العنوانملخصالموضوعتاريخ النشرتحميل
مقدمة الصحيفة السجادية

مقدمة الصحيفة السجادية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهربن ، الذين اصطفاهم وجعلهم قدوة للمسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم : ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ، فكانوا منار الهدى بعده وعلموا المسلمين معالم دينهم وعبادة ربهم ودعاءه ، وكان أبرز ما أثر عنه عليهم السلام في الدعاء صحيفة الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام ، التي عرفت باسم: (الصحيفة السجادية) ، وقيل فيها: إذا أردت أن يكلمك الله تعالى فاقرأ القرآن ، وإذا أردت أن تكلمه ، فاقرأ الصحيفة السجادية .
إن أبرز ما عرف به الإمام زين العابدين عليه السلام : تَأَلُّهُهُ وتَعَبُّدُهُ وحُبُّهُ لله تعالى ، حتى سميَ: (شاعر الله) وسميت صحيفة أدعيته: (زبور آل محمد صلى الله عليه وآله)مقابل: (زبور آل داود عليه السلام) الذي أنزله الله عليه وكان فيه مناجاة وأدعية !
فالإمام عليه السلام متألهٌ ، كل حبه لربه ، وكل فكره وذكره وخشوعه ودموعه ، في يومه وليله ، وحله وترحاله.. وهو مع ربه عز وجل في غاية الأدب ، ينتقي في تصرفاته الحركة والسكون ، لأنه يعيش في محضر ربه عز وجل .
وهو شاعر الله ، فلربه كل مدائحه وقصائده ، يخصه بأبلغ المعاني وأعلى الكلام !
والى الآن لم نر دراسةً في تألُّه الإمام عليه السلام وغيره من المعصومين عليهم السلام ، تكشف أبعاد حضور الله تعالى في فكرهم وشعورهم وعملهم ، ونوع جديتهم وصدقهم وعمقهم في تعاملهم مع ربهم عز وجل . كأدعية الإمام زين العابدين عليه السلام ، بشفافيتها الخاصة ونسيمها السماوي !
إن الصحيفة السجاديةكتابٌ لم يعرفه الناس ، وأول ما تنظر فيه تَبْهُرُك فيه قدرة معماره على بناء العبارة العربية ، فهو أقدر من المؤلف البليغ الممسك باللغة وتراكيبها !
تجد مفردات العربية تدور فيه كالنجوم أفعالاً وأسماءً وحروفاً وصَِغَ تعبير ، تعرض نفسها على أنامل فكر الإمام عليه السلام ليجعلها آجرَّةً في أحد صروحه ، أو لُحمةً في إحدى لوحاته .
فالكلمة عند الإمام عليه السلام موجود حيويٌّ، ينتقيها من أسفاط اللغة كما ينتقي الخبير جواهره ، فيصوغها ويصوغ بها . كما أنها موجود حيويٌّ بمحيطها الذي يضعها فيه الإمام فتُحْييه ويُحْييها .
وبخيوط ارتباطها التي يبتكرها الإمام في حروف التعدية فيشد بها الأفعال والأسماء والحروف . فتتقابل الكلمات والفقرات والحروف وتتناغم وتضئ ، في جدلية وتبادلية خاصة غنية .
والفكرة عنده عليه السلام روحٌ تنبض في الكلمة وتنبض بها ، تجئ قادمةً من أفق أعلى ، غنيٍّ غزير ، ينساب في الروح ، ويلذُّ للعقل ، ويناغي أوتار النفس . تنحدر من أفقٌ جمالي عالٍ ، بأروعَ من عقد الجوهر ، وأجمل من نظيم الورد ، معانيَ ونسيماً ، جائيةً من منابع الغيب الغنية .
جميل ، والإمام لا يرى ما يعكر ذلك حتى خطايا الإنسان ، وحتى القوانين والمقادير .
صفاءٌ في الذهن ، ونقاءٌ في الفكر ، وشفافيةٌ في الروح ، كوَّنت شخصية الإمام زين العابدين عليه السلام وعاش بها بصدقٍ ، فاتَّحَدَ في شخصيته نمط السلوك بفكر العقيدة ، برفرفات الروح، فلا فاصلة بين النظرية والتطبيق والقول والعمل !

المقالات
العــــُـــصبة الياطــــرية

يعرف الانسان العصبة الشخصية ، والعصبة لأبويه وأسرته ، والعصبة لعائلته وعشيرته ،

لكن أرفعها وأحبها الي : العصبة لقريتي وبلدي ومنشئي ومدرجي ،

أحب ياطر بكلها ، بتلاوينها ، بكل عوائلها ، بكل روابيها واوديتها ،

بأزقتها وساحاتها ، بشيبها وشبابها ، برجالها ونسائها ،

بلهجتها العاملية الأصيلة ، وصباحها المتنفس بعطر الحياة ، ومسائها الهادي بسكون الإيمان .

تقول لي : العصبة والتعصب مذموم ، فأقول : كلا ،

نعم بعض العصبة كفر ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

" من تعصب او تُعصِب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه .

لكن بعضها إيمان وهدى : فقد قال الإمام زين العابدين عليه السلام :

" العصبية التي يأثم عليها صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار غيرهم ،

وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن يعينهم على الظلم " .

وقال النبي صلى الله عليه وآله : " حب الوطن من الايمان " .

فإن كنت متعصباً لشيئ مما يحيط بك ، فتعصب لبلدك ومنبتك ومدرجك ،

ومسكنك ومأواك ، وممرك ومقرك ،

لبلدة تفتَّح فيها وجودك ، وتنفست رئتاك أول ما تنفست هواءها العذب العليل .

1. أتعصب لقريتي :

يعني أعتز بالإنتماء اليها ، فهو قدري الذي اختاره لي رب العالمين ، وما اختاره لي بعلمه وحكمته ورحمته هو الأفضل لي . فلو خيروني قبل خلقي وسألوني: في أي مكان تريد أن تُخلق ، وابن من تحب أن تكون ؟ لأجبتهم أريد أن أخلق في ياطر نفسها ، وابن أبي وأمي نفسيهما .

والسبب في ذلك: أني أقف أما كمٍّ هائل من الخيارات والإحتمالات ، لا أعرف الصالح منها لوجودي ومساري ومستقبلي ، فأوكل الأمر الى من يعرف ذلك ليختار لي بمعرفته وحكمته ، وقد فعل سبحانه ، فأشكره من كل قلبي .

وهذا معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه !

فالأقدار التي يصنعها لي ربي هي الأفضل والأحسن والأجمل ، وتبقى عليَّ الأقدار التي أصنعها أنا .

2. وأتعصب لقريتي:

وأشعر بأنها شخصية لها كيانها وتاريخها ومستقبلها .

فبعض القرى لا شخصية لها ، ولا غيرة لأبنائها عليها . تراها مهانة ، يدوسها القريب والغريب ، كأنما هي أرض سائبة ، أو بيت بلا أبواب ، أو كرم بلا حيطان . يتصرف فيها الأولاد والرقعاء ، ويذلونها فلا يدفع أحد عنها !

وبعض القرى دار عز وكرامة ، أعزها أهلها ولم يرخصوها..

ومَهْدُ أبرارٍ ، عرف أبناؤها قدر ترابها والحصى ..

وبَلَدُ أشاوس ، منعوا عرينها أن يهان ، ودفعوا عنها الطامع والعابث ، وحموا شرفها أن يبتذل .

تشعر بأنها وجود حي وكيان ، فهي ترضى وتغضب ، يناسبها أمر أو لايناسبها ، وعلى أبنائها أن يتصرفوا بأدب معها ، ويحفظوا فيها الجغرافية والتاريخ والقيم ، ليُرضوا أرضها وسماءها ، وأرواح والآباء والأمهات التي حلت بفنائها .

بلدٌ لا تنسى شخصياتها وأمجادها ، فهي من قديم تتمسك بقيم ، يحترم أهلها الغريب ويُكْرمونه ، ويحتفون بالعالم ويصغون اليه ، ويلتفون حول الزعيم ويهتفون له .

ويتكافلون بينهم فيتحابون ويتزاورون ويسمرون ، ويتقاسمون مال الجيب ولقمة العيش .

وإذا سمعوا أن ابن ياطر في مشكلة ، هبوا لغوثه ونجدته ومواساته .

أما إذا اعتدى عليه أحد ، فالكل يستنفرون لنصرته ومنع الظلم عنه .

3. وأتعصب لقريتي:

لأن التعصب لها تعصب لذاتي ، وحب الذات أقوى الغرائز ، وذاتي تتسع لأسرتي وأرحامي وعشيرتي ثم تتسع فتشمل كل عوائل بلدي وأفرادها ، وشؤونها . وبقدر ماتتسع دائرة المحبة تأخذ الذات قداستها ، وقد جعل الله لذاتي قداسة ، وجعل لذاتي الأوسع قداسة أكبر وأعمق .

لهذا أتعصب لنفسي في حدود ، وأدفع عنها الأذى وأخدمها ، لكن أتعصب لمصلحة بلدي أكثر لأنها مصلحة ذاتي الأكبر .
فكن يا ابن بلدي ما شئت ، وتعصب لما شئت ، فذلك شأنك وخيارك ، لكن إحفظ معي العصبة الأقوى والأعلى ، وتعصب لمصلحة بلدنا ، فهي ذاتي وذاتك الأكبر .

سلام عليك يا ياطر فقد أثبت أبناؤك أنك بلدهم الغالي وأمهم الحنون ، وقد رأيناهم تعصبوا لزعمائهم وأحزابهم ، وتناقشوا واختلفوا وتنافروا ، لكن لما جاءت مصلحة ياطر ، برزت فيهم العصبة المقدسة لها ، فقدموا مصلحتها على مصالحهم ، والعصبة لها على العصبة لزعاماتهم .

وهكذا فلتكن الأخوة ، والإنتماء للقرية ، والمواطنة .

المقالات
بحث في نسبة الكوراني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام على نبينا وآله الطاهرين .

1- عائلة الكَوْراني في جبل عامل

تعيش عائلتنا آل الكَوْراني في قرية ياطر الجميلة ، من قرى جبل عامل ، أو جنوب لبنان ، وتقع فوق مدينة صور ببضعة وعشرين كيلومتراً ، على ارتفاع نحو800 متر عن سطح البحر .

وقد هنأني يوماً السيد موسى الصدر فرج الله عنه ، وأخبرني بأن بعثة أمريكية إسمها (بعثة إرفد) أعلنت بعد استطلاعها هواء لبنان ومياهه ، أن قرية ياطر نالت المرتبة الأولى في لبنان في عذوبة مائها وصحة هوائها .

وإسم ياطر سرياني أصله (ياثر) بمعنى الرائحة الطيبة .

والمجمع عليه عند عائلتنا أن إسم (كوْرَاني) بفتح الكاف وسكون الواو ، ويسمونهم آل كَوْرَاني والكَوَارنة ، ويبلغ عددهم بضعة آلاف نسمة .

ومنهم في غير ياطر آل يوسف حيدر وهم في قرية الشعيثية ، ومن هؤلاء جدتي الحاجة نرجس بنت يوسف حيدر المتولدة سنة1860 ميلادية رحمها الله .

ومنهم أيضاً آل حيدر في قرية برعشيت ، فقد هاجر جدهم حيدر من قريتنا وتزوج من برعشيت ، وبقيت ذريته هناك .

ومنهم آل فرحات الذين هم في قرية عرب صاليم كما أخبرني أستاذي آية الله الشيخ إبراهيم سليمان+نقلاً عن آية الله الشيخ يوسف الفقيه+ ، ونقل عنه أيضاً أن آل كَوْراني أصلهم من (طيربيخا) ، وهي قرية في أقصى جبل عامل من جهة فلسطين .

2- الكَوْراني بفتح الكاف غيرها بالضم

المشهور في كلمة (كوراني) أنها بضم الكاف ، لكن إجماع عائلتنا وتوارثهم له إنما هو بفتح الكاف وليس بضمها ، وقد نص المؤرخ السخاوي وهو يترجم لآل الكوْراني في مصر ، على أنها بفتح الكاف ، وهذا يؤكد أنها نسبة تختلف عن كُوراني بالضم .

قال في الضوء اللامع في أهل القرن التاسع:5/355: الكَوْراني: بفتح ثم سكون ، الشهاب أحمد بن إسمعيل بن عثمان شيخ الروم ، والجمال عبد الله بن محمد بن خضر بن إبرهيم شيخ سعيد السعداء .

و قال في الضوء اللامع:11/224: ( الكَوْراني ، بفتح ثم سكون: الشهاب أحمد بن إسماعيل بن عثمان ) .

وقال في هامش الأعلام:5/236: (انفرد السخاوي بضبط الكوراني بفتح الكاف وسكون الواو ) .

