صنـعوها في البحـرين

في تلك الأيام والحاجة ملحَّة الى سُبَح كربلاء وتُرَبها ، توصل بعض البحرينيين الى جلب تراب من كربلاء الى البحرين ، وصناعة ترب وسبح منه . وقد أهدى لي أحدهم واحدة منها ، فكتبت :

صنعوها في البحرين.. في بيت طاهر..

شاطؤهم مغسولٌ بأمواج القرون ، وقلوبهم بالدموع على الزهراء عليه السلام ..

من أبناء الغواصين الأوائل الذين عرفوا اللؤلؤ قبل الناس.. وخبروا محاراته الملأى ، واستخرجوا منها لأهل الدنيا أغلى زينة..

من أبناء الأوفياء الأوائل الذين قال لهم الرسول صلى الله عليه وآله : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي.. فقالوا سمعنا وأطعنا ، واحتضنوا في محارات قلوبهم لؤلؤتين ، فَنَمتَا واتحدتا وصارتا لؤلؤتين في واحدة ، كأكبر ما يكون اللؤلؤ ، وأبهى وأغلى .

باعوا اللؤلؤ للعالم بالغالي والداني ، أما لؤلؤ محبتهم فباعوا له كل شئ ليَسْلم لهم ! لا أعرف أكثر منهم سخاء من أجله ، حتى بالروح !

يقولون إن لؤلؤ محبة أهل البيت عليهم السلام إن بذلت له روحك ، انتقل من محارة القلب إلى محارة الروح ، ونما فيها نمواً خاصاًً و صار مشعّاً !

صنعوها بالأنامل.. وبسيط الوسائل.. يأخذون قطعه من الطين المقدس باسم الله ، ويحولونها إلى حُبَيْبات ، ثم يُجففونها وينظمون منها مسابيح كربلاء.. صناعة لا كالصنائع ، وبضاعةٌ لا كالبضائع.. اهتدى لها والدهم في عهد حصار كربلاء.. يوم قلَّ وصول السبح الحسينية ، وتلهف لها المحبون..

يومها.. قصد كربلاء واستطاع الوصول إلى مشهدها.. فزار الحسين عليه السلام عن أهل البحرين ، واستأذنه في أن يحمل شيئاً من تراب بقعته المباركة إلى بلده ليصنع منه مسابيح لمواليه.. وعاد إلى بيته يحمل لأطفاله هدايا ، لكن فرحة الكبار والصغار بصندوق التراب كانت أكبر..

أعدوا مكانه بدقة.. طهَّروا الغرفة وبَخَّروها.. ثم وضعوا الصندوق على منضدة في زاويتها.. يأخذون من ترابه ويصبون عليه ماء زمزم ، ويصنعون منه عجين السبح الحسينية..

ماء زمزم ، وتراب كربلاء ، التقيا في بيت مؤمن في البحرين ، فكان لهما حنين وأشواق ، بدموع بحرانية .

قال تراب كربلاء: أنت يا ماء زمزم أسعد حظاً من الفرات ، لقد شرب منك الحسين وأصحابه وارتووا.. لكنهم منعوهم من ماء الفرات وقتلوهم عطاشى ، فأحسست بدمائهم حارَّةً حارة ، تغلي وتضطرم..

قال ماء زمزم: لهفي على دم الحسين وعطش الحسين وأصحابه.. إني أشم منك ريحهم فما أطيبه وأشجاه..

واجتمع في البحرين.. ماء زمزم وتربة الحسين.. فتلاقت المعاني الكبار.. من هاجر وإسماعيل وفاطمة والحسين.. والمعاني الأكبر.. من إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وآلهما..

كان ينبغي اختبار استعداد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للفداء.. فكان مشهد منى.. ولم يكن ينبغي اختبار محمد صلى الله عليه وآله ، بل يكفي إخباره فقط ، فأخبره الله تعالى بفداء كربلاء، فأخبر ولده الحسين عليه السلام بذلك فقال: رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر علي بلائه ، ويوفينا أجور الصابرين .

وسقى أهل البحرين ماء زمزم لتربة الحسين ، ونظموا منها سُبَحاً في أيدي الذاكرين.. كل واحدة منها قصيدة من مئة بيت وبيت.. وكل بيت منها مطلع.. وكلا شطريه مصرع..

قصيدة دونها المعلقات..يفهمها المؤمنون والملائكة ويستعيدون إنشادها..

أما أصحاب الأذهان المسطحة فيقولون: كلام ، ومسبحة من طين !

تفهمها عجائزنا في قراهن .. ويُجِدْنَ أصول إنشادها ، فقد ورثن كلماتها من بنت أفصح ناطق بالضاد ، يوم أهدى إليها الرسول كلماتها ، تكبيراً وتحميداً ، وتسبيحاً ، فكانت تشيد الإنشاد..

