بحـثـاً عـن النــور

في طريقنا الى البقيع عاود رفيقي تكرار سؤاله:

ما لي أراك ساكتا متفكراً كأنك في عالم آخر.. هل حدث لك شئ؟!

قلت: لم يحدث لي شئ ، والظاهر أني لست أهلاً لأن يحدث لي شئ أو أجد ريح يوسف ! هل نسيت ياصحبي أنا في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله ، وأنها مسكن صاحب الأمر أرواحنا فداه !

لقد شغل فكري حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة ولا بد له في غيبته من عزلة ، ونعم المنزل طيبة ، وما بثلاثين من وحشة !

مسألة بهذه الضخامة ، كيف لا تشغل الفكر والحواس؟!

نور الله في أرضه وحجته على عباده.. يسكن في هذا البلد الذي نحن فيه ولا نبحث عنه ، أو عن أثارة منه ؟ أما قرأت قوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ .

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ .

يعني أن لنوره عز وجل مركزاً في الأرض ، وأنه مثل المشكاة التي يوضع فيها السراج ، وأنه تعالى يضرب هذا المثل للناس الساكنين على الأرض ! فأين هي المشكاة ، وهذا النور الإلهي والمصباح المتوقد ؟

كيف يمكننا أن نقبل أقوال المفسرين بأن الآية التي بعدها: في بيوت أذن الله أن ترفع ، لاعلاقة لها بآية النور ، ونغمض عيوننا عن الحديث النبوي الذي نرويه عن أهل البيت عليهم السلام ، ويرويه السيوطي والثعلبي بأن هذا النور الالهي دائماً في هذه البيوت ، وأنها بيوت الأنبياء والأئمة عليهم السلام ؟!

يقول السيوطى في الدر المنثور:5/50: ( وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال: قرأ رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: في بيوت أذن الله أن ترفع ، فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يارسول الله ؟ قال: بيوت الأنبياء . فقام اليه أبو بكر فقال: يارسول الله ، هذا البيت منها ـ لبيت علي وفاطمة ـ ؟ قال: نعم من أفاضلها) ! انتهى.

وكيف نقنع بتفسير المفسرين لهذه البيوت بأنها المساجد ، وأن مشكاة نور الله في الأرض هي قناديل المساجد التي يضيؤها الناس بالشمع ، والزيت ، والنفط ، والكهرباء ؟!

ألا ترى أن مطلع الآية: الله نور السماوات والأرض ، يمهد للمسألة ويلخصها كلها.. فهو عز وجل نور النور ونور الخلق والفاعليات.. وله في كل عصر نور في الأرض أشبه ما يكون بمصباح في زاوية ، يهدي إليه من يشاء.. وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام إن الله تعالى لا يُخلي أرضه من حجة ، إما ظاهراً مشهوراً ، أو خائفاً مغموراً .

وبعد الزيارة ، اقترح صاحبى أن نجلس عند جدار البقيع ونكمل حديثنا عن الإمام المهدي عليه السلام ، فجلسنا ، وقال:

يعنى أن الإمام المهدي عليه السلام هو مركز النور الالهي في آية النور ؟

قلت: نعم ، فإن مقتضى قوله: مثل نوره كمشكاة ، أن هذه المشكاة موجودة دائماً في الأرض ، لأنه كلام مطلق من حيث الوقت وليس مقيداً بزمان ، والحديث النبوي الذي رواه السيوطي صريح في ذلك !

قال: يعني تقول إن الأفعال الإلهية في الأرض والناس ، تتم بواسطة الإمام المهدي عليه السلام ؟!

- بل أقول إن لله مصباحاً في أرضه هو مركز نوره ، ولاشك أنه كان متمثلاً بالنبي صلى الله عليه وآله ، وكان له دوره في إشعاع النور الالهي ، ودوره في فيض العطاء الالهي أكثر من تصورنا العادي..

ثم لاشك في أن هذا المصباح تمثل من بعده بعلي والأئمة من ولده عليهم السلام ضمن الحدود التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وآله .

أما فهمت من سؤال أبي بكر للنبي صلى الله عليه وآله أنه أراد أن يعرف أن بيت علي وفاطمة ، الذي يؤكد الرسول دائماً أنه بيته وأن أهله هم أهل بيته ، هل هو من بيوت الأنبياء ومراكز النور الإلهي ؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وآله بأنه ليس فقط واحداً منها بل هو من البيوت المميزة فيها !!

أما قرأت سورة القدر وملائكتها المتنزلة في كل عام بكل أمر.. ؟

أما تأملت في هذا التعميم ؟!

إن مقام نبينا صلى الله عليه وآله ومقام أئمتنا عليهم السلام ياصاحبى أعظم مما نتصور ، وأنواع الأفعال الإلهية أكثر مما نتصور، فمنها مايفعله الله تعالى مباشرة ، ومنها مايفعله بواسطة ملائكته وأنبيائه ، أو بواسطة من يشاء من خلقه !

ولعلنا نستطيع أن نجد أضواء على أنوع الفعل الإلهي وقوانينه من القرآن من نسبة الفعل الى الله تعالى بصيغة المفرد المتكلم ، أو بصيغة الجمع، أو بصيغة الغائب !

إن دراسة الأفعال المسندة الى الله تعالى في القرآن ، عن طريق إحصائها وتقسيمها وتحليلها ، يعطينا أضواء هامة على أنواع الفعل الإلهي ووسائله.. إنك تشعر أن في صيغ إسناد الفعل الإلهي في القرآن هدفا ، وأن وراءها قاعدة.. مثلاً بعض الأفعال أسندها عز وجل الى نفسه بصيغة المفرد المتكلم ، وبصيغة جمع المتكلم ، وبصيغة المفرد الغائب ، مثل: أوحيت ، أوحينا ، نوحي ، أوحي.. وبعضها أسندها بصيغة جمع المتكلم والغائب فقط ولم يسندها بصيغة المفرد: بشرنا ، أرسلنا ، صورنا ، ورزقنا ، بينا..الخ. ولم يقل بشرت أورزقت...الخ.

أشعر بأن في الأمر قاعدة ، فإن كلمات القرآن وحروفه موضوعة في مواضعها بموجب حسابات دقيقة وقواعد دقيقة ، كما وضعت النجوم في مواضعها ومداراتها في الكون: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . ولكن استكشافنا للقاعدة في استعمال الفعل سيبقى ظنياً وتخمينياً لأننا محرومون من الذي عنده علم الكتاب روحي فداه !

روى في الإحتجاج أن شخصاً جاء الى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: لولا ما في القرآن من الإختلاف والتناقص لدخلت في دينكم !

فقال له عليه السلام : وما هو ؟

فقال: أجد الله يقول: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، وفي موضع آخر يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ويقول: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ، وما أشبه ذلك ، فمرة يجعل الفعل لنفسه ومرة لملك الموت ، ومرة للملائكة !....

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، تبارك وتعالى هو الحي الدائم القائم على كل نفس بما كسبت ، هات أيضاً ما شككت فيه ؟ قال: حسبى ماذكرت.. قال عليه السلام :فأما قوله: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وقوله: يتوفاكم ملك الموت، وتوفته رسلنا ، والذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم... فهو تبارك وتعالى أعظم وأجل من أن يتولى ذلك بنفسه ، وفعل رسله وملائكته فعله ، لأنهم بأمره يعملون ، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلاً وسفرةً بينه وبين خلقه وهم الذين قال فيهم: الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس.. فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة ، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله، وكل مايأتون به منسوب اليه ، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت وفعل ملك الموت فعل الله لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء ، ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب على يد من يشاء ، وإن فعل أمنائه فعله .

قال صاحبي: يعني نعتقد بأن الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، مضافاً الى دورهم في التبليغ والهداية لهم دور في الفعل الإلهي في الطبيعة والأشخاص والمجتمعات ؟

قلت: لا بد لنا من الإعتقاد بذلك لأن الآيات تدل عليه ، والأحاديث والسيرة صريحة فيه.. أما حدود هذا الدور وتفاصيله فلا نعرفها ، والظاهر أنها من أسرارالله تعالى، فقد بنى سبحانه أكثر أفعاله على الإسرار ، حتى أنه قال لنبيه موسى عن الآخرة: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى !

قال: على هذا يحق للوهابيين أن يتهموننا بأنا مشركون نجعل الأنبياء والأئمة عليهم السلام شركاء لله تعالى !

قلت: تعالى الله عن ذلك.. كيف يجوز لهم أن يتهمونا بذلك بسبب أنا نؤمن بأن لله تعالى مشكاةً ومصباحاً في أرضه هو مَثَلُ نوره ومركز نوره ، وأنه يُنزل عليه ملائكته في ليلة القدر من كل سنة !

لايحزنك ياصاحبي الذين يرمون المؤمنين بالشرك بدون فهم ، واسألهم: إذا ثبت بآية أو حديث صحيح أن الله تعالى يجري قسماً من أفعاله بواسطة ملائكته ورسله وأوليائه ، فقبلنا ذلك وآمنا به، هل نكون مشركين؟!

أما قرأت قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ .

" يعني: أيها النبي قل لهم: أنا تابع لما يأتينى من ربي ، فإذا أخبرني أن له ولداً وأمرني بعبادته فأنا أول العابدين ، لكنه تعالى عن ذلك .

ونحن نقول: إذا دلنا الدليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله على أن الله تعالى يجري بعض أفعاله بواسطتهم ، فنحن نسمع ونطيع ونعتقد بذلك ، وهو عين التوحيد ، ونقول لمن يتهمنا: إفهموا التوحيد قبل أن تتهموا الناس . ولا تضعوا الشروط على ربكم أن تكون أفعاله مباشرة بدون واسطة ، أوتكون بواسطة الملائكة دون غيرهم من البشر والمخلوقات..

أما نحن فنوحده تعالى بدون شروط ، ونقبل أفعاله بأي واسطة أجراها ، ونعتقد بأن فعل أمنائه هو فعله ، على حد تعبير أمير المؤمنين عليه السلام ..

فأي التوحيدين أرقى.. وأعمق ؟

لاتهتم ياصاحبي بتهم الذين يفهمون فضلاً عن غيرهم..

وقل لهؤلاء: أولى لكم بدل أن تتهموا المسلمين بالشرك ، أن تعالجوا مصيبتكم حيث جعلتم ربكم شاباً أجعد قطط الشعر ، يلبس نعلين من ذهب ! فقولوا لإمامكم ابن تيمية أن يعرف ربه بدل أن يكفر الآخرين !

- وماذا يعمل الإمام المهدي في المدينة ، ومع من يعيش ؟

- كما يعمل الخضر ويعيش.. أما قرأت قصة موسى والخضر عليهما السلام في القرآن ؟

- بلى ، وهل يعتقد كل العلماء بأن الخضر عليه السلام مازال حياً يرزق ؟

- نعم ، فقد وردت الروايات الصحيحة عندنا بأنه ما زال حياً ويقوم بعمله ، وثبت ذلك عند أكثر علماء السنة ، فقد ذكر في مجموع النووي في مسألة استحباب تعزية أهل الميت بمصابهم، استدلال العلماء على ذلك بتعزية الخضر عليه السلام لأهل بيت النبي عند وفاته صلى الله عليه وآله .

إقرأ قصة الخضر في القرآن لتعرف أنه مأمور من الله تعالى بعمليات خاصة إذا صح التعبير ، وأن نبي الله موسى قد رافقه ليوم أو يومين فرأى منه ما لم يستطع عليه صبراً !

وقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وآله أنه قال: رحم الله أخي موسى لقد عجل على العالم ، أما إنه لو صبر عليه لرأى منه العجائب !

ومعناه أن نبينا رأى هذه العجائب ! صلى الله عليه وآله

- وماهي هذه العجائب ؟

- ياصاحبي إن إدارة الله تعالى وربوبيته لا يظهر منها إلا جزء واحد ، فهي تشبه كرة الثلح في الماء تسعة أعشارها لاترى !

وكل مرحلة باطنة من إدارته عز وجل أعجب من التي قبلها وأصعب فهماً ، لأنها تتم بقوانين ووسائل أعمق من التي قبلها ! وما أدري أين هو موقع نبينا وآله صلى الله عليه وآله من هذه المراحل ، لكن أدري أنهم نور الله في أرضه يجري على أيديهم ما يشاء من أفعال .

- يعني مثل الرزق والموت والحياة ؟

- وما المانع من ذلك ؟ هل تريد أن تمنع الله تعالى من أن يوكل أحداً بفعل من أفعاله ! أو تمنع عطاءه لأنبيائه عليهم السلام !