والصحيح أن السخاوي وهو مؤرخ رجالي وأديب (سير الذهبي:23/123) ويعيش مع آل الكوْراني ، لم يشتبه ، فقد ترجم في كتابه لكثير من أهل هذه النسبة بالضم ، ولكنه فرَّق بين المنسوبين الى كُوران بالضم وهم كثيرون ، وينسبون الى أصول متعددة ، مثل كُوران من قرى إسفرايين في إيران ، أو الى قبيلة كُوران الكردية ، وبين المنسوبين بكَوْرَان بفتح الكاف ، ولهذا قال القيسي الدمشقي في توضيح المشتبه:7/344: ( الكوراني جماعة. قلت: ينسبون إلى كُوران بضم الكاف وسكون الواو وفتح الراء تليها ألف ثم نون من قرى أسفراين ، منهم أبو الفضل العباس بن إبراهيم بن العباس الكُوراني عن محمد بن يحيى الذهلي توفي في حدود الثلاث مئة . والكَوْراني بالفتح: الشيخ الزاهد أبو الحجاج يوسف الكَوْراني المصري ، أخذ عنه أبو عبد الله الكلائي الفرضي المتأخر ) .

3- الى من ينسب الكَوْرانيون بالفتح

يتصور البعض أن الكَوْرانيين العامليين ينسبون الى مدينة الكورة أو قضاء الكورة في شمال لبنان ، لكن ذلك بعيد ، لأن المجمع عليه بينهم أن نسبتهم بفتح الكاف ، ولا يحتمل فيه الغلط أو التسامح لوجود النسبة بالضم الى جانبهم .

لهذا فإن آل كَوْراني في جبل عامل من نفس نسبة المصريين الذين هم بفتح الكاف ، ويحتمل أنهم هاجروا من لبنان الى مصر أو العكس ، وقد ذكر المؤرخون منهم عدة علماء ، وفيهم مراجع في الفقه والتصوف ، ومنهم عدة ولاة للقاهرة وغيرها في عهد المماليك .

ويظهر أنها نسبة عربية لأنه لايوجد في غير العربية وزن (فَوْعَان) بحرفين مفتوحين بينهما واو ساكنة ، بل يصعب على غير العرب نطقها ، ولذلك يسألنا الإيرانيون والغربيون عن إسم عائلتنا فنقول لهم(كَوْرَاني) فينطقونها (كُوراني) بالضم ، ولا ينفع معهم التحيح ، لأن وزن كَوْراني لا يوجد في لغتهم !

ويظهر أن نسبة كَوْراني الى جبل (كَوْرَان وكَوْر وكوير) ببلاد بلحارث في اليمن أو جبل بين الطائف ومكة (تاج العروس:7/461 ، و1141، و3:/152، و:5/283) أو جبل بالجليل (عشائر الشام).

قال في معجم البلدان:4/489: ( وكُوَيْر وكَوْر: جبلان معروفان وقيل: ثنية الكَوْر في أرض اليمن كانت بها وقعة لها ذكر في أيام العرب ) .

وفي نهاية الإرب:1/134:( بنو كَوْر ، بطن من جرم طي مساكنهم ببلاد غزة ، قال الحمداني: وهم جماعة جابر بن سعيد ). ومعجم قبائل العرب:3/1003.

وأصل الكَوْر والكَوْران: الدور من العمامة ، والعمامة والشئ المكوَّر: المجموع على بعضه ، (كور بفتح الكاف أو كوران، سواء كان لها ذؤابه أو لا).(شرح البهوتي:1/66).

وقال الشريف الرضي في المجازات النبوية/141: ( قوله‘: اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب ، والحَوْر بعد الكَوْر ، وسوء المنظر في الأهل والمال... والحَوْر بعد الكَوْر: أي انتشار الأمور بعد انضمامها ، وانفراجها بعد التئامها ، وذلك مأخوذ من حَوْر العمامة بعد كَوْرها وهو نقضها بعد ليها ونشرها بعد طيها . وقد قيل إن معناه القلة بعد الكثرة ، والنقصان بعد الزيادة ، فكأنه تعوذ من الإنتقال عن حال حسنة إلى حال سيئة ) .

وقد سألت الأخ الشيخ مبخوت الكريشان ، عن كَوْران في اليمن ، فكتب لي: (منطقة الكَوْر منطقة جبلية تقع على أكبر جبل من جبال السرّ بالسين ، وهو يفصل بين قبائل نُهْم وقبائل خولان ، ويمتد الى قبائل بني الحارث بقرب صنعاء .

ومنطقة الكوْر في جهته الشمالية الجنوبية ، وحدثنا بعض الشيبان في عمر ثمانين سنة أن الكَوْر في أعلى الجبل ، وشعبها الذي يسيل الى الوادي ونفس الوادي إسمهما كَوْران ، وقربها منطقة تسمى سَعْوان . وهي من بلاد همدان بن زيد . واليك الرسم للجبل والمنطقة ، ولم أستطع التصوير بسبب الظروف الأمنية ). انتهى كلامه .

ولا نستطيع الجزم بأن نسبة الكوْراني الى هذه المنطقة، لكن لانعرف غيرها بهذا الإسم.

4- الكَوْرانيون المصريون

ذكر المؤرخون منهم عدداً من العلماء والأمراء ، والى الآن يوجد في القاهرة: شارع ابن الكوْراني ودرب ابن الكوراني ، وكانوا شيعة أو شافعية يميلون الى التشيع ، وقد ذكر المؤرخون ثورة ابن الكوْراني على السلطان المملوكي الظاهر بيبرس ، من أجل إعادة الدولة الشيعية الفاطمية ، وكان أنصاره الفقراء والسودان وشعاره:(يا آل علي) ، فقتلهم بيبرس وصلبه عند باب زويلة .

قال المقريزي في السلوك:1/509: ( وفي شعبان (سنة 658) قبض على رجل يعرف بالكوراني وضرب ضرباً مبرحاً بسبب بدع ظهرت منه ، وجدد إسلامه الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، وأطلق من الإعتقال فأقام بالجبل الأحمر) .

وقال في السلوك :1/522: (وفيها ثار جماعة من السودان والركبدارية والغلمان وشنقوا بالقاهرة وهم ينادون يا آل علي ! وفتحوا دكاكين السيوفيين بين القصرين ، وأخذوا ما فيها من السلاح ، واقتحموا اصطبلات الأجناد وأخذوا منها الخيول ، وكان الحامل لهم على هذا رجل يعرف بالكوْراني ، أظهر الزهد وبيده سبحة وسكن قبة بالجبل ، وتردد إليه الغلمان فحدثهم في القيام على أهل الدولة وأقطعهم الإقطاعات ، وكتب لهم بها رقاعاً . فلما ثاروا في الليل ركب العسكر وأحاطوا بهم وربطوهم فأصبحوا مصلبين خارج باب زويلة ، وسكنت الثائرة. وخرجت السنة ولم يركب الملك الظاهر بيبرس بشعار السلطنة على العادة ).

5- واصل الظاهر بيبرس سياسة إبادة الشيعة

وهو أول حكام مصر من المماليك البحرية وكان مملوكاً للأمير البندقدار ، ثم لأحد أحفاد صلاح الدين الأيوبي ، وحكم مصر 18 سنة ، من 658 الى 676 هجرية ، وبدأ حكمه بقتل السلطان المظفر قطز الذي هزم المغول في معركة عين جالوت !

قال الزركلي في الأعلام:2/79: ( اتفق مع أمراء الجيش على قتل قطز فقتلوه ، وتولى بيبرس سلطنة مصر والشام... وتلقب بالملك الظاهر.. وكان شجاعاً جباراً... توفي في دمشق ومرقده فيها معروف أقيمت حوله المكتبة الظاهرية ) .

وفي فوات الوفيات:2/224: (ورجع(قطز) بعد شهر إلى القاهرة فقُتل بين الغرابي والصالحية ، ودفن بالقصير سنة ثمان وخمسين وست مائة ، تولى قتله الظاهر وأعانه جماعة من الأمراء ، وبقي ملقى فدفنه بعض غلمانه ) .

وقال العيني في عقد الجمان/134: (من الأمور العجيبة الغريبة: أن في أول هذه السنة (658) كانت الشام للملك الناصر يوسف بن الملك العزيز ، بن الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ثم في النصف من صفر منها صارت لهلاون اللعين ملك التتار ، ثم في آخر رمضان صارت للملك المظفر قطز ، ثم في أواخر ذي القعدة انتقلت إلى مملكة السلطان الملك الظاهر بيبرس...فسبحان الذي يُغير ولايتعير ). والنهاية:13/259.

وحاول بيبرس أن يعيد الخلافة العباسية الشكلية ، فجاء برجل مغمور من بني العباس إسمه أحمد بن الحسن ، وبايعه على أنه خليفة وسماه ( المسترشد بالله ) فبايعه الخليفة على أنه سلطان مصر وبلاد الشام وغيرها! (الوافي للصفدي:6/196) .

وتشدد بيبرس في تطبيق سياسة صلاح الدين ضد الشيعة !

وفي هذا السياق كانت ثورة ابن الكوراني . قال المقريزي في المواعظ والإعتبار:3/84: ( وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري ...حتى أنه صار هذا الإعتقاد بسائر هذه البلاد ، بحيث أن من خالفه ضرب عنقه والأمر على ذلك إلى اليوم ، ولم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل... فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولَّى بمصر والقاهرة أربعة قضاة ، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي . فاستمرّ ذلك من سنة خمس وستين وست مائة ، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة ، وعقيدة الأشعريّ.. وعُوديَ من تمذهب بغيرها وأُنكر عليه ، ولم يولَّ قاضٍ ولا قُبلت شهادة أحد ولا قُدِّم للخطابة والإمامة والتدريس أحدٌ ، ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها . والعمل على هذا إلى اليوم ).

وفي إرشاد النقاد للصنعاني/19: (وأفتى فقهاء هذه الأمصار بطول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، ولم ينته الأمر بوجوب تقليد المذاهب الأربعة ، بل صار كل مذهب منها كدين مستقل ، ونصوا على بطلان الصلاة خلف مخالف المذهب كما مضى ، وبالتالي كان إنشاء المقامات للمذاهب الأربعة في الحرم المكي أمراً حتمياً ، قام به أشر ملوك الجراكسة فرج بن برقوق ، في أوائل المائة التاسعة ) .

وقال الكاتب المصري صالح الورداني في كتابه الشيعة في مصر/60: (كان من نتائج السياسة الإرهابية الدموية التي اتبعها صلاح الدين في مواجهة الشيعة أن فر الشيعة إلى الشام وجنوب مصر ، حيث لا تزال دعوة التشيع لها أعوانٌ في مأمن من بطش صلاح الدين . وقد أخذت التجمعات الشيعية هناك في تجميع صفوفها من أجل التصدي له.. ويروي ابن الأثير أنه في عام 569 هـ‍ وفي شهر رمضان كشفت محاولة للإنقلاب على صلاح الدين وقتله من قبل مجموعة من العلويين ، وقبض عليهم صلاح الدين وصلبهم ، وكان على رأسهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر...

ولقد حاول العاضد أن يتخلص من صلاح الدين وحرض عليه خادمه المؤتمن، إلا أن المحاولة كشفت وقتل المؤتمن على أيدي رجال صلاح الدين.. يروي ابن الأثير حول هذه الحادثة: فغضب السودان لقتل المؤتمن فحشدوا وجمعوا فزادت عدتهم على خمسين ألفاً وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية ، فاجتمع العسكر وقاتلوهم بين القصرين وكثر القتل بين الفريقين ، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم بالمنصورة فأحرقها على أموالهم وأولادهم ، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين فركبهم السيف وأخذت عليهم أفواه السكك ، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل فأجيبوا إلى ذلك فخرجوا من مصر إلى الجيزة فعبر إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر فأبادهم بالسيف ولم يبق منهم إلا القليل الشريد !

وفي عام570 هـ تجمع السودان حول رجل يدعو لإقامة الحكم الفاطمي في أسوان وقد جمع من حوله خلقاً كثيراً . يقول ابن تغري يروي عن أحداث هذا العام: وكان أهل مصر يؤثرون عودهم - أي عودة الفاطميين- فسيَّر صلاح الدين جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل فساروا والتقوا به - أي بزعيم الثورة - وكسروه . ثم بعد ذلك استقرت له قواعد الملك..

وفي عام 572 يقول ابن تغري: وفيها كان مقدم السودان من صعيد مصر ، ساروا من الصعيد إلى مصر في مائة ألف أسود ليعيدوا الدولة الفاطمية ، فخرج إليهم أخو صلاح الدين الملك العادل بكر وبمن معه من عساكر مصر والتقوا مع السودان ، فكانت بينهم وقعة هائلة وقتل كبير السودان ومن معه . وهذه هي الثورة الثالثة التي قام بها الشيعة ضد صلاح الدين ، وكانت في السنة السادسة من حكمه..

وفي نفس العام أيضاً وقعت ثورة أخرى في مدينة قفط بصعيد مصر أخمدها صلاح الدين وأرسل لها أخاه العادل على جيش فقتل من أهلها ثلاثة آلاف ، وصلبهم على شجرها ظاهر قفط بعمائمهم وطيالسينهم..