صنعت الزهراء سُبْحَةً من تربة قبر حمزة ، نظمتها في خيط أزرق.. حتى جاء جبريل إلى أبيها بهدية من تربة كربلاء ، فكانت منظومة كربلاء .

يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ.. ولو كان داود في عصرنا لاستبدل إنشاده بإنشاد نبينا صلى الله عليه وآله وقال: هذا إنشاد تؤوب معه ملائكة الملأ الأعلى !

جميلة منظومة أهل البحرين ، لتلحين نشيد الزهراء..

وفي الدنيا ألحانٌ.. لو عرفها المغنون ، لعافوا ألحانهم !

ألحان أهل الدنيا وقصائدها تقول للإنسان :

إنما الحياة بدنك والشهوات.. ثم النهاية !

تقول له ذلك: آخر مقطوعات الموسيقى الأمريكية.. وأحدث صالات الغناء.. وأبلغ قصائد الملك الضِّلِّيل امرئ القيس ، والسفير الضليل نزار القباني.. فيرى أن أجمل ما في الدنيا.. لهوها ، وخمرها ، وزناها ، فيتيه في أوديتها.. بينما يواصل الكون نشيده ، عابراً عن هذا الغائب المخمور !

الكونُ يواصل أنشودته من يوم ولادته.. من أول ما بدأ شريط الزمان..

وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، وكل واحد بلغته.. وله نشيده وألحانه.. أما نشيد الأنبياء عليهم السلام فهو النشيد الأكبر ، ينتظمها جميعاً ويحدو بها !

وأنشودة الكون لايراها مسطح الذهن ، ولا يحس بها مخمور ، بل يسمع عنها الناس.. أما المؤمنون فمفتوحة لهم النوافذ !

في يوم من الأيام أمر الله بلاد التين والزيتون ، بجبالها وحيوانها وطيورها وأسماكها ، أن تنشد بنشيد الإنسان النبي.. فكان داود يقرأ التسبيح بألحانه ، و.. يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ .

حتى إذا جاء محمد صلى الله عليه وآله ، حباهُ الله بختام أناشيد التسبيح ، فأهداه الرسول لابنته الزهراء وسماه باسمها.. ويا أجيال المسلمين سبحي بتسبيحها ، حتى يأتي ابنها المهدي عليه السلام فينشده ، فيؤوِّب معه سكان الأرض والسماء !

في الدنيا أنواع الجواهر.. أخرجها الله لعباده من بواطن الأرض ، وقيعان البحار.. زينةً وآية..

فيها الياقوت الأحمر ، الذي يذرف توت الشام دموعه شوقاً اليه..

ودر النجف النابت في الأرض.. يضاهي البَرَد النازل من السماء..

والألماس الأخَّاذ.. الذي تمكنوا بعد آلاف السنين والتجارب ، أن يصنعوا له شبيهاً ، ولو بلا روح..

وفيها اللؤلؤ والمرجان.. واللَّعْلُ والزَّبرجد.. واليُسْرُ والزَّهْر.. ومن جميعها تصنع العقود والمسابيح.. لكنها جميعاً لاتساوي حبة من سبحة كربلاء !

وكيف يقاس المادي بالمعنوي.. والمظلم بالمنير.. والصامت بالمتكلم؟

توصَّل العلم الى أن إشعاع الياقوت ينطلق خيوطاً وحزماً مفردة متفرقة.. تذهب بعيداً بعيداً.. ثم تجتمع في مركز .

فكثروها وكثفوها ، وحصروها في نقطة تجمعها كالماء المحبوس ، أو كالخيل الملجمة تنفلت من أبواب سباقها لتجتمع في الغاية والهدف !

فكانت أشعة الليزر بنت الياقوت !

لكن ما ندري هل سيجد العلم أشعة تربة كربلاء التي تنطلق منها عند السجود عليها ، فتعبر أعماق المجرات حتى تصل الى العرش ، ثم تنعكس نوراً في قلب الساجد !

أما أهل البحرين فقد وجدوا ذلك ، فهم لا يحتاجون في ذلك الى انتظار وسائل العلم مهما كانت متطورة.. لأن الذي أخبرهم عنده نافذة مفتوحة على الغيب ، وهو أصدق وأدق من وسائل العلم !

ووصل العلم الى أن الجماد يختزن الكلام ويعيده.. لكن لم يصل الى أن سبحة كربلاء تسبِّح في يد حاملها نيابةً عنه !

وقد وجد أهل البحرين ذلك وآمنوا به ، لأن الصادقين أخبروهم به.. وقد قال لهم ربهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ .