شيئاً إلا ما حملت من علفها وهو الذرة . وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها . وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر ، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم . وكادت خيل غطفان وإبلها تهلك من الهزل ، وكانت المدينة إذ ذاك جديبة » .
ه - . قويت معنويات الأحزاب بنقض بني قريظة عهدهم وإصابة سعد ، فكانوا ينتظرون حملة بني قريظة من الشرق ، ويطمعون بعبور الخندق من الغرب ، فيطبقوا على المسلمين ويستأصلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما زعموا ! وقد أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) نصف جيشه أو أكثر لحراسة المدينة من بني قريظة ، وبقى في من
--------------------------- 182 ---------------------------
معه يحرسون الخندق الذي يبلغ طوله نحو ثلاث كيلو مترات ، ويصدون محاولات الأحزاب لعبوره . وكان بعضهم ضعافاً وبعضهم ينامون ولذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشارك بنفسه في حراسة الخندق . « الصحيح : 9 / 15 » . وفى ليلة رد محاولة للمشركين ثم رجع ونام : « وإذا بضرار بن الخطاب وعيينة بن حصن في عدة ، فركب ( صلى الله عليه وآله ) بسلاحه ثانياً فرماهم المسلمون حتى ولوا وفيهم جراحات » . الإمتاع : 1 / 233 .

5 - فرَّ أكثر المسلمين في حرب الخندق !

ووبَّخَهم الله في آيات الأحزاب لخوفهم ونقص إيمانهم ويقينهم ، وهدد الذين فروا منهم ونقضوا عهدهم بأن لايفروا . وسخرت الآيات من مرضى القلوب « المنافقين السياسيين » لأنهم قالوا : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ! ومدح المؤمنين الصادقين الذين لم ترتجف قلوبهم ، لأنهم على يقين بالنصر : قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ .
لقد تجمعت عوامل على المسلمين : منها كثرة جيش الأحزاب ، ومحاولاتهم المستمرة للنفوذ من الخندق . وانضمام بني قريظة لهم ، وتهديدهم بالهجوم على المدينة . والأزمة الاقتصادية الشديدة عليهم . وإصابة سعد بن معاذ « رحمه الله » . وفعالية قريش واليهود داخل مجتمع المسلمين .
لكن أكثر ما أضعفهم أن بعضهم أخذ يستأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليتفقد بيته بحجة أنه قريب من قريظة فيذهب ولا يعود ! وبعضهم هرب بدون استئذان !
هذه هي الصورة الصحيحة للصحابة في غزوة الأحزاب ، لكن رواة قريش أخفوا مرضى القلوب ، والكاذبين في الاستئذان ، والمتخلفين عن العودة . وفرار هؤلاء مخفى لكنه فرار كامل الشروط ، فضحه الله بقوله : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً ، فسماه فراراً بأشد أسمائه !
وفى حديث ابن عمر ، قال : « بعثني خالى عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال : من لقيت فقل لهم إن رسول الله
--------------------------- 183 ---------------------------
يأمركم أن ترجعوا ، وكان ذلك في برد شديد ، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا . قال : فلا والله ما عطف على منهم اثنان أو واحد » . رواه الطبراني في الأوسط : 5 / 275 وصححه في مجمع الزوائد : 6 / 135 .
وفى حديث حذيفة ، ورواه الحاكم : 3 / 31 وصححه ، ووثقه مجمع الزوائد : 6 / 136 : « إن الناس تفرقوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الأحزاب فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً ، فأتاني رسول الله وأنا جاثم من البرد ، وقال : يا ابن اليمان قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب فانظر إلى حالهم . قلت : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلاحياء منك من البرد » .
وفى حديث عائشة ، الذي رواه أحمد : 6 / 141 والزوائد : 6 / 138 وحسَّنه ، وصفت اختباء جماعة من الصحابة في حديقة ، منهم عمر وطلحة ، وذكرت أن عمر كان يتخوف من الهزيمة والفرار العام ! قالت : « خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس ، قالت فسمعت وئيد الأرض ورائي يعنى حس الأرض ، قالت فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحرث بن أوس يحمل مجنه ، قالت فجلست إلى الأرض فمر سعدٌ وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد ، قالت وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم ، قالت : فمر وهو يرتجز ويقول : ليت قليلاً يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل !
قالت : « فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين ، وإذا فيهم عمر بن الخطاب ، وفيهم رجل عليه سبغة له يعنى مغفراً فقال عمر : ما جاء بك ، لعمري والله إنك لجريئة ، وما يؤمنك أن يكون بلاء « هزيمة » أو يكون تَحَوُّز « فرار عام » !
قالت : فما زال يلومنى حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها . قالت فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيد الله فقال : يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم ، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل » !
فحديث ابن عمر يقول إنهم عصوا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وظلوا في المدينة إلا من ندر ! وحديث حذيفة يقول إنهم تفرقوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يبق معه إلا
--------------------------- 184 ---------------------------
اثنا عشر ! وحديث عائشة يقول إنها خرجت من الحصن الذي كان فيه النساء وهو حصن بنى حارثة في المدينة ، « ابن هشام : 3 / 710 » وهو في جهة العوالي وليس في جهة الخندق « الحاكم : 4 / 50 » فمشت باتجاه الخندق فرأت سعداً ذاهباً مع جماعته ، فحادت عن الطريق ودخلت في بستان هناك ، فوجدت جماعة فيهم عمر وطلحة مختبئين ! وكان عمر يتحدث عن احتمال الهزيمة العامة وفرار المسلمين ! فيجيبه طلحة : أكثرت الكلام عن الفرار ، ونحن لسنا هاربين ، بل متحيزون إلى الله !
وينبغي التذكير بأن آية المتسللين : قدْ يعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيحْذَرِ الَّذِينَ يخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . نزلت في الفارين من حفر الخندق أو المرابطة عنده ، وهى شاملة لهم .
يضاف إلى ما تقدم ، شهادة البيهقي في سننه : 9 / 31 : « فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول : والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء ، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً وأن يدفع الله عز وجل مفاتح الكعبة ، وليهلكن الله كسرى وقيصرولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ! فقال رجل ممن معه لأصحابه : ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن يغنيهم كنوز فارس والروم ، ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط ، والله لما يعدنا إلا غرواً ! وقال آخرون ممن معه : إئذن لنا فإن بيوتنا عورة وقال آخرون : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . وسمى ابن إسحاق القائل الأول : معتب بن قشير ، والقائل الثاني : أوس بن قيظي » ! وهى تسمية سياسية للتغطية على القائل الحقيقي !
ويضاف إلى ما تقدم شهادة القمي في تفسيره : 2 / 186 ، قال : « فلما طال على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الأمر واشتد عليهم الحصار وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة ، وخافوا من اليهود خوفاً شديداً ، تكلم المنافقون بما حكى الله عنهم . ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا نافق إلا القليل ! وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل ، وأنه
--------------------------- 185 ---------------------------
ليصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم ، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ، وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا ، فإنها في أطراف المدينة ، وهى عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها .
وقال قوم : هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب ، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله » .

6 - مرضى القلوب يتآمرون على النبي « صلى الله عليه وآله » مع الأحزاب

كان مرضى القلوب الذين حمَّلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) هزيمة أحُد لأنه لم يشركهم في القيادة : لوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ! كانوا يأتمرون لحل القضية بزعمهم :
1 - فأشاعوا فكرة المصالحة مع النجديين بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً لينصرفوا ، وقد أحبطها النبي ( صلى الله عليه وآله ) باستشارة الزعيمين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وهو يعرف أنهما يرفضانها ، فرفضاها وانتهت .
وذكر بعضهم أن زعيمي النجديين عيينة والحارث جاءا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطلبا منه ذلك ، « ابن شيبة : 8 / 501 » وكذب بعضهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه هو الذي بعث لهما ! « الطبري : 2 / 238 » . وأنه كتب عهداً بذلك لعيينة بن حصن رئيس هوازن ، ثم تراجع عنه ! الصحيح من السيرة 9 / 242 .
2 - طرح بعضهم تسليم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقريش فقال : « والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك » ! « كتاب سُلَيم / 249 » لكن ذلك لم يكن ممكناً لهم !
3 - كان مرضى القلوب على صلة بأبى سفيان ، وطلب منهم أن يأخذوا نقطة ضعيفة من الخندق ويسهلوا عبورهم منها ، فإذا عبروا استغلوا الاضطراب في جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) وردموا الثغرة ليعبر جيش الأحزاب ، ويقضوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ومن المؤشرات على ذلك أن عمرو بن ود وجماعته ، أمروا جنودهم أن يتهيؤوا للقتال غداً قبل محاولتهم عبور الخندق ، لأنهم كانوا واثقين من نجاح عبورهم !
--------------------------- 186 ---------------------------
« مروا بمنازل بنى كنانة فقالوا : تهيؤوا يا بنى كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم » . الإرشاد : 19 / 7 وابن هشام : 3 / 705 .
ويدل عليه أنه بمجرد أن عبر فرسانهم ركز النبي ( صلى الله عليه وآله ) اهتمامه على الثغرة ! فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يبادر بسرعة فيأخذها ، فإن اعترض أحد من « المسلمين » فليقتله !
قال القاضي النعمان في شرح الأخبار : 1 / 294 : « وتسلل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكثر أهل المدينة فدخلوا بيوتهم كالملقين بأيديهم ، فاقتحم عمرو بن عبد ود وأصحابه الخندق على المسلمين وهم على هذه الحال ، فلما نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ذلك وأن خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وقربوا من مناخ رسول الله ، تخوف أن يمدهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق فدعى علياً ( عليه السلام ) فقال : يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه ! فمضى على ( عليه السلام ) في نفر جمعوا معه يريدون الثغرة ، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها ، فلما رأوهم وهم أقل من الذين اقتحموها منهم توقفوا لينظروا ما يكون من أمر أصحابهم معهم ، وعطف عليهم عمرو بن عبد ود بمن كان معه تعنق بهم خيلهم ، حتى قربوا منهم » .
كان مسؤول المنطقة التي فيها الثغرة أسيد بن حضير الذي صار فيما بعد من أبطال السقيفة ، فقد روى الواقدي أن الأحزاب حاولوا العبور منها وأن سلمان نظر إليها وقال لأسيد : « إن هذا مكان من الخندق متقارب ، ونحن نخاف أن تطفره خيلهم ، وكان الناس عجلوا في حفره ، وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق » . الصحيح : 9 / 279 .
كان عرض الخندق تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع ، والذراع يساوى نصف متر أو أكثر ، « الأوزان والمقادير / 56 » فيكون عرضه نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً . ومن الصعب أن يقفز الفرس هذه المسافة ، فيحتمل أن يكون أحدٌ ردم جانب الخندق ، ولا يكون ذلك إلا بغياب الحراسة ، أو تواطؤ الحراس ! وهذا يرجح وجود مؤامرة لعبور الأحزاب فبادر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمر علياً بقتل من يعترض عمله فيها ! ويؤيد ذلك أن العبور كان بعد إصابة سعد بن معاذ « رحمه الله » .
--------------------------- 187 ---------------------------

7 - يقين النبي « صلى الله عليه وآله » بالنصر في غزوة الأحزاب وغيرها

فعندما ضرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) الصخرة في الخندق وخرج منها ثلاث برقات ، قال : « لقد فتح الله على في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر ! فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ، وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلي » . الكافي : 8 / 216 .
وعندما بلغه أن قريظة نقضوا العهد وأعلنوا الحرب قال : « الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين ، أو قال : أبشروا بنصر الله وعونه » . الصحيح من السيرة : 9 / 199 .
وورد في تفسير قوله تعالي : وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ . أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أخبرهم أنه سيتظاهر عليهم الأحزاب ووعدهم الظفر بهم ، فلما رأوهم تبين لهم مصداق قوله ، وكان ذلك من معجزاته ( صلى الله عليه وآله ) . البحار : 20 / 195 .
وفى الكافي : 2 / 561 2 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « كان دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الأحزاب : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، ويا كاشف غمى اكشف عنى غمى وهمى وكربي ، فإنك تعلم حالي وحال أصحابي ، واكفني هول عدوي ، فإنه لا يكشف ذلك غيرك » . ورويت له ( صلى الله عليه وآله ) أدعية أخري .
وفى مستدرك الوسائل : 5 / 281 : « دعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) على الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، واستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، فعرف السرور في وجهه قال جابر : فما نزل بي أمر غائض وتوجهت تلك الساعة إلا عرفت الإجابة » .

8 - من معجزات النبي « صلى الله عليه وآله » في غزوة الأحزاب

أ - منها : أن سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وجماعة ، كانوا يعملون في أربعين ذراعاً ، فخرجت عليهم صخرة كسَّرت معاولهم : « فصعد سلمان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان في قبة تركية ، فأخبره فهبط معه وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، ورأى شدة المكان فأخذ المعول وضربها ضربة فصدعها ، وبرق منها برق أضاء بين لابتى المدينة ، فكبَّر تكبيرة وكبر المسلمون ، ثم ضربها ثانية فكذلك ، ثم الثالثة فكذلك ، فصدعها . فأخذ بيد سلمان ورقي ، فسألوه فقال : إنه بالبرقة
--------------------------- 188 ---------------------------
الأولى أضاءت له قصور الحيرة ومدائن كسري ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ، وفى الثانية أضاءت له القصور الحمر من أرض الروم ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ، وفى الثالثة أضاءت له قصور صنعاء وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ! فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق !
فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق لا تستطيعون أن تبرزوا !
وفى الخصال / 390 : « ثم ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا ! » .
ب - ومنها : قال جابر بن عبد الله : اتفقت مع زوجتي سهيلة بنت مسعود الأنصارية ، أن تصلح ما عندهما وهو مد من شعير وشاة غير سمينة ثم ندعو النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الطعام ، فسأله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عما عنده فأخبره . فقال ( صلى الله عليه وآله ) كثير طيب ، ثم دعا أهل الخندق جميعاً وقال لهم : إن جابراً قد صنع لهم سوراً فأقبلوا معه ! قال جابر : فقلت والله إنها الفضيحة ! فأتيت المرأة فقلت لها قد جاءك رسول الله وأصحابه أجمعون ! فقالت : أنت دعوتهم أو هو دعاهم ؟ فقلت : بل هو دعاهم قالت : دعهم هو أعلم ! فأكل الجميع حتى شبعوا وقال ( صلى الله عليه وآله ) : كلوا واهدوا فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة ، فأكلنا وأهدينا فلما خرج رسول الله ذهب ذلك » . الصحيح : 9 / 148 .
ج - ومنها : قال جابر : « اشتد علينا في حفر الخندق كدانة « صخرة » فشكونا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو ، ثم نضح الماء على تلك الكدانة فعادت كالكندر « لينة » » . المناقب : 1 / 103 .
د - ومنها : أن ابنة بشير بن سعد جاءت بحفنة تمر إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة ، فرآها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى تلتمس أباها وخالها ، فأخذها منها في كفه فما ملأتها ، ثم أمر بثوب فبسط له ، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ، ثم أمر فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منها حتى صدر أهل الخندق عنه ، وإنه ليسقط من أطراف الثوب !
البحار : 20 / 247 .
--------------------------- 189 ---------------------------
ه - - ومنها : أن أم متعب الأنصارية أرسلت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقعبة فيها حيس ، وهو في قبته مع أم سلمة فأكلت حاجتها ، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه : هلمَّ إلى عشائه ، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا ، وهى كما هي ! الصحيح : 9 / 151 .
و - ومنها : « لما نزلت الأحزاب على المدينة عبأ أبو سفيان سبعة آلاف رامٍ كوكبة واحدة ، ثم قال : إرموهم رشقاً واحداً ، فوقع في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) سهام كثيرة فشكوا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلوح إلى السهام بكمه ، ودعا بدعوات فهبت ريح عاصفة فردت السهام إلى القوم ، فكل من رمى سهماً عاد السهم إليه ، فوقع فيه وجرحه » . البحار : 18 / 64 .
ز . ومنها : قال جابر : « خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسلمين وقال : جدوا في الحفر ، فجدوا واجتهدوا ولم يزالوا يحفرون حتى فرغ الحفر ، والتراب حول الخندق تل عال فأخبرته بذلك فقال : لا تفزع يا جابر فسوف ترى عجباً ، قال وأقبل الليل ووجدت عند التراب جلبة وضجة عظيمة . . فلما أصبحت لم أجد من التراب كفاً واحداً » . المناقب : 1 / 115 .

9 - جهاد علي « عليه السلام » في غزوة الأحزاب

جاء في خطبة الزهراء « عليها السلام » بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) تخاطب الصحابة : « حتى استنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُنِى ببُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون ، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين » ! الطرائف / 264 .
فقد كان على ( عليه السلام ) عضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الشدائد ، حتى إذا جاء الرخاء وجدته مشغولاً في مهام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومعه نفر قليل من الصحابة ، أما غيرهم فكان هانئاً في ثمار جهودهم وجهادهم ! وفى غزوة الأحزاب كان حامل راية النبي ( صلى الله عليه وآله ) أي
--------------------------- 190 ---------------------------
المسؤول عن كل جيشه ، فكان ينفذ خطته في حفر الخندق ، ويجمع أدوات الحفر من المدينة ، ويستعير عدداً منها من يهود قريظة ! « الصحيح : 9 / 103 » . وكان يسَرِّعَهم في الحفر ليكتمل الخندق قبل وصول جيوش الأحزاب ، ولا بد أنه ( عليه السلام ) كان يعمل في الحفر بقدر عشرة عمال أقوياء وأكثر ، لأنهم رووا أن سلمان « رحمه الله » كان يعمل بقدر عشرة أشخاص ، فأصابوه بالعين !
وعند وصول جيوش الأحزاب ، باشر على ( عليه السلام ) مهمته في حراسة الأبواب الثمانية للخندق ، وتفقد نقاط الضعف التي يمكن أن يطمع العدو بالعبور منها ، وأعد رماة السهام والأحجار لمواجهة أي مجموعة من العدو تقترب من الخندق ، وكان يشارك في رد محاولاتهم عندما يكون في جبهة الخندق .
وفى نفس الوقت كان يدير الجبهة الشرقية على المدينة ، جبهة بني قريظة ، بعد أن نقضوا عهدهم وهددوا المدينة ! ولا بد أنه عاش مس الجوع في تلك الأيام وكتمه كما عاشه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكتمه ثلاثة أيام حتى شد على بطنه حجر المجاعة ! ولا بد أن علياً ( عليه السلام ) فرح ودمعت عيناه عندما عرف أن فاطمة « عليها السلام » جاءت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بنصف قرص شعير ، « عيون أخبار الرضا : 1 / 43 » . ولا نعلم هل أكل على ( عليه السلام ) منها عندما عرض عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم بقي طاوياً ؟ ! لكن المؤكد أن الله يعينه على جوعه وجهده !

10 - شهادة سعد بن معاذ بسهم من المشركين

كان سعد بن معاذ رئيس الأوس بل رئيس الأنصار ، وهو مسلم قوى فدائى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي أجابه عندما استشارهم في المضي إلى معركة بدر ، فقال : « بأبى أنت وأمي يا رسول الله ، إنا قد آمنا بك وصدقناك ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك » ! تفسير القمي : 1 / 259 .
وكان سعد « رحمه الله » طويلاً جميلاً ، وعاش سبعاً وثلاثين سنة فقط . الطبقات : 3 / 433 . وصلى عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « لقد وافى من الملائكة سبعون ألفاً وفيهم جبرئيل يصلون عليه ، فقلت له : يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه ؟ فقال : بقراءته قل هو الله أحد قائماً
--------------------------- 191 ---------------------------
وقاعداً ، وراكباً وماشياً ، وذاهباً وجائياً » ! الكافي : 2 / 622 .
وكان سعد محباً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته « عليهم السلام » ، بصيراً بخطط قريش ضدهم ، ولذا قال فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يرحمك الله يا سعد فلقد كنت شجى في حلوق الكافرين ! لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة المسلمين كعجل قوم موسي ! قالوا : يا رسول الله أو عجلٌ يراد أن يتخذ في مدينتك هذه ! قال : بلى والله يراد ! ولو كان سعد فيهم حياً لما استمر تدبيرهم ، ويستمرون ببعض تدبيرهم ،
ثم الله تعالى يبطله . قالوا : أخبرنا كيف يكون ذلك ؟ قال : دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره » . « تفسير الإمام العسكري / 48 » . وبسبب هذه المكانة الخاصة لسعد « رحمه الله » ،
لا نستبعد أن يكونوا رموه بسهم عبر الخندق بمساعدة منافقين عملاء لهم !
وفى تفسير القمي : 2 / 187 : « كان ابن فرقد الكناني رمى سعد بن معاذ « رحمه الله » بسهم في الخندق فقطع أكحله ، فنزفه الدم فقبض سعد على أكحله بيده ثم قال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فلا أجد أحب إلى محاربتهم من قوم حادوا الله ورسوله ، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين قريش فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتنى حتى تقر عيني من بني قريظة ، فأمسك الدم وتورمت يده ، وضرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) له في المسجد خيمة ، وكان يتعاهده بنفسه » .
هذا وقد رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « اهتز العرش لموت سعد بن معاذ » . « صحيح بخاري : 4 / 227 » . وروينا أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سئل عما يقوله الناس ، فقال : « إنما هو السرير الذي كان عليه سعد » . « معاني الأخبار / 288 ومعجم السيد الخوئي : 9 / 94 » . أي اهتز سريره كر أمة له وليس عرش الله تعالى .

11 - عبور فرسان الأحزاب من ثغرة في الخندق

نرجح أن المشركين اتفقوا مع منافقين على تسهيل عبورهم ، فتفاجأ المسلمون ببضعة فرسان عبروا الخندق ، وهم : عمرو بن عبد ود العامري ، وابنه حسيل ،
--------------------------- 192 ---------------------------
وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة وثلاثتهم من بنى مخزوم ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس ، وهما فهريان .
وكان ابن عبد ود فارس العرب يعد بألف فارس ، ويسمى فارس يلْيل لأنه أقبل في ركب فعرضت لهم بنو بكر في عدد في واد قريب من بدر ، فقال لأصحابه : إمضوا ، فقام وحده في وجههم ومنعهم من أن يصلوا إليه !
عَبَرَ ابن عبد ودّ ورفقاؤه وأخذوا يجولون ويستعرضون قوتهم ، في السبخة التي تحت جبل سلع ، مقابل مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى الآن مسجد الفتح ، وأخلى المسلمون الذين أمامهم المكان ! فلم يهتم النبي ( صلى الله عليه وآله ) للعابرين بقدر ما اهتم لسد الثغرة التي عبروا منها ، فنادى علياً ( عليه السلام ) فأسرع بمن معه لسد الثغرة ، وقد يكون مرَّ قريباً من ابن وُد وهو يطلب المبارزة وخلفه جماعته ، فقال له إصبر حتى أستأذن النبي في مبارزتك ، أو يختار لك من يبارزك ، وعاد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوجده يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة ، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير ! فقال على ( عليه السلام ) : أنا له يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، وواصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه منهم أحد ! فقام على ( عليه السلام ) ثانيةً وقال : أنا له يا رسول الله ، فقال له : أجلس . وحسب رواية ابن إسحاق : يا علي إنه عمرو ، فأجابه : وأنا على يا رسول الله ! فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أدن مني ، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه ، ودعا له ، وأطلق كلماته الرسولية بحقه .
وتقدم على ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابر الأنصاري وحذيفة وعمر والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليروا النتيجة . وكان ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ومرة برمحه ، أو يركزه في الأرض ويدور بفرسه حوله ، ويقول : أبرز إلى يا محمد ، ثم يقول : إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ؟ ألا يحب أحدكم أن يقْدِم على الجنة ، أو يبعث عدواً له إلى النار ؟ !
ولقد بححت من الندا * ء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجا * ع موقف الخصم المناجز
--------------------------- 193 ---------------------------
إني كذلك لم أزل * متسرعاً نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتي * والجود من كرم الغرائز
وكان عمرو بن عبد ود راكباً ، ومشى على ( عليه السلام ) نحوه راجلاً ، وهو يقول :
لاتعجلنَّ فقد أتاك * مجيب صوتك غيرُ عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ * والصدق مُنجى كلِّ فائز
إني لأرجو أن تقو * م عليك نائحةُ الجنائز
من طعنة نجلاء يبقي * ذكرها بين الهزاهز
وجرى بينهما كلام طويل ، حتى غضب عمرو ونزل عن فرسه وأهوى بسيفه إلى علي ( عليه السلام ) بضربة قوية ، فتلقاها على ( عليه السلام ) بترسه ، فشقت الترس والخوذة والعمامة ، ووصلت إلى رأسه ( عليه السلام ) فجرحته في قرنه ، فانفجر الدم يجرى على رأسه وكتفه ، ولم يتأخر على ( عليه السلام ) فضربه ضربة حيدرية على ترقوته ، كما قال البيهقي وابن إسحاق ، فهوى عمرو صريعاً وكبَّر على ( عليه السلام ) بصوته الجهورى فكبر النبي والمسلمون ، وتقدم ليحز رأسه فتفل عمرو في وجهه وشتم أمه ، فصبر ورجع خطوات ، قال : خشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي !
وجاء على ( عليه السلام ) برأس عمرو إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فمسح النبي ( صلى الله عليه وآله ) الدم والغبار عن عينيه ، ومسح مكان الضربة في رأسه ، ورجع على ( عليه السلام ) إلى الثغرة ليقطع الطريق على جماعة عمرو ، فطلب منه حسل بن عمرو المبارزة فبرز اليه وقتله ولم يمهله ! وهرب عكرمة بن أبي جهل ، وضرار الخطاب ، ونوفل بن عبد الله المخزومي فلحقهم على ( عليه السلام ) ، فأفلت عكرمة بعد أن ألقى درعه ، وأفلت ضرار ، وعلق نوفل في الخندق فلم تستطع فرسه الصعود من الطرف الآخر ، فأخذ المسلمون يرمونه بالحجارة فصاح بهم : قتلةٌ أجمل من هذه ! ينزل إلى بعضكم أقاتله ! فنزل إليه على ( عليه السلام ) ، فضربه وقتله .
وفى الطرائف / 60 ، عن أبي هلال العسكري ، قال : « أول من قال : جُعلت فداك ،
--------------------------- 194 ---------------------------
علي ، لما دعا عمرو بن عبد ود إلى البراز يوم الخندق ولم يجبه أحد ، قال علي : جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي ؟ قال : إنه عمرو بن عبد ود . قال : وأنا علي بن أبي طالب ، فخرج إليه فقتله » .
وفى كنز الفوائد / 137 : « فتقدم إليه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : برز الإيمان كله إلى الشرك كله . فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده ، قال له عمرو : يا علي قد جلست منى مجلساً عظيماً فإذا قتلتني فلا تسلبنى حلتي ! فقال له أمير المؤمنين : هي أهون على من ذلك ! وذبحه وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته فقال عمر : ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنها مشية لايمقتها الله في هذا المقام . ثم نهض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه » . وانتشر خبر قتل عمرو في المسلمين كالبرق ، ففرحوا واستبشروا ، ووقع على الأحزاب كالصاعقة وكان ذلك قبل ظهر يوم الأربعاء .
وواصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعاءه بعد صلاة الظهر ، فتغير الجو وجاءت الريح وعصفت بجيش الأحزاب فاضطربوا ، وأخذوا يفكرون بالإنسحاب ، وباتوا في ليلة ليلاء ، فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهم حذيفة متنكراً في الظلام ، فوصل إلى خيمة أبي سفيان واستطلع خبرهم ، وفى اليوم التالي بادروا إلى الرحيل : وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ ينَالُوا خَيرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلى ( عليه السلام ) ، والملائكة ، والرياح .
وكان ابن مسعود يقرأ الآية : وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلي ، وَكَانَ اللهُ قَوِيا عَزِيزًا . الإرشاد : 1 / 106 ، القمي : 2 / 182 ، الحاكم : 3 / 32 وابن هشام : 3 / 708 .
ورجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) صبيحتها إلى المدينة ، وما إن صلى الظهر ووضع لباس حربه حتى جاءه جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) أمامه ثم التحق بهم !

12 - علي « عليه السلام » يصف غزوة الأحزاب ومبارزته لعمرو

قال على ( عليه السلام ) في جوابه لسؤال أحد أحبار اليهود كما في الخصال للصدوق / 369 : « وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً
--------------------------- 195 ---------------------------
وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقتلنا معه معاشر
بنى عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأنبأه بذلك فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار . فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ! ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبي ، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً ! وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضنى إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعممنى بيده وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً على من ابن عبد ود ! فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لا تَعُدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة ، وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان منى فيهم من النكاية » .

13 - حذيفة « رحمه الله » يصف مبارزة علي « عليه السلام » لعمرو بن ود

في مناقب على ( عليه السلام ) : 1 / 222 ، قال ربيعة : « أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله إنا نتحدث في علي وفى مناقبه فيقول لنا أهل البصرة : إنكم لتفرطون في علي وفى مناقبه ، فهل أنت تحدثني في علي بحديث ؟ فقال حذيفة : يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي
--------------------------- 196 ---------------------------
نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) في كفة الميزان من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل على يوماً واحداً في الكفة الأخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم ! فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة : وكيف لا يحتمل هذا يا ملكعان « أحمق » ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادى للمبارزة ، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً فقتله الله على يديه ؟ ! والذي نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد إلى يوم القيامة » .
وفى تفسير مجمع البيان : 8 / 131 : « عن حذيفة قال : فألبسه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) درعه ذات الفضول ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وعممه عمامته السحاب ، على رأسه تسعة أكوار ، ثم قال له : تقدم ، فقال لما ولي : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه .
قال ابن إسحاق : فمشى إليه وهو يقول : لاتعجلن فقد أتاك . . مجيب صوتك غير عاجز . . إلى آخر الأبيات . . قال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي . فقال : غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك ، فإني أكره أن أهرق دمك ! فقال على ( عليه السلام ) : لكني والله ما أكره أن أهرق دمك ! فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو على مغضباً ، فاستقبله على بدرقته ، فضربه عمرو بالدرقة فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه ! وضربه على على حبل العاتق ، فسقط » .
وفى شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : 2 / 10 ، بسنده عن حذيفة ، قال : « فجاء حتى وقف على عمرو فقال : من أنت ؟ فقال عمرو : ما ظننت أنى أقف موقفا أُجهل فيه ، أنا عمرو بن عبد ود ؟ فمن أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال : الغلام الذي كنت أراك في حجر أبى طالب ؟ قال : نعم . قال : إن أباك كان لي صديقاً وأنا أكره أن أقتلك ! فقال له علي : لكني لا أكره أن أقتلك ، بلغني أنك تعلقت بأستار الكعبة وعاهدت الله عز وجل أن لا يخيرك رجل بين ثلاث خلال إلا اخترت منها خلة ؟ قال : صدقوا . قال : إما أن ترجع من حيث جئت . قال : لا تحدث بها قريش . قال : أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا . قال : ولا هذه . فقال له علي : فأنت فارس وأنا راجل ! فنزل عن فرسه وقال : ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام ! ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت ثم أقبل إلى علي وكان رجلاً طويلاً يداوى دبر البعيرة ، وهو قائم ، وكان على ( عليه السلام ) في تراب دق لا يثبت قدماه عليه ، فجعل على ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه ، ويعلوه عمرو بالسيف وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها على بالترس فلحق ذباب السيف في رأس على ( عليه السلام ) حتى قطعت تسعة
--------------------------- 197 ---------------------------
أكوار حتى خط السيف في رأس علي . وتسيف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه ، فثارت بينهما عجاجة فسمع على ( عليه السلام ) يكبر ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قتله والذي نفسي بيده !
فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب ، فإذا على يمسح سيفه بدرع عمرو فكبر عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قتله ! فحز على رأسه ثم أقبل يخطر في مشيته ، فقال له رسول الله : يا علي إن هذه مشية يكرهها الله عز وجل إلا في هذا الموضع . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : ما منعك من سلبه فقد كان ذا سلب ؟ فقال : يا رسول الله : إنه تلقاني بعورته . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم ، وذلك إنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو » . والصحيح من السيرة : 9 / 333 وبعضه المناقب : 2 / 324 .

14 - رواية تفسير القمي لمبارزة على لعمرو

قال علي بن إبراهيم القمي « رحمه الله » في تفسيره : 2 / 182 : « فمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يهرول في مشيه وهو يقول : لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز . . . الأبيات . . فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وختنه . فقال : والله إن أباك كان لي صديقاً قديماً وإني أكره أن أقتلك ! ما أمن ابن عمك حين بعثك إلى أن أختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت ؟ !
فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قد علم ابن عمى أنك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة ! فقال عمرو : وكلتاهما لك يا علي ؟ تلك إذا قسمة ضيزي !
قال على ( عليه السلام ) : دع هذا يا عمرو ، وإني سمعت عنك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول لايعرضن على أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها ،
--------------------------- 198 ---------------------------
وأنا أعرض عليك ثلاث خصال ، فأجبني إلى واحدة ! قال : هات يا علي ! قال : أحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . قال : نحِّ عنى هذه ، فاسأل الثانية ، فقال : أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً ، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره . فقال : إذاً تتحدث نساء قريش بذلك ، وتنشد الشعراء في أشعارها أنى جبنت ورجعت على عقبى من الحرب ، وخذلت قوماً رأَّسُونى عليهم !
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فالثالثة أن تنزل إلى فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك . فوثب عن فرسه وعرقبه وقال : هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومنى عليها ، ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف على رأسه ، فاتقاه أمير المؤمنين بدرقته فقطعها ، وثبت السيف على رأسه .
فقال له على ( عليه السلام ) : يا عمرو أما كفاك أنى بارزتك وأنت فارس العرب ، حتى استعنت على بظهير ؟ ! فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً ، وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون قُتل علي بن أبي طالب ، ثم انكشف العجاجة فنظروا فإذا أمير المؤمنين على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ، فذبحه ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم ، وهو يقول والرأس بيده :
أنا على وابن عبد المطلبْ * الموت خيرٌ للفتى من الهربْ
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة .
وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته . وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار : ويحك يا ابن صهاك أترمينى في مبارزة ! والله لئن رميتنى لا تركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته ! فانهزم عنه عمر ومرَّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثم قال : إحفظها يا عمر . . فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما ولى فولاه » !
وروى أنهم وجدوا جمجمة عمرو بن ود ، فكيلت بها كيلجة فاستوعبتها ! « مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 69 » والكيلجة صاع إلا يسيراً المحلي : 5245 .
--------------------------- 199 ---------------------------
وأراد المشركون شراء جثة عمرو بعشرة آلاف ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! المناقب : 1 / 171 .

15 - أخ عمرو بن ود يواجه علياً « عليه السلام » في مكة !

أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبا بكر ليبلغ سورة براءة إلى المشركين ، فنزل جبرئيل بأمر الله تعالى : لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك ! أحمد : 1 / 151 والخصال / 369 .
فأمر بإرجاعه من الطريق وأرسل بها علياً ( عليه السلام ) ، فدخل على مكة ووقف في الموسم يقرأ عليهم سورة براءة . قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « لما قرأ قوله تعالي : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك !
فقال على ( عليه السلام ) : أجل أجل ، إن شئت ، هلموا ! ثم واصل ( عليه السلام ) تلاوته : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ » . المناقب 1 / 392 .

16 - شبَّه الإمام الصادق « عليه السلام » يوم الأحزاب بيوم القيامة !

في الكافي : 8 / 278 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب في ليلة ظلماء قَرَّة « باردة » فقال : من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنة فلم يقم أحد ، ثم أعادها فلم يقم أحد ! فقال أبو عبد الله بيده : وما أراد القوم ، أرادوا أفضل من الجنة ؟ ! ثم قال : من هذا ؟ فقال : حذيفة . فقال : أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تَكَلَّم ، أقُبِرت ؟ فقام حذيفة وهو يقول : القَرُّ والضُّرُّ جعلني الله فداك منعني أن أجيبك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم ! فلما ذهب قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده ، وقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يا حذيفة لا تحدث شيئاً حتى تأتيني ، فأخذ سيفه وقوسه وحجفته .
قال حذيفة : فخرجت وما بي من ضر ولا قر ، فمررت على باب الخندق ،
--------------------------- 200 ---------------------------
وقد اعتراه المؤمنون والكفار . فلما توجه حذيفة قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونادي : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، إكشف همى وغمى وكربي ، قد ترى حالي وحال أصحابي . فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله ، إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك ، وقد أجابك وكفاك هول عدوك ، فجثى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه ، ثم قال : شكراً شكراً ، كما رحمتنى ورحمت أصحابي . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد بعث الله عز وجل عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصي ، وريحاً من السماء الرابعة فيها جندل .
قال حذيفة : فخرجت فإذا أنا بنيران القوم ، وأقبل جند الله الأول ريح فيها حصي ، فما تركت لهم ناراً إلا أذرتها ، ولا خباءً إلا طرحته ، ولا رمحاً إلا ألقته ! حتى جعلوا يتترسون من الحصي ! فجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة ، فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين ، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين فقال : أيها الناس إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب ، ألا وإنه لن يفوتكم من أمره شئ ، فإنه ليس سنة مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فارجعوا ولينظر كل رجل منكم من جليسه ! قال حذيفة : فنظرت عن يميني فضربت بيدي فقلت : من أنت ؟ فقال : معاوية ، فقلت للذي عن يساري : من أنت ؟ فقال سهيل بن عمرو ! قال حذيفة : وأقبل جند الله الأعظم ، فقام أبو سفيان إلى راحلته ، ثم صاح في قريش : النجاء النجاء ! وقال طلحة الأزدي : لقد زادكم محمد بشر ، ثم قام إلى راحلته وصاح في بنى أشجع : النجاء النجاء ! وفعل عيينة بن حصن مثلها ، ثم فعل الحرث بن عوف المزنى مثلها ! ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها ! وذهب الأحزاب ، ورجع حذيفة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره الخبر ! وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنه كان ليشبه يوم القيامة » !

17 - ضربة علي « عليه السلام » غيرت ميزان القوي !

فرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتل على عمرو بن ود وأخبرهم بأن ميزان القوى قد تغير ! قال جابر بن عبد الله الأنصاري : « فما شبهت قتل على عمراً إلا بما قال الله تعالى من
--------------------------- 201 ---------------------------
قصة داود وجالوت ، حيث يقول : فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد قتله : الآن نغزوهم ولا يغزوننا » . إعلام الوري : 1 / 382 والإرشاد : 1 / 102 ، كنز الفوائد / 138 والحاكم : 3 / 34 ، سبل الهدي : 4 / 379 والخوارزمي / 171 .
وأدرك رؤساء القبائل أن موجة الإسلام قادمة لا محالة ، فأخذوا يفكرون بالتقرب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإعلان إسلامهم ، ليتجنبوا الخسارة أو يكسبوا موقعاً في دولته الجديدة المتوثبة ، فقال عمرو بن العاص لخالد بن الوليد : « والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً » ! « تاريخ الطبري : 2 / 313 » . ووافقه خالد على ذلك ، وبعد مدة قليلة جاءا مسلمين بعد الحديبية .

18 - رسالة أبي سفيان قبل هروبه بجيش الأحزاب !

عندما قرر الأحزاب الانسحاب كتب أبو سفيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكبرياء : « لقد سرت إليك في جمعنا وإنا نريد ألا نعود إليك أبداً حتى نستأصلك ! فرأيتك قد كرهت لقاءنا وجعلت مضايق وخنادق ، فليت شعري من علمك هذا ؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد تبقر فيه النساء » !
وبعث بها مع أبي أسامة الجشمي ، فقرأها له أبي بن كعب ، فكتب إليه ( صلى الله عليه وآله ) : « أما بعد فقديماً غرك بالله الغرور ، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم ، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا ، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة حتى لاتذكر اللات والعزي ! وأما قولك : من علمك الذي صنعنا من الخندق فإن الله تعالى ألهمني ذلك ، لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك . وليأتين عليك يوم تدافعنى بالراح ! وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأساف ونائلة ، وهبل حتى أذكرك ذلك » . الصحيح ة : 9 / 440 والإمتاع : 1 / 242 .

19 - إشادات النبي « صلى الله عليه وآله » بعلي « عليه السلام » يوم الأحزاب

روى المسلمون أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الإشادة بعلى ( عليه السلام ) وشهاداته بحقه : فمنها : أنه ألبسه درعه وأعطاه ذا الفقار وعممه بعمامته . ولما برز ومشى دعا له :
--------------------------- 202 ---------------------------
اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه .
ومنها : أنه رفع عمامته ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إنك أخذت منى عبيدة بن الحرث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين .
ومنها : أنه علمه دعاء هو : اللهم بك أصول ، وبك أجول ، وبك أدرأ في نحره .
ومنها : عندما برز اليه قال ( صلى الله عليه وآله ) : برز الإيمان كله إلى الشرك كله .
ومنها : قال ( صلى الله عليه وآله ) : ضربة على يوم الخندق تعدل عمل أمتي إلى يوم القيامة . ضربة على تعدل عند الله عمل الثقلين . ضربة على أفضل عند الله من عمل الثقلين !
وأشهرها الحديثان الأخيران ، ولا يتسع الكتاب لبحثهما . راجع : الصحيح : 9 / 333 و 340 .

20 - معنى قول النبي « صلى الله عليه وآله » لعلي « عليه السلام » : وإنك لذو قرنيها

روى أن ذا القرنين : « بعثه الله إلى قومه فضُرب على قرنه الأيمن ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب » . وقال رسول الله عن علي ( عليه السلام ) : وإن فيكم مثله » . الإيقاظ / 145 ، الدر المنثور : 4 / 241
وفتح القدير : 3 / 309 .
وفسره في القاموس : 4 / 258 ، بأنه ( عليه السلام ) : « ذو شجتين في قرني رأسه ، إحداهما من عمرو بن ود ، والثانية من ابن ملجم » .
وهذا يؤكد أن ضربة عمرو كانت على قرن رأسه ( عليه السلام ) . وفى رواية أن ضربة ابن ملجم وقعت على ضربة عمرو . المناقب : 2 / 327 .
وقد فسر بعضهم بذلك قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : « يا علي ، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك تعرف بحزب الله عز وجل » . أمالي الصدوق / 656 .
قال الراغب في المفردات / 401 : « وذو القرنين معروف ، وقوله عليه الصلاة والسلام
--------------------------- 203 ---------------------------
لعلى رضي الله عنه : إن لك بيتاً في الجنة وإنك لذو قرنيها : يعنى ذو قرني الأمة ، أي أنت فيهم كذى القرنين » .
لكن ذكر الصدوق « رحمه الله » في معاني الأخبار / 206 ، أن معناه أنه والد الحسنين « عليهما السلام » لأنهما قرنا الجنة بمعنى قرطيها وزينتها . وفسره بوجه آخر : إنك صاحب الحجة على شرق الدنيا وغربها ، وآخذ بقرنيها . وهو مشكل . كما تردد الشريف الرضى في المجازات النبوية / 87 ، في تفسيره بين معان ، فذكر قرني الجنة بطرفيها ، لأنه يبلغ غايات المثابين فيها ، أو بمعنى قرني الأمة بمعنى طرفيها فأنت في أولها والمهدى في آخرها ، أو بمعنى صاحب العلم الظاهر والباطن ، أو بمعنى أنك رأس الأمة لأن الرأس فيه القرنان ، أو المضروب مثله على قرنيه . وكلها لا تخلو من إشكال ، وإن كان الأخير أقلها إشكالاً .
وفسره السيد ابن طاووس في سعد السعود / 65 ، والحر العاملي في الإيقاظ / 145 ، بأنه يقصد رجعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد موته كما رجع ذو القرنين بعد موته . وهو مشكل ، لأنه ( عليه السلام ) بعد الرجعة لا يضرب على قرنه الآخر .