والمتأمل في هذا الصراع الذي دار بين صلاح الدين والشيعة في مصر يتبين له أن صلاح الدين استخدم وسائل غير مشروعة في قمع معارضيه تتنافى مع الإسلام.. وإن لجوء صلاح الدين إلى مثل هذه الوسائل اللا إنسانية التي مارسها على الفاطميين، مثل عزل الرجال عن النساء ، وإحراق بيوت السودان على أولادهم وأموالهم ! هذه الوسائل إنما تكشف عجزه عن استئصال التشيع وحب آل البيت من قلوب المصريين) . (راجع للتفصيل: الصحيح من السيرة:1/227، والنجوم الزاهرة:6/78 ، وشذرات الذهب:2/241، ومرآة الجنان:2/84 ، والوافي:24/280، والعبر:4/214).

وقد تابع سلاطين المماليك البحرية بعد بيبرس هذه السياسة في إبادة الشيعة في مصر والسودان ، حتى كانت الحملة العامة لإبادتهم في الشام ولبنان سنة705 ، وختم آخر سلاطين المماليك البحرية بيدمر ونائبه حاكم الشام برقوق ، بقتلهم المرجع والزعيم الشيعي محمد بن مكي الجزيني المعروف بالشهيد الأول+ سنة787 .

6- آل الكَوْراني بعد ثورة ابن الكَوْراني

تدل نصوص المؤرخين على أن آل الكوراني في مصر تواصل وجودهم الإجتماعي بعد ثورة ابن الكوراني ، وبرز منهم علماء وأمراء ، فقد ترجموا لعدد منهم بعد نحو قرن من حركة ابن الكوراني.

فمن أمرائهم عز الدين الكوراني (السلوك:2/199) وعلاء الدين علي بن الكوراني الذي كان والي الغربية (السلوك:3/278) ، ثم صار والي القاهرة سنة 764 (السلوك:4/268).

وفي سنة765 صار ابنه حسام الدين حسن بن علاء الدين علي بن ممدود الكوراني والي المنوفية . (السلوك :4/277) وصار في سنة 768، والي القاهرة (السلوك :4/294) .

وذكر في السلوك:6/312 ، في أحداث تلك السنة وفاة الشيخ (تاج الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الملك يوسف بن عبد الله..).

وترجم السخاوي في الضوء اللامع:2/447، للعالم النحوي المشهور بالجمال الكوراني ، وهو (عبد الله بن محمد بن خضر بن إبراهيم الجمال الكوراني ثم القاهري الشافعي ويعرف بالكوراني . ولد سنة ثماني عشرة وثمان مائة تقريباً وقال إن أول اشتغاله كان بالجزيرة على ناصر الدين عمر المارينوسي تلميذ الحلال ، وأنه سافر معه إلى الروم (أي تركيا) فورد على الشيخ ما اقتضى رجوعه وتخلف هو ببرصا فلازم غياث الدين حميد حتى أخذ عنه كلاً من المطالع وحاشية الشريف وشرحي المفتاح ، وسافر إلى القاهرة فأخذ عن باكير وغيره كالعلاء القلقشندي...الخ. ).

وذكره في الضوء اللامع:11/224، وذكر مفتي تركيا المهاجر اليها من مصر ، المعروف باسم الشهاب الكوراني فقال: الكوْراني بفتح ثم سكون الشهاب أحمد بن اسماعيل بن عثمان شيخ الروم ) ..

الى آخر من ترجم لهم المقريزي في السلوك والإعتبار والسخاوي في الضوء اللامع ، وغيرهما ، وهم كَوْراني بفتح الكاف ، غير من ترجموا لهم بضمها .

7- الكُوراني بالضم أنواع عديدة

ففيهم الفرس والترك والكرد والبربر والعرب ، ونسبتهم الى الكورة إسم منطقة في لبنان وغيره، أو الى كُوران إسم قرية في شمال إيران ، أو الى كُوران إسم قبيلة من البربر ، أو الى كُوران إسم قبيلة من الأكراد . وقد جعلنا منهم ما شككنا أنه بفتح الكاف أو بضمها .

1- وأقدم من وجدنا منهم: الكُوراني الإسفراييني ، قال عنه السمعاني في الأنساب:5/106: (الكوراني بضم الكاف وفتح الراء وفي آخرها النون ، هذه النسبة إلى كوران وهي إحدى قرى أسفراين ، والمشهور بالإنتساب إليها أبو الفضل العباس بن إبراهيم بن العباس الكوراني الإسفرايني كان شيخاً حسن الخلق ، يروي عن أبي أحمد شعثم بن أصيل العجلي ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، ومحمد بن حياة الإسفرايني ، وغيرهم .

روى عنه أبو الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي وغيره .

ذكره الحاكم أبو عبد الله الحافظ وقال: هذا شيخ من أهل أسفراين من قرية كوران ، توفي في حدود الثلاث مائة ) . وروى عنه في أخبار أصبهان:2/143.

ولعل محمد بن سعيد الكوراني أقدم منه. ذكره ابن حبان في أخبار القضاة:1/285، قال: (حدثني محمد بن سعيد الكوراني قال:حدثنا سهل بن محمد بن عثمان قال: حدثنا العتبي...).

وروى عنه بواسطة واحدة أبو الفرج الأصفهاني المتوفى356 ، قال في الأغاني:2/10: ( وأخبرني عمي عن الكوراني ، عن العمري ، عن العتبي ، عن عوانة أنه قال: المجنون اسم مستعار لاحقيقة له وليس له في بني عامر أصل ولا نسب ، فسئل من قال هذه الأشعار فقال فتى من بني أمية . وقال الجاحظ ما ترك الناس شعرا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون ولا شعرا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح ).

وبعده القاضي ( أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم الكوراني صاحب الشيخ أبي حامد الإسفرائيني ولي القضاء بالأهواز ودرَّس فيها سنين وكان فقيهاً حافظاً صالحاً). (طبقات الفقهاء للشيرازي/138، وقد توفي أبو حامد سنة 406- السمعاني:1/145) .

2- ومنهم الكوراني الزاهد ، ترجم له الصفدي في الوافي:9/127، قال: ( إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن خسرو أبو محمد الكوراني الزاهد القدوة كان أحد المشايخ المشهورين بالزهد والورع صاحب معاملة وخشية ، يطلب منه الدعاء . توفي بغزة سنة خمس وستين وستمائة ، وهو قافل من مصر إلى القدس وكان كثير التحري يسأل العلماء عما يشكل عليه في دينه ) .

3- ومنهم الكُوراني البربر: ففي الأعلام:1/150، عن ( الروض المعطار وتكملة الصلة القسم الأول157 وابن خلكان:2/375 ، في ترجمة يوسف بن عبد المؤمن، وقال: كان شيخاً مسناً جاوز الثمانين سنة ، وعرفه بالكوراني: نسبة إلى كوران ، قبيلة من البربر ، منازلهم بضواحي فاس ، ثم قال: وقيل : إن هذه القبيلة إنما يقال لها جراوة بفتح الجيم ، وقد تبدل الجيم كافا فيقال لها كراوة.. الخ.).

8- الجورانية الطائية في العراق والسعودية وفلسطين

تقرأ في المواقع التالية عن عشيرة الجوراني في البصرة وغيرها من مناطق العراق:

http://www.alqasr.net/vb/showthread.php?t=28288

http://forums.ibb7.com/ibb3458.html

http://www.albdoo.com/vb/t18358.html

http://www.bnitamem.com/vb/showthread.php?t=36958

http://www.alitthad.com/paper.php?name=News&file=print&sid=30281

وهي من العشائر القيسية النزارية، ومنها شخصيات ولهم نائب هو حيدر الجوراني عضو الإئتلاف العراقي الموحد .

جاء في منتديات القبائل العربية: http://www.aljbor.net/vb/archive/index.php/f-27.html

(وهذه هي بطون قبيلة الجوارين الطائية ، وهناك جموع من قبيلة الجوارين نزحت إلى قبائل أخرى ودول عربية مجاورة ...

1- الجورانية مع زوبع وتميم ، وكبيرهم بندر بن عبد الوهاب الجوراني وأفخاذهم الصق ، الفياض، المعلى، الطوينات (النبهان)، السماح، الغشام، الشناوه ، الحايط .

2- الجورانية في الجزيرة مع شمر في الجزيرة ، ويرأسهم إبراهيم الشهاب الجوراني وينطبق عليهم العرف العشائري كباقي أفخاذ شمر الأخرى...

3- الجوارنة في الأردن وليبيا .

وتقرأ في الرابط أعلاه موضوعاً عن عائلة الجوراني العسقلانية

http://www.malaf.info/?page=show_details&Id=419&table=table_141&CatId=206

بعنوان: عائلة الجوراني شرّدتها النكبة ، بقلم: محمد أبو عيطة من القاهرة .

وفيها تحدث محمد العسقلاني عن تشريد عائلتهم من عسقلان ، وعددها أكثر من 120 فرداً . ومن المحتمل أن تكون هذه النسبة مطورة عن الكوراني .

9- الكُورانية الأكراد

في تاج العروس:5/222 ، ما خلاصته: ( ولكلِ نوع من الأكراد لغة لهم بالكردية . والمعروف منهم السورانية والكورانية والعمادية والحكارية والمحمودية والبختية والبشوية والجوبية والزرزائية والمهرانية والجاوانية والرضائية والسروجية والهارونية واللرية ، إلى غير ذلك من القبائل التي لا تحصى كثرة ، وبلادهم أرض الفارس وعراق العجم والأذربيجان والإربل والموصل . وقال أبو المعين النسفي في بحر الكلام: ما قيل إن الجني وصل إلى حرم سليمان عليه السلام وتصرف فيها وحصل منها الأكراد باطل لا أصل له ). ومروج الذهب:1/118.

فالكورانية قبيلة من الأكراد ، والنسبة اليها الكُوراني بضم الكاف ، والمنسوبون اليها كثرة ، وقد نصت المصادر في بعضهم على أنهم من الأكراد ، ففي الضوء اللامع في أعلام القرن التاسع:2/213: (أحمد بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن عمر بن علي بن خضر الشهاب بن التاج بن الجمال الكردي الكوراني الأصل ، القاهري الشافعي ، أخو محمد وعلي المذكورين وهو أوسطهما ).

وفي سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر:2/79: ( محمد الكوراني أبو الطاهر بن إبراهيم بن حسن المدني الشافعي الشهير بالكوراني ، الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق المدقق النحرير الفقيه جمال الدين ولد بالمدينة المنورة في حادي عشري رجب سنة إحدى وثمانين وألف ونشأ بها في حجر أبيه.. وبرع وفضل واشتهر بالذكاء والنبل وكان كثير الدروس وانتفعت به الطلبة ، وتولى إفتاء السادة الشافعية بالمدينة المنورة مدة وله من التآليف اختصار شرح شواهد الرضي للبغدادي.. وكانت وفاته في تاسع رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وألف ودفن بالبقيع) .

ثم ترجم لحفيده محمد سعيد، ولمحمد بن أبي الحسن الكوراني.ومعجم المؤلفين :8/196

10- الكُورانية السادة

ورد وصف الحسيني في بعض المنسوبين بالكوراني، قال السخاوي في الضوء اللامع:8/105: ( محمد بن عبد الله بن محمد بن خليل بن بكتوت بن بيرم بن بكتوت الشمس ، الكردي الأصل العلمي القاهري ، الحسيني ، الحنبلي ، سبط الشمس الغزولي الحنبلي ، نزيل البيبرسية الماضي ، ويعرف بابن بيرم ، قدم بعض سلفه مع السلطان صلاح الدين بل كان بيرم ممن عمل ملك الأمراء بالبحيرة... ومولده في حادي عشر شعبان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة...الخ.»

وفي خلاصة الأثر للمحبي/110: ( السيد أبو بكر بن السيد هداية الله الحسيني الكوراني الكردي المشهور بالمصنف ، ذكره الأستاذ الكبير العالم العلم ابراهيم بن حسن الكردي نزيل المدينة المنورة في كتابه الأمم لإيقاظ الهمم في ترجمة المشايخ الذين روى عنهم..»وترجم في صفحة/985، لابنه عبد الكريم ، وذكر أنه أستاذ ( علامة الوجود الإمام الكبير الملا إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني نزيل المدينة) .

وذكر في إيضاح المكنون:3/102، و308،كتاباً لمحمد بن عيسى بن إبراهيم الكوراني الحسيني ، وتفسير الشاهوي لعبد الكريم بن أبي بكر بن السيد هداية الله الحسيني الكوراني المتوفي سنة1050 . وفي:3/600، ذكر كتاب رياض الخلود فارسي في التصوف والأخلاق للسيد محمد أبي بكر بن السيد هداية الله الحسيني الكوراني الكردي الشاهوي ، الشهير بالمصنف المتوفى سنة 999 . وذكر في هدية العارفين:2/329 ، وإيضاح المكنون:1/102،كتاب أعلام التحقيق بمراتب بني الصديق ولحوقهم بمقامه الأنيق ، لمحمد بن أبي الحسن عيسى بن أبي العرفان برهان الدين إبراهيم بن الحسن الحسيني الكوراني الكردي المدني الشافعي نزيل دمشق المتوفى بها سنة 1167 . وعجائب الآثار للجبرتي:1/134.

أقول: وهؤلاء الكورانيون أكراد وليسوا هاشميين ، وقد جاءتهم النسبة من قبل أمهم ، وقد صرح بذلك المرادي في سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر/842 ، قال: «السيد عبد اللطيف الكوراني السيد عبد اللطيف بن أحمد المعروف بالكوراني الحنفي الحلبي الشريف لأمه ! ولد بحلب وبها نشأ وقرأ على أفاضلها كالمولى أبي السعود بن أحمد الكواكبي المفتي والعالم الشيخ حسن التفتازاني» ثم أورد قصيدة في مدحه للشيخ قاسم البكرجي الحلبي ، منها:

لا عيب فيه سوى باهي مكارمه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

عبد اللطيف الذي باللطف منجيل

أفضال والعلم ندب وصفه حسن

السيدالكامل بن الكامل بن ذوي

الفرع الكرام زكي الأصل مؤتمن

من آل كوران بيت المجد نسل تقىً

أبو المعالي الذي أثرى به الزمن

نتيجة البحث

والنتيجة: أن نسبة الكوْراني بفتح الكاف وسكون الواو تختلف عنها بضم الكاف ، وقد نص على ذلك مؤرخون كبار مثل السخاوي المصري في الضوء اللامع في أهل القرن التاسع(11/224) والقيسي الدمشقي في توضيح المشتبه(7/344).

فعائلة الكوْراني في جنوب لبنان هي بفتح الكاف بالفتح بإجماع المنتسبين اليها قديماً وحديثاً ، وهي تنتسب الى (كَوْرَان وكَوْر) ببلاد بلحارث في اليمن ، وسكانها من قبائل مذحج وطئ ، وسكن بعضهم في مصر كما تقدم من السخاوي ، وبعضهم في غزة كما في معجم قبائل العرب (3/1003) قال: (كَوْر: بطن من جرم طئ من القحطانية ، كانت مساكنهم ببلاد غزة بفلسطين ) .

وهناك كَوْران من طئ في الجزيرة والعراق ، يرجعون الى عشيرة آل مانع من فروع عشيرة الرفيع ،تجد تفصيل ذلك في المواقع التالية:

http://www.ansab-online.com/phpBB2/showthread.php?t=1069&page=8

http://www.alrfee3.com/vb/showthread.php?p=4044

http://www.3nazh.com/vb/showthread.php?t=185

وقد ورد فيها: «عشيرة آل مانع: وهي من أكبر عشائر الرفيع . أفخاذهم:

- آل جويد ، رئيسهم: ترف آل جويد

- آل مشيع ، رئيسهم: كريم حميد آل طخاخ

- آل كَوْران ، رئيسهم: تليد شريدة

- آل زامل ، رئيسهم: حياوي آل زامل

- عشيرة آل نملة: عرفت هذه العشيرة بشجاعتها وكرمها ». انتهى.

والنتيجة أن نسبة الكوْراني بفتح الكاف في جبل عامل وغزة ومصر واحدة ، وأصلهم من طئ ، ونسبتهم الى جبل كَوْران في اليمن أو جبل عامل.

فقد قرأت في خطط الشام إسم جبل كَوْران في الجليل أو جنوب لبنان ، ولعلهم بعد هجرتهم من اليمن سمَّوا الجبل كَوْران ، أو عرف باسمهم ، والله العالم .

ارسل له احد الاخوة هذه الصور فكتب له:

نعم ، اعرف انه يوجد مسجد وشارع في القاهرة باسم ابن الكوراني ،

ويوجد مسجد آخر قريب القاهرة بنفس الاسم .

والاسم بفتح الكاف كما نص السخاوي ، وهم فرع من طيئ اصلهم من كوران قرب سعوان في اليمن ،

وسكنوا في مصر وكان منهم علماء ، وكانوا شيعة ،

وقد ثار ابن الكوراني على الظاهر بيبرس كما ذكر المقريزي ، وكان شعاره : آل علي ،

وقتل مع جماعة ، وتشرد اقاربه القريبون الى غزة وجنوب لبنان . فيظهر انا منهم .

المقالات
صنـعوها في البحـرين

في تلك الأيام والحاجة ملحَّة الى سُبَح كربلاء وتُرَبها ، توصل بعض البحرينيين الى جلب تراب من كربلاء الى البحرين ، وصناعة ترب وسبح منه . وقد أهدى لي أحدهم واحدة منها ، فكتبت :

صنعوها في البحرين.. في بيت طاهر..

شاطؤهم مغسولٌ بأمواج القرون ، وقلوبهم بالدموع على الزهراء عليه السلام ..

من أبناء الغواصين الأوائل الذين عرفوا اللؤلؤ قبل الناس.. وخبروا محاراته الملأى ، واستخرجوا منها لأهل الدنيا أغلى زينة..

من أبناء الأوفياء الأوائل الذين قال لهم الرسول صلى الله عليه وآله : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي.. فقالوا سمعنا وأطعنا ، واحتضنوا في محارات قلوبهم لؤلؤتين ، فَنَمتَا واتحدتا وصارتا لؤلؤتين في واحدة ، كأكبر ما يكون اللؤلؤ ، وأبهى وأغلى .

باعوا اللؤلؤ للعالم بالغالي والداني ، أما لؤلؤ محبتهم فباعوا له كل شئ ليَسْلم لهم ! لا أعرف أكثر منهم سخاء من أجله ، حتى بالروح !

يقولون إن لؤلؤ محبة أهل البيت عليهم السلام إن بذلت له روحك ، انتقل من محارة القلب إلى محارة الروح ، ونما فيها نمواً خاصاًً و صار مشعّاً !

صنعوها بالأنامل.. وبسيط الوسائل.. يأخذون قطعه من الطين المقدس باسم الله ، ويحولونها إلى حُبَيْبات ، ثم يُجففونها وينظمون منها مسابيح كربلاء.. صناعة لا كالصنائع ، وبضاعةٌ لا كالبضائع.. اهتدى لها والدهم في عهد حصار كربلاء.. يوم قلَّ وصول السبح الحسينية ، وتلهف لها المحبون..

يومها.. قصد كربلاء واستطاع الوصول إلى مشهدها.. فزار الحسين عليه السلام عن أهل البحرين ، واستأذنه في أن يحمل شيئاً من تراب بقعته المباركة إلى بلده ليصنع منه مسابيح لمواليه.. وعاد إلى بيته يحمل لأطفاله هدايا ، لكن فرحة الكبار والصغار بصندوق التراب كانت أكبر..

أعدوا مكانه بدقة.. طهَّروا الغرفة وبَخَّروها.. ثم وضعوا الصندوق على منضدة في زاويتها.. يأخذون من ترابه ويصبون عليه ماء زمزم ، ويصنعون منه عجين السبح الحسينية..

ماء زمزم ، وتراب كربلاء ، التقيا في بيت مؤمن في البحرين ، فكان لهما حنين وأشواق ، بدموع بحرانية .

قال تراب كربلاء: أنت يا ماء زمزم أسعد حظاً من الفرات ، لقد شرب منك الحسين وأصحابه وارتووا.. لكنهم منعوهم من ماء الفرات وقتلوهم عطاشى ، فأحسست بدمائهم حارَّةً حارة ، تغلي وتضطرم..

قال ماء زمزم: لهفي على دم الحسين وعطش الحسين وأصحابه.. إني أشم منك ريحهم فما أطيبه وأشجاه..

واجتمع في البحرين.. ماء زمزم وتربة الحسين.. فتلاقت المعاني الكبار.. من هاجر وإسماعيل وفاطمة والحسين.. والمعاني الأكبر.. من إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وآلهما..

كان ينبغي اختبار استعداد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للفداء.. فكان مشهد منى.. ولم يكن ينبغي اختبار محمد صلى الله عليه وآله ، بل يكفي إخباره فقط ، فأخبره الله تعالى بفداء كربلاء، فأخبر ولده الحسين عليه السلام بذلك فقال: رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر علي بلائه ، ويوفينا أجور الصابرين .

وسقى أهل البحرين ماء زمزم لتربة الحسين ، ونظموا منها سُبَحاً في أيدي الذاكرين.. كل واحدة منها قصيدة من مئة بيت وبيت.. وكل بيت منها مطلع.. وكلا شطريه مصرع..

قصيدة دونها المعلقات..يفهمها المؤمنون والملائكة ويستعيدون إنشادها..

أما أصحاب الأذهان المسطحة فيقولون: كلام ، ومسبحة من طين !

تفهمها عجائزنا في قراهن .. ويُجِدْنَ أصول إنشادها ، فقد ورثن كلماتها من بنت أفصح ناطق بالضاد ، يوم أهدى إليها الرسول كلماتها ، تكبيراً وتحميداً ، وتسبيحاً ، فكانت تشيد الإنشاد..

صنعت الزهراء سُبْحَةً من تربة قبر حمزة ، نظمتها في خيط أزرق.. حتى جاء جبريل إلى أبيها بهدية من تربة كربلاء ، فكانت منظومة كربلاء .

يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ.. ولو كان داود في عصرنا لاستبدل إنشاده بإنشاد نبينا صلى الله عليه وآله وقال: هذا إنشاد تؤوب معه ملائكة الملأ الأعلى !

جميلة منظومة أهل البحرين ، لتلحين نشيد الزهراء..

وفي الدنيا ألحانٌ.. لو عرفها المغنون ، لعافوا ألحانهم !

ألحان أهل الدنيا وقصائدها تقول للإنسان :

إنما الحياة بدنك والشهوات.. ثم النهاية !

تقول له ذلك: آخر مقطوعات الموسيقى الأمريكية.. وأحدث صالات الغناء.. وأبلغ قصائد الملك الضِّلِّيل امرئ القيس ، والسفير الضليل نزار القباني.. فيرى أن أجمل ما في الدنيا.. لهوها ، وخمرها ، وزناها ، فيتيه في أوديتها.. بينما يواصل الكون نشيده ، عابراً عن هذا الغائب المخمور !

الكونُ يواصل أنشودته من يوم ولادته.. من أول ما بدأ شريط الزمان..

وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، وكل واحد بلغته.. وله نشيده وألحانه.. أما نشيد الأنبياء عليهم السلام فهو النشيد الأكبر ، ينتظمها جميعاً ويحدو بها !

وأنشودة الكون لايراها مسطح الذهن ، ولا يحس بها مخمور ، بل يسمع عنها الناس.. أما المؤمنون فمفتوحة لهم النوافذ !

في يوم من الأيام أمر الله بلاد التين والزيتون ، بجبالها وحيوانها وطيورها وأسماكها ، أن تنشد بنشيد الإنسان النبي.. فكان داود يقرأ التسبيح بألحانه ، و.. يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ .

حتى إذا جاء محمد صلى الله عليه وآله ، حباهُ الله بختام أناشيد التسبيح ، فأهداه الرسول لابنته الزهراء وسماه باسمها.. ويا أجيال المسلمين سبحي بتسبيحها ، حتى يأتي ابنها المهدي عليه السلام فينشده ، فيؤوِّب معه سكان الأرض والسماء !

في الدنيا أنواع الجواهر.. أخرجها الله لعباده من بواطن الأرض ، وقيعان البحار.. زينةً وآية..

فيها الياقوت الأحمر ، الذي يذرف توت الشام دموعه شوقاً اليه..

ودر النجف النابت في الأرض.. يضاهي البَرَد النازل من السماء..

والألماس الأخَّاذ.. الذي تمكنوا بعد آلاف السنين والتجارب ، أن يصنعوا له شبيهاً ، ولو بلا روح..

وفيها اللؤلؤ والمرجان.. واللَّعْلُ والزَّبرجد.. واليُسْرُ والزَّهْر.. ومن جميعها تصنع العقود والمسابيح.. لكنها جميعاً لاتساوي حبة من سبحة كربلاء !

وكيف يقاس المادي بالمعنوي.. والمظلم بالمنير.. والصامت بالمتكلم؟

توصَّل العلم الى أن إشعاع الياقوت ينطلق خيوطاً وحزماً مفردة متفرقة.. تذهب بعيداً بعيداً.. ثم تجتمع في مركز .

فكثروها وكثفوها ، وحصروها في نقطة تجمعها كالماء المحبوس ، أو كالخيل الملجمة تنفلت من أبواب سباقها لتجتمع في الغاية والهدف !

فكانت أشعة الليزر بنت الياقوت !

لكن ما ندري هل سيجد العلم أشعة تربة كربلاء التي تنطلق منها عند السجود عليها ، فتعبر أعماق المجرات حتى تصل الى العرش ، ثم تنعكس نوراً في قلب الساجد !

أما أهل البحرين فقد وجدوا ذلك ، فهم لا يحتاجون في ذلك الى انتظار وسائل العلم مهما كانت متطورة.. لأن الذي أخبرهم عنده نافذة مفتوحة على الغيب ، وهو أصدق وأدق من وسائل العلم !

ووصل العلم الى أن الجماد يختزن الكلام ويعيده.. لكن لم يصل الى أن سبحة كربلاء تسبِّح في يد حاملها نيابةً عنه !

وقد وجد أهل البحرين ذلك وآمنوا به ، لأن الصادقين أخبروهم به.. وقد قال لهم ربهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ .

المقالات
أكتبوا على كفني

بســم الله الرحمن الرحيم

مـا أرانـي إلا قـريبَ الرحـيلِ شيِّعونـي لحفـرتي بالعـويلِ

وَسَّـدُوا خَـدِّيَ الـترابَ وراحوا تركوني في وحـدتي وذهولي

ليت شعري إن أجلسوني بقـبري ما جوابي عن عمريَ المَطْلولِ

أنـا يـا ربِّ مُـذعـنٌ بالخطايا ومقـرُّ إقـرارَ عبـدٍ ذلــيلِ

غـير أنـي مؤمِّـلٌ منـكَ عفـو فَتَلَطَّـفْ برحمتي وقَبـولـي

إنَّ لـي إليـكَ حَـْبـلَ وِدَادٍ برسول الهـدى وآل الرسـولِ

كنـتُ فيهـمْ مُـتَيَّماً مستهام لم أُطـعْ فيهِمُ كلامَ العـذولِ

صَفْـوُ حُبَِـي لهمْ وصَفْوُ دموعي ونشيدي في بكرتـي وأصـيلي

فهُــمُ نُـوركَ المبـينُ وفيهـم‌ْ محكماتُ التـنزيلِ والتـأويل

وهُــمُ العـروةُ التي ليس يَخشى‌ من إليها انتمـى بأدنى سبـيل

وهمُ الحاكمونَ في ساحةِ الحشْرِ أيبقى مُحبُّهـم فـي الغُـلول

أيهـا الســادةُ الكـرامُ وحاش أن تـروْني أُقـادُ قَـوْدَ الذليل

أنا لمْ أنْسَ حبَّكـمْ في حياتـي هل جزاءُ الجميلِ غيرُ الجميل

كـنتُ خِـلاً لحِبِّكـم ، وعـذاب مستطيراً على العَـدُوِّ الجهـول

كـم سهــامٍ لناصبـي خـبيث راشَـها نحـوكـم بقلـب غَلول

فتلقيـت نَصْلَــها بأكُـــفِّي ورميتُ النصولَ فوقَ النصول

ونجــومٍ قطفتـها مـن علاكم أين منها الشموس ذات الأفول

زيَّنَـتْ مَحْفَلي وأغْلَـتْ كتـابي وأضاءتْ عقـولَ أهـلِ العقولِ

رَدَّدَتْـهَا المـخـدَّراتُ نـشيد عبقـرياً في مـدح آل الرسـول

وتلاهـا الداعونَ في روضة النـور ففاحَتْ أشْـذَاؤُها في الحقول

إنمـا الكـونُ بلقــعٌ أنعشتــهُ منكمُ نفحـةُ العطــاء الجزيل

أنا يا سادتـي ربيب حُـجُـورٍ زاكيـاتٍ بحبكـم ، وأصـول

مُعْـرقٌ في ولائكـم من جـذوري فـي رُبى عامـلٍ بأرضِ الجليلِ

فخـرُنـا أنـنـا مَـوالـي عـلـيٍّ إسمـه عنـدنـا شفـاءُ العليل

أرضعتنيه حُـرَّةٌ مـــعْ حليبـي فجرى في دمي وحَـلَّ غليلي

فأنــا عبــدكـم وكـلُّ قَبِيلـي كيفَ لا أرتجي لديْكم قَبُولي

المقالات
الوحـدة الإسلاميـة من وجهـة نظـر أهل البيت عليهم السلام

ثلاثة مشاريع للوحدة الإسلامية

وحدة الأمة الإسلامية ، فريضة شرعية على جميع الأمة ، وفي نفس الوقت هي مطلب منطقي لجميع المسلمين . لكنها من الناحية العملية حلمٌ بعيد المنال ! والسبب باتفاق الجميع السياسة التي فرقت وما زالت تفرق أمة رسول الله صلى الله عليه وآله .

في هذا الموضوع نعرض مشاريع الوحدة المطروحة ، ثم نستكشف من مصادر الإسلام بعيداً عن السياسة ، المشروع العملي للوحدة الإسلامية ، لنرى أنه مشروع أهل بيت النبوة عليهم السلام الذي يصلح أن يلتقي عليه المفكرون ، ويعمل له الداعون الى وحدة الأمة . وأمامنا ثلاثة مشاريع لتحقيق الوحدة الإسلامية ، نعرضها باختصار:

المشروع الأول
الوحدة بالإجبار على مذهب الخليفة وطاعته !

وهي تعني سيطرة خليفة معين بمذهبه وأفكاره على قيادة الأمة ، وفرض الوحدة على كب فئاتها بالقوة تحت زعامته ، ومصادرة حريات المعارضين سواء في التعبير عن الرأي ، أوحرية عملهم الثقافي والمذهبي ، والسياسي.

وهذه الوحدة هي التي طبقها الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وآله أبو بكر وعمر وعثمان وبنو أمية وبنو العباس . ثم طبقتها الدول المنشقة عنهم كدولة الأدارسة في المغرب ، ودولة الأمويين في الأندلس . ثم طبقتها الدول الوارثة للدولة العباسية ، مثل دولة المماليك ، وأخيراً دولة الخلافة العثمانية .

وهي نفسها الوحدة التي يتبناها الوهابيون ، وأصحاب مشروع الخلافة الإسلامية في عصرنا ، كحزب التحرير الإسلامي ، وكل الحركات التي تدعو الى إقامة دولة إسلامية ، حيث نراها كلها تدعو الى إعادة أمجاد الإسلام والخلافة التي قامت على تلك الأسس ، ولا نراها قدمت نظام حكم جديداً يعطي الأمة حريتها ودورها الشرعي ، ولا قدمت مشروعاً وحدوياً مختلفاً عن تلك الوحدة التي طبقها الخلفاء بالسيف والقتل والإضطهاد !

وبنظرة فاحصة لهذه الدول ، نجد أننا لانستطيع تسميتها دولأً إسلامية بالمعنى الحقوقي ، ولا دول وحدة شرعية كذلك ، وذلك لسببين جوهريين:

الأول: أن الحكم فيها قام على الغلبة والقهر ، وليس على دستور ونظام حكم محدد الأجهزة والآليات ! وهو أمر يحتاج الى بحث مستقل لإثبات أن نظام الخلافة باستثناء خلافة علي عليه السلام قام على أساس الغلبة القبلية والقهر وفرض البيعة بالتهديد ، وليس على أساس الشورى ، والبيعة بالإختيار !

والثاني: أنها تتبنى مصادرة الحريات الشرعية والقانونية لفئات واسعة من الأمة ، إن لم يكن لجميعها ! وهذا أيضاً يحتاج الى بحث مستقل لإثبات أن أنظمة الخلافة ماعدا خلافة علي عليه السلام قد أجبرت الناس على البيعة ، وعاملتهم على التهمة والظنة ، ولم تعطهم حرية التعبير عن الرأي ، فضلاً عن حرية المعارضة الفكرية والسياسية .

وفي اعتقادنا أن نقطتي الضعف هاتين هما السبب في انهيار تلك الدول التي قامت في تاريخنا الإسلامي ، رغم أنها كانت تملك أفضل الظروف ، وأقوى عوامل الثبات والإستمرار !

فقد كان التداعي الطبيعي لهذا النوع من النظام القرشي الذي ولدته السقيفة وقمعت فيه الأنصار وأهل البيت عليهم السلام ، أن يتسلط بنو أمية ، ثم تكون ردة فعلهم تسلط بني العباس ، ثم تسلط عناصر العسكرتاريا من المماليك والأتراك ، ثم تكون نهاية الخلافة العثمانية أن تدفن بصمت بيد الغربيين في استانبول ، بل تساعد على دفنها حركات (التحرر) العربية والحركة السلفية !

المشروع الثاني
الوحدة السياسية التلفيقية بين المذاهب

ويتجه بعض المسلمين الى هذا النوع من الوحدة ، فيتصورون مثلاً أن بالإمكان أن يتوحد المسلمون على المشتركات في أصول العقائد والفقه ، وأن يتوصلوا الى حلول وسط في المسائل الخلافية العقيدية أو الفقهية . ويكثر هذا الإتجاه في المثقفين على الطريقة الغربية ، الذين لا تعني لهم الفروقات العقيدية والفقهية شيئاً كثيراً !

ويكثر أيضاً في الأوساط التي يختلط فيها السنة والشيعة ويحبون التعايش والوحدة مع بعضهم ، فترى بعضهم يقول: أنا مسلم لا شيعي ولا سني ، أو يقولون: نريد إسلاماً بلا مذاهب !

ويعارض هذا الإتجاه عادة المتمسكون بالمذهب ، لأن الإشكالات على هذا المشروع كثيرة :

منها: أنه مشروع نظري صعب التطبيق ، فليس له ضابطة عملية تعين المشتركات والمفترقات . وعلى فرض الإتفاق على تعيينها ، فلا ضابطة فيه لتعيين الوسط الذي يتفق عليه من بيينها ، فما هو المقياس في ذلك ، ومَن هم الذين سيطبقونه لاختيار المذهب الملفق من مجموع العقائد والأحكام في مجموع المذاهب ؟!

ومنها: أنه مشروع غير قابل للحياة ، فلنفرض أن حكماً قام بلد مختلط المذاهب كالعراق مثلاً ، على أساس التلفيق بين المذهبين الشيعي والسني ، وتم الإتفاق فيه على مذهب مختار من المجموع ، فمن المؤكد أن هذا المذهب (المنتخب) سوف لايكون أكثر من قوانين حكومية ، ولا ضمان لأن يلتزم به الناس من السنة أو الشيعة ! بل سيكون مثاراً لاختلافات جديدة بينهم ، بل بين جهاز الدولة نفسه ، وسيمتد الخلاف الى أصل النظام !

قد يقال: نعم هذا صحيح ، وهو الحجة التي يتخذها العلمانيون لضرورة إقامة نظام علماني ، لأن أول سؤال يواجهنا أمام تطبيق النظام الإسلامي: على أي مذهب ستطبقونه؟ فالأفضل أن يكون النظام علمانياً ، والقوانين مدنية وحتى غربية غير إسلامية ، حتى لانقع في مشكلة الخلاف والصراع المذهبي .

والجواب: أولاً ، أن النظام العلماني لايحل المشكلة أيضاً ، لافي الدستور ولا في القوانين ، لأن أكثرية المسلمين تعارضه ، ولذا لايسمح العلمانيون في بلادنا بإجراء انتخابات حرة! وتراهم يلجؤون الى الحكم العسكري وشبه العسكري ، وهو صورة أخرى من نظام القهر والغلبة !

أما قوانينهم التي يقرها النظام العلماني نظرياً ، فهي في الأعم الأغلب غائبة في إجازة ، ولا يعود القانون من إجازته إلا أحياناً نادرة ! وهذا أمر يحتاج الى بحث مستقل لا مجال له هنا .

وثانياً ، أن الحلول الإسلامية لمشكلة النظام والقوانين لاتنحصر بالمذهب التلفيقي ، أو بأن يحكم أهل مذهب معين غيرهم بالغلبة والقهر ! فمن الممكن أن يكون النظام إسلامياً مع إعطاء الحرية للمسلمين كل حسب مذهبه ! بدون تلفيق غير موفق بينها . وعندما نملك حلاً لمشكلة النظام والقوانين من داخل الإسلام والبلد ، فلا نحتاج الى استيراد حل من خارجه !

المشروع الثالث
الوحدة السياسية مع حفظ الحريات الإقليمية والمذهبية

وهو مشروع أكثر ملاءمة لروح الإسلام وروح العصر أيضاً . لأنه لا يقوم على القهر والغلبة ، ويتجه لتحقيق الحد الأدنى من العمل لمصالح المسلمين في العالم . ويمكن أن تكون منظمة الدول الإسلامية والمؤسسات الإسلامية العالمية الأخرى نواة لهذا المشروع ، بشرط أن تبعث فيها الحياة ، ويتم تفعيلها .

قد يقال: إن هذا النوع من الوحدة شبيه الى حد كبير بالإتحاد الأوروبي ؟

والجواب: ما المانع أن يشبه مشروع الوحدة الإسلامية مشاريع الوحدة الأخرى ، مادام محافظاً على خصوصيته ، التي هي العمل لمصالح المسلمين العليا الثلاثة: الدفاع ، والتنمية ، والمحافظة على الثقافة الإسلامية .

وقد يقال: كيف نفضل مشروعاً في الوحدة السياسية ونسميه وحدة إسلامية ، على مشروع الوحدة الحقيقية والإندماج الكامل للبلاد الإسلامية تحت قيادة واحدة ؟

والجواب: أن أي وحدة في الأمة لكي يصح وصفها بأنها وحدة إسلامية ، لابد أن يكون فيها الحد الأدنى من مقومات الوحدة في شريعة الإسلام ، ومن أصول هذا الحد الأدنى احترام حرية المسلمين التي قررها لهم الإسلام والعمل لتحقيق الحد الأدنى من مصالحهم المشروعة .

ومشاريع الوحدة التي تتبناها الحركات الإسلامية إنما هي مشاريع تقوم على أصل القهر والغلبة ، أي على دكتاتورية الخليفة المفترض أو الحاكم ، فلا يمكن أن تضمن حرية المسلمين المشروعة ، ولا مصالحهم العليا !‍‍

نخلص من هذه المقدمة الى نتيجة ، هي أن الوحدة الإسلامية لا بد أن تتوفر فيها أربعة عناصر أساسية ، لتكون وحدةً لمصلحة الإسلام كدين ، والمسلمين كأمة ، وهي:

1- ضمان حرية المسلمين التي شرعها لهم الإسلام في التعبير والعمل والمعارضة ، في الشؤون الشخصية والمذهبية والعامة .

2- أن تكون وحدةً تخدم مصلحتهم العليا في الدفاع ، عن أرضهم ومقدراتهم .

3- أن تكون وحدةً تخدم مصلحتهم العليا في التنمية ، أي في أمور معاشهم وتطوير ثرواتهم ومجتمعاتهم .

4- أن تكون وحدةً تخدم مصلحتهم العليا في الدفاع عن دينهم وثقافتهم وعزتهم كأمة ختم الله بها الأمم .

وفي اعتقادي أن هذه هي الوحدة التي دعا اليها وعمل لها أهل البيت النبوي الأطهار عليهم السلام بعد أن فقدت الأمة وحدتها الطبيعية بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وانتقلت الى الوحدة بالغلبة والقهر على مذهب الخليفة الحاكم .

ويحسن بنا أن نختم بعرض مفهوم وحدة الأمة في القرآن لنراها متوافقة مع مفهومنا عن الوحدة الصحيحة في الأمة .

الخطوط العامة للوحدة في القرآن الكريم

في آيات الوحدة والتفرق في القرآن أبلغ المفاهيم والحقائق العقلانية الواقعية ، عن عوامل وحدة الأمة وتفرقها الى أحزاب وأمم ! وهذه أهم آياتها التي تحدد خطوطها وصفاتها العامة :

1- وحدة البشرية بالأب والأم ، ونوعية النفس الإنسانية

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) .(سورة النساء:1)

2- الوحدة الطبيعية بين الناس في المجتمعات البشرية الأولى

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). (سورة البقرة:213). ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ في مَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) . (سورة يونس: 19).

3- اختلاف الأمة الواحدة وتفرقها سنة في التاريخ !

(وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).(سورة هود:118).

4- أمر الله أمم الأنبياء عليهم السلام بالوحدة وهو يعلم أنها لاتطيع !

(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون . وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) . (سورة الأنبياء:92-93).

( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ اعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ . فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). (سورة المؤمنون:51-53).

5- انقسام اليهود والنصارى الى أحزاب وأمم !

( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ .وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَ يُؤتُوا الزَّكَوةَ وَ ذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) . (سورة البيّنة:3- 4).

6- أمر الله المسلمين بحفظ وحدتهم التي تحققت بمعجزة !

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .(آل عمران:102-103).

7- الضمان لوحدة الأمة هو وجود أمة داعية فيها !

( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .وَلاتَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). سورة آل عمران:104- 105.

( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) . (سورة الأنعام:153).

8- تحذير الله للأمة من فئة تبغي عليها عن علم وعمد !

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ . وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَ لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ). (سورة الشورى:13–14).

9- المنافقون عامل التفريق في الأمة !

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَ كُفْرًا وَ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَ اللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ). (سورة التوبة: 107).

10- الإختلاف والتفرق في هذه الأمة سنة إلهية !

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ في السَّعِيرِ . وَ لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ في رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَ لا نَصِيرٍ ). (سورة الشورى:7 –8).

( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) . (سورة النحل:93).

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجًا وَ لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (سورة المائدة:48).

11- المساواة الإلهية بين الأمم والشعوب في العطاء الدنيوي !

( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) . (سورة الزخرف:33).

المقالات
كلمة حول الزيارة الجامعة

ملحمة التشيع في مقامات أهل البيت النبوي صلوات الله عليهم

يتصور البعض أن المشكلة الوحيدة في قضية أهل البيت عليهم السلام هي الغلو ، مع أن الغلو محصور في حفنة من الناس غلوا في بعض أهل البيت وألَّهُوهم مع الله تعالى ، والعياذ بالله ، وقد حسم المسلمون موقفهم منهم واتفقوا على كفر كل من ألَّه مخلوقاً ، أو أشركه مع الله تعالى .

لكن المشكلة في قضيتهم عليهم السلام هي تقصير المسلمين في أداء فرائض الله بحقهم ، من وجوب ولايتهم ومحبتهم ، ومعرفتهم ، والتلقي منهم ، والإهتداء بنورهم..

المشكلة أن أكثر المسلمين أعرضوا عن عمد عن أهل بيت نبيهم صلى الله عليه وآله ، وابتعدوا عن ولايتهم ، وحتى عن فهمهم.. وابتلوا بمرض حب مخالفيهم وظالميهم وأعدائهم ، والغلو فيهم والهيام !

والأسوأ في تقصير المقصرين ، أنهم أخذوا على أنفسهم محاربة المسلم الذي يؤدي فريضة ربه في حق أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله ! فتراهم يصفون محبيهم وشيعتهم بالضلال والغلو ، وقد يحكمون عليهم بالكفر !!

لقد توارثوا هذا الموقف الظالم من أسلافهم أتباع الخلافة القرشية ، الذين وصف الشاعر الكميت رحمه الله عداوتهم ، فقال:

وطائفةٌ قد كفرتني بحبكمْ وطائفة قالوا مسئٌ ومذنبُ

فما ساءنيى تكفير هاتيك منهمُ ولا عيب هاتيك التي هي أعيب

يعيبونني من خِبِّهم وضلالهمْ على حبكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا ترابيٌّ هواهُ ورأيهُ بذلك أدعى فيهمُ وألقَّبُ

فلا زلت منهم حيث يتهمونني ولا زلت في أشياعكم أتقلب

وأحمل أحقاد الأقارب فيكم وينصب لي في الأبعدين فأنصب

بخاتمكم غصباً تجوز أمورهم فلم أرَ غصباً مثله حين يغصب

فقل للذي في ظل عمياءَ جونة ترى الجور عدلاً أين لا أينَ تذهب

بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سنة ترى حبهم عاراً عليَّ وتحسب

فما ليَ إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ وماليَ إلا مذهبَ الحق مذهب

والزيارة الجامعة نصٌّ معصومٌ يتضمن العديد من صفات الأئمة من أهل البيت النبوة الطاهرين عليهم السلام ، وهي جديرة بأن يتفهمها السني بصفتها نصاً يمثل عقيدة الشيعة في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، وأن يستوعبها الشيعي لأنها تفتح له الآفاق لمعرفة مكانة نبيه وأئمته المعصومين ، ومقاماتهم عند الله تعالى ، ودورهم مع ملائكة الله تعالى في حياة الإنسان والكون .

ومن الطبيعي أن توجد في الناس وفي طلبة العلم مستويات متعددة من الفهم.. وأن تعيا الأذهان المسطحة ، والعقول المكلسة ، والمشاعر الملبدة ، والصدور الضيقة.. فلا تتحمل حقائق مقامات المعصومين صلوات الله عليهم.. لكن الأولى لمن يصعب عليه فهم شئ، أن لا يتعجل بنفيه وإنكاره فربما كان سببه أنه لم يستوعب ذهنه ، أو لم يستطع أن يتعقل.. وربما استطاع أن يفهم فيما بعد ، بجهده ، أو بشرح أحد .

إن هذا الإحتمال العقلاني ضروري لمن يقرأ الزيارة الجامعة ، وشروحها الفلسفية والحديثية والأدبية.. والله الهادي .

مكانة الزيارة الجامعة

الزيارة الجامعة نَصٌّ مكتوب أملاه الإمام علي الهادي عليه السلام ، في نحو عشر صفحات ، يزور بها الشيعة أئمتهم عليهم السلام فيتلونها في مشاهدهم ، كما يتلونها في مساجدهم وحسينياتهم وبيوتهم .

ولهذه الزيارة منذ القديم مكانة خاصة عند علماء الشيعة ومتدينيهم ، لم تزدد مع العصور إلا رسوخاً.. والسبب ليس بلاغة تعبيرها فحسب ، بل لأن مفاهيمها وأفكارها عن مقام النبي والأئمة عليهم السلام انتظمت أهم مفردات عقيدة الشيعة ، فهي بحق ملحمة ولائية ، يعشقها الإنسان الشيعي ، وأنشودةٌ محببة الى قلبه وعقله في مقامهم ، يطيب له أن يلقيها في مديحهم .

نص الزيارة الجامعة

قال الصدوق رحمه الله في عيون أخبار الرضا عليه السلام :1/304:(حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه ، ومحمد بن أحمد السناني ، وعلي بن عبد الوراق ، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتب قالوا: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، وأبو الحسين الأسدي قالوا: حدثنا محمد بن اسماعيل المكي البرمكي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي قال قلت لعلي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام : علمني يا ابن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم ، فقال: إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين وأنت على غسل، فإذا دخلت ورأيت القبر فقف وقل: الله أكبر ثلاثين مرة ، ثم امش قليلاً وعليك السكينة والوقار ، وقارب بين خطاك ، ثم قف وكبر الله عز وجل ثلاثين مرة ، ثم ادْنُ من القبر وكبر الله أربعين مرة ، تمام مئة تكبيرة ، ثم قل:

السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، ومعدن الرسالة ، وخزان العلم ، ومنتهى الحلم ، وأصول الكرم ، وقادة الأمم ، وأولياء النعم ، وعناصر الأبرار ، ودعائم الأخيار ، وساسة العباد ، وأركان البلاد ، وأبواب الايمان ، وأمناء الرحمن ، وسلالة النبيين ، وصفوة المرسلين، وعترة خيرة رب العالمين، ورحمة الله وبركاته.

السلام على أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، وأعلام التقى ، وذوي النهى ، وأولي الحجى ، وكهف الورى ، وورثة الأنبياء ، والمثل الأعلى ، والدعوة الحسنى ، وحجج الله على أهل الآخرة والأولى ، ورحمة الله وبركاته

السلام على محال معرفة الله ، ومساكن بركة الله ، ومعادن حكمة الله ، وحفظة سر الله ، وحملة كتاب الله ، وأوصياء نبي الله ، وذرية رسول الله ، ورحمة الله وبركاته .

السلام على الدعاة إلى الله ، والأدلاء على مرضات الله ، والمستقرين في أمر الله ونهيه ، والتامين في محبة الله ، والمخلصين في توحيد الله ، والمظهرين لأمر الله ونهيه ، وعباده المكرمين ، لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، ورحمة الله وبركاته .

السلام على الأئمة الدعاة ، والقادة الهداة ، والسادة الولاة ، والذادة الحماة ، أهل الذكر ، وأولي الأمر ، وبقية الله ، وخيرته ، وحزبه ، وعيبة علمه ، وحجته ، وصراطه ، ونوره ، وبرهانه ، ورحمة الله وبركاته

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،كما شهد الله لنفسه ، وشهدت له ملائكته وأولو العلم من خلقه ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ، ورسوله المرتضى ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون .

وأشهد أنكم الأئمة الراشدون ، المهديون المعصومون ، المكرمون المقربون المتقون الصادقون المصطفون ، المطيعون لله القوامون بأمره ، العاملون بإرادته الفائزون بكرامته ، اصطفاكم بعلمه ، وارتضاكم لدينه ، واختاركم لسره ، واجتباكم بقدرته ، وأعزكم بهداه ، وخصكم ببرهانه ، وانتجبكم لنوره ، وأيدكم بروحه ، ورضيكم خلفاء في أرضه ، وحججاً على بريته ، وأنصاراً لدينه ، وحفظةً لسره ، وخزنةً لعلمه ، ومستودعاً لحمكته ، وتراجمةً لوحيه ، وأركاناً لتوحيده ، وشهداء على خلقه ، وأعلاماً لعباده ، ومناراً في بلاده ، وأدلاء على صراطه ، عصمكم الله من الزلل ، وآمنكم من الفتن ، وطهركم من الدنس ، وأذهب عنكم الرجس ، وطهركم تطهيرا .

فعظمتم جلاله وكبرتم شانه ، ومجدتم كرمه ، وأدمنتم ذكره ، ووكدتم ميثاقه ، وحكمتم عقد طاعته ، ونصحتم له في السر والعلانية ، ودعوتم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبذلتم أنفسكم في مرضاته ، وصبرتم على ما أصابكم في جنبه ، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم في الله حق جهاده ، حتى أعلنتم دعوته وبينتم فرائضه ، وأقمتم حدوده ، ونشرتم شرائع أحكامه ، وسننتم سنته ، وصرتم في ذلك منه إلى الرضا ، وسلمتم له القضاء ، وصدقتم من رسله من مضى .

فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمقصر في حقكم زاهق ، والحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم ، وأنتم أهله ومعدنه ، وميراث النبوة عندكم وإياب الخلق إليكم وحسابه عليكم ، وفصل الخطاب عندكم ، وآيات الله لديكم وعزائمه فيكم ، ونوره وبرهانه عندكم ، وأمره إليكم .

من والاكم فقد والى الله ومن عاداكم عادى الله ، ومن أحبكم فقد أحب الله ومن إعتصم بكم فقد اعتصم بالله ، أنتم السبيل الأعظم والصراط الأقوم ، وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء ، والرحمة الموصلة ، والآية المخزونة والأمانة المحفوظة ، والباب المبتلى به الناس ، من أتاكم نجى ، ومن لم يأتكم هلك ، إلى الله تدعون وعليه تدلون ، وبه تؤمنون وله تسلمون ، وبأمره تعملون ، وإلى سبيله ترشدون ، وبقوله تحكمون .

سعد والله من والاكم وهلك من عاداكم ، وخاب من جحدكم ، وضل من فارقكم ، وفاز من تمسك بكم ، وأمن من لجأ إليكم ، وسلم صدقكم ، وهدى من اعتصم بكم . من اتبعكم فالجنة مأواه ومن خالفكم فالنار مثواه ومن جحدكم كافر ، ومن حاربكم مشرك ، ومن رد عليكم فهو في أسفل درك من الجحيم . أشهد أن هذا سابق لكم فيما مضى وجار لكم فيما بقي، وأن أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة ، طابت وطهرت بعضها من بعض ، خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين ، حتى من علينا فجعلكم الله في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وجعل صلاتنا عليكم وما خصنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا وطهارة لأنفسنا وتزكية لنا وكفارة لذنوبنا ، فكنا عنده مسلمين بفضلكم ومعروفين بتصديقنا إياكم .

فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين ، وأعلى منازل المقربين ، وأرفع درجات أوصياء المرسلين ، حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ولا يسبقه سابق ، ولا يطمع في إدراكه طامع ، حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صديق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دني ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبار عنيد ولا شيطان مريد ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إلا عرفهم جلالة أمركم ، وعظم خطركم ، وكبر شأنكم ، وتمام نوركم وصدق مقاعدكم ، وثبات مقامكم ، وشرف محلكم ، ومنزلتكم عنده وكرامتكم عليه ، وخاصتكم لديه ، وقرب منزلتكم منه .

بأبي أنتم وأمي وأهلي ومالي وأسرتي ، أشهد الله وأشهدكم أني مؤمن بكم وبما أتيتم به ، كافر بعدوكم وبما كفرتم به ، مستبصر بشأنكم وبضلالة من خالفكم ، موالٍ لكم ولأوليائكم ، مبغض لأعدائكم ومعاد لهم ، وسلم لمن سالمكم ، وحرب لمن حاربكم ، محقق لما حققتم مبطل لما أبطلتم ، مطيع لكم ، عارف بحقكم مقر بفضلكم ، محتمل لعلمكم محتجب بذمتكم ، معترف بكم مؤمن بإيابكم ، مصدق برجعتكم ، منتظر لأمركم ، مرتقب لدولتكم ، آخذ بقولكم عامل بأمركم ، مستجير بكم ، زائر لكم عائذ بكم ، لائذ بقبوركم مستشفع إلى الله عز وجل بكم ، ومتقرب بكم إليه ، ومقدمكم أمام طلبتي وحوائجي وإرادتي في كل أحوالي وأموري ، مؤمن بسركم وعلانيتكم وشاهدكم وغائبكم ، وأولكم وآخركم ، ومفوض في ذلك كله إليكم ، ومسلم فيه معكم ، وقلبي لكم مؤمن ورأيي لكم تبع ، ونصرتي لكم معدة ، حتى يحيي الله تعالى دينه بكم ويردكم في أيامه ، ويظهركم لعدله ن ويمكنكم في أرضه . فمعكم معكم لا مع عدوكم ، آمنت بكم وتوليت آخركم بما توليت به أولكم ، وبرئت إلى الله تعالى من أعدائكم ، ومن الجبت والطاغوت والشياطين وحزبهم الظالمين لكم ، والجاحدين لحقكم ، والمارقين من ولايتكم ، والغاصبين لإرثكم ، الشاكين فيكم ، المنحرفين عنكم ، ومن كل وليجة دونكم ، وكل مطاع سواكم ، ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار .

فثبتني الله أبداً ما حييت على موالاتكم ومحبتكم ودينكم ، ووفقني لطاعتكم ، ورزقني شفاعتكم وجعلني من خيار مواليكم التابعين لما دعوتم إليه، وجعلني ممن يقتص آثاركم ويسلك سبيلكم ويهتدي بهداكم ويحشر في زمرتكم ويكر في رجعتكم ويملك في دولتكم ويشرف في عافيتكم ويمكن في أيامكم وتقر عينه غدا برؤيتكم .

بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي ، من أراد الله بدأ بكم ومن وحده قبل عنكم ومن قصده توجه إليكم ، مواليَّ لا أحصي ثنائكم ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن الوصف قدركم وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار وحجج الجبار بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وبكم ينفس الهم وبكم يكشف الضر وعندكم ما ينزل به رسله وهبطت به ملائكته وإلى جدكم بعث الروح الأمين

آتاكم الله ما يؤت أحداً من العالمين ، طأطأ كل شريف لشرفكم ، وبخع كل متكبر لطاعتكم ، وخضع كل جبار لفضلكم ، وذل كل شئ لكم ، وأشرقت الأرض بنوركم ، وفاز الفائزون بولايتكم ، بكم يسلك إلى الرضوان وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن .

بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي ، ذكركم في الذاكرين ، وأسماءكم في الأسماء ، وأجسادكم في الأجساد ، وأرواحكم في الأواح ، وأنفسكم في النفوس ، وآثاركم في الآثار ، وقبوركم في القبور ، فما أحلى أسماءكم وأكرم أنفسكم وأعظم شأنكم وأجل خطركم وأوفى عهدكم .

كلامكم نور ، وأمركم رشد ، ووصيتكم التقوى ، وفعلكم الخير ، وعادتكم الإحسان ، وسجيتكم الكرم ، وشأنكم الحق والصدق والرفق ، وقولكم حكم وحتم ، ورأيكم علم وحلم وحزم ، إن ذكر الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه .

بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي كيف أصف حسن ثنائكم ، وكيف أحصي جميل بلائكم ، وبكم أخرجنا الله من الذل ، وفرج عنا غمرات الكروب ، وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار ، بأبي أنتم وأمي ونفسي، بموالاتكم علمنا الله معالم ديننا ، وأصلح ما كان فسد من دنيانا ، وبموالاتكم تمت الكلمة ، وعظمت النعمة ، وائتلفت الفرقة ، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة ، ولكم المودة الواجبة ، والدرجات الرفيعة ، والمقام المحمود عند الله تعالى ، والمكان المعلوم ، والجاه العظيم ، والشأن الرفيع ، والشفاعة المقبولة . رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً . ياولي الله إن بينى وبين الله ذنوباً لا يأتي عليها إلا رضاكم ، فبحق من ائتمنكم على سره ، واسترعاكم أمر خلقه ، وقرن طاعتكم بطاعته ، لمَّا استوهبتم ذنوبي ، وكنتم شفعائي، إني لكم مطيع .

من أطاعكم فقد أطاع الله ، ومن عصاكم عصى الله ، ومن أحبكم فقد أحب الله ، ومن أبغضكم فقد أبغض الله .

اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي ، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك ، أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقهم ، وفي زمرة المرجوين لشفاعتهم إنك أرحم الراحمين . وصلى الله على محمد وآله حسبنا الله ونعم الوكيل .

فصول الزيارة الجامعة
الفصل الأول: مراسم الزيارة ومقدماته

وهي الإغتسال للزيارة ، والتشهد عند الوصول الى الباب ، والتكبير مئة مرة عند الدخول الى مشهد المعصوم عليه السلام .

الفصل الثاني: التسليمات الخمس على أهل البيت عليهم السلام

التسليم الأول: وفيه تسع عشرة صفة من صفات الأئمة عليهم السلام تبدأ بقوله: ( السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة.. الى قوله: وعترة خيرة رب العالمين ).

التسليم الثاني: وفيه عشر صفات للأئمة ، تبدأ بقوله: ( السلام على أئمة الهدى ومصابيح الدجى.. الى قوله: وحجج الله على أهل الآخرة والأولى) .

التسليم الثالث: وفيه سبع صفات للأئمة عليهم السلام ، تبدأ بقوله: ( السلام على محال معرفة الله..الى قوله: وذرية رسول الله ).

التسليم الرابع: وفيه سبع صفات للأئمة عليهم السلام أيضاً ، تبدأ بقوله: (السلام على الدعاة إلى الله..الى قوله: وهم بأمره يعملون) .

التسليم الخامس: وفيه أربع عشرة صفة للأئمة عليهم السلام ، تبدأ بقوله: ( السلام على الأئمة الدعاة والقادة الهداة.. الى قوله: وصراطه ونوره وبرهانه ) .

الفصل الثالث: التشهد والشهادة للأئمة عليهم السلام

وهو تشهد لله تعالى بالوحدانية ، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله بالنبوة والرسالة، ثم شهادةٌ مفصلة للأئمة عليهم السلام بإمامتهم ومقاماتهم عند الله تعالى وسيرتهم . وقد تضمن أكثر من مئة صفة لهم عليهم السلام وتتكون الشهادة لهم من خمس فقرات:

الفقرة الأولى ، الشهادة بما أعطاهم الله من نعم: من قوله: ( وأشهد أنكم الأئمة الراشدون.. الى قوله: وطهركم تطهيراً) .

الفقرة الثانية، وصف طاعتهم لله وعبوديتهم التي قابلوا بها نعمه عليهم: من قوله: (فعظمتم جلاله وكبرتم شانه.. الى: وصدقتم من رسله من مضى).

الفقرةالثالثة ، في بيان أنهم عليهم السلام ميزان الهدى والضلال والنجاة والهلاك: من قوله: ( فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق.. الى قوله: ومن رد عليكم فهو في أسفل درك من الجحيم ) .

الفقرة الرابعة، في بيان وحدة نور النبي والأئمة عليهم السلام في عالم الخلق والحجة: من قوله: ( أشهد أن هذا سابقٌ لكم فيما مضى ، وجار لكم فيما بقي.. الى قوله: فكنا عنده مسلمين بفضلكم ، ومعروفين بتصديقنا إياكم) .

الفقرة الخامسة، الدعاء للأئمة عليهم السلام أن يبلغ الله فيهم هدفه: من قوله:(فبلغ الله بكه أشرف محل المكرمين.. الى قوله: وخاصتكم لديه وقرب منزلتكم منه).

الفقرة السادسة ، الشهادة لله بولايتهم والبراءة من أعدائهم ومخالفيهم: من قوله ( بأبي أنتم وأمي وأهلي ومالي وأسرتي أشهد الله وأشهدكم أني مؤمن بكم.. الى قوله: ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار ) .

الفصل الرابع : أنهم الطريق الى الله تعالى دون غيرهم

من قوله: ( بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي ، من أراد الله بدأ بكم.. الى قوله: وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن ) .

الفصل الخامس: أن الله منَّ على البشر

فجعل النبي وآله فيهم وإلا فهم فوق البشر ، من قوله: ( بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي ، ذكركم في الذاكرين..الى قوله: إن ذكر الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه ) .

الفصل السادس: نعمة النبي والأئمة عليهم السلام على مُواليهم

من قوله: ( بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي كيف أصف حسن ثنائكم الى قوله: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا) .

الفصل السابع: الإستشفاع والتوسل بالنبي والأئمة صلى الله عليه وآله

من قوله: (يا ولي الله إن بينى وبين الله ذنوباً.. الى قوله: وفي زمرة المرجوين لشفاعتهم إنك أرحم الراحمين ) .

مراسم الزيارة ومقدماته

إذا كنت تحب ملكاً أو رئيساً ، أو شخصية كبيرة ، وتعتقد بأنه نزيه عادل ، وأردت أن تذهب الى قصره لتلقي أمامه قصيدة في مدحه.. فإن من الطبيعي أن تستحم وتتطيب.. وبهذا تتفهم معنى استحباب الغسل لمن أراد زيارة قبر النبي أو أحد الأئمة صلى الله عليه وعليهم .

ثم ، إذا وصلت الى باب قصر الملك فنطقت بالشهادتين ، فإنك تقول بذلك: أنا مسلم أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فلا يتصورن أحد أني سأقول ما ينافي ذلك ..