ما المانع من أن يأمرهم الله تعالى بشئ من ذلك ويعطيهم القدرة عليه ، فيفعلونه بأمره وإذنه ، لابأمرهم وقدرتهم ، فإنما هم عباد مخلوقون ليس لهم من الأمر شئ ، لكنهم أيضاً عبادٌ مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

- وهل يوجد الآن غير الخضر والإمام المهدي عليهما السلام مأمورون بهذا النوع من العمليات الخاصة ؟

- لاتضع قيوداً على فعل ربك: وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ! تقول بعض الروايات: قال موسى عليه السلام : بينا أنا والخضـر على شاطئ البحـر إذ سقط بين أيدينا طائر فأخذ في منقاره قطرة من ماء البحر ورمى بها نحو المشرق، وأخذ منه ثانية ورمى بها نحوالمغرب ، ثم أخذ ثالثة ورمى بها نحو السماء ، ثم أخذ رابعة ورمى بها نحو الأرض ، ثم أخذ خامسة وألقاها فى البحر، فبهتُّ أنا والخضر من ذلك وسألته عنه؟ فقال: لا أعلم . فبينا نحن كذلك وإذا بصياد يعمل في البحر فنظر إلينا وقال: ما لي أراكما في فكرة من أمر هذا الطائر ؟ قلنا له: هو ذاك . فقال: أنا رجل صياد وقد علمت إشارته ، وأنتما نبيان لاتعلمان؟! فقلنا: ما نعلم إلا ما علمنا !

من هذه الرواية نعرف أن لله تعالى أولياء معتمدين متعددين يجرى مايريده من أفعال بواسطتهم ، لكن يبقى للإمام المهدي عليه السلام موقعه المميز في جنود الله تعالى وأوليائه .

- تقصد أن الإمام المهدي أفضل من الخضر عليهما السلام ومن ذلك الصياد ؟

نبينا صلى الله عليه وآله أعلم من الخضر لأنه أعلم الأنبياء وأفضلهم على الإطلاق والأئمة عليهم السلام من عترته أوصياؤه وورثة علمه عليهم السلام ، وطبيعى أن يتناسب علم الوصي النائب مع علم الموصي المنوب عنه ، فإذا كان ابراهيم عليه السلام أعلم من الأنبياء الذين قبله وأفضل منهم عليهم السلام ، فلا بد أن يكون أوصياؤه أعلم من أوصياء الأنبياء قبلهم عليهم السلام . ولهذا فإن أئمتنا أفضل الأوصياء وأعلمهم على الإطلاق.. فهل تعجب أن يكونوا أعلم من الخضر عليهم السلام .

أسألك يا مرتضى: هل تعتقد بصدق النبي صلى الله عليه وآله وعصمته، يعني إذا أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله عن مقامه ومقام أهل بيته عن الله تعالى ، فهل تعتقد أن إخباره صحيح مشمول لقوله تعالى عن نبيه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هو إِلا وَحْيٌ يوحى؟ أم تتهم النبي صلى الله عليه وآله كما قال الذين في قلوبهم مرض: إنه بشر يتكلم في الرضا والغضب ، وقد يمدح فيخطئ أو يذم فيخطئ !

- معاذ الله أن أقول ذلك ، بل أقول إنه في كل كلامه صادقٌ ، مؤيدٌ من ربه ، لا ينطق عن الهوى .

- إذن ليكن معلوماً عندك أن النصوص الثابتة القطعية تقول إن مسألة النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله مسألة مميزة من الأساس ، وأن الله تعالى قد خلق نور محمد وأهل بيته عليهم السلام قبل أن يخلق آدم وينفخ فيه من روحه !

كنت رأيت هذه النصوص في مصادرنا ، ثم رأيتها في مصادر إخواننا السنة ، وحتى في مؤلفات بعض المؤلفين الذين يقللون من أهمية أهل البيت عليهم السلام ما وجدوا الى ذلك سبيلاً !

وأخيراً قرأت ذلك عند المسعودي في مقدمة تاريخه مروج الذهب ، وهو مؤرخ سني ، وقد تحدث على عادة المؤرخين عن بداية خلق العالم ، وأورد حديث خلق النور المحمدي قبل خلق آدم ، مما يدل على أن هذه النصوص كانت معروفة عند المؤرخين أيضاً !

قال المسعودي: 1/32 :

( فهذا ما روي عن أبي عبدالله جعفر بن محمد، عن أبيه محمـد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي، عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب كرم الله وجهه:إن الله حين شاء تقدير الخليقة وذرأ البرية وإبداع المبدعات ، نصب الخلق في صور كالهباء قبل دحو الأرض ورفع السماء ، وهو في انفراد ملكوته وتوحد جبروته ، فأتاح نوراً من نوره فلمع ، ونزع قبساً من ضيائه فسطع ، ثم اجتمع النور في وسط تلك الصور الخفية فوافق ذلك صورة نبينا محمد صلى الله عليـه وسلم ، فقال الله عز من قائل: أنت المختار المنتخب ، وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتى ، من أجلك أسطح البطحاء، وأمرج الماء، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار ، وأنصب أهل بيتك للهداية ، وأوتيهم من مكنون علمي ما لايشكل عليهم دقيق ولايعييهم خفي ، وأجعلهم حجتي على بريتي ، والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي .

ثم أخذ الله الشهادة عليهم بالربوبية والإخلاص بالوحدانية ، فبعد أخذ ما أخذ جل شأنه ببصائر الخلق انتخب محمداً وآله ، وأراهم أن الهداية معه والنور له والإمامة في آله ، تقديماً لسنة العدل ، وليكون الإعذار متقدماً ، ثم أخفى الله الخليقة في غيبه وغيبها في مكنون علمه ، ثم نصب العـوامل وبسط الزمان ، ومرج الماء وأثارالزبد وأهاج الدخان فطفا عرشه على الماء

فسطح الأرض على ظهر الماء ، وأخرج من الماء دخاناً فجعله السماء ، ثم استجلبهما إلى الطاعـة فأذعنتا بالإستجابة ، ثم أنشأ الله الملائكة من أنوار أبدعها وأرواح اخترعها ، وقرن بتوحيده نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فشهرت في السماء قبل بعثته في الأرض ، فلما خلق آدم أبان فضلـه للملائكة ، وأراهم ما خصه به من سابق العلم من حيث عرفه عند استنبائه إياه أسماءالأشياء ، فجعل الله آدم محـراباً وكعبـة وبابـاً وقبلــةً أسجــدَ إليهـا الأبرار والروحانيين الأنوار ، ثم نبه آدم على مستودعـه وكشف لـه خطر ما ائتمنـه عليه ، بعد ما سماه إماماً عند الملائكة ، فكان حظ آدم من الخير ما أراه من مستودع نورنا ، ولم يزل الله تعالى يخبئ النور تحت الزمان إلى أن فضل محمـداً صلى الله عليه وسلم في ظاهر الفتـرات ، فـدعا الناس ظاهـراً وباطناً ونـدبهم سراً وإعلاناً ، واستدعى عليه السلام التنبيه على العهد الذي قدمه إلى الذر قبل النسل ، فمن وافقـه وقبس من مصباح النور المقدم اهتـدى إلى سـره ، واستبان واضح أمـره ، ومن أبلستـه الغفلة استحق السخط .

ثم انتقل النور إلى غرائزنا ولمع في أئمتنا فنحن أنوارالسماء وأنوار الأرض ، فبنا النجاء ومنا مكنون العلم وإلينا مصير الأمور ، وبمهدينا تنقطع الحجج ، خاتمة الأئمة ، ومنقذ الأمة ، وغاية النور، ومصدر الأمور ، فنحن أفضل المخلوقين ، وأشرف الموحدين ، وحجج رب العالمين ، فليهنأ بالنعمـة من تمسك بولايتنا ، وقبض على عروتنا ). انتهى. ( وشبيه به في تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنبلي/128!) .

إسمع يامرتضى: إن الله تعالى يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً . ويقول عن الخضر: فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ، ولكن هل تعتقد أن الله تعالى أعطى الخضر وآل ابراهيم أكثر مما أعطى محمداً وآل محمد ؟ كلا ، ولكنه تعالى لم يذكر ذلك في القرآن لأن أمة النبي صلى الله عليه وآله لاتتحمل تفضيل محمد وعترته الى يوم القيامة ! وقد رأينا أنهم عاملو أهل بيت النبى صلى الله عليه وآله بأسوأ ماعاملت فئة تطلب السلطة أسرة نبيها من بعده !!

إن الخضر عليه السلام مكلف بما يؤمر به من علم الباطن، وموسى عليه السلام مكلف بما يؤمر به من علم الظاهر ، ونبينا وأئمتنا عليهم السلام مكلفون بما يؤمرون به من علم الظاهر والباطن !

قال: وهل يعقل أن يكون إنسان واحد مكلفاً بعلم الظاهر والباطن معاً ؟! فنحننرى أن علم الظاهر والباطن لم يستطيعا أن يتعايشا معاً لمدة قصيرة في قصة موسى والخضر ، حتى قال له الخضر: هذا فراق بيني وبينك !

- أسألك يا أخ مرتضى: هل يمكن أن يكون في جيبك مال وتحتاج الى إنفاقه ولاتنفقه ؟

- نعم يمكن ، ولكن هل هذا مثل أن يعلم الإنسان علم الباطن ولكنه يعمل بعلم الظاهر؟

- نعم هذا شبيه به ، ولكن أسألك سؤالا آخر: هل يمكنك أن تكون على علم بأن صديقك فلاناً سوف يموت في هذه السنة ولا ترتب على علمك بذلك أثراً أبداً ؟ وهل يمكنك أن تصبر على عداوة عدوك ، وأنت تستطيع أن تدعو الله عليه فيستجيب دعاءك ويهلكه ؟

قصدي من هذه الأسئلة أنك إذا ملكت وسائل وأسباباً غير عادية ، أو قدرة على صنع المعجزة ، هل تستطيع أن تعيش بالأسباب العادية والقوانين الطبيعية ؟

- لا أظن أني أستطيع ذلك ، ولذا أقول إنه لايمكن للإنسان أن يجمع بين علم الباطن ، والعمل بعلم الظاهر ، أما نبينا وأهل بيته صلى الله عليه وآله فيمكنهم ذلك بمعونة الله تعالى وعصمته ، وهذا هو الفرق بينهم وبيننا !!

قم بنا يا صاحبى فقد طال بنا الجلوس..

ومن ذلك اليوم لم يعفني صاحبي من أسئلته واستفهاماته عن مكانة الإمام المهدي عليه السلام عند الله تعالى ، وعن معيشته وعمله.. وكأن ذلك صار شغله الشاغل ! وصار الجلوس عند جدار البقيع لمدة طويلة محبباً اليه !..كان يجلس طويلاً متفكراً أو يقرأ القرآن.. أو يذكر الله تعالى..

رأيته يوماً جالساً هناك.. فجلست اليه وقلت له: حدثني يامرتضى عن عالمك ، بماذا تفكر؟

- بل أنت حدثني عن تنزل الملائكة في ليلة القدر وما هو البرنامج الذي يأتون به الى صاحب الأمر روحي فداه ؟

- وما علمي بذلك يا مرتضى.. الذي أعرفه من ذلك قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، وقد ورد في الرواية أن عمر بن الخطاب سأل النبى صلى الله عليه وآله لماذا يرقُّ قلبه عندما يقرأ هذه السورة أكثر مما يرق لغيرها ؟ فأعاد النبي قرائتها حتى وصل الى قوله تعالى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . ثم قال لعمر: وهل بقي بعد هذا شئ ، قال: كلا !

هذا الحديث يدل على تنوع الأوامر والأمور النازلة في ليلة القدر على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله أو على قلب حجة الله في أرضه عليه السلام ! وقد وردت روايات عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام تؤكد هذا المعنى وتذكر بعض التفاصيل.

- إنها مسألة كبيرة ، وقد وصلت الى أن ترك التفكير فيها أولى ، أليس كذلك ؟

- التفكير يوصلنا الى معرفة أشياء كثيرة ، ولكن ما ينزل في ليلة القدر لايمكن معرفته بالتفكير فيه ، ولا نحن مكلفون بذلك.. إنما يجب علينا أن نؤمن بقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، على عمومه وإجماله .

قال مرتضى: فكرت في هؤلاء الثلاثين الذين يلتقي بهم صاحب الأمر روحي فداه ، فوصلت الى أنه قد يعطي كل واحد منهم قسماً من برنامج السنة ويأمره بتنفيذه ، أليس كذلك ؟

- هذا محتمل ، كما يحتمل أن تنزل طريقة تنفيذ البرنامج معه ، فلا يمكننا أن نعرف بالتفكير طريقة عمل الإمام المهدي أرواحنا فداه .

- كذلك فكرت في قصة الخضر في القرآن فرأيت أن محور أعماله هو مساعدة المؤمنين وخدمتهم في أمور معيشتهم مثل أصحاب السفينة الذين خلص سفينتهم من المصادرة ، والغلامين اللذين حفظ لهما كنزهما ، أو دفع الضرر والضلال عنهم مثل والدي الغلام الشرير .

كما فهمت من قصة الخضر عليه السلام أنه شخص متجول وليس مقيماً في مكان واحد ! فقد ركب في السفينة وقصد قرية واحدة أو عدة قرى ، وكان له في كل مكان هدف وعمل . وعلى هذا يمكن أن نقول بأن أعمال صاحب الأمر وجماعته روحي فداهم تدور حول خدمة المؤمنين مادياً ومعنوياً ، وأنهم متحركون لا يقيمون في مكان واحد .

- نعم هو كذلك ، وقد ورد في كنز الغلامين أنه كان لوحاً من ذهب مكتوب عليه العلم والحكمة ، فتكون خدمه الخضر لهما خدمة في أمر معيشتهما وفي هدايتهما معاً .

- إذن مامعنى الرواية التي تقول إنهم يقيمون في المدينة المنورة ؟!

- المدينة مقر إقامتهم ، ولا يمنع ذلك من تحركهم وتجولهم .

وتركت صاحبي جالساً عند جدار البقيع ، يتأمل ويتمتم بذكر الله تعالى..

جاءني مرتضى يوماً الى مسجد النبي صلى الله عليه وآله وقال باهتمام: أرجوك أن تأتي معي بعد ظهر اليوم الى المسجد ، فقد صادفت رجلاً ورأيت منه أمراً عجيباً ، ودعوته لزيارتنا فلم يقبل وقال لى: إذا أردت أن ترانص أنت وصاحبك فلان وسماك باسمك ، فأنا بعد الظهر في الساعة الفلانية في الموضع الفلاني من المسجد.. أرجوك يا سيدي أن تذهب معي الى ملاقاته .

- وما ذا رأيت منه ؟

- كنت جالساً عند جدار البقيع فوقف عليَّ وقال: يا مرتضى لا تتعب نفسك بالتفكير فيما لم تكلف به ، ولا تتعب نفسك في البحث عن أولياء الله تعالى ، فإن كان مقسوماً لك أن ترى منهم أحداً فإنك ستراه .

قلت له: أشكرك أيها الأخ ، ولكن من أين عرفت إسمي ؟

قال: أخبرني به شخص في المسجد وأمرني أن أقول لك: لا صوم للمسافر في المدينة أكثر من ثلاثة أيام ، وليس من العبادة مافعلته من ترك الطعام والشراب !

قلت لمرتضى: وهل كنت تركت الطعام والشراب ؟ قال: نعم ، كنت صمت ثلاثة أيام ، ثم أمسكت يومين عن الطعام والشراب إلا يسيراً جداً .

- ثم ماذا رأيت من الرجل ؟

أخبرني بأمور مرت عليَّ في حياتي وبعضها لايعلمها إلا الله تعالى ، وأخبرني عن بعض ما سيحدث لي ، وعن مقدار ما بقي من عمري ! أنا مطمئن بأنه صادق ، وقد سألته هل يمكنني أن أخبر أحداً بحديثه معي فسمى لي شخصين أنت أحدهما !

بقيت أفكر في أمر مرتضى مع هذا الرجل.. وقلت في نفسي: أرجو أن لايكون مرتضى من الذين يؤثر عليهم شدة الخيال والرغبة في وقوع الشئ الى درجة أنهم يتصورون أن ما يتخيلونه قد وقع وتحقق ! إن مرتضى سليم البدن والحواس ، وذهنه سليم أيضاً بعيد عن الإغراق والتخيل، بل يبدو أنه بطئ التصديق بالكرامات والغيبيات كأمثاله من المثقفين الموظفين . لكن مجرد احتمال أن يكون الأمر صحيحاً أمر مهم، وسوف أمتحن الرجل برسالة أبعثها معه الى صاحب الأمر روحي فداه !

وذهبت مع مرتضى في موعدنا ، وقصد المكان المحدد في المسجد فتفحص الوجوه حتى رآه ففرح بذلك وقال: هذا هو ، مشيراً الى رجل يقرأ القرآن كأنه من أهل اليمن ، وأسرع إليه وتبعته فجلس أمامه على ركبيته وسلم عليه ، فنظر إلينا الرجل وقال: وعليك السلام يامرتضى ، وعلى صاحبك فلان ، وسماني . وأشار لنا بالجلوس فجلسنا الى جانبه فقال له مرتضى:

- هل تأذن لنا بالسؤال ؟

قال اليماني: تفضل يا مرتضى سل عما يعنيك ودع مالا يعنيك .

قال مرتضى: هل يمكنك أن تخدمني خدمة وأكون لك مديناً كل حياتي ؟

- ما هي ؟

- أن تأخذني الى لقاء سيدي ومولاي صاحب الأمر روحي فداه .

فانتفض الرجل قائلاً: إنك يا مرتضى تطمع في أمر عظيم ، وتسألني مالا أملكه . لاتذهب بك المذاهب فتظن أن لي مقاماً عند صاحب الأمر روحي فداه ، فإنما أنا رجل عادي أحضر في بعض مجالس المؤمنين، وقد كلفني أحدهم أن أذهب اليك عند جدار البقيع وأن أبلغك مابلغتك ، وذكر لي اسم صاحبك هذا .

قال له مرتضى: يعني أنت لم تتشرف برؤيته روحي فداه ؟

فانحدرت دموع اليماني وتحشرج صوته ، وقال:

يامرتضى ، ليس كل من تشرف برؤيته صار من أصحابه وصار بإمكانه أن يأخذ الآخرين الى ملاقاته ! لاتهونوا من مقامه روحي فداه ، ولا تتصوروا أن أصحابه من أمثالي إن أصحابه أولياء الله الكبار أهل الإيمان واليقين والبصيرة ، الذين أخلصوا دينهم وعملهم لله تعالى فأخلصهم لعبادته وخدمة حجته ، وأنا لا أبلغ أن أكون منهم ، إنما أنا رجل عادي أجلس مع أصدقاء كلهم أعلم مني وأتقى ، وربما كلفني أحدهم بإبلاغ رسالة أو عمل ، فأقوم بما أمرت به .

قال له مرتضى: يعني تنصحني أن لا أحاول التشرف بلقائه روحي فداه ؟

قال اليماني: لا أنصحك بهذا ، لكن أنصح نفسي وأنصحك بأن نكون من أصحاب اليقين والطاعة .

قال مرتضى: أرجوك أن تحدثني عن مولاي وعن أصحابه .

فقال: نعم ، إن الله عزوجل لا يترك أرضه بدون حجة على عباده ، وإن حجة الله في أرضه مقام عظيم ، وإن سيدي ومولاي روحي فداه خاتم الحجج وخاتم الأوصياء ، أقرب أهل الأرض الى الله عز وجل وأعلمهم به وأطوعهم له ، وأشبه الناس بجده خاتم النبيين صلى الله عليه وآله في خلقه وخلقه ومنطقه ، لاينطق عن الهوى ولا يعمل إلا بالهدى ، ولا يختار لصحبته ومعونته على أمره إلا بتسديد ربه ، فأصحابه أهل اليقين والتقوى والبصيرة في الدين والدنيا ، كل واحد منهم ميسر لما خلق له ومشغول بما أمر به ، يعي ما يأمره به مولاه ويفهم إشارته ، ويدرك هدفه ، ويفديه بروحه ، لا يبتغون بعلمهم ومقامهم شيئاً من حطام الدنيا ولا مقامها، إلا رضا سيدهم عنهم ورضا ربهم برضاه . أولئك أمناء الله على سره ، ومنفذوا إرادته في عباده ، وثمرات بني آدم في كل عصر .

قال مرتضى: ما هي أحسن صفة تعجبك فيهم ؟

قال اليماني: أكثر ماينفعك من صفاتهم: توكلهم على الله تعالى ويقينهم بأمره ، فتراهم لا يشغلون أنفسهم بما لم يكلفوا به ويحصرون همهم فيما أمروا به أو نهوا عنه .

قال مرتضى: الآن فهمت معنى كلامك لي عند البقيع: أترك عنك لزوم ما لا يلزم ، وماكان من عمل الله تعالى فدع عنك همه ، وما كان من عمل الناس فدع لربك حسابه ، واحصر همك فيما جعله الله عليك !

قال مرتضى: أسألك يا سيدي بحق مولاي ومولاك إلا دعوت لي الله تعالى أن يعينني على نفسى وطلبت لي من مولاي الدعاء ؟

قال اليماني: أفعل إن شاء الله .

ونهض الرجل مودعاً وغادر المكان ، وبقيت أنا ومرتضى كأنما تسمرنا في مكاننا ، ينظر أحدنا في وجه صاحبه ، ثم نطرق مع أنفسنا ، أو تنحدر من عيوننا الدموع !

قلت لصاحبي: قم يا مرتضى لنجلس في مكانك المحبب عند جدار البقيع ونتحدث فيما جرى !

قال: ألا نلحق بالرجل ، فلعلنا نجده .

قلت: لاتجده ، ولا أظننا نراه بعد اليوم .

قم ياصاحبي ، فهذا كثير علينا .