21 - النبي « صلى الله عليه وآله » يكشف علاقة عمر بقادة الأحزاب

لم أجد ذكراً لأبى بكر في غزوة الخندق ، لكن ورد ذكر عمر في أربع قضايا :
أولها : حديث عائشة المتقدم وأنه هرب من الخندق مع طلحة واختبآ في بستان وكان عمر يتخوف هزيمة الباقين وطلحة يقول لسنا هاربين بل متحيزون إلى الله !
وثانيها : عندما عبر الخندق عمرو بن عبد ود وجماعته ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عمر أن يبرز لضرار بن الخطاب الفهري ، وكان أحد الذين عبروا مع ابن ود . ومن الغريب أن كُتَّاب السيرة حاولوا تغطية مبارزته لضرار بن الخطاب وعفو ضرار عنه ، مع أن ذلك حدث مرتين في أحُد ثم في الخندق ! وقد روته مصادرنا ورواه الواقدي وابن هشام وابن عساكر وغيرهم ! بل رووا أن خالد بن الوليد عفا عن عمر في أحد ولم يقتله ! قال ابن هشام : 2 / 282 : « وكان ضرار لحق عمر بن
--------------------------- 204 ---------------------------
الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول : أنج يا بن الخطاب ، لا أقتلك ، فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه » .
وفى تاريخ دمشق : 24 / 392 و 396 : « فكان « ضرار » يقاتل أشد القتال ويحرض المشركين بشعره ، وهو قاتل عمرو بن معاذ أخا سعد بن معاذ يوم أحد ، وقال حين قتله : لاتُعْدَمَنَّ رجلاً زوَّجك من الحور العين ! وكان يقول زوجت عشرة من أصحاب محمد ! وأدرك عمر بن الخطاب فضربه بالقناة ثم رفعها عنه فقال : يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ، والله ما كنت لأقتلك » .
فما هو السبب في إخفاء أتباعه لذلك ؟ وما هو السبب في حب قادة قريش لابن الخطاب ، وهم الذين استماتوا لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته ، وشخصيات أصحابه !
ثم لماذا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عمر بن الخطاب العدوي أن يبرز إلى ضرار بن الخطاب الفهري ، وهو يعلم أن ضراراً يحب عمر ، فقد ظفر به في أحُد وعمر هارب فضربه على ظهره بعرض رمحه وقال له : والله لا أقتلك !
بحث هذا الموضوع في الصحيح من السيرة : 6 / 235 وذكر فيه قول ضرار حسب رواية الواقدي : « يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ، والله ما كنت لأقتلك » . ثم تساءل : لماذا ما كان ليقتله ؟ أليس هو الذي أذل قريشاً كما يدعون وعز به الإسلام كما يزعمون ؟ كما كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول : لقد رأيتُنى ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم أحد وما معه أحد ، وإني لفى كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري ، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه متوجهاً إلى الشعب ! فلماذا هذه المراعاة من خالد لعمر ؟ ولماذا يهنئ أبو سفيان عمر بالنصر الذي أحرزوه على المسلمين ، ويقول له : أنعمت عيناً قتلى بقتلى بدر ! فأجابه عمر بقوله : إنها !
والقضية الثالثة : التي ذكر فيها عمر في الخندق ، أنه أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنقض بني قريظة عهدهم ، فمن أين عرف ذلك ؟ راجع : الصحيح من السيرة : 9 / 270 .
والقضية الرابعة : عندما غاب بعد قتل عمرو بن ود ، وكان الوقت ظهراً ، فغاب حتى
--------------------------- 205 ---------------------------
المغرب ، وجاء من جهة الخندق وقال إنه كان يسب قريشاً إلى المغرب وكادت تفوته الصلاة ! وروى البخاري ذلك بروايات ، وزعمو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاتته الصلاة كعمر !
والجواب على التساؤلات : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يعلم بعلاقة عمر مع زعماء الأحزاب والمحبة بينهم ، ولكنه أراد أن يفهم المسلمون ذلك !
ومن الغريب أن عمر كان قبل يومٍ فاراً مع طلحة في الحديقة التي آوت إليها عائشة وفيها نساء وأطفال ، وأن سعداً مر في ذلك اليوم ، ولما وصل إلى الخندق أصيب . وفى اليوم التالي لإصابة سعد كان عمر عند الخندق عندما عبره ابن ود وجماعته ، ولعله رجع من الحديقة التي رأته فيها عائشة وبقى طلحة هناك .
وقد ورد أن عمر كان يحب ضراراً فولاه في العراق والشام ، وشكاه أبو عبيدة بأنه يشرب الخمر فلم يعزله ! وكان عمر يحب شعره ويأمر المغنى في طريق الحج أن يغنيه به ، فقال ابن عوف لرباح المغني : « غننا ، فقال له عمر : إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب » ! الإصابة : 3 / 392 .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيم بن قيس / 247 : « وقد علموا يقيناً أنى أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله ، وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا عناء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء .
وقد علموا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك .
وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولا يبارز الأبطال ، ولا يفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شديدة قط ولا كربهُ أمرٌ ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمى عن وجهي ، فيقدمنى فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه . ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول ، حيث خصني
--------------------------- 206 ---------------------------
بذلك ووفقني له . وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير ، وأمر ونهي .
ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما رآى به من الرعب وقال ( صلى الله عليه وآله ) : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي . . والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا ، وحمل الناس على رقابنا » .
أقول : ذكر ( عليه السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قتل شخصين بيده هما أبي بن خلف ، وهو ابن قميئة حمل عليه في أحُد ليقتله فطعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحربة في عنقه فمات منها في مكة . أما مسجع بن عوف فلم أجده فيما لدى من مصادر .

22 - طعنوا بالنبي « صلى الله عليه وآله » بأنه فاتته أربع صلوات !

زعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انشغل عن الصلاة في معركة الأحزاب حتى ذهب وقتها ! فقد روى البخاري : 1 / 147 : « أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس ، فجعل يسب كفار قريش ! قال : يا رسول الله ماكدت أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب ؟ قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : والله ما صليتها ، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب » ! ومعناه أن الحادثة كانت في يوم قتل على لعمرو بن ود وهبوب الريح عليهم وكانت يوم أربعاء ! وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يصل ذلك اليوم العصر ، أو فاتته أربع صلوات كما زعمت بعض رواياتهم ! وأن عمر ذهب إلى الخندق قبل صلاة العصر ، وكان مقابله قرشيون فكان يسبهم ويسبهم ويسبهم إلى قريب المغرب ، ولم يضرب أحد منهم الآخر بسهم كما ضربوا سعد بن معاذ ، ولا بحجر كما هو دأبهم ودأب المسلمين الذين يواجهونهم ! ثم رجع عمر سالماً غانماً وأدرك صلاة العصر على حافة الوقت ، فحكى ذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له أنت خير منى لأنى لم أصلها أبداً ! فرجعوا إلى المدينة مساء ذلك اليوم والمسافة من الخندق إلى المدينة نحو ساعة فوصلوا إلى بطحان وهو واد
--------------------------- 207 ---------------------------
متصل بالمدينة ، « فتح الباري : 2 / 347 » فانتظروا النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى صلى العصر التي فاتته وصلوا المغرب معه !
وهذه المنقبة التي رواها عمر لنفسه لا تصح ، لأن رجوعهم إلى المدينة كان في الصباح ووصلوا قبل الظهر أو معه ، فنزل جبرئيل وأمرهم بحرب بني قريظة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة .
ولا تصح أيضاً ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في خيمته بعد قتل عمرو ، وواصل دعاءه حتى هبت الريح على الأحزاب ، وفى تلك الليلة بعث حذيفة واستطلع خبرهم .
ولا تصح أيضاً ، لأنها تنافى العصمة ، وعبودية النبي ( صلى الله عليه وآله ) الكاملة لربه .
ولأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لو انشغل عن صلاته لانشغل الذين كانوا معه ، فكيف فاتته من دونهم ، كما فاتت عمر دونهم ، لأنه ذهب إلى نقطة من الخندق !
والذي يصح أن عمر ذهب بعد قتل عمرو والتقى ببعض المشركين وتحدث معهم ، وما سبهم ولا سبوه ، ففاتته الصلاة ، وأراد أن يخفف عن نفسه أو يبرر ذلك لمن لامه ، فقال إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاتته الصلاة مثله ! وأنه هو صلاها قرب مغيب الشمس ، بينما لم يصلها النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى غابت !
قال المحقق البحراني « رحمه الله » في الحدائق الناضرة : 7 / 373 : « الرواية عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه شغل عن أربع صلوات يوم الخندق ، إنما هي من طرق المخالفين وليس في أخبارنا لها أثر ولا توافق أصولنا » . راجع : ألف سؤال وإشكال : 1 / 171 .

23 - من شعر الأحزاب ومبارزة علي « عليه السلام » لابن ود

روى ابن إسحاق وابن هشام : 3 / 733 شعر حرب الخندق ، ومبارزة على ( عليه السلام ) لابن ود ، وأورد بعضها في الصحيح : 9 / 382 . قال ضرار بن الخطاب الفهري :
ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا
كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا
ترى الأبدان فيها مسبغات * على الأبطال واليلب الحصينا
--------------------------- 208 ---------------------------
وجرداً كالقداح مسوماتٍ * نؤم بها الغواة الخاطئينا
كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب الخندقين مصافحونا
أناس لا نرى فيهم رشيداً * وقد قالوا : ألسنا راشدينا
فأحجرناهم شهراً كريتاً * وكنا فوقهم كالقاهرينا
نراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا
بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق والشئونا
كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا
وميضُ عقيقة لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا
فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا
ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا
فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعداً رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحى * على سعد يرجعن الحنينا
وسوف نزوركم عما قريب * كما زرناكمُ متوازرينا
بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب قد حمت العرينا
فأجابه كعب بن مالك الأنصاري :
وسائلة تسائل ما لقينا * ولو شهدت رأتنا صابرينا
صبرنا لا نرى لله عدلاً * على ما نابنا متوكلينا
وكان لنا النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا
نقاتل معشراً ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا
ترانا في فضافض سابغات * كغدران الملا متسربلينا
وفى أيماننا بيض خفاف * بها نشفى مراح الشاغبينا
--------------------------- 209 ---------------------------
بباب الخندقين كأن أسداً * شوابكهن يحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوساً معلمينا
لننصر أحمداً والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فإما تقتلوا سعداً سفاهاً * فإن الله خير القادرينا
سيدخله جناناً طيبات * تكون مقامة للصالحينا
كما قد ردكم فلا شريداً * بغيظكم خزايا خائبينا
وقال مسافع الجمحي يبكى عمرو بن عبد ود :
عمرو بن عبد كان أول فارسٍ * جزع المذاد وكان فارس يليلِ
سمحُ الخلائق ماجدٌ ذو مرة * يبغى القتال بشكة لم ينكل
ولقد علمتم حين ولوا عنكم * أن ابن عبد فيهم لم يعجل
حتى تكنفه الكماة وكلهم * يبغى مقاتله وليس بمؤتلي
ولقد تكنفت الأسنة فارساً * بجنوب سلع غير نكس أميل
تسل النزال على فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب على فما ظفرت بمثله * فخراً ولا لاقيت مثل المعضل
نفسي الفداء لفارس من غالب * لاقى حمام الموت لم يتحلحل
وقال الشيخ كاظم الأزرى « رحمه الله » من قصيدته الأزرية / 124 :
ظهرت منه في الوغى سطواتٌ * ما أتى القوم كلهم ما أتاها
يوم غصت بجيش عمرو بن ود * لهوات الفلا وضاق فضاها
وتخطى إلى المدينة فرداً * بسرايا عزائمٍ ساراها
--------------------------- 210 ---------------------------
فدعاهم وهو ألوفٌ ولكن * ينظرون الذي يشبُّ لظاها
أين أنتم عن قسورٍ عامري * تتقى الأسد بأسه في شراها
فابتدى المصطفى يحدث عما * تؤجر الصابرون في أخراها
قائلاً إن للجليل جناناً * ليس غير المجاهدين يراها
أين من نفسه تتوق إلى * الجنات أو يورد الجحيم عداها
من لعمرو وقد ضمنت على * الله له من جنانه أعلاها
فالتووا عن جوابه كسوام * لا تراها مجيبة من دعاها
وإذا هم بفارس قرشي * ترجف الأرض خيفةً إذ يطأها
قائلاً مالها سواي كفيل * هذه ذمة على وفاها
ومشى يطلب الصفوف كما تم‍ * - شى خماص الحشا إلى مرعاها
فانتضى مشرفيه فتلقى * ساق عمرو بضربة فبراها
والى الحشر رنة السيف منه * يملأ الخافقين رجع صداها
يا لها ضربة حوت مكرمات * لم يزن ثقل أجرها ثقلاها
هذه من علاه إحدى المعالي * وعلى هذه فقس ما سواها » .

ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبد ود

المسألة الأولي : نص العلامة في تذكرة الفقهاء : 9 / 83 : على أن خدعة على ( عليه السلام ) لعمرو في الحرب رواية عامية ، قال : ( روى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز علياً ( عليه السلام ) ثم قال : فقال على ( عليه السلام ) : ما برزت لأقاتل اثنين ! فالتفت عمرو فوثب على ( عليه السلام ) فضربه ، فقال عمرو : خدعتني ! فقال على ( عليه السلام ) : الحرب خدعة ) .
لكن يظهر أن علي بن إبراهيم قبلها ، حيث قال في تفسيره : 2 / 182 : ( فقال له علي : يا عمرو أما كفاك أنى بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت على بظهير ؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً . .
--------------------------- 211 ---------------------------
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة ) .
كما أفتى بها آقا ضياء العراقي في شرح التبصرة : 4 / 408 ، فقال : « نعم تجوز الخدعة في الحرب لفعل على ( عليه السلام ) بعمرو بن عبد ود ، وقال ( عليه السلام ) : الحرب خدعة » .
لكن صاحب الجواهر : 21 / 79 وهو أفقه من آقا ضياء ، اكتفى بإيرادها ، واستدل هو والسيد الخوئي ، منهاج الصالحين : 1 / 373 على جواز الخدعة ، برواية إسحاق بن عمار المعتبرة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال يوم الخندق : الحرب خدعة .
والنتيجة : أن الخدعة في الحرب جائزة ، لكن بعض فقهائنا توقف في أن علياً ( عليه السلام ) استعملها مع عمرو ، وبعضهم ثبت عنده ذلك لوجود قرائن على صحة رواية العامة . ولا شك أن التوقف أحوط وأكثر انسجاماً مع صفات على ( عليه السلام ) وأخلاقه .
المسألة الثانية : ذكرت الروايات أنه لما برز على ( عليه السلام ) لعمرو ، ذهب معه متفرجون من المسلمين وهم خمسة كما في رواية ابن إسحاق ، قال : وتقدم على ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابرالأنصاري ، وحذيفة ، وعمر ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليتفرجوا .
وقال القاضي المغربي في شرح الأخبار : 1 / 294 : ( ووقف المشركون من وراء الخندق ينظرون ما يكون منهما . ورفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء يدعو الله عز وجل لعلى بالظفر ) . ومعناه أن المتفرجين كانوا من الطرفين ، فالمشركون من وراء الخندق ، والمسلمون أمام خيمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في منحدر جبل سلع ، عند أول السبخة التي كانت ميدان المبارزة .
المسألة الثالثة : لم يأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى من أول الأمر ، رغم سكوت المسلمين وإلحاح عمرو بالنداء ، ويبدو أن ذلك لإتمام الحجة عليهم ، لكن ذكرت الرواية أنه كان يريد أن يبرز له غير على ( عليه السلام ) لأن فاطمة « عليها السلام » كانت تخاف عليه !
( في كل ذلك يقوم على ليبارزه فيأمره النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالجلوس لمكان بكاء فاطمة « عليها السلام » عليه من جراحاته في يوم أحد ، وقولها ما أسرع أن يوتم الحسن
--------------------------- 212 ---------------------------
والحسين باقتحامه الهلكات . فنزل جبرئيل عن الله تعالى أن يأمر علياً ( عليه السلام ) بمبارزته ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أدن منى وعممه بعمامته وأعطاه سيفه ، وقال إمض لشأنك .
ثم قال : اللهم أعنه . فلما توجه إليه قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره ) . مناقب آل أبي طالب : 2 / 325 .
المسألة الرابعة : نهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن المثلة بالمقتول حتى لو كان كلباً عقوراً ، وكانت المثلة بالأعداء من ثقافة الجاهلية وما زالت ، من قطع رؤوسهم وحملها إلى قادتهم والدوران بها في المدن والقري ! وأشهر من حملت رؤوسهم من بلد إلى بلد الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه رضوان الله عليهم .
ورووا عن غير طريق أهل البيت « عليها السلام » أنهم جاؤوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) برؤوس أعدائه ، ولا يصح عندنا ، ولا تصح روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) برأس عمرو بن ود ، وأنه في خيبر جاء له برأس مرحب . الكامل لابن عدي : 6 / 50 .
والمرجح عندنا أن معنى قولهم إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذبحه أو قطع رأسه ، أنه أجهز عليه ، وليس فيه دلالة على أنه فصل رأسه أو حمله .
ويؤيده أنهم ضعفوا رواية مجيئه برأس عمرو إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجمع الزوائد : 6 / 152 .
كما رووا أن ابن مسعود جاء برأس أبى جهل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحمد الله ، الإستيعاب : 3 / 1410 وأن أبا بردة بن نيارقال : ( جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) نهاية ابن كثير : 3 / 343 وأن جابرالأنصارى قال إن محمد بن مسلمة جاء برأس كعب بن الأشرف إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . الثقات لابن حبان : 1 / 215 .
لكن هذا لو صح فهو تصرف منهم ، ولا بد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم بدفنها .
فموقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) الترفع عن التمثيل بالجثامين ، والتنزه عن اتخاذها وسيلة للتجارة أو الضغط على العدو . ويؤيد ذلك أن المشركين أرسلوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليشتروا جثة عمرو بن عبد ود بعشرة آلاف درهم ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! المناقب : 1 / 171 . ويؤيده ما رووه عن الزهري : ( لم يحمل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رأس إلا يوم بدر ) . سير السرخسي : 1 / 111 .
--------------------------- 213 ---------------------------
المسألة الخامسة : يناسب أن نذكر بعض من قتلهم الحكام وطافوا برؤوسهم ونصبوها في البلاد ليخوفوا من خالفهم ، ومعناه أن ثقافة الجاهلية استمرت في الأمة ، وأن ما نراه في عصرنا من وحشية وتمثيل في الجثث ، إرث متصل بالجاهلية ، ولا صلة له بالإسلام .
قال المؤرخ ابن حبيب في كتابه المحبر / 490 : ( ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ، وكان شيعياً ، ودير به في السوق . ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبد الله ومحمد وأبا بكر بنى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبد الله ابنا الحسن وعلى وعبد الله بن الحسين وعبد الله وجعفروعبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ، ومسلم بن عقيل ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم ، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية ، فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين رضي الله عنه فنصب بالمدينة !
ونصب المختار بن عبيد رأس عبيد الله بن مرجانة ورأس الحصين بن نمير السكسكي ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وكان إبراهيم بن الأشتر قتلهم يوم الحازر وبعث إليه برؤوسهم فبعث برؤوسهم إلى ابن الحنفية ، فنصبت رؤوسهم على باب المسجد الحرام ، فخرج ابن الحنفية من الطواف فرآها منصوبة فحمد الله وأثنى عليه .
فلما قتل مصعب بن الزبير المختار بعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير فنصبه على باب المسجد الحرام وسمر في يد المختار مسماراً من حديد إلى جنب المسجد ، مسجد الكوفة فلم تزل مسمورة حتى قدم الحجاج فرآها فسأل عنها فأخبر بها فأمر بنزعها . ونصب مصعب بن الزبير رأس إبراهيم بن الحر الجعفي بالكوفة .
ونصب عبد الملك رأس إبراهيم بن الأشتر النخعي ، ورأس يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
ونصب عبد الملك رأس مصعب بمصر ثم رده فنصبه بدمشق فأخذته عاتكة
--------------------------- 214 ---------------------------
بنت يزيد بن معاوية فغسلته وحنطته ودفنته .
ونصب عبد الملك بن مروان رأس عمير بن الحباب السلمى بدمشق .
ونصب الوليد بن يزيد رأس يحيى بن زيد بن علي رضي الله عنه وكان نصر بن سيار أنفذه إليه من خراسان .
ونصب يزيد بن عبد الملك رأس عبد الله بن موسى بن نصير وكان بعث بها إليه بشر بن صفوان الكلبي من إفريقية اتهمه بقتل يزيد بن أبي مسلم .
ونصب يزيد الناقص رأس الوليد بن يزيد في مسجد دمشق ما يلي باب الفراديس ، ونصب أيضاً رأس يوسف بن عمر الثقفي بدمشق .
ونصب أبو العباس أمير المؤمنين رأس مروان بن محمد بن مروان بالكوفة . ونصب الهادي رأس دحية بن المعصب بن الأسبغ بن عبد العزيز بن مروان ، وكان قتل بمصر فنصب رأسه ببغداد .
وقتل موسى بن عيسى بن موسى الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بفخ في الموسم فنصب الهادي رأسه ببغداد على الجسر ، ثم بعث به إلى خراسان وأمه زينب بنت عبد الله بن الحسن . ونصب طاهر بن الحسين بن مصعب رأس محمد بن هارون الأمين ببغداد على باب بستان مؤنسة ثم وجه به إلى المأمون بخراسان فنصبه هناك .
وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل وهو بفم الصلح من خراسان برأس علي بن أبي سعيد ورأس عبد العزيز بن عمران الطائي ورأس خلف المصري ورأس مؤنس التاجر ، واتهمهم بدم الفضل بن سهل فنصبها الحسن بن سهل هناك . ونصب المأمون رأس أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي ببغداد .
ونصب المتوكل رأس إسحاق بن إسماعيل التفليسي ببغداد على باب العامة ، وكان بغا الكبير أنفذه من أرمينية ) .
المسألة السادسة : روى في مناقب آل أبي طالب : 1 / 381 : ( لما أدرك على ( عليه السلام ) عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في علي ( عليه السلام ) فرد عنه حذيفة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته ، ثم إنه ضربه ، فلما جاء سأله النبي ( صلى الله عليه وآله )
--------------------------- 215 ---------------------------
عن ذلك فقال : قد كان شتم أمي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ، ثم قتلته في الله ) .
وقد يشكل على ذلك بأن علياً ( عليه السلام ) ليس عنده ثنائية في الغضب والرضا ، فغضبه ورضاه دائماً لله تعالى حتى لو كان لشتم أمه « عليها السلام » .
لكن يجاب عنه بأن حالات المعصوم ( عليه السلام ) في التقرب إلى الله تعالى قد تكون متفاوتة ، فأراد أن يقتله وهو في أعلاها مستوي ، كما أن عمرواً قد يكون تكلم بكلام كثير ، فتركه الإمام ( عليه السلام ) يتم كلامه ويسجل ذلك في صحيفة عمله .
المسألة السابعة : من نبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه ترفع عن سلب عمرو ، بل لم أجد أنه سلب أحداً ممن قتلهم ! قال في مناقب آل أبي طالب : 1 / 384 :
( لما أردى ( عليه السلام ) عمرواً قال عمرو : يا ابن عم إن لي إليك حاجة ، لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه ، فقال : ذاك أهون علي ، وفيه يقول ( عليه السلام ) :
وعففتُ عن أثوابه ولوَ انني
كنتُ المقطر بَزَّنى أثوابي
محمد بن إسحاق : قال له عمر : هلا سلبت درعه فإنها تساوى ثلاثة آلاف ، وليس للعرب مثلها ؟ قال : إني استحييت أن أكشف ابن عمي .
وروى أن أخت عمرو جاءت ورأته في سلبه ، فلم تحزن ، وقالت : إنما
قتله كريم .
وقال ( عليه السلام ) : يا قنبر لاتُعْرِ فرايسي ، أراد لا تسلب قتلاى من البغاة .
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وفى تاريخ الخميس للديار بكري : 1 / 488 : ( وروى أن علياً لما قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أخت عمرو حتى قامت عليه ، فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت : ما قتله إلا كفؤ كريم ، ثم سألت عن قاتله قالوا : علي بن أبي طالب ، فأنشأت هذين البيتين . . )
فنلاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفى لعمرو بوعده فلم يسلبه حتى درعه ، بينما ظل عمر يلومه على ذلك ، ولعل علياً ( عليه السلام ) منع عمر من سلبها ، ويظهر أن أخت عمرو
--------------------------- 216 ---------------------------
جاءت لتأخذ جثته فوجدته بكامل ثيابه ودرعه ، فشهدت بنبل على ( عليه السلام ) .
فسبب عدم سلبه لعمرو أنه وعده كما وعد فارس قريش طلحة بن أبي طلحة في أحُد ؟ والأسباب الأخرى التي ذكرتها روايات إن صحت ، فهي أعذار مكملة .
المسألة الثامنة : عمرو بن عبد ود قرشي من بنى عامر بن لؤي ، وهم أقل درجة من بنى كعب بن لؤي ، ابن هشام : 2 / 489 .
وعدوه ثالث شجعان قريش ، أي بعد بنى عبد الدار وعتبة بن ربيعة ، وقد شهد مع المشركين معركة بدر وقتل اثنين من المسلمين : سعد بن خيثمة الأنصاري وهو من النقباء الحاكم : 3 / 189 وعمير بن أبي وقاص : الإستيعاب : 3 / 1221 .
قال الحاكم : 3 / 32 : ( قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، ولم يشهد أحداً ، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده ) .

  • *
    --------------------------- 217 ---------------------------

الفصل الثاني والخمسون

غزوة بني قريظة

1 - بنو قريظة آخر من أجلاهم النبي « صلى الله عليه وآله » من يهود المدينة

كان بنو قينقاع أول اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأجلاهم عن المدينة ، وكانوا صاغة ولهم سوق ذهب قرب المدينة . وكان بنو قريظة ملاصقين للمدينة شرقي قباء « حرة قريظة » وبساتينهم في وادى مهزور ، وبساتين النضير في وادى بطحان ، وهما أخصب أودية المدينة . معجم البلدان : 1 / 446 .
وكانت قريظة والنضير أبناء عم لأنهم من ذرية هارون ( عليه السلام ) لذا أخذ الحاخام حيى بن أخطب رئيس بنى النضير يلح عليهم أن ينقضوا عهدهم مع النبي حتى نقضوه وأعلنوا تحالفهم مع الأحزاب الذين كانوا يحاصرون المدينة .
وكانت الخطة أن تهاجم قريظة المدينة من شرقها ، والأحزاب من غربها فيحتلوها ! لكن قريظة طلبت من الأحزاب رهائن ، حتى لاينسحبوا ويتركوهم وحدهم في مواجهة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يعطوهم ، حتى كانت هزيمة الأحزاب !
وما إن رجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة ، حتى نزل جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة .

2 - بعث النبي « صلى الله عليه وآله » علياً « عليه السلام » أمامه فحاصر بني قريظة

روى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خرج لغزوة قريظة يوم السبت لأيام مضت من ذي القعدة وحاصرهم خمساً وعشرين يوماً . المحبر / 113 والبلاذري : 1 / 374 .
--------------------------- 218 ---------------------------
وروى في قرب الإسناد / 157 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعث علياً يوم بني قريظة بالراية وكانت سوداء تدعى العقاب ، وكان لواؤه أبيض » .
وفى بصائر الدرجات / 342 ، عن ابن أبي يعفور قال قلت لأبى عبد الله ( عليه السلام ) : « إنا نقول إن علياً ( عليه السلام ) كان ينكت في قلبه أو صدره أو في أذنه . فقال : إن علياً ( عليه السلام ) كان محدَّثاً . قلت : فيكم مثله ؟ قال : إن علياً ( عليه السلام ) كان محدثاً ، فلما أن كررت عليه قال : إن علياً يوم بني قريظة والنضيركان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن
يساره يحدثانه » !
وقال في إعلام الوري : 1 / 194 : « وأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « بعد الخندق » بالمسلمين حتى دخل المدينة ، فضربت ابنته فاطمة « عليها السلام » غسولاً حتى تغسل رأسه ، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً بعمامة بيضاء عليه قطيفة من إستبرق ، معلق عليها الدر والياقوت عليه الغبار ، فقام رسول ( صلى الله عليه وآله ) فمسح الغبار عن وجهه ، فقال له جبرئيل : رحمك ربك وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ! ما زلت أتبعهم حتى بلغتُ الروحاء ! ثم قال جبرئيل : إنهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب ، فوالله لأدقنهم دق البيضة على الصخرة !
فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) فقال : قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة وقال : عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة . فأقبل على ( عليه السلام ) ومعه المهاجرون وبنو عبد الأشهل وبنو النجار كلها لم يتخلف عنه منهم أحد ، وجعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) يسَرِّب إليه الرجال ، فما صلى بعضهم العصر إلا بعد العشاء ، فأشرفوا عليه وسبُّوه وقالوا : فعل الله بك وبابن عمك ، وهو واقف لا يجيبهم ، فلما أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون حوله تلقاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك فإن الله سيجزيهم ، فعرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنهم قد شتموه ، فقال : أما إنهم لو رأوني ما قالوا شيئاً مما سمعت ! وأقبل ثم قال : يا إخوة القردة ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ! يا عباد الطاغوت إخسؤوا أخساكم الله ! فصاحوا يميناً وشمالاً : يا أبا القاسم ما كنت « سباباً » فما بدا لك ؟
قال الصادق ( عليه السلام ) : فسقطت العنزة من يده ، وسقط رداءه من خلفه ، ورجع يمشى
--------------------------- 219 ---------------------------
إلى ورائه حياءً مما قال لهم ! فحاصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ » .
وفى الإرشاد : 1 / 109 : « قال على ( عليه السلام ) : فاجتمع الناس إلى وسرت حتى دنوت من سورهم ، فأشرفوا على فحين رأوني صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو . . وسمعت راجزاً يرجز :
قتل على عمراً صاد على صقرًا . . قصم على ظهراً . . أبرم على أمراً . . هتك على ستراً !
فقلت : الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لي حين توجهت إلى بني قريظة : سر على بركة الله ، فإن الله قد وعدك أرضهم وديارهم . فسرت مستيقناً لنصر الله عز وجل ، حتى ركزت الراية في أصل الحصن . وأقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) محاصراً لبنى قريظة خمساً وعشرين ليلة حتى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم سعد بقتل الرجال وسبى الذراري والنساء ، وقسمة الأموال . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » . أي حكم بقتل المقاتلين والمحرضين على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقط .
وفى الصحيح من السيرة : 11 / 71 ، ما حاصله : « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نزل على بئر من آبارهم في أول أرض بني قريظة عند بئر يقال لها : « أنا » وربط دابته بالسدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان وضرب قبته هناك ، وشرب من البئر ، وصلى في المسجد الذي هناك ، وتلاحق به الناس وحصلت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كرامة حيث لم يكن للمسلمين معسكر ينزلون فيه فقال : ما لكم لا تنزلون ! فقالوا : ما لنا مكان ننزل به من اشتباك النخل ، فوقف في طريق بين النخل فأشار بيده يمنة ثم يسرة ، فانضم النخل بعضه إلى بعض ، واتسع لهم الموضع فنزلوا » .

3 - بطولة علي « عليه السلام » في قريظة ، ونزول جبرئيل بإمرة المؤمنين له

في الصحيح من السيرة : 11 / 90 ، ملخصاً : « نجد الزبير بن بكار يذكر لنا في كتاب المفاخرات نصاً يفيد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد بعث إلى بني قريظة أكابر أصحابه
--------------------------- 220 ---------------------------
فهزموا ، فبعث علياً ( عليه السلام ) فكان الفتح على يديه ، تماماً كالذي جرى في خيبر ! فقد روى الزبير بن بكار مناظرة بين الإمام الحسن ( عليه السلام ) وبين عمرو بن العاص والوليد بن عقبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، عند معاوية ، فكان مما قاله لهم الإمام الحسن ( عليه السلام ) : وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بالراية فاستنزلهم على
حكم الله وحكم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) . وفعل في خيبر مثلها ؟ !
في الإحتجاج : 1 / 97 : احتجاج خالد بن سعيد بن العاص على أبى بكر أيام السقيفة : « قال : إتق الله يا أبا بكر ، فقد علمت أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ونحن محتوشوه يوم
بني قريظة حين فتح الله له باب النصر ، وقد قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولى البأس والنجدة منهم : يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ومودعكم أمراً فاحفظوه : ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدى وخليفتي فيكم بذلك أوصاني ربي .
ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ووليكم شراركم ! ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمرى والعالمون لأمر أمتي من بعدي . اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي ، يدركون به نور الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي ، فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض » .
أقول : لاحظ أن نخبة فرسان قريظة خرجوا من حصنهم بعد اليوم الثالث وبارزوا ، فبرز إليهم على ( عليه السلام ) وقتلهم ! ولكن رواة السلطة لم يذكروا ذلك ، وما رواه أتباع أهل البيت « عليهم السلام » من ذلك أبادته السلطة فيما أبادت ولم يصل الينا !

4 - قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ

قال ابن هشام : 3 / 720 : « إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ! وتقدم هو والزبير بن العوام وقال : والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن
--------------------------- 221 ---------------------------
حصنهم ، فقالوا : يا محمد ننزل على حكم سعد » .
« فقال كعب بن أسد : يا معشر بني قريظة : والله إنكم لتعلمون أن محمداً
نبي الله ، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب ، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل ، فهو حيث جعله الله ! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد ، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعنى حيى بن أخطب علينا وعلى قومه ، وقومه كانوا أسوأ منا ! لايستبقى محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه ، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال : تركت الخمر والخمير والتأمير ، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير ؟ ! قالوا : وما ذلك ؟ قال : يخرج من هذه القرية نبي ، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته ، وإن خرج بعدى فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه ، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر . قال كعب : فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا ونسائنا وأموالنا ، فنكون بمنزلة من معه . قالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا ، نحن أهل الكتاب والنبوة ، ونكون تبعاً لغيرنا » . الواقدي : 2 / 501 .
وفى المناقب : 1 / 172 : « فحاصرهم النبي خمساً وعشرين ليلة فقال كعب بن أسد : يا معشر اليهود نبايع هذا الرجل وقد تبين أنه نبي مرسل ، قالوا : لا ، قال : فنقتل أبناءنا ونساءنا ونخرج إليه مُصْلِتين ، قالوا : لا ، قال : فنثب عليه وهو يأمن علينا لأنها ليلة السبت ، قالوا : لا . فاتفقوا على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ . . فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً ، وقسم الأموال واسترق الذراري » .
وفى الصحيح من السيرة : 11 / 10 : « وجاؤوا بالأسرى إلى المدينة وجعلوهم في دار أسامة بن زيد ودار بنت الحارث . . وكان عدد السبي من الذراري والنساء سبع مئة وخمسين ، وقيل كانوا تسع مئة . ويظهر من النصوص أن بني قريظة لم يقتلوا كلهم ، بل قتل منهم خصوص من حزَّبَ على النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين . ثم جمعت أمتعتهم وأخرج الخمس منها ، ثم قسمت للفارس سهمان وللرجل سهم واحد ، وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرساً ، أو ثمانية وثلاثين . أما السبي فبيع
--------------------------- 222 ---------------------------
في من يزيد ، ثم قسم ثمنه في المسلمين المشاركين في هذه الغزوة ، وبعث ( صلى الله عليه وآله ) ببعض السبي إلى نجد أو الشام فبيع هناك واشترى سلاح وخيل » .
أقول : روى ابن هشام : 3 / 725 والبيهقي : 9 / 139 « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث بسبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بهن خيلاً وسلاحاً » ! فكأن الله أراد أن يجعل النجديين أبناء يهوديات ، فيبتلى بهم المسلمين !
وقال اليعقوبي : 2 / 52 : « فانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء بني هاشم ، وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة . وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم ، فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهماً ، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس ، وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً » .

5 - المسلمون الأربعة من بني قريظة

نزل أربعة أشخاص من حصون بني قريظة والتحقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسلموا ، وهم ثلاثة إخوة : أسيد وأسد وثعلبة ، أبناء سعية ، وعمهم أسد بن عبيد . وقالوا لقريظة في أيام حصار النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهم : « يا معشر بني قريظة ، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وإن صفته عندنا حدثنا بها علماؤنا وعلماء بنى النضير ، هذا أولهم يعنى حيى بن أخطب مع جبير بن الهيبان ، أصدق الناس عندنا ، هو خبَّرنا بصفته عند موته . قالوا : لا نفارق التوراة . فلما رأى هؤلاء النفر إباءهم ، نزلوا في الليلة التي نزلت قريظة فأسلموا ، فأمنوا على أنفسهم ، وأهلهم ، وأموالهم . . ولم يكونوا من بني قريظة ولا النضير بل كانوا فوق ذلك . وهم نفر من هدل من بنى عم قريظة ، وليس من هذيل كما في بعض المصادر . . وكان سبب إسلامهم أن ابن الهيبان من يهود الشام قدم على بني قريظة فأقام عندهم ، وكان يستسقى لهم أيام القحط فيسقون فحضرته الوفاة ، فأخبرهم أن سبب خروجه إلى يثرب هو أنه يتوقع خروج نبي قد أظل زمانه ، مهاجره المدينة ليتبعه ، ثم أوصاهم باتباعه » . وقد شكك في الصحيح : 11 / 101 في خبرهم ولم ينفه ، والظاهر أنه صحيح ، فقد ذكره ابن إسحاق : 2 / 64 ، ابن هشام : 1 / 138 و 3 / 719 ، الطبري : 2 / 248 ، الدرر / 179 ، وغيرهم .
--------------------------- 223 ---------------------------

6 - أبو لبابة يخون النبي « صلى الله عليه وآله » ثم يتوب

أبو لبابة بن عبد المنذر ، أنصارى أوسي ، كان طرف التحالف مع بني قريظة ، وكان بيته قربهم وكانوا يحبونه ، فلما حاصرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ يفاوضهم طلبوا أن يرسله إليهم ليستشيروه ، فأرسله فحذرهم من القبول بحكم سعد !
وروى المفسرون أن قوله تعالي : « يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . . . وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيئًا عَسَى اللهُ أَنْ يتُوبَ عَلَيهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . . خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . « الأنفال : 27 و 102 - 103 » . « نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما حاصر بني قريظة قالوا له ابعث الينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا لبابة إئت حلفاءك ومواليك فأتاهم فقالوا له : يا أبا لبابة ما ترى تنزل على حكم محمد ؟ فقال إنزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه ، ثم ندم على ذلك فقال خنت الله ورسوله ! ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومر إلى المسجد وشد في عنقه حبلاً ثم شده إلى الأسطوانة التي تسمى أسطوانة التوبة ، وقال لا أحله حتى أموت أو يتوب الله علي ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أما لو أتانا لاستغفرنا الله له ، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به . وكان أبو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به رمقه ، فكانت ابنته تأتيه بعشائه وتحله عند قضاء الحاجة ، فلما كان بعد ذلك ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبته فقال يا أم سلمة ، قد تاب الله على أبى لبابة ، فقالت يا رسول الله أفأوذنه بذلك ؟ فقال لتفعلن ، فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت : يا أبا لبابة أبشر لقد تاب الله عليك ، فقال الحمد لله فوثب المسلمون ليحلوه فقال : لا والله حتى يحلني رسول الله ! فجاء رسول الله فقال يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أمك يومك هذا لكفاك ، فقال يا رسول الله أفأتصدق بمالي كله ؟ قال : لا ، قال : فبثلثيه ؟ قال : لا ، قال فبنصفه ؟ قال : لا ، قال : فبثلثه ؟ قال نعم . فأنزل الله : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ » . تفسير القمي : 1 / 303 وابن هشام : 3 / 718 .
--------------------------- 224 ---------------------------
وفى من لا يحضره الفقيه : 2 / 570 : « إن كان لك بالمدينة مقام ثلاثة أيام ، صمت يوم الأربعاء وصليت ليلة الأربعاء عند أسطوانة التوبة ، وهى أسطوانة أبى لبابة التي ربط نفسه إليها ، وتقعد عندها يوم الأربعاء ثم تأتى ليلة الخميس الأسطوانة التي تليها مما يلي مقام النبي فتقعد عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الخميس ، ثم تأتى الأسطوانة التي تلى مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومصلاه ليلة الجمعة فتصلى عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الجمعة . وإن استطعت أن لا تتكلم بشئ هذه الأيام إلا بما لابد منه ، ولا تخرج من المسجد إلا لحاجة ، ولاتنام في ليل ولانهار إلا القليل ، فافعل » . ونحوه كامل الزيارات / 66 .
وفى تفسير أبى حمزة الثمالي / 192 : « بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وثعلبة بن وديعة ، وأوس بن حزام ، تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه ، أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد ، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أؤمر فيهم بأمر ، فلما نزل : عَسَى اللهُ أَنْ يتُوبَ عَلَيهِمْ ، عمد رسول الله إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله فقالوا : هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها وتصدق بها عنا قال ( صلى الله عليه وآله ) : ما أمرت فيها فنزل : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا . . الآيات » .
وفى تفسير العياشي : 2 / 116 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، أن أبا لبابة كان أحد الثلاثة الذين خلفوا . وفى تفسير الثعالبي : 3 / 210 : « وقالت فرقة عظيمة : بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك » .
وقد توقف في الصحيح من السيرة : 11 / 10 ، في قصة أبى لبابة . ويبدو أن القصة حدثت مرة لأبى لبابة وحده ، ثم كررها مع من تخلفوا معه عن غزوة تبوك ، وكانوا حسب الآية ثلاثة ، وفى راوية أنهم كانوا بضعة عشر شخصاً غير أبى لبابة .
--------------------------- 225 ---------------------------

7 - قصة أبى لبابة دليل على أفضلية التوسل

قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما بلغه أن أبا لبابة ربط نفسه بأسطوانة المسجد تائباً : « أما لو أتانا لاستغفرنا الله له ، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به » . وهو يدل على وجود طريقين لدعاء الله تعالى : مباشر ، وبالتوسل بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن طريق التوسل أسرع .
قال الله تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا . النساء : 64 .
وهوكقوله تعالى لإبراهيم ( عليه السلام ) : وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ . يشمل المجئ إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في حياته ، والمجئ إلى قبره الشريف بعد وفاته . كما يشمل المجيئ إلى إبراهيم ( عليه السلام ) بالحج والعمرة .
ففي الكافي : 4 / 550 : « ثم تأتى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم تقوم فتسلم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم تقوم عند الأسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر عند زاوية القبر وأنت مستقبل القبلة ومنكبك الأيسر إلى جانب القبر ومنكبك الأيمن مما يلي المنبر ، فإنه موضع رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقول . . اللهم إنك قلت : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ . . وإني أتيت نبيك مستغفراً تائباً من ذنوبي وإني أتوجه بك إلى الله ربى وربك ليغفرلى ذنوبي » .
وقال الله تعالى : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ . « المائدة : 35 » ، وهى أمر بالتوسل تشمل التوسل بالأعمال الصالحة ، وبالأنبياء والأوصياء والأولياء « عليهم السلام » ففي تفسير القمي : 1 / 168 : « اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ . فقال : تقربوا إليه بالإمام » .
وروى الطرفان عن عائشة في علي ( عليه السلام ) والخوارج « شرح الأخبار : 1 / 141 » : قالت سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « هم شر الخلق والخليقة ، يقتلهم خير الخلق والخليقة ، وأقربهم إلى الله وسيلة » .
إلى آخر ما ورد في التوسل من الآيات والأحاديث ، وهى تدل على أن التوسل أفضل من الطلب بدونه ، فالقول بأنه ينافي التوحيد جهالة ، ورفض الوهابية التوسل مخالف لعقائد الإسلام ، كفرض المشركين التوسل بأصنامهم .
--------------------------- 226 ---------------------------

8 - حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية

حاول اليهود ومن تبعهم من الغربيين أن يجعلوا من بني قريظة ظلامةً لليهود ، وتناسوا أنهم كانوا معاهدين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فنقضوا عهدهم ومزقوه ، وانضموا إلى الأحزاب ، بعد نشاطهم وتجوال حاخاماتهم على قبائل العرب يجمعونهم لقتال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويعطونهم المال ، وكان أبرز الناشطين الحاخام حيى بن أخطب .
ففي تفسير القمي : 2 / 191 والواقدي : 1 / 514 : « ثم قدم حيى بن أخطب فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك ؟ فقال : والله يا محمد ! ما ألوم نفسي في عداوتك ، ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل الجهد ، ولكن من يخذل الله يخذل ! ثم قال حين قدم للقتل :
لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه * ولكنه من يخذل الله يخذلِ
فقدم فضرب عنقه » .
وفى الإمتاع : 4 / 206 : « فإنهم نقضوا العهد ، وحزبوا الأحزاب ، وجمعوا وحشدوا ، وأظهروا له العداوة ، بعد ما هموا بإلقاء الرحى عليه ، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه » .
وإنما قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) منهم من عمل في نقض العهد وساعد الأحزاب لما حاصروا المدينة .

9 - دراسة عمر عند بني قريظة وعلاقته الوطيدة معهم

كان بيت عمر بعيداً عن مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقد سكن في العوالي قرب بني قريظة ولبعد المسافة كان يذهب بين يوم وآخر ! قال عمركما في البخاري : 1 / 31 : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بنى أمية بن زيد وهى من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم . . » .
وكان يحضر دروس بني قريظة في كنيسهم ، قال « إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم ، فقالوا : ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك ، لأنك تأتينا » ! الدر المنثور : 1 / 90 ، عن مسند ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم .
--------------------------- 227 ---------------------------
وطمع اليهود بعمر فعرَّبوا بعض التوراة وأخذها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليعترف بها ! قال عمر : « يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال فتغير وجه رسول الله . . الحديث ، وفيه : والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم » . « فتح الباري : 13 / 438 » . لكن عمر أصر وجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثانيةً فقال : « يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بنى زريق ! فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال عبد الله بن زيد الذي أرى الأذان : أمَسَخَ الله عقلك ؟ ألا ترى الذي بوجه رسول الله ! فقال عمر : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً » ! مجمع الزوائد : 1 / 174 .
ثم جاءه ثالثة فقال : « انطلقت في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أتيت خيبر فوجدت يهودياً يقول قولاً فأعجبني فقلت : هل أنت مكتبى بما تقول ؟ قال : نعم ، فأتيته بأديم فأخذ يملى على فلما رجعت قلت : يا رسول الله إني لقيت يهودياً يقول قولاً لم أسمع مثله بعدك ! فقال : لعلك كتبت منه ؟ قلت : نعم قال : إئتنى به ، فانطلقت فلما أتيته قال : أجلس إقراه فقرأت ساعة ونظرت إلى وجهه فإذا هو يتلون فصرت من الفرق لا أجيز حرفاً منه ، ثم رفعته اليه ثم جعل يتبعه رسماً رسماً يمحوه بريقه وهو يقول : لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد تهوكوا حتى محا آخر حرف » كنز العمال : 1 / 370 .
وجاءه مرة رابعة : « أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال أمتهوكون فيها يا بن الخطاب ! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ! لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ! والذي نفسي بيده لو أن موسى كان فيكم حياً ما وسعه إلا أن يتبعني » . مجمع الزوائد : 1 / 174 .
وجاءه مرة خامسة : « مر برجل يقرأ كتاباً فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب قال نعم فاشترى أديماً فهيأه ثم جاء به إليه
--------------------------- 228 ---------------------------
فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي » . الدارمي : 1 / 115 والدر المنثور : 2 / 48 و 5 / 148 .
وجاء مرة سادسة ليجيزه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدرس التوراة عند اليهود فقال له : « لا تتعلمها وآمن بها وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوابه » . الدر المنثور 5 / 148 .
وجاءه مرة سابعة قال عمر : « يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها ! فقال : يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصاري ! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً » ! الدر المنثور : 5 / 148 .
وفى مرة ثامنة ساعدت حفصة أباها : « جاءت إلى النبي بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي يتلون وجهه فقال : والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم » عبد الرزاق : 11 / 110 .

  • *
    ومع ذلك استمر عمر مع مجموعته بالحضور عند اليهود ، حتى رآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوماً يحمل كتاباً فقال له : « ما هذا في يدك يا عمر ؟ ! فقلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا ! فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم ، السلاح السلاح ! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي اختصاراً ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ، ولا يغرنكم المتهوكون ! قال عمر : فقمت فقلت رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً » . الزوائد : 1 / 173 . راجع تدوين القرآن للمؤلف / 416 .
    واتفق النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع عروة بن مسعود أن يحرك قريظة لطلب رهائن من قريش كشرط لهجومهم فقال عمر : « يا رسول الله ، أمر بني قريظة أهون من أن يؤثر عنك شئ من أجل صنيعهم ! فقال : الحرب خدعة يا عمر » ! السير الكبير : 1 / 121 .
    وعندما اتفق معهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن ينزلوا على حكم سعد ، كان عمر حاضراً وكان يسمع تحرق سعد للانتقام منهم ، فأرسل لهم إشارة أن لايقبلوا بحكم سعد لكنهم لم
    --------------------------- 229 ---------------------------
    يفهموا إشارته لأنه كانوا مرعوبين ! قال أحمد بن حنبل في مسنده : 6 / 142 : « وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى سعد بن معاذ فأتى به على حمار عليه أكاف من ليف ، قد حُمل عليه وحَف به قومه . . فلما طلع على رسول الله قال : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، فقال عمر : سيدنا الله عز وجل » . وصحيح ابن حبان : 15 / 500 والطبقات : 3 / 423 .
    وفى أخبار الدولة العباسية / 214 : « قوموا إلى سيدكم ، فقال عمر بن الخطاب : الله سيدنا ورسوله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وسعد سيدك يا عمر » !
    أقول : في قوله ( صلى الله عليه وآله ) إن سعد سيدك أنت أيضاً يا عمر ، إشارة إلى أن عمر معهم !
  • *
    --------------------------- 230 ---------------------------

الفصل الثالث والخمسون

غزوة بنى المصطلق أو الُمريسيع

1 . خلاصة الغزوة

بنو المُصْطَلِق بن سعد : بطن من خزاعة أقرب إلى الحضريين ، وكانت خزاعة تغلبت على مكة ، حتى أخرجهم قصى جد النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « الكافي : 4 / 219 » . والمُرَيسِيع : ماء لهم قرب الفرع بناحية بدر وقديد من ساحل البحر . معجم البلدان : 5 / 118 ومعجم قبائل العرب : 1 / 5 و 338 .
وكانت خزاعة حليفة لعبد المطلب وبنى هاشم ، وكان بنو المصطلق وبنو الهون من خزاعة حلفاء بنى أمية . « معجم البلدان : 6 / 278 » . وقد شاركوا في حرب الأحزاب بقيادة يزيد بن الحليس . « تفسير مقاتل : 3 / 41 » . ولا يبعد أن يكون أبو سفيان حرَّكهم لغزو المدينة فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) فغزاهم قبل أن يكملوا استعدادهم لحربه !
ففي إعلام الوري : 1 / 196 : « ثم كانت غزوة بنى المصطلق من خزاعة ، ورأسهم الحارث بن أبي الضرار ، وقد تهيؤوا للمسير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهى غزوة المريسيع وهو ماء ، وقعت في شعبان سنة خمس » .
« وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار ، دعا قومه ومن قدر عليه من العرب ، إلى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأجابوه وتجمعوا ، وابتاعوا خيلاً وسلاحاً ، وتهيؤوا للحرب والمسير معه ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي ليتحقق ذلك ، فأتاهم ولقى الحارث وكلمه مظهراً أنه منهم ، وقد سمع بجمعهم ويريد الانضمام بقومه ومن أطاعه
--------------------------- 231 ---------------------------
إليهم ، وعرف منهم صدق ما بلغهم عنهم ، فرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بأنهم يريدون الحرب . فلما أخبر بريدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بصحة ما بلغه دعا الناس فأسرعوا الخروج ، فخرج معه سبع مئة ، ومعهم ثلاثون فرساً ، منها عشرة للمهاجرين وعشرون للأنصار » .
« وكان شعار المسلمين يومئذ : يا منصور أمت أمت ، فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه فحملوا على الكفار حملة واحدة فقتل منهم عشرة ، وأسر الباقون ، ولم يفلت منهم أحد ، وسبوا الرجال والنساء والذراري ، وأخذوا الشاء والنعم ، وكانت الإبل ألفي بعير والشاء خمسة آلاف ، والسبي مائتي أهل بيت .
قال الحلبي : واستعمل على الغنائم شقران ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد . وبعث ( صلى الله عليه وآله ) أبا نضلة أو أبا ثعلبة أو أبا نملة الطائي ، بشيراً إلى المدينة بفتح المريسيع . ولما رجع المسلمون بالسبى قدم أهاليهم فافتدوهم » .
« وكانت غيبته ( صلى الله عليه وآله ) في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوماً . وقدم المدينة لهلال شهر رمضان المبارك . وكانت هذه الغزوة ضربة موفقة لقريش ، أسفرت عن نتائج حاسمة . في منطقة كانت إلى الأمس القريب تقع في نطاق النفوذ المكي » . الصحيح من السيرة : 11 / 284 ، 287 ، 290 و 291 .
وروى في المناقب : 1 / 92 : « كان يتفجر الماء من بين أصابعه ( صلى الله عليه وآله ) لما وضع يده فيها حتى شرب الماء الجيش العظيم ، وسقوا وتزودوا في غزوة بنى المصطلق . وفى رواية علقمة بن عبد الله أنه وضع يده في الإناء فجعل الماء يفور من بين أصابعه فقال : حي على الوضوء والبركة من الله ، فتوضأ القوم كلهم .
وفى حديث أبي ليلي : شكونا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) من العطش ، فأمر بحفرة فحفرت فوضع عليها نطعاً ووضع يده على النطع ، وقال : هل من ماء ؟ فقال لصاحب الإداوة : صب الماء على كفى واذكر اسم الله ففعل ، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى روى القوم وسقوا ركابهم » .
--------------------------- 232 ---------------------------

2 . علي « عليه السلام » صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح

قال المفيد في الإرشاد : 1 / 118 : « ثم كان من بلائه ( عليه السلام ) ببنى المصطلق ما اشتهر عند العلماء ، وكان الفتح له ( عليه السلام ) في هذه الغزاة ، بعد أن أصيب يومئذ ناس من بنى عبد المصطلق ، فقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رجلين من القوم وهما مالك وابنه وأصاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين . وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وكان الذي سبا جويرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فجاء بها إلى النبي فاصطفاها ، فجاء أبوها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد إسلام بقية القوم فقال : يا رسول الله إن ابنتي لاتسبي ، إنها امرأة كريمة . قال : إذهب فخيرها ، قال : أحسنت وأجملت ، وجاء إليها أبوها فقال : يا بنية لاتفضحى قومك ! فقالت له : قد اخترت الله ورسوله . فقال لها أبوها : فعل الله بك وفعل ، فأعتقها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجعلها في جملة أزواجه » .
« فلما سمع القوم ذلك ، أرسلوا ما كان في أيديهم من بنى المصطلق ، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها » . المناقب : 1 / 173 .
« قال ابن إسحاق : وأصيب من بنى المصطلق يومئذ ناس كثير ، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً وابنه ، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم يقال له أحمر أو أحيمر . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أصاب منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين » . ابن هشام : 3 / 761 والطبري : 2 / 263 .
وفى دعائم الإسلام : 1 / 370 ، عن علي ( عليه السلام ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « لايغزى قوم حتى يدْعَوْا ، وإن أكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن ، وإن قوتلوا قبل أن يدْعَوْا إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فلا حرج . وقد أغار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على بنى المصطلق وهم غارُّون ، يعنى غافلون ، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ولم يدعهم في الوقت . قال على صلوات الله عليه : قد علم الناس اليوم ما يدْعَوْنَ إليه » .
--------------------------- 233 ---------------------------

3 . أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » علياً « عليه السلام » لقتال الجن

في منهاج الكرامة / 171 : « ما رواه الجمهور من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما خرج إلى بنى المصطلق جَنَبَ عن الطريق وأدركه الليل ، فنزل بقرب واد وعر ، فهبط جبرئيل آخر الليل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه ، فدعا بعلى ( عليه السلام ) وعوذه ، وأمره بنزول الوادي فقتلهم ( عليه السلام ) » .
وفى الإرشاد : 1 / 339 : « فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقال له : إذهب إلى هذا الوادي ، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك ، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عز وجل ، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها . وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم : كونوا معه وامتثلوا أمره . فتوجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الوادي فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ، ولا يحدثوا شيئاً حتى يأذن لهم .
ثم تقدم فوقف على شفير الوادي ، وتعوذ بالله من أعدائه ، وسمى الله عز وجل وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه فقربوا ، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة ، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها ، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول ما لحقهم ! فصاح أمير المؤمنين : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب وصى رسول الله وابن عمه ، أثبتوا إن شئتم ! فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط تخيل في أيديهم شعل النار قد اطمأنوا بجنبات الوادي ، فتوغل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً ، فما لبثت الأشخاص حتى صارت كالدخان الأسود ، وكبَّر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم صعد من حيث انهبط ، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه . فقال له أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما لقيت يا أبا الحسن ؟ فلقد كدنا أن نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك أكثر مما لحقنا . فقال لهم : إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عز وجل فتضاءلوا ، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم ، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم وقد
--------------------------- 234 ---------------------------
كفى الله كيدهم ، وكفى المسلمين شرهم ، وسبقنى بقيتهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يؤمنون به .
وانصرف أمير المؤمنين بمن تبعه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره الخبر ، فسرى عنه ودعا له بخير ، وقال له : قد سبقك يا علي إلى من أخافه الله ، فأسلم وقبلت إسلامه . ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين !
ثم قال المفيد : « وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة ولم يتناكروا شيئاً منه . . ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر العجب من الخبر بملاقاة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الجن وكفه شرهم عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه ، ويتضاحك لذلك وينسب الرواية له إلى الخرافات الباطلة ، ويصنع مثل ذلك في الأخبار الواردة بسوى ذلك من معجزاته ( عليه السلام ) ويقول : إنها من موضوعات الشيعة ، وتخرص من افتراه منهم للتكسب بذلك أو التعصب . وهذا بعينه مقال الزنادقة وكافة أعداء الإسلام فيما نطق به القرآن من خبر الجن وإسلامهم . . .
فلينظر القوم ما جنوه على الإسلام بعداوتهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واعتمادهم في دفع فضائله ومناقبه وآياته على ما ضاهوا به أصناف الزنادقة والكفار ، مما يخرج عن طريق الحجاج إلى أبواب الشغب والمسافهات » .
ورواه في الخرائج : 1 / 102 و 203 وفيه : أنه بعث علياً ( عليه السلام ) فحارب الجن الذين كانوا يمنعونهم من الإستقاء من البئر واستقى المسلمون . وإعلام الوري : 1 / 352 والمناقب : 1 / 358 .

4 - زواج النبي « صلى الله عليه وآله » من جويرية بنت الحارث

قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 136 : « وفى غزاة بنى المصطلق : كان الفتح له . وقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مالكاً وابنه ، وسبى جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار فاصطفاها النبي ( صلى الله عليه وآله ) لنفسه . فجاء أبوها بعد ذلك وقال : يا رسول الله إن ابنتي لا تسبي ، إنها امرأة كريمة . قال : إذهب وخيرها . قال : لقد أحسنت وأجملت . فاختارت الله
ورسوله فأعتقها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعلها في جملة أزواجه » .
وفى إعلام الوري : 1 / 196 : « قالت جويرية بنت الحارث زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتانا
--------------------------- 235 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن على المريسيع ، فأسمع أبى وهو يقول : أتانا ما لا قبل لنا به ! قالت : وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة ، فلما أن أسلمت وتزوجنى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورجعنا جعلت أظهر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أري ، فعرفت أنه رعب من الله عز وجل يلقيه في قلوب المشركين . قالت : ورأيت قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري ، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس ، فلما سبينا رجوت الرؤيا ، فأعتقني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتزوجني » .
وفى سيرة ابن إسحاق : 5 / 245 : « فلما دخلت عليه قالت : يا رسول الله أنا جويرية ابنة الحارث سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، وقد كاتبت على نفسي فأعنى على كتابتي . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك ؟ فقالت : نعم ، ففعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فبلغ الناس أن رسول الله تزوجها ، فقالوا أصهار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأرسلوا ما كان في أيديهم من بنى المصطلق ، فلقد أعتق بها مائة أهل بيت من بنى المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة على أهل بيت منها . . . كانت جويرية من ملك يمين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأعتقها واستنكحها وجعل مهرها عتق كل مملوك من بنى المصطلق » .

5 - تنظيم الخمس لبنى هاشم ، والصدقات والفئ للمسلمين

في الصحيح من السيرة : 11 / 289 ، عن الواقدي والبلاذري : « أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخمس من جميع المغنم ، وجعل عليه محمية بن جزء الزبيدي وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها ، أهل الفئ بمعزل عن الصدقة ، وأهل الصدقة بمعزل عن الفئ . وكان يعطى الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف ، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفئ ، وأخرج من الصدقة ووجب عليه الجهاد ، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئاً ، وخلوا بينه وبين أن يكتسب لنفسه . . .
وقسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الغنائم وأخذ صفيه قبل القسم ، ثم جزأ الغنائم خمسة أجزاء ،
--------------------------- 236 ---------------------------
ثم أقرع عليها ، ولم يتخير ، فأخرج الخمس وأخذ سهمه مع المسلمين لنفسه وفرسه ، وكان له ( صلى الله عليه وآله ) صفى من المغنم حضر أو غاب قبل الخمس : عبدٌ ، أو أمةٌ ، أو سيفٌ ، أو درع » .

6 - ابن سلول وسورة المنافقين !

في تفسير القمي : 2 / 368 : « إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . . نزلت في غزوة المريسع وهى غزوة بنى المصطلق في سنة خمس من الهجرة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلاً فيها ، وكان أنس بن سيار حليف الأنصار ، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيراً لعمر بن الخطاب ، فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو ابن سيار بدلو جهجاه ، فقال سيار دلوى وقال جهجاه دلوي ، فضرب جهجاه يده على وجه ابن سيار فسال منه الدم ، فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش ، وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة ، فسمع عبد الله بن أبي النداء فقال : ما هذا ؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضباً شديداً ثم قال : قد كنت كارهاً لهذا المسير ، إني لأذلُّ العرب ، ما ظننت أنى أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكون عندي تغيير ! ثم أقبل على أصحابه فقال : هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ، ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم ، ولو أخرجتموهم لكانوا عيالاً على غيركم !
ثم قال : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاماً قد راهق وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ظل شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله ابن أبي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لعلك وهمت يا غلام ؟ فقال : لا ، والله ما وهمت ! فقال : لعلك غضبت عليه ؟ قال : لا ما غضبت عليه ! قال : فلعله سفه عليك ؟ فقال : لا والله ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لشقران مولاه : أخرج ، فأخرج أحدج راحلته وركب ، وتسامع الناس بذلك فقالوا : ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليرحل في مثل هذا الوقت ! فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ! فقال : وعليك
--------------------------- 237 ---------------------------
السلام ! فقال : ما كنت لترحل في هذا الوقت ؟ فقال : أوما سمعت قولاً قاله صاحبكم ؟ قالوا : وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله ؟ قال عبد الله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة لَيخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ! فقال : يا رسول الله ، فأنت وأصحابك الأعز وهو وأصحابه الأذل ، فسار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومه كله لا يكلمه أحد ، فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئاً من ذلك ، فقالوا : فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه ، فلوى عنقه ! فلما جن الليل سار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليله كله والنهار ، فلم ينزلوا إلا للصلاة ، فلما كان من الغد نزل رسول الله ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم .
فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحلف عبد الله أنه لم يقل ذلك ، وأنه ليشهد أنه لا إله إلا الله وأنك لرسول الله ، وأن زيداً قد كذب علي ! فقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منه ، وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له كذبت على عبد الله سيدنا ! فلما رحل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان زيد معه يقول : اللهم إنك لتعلم أنى لم أكذب على عبد الله بن أبي ، فما سار إلا قليلاً حتى أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي عليه ، فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي ، فسرى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يسكب العرق عن جبهته ، ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال : يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآناً ! فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . . إلى قوله : وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايعْلَمُون َ . ففضح الله عبد الله بن أبي . . . قال : وإن ولد عبد الله بن أبي أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال يا رسول الله إن كنت عزمت على قتله فمرنى أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الأوس والخزرج أنى أبرهم ولداً بوالدي ، فإني أخاف أن تأمر غيرى فيقتله فلاتطيب نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله ، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بل نحسن صحبته ما دام معنا !
--------------------------- 238 ---------------------------
وفى مجمع البيان : 10 / 23 : « وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة ، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة ، فقال : مالك ويلك ! قال : والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل ! فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأرسل إليه أن خلِّ عنه يدخل . فقال : أما إذا جاء أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنعم . فدخل فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات ! فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له : نزل فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتمونى أن أؤمن فقد آمنت ، وأمرتمونى أن أعطى زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ! فنزل : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا . . إلى قوله : وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايعْلَمُونَ » . وأسباب النزول / 288 . وشبيه به تفسير القمي : 2 / 371 .
ومن كرم أخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنهم طلبوا منه قميصه ليكفنوا فيه عبد الله بن أبي المنافق فأعطاهم ، وقيل لأنه كان أعطى قميصه للعباس لما كان أسيراً .
وطلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يصلى عليه فصلى عليه ، فاعترض عليه عمر بخشونة فزجره النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وقد عقد البخاري في صحيحه أبواباً روى فيها فضيلة اعتراض عمر على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزعم أن الوحي نزل موافقاً لعمرمخطئاً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وقد اعترف أن عمر وثب اليه ووقف أمامه وجذبه من ثوبه ، ليمنعه من الصلاة على الجنازة وقال له : أليس نهاك الله عن هذا ! فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أخِّر عنى يا عمر ! فقال البخاري إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يغضب منه بل ارتاح وتبسم له !
قال البخاري : 2 / 76 : « جاء ابنه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه ، وصلِّ عليه واستغفر له ، فأعطاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قميصه فقال : آذنِّى أصلى عليه فآذنه فلما أراد أن يصلى عليه جذبه عمر فقال : أليس الله نهاك أن تصلى على المنافقين ! فقال أنا بين خيرتين ، قال الله تعالى : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يغْفِرَ اللهُ لَهُمْ » .
وقال عمر كما في البخاري : 2 / 100 : « وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلى على ابن أبي ، وقد قال يوم كذا وكذا ، كذا وكذا ، أعدِّد عليه قوله ، فتبسم رسول الله وقال : أخِّر عنى يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خُيرتُ فاخترتُ ، لو أعلم أنى إن زدت على السبعين
--------------------------- 239 ---------------------------
فغفر له لزدت عليها ! قال : فصلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت : وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً » .
وفى مصادرنا : « ألم ينهك الله أن تقوم على قبره ؟ فقال له : ويلك ما يريد ربك ما قلت ! وما يدريك ما قلت إني قلت : اللهم املأ قبره ناراً ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : فأبدى [ عمر ] من رسول الله ما كان يكره » . الكافي : 2 / 188 والدعوات للراوندي / 357 .

7 - هبت ريح عند موت يهودي

وصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون في رجوعهم من غزوة المصطلق إلى وادى النقيع وهو أرض معشبة على أربعة فراسخ من المدينة ، « البكري : 4 / 1322 » ، وقد حماه النبي لخيل المسلمين ، « الكافي : 5 / 277 » . هناك هاجت ريحٌ قوية آذت المسلمين فخافوا منها ، وسألوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنها فقال : لاتخافوها ، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار ! فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ، وهو من يهود بنى قينقاع ، قد مات ذلك يوم هبت الريح . وكان كهفاً أي مرجعاً للمنافقين !
وقال ابن هشام : 2 / 370 مات معه رجلان من اليهود هما : « سلسلة بن برهام ، وكنانة بن صورياء » .
وفى الخرائج : 1 / 102 : « فقدمنا المدينة فوجدنا رفاعة بن زيد مات في ذلك اليوم ، وكان عظيم النفاق وكان أصله من اليهود » .
أقول : تفسيره ( صلى الله عليه وآله ) تلك الريح بموت أحد كبار الكفار ، لا ينافي رده لتفسير الناس لخسوف الشمس بموت ولده إبراهيم ( عليه السلام ) ، حيث قال : « يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، يجريان بأمره ، مطيعان لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإن انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا » . الكافي : 3 / 208 .

8 - ضاعت ناقة النبي « صلى الله عليه وآله » فأرجف المنافقون

في تاريخ الطبري : 2 / 262 ، أنه في عودة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة المصطلق هبت الريح في أول النهار وسكنت في آخره ، فجمع الناس ظهرهم وفقدت راحلة
--------------------------- 240 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فسعى الرجال لها يلتمسونها فقال رجل من المنافقين هو زيد بن اللصيت أحد بنى قينقاع : « كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ، ألايخبره الذي يأتيه بالوحي ؟ ! فأراد الذين سمعوا منه ذلك أن يقتلوه فهرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متعوذاً به ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جبرئيل فأخبره بقول المنافق ومكان ناقته ، وأخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه وذلك الرجل يسمع ، وقال : ما أزعم أنى أعلم الغيب وما أعلمه ، ولكن الله أخبرني بقول المنافق ومكان ناقتي ، هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة . فخرجوا يسعون قِبَلَ الشعب ، فإذا هي كما قال فجاؤوا بها ! وآمن ذلك المنافق » . والخرائج : 1 / 102 ونحوه قصص الأنبياء للراوندي / 307 .

9 . شبَّه النبي « صلى الله عليه وآله » علياً بعيسى بن مريم « عليهما السلام »

في شرح الأخبار : 2 / 466 : « عن سلمان الفارسي أنه قال : لما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة بنى المصطلق تقدم في مقدمة الناس ، وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يكون في ساقتهم يحفظهم ، فلما وصل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة أتى إلى باب المسجد جلس ينتظر علياً ( عليه السلام ) لم يدخل منزله ، فرأيته يمسح العرق من وجهه ، ثم قال : يأتيكم الساعة من هذه الشعبة ، وأشار بيده إلى بعض الشعاب رجل أشبه الناس بالمسيح ، وهو أفضل الناس بعدى يوم القيامة ، وأول من يدخل الجنة !
فجعلنا ننظر إلى الشعب فكان أول من طلع منه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ! فلما انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قام إليه فاعتنقه وقبل بين عينيه ودخلا فقال قوم من المنافقين : يشبِّه ابن عمه بالمسيح ويمثله به ، أفآلهتنا التي كنا نعبدها خير أم علي ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يصِدُّونَ . وَقَالُوا ءَآلِهَتُنَا خَيرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » . الزخرف : 57 - 58 .
أقول : روت هذا الحديث مصادرنا مستفيضاً ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاله في أكثر من مناسبة « الكافي : 8 / 57 » وروته بعض مصادرهم . ولا بد أن يكون نزول هذه الآيات ثانية بعد نزولها في مكة ، وبعض الآيات نزلت مرات . وفى بعضها أن جبرئيل قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا محمد إقرأ قول الله تعالى كذا . . لآيةٍ نزلت سابقاً .
--------------------------- 241 ---------------------------

10 - الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن !

بعد معركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع بنى المصطلق دخلوا في الإسلام . وعند موسم زكاتهم أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبضها ، فخرجوا لاستقباله فخاف ورجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : رفضوا أداء زكاتهم !
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 763 : « فأخبره أن القوم قد هموا بقتله . . . فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا يا رسول الله ، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً ! فبلغنا أنه زعم لرسول الله أنا خرجنا إليه لنقتله ووالله ما جئنا لذلك . فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَينُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » . وتفسير الطبري : 26 / 160 ، نحوه شرح الأخبار : 2 / 120 ، البيهقي : 9 / 55 ، الإستيعاب : 4 / 1553 ، والسقيفة للجوهري / 128 ، أسباب النزول / 261 ، اليعقوبي : 2 / 53 .

11 - أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » خالداً فأفسد ، فأرسل علياً « عليه السلام » فأصلح

في أمالي الصدوق / 237 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بنى جذيمة ، وكان بينهم وبين بنى مخزوم إحنة في الجاهلية ، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذوا منه كتاباً ، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادى بالصلاة فصلى وصلوا ، فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه ، فأتوا به النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تِبْرٌ ومتاع فقال لعلى ( عليه السلام ) : يا علي ، أئت بنى جذيمة من بنى المصطلق ، فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( صلى الله عليه وآله ) قدمه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك . فأتاهم على ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ، فلما رجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي ، أخبرني بما صنعت . فقال : يا رسول الله ،
--------------------------- 242 ---------------------------
عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ، أعطيتهم ليرضوا عنى رضى الله عنك يا علي ، إنما أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » . وعلل الشرائع : 2 / 473 ، رواه في أمال الطوسي : 498 وفيه : « أرضيتنى رضى الله عنك ، يا علي أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .
أقول : كان ذلك بعد مدة من غزوة بنى المصطلق ، ولا بد أن هؤلاء ماطلوا في أداء زكاتهم ، لأن إسلام خالد بن الوليد كان بعد غزوة بنى المصطلق والحديبية .

12 - كان بنو المصطلق يماطلون في دفع زكاتهم !

في نوادر الراوندي / 152 : « أهل الصفة وكانوا ضيفان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة ، فأسكنهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صُفَّة المسجد وهم أربع مائة رجل ، كان يسلم عليهم بالغدوة والعشي ، فأتاهم ذات يوم فمنهم من يخصف نعله ، ومنهم من يرقع ثوبه ومنهم من يتفلي ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرزقهم مداً مداً من تمر في كل يوم ، فقام رجل منهم فقال : يا رسول الله ! التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما إني لو استطعت أن أطعمكم الدنيا لأطعمتكم ، ولكن من عاش منكم من بعدى فسيغدى عليه بالجفان ويراح عليه بالجفان ، ويغدو أحدكم في قميصة ويروح في أخري ، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة . فقام رجل فقال : يا رسول الله ! إنا على ذلك الزمان بالأشواق فمتى هو ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : زمانكم هذا خير من ذلك الزمان ، إنكم إن ملأتم بطونكم من الحلال توشكون أن تملأوها من الحرام ! فقام سعد بن الأشج فقال : يا رسول الله ! ما يفعل بنا بعد الموت ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : الحساب والقبر ، ثم ضيقه بعد ذلك أو سعته . فقال : يا رسول الله ، هل تخاف أنت ذلك ؟ فقال : لا ولكن أستحى من النعم المتظاهرة التي لا أجازيها ولا جزءً من سبعة .
--------------------------- 243 ---------------------------
فقال سعد بن الأشج : إني أشهد الله وأشهد رسوله ومن حضرني أن نوم الليل على حرام ، والأكل بالنهار على حرام ، ولباس الليل على حرام ، ومخالطة الناس على حرام ، وإتيان النساء على حرام . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا سعد لم تصنع شيئاً كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس ؟ وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة ! نم بالليل وكل بالنهار ، والبس ما لم يكن ذهباً أو حريراً أو معصفراً ، وائت النساء .
يا سعد ! إذهب إلى بنى المصطلق فإنهم قد ردوا رسولي ، فذهب إليهم فجاء بصدقة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كيف رأيتهم ؟ فقال : خير قوم ، ما رأيت قوماً قط أحسن أخلاقاً فيما بينهم من قوم بعثتني إليهم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنه لا ينبغي لأولياء الله تعالى من أهل دار الخلود ، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم ، أن يكونوا أولياء الشيطان من أهل دار الغرور ، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم .
ثم قال : بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر . بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر . بئس القوم قوم لا يقومون لله تعالى بالقسط ، بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط في الناس . بئس القوم قوم يكون الطلاق عندهم أوثق من عهد الله تعالى . بئس القوم قوم جعلوا طاعة أيمانهم دون طاعة الله . بئس القوم قوم يختارون الدنيا على الدين . بئس القوم قوم يستحلون المحارم والشهوات والشبهات .
قيل : يا رسول الله وأي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكراً ، وأحسنهم له استعداداً ، أولئك هم الأكياس » .

13 - قصة تأخر عائشة عن النبي « صلى الله عليه وآله » في غزوة بنى المصطلق

خلاصة قصة الإفك كما رواها ابن هشام عن عائشة : 3 / 764 : أنها كانت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة بنى المصطلق ، وفى رجوعهم نزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) منزلاً : « فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس ، وخرجت لبعض حاجتي وفى عنقي عقد لي فيه جزع ظفار ، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدرى
--------------------------- 244 ---------------------------
فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج وهم يظنون أنى فيه كما كنت أصنع ، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه ، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس . قالت : فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إلي . قالت : فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي ، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف على وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ وأنا متلففة في ثيابي : قال : ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت فما كلمته ثم قرب البعير فقال : اركبى واستأخر عني . قالت فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس ، فوالله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس ، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، فارتجع العسكر ! ووالله ما أعلم بشئ من ذلك ، ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغني من ذلك شئ » .
ثم ذكرت عائشة أنها تعالجت عند أمها ، ولم تعرف باتهامها حتى أخبرتها أم مسطح ، وقالت إنه حدثت في مرضها أحداث بسبب اتهامها ، وكاد الأوس والخزرج يقتتلون لأن المتهم كان ابن سلول الأوسي ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطب وقال : « أيها الناس ، ما بال رجال يؤذوننى في أهلي ، ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيراً ، ويقولون ذلك لرجل ، والله ما علمت منه إلا خيراً وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي » .
وذكرت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) استشار أشخاصاً في أمرها منهم على ( عليه السلام ) فقال : « يا رسول الله إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك . فدعا رسول الله بريرة ليسألها ، قالت : فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضرباً شديداً وهو يقول : أصدقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتقول : والله ما أعلم إلا خيراً ،
--------------------------- 245 ---------------------------
ودخل عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « يا عائشة إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقى الله ، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ! قالت عائشة : فبكيت ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً ، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ، والله يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني ! قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت : ولكن سأقول كما قال أبو يوسف : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ . قالت : فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه . فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول : أبشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك ، قالت : قلت : بحمد الله ، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضربوا حدهم » .
أقول : هذه رواية عائشة وفيها مناقشات ، لأنه لا يصح قولها إن آية البراءة
نزلت يومها ، بل نزلت بعد سنين !

14 - نزلت آية البراءة في مارية فجعلتها عائشة لها !

وقعت قصة عائشة في غزوة بنى المصطلق في شعبان سنة خمس « إعلام الوري : 1 / 196 » وفى سنة ثمان نزلت آيات الإفك في سورة النور ! وقد اتفقوا على أن سورة النور نزلت دفعة واحدة ، بعد حادثة عائشة بثلاث سنين !
فالصحيح أن آية البراءة نزلت في مارية ، فقد اتهموها في السنة الثامنة وقت نزول الآيات ! ومما يدل على أنها في مارية أنها وصفت المتَّهمة بالغافلة ، وهو ينطبق على مارية لسذاجتها ولاينطبق على عائشة ! لاحظ آياتها : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالآفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَخَيرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِيءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الآثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ . لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ . لَوْلا جَاءُوا عَلَيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ .
--------------------------- 246 ---------------------------
وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَينًا وَهُوَعِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ . وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ . يعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَيبَينُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
إِنَّ الَّذِينَ يحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ . وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَنْ يتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يزَكِّى مَنْ يشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . وَلا يأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَليعْفُوا وَلْيصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
إِنَّ الَّذِينَ يرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يوْمَ تَشْهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يعْمَلُونَ . يوْمَئِذٍ يوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَالْحَقُّ الْمُبِينُ . الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيبَاتُ لِلطَّيبِينَ وَالطَّيبُونَ لِلطَّيبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . النور : 11 - 26 .
وصفة الغافلة تنطبق على مارية التي كان فيها بساطة وسذاجة ، أما عائشة فلم يقل أحد إنها كانت ساذجة غافلة ، بل كانت ذكية متحركة ، وقد قادت معركة الجمل وحدها لسبعة أيام !
وقد تنبهت عائشة إلى أن صفة « الغافلة » لا تنطبق عليها فقالت : « رميتُ بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك » . « لباب النقول / 157 » . ففسرت الغافلة بالغافلة عن التهمة وهو تفسير ضعيف يكاد ينطبق على كل متهمة ، وهوتخصيص بدون قرينة ، لأن الغفلة في الآية مطلقة تقابل الفطنة والذكاء : والمغفل : الذي لا فطنة له . والغفول من الإبل : البلهاء » . « لسان العرب : 11 / 498 » . « ورجل غفل : لم يجرب الأمور » . الصحاح : 5 / 1783 .
وقد حاول بعضهم أن يجعل الغفلة بمعنى التي لاتخطر الفاحشة ببالها ، « الشوكاني : 4 / 17 وعمدة القاري : 17 / 212 » ، ولا يصح لأن المتبادر منها بدون قرينة : الساذجة .
وسيأتي ما يثبت أن المبرأة مارية لا عائشة .
--------------------------- 247 ---------------------------

الفصل الرابع والخمسون

من غزوة بنى المصطلق إلى عمرة الحديبية

1 - ثلاث غزوات ، وأكثر من عشر سرايا ، وعدد من الأحداث !

يتعجب الإنسان من تتابع فعاليات النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتنوعها ، ويتساءل : كيف اتسعت أيامه وأسبوعه وشهره وسنته ( صلى الله عليه وآله ) لكل هذه النشاطات ؟ !
ومن أمثلتها السنة الخامسة ، فقد كان فيها غزوة بنى المصطلق أو المريسيع ، وحادثة ابن سلول رئيس المنافقين المدنيين ، وتخلف عائشة عن القافلة التي جعلتها حديث الإفك ، وضياع ناقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وطلاق زيد لزينب بنت جحش وزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بها ، ورسائله إلى بعض الحكام والملوك ، وغزوتان ذهب فيهما بنفسه : غزوة بنى لحيان ، وغزوة الغابة . وقصة العرنيين الذين سرقوا إبل الصدقة ، وأكثر من عشر سرايا ، لرد لصوص أو غزاة للمدينة .
وكان منها السرية التي قبضت على ثمامة بن أثال سيد اليمامة ، ثم التهيؤ لأداء العمرة التي سميت غزوة الحديبية .
وخلال ذلك نزول سور من القرآن وآيات ، وأحداث صغيرة وكبيرة !
لكن لاعجب من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي وهب وجوده لربه فباركه ، وكان يأتيه جبرئيل ( عليه السلام ) ويوجهه ويخبره بما يكون ، ويأمره بما يجب ، ويساعده عندما يلزم !
--------------------------- 248 ---------------------------

2 - تشجيع النبي « صلى الله عليه وآله » سباق الخيل والإبل

« أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالسبق بين ما ضُمِّرَ من الخيل وما لم يضَمَّر . . فأرسلها من الحَفْيا إلى ثنية الوداع ، وهو خمسة أميال أو ستة أو سبعة . وأجرى ما لم يضمَّر فأرسلها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق وهو ميلٌ أو نحوه . . وسابق أبو سعيد الساعدي على فرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي يقال له : « الظَّرْب » فسبقت غيرها من الخيل ، وكساه النبي ( صلى الله عليه وآله ) برداً يمانياً ، بقيت بقية عند أحفاده إلى زمان الواقدي . وسبق أيضاً أبو أسيد الساعدي على فرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) اسمه لزَّاز فأعطاه النبي حُلة يمانية . وسابق ( صلى الله عليه وآله ) بين الخيل مرة وجلس على سلع ، فسبقت له ثلاثة أفراس : لزَّاز ، ثم الظَّرب ، ثم السَّكْب » الصحيح من السيرة : 14 / 12 .
« وقد سابق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أسامة وأجرى الخيل ، فروى أن ناقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) سُبقت فقال : إنها بغت وقالت فَوْقِى رسول الله ! وحقٌّ على الله عز وجل أن لايبغى شئ على شئ الا أذله الله ، ولو أن جبلاً بغى على جبل لهدَّ الله الباغي منهما » . الفقيه : 3 / 48 و 4 / 59 .
أقول : تقدم أن المسلمين لم يكن عندهم في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة إلا فرس واحدة ، ثم كان عندهم في السنة الثالثة في أحُد بضعة أفراس ، فشجعهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على اقتناء الخيل واشترى هو فكان عندهم في السنة الرابعة عدد منها ، وفى السنة الخامسة كانت خيلهم بالعشرات ، وشجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) اقتناءها وأجرى السباق بينها ، وكذا بين الإبل . فاتسع اهتمام المسلمين بالخيل . ولا علاقة لهذا السباق الذي أجراه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في السنة الرابعة والخامسة للهجرة وبين سقوطه عن فرسه ذات مرة ، فقد كان ذلك في السنة التاسعة .
فقد روى في الفقيه : 1 / 250 و 381 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقع عن فرس فشج شقه الأيمن ، فصلى بهم جالساً في غرفة أم إبراهيم » .
وفى رواية : فسحج شقه الأيمن أي خدش جلده . ونحوه عمدة القاري : 4 / 105 .

3 - لم تقع في المدينة زلزلة في عهد النبي « صلى الله عليه وآله »

قال في الصحيح : 14 / 24 : « وزعموا : أنه في سنة خمس من الهجرة زلزلت المدينة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله عز وجل يستعتبكم فأعتبوه . ونقول : إن الله تعالى يقول : وَمَا
--------------------------- 249 ---------------------------
كَانَ اللهُ لِيعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ . . » .
أقول : لا أثر في أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » لوقوع زلزلة في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال المقريزي في إمتاع الأسماع : 12 / 390 : « لم يأت عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة . وأول زلزلة كانت في الإسلام في عهد عمر فأنكرهاثم قال : ما أسرع ما أحدثتم ! والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم » .
وزعموا أنه ضرب الأرض بسوطه فسكنت ! « الغدير : 8 / 82 » . وهو من المكذوبات .
وزعموا أنه أخذ تميماً الداري فطارد نار بركان في المدينة بيديه حتى هربت ! « الدارمي : 1 / 132 » . وهو من المكذوبات أيضاً !

4 - قصة زواج النبي « صلى الله عليه وآله » من زينب بنت حجش

قال الله تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً . وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ الله عَلَيهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيهِ أَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَى لَا يكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً . مَّا كَانَ عَلَى النَّبِى مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ الله فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً . الَّذِينَ يبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيخْشَوْنَهُ وَلا يخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللهَ وَكَفَى بِالله حَسِيباً . مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئ عَلِيماً » . سورة الأحزاب : 36 - 40 .
في تفسير القمي : 2 / 172 بسند صحيح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : « كان سبب نزول ذلك : وَإِذْ تَقُولُ للذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ . أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها ، ورأى زيداً يباع ورآه غلاماً كيساً حصيفاً فاشتراه ، فلما نبئ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاه إلى الإسلام فأسلم وكان يدعى زيد مولى محمد ( صلى الله عليه وآله ) فلما بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر ولده زيد ، قدم مكة وكان رجلاً جليلاً ، فأتى أبا طالب فقال : يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي ،
--------------------------- 250 ---------------------------
وبلغنى أنه صار إلى ابن أخيك ، فسله إما أن يبيعه وإما أن يفاديه وإما أن يعتقه .
فكلم أبو طالب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هو حرٌّ فليذهب كيف يشاء ، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له : يا بني إلحق بشرفك وحسبك ، فقال زيد : لست أفارق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبداً ! فقال له أبوه : فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش ؟ فقال زيد : لست أفارق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما دمت حياً ، فغضب أبوه فقال : يا معشر قريش اشهدوا أنى قد برئت منه ، وليس هو ابني ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني ، فكان يدعى زيد بن محمد ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحبه وسماه زيد الحِبّ ، فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش ، وأبطأ عنه يوماً فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهر ، فنظر إليها وكانت جميلة حسنة ، فقال : سبحان الله خالق النور ، وتبارك الله أحسن الخالقين .
ثم رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى منزله ووقعت زينب في قلبه موقعاً عجيباً ، وجاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لها زيد : هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله ، فلعلك قد وقعت في قلبه ؟ فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني رسول الله ! فجاء زيد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : بأبى أنت وأمي يا رسول الله أخبرتني زينب بكذا وكذا ، فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها ؟ فقال رسول الله : لا ، إذهب فاتق الله وأمسك عليك زوجك ، ثم حكى الله فقال : أَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا لِكَى لايكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً . فزوجه الله من فوق عرشه فقال المنافقون : يحرِّم علينا نسائنا ويتزوج امرأة ابنه زيد ! فأنزل الله في هذا : مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَينِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يقُولُ الحَقَّ وَهُوَيهْدِى السَّبِيلَ . ثم قال : ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ . . » .
وفى عيون أخبار الرضا ( صلى الله عليه وآله ) : 2 / 172 ، أنه ( عليه السلام ) قال لابن الجهم : « وقول الله عز وجل : وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ، فإن الله عز وجل عرف
--------------------------- 251 ---------------------------
نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أسماء أزواجه في دار الدنيا ، وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين ، وإحدى من سمى له زينب بنت جحش ، وهى يومئذ تحت زيد بن حارثه ، فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده ، لكيلا يقول أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه ، وخشي قول المنافقين فقال الله عز وجل : وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ، يعنى في نفسك ! وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حوا من آدم ( صلى الله عليه وآله ) وزينب من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقوله : فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا . وفاطمة من على ( عليه السلام ) .
قال : فبكى علي بن محمد بن الجهم وقال : يا ابن رسول الله أنا تائب إلى الله عز وجل من أن أنطق في أنبياء الله « عليهم السلام » بعد يومى إلا بما ذكرته » .
وفى تنزيه الأنبياء للشريف المرتضي / 155 : « فإن قيل . . . فما تأويل قوله تعالي : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ الله عَلَيهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيهِ أَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ . . أوليس هذا عتاباً له ( صلى الله عليه وآله ) من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره ، وراقب من لا يجب أن يراقبه ، فما الوجه في ذلك ؟
قلنا : وجه هذه الآية معروف وهو أن الله تعالى لما أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي ، والدعى هو الذي كان أحدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوة ، وكان من عادتهم أن يحرموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرمون نكاح أزواج أبنائهم ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن زيد بن حارثة وهو دعى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيأتيه مطلقاً زوجته ، وأمره أن يتزوجها بعد فراق زيد لها ، ليكون ذلك ناسخاً لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها ، فلما حضر زيد مخاصماً زوجته عازماً على طلاقها ، أشفق الرسول من أن يمسك عن وعظه وتذكيره ، لا سيما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره ، فرجف المنافقون به إذا تزوج المرأة يقذفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه » .
وفى الصحيح من السيرة : 14 / 51 : « وذكر البلاذري : أن زينب لما بشرت بتزويج الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) إياها ونزول الآية في ذلك جعلت على نفسها صوم شهرين شكراً
--------------------------- 252 ---------------------------
لله ، وأعطت من بشَّرها حلياً كان عليها . . . قالت عائشة : فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغني من جمالها ، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع الله لها زوَّجها الله من السماء ! وقلت : هي تفتخر علينا بهذا . وكانت زينب تفتخر على أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) تقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله عز وجل من فوق سبع سماوات . قالوا : وما أوْلَمَ على امرأة من نسائه أكثر وأفضل مما أولم على زينب ، أولمَ عليها بتمر وسويق وشاةٍ ذبحها ، وأطعم الناس الخبز واللحم ، فترادف الناس أفواجاً يأكل فوج فيخرج ثم يدخل فوج ، حتى امتد النهار ، أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه » .
لكن عائشة استطاعت أن تجر زينب إليها وتجعلها من حزبها حسب تعبيرها . قال في الصحيح : 14 / 175 : « سرعان ما انقلبت الأمور ، وأصبحت زينب في موقع الحظوة لدى عائشة وصارت تمدحها بقولها : ما رأيت امرأة قط خيراً في الدين من زينب ، وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم ، وأعظم أمانة وصدقة » !
ثم ذكر أنها كانت من نوع عائشة في الجرأة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكانت النصير والمساعد لها على تمرير بعض مشاريعها في إثارة أجواء تخدم مصالحها المستقبلية والآنية على حد سواء .
روى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : أن زينب قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تعدل وأنت رسول الله ؟ ! وقالت حفصة : إن طلقنا وجدنا أكفاءنا من قومنا ! فاحتبس الوحي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عشرين يوماً ، فأنف الله عز وجل لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) فأنزل : يا أَيهَا النَّبِى قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ . . إلى قوله : أجْرَاً عَظيماً . .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « إن زينب بنت جحش قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تعدل وأنت نبي ؟ ! فقال لها : تربت يداك إذا لم أعدل فمن يعدل ؟ ! قالت : دعوت الله يا رسول الله ليقطع يدي ؟ فقال : لا ، ولكن لتتربان . فقالت : إنك إن طلقتنا وجدنا في قومنا أكفاءنا » !
ومن طريف ما في سيرة أخبارها أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سمى أباها جحشاً ! « قال القرطبي في تفسيره : 14 / 165 » : « وكان اسم جحش بن رئاب بُرَّة بضم الباء ، فقالت زينب لرسول الله : يا رسول الله غَيرْ اسم أبى فإن البُرة صغيرة ! « البُرَّة : حلقة توضع في أنف البعير ويربط بها الحبل
--------------------------- 253 ---------------------------
أو الخيط - لسان العرب : 11 / 174 » فقيل إن رسول الله قال لها : لو كان أبوك مسلماً لسميته باسم من أسمائنا أهل البيت ، ولكني قد سميته جحشاً والجحش أكبر من البرة » . ورواه القرطبي في أحكام القرآن / 3534 ، المعافري في الروض الأنف : 2 / 292 والحلبي في السيرة : 2 / 483 ، تاريخ الخميس : 1 / 501 ، تاج العروس : 9 / 68 وحياة الحيوان / 305 .

5 - تشديد الحجاب على نساء النبي « صلى الله عليه وآله »

قال في الصحيح من السيرة : 14 / 129 : « روى الرواة عن زينب بنت جحش أنها قالت : في نزلت آية الحجاب ، وذكروا أن ذلك كان في مناسبة تزويجها برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكروا أن السبب في ذلك هو عمر بن الخطاب ، وجعلوا ذلك من فضائله حتى لقد رووا عن ابن مسعود أنه قال عن عمر : إنه فُضِّل على الناس بأربع ، وذكر منها أنه بذكره الحجاب أُمِرَ نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحتجبن !
وروى أن عمر مرَّ على نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهن مع النساء في المسجد فقال : إحتجبن فإن لكن على النساء فضلاً ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل . فقالت له زينب : وإنك لتغار علينا يا ابن الخطاب والوحي ينزل في بيوتنا ! فأنزل الله : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ .
وقد صرحوا أيضاً : بأن آية الحجاب التي نزلت في زينب بنت جحش هي قوله تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيوتَ النَّبِى إِلا أَن يؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ . . الآية . وكان وقت نزولها صبيحة عرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) بزينب بنت جحش في ذي القعدة سنة خمس . وعن أنس : ما بقي أحد أعلم بالحجاب مني ، ولقد سألني أبي بن كعب فقلت نزل في زينب . وفى رواية أنه في قضية زينب بنت جحش أراد أن يدخل مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فألقى الستر بينه وبينه ونزل الحجاب » .
ثم ناقش صاحب الصحيح في فرض الحجاب كما صوروه لأنه موجود من الأصل ، وأورد رواياته في أحد عشر وجهاً فيها تناقض !
وقد كتبنا بحثاً في كتاب « ألف سؤال وإشكال : 2 / 300 » في اتهام البخاري وغيره للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه لم يكن يحجب نساءه ، حتى أمره عمر بذلك ، ونزل القرآن موافقاً
--------------------------- 254 ---------------------------
لقول عمر ! وزعموا ، « البخاري : 1 / 46 » أن عمر كان يقول للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : أحجب نساءك فلم يفعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنزل الوحي موافقاً لرأى عمر ، وأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يحجب نساءه ! ويتخيل القارئ من كثرة رواياتهم أن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) كنَّ غير محجبات وأنه قصَّرَ أو تسامح في حجابهن ! مع أنهن كنَّ محجبات كغيرهن وكانت سورة النور قد نزلت وفيها آيات الحجاب وآداب الأسرة والاختلاط . أما آية الحجاب في سورة الأحزاب ففرضت عليهنَّ أن لايكلمن الرجال الأجانب إلا من وراء ستر . وهذه آيات الحجاب في سورة النور :
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيوبِهِنَّ وَلا يبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيرِ أُولِى الأرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلايضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيعْلَمَ مَا يخْفِين مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جميعاً أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . النور : 30 - 31 .
وقال تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيسْتَئْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيسَ عَلَيكُمْ وَلا عَلَيهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يبَينُ اللهُ لَكُمُ الآيات وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
وإذا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيسْتَئْذِنُوا كَمَا اسْتَئْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يبَينُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِى لا يرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيسَ عَلَيهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . النور : 58 - 60 .
وهذه آيات تشديد الحجاب على نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سورة الأحزاب :
يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فإن اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا .
يا نِسَاءَ النبي مَنْ يأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَينَةٍ يضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَينِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يسِيرًا . وَمَنْ يقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَينِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا .
--------------------------- 255 ---------------------------
يا نِسَاءَ النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قولاً مَعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِى بُيوتِكُنَّ وَلاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيةِ الأولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنما يرِيدُ اللهُ لِيذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً . وَاذْكُرْنَ مَا يتْلَى فِى بُيوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لطيفاً خَبِيرًا . سورة الأحزاب : 28 - 34 .
وقال تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيوتَ النبي إِلا أَنْ يؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يؤْذِى النبي فَيسْتَحْيى مِنْكُمْ وَاللهُ لا يسْتَحْيى مِنَ الْحَقِّ وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً .
إِنْ تُبْدُوا شيئاً أَوْ تُخْفُوهُ فإن اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا . لاجُنَاحَ عَلَيهِنَّ فِى آبَائِهِنَّ وَلاأَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلاأَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلانِسَائِهِنَّ وَلامَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ شَهِيدًا .
إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يصَلُّونَ عَلَى النبي يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسُلَيما . إِنَّ الَّذِينَ يؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا . وَالَّذِينَ يؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا . يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يدْنِينَ عَلَيهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يعْرَفْنَ فَلا يؤْذَينَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا .
لَئِنْ لَمْ ينْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِينَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قليلاً . مَلْعُونِينَ أَينَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً . سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً . سورة الأحزاب : 53 - 62 .
وتدل الآيات على أن الله تعالى أراد منهن أن يتحلَّينَ بمتانة الشخصية ورصانة الكلام : فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ ، ولايكثرن الرواح والمجئ ولايتصدَّينَ للأمور السياسية : وَقَرْنَ فِى بُيوتِكُنَّ ، وأن يكنَّ في مستوى مسؤولية كونهن زوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومستوى مقام أمهات المؤمنين الذي أعطاه الله لهن ، وإلا . . فليتنحَّينَ من حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! ومن الواضح أن الظروف التي كانت
--------------------------- 256 ---------------------------
تحيط بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت مؤذية له في نبوته وشخصه وأهل بيته ونسائه .
أما آية الحجاب التي طعنوا بسببها بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فهي قوله تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيوتَ النبي إِلا أَنْ يؤْذَنَ لَكُمْ . . . وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً .
فهي آية واحدة فيها ثلاثة أحكام : أدب الدخول إلى بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحرمة تكليمهن إلا من وراء حجابٍ وسترٍ ، ولذا سميت آية الحجاب . وحرمة الزواج بهنَّ بعده لأنهن أمهات المؤمنين . لكنهم صوروا أن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يكنَّ قبلها محجبات ! وأكثروا الكذب عن سبب نزولها ، وتناقضت رواياتهم في مدح هذا وذاك ! وكلها أحاديث صحيحة السند عندهم ! مثل أن عمر أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يفعل ، فنزلت الآية موافقة لعمر ! وقول عائشة إنها كانت تأكل مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) حيساً « تمر بالسمن والطحين » فمر عمر فأكل معهم بأصابعه ، فمست إصبعه إصبع عائشة ، فنزلت الآية ! ثم قالت إن إصبع شخص آخر أصابت إصبعها ، فنزلت الآية !
ورووا أن عمر تشاجر مع زينب بنت جحش ، فنزلت الآية ! وأن سودة بنت زمعة خرجت ليلاً لتقضى حاجتها في جهة البقيع ، فناداها عمر عرفناك يا سودة ! فنزلت الآية ! ورووا أن شباباً كانوا يجلسون بطريق نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيؤذونهن ، فنزلت الآية ! ورووا : أنه ( صلى الله عليه وآله ) رأى رجالاً يتحدثون مع نسائه ، فصعد المنبر غاضباً وتلا الآية !
ورووا أن طلحة كان يؤذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أمر نسائه ، وكان يتحدث مع عائشة ، فنهاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فرفض وأساء الأدب بحجة أنها ابنة عمه من بنى تَيم !
ففي الدر المنثور : 5 / 214 ، أنها : « نزلت في طلحة بن عبيد الله ، لأنه قال : إذا توفى رسول الله تزوجْتُ عائشة ! وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدِّى قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا ! لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده ! فنزلت هذه الآية !
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن رجلاً أتى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها ، فقال النبي : لا تقومَنَّ هذا المقام بعد يومك هذا ! فقال : يا رسول الله إنها ابنة
--------------------------- 257 ---------------------------
عمي ، والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي ! قال النبي : قد عرفت ذلك ، إنه ليس أحد أغْيرُ من الله ، وإنه ليس أحد أغيرُ مني ! فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمي ! لأتزوجنها من بعده ! فأنزل الله هذه الآية » !
ورووا : وهو ما نرجحه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما تزوج بزينب بنت جحش ، أطعم الناس في حجرته التي هي « صالة بيته » وخرجوا وبقى رجال ثقلاء فذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتمشى حتى وصل إلى غرفة عائشة البعيدة نسبياً عن حجرته ، وعاد فوجد الثقيلين جالسين ولم يراعيا الأدب ، « البخاري : 6 / 24 » فنزلت الآية ، وفيها : وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يؤْذِى النبي فَيسْتَحْيى مِنْكُمْ وَاللهُ لايسْتَحْيى مِنَ الْحَقِّ .
قال البخاري : 6 / 25 ، عن أنس : « فقلت : يا نبي الله ما أجد أحداً أدعوه . قال : إرفعوا طعامكم ، وبقى ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . . وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر . . رأى رجلين جرى بهما الحديث ، فلما رآهما رجع عن بيته . . وأنزلت آية الحجاب » .
وفى فتح الباري : 8 / 407 : « فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه . . فخرجوا بخروجه إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث ، وفى غضون ذلك كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه ، فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام » .
وقال القرطبي : 14 / 224 : « قال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم » ! وأقول : حسبك من الثقلاء أنهم محترمون جداً عند السلطة القرشية ، لأنهم رؤساؤها ، فقد أمرت رواتها بالتغطية عليهم وكتم أسمائهم !
وحسبك من كذب الرواة في سبب نزول آية الحجاب ، أنها كثيرة متناقضة !

6 - غزوة بنى لِحْيان

بعد بني قريظة ، غزا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنى لِحْيان وهم بطن من قبيلة هذيل ، فربما كانوا يتهيؤون لمهاجمته ، وكانوا غدروا ببعض المسلمين وقتلوهم ، أو باعوهم
--------------------------- 258 ---------------------------
إلى قريش ! فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يدعو على قريش وعليهم ويلعنهم .
ففي الكافي : 8 / 70 : « الإيمان يماني والحكمة يمانية ، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن . الجفا والقسوة في الفدَّادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر ، من حيث يطلع قرن الشمس . . لعن الله رعلاً وذكوان وعضلاً ولحيان والمجذمين من أسد وغطفان ، وأبا سفيان بن حرب ، وشهبلاً ذا الأسنان ، وابنى مليكة بن جذيم ، ومروان ، وهوذة ، وهونة » .
وروى مسلم : 2 / 134 ، وغيره ، أنهم قتلوا قراء بعثهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى نجد فدعا عليهم « اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف ، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان ، وعصية عصت الله ورسوله » .
وكانت غزوة مختصرة ، قال في المناقب : 1 / 170 : « في جمادى الأولى وكان بينهما الرمي بالحجارة وصلى فيها صلاة الخوف بعسفان ، ويقال في ذات الرقاع » .
وقال ابن هشام في روايته عن ابن إسحاق : 3 / 750 إنها : « على رأس ستة أشهر من فتح قريظة ، إلى بنى لحيان يطلب بأصحاب الرجيع : خبيب بن عدي وأصحابه وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة . . فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام ، ثم على مخيض ، ثم على البتراء ، ثم صفق ذات اليسار ، فخرج على بين ، ثم على صخيرات اليمام ، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة ، فأغذ السير سريعاً حتى نزل على غران ، وهى منازل بنى لحيان وغران واد بين أمج وعسفان ، إلى بلد يقال له : ساية ، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال . . فخرج في مئتى راكب من أصحابه حتى نزل عسفان . . ثم كر وراح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قافلاً ، فكان جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول حين وجه راجعاً : آيبون تائبون إن شاء الله ، لربنا حامدون ، أعوذ بالله من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال » .
ونقد في الصحيح من السيرة : 14 / 235 رواياتهم في مدة سفر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعمله في هذه الغزوة ، وبحث أهم ما فيها وهو زيارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقبر والدته آمنه « عليها السلام » كما تقدم .
--------------------------- 259 ---------------------------

7 - غزوة الغابة أو ذي قِرَد

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أتى أبو ذر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله إني قد اجتويت المدينة « تأذيت من هوائها » أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي إلى مزينة فنكون بها ؟ فقال : إني أخشى أن يغير عليك خيل من العرب فيقتل ابن أخيك فتأتينى شعثاً فتقوم بين يدي متكئاً على عصاك فتقول : قتل ابن أخي وأخذ السرح ! فقال : يا رسول الله ، بل لا يكون إلا خير إن شاء الله .
فأذن له فخرج هو وابن أخيه وامرأته فلم يلبث هناك إلا يسيراً حتى غارت خيل لبنى فزارة فيها عيينة بن حصن ، فأخذت السرح وقتل ابن أخيه وأخذت امرأته من بنى غفار ، وأقبل أبو ذر يشتد حتى وقف بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبه طعنة جائفة ، فاعتمد على عصاه وقال : صدق الله ورسوله ، أخذ السرح وقتل ابن أخي وقمت بين يديك على عصاي ! فصاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المسلمين فخرجوا في الطلب فردوا السرح وقتلوا نفراً من المشركين » . الكافي : 8 / 126 .
وقال في الصحيح من السيرة : 14 / 223 ، ملخصاً : « كانت غزوة الغابة ، وتعرف بذى قِرَد ، وهو ماء على بريد من المدينة من جهة الشام ، في يوم الأربعاء في شهر ربيع الأول من سنة ست ، قبل الحديبية . فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة بنى لحيان لم يقم ( صلى الله عليه وآله ) سوى أيام قلائل حتى أغار بنو فزارة بقيادة عيينة بن حصن في أربعين فارساً على لقاح النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي كانت في الغابة فاستاقوها ، ونجا أبو ذر وبه طعنة جائفة ، وقتلوا ابنه وسبوا امرأته ! فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن ينادى في المدينة : الفزع الفزع ، أو يا خيل الله اركبي ، وكان أول ما نودي بها ، وركب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في خمس مائة . وكان أول من انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الفرسان المقداد وجماعة فقال له : أخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس ، فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا ، وكان أول فارس لحق بهم محرز بن نضلة فحمل عليه رجل منهم فقتله ، ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن .
وأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المسلمين ، وقَتل عكاشة بن محصن أبانَ بن عمرو ،
--------------------------- 260 ---------------------------
وأدرك أوباراً وابنه عمرواً وهما على بعير واحد ، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعاً واستنقذوا بعض اللقاح ، قيل : عشرة منها وأفلت القوم بما بقي وهو عشر ، وهربوا إلى نجد . وسار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى نزل بالجبل من ذي قرد ، وأقام عليه يوماً وليلة ، ورجع إلى المدينة ، وقد غاب عنها خمس ليال .
وأفلتت امرأة أبي ذر على ناقة من إبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى قدمت المدينة فقالت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) إنها نذرت أن تنحر الناقة التي نجت عليهاوتأكل من سنامها وكبدها ! فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ! إنه لا نذر في معصية الله ، ولا فيما لا تملكين ، إنما هي ناقة من إبلي . إرجعى إلى أهلك على بركة الله » .

8 - سرية علي « عليه السلام » لملاحقة اللصوص العرنيين

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 7 / 245 » : « قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قوم من بنى ضبة مرضى فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية ، فقالوا : أخرجنا من المدينة ، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها ، فلما برئوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فبعث إليهم علياً ( عليه السلام ) فهم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريباً من أرض اليمن ، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فنزلت هذه الآية عليه : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً أَن يقَتَّلُواْ أَوْ يصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلافٍ أَوْ ينفَوْاْ مِنَ الأرض . فاختار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف » .
أقول : غيبت رواية الحكومة اسم على ( عليه السلام ) من هذه السرية وصار اسمها : سرية كرز بن جابر إلى العرنيين ! وحرفت روايتها للطعن بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وإثبات قسوته ، فزعمت أنه ( صلى الله عليه وآله ) قتل العرنيين وسمل عيونهم وتركهم عطاشى حتى ماتوا ثم أحرقهم ! ليبرروا للحكام ما يرتكبونه ، بل ليجعلوهم أرحم من النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وكذب روايتهم الإمام الباقر ( عليه السلام ) فقال : « علل الشرائع : 2 / 541 » : « إن أول ما استحل
--------------------------- 261 ---------------------------
الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط ، ومن ثَمَّ استحل الأمراء العذاب » !
وروى عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « لا والله ، ما سمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عيناً ، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم » . مسند الشافعي / 351 .
وقد كتبنا بحثاً في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 2 / 435 ، المسألة : 164 ، استوفينا فيه رواياتهم وأقوال علمائهم وناقشناها . قال البخاري في صحيحه : 1 / 64 : « فلما صحُّوا قتلوا راعى النبي ( صلى الله عليه وآله ) واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم ، فلما ارتفع النهار جئ بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون » . وقال في : 8 / 19 : « فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها ، وقطع أيديهم وأرجلهم ، وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة » .
وقال في عون المعبود : 5 / 70 : « قال قتادة : بلغنا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة » . أي تاب عن المثلة بعد ذلك ، وكان ينهى المسلمين عنها !

9 - اتهام عائشة للنبي « صلى الله عليه وآله » بأنه قسى القلب

زعموا أنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن يبكى رحمة بأحد ، فقد بكى أبو بكر وعمر على سعد بن معاذ ، أما النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يكن يبكي ، بل يشد بشعر لحيته كأنه ينتفه !
فقد روى أحمد : 6 / 141 : « قالت عائشة : فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبى بكر وأنا في حجرتي ، وكانوا كما قال الله عز وجل رحماء بينهم قال علقمة : قلت أي أمه ، فكيف كان رسول الله يصنع ؟ قالت : كانت عينه لا تدمع على أحد ! ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته » ! ووثقه في الزوائد : 6 / 13 .

10 - ثمامة سيد اليمامة هدية من الله إلى رسوله « صلى الله عليه وآله »

كان ثمامة بن أثال سيد بنى حنيفة الذين يسيطرون على اليمامة ، واليمامة هي سافلة نجد مما يلي البحرين ، وتبلغ ثلث ما يعرف اليوم بنجد :
https : / / ar . wikipedia . org / wiki / اليمامة ( إقليم )
--------------------------- 262 ---------------------------
في اللباب لابن الأثير : 1 / 396 : « الحنفي . . هذه النسبة إلى حنيفة وهم قبيلة كثيرة من ربيعة بن نزار نزلوا اليمامة ، وهم حنيفة بن لجيم بن صعب . . . بن ربيعة بن نزار ، ينسب إليه خلق كثير ، منهم ثمامة بن أثال الحنفي له صحبة ، وخولة أم محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب » .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يحب أن يحاصر قريشاً ويمنع عنها التموين من جهة نجد والعراق ، كما منعه من جهة المدينة والشام ، لعلها تفكر وتخضع لربها وتسمع لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد يكون جبرئيل ( عليه السلام ) علمه أن يدعو الله تعالى أن يوقع ثمامة سيد اليمامة في قبضته ويهدى قلبه ، فكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة .
ففي الكافي : 8 / 299 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : اللهم أمكني من ثمامة ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إني مخيرك واحدة من ثلاث : أقتلك ، قال : إذاً تقتل عظيماً ! أو أفاديك ، قال : إذاً تجدني غالياً ! أو أمنُّ عليك ، قال : إذاً تجدني شاكراً ! قال : فإني قد مننت عليك . قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ، وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك ، وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق » !
وفى الإستيعاب : 1 / 214 : « ثم أمر به فأطلق ، فذهب ثمامة إلى المصانع فغسل ثيابه واغتسل ، ثم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم وشهد شهادة الحق ، وقال : يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فمر من يسيرنى إلى الطريق ، فأمر من يسيره فخرج حتى إذا قدم مكة ، فلما سمع به المشركون جاؤوه فقالوا : يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك ؟ قال : لا أدرى ما تقولون إلا أنى أقسمت برب هذه البُنَية لا يصل إليكم من اليمامة شئ مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم ! قال : وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة !
ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم ، فلما أضرَّ بهم كتبوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها ، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا ، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلى بيننا وبين ميرتنا فافعل !
--------------------------- 263 ---------------------------
فكتب إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم !
وكان ثمامة حين أسلم قال : يا رسول الله ، والله لقد قدمت عليك وما على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك ، ولا دين أبغض إلى من دينك ، ولا بلد أبغض إلى من بلدك ، وما أصبح على الأرض وجه أحب إلى من وجهك ، ولا دين أحب إلى من دينك ، ولا بلد أحب إلى من بلدك !

11 - السنوات العجاف على قريش

قال الواحدي في أسباب النزول / 211 : « قال ابن عباس : لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم وهو أسير فخلى سبيله ، فلحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من يمامة وأخذ الله تعالى قريشاً بسنى الجدب حتى أكلوا العلهز » الوبر بالدم « فجاء أبو سفيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أنشدكم الله والرحم ، إنك تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ، قال : بلي ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يتَضَرَّعُونَ » .
وسبق إسلام ثمامة دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) على قريش بعد غزوة الأحزاب : « اللهم اشدد وطأتك على مضر ، وابعث عليهم سنين كسنى يوسف ، فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز » . مختلف ابن قتيبة / 233 .
ثم جاءهم قرار ثمامة بمنع وصول أي مادة غذائية لهم فاشتد الأمر عليهم ، لكنهم لم يخضعوا لربهم ولا دعوه ، ولا طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدعو لهم ، بل كتبوا له إنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة منع عنا الميرة فكتب إلى ثمامة » ! الوافي : 11 / 14 ، أسباب النزول للواحدي / 211 ، الحاكم : 2 / 394 ، ابن حبان : 3 / 247 .
والسبب في عدم خضوعهم ودعائهم تكبرهم الذي فاقوا به اليهود ! فقد قرروا أن لا يؤمنوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) مهما رأوا من آياته !
وفى الكافي : 2 / 480 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « الإستكانة هو الخضوع
--------------------------- 264 ---------------------------
والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما » . راجع في ثمامة : تفسير الثعلبي : 5 / 12 ، الرازي : 23 / 113 ، الإصابة : 1 / 525 و 3 / 471 ، ابن هشام : 4 / 1026 و 1053 وتاريخ المدينة : 2 / 435 .

12 - أبعد أبو بكر ثمامة فاضطهده مسيلمة !

قال محمد بن إسحاق كما في الإستيعاب : 1 / 214 : « ارتد أهل اليمامة عن الإسلام غير ثمامة بن أثال ومن اتبعه من قومه ، فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه ، ويقول إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه ، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم ، وبلاءٌ على من لم يأخذ به منكم ، يا بنى حنيفة ! فلما عصوه ورأى أنهم قد أصفقوا على اتباع مسيلمة عزم على مفارقتهم .
ومر العلاء بن الحضرمي ومن معه على جانب اليمامة « في البحرين » فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين : إني والله ما أرى أن أقيم مع هؤلاء مع ما قد أحدثوا ، وإن الله تعالى لضاربهم ببلية لايقومون بها ولا يقعدون ، وما نرى أنت نتخلف عن هؤلاء وهم مسلمون ، وقد عرفنا الذي يريدون ، وقد مروا قريباً ولا أرى إلا الخروج إليهم ، فمن أراد الخروج منكم فليخرج ، فخرج ممداً للعلاء بن الحضرمي ومعه أصحابه من المسلمين ، فكان ذلك قد فتَّ في أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد بنى حنيفة ! وقال ثمامة بن أثال في ذلك :
دعانا إلى ترك الديانة والهدى * مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجعُ
فيا عجباً من معشر قد تتابعوا * له في سبيل الغى والغى أشنعُ . . . » .
وقد فصلنا الموضوع في كتاب : قراءة جديدة في حروب الردة .

  • *
    --------------------------- 265 ---------------------------

الفصل الخامس والخمسون

غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش

1 - هدف الحديبية فرض الأمر الواقع على قريش

بعد هزيمة الأحزاب وفشل حملتهم على المدينة ، غزا النبي ( صلى الله عليه وآله ) حلفاءهم بني قريظة وأجلاهم عن المدينة ، وغزا بنى المصطلق الذين كانوا يجمعون للغارة عليه وكانوا قريبين من مكة ، وفرض سيطرته على شعاع واسع من المدينة حتى وصل نفوذه إلى نجد . ثم أسلم ثمامة بن أثال وفرض الحصار على المواد التموينية لقريش ، ورافق ذلك الجدب وعدم المطر والضائقة الاقتصادية الشديدة عليهم ، لكنهم ظلوا على عنادهم وكبريائهم !
في ذلك الظرف أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يفرض على قريش أن تعترف بالإسلام كأمر واقع ، فقصد مكة معلناً أنه يريد العمرة ، ولا يريد حرب قريش !

2 - توجه النبي « صلى الله عليه وآله » بالمسلمين إلى العمرة

في الكافي : 8 / 322 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة الحديبية خرج في ذي القعدة ، فلما انتهى إلى المكان الذي أحرم فيه ، أحرموا ولبسوا السلاح ، فلما بلغه أن المشركين قد أرسلوا إليه خالد بن الوليد ليرده قال : إِبغونى رجلاً يأخذني على غير هذا الطريق ، فأتى برجل من مزينة أو من جهينة ، فسأله فلم يوافقه فقال : أبغونى رجلاً غيره ، فأتى برجل آخر ، قال : فذكر له فأخذه معه حتى انتهى إلى العقبة فقال : من يصعدها حط الله عنه كما حط الله عن بني إسرائيل ، فقال لهم : أدخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم .
--------------------------- 266 ---------------------------
قال فابتدرها خيل الأنصار الأوس والخزرج ، قال : وكانوا ألفاً وثمان مائة [ وأربع مائة ] فلما هبطوا إلى الحديبية إذ امرأة معها ابنها على القليب فسعى ابنها هارباً ، فلما أثبتت أنه رسول الله صرخت به : هؤلاء الصابئون ، ليس عليك منهم بأس ، فأتاها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأمرها فاستقت دلواً من ماء فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فشرب وغسل وجهه فأخذت فضلته فأعادته في البئر فلم تبرح حتى الساعة . « أي مملوءة » !
وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأرسل إليه المشركون أبان بن سعيد في الخيل فكان بإزائه ثم أرسلوا الحليس فرأى البدن وهى تأكل بعضها أوبار بعض » أي هدى للكعبة « فرجع ولم يأت رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال لأبى سفيان : يا أبا سفيان أما والله ما على هذا حالفناكم على أن تردوا الهدى عن محله ! فقال : أسكت فإنما أنت أعرابي ! فقال : أما والله لتخلين عن محمد وما أراد ، أو لأنفردن في الأحابيش ! فقال : أسكت حتى نأخذ من محمد وَلْثاً « عهداً » فأرسلوا إليه عروة بن مسعود وقد كان جاء إلى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة ، وكان خرج معهم من الطائف وكانوا تجاراً ، فقتلهم وجاء بأموالهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأبى رسول الله أن يقبلها وقال : هذا غَدر ولا حاجة لنا فيه !
فأرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا رسول الله هذا عروة بن مسعود ، قد أتاكم وهو يعظم البدن ، قال : فأقيموها فأقاموها . فقال : يا محمد مجئ من جئت ؟ قال : جئت أطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر هذه الإبل ، وأخلى عنكم عن لحمانها . قال : لا واللات والعزى فما رأيت مثلك رُدَّ عما جئت له ، إن قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم ، وأن تقطع أرحامهم ، وأن تُجَرِّئ عليهم عدوهم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا بفاعل حتى أدخلها . قال وكان عروة بن مسعود حين كلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تناول لحيته ، والمغيرة قائم على رأسه فضرب بيده فقال : من هذا يا محمد ؟ فقال : هذا ابن أخيك المغيرة . فقال : يا غُدَر والله ما جئت إلا في غسل سلحتك ، « إعطاء الديات لمن غدر بهم » .
قال : « فرجع إليهم فقال لأبى سفيان وأصحابه : لا والله ما رأيت مثل محمد رد عما جاء له ، فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزي ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأثيرت
--------------------------- 267 ---------------------------
في وجوههم البدن ، فقالا : مجئ من جئت ؟ قال : جئت لأطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر البدن وأخلى بينكم وبين لحمانها . فقالا : إن قومك يناشدونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم وتقطع أرحامهم وتُجَرِّى عليهم عدوهم . قال : فأبى عليهما رسول الله إلا أن يدخلها » .

3 - استنفرت قريش وبعثت طليعةً لصد النبي « صلى الله عليه وآله »

في تفسير القمي : 1 / 150 : « خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الحديبية يريد مكة ، فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ، ليستقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الجبال ، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالناس ، فقال خالد بن الوليد لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنهم لا يقطعون صلاتهم ! ولكن يجئ لهم الآن صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم ! فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْياخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يصَلُّوا فَلْيصَلُّوا مَعَكَ وَلْياخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيمِيلُونَ عَلَيكُمْ مَيلَةً وَاحِدَةً . ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه فرقتين ، فوقف بعضهم تجاه العدو وقد أخذوا سلاحهم ، وفرقة صلوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قياماً ، ومروا فوقفوا مواقف أصحابهم ، وجاء أولئك الذين لم يصلوا فصلى بهم رسول الله الركعة الثانية ولهم الأولي ، وقعد وتشهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقام أصحابه وصلوا هم الركعة الثانية ، وسلم عليهم » .
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 775 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابونى كان الذي أرادوا ، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ! فما تظن قريش ! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة . ثم قال : مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها » .
--------------------------- 268 ---------------------------

4 - عسكرت قريش في بَلْدَح وعسكر النبي « صلى الله عليه وآله » في الحديبية

عسكرت قريش في بلدح وهو واد قرب مكة عند التنعيم وفخ ، « معجم البكري : 1 / 273 » وفيه ماء كثير وأصنام . طبقات ابن سعد : 2 / 95 والمناقب : 1 / 91 . وكانوا يرسلون دورياتهم إلى مداخل مكة والمناطق القريبة من الحديبية ، وكان قادة الخيل أبان بن سعيد ، وخالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب .
وفى المناقب : 1 / 174 : « قال الزهري : فلما صار بذى الحليفة قَلَّدَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) الهدى وأشعره « جعل له علامة » وأحرم بالعمرة ، فلما بلغ غدير الأشطاط عند عسفان أتاه عتبة الخزاعي فقال : إن كعب بن لؤي وعامر بن لؤي جمعوا لك الجموع ، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : روحوا فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال ( صلى الله عليه وآله ) : إن خالد بن الوليد بالغميم طليعة فخذوا ذات اليمين وسار حتى إذا كان بالثنية بركت ناقته فقال : ما خلأت القصواء ولكن حبسها حابس الفيل ! ثم قال : والله لايسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ! قال فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد القَصَّة « 25 كم عن مكة من جهة جدة » فأتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكان عَيبَة نصح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال كما قال الغير فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، في كلام له بين الصلح والحرب .
فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فأتى قريشاً وقال : إن هذا الرجل يقول كذا وكذا فقال عروة بن مسعود الثقفي : إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقالوا : إئته ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسمع منه مثل مقالته لبديل ورأى تعظيم الصحابة له ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما رجع قال : أي قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ! يقتتلون على وضوئه ، ويتبادرون لأمره ، ويخفضون أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ! فقال رجل من بنى كنانة : إئته ، فلما أشرف عليهم قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البُدْن فابعثوها فبعثت له واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت الحرام .
--------------------------- 269 ---------------------------
ثم جاء مكرز بن حفص فجعل يكلم النبي إذ جاء سهيل بن عمرو فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قد سهل عليكم أمركم ، فجلس وضرع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الصلح ، ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك » .
وفى روضة الواعظين / 62 : « ولقد كنا معه بالحديبية وإذا بقليب « بئر » جافة فأخرج سهماً من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له : إذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه ، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عيناً من تحت السهم » !
وفى المناقب : 1 / 91 : « فجاءت قريش ومعهم سهيل بن عمرو فأشرفوا على القليب والعيون تنبع تحت السهم فقالت : ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل ! فلما أمر الناس بالرحيل قال : خذوا حاجتكم من الماء ، ثم قال للبراء : إذهب فرد السهم ، فلما فرغوا وارتحلوا أخذ السهم فجف الماء ، كأنه لم يكن هناك ماء » !
« قال البراء : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر فقدمناها وعليها خمسون شاة ما ترويها . . فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء . . حتى جرت نهراً . . فارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها . فقال سالم بن أبي الجعد : فقلت لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ! كنا خمس عشرة مائة » . « وعلى الماء يومئذٍ نفر من المنافقين منهم عبد الله بن أُبي ، فقال أوس بن خولي : ويحك يا أبا الحباب ! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه ، أبعد هذا شئ ؟ ! فقال : إني قد رأيت مثل هذا ! فقال أوس : قبحك الله وقبح رأيك ! فأقبل ابن أُبى يريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا أبا الحُبَاب : إني رأيت مثلما رأيت اليوم ! فقال : ما رأيت مثله قط ! قال : فلم قلته ؟ فقال ابن أُبي : يا رسول الله استغفر لي ، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله : يا رسول الله استغفر له ، فاستغفر له . فقال عمر : ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلى عليهم أو تستغفر لهم ! فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأعاد عليه فقال له : ويلك إني خيرت فاخترت ، إن الله يقول : إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يغْفِرَ الله لَهُمْ » . الصحيح : 15 / 225 .
--------------------------- 270 ---------------------------

5 - هدايا خزاعة إلى النبي « صلى الله عليه وآله »

في الصحيح من السيرة : 15 / 356 : « وأهدى عمرو بن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان بالحديبية لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غنماً وجزوراً ، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جُزُراً وكان صديقاً له ، فجاء سعد بالجزر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخبره أن عَمْراً أهداها له ، فقال : وعمرو قد أهدى لنا ما ترى فبارك الله في عمرو . ثم أمر بالجزر أن تنحر وتقسم في أصحابه ، وفرق الغنم فيهم عن آخرها وشرك فيها فدخل على أم سلمة من لحم الجزور كنحو ما دخل على رجل من القوم . . وأمر ( صلى الله عليه وآله ) للذي جاء بالهدية بكسوة » .

6 - ابتلى الله المسلمين بالصيد وهم محرمون

عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال في قول الله عز وجل : لَيبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَئٍْ مِنَ الصَّيدِ تَنَالُهُ أَيدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيعْلَمَ اللهُ مَنْ يخَافُهُ بِالْغَيبِ : « حشرت لرسول الله في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم . ليبلوهم الله به . . نزلت في غزاة الحديبية قد جمع الله عليهم الصيد فدخل بين رحائلهم ، ليبلوهم الله أي يختبرهم » . الكافي : 4 / 396 ، تفسير القمي : 1 / 182 ، تفسير العياشي : 1 / 243 والنوادر للأشعري / 137 .

7 - أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش

خراش بن أمية هو الذي حلق للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في عمرة الحديبية ، « الفقيه : 2 / 239 » فهو قريب من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان أول من أرسله برسالته إلى قريش أنى جئت معتمراً لا مقاتلاً ، فاعترضه معسكرهم وعقر بعيره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله على خلاف ما اتفقت عليه أصول العرب وكافة الناس من عدم قتل الرسول فأنقذته منهم قبيلة الأحابيش ، وعاد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! الطبري : 2 / 278 وابن هشام : 3 / 779 .

8 - حاول مسلمون الذهاب إلى مكة فأسرهم المشركون

« وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة
--------------------------- 271 ---------------------------
السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وعمير بن وهب الجمحي ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . فعُلم بهم فأُخذوا » . سبل الهدى 5 / 48 .
أقول : هؤلاء مكيون كانوا مقطوعين عن أسرهم وأقاربهم ، ويبدو أن عملهم فردي ، وقد يكون بعضهم استأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال لهم إن استطعتم فأدخلوا وقيل إنهم دخلوا بأمان عثمان بن عفان ، ولا يصح ، لأنه هو دخل بأمان من ابن عمه أبان بن سعيد ، مع أنه كان مبعوث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى قريش .

9 - أمر النبي « صلى الله عليه وآله » عمر بالذهاب فخاف فأرسل عثمان

« أراد أن يبعث عمر فقال : يا رسول الله إن عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ولكني أدلك على عثمان بن عفان ، فأرسل إليه رسول الله فقال : انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربى من فتح مكة ، فلما انطلق عثمان لقى أبان بن سعيد فتأخر عن السرج فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم ، وكانت المناوشة ، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان . وقال المسلمون : طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما كان ليفعل فلما جاء عثمان قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أطفت بالبيت ؟ فقال : ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله لم يطف به . ثم ذكر القضية وما كان فيها » . الكافي : 8 / 326 .
أقول : كان أبان بن سعيد بن العاص قائد خيل المشركين مع خالد وعكرمة وضرار ، وكان مكلفاً أن يكونوا بإزاء جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو أخو خال