ثم ، إذا خطوت الى القاعة وأنت تكبر الله تعالى ، فإنك تقول بتكبيرك: الله أكبر من كل كبير ، فلا يتصورن أحد أني بمدحي لمخلوق أشركه بالله تعالى ، فالمخلوق مهما أعطاه الله يبقى عبداً مملوكاً..

وبهذا المثل يَقترب ذهنك من تفهم آداب الزيارة الجامعة التي تقول:

(إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين وأنت على غسل. فإذا دخلت ورأيت القبر فقف وقل الله أكبر ثلاثين مرة . ثم امش قليلاً وعليك السكينة والوقار وقارب بين خطاك ، ثم قف وكبر الله عز وجل ثلاثين مرة . ثم ادْنُ من القبر ، وكبر الله أربعين مرة ، تمام مئة تكبيرة ). انتهى.

فأنت بإعلان الشهادتين عند الباب، تقول لمن يتخيل أنك تعبد المعصوم: كلا.. فأنا مسلم وزيارتي وتعظيمي للمعصومين وتوسلي بهم صلوات الله عليهم ، هو من ضمن توحيدي المطلق لله تعالى ، ومن ضمن توحيدي لنبيه بالنبوة.. إن زيارتي عملٌ يؤكدهما ولا ينافيهما..

والتكبير بهذه الطريقة المقصودة.. أول ما ترى القبر ثلاثين مرة ، ثم تمشي قليلاً وتقف وتكبر ثلاثين ، ثم إذا دنوت من القبر كبرت أربعين.. يقصد منه تلقين النفس وتفهيم الآخرين أن لاتهولهم عظمة المزور وصفاته الفريدة ، فما كل هذه العظمة إلا عطاء من الله الأعظم والأكبر على الإطلاق ، تبارك وتعالى .

أما المشي بهدوء واحترام ، فهو تعليم مدني نلاحظه في أعمال الحج ، وفي زيارة قبر النبي والأئمة صلوات الله عليهم . وهو تعليمٌ على الأدب مع الإمام المعصوم ، وعلى التفكير ، وعلى مراسم الدخول على العظماء..فنوع مشي الإنسان يظهر أدبه واحترامه للمجلس الذي يدخل عليه ، فلا يدخله عامياً متعجلاً ، غير مراعٍ لحرمته . كما أن مشيه بهدوء وسكينة يفرض عليه التفكير في عمله وفي شخصية المزور .

فمراسم الدخول أسلوب مدني يركز في نفسه قداسة عمله المحترم .

خلط المقصرين بين مقام الله تعالى ومقام المخلوقين

المشكلة الصعبة في ذهن الذين يتهموننا بالغلو في الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، أنها تتصور أن تقديس المخلوق يعني عبادته ويتنافى مع تقديس الخالق ! وأن المقامات التي يعطيها الشيعة والمتصوفة للأنبياء والأوصياء والأولياء ، تقتطع اقتطاعاً من مقام الله تعالى ! فكأن الله تعالى في أذهانهم قمةٌ يؤثر عليها وجود قمم أخرى ! أو شخصٌ يملك ثروة الخلق والرزق والقدرة ، فإن أعطى منها شيئاً لبعض مخلوقاته نقصت ثروته ، وصار غيره شريكاً له !

إنها السذاجة البشرية في تصور قدرة الله تعالى المطلقة وخزائنه الغنية التي لاينقصها العطاء مهما كثر.. ثم هي السطحية في تخيل أن القدرة المعطاة لمخلوق ، كالقدرة الذاتية لله تعالى ، مع أن الفرق بينهما في الماهية قبل الكمية !!

نعم ، إن هذه السذاجة في تصور الله تعالى، والسطحية البدوية في تصور أفعاله ، هي المسؤولة عن اتجاه بعض المسلمين الى التجسيم اليهودي ، ثم اتجاههم الى قمع المخلوقات بمن فيهم الأنبياء عليهم السلام ، وتقييد الله تعالى (ومنعه) أن يعطي أحداً قدرةً أو مقاماً !

نقول لهؤلاء ما بالكم تعتقدون بالقدرات الفائقة الخارقة التي منحها الله تعالى لملائكته ، فوكلهم بجوانب من الخلق والرزق وإدارة الكون..

فهل ينقص ذلك من قدرته وهيمنته ونسبة الأفعال في الكون اليه ؟ فإن قالوا: لا ، نقول: ما المانع إذن أن يعطي الله تعالى قدرات ومقامات لمحمد وآل محمد صلى الله عليه وعليهم ، وهم أفضل من الملائكة ؟!

يقولون ، كلا ، إن محمداً بشر مثلنا.. وهو شعارٌ يكرره الوهابيون !

نقول: ومتى كان إثبات شئ يعني نفي ماعداه ؟! نعم هو بشر مثلنا ، لكن هذا وجه من حقيقة شخصيته صلى الله عليه وآله وليس كلها.. فلماذا تخفون الوجه الآخر لشخصيته صلى الله عليه وآله ؟ فهو بشر لكنه بشر يتلقى الوحي ، ويعرج به الى السماء ، وهو بشر يدعو فيطيعه الحجر والشجر ، وبشر يرى من خلفه كما يرى من أمامه ، وتنام عيناه ولا ينام قلبه ، ويشرب شخص دم حجامته فلا يمرض ولا يشيب! فأعطونا بشراً له هذه الصفات.. أو افهموا كالناس أن نبينا صلى الله عليه وآله بشرٌ لا كالبشر !

إن فهم هؤلاء المقصرين وتصورهم لمقام نبيهم وآله صلى الله عليه وآله ، يهبط حتى يخلد الى الأرض، ويقترب كثيراً من فهم الكافرين الذين واجهوا أنبياءهم بقولهم: مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَئٍْ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ .

وعندما تبحث عن سبب تصغيرهم لمقام النبوة ، تجد أنهم صغروا مقام الله تعالى ! ومن كان معبوده إله التوراة ، وجعله شاباً أمرد يلبس نعلين من ذهب ، لا بد أن يكون نبيه بشراً من نوع الأنبياء الذين توبخهم توراة اليهود وتنسب اليهم الجرائم !!

ومن غرائب هؤلاء المقصرة أنهم يقبلون توسيط الله تعالى للملائكة في الخلق والرزق وكل فاعلياته ، ويرفضون ذلك رفضاً باتاً لمن هم أفضل من الملائكة: النبي وآله صلى الله عليه وآله !

فلو حدثهم أحد عن مقام جبرئل عند ربه عز وجل ، وما أعطاه من قدرات وصلاحيات ، وأنه لا يحتاج في نزوله الى الأرض أو ذهابه الى أي نقطة من الكون الى أكثر من ثوان معدودة ، وأن له قدرة أن يكون على شكل إنسان فينزل الى الأرض ، وعلى شكل موجة من نور ويتجول في السماوات .. وأن شكله الأصلي الذي خلقه الله عليه ، أعجب من كل ما رأينا وسمعنا ، فهو جسم نوراني لا كما نعرف من الأجسام ، يتساقط عن قدميه مثل اللؤلؤ الرطب ، وتفوح منه رائحة أزكى من عطور الدنيا ، عملاق نوراني خاشع ، له أجنحة كثيرة ، يسد طوله الفضاء.. الخ.

ولو قال لهم: إن جبرئيل حاكم مطاع على جميع ملائكة الله تعالى في أنحاء الكون الواسع الشاسع ، وهم أكثر خلق الله عدداً ، والواحد منهم قد تكون تحت يده مديرية أوسع من إدارة الأرض والمجموعة الشمسية ، وأنه أمين الله ورسوله الى كبار أنبياء الله ورسله، ابتداء من أبينا آدم عليه السلام الى نبينا محمد صلى الله عليه وآله ..

فهم يقبلون منه ، ولا مشكلة عندهم .

أما لو قال لهم شيئاً من ذلك في النبي وآله صلى الله عليه وآله لقالوا له:: إنك مشرك بالله.. رافضي ؟! فكيف يقبلون ذلك في جبرئيل عليه السلام ولايقبلون نحوه فيمن هم أفضل منه: محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله ؟!

التسليمات الخمس على الأئمة عليهم السلام

التسليم الأول: وفيه تسع عشرة صفة من صفات الأئمة عليه السلام :

السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، ومعدن الرسالة ، وخزان العلم ، ومنتهى الحلم ، وأصول الكرم ، وقادة الأمم ، وأولياء النعم ، وعناصر الأبرار ، ودعائم الأخيار ، وساسة العباد ، وأركان البلاد ، وأبواب الايمان ، وأمناء الرحمن ، وسلالة النبيين ، وصفوة المرسلين ، وعترة خيرة رب العالمين ، ورحمة الله وبركاته.

التسليم الثاني: وفيه عشر صفات لهم عليهم السلام ، تبدأ بقوله: ( السلام على أئمة الهدى ومصابيح الدجى.. الى قوله: وحجج الله على أهل الآخرة والأولى) .

التسليم الثالث: وفيه سبع صفات لهم عليهم السلام ، تبدأ بقوله: (السلام على محال معرفة الله.. الى قوله: وذرية رسول الله ).

التسليم الرابع: وفيه سبع صفات أيضاً ، تبدأ بقوله: (السلام على الدعاة إلى الله) الى قوله ( وهم بأمره يعملون ) .

التسليم الخامس: وفيه أربع عشرة صفة للأئمة عليهم السلام ، تبدأ بقوله: (السلام على الأئمة الدعاة والقادة الهداة.. الى قوله: وصراطه ونوره وبرهانه ) .

وداع قبر الإمام المعصوم عليه السلام

جاء في الوداع: إذا أردت الإنصراف فقل:

السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، سلام مودع لا سئم ولا قالٍ ورحمة الله وبركاته ، إنك حميد مجيد .

سلام ولي غير راغب عنكم ولا مستبدل بكم ، ولا مؤثر عليكم ، ولا منحرف عنكم ، ولا زاهد في قربكم ، لا جعله الله آخر العهد من زيارة قبوركم ، وإتيان مشاهدكم ، والسلام عليكم ، وحشرني الله في زمرتكم وأوردني حوضكم ، وجعلني من حزبكم ، وأرضاكم عني ، ومكنني من دولتكم ، وأحياني في رجعتكم ، وملكني في أيامكم ، وشكر سعيي بكم ، وغفر ذنبي بشفاعتكم ، وأقال عثرتي بحبكم ، وأعلى كعبي بموالاتكم ، وشرفني بطاعتكم ، وأعزني بهداكم ، وجعلني ممن انقلب مفلحاً منجحاً ، غانماً سالماً معافىً غنياً ، فائزاً برضوان الله وفضله وكفايته ، بأفضل ينقلب به أحد من زواركم ومواليكم ومحبيكم وشيعتكم .

ورزقني الله العود ثم العود أبداً ما أبقاني ربي ، بنية صادقة وإيمان ، وتقوى وإخبات ، ورزق واسع حلال طيب ).

المقالات
علـيُّ الأكبر شبيـه جـده المصطفى صلى الله عليه وآله

(1) قافلة الحسين

كثيرةُ هي القوافل التي سارت في الأرض... عَبَرَتْ جِبَالها والصَّحاري..

لكن أعزَّهَا وأكرمها.. قوافلُ الأنبياء... وأبناء الأنبياء..

كانت قافلة أبناء الرسول تَعْبُرُ الصحاري العربية.. متجهةً الى حيث القَدَرْ.

حيثُ وَعَدَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وآله .. وَوَعَدَ الرسولُ سِبْطَهُ الحسين عليه السلام ..

يا ولدي: إن الله تعالى اختار لك مَصْرَعاً في أرض العراق.. فإذا لاحت لك أنوارُهْ.. وشممت عَبِيرَهْ.. فَوَجِّهْ قافلتكَ الى كربلاء.. واستبشر بلقاء الله.. وأنا في انتظارك.. ولدي حسين: رِضَا اللهِ رضانا أهلَ البيت !

قافلةٌ ولا مِثْلَهَا قافلة.. عشرونَ من أبناء الرسول وعِتْرَتِه.. يتقدمهم الحسين عليه السلام راكباً فرسه ، تحوط به نجومُ بني هاشم.. العباس عن يمينه.. وعليُّ الأكبر عن يساره.. وخلفهم كوكبةُ الأنصار ، ثمراتُ الأرض ، وَخَيْرُها شجاعةً وَيقينَا..

كانت خيولهم تطأُ الصحراء وجمالهُم..فتهتز أعماقُهَا اعتزازاً بهم وفرحاً.. وحبُّ الله يَشِعُّ من عُيوُنهم.. فيَعْبَقُ به نَسِيمُها..

وقفوا في عُذّيْبِ القادسية.. بين يَدي الله عز وجل.. صَفّاً مرصوصاً في صلاةِ الفجر.. أعظم من صفِّ الحرب وأجمل.. بإمامةِ ابنِ رسولِ الله.. وَفَرَحٍ دونه أفراح الدنيا.. وخشوعٍ حَدَّثَتْ عنه العيونُ بالدموع..

ثم واصلوا مسيرَهم بعد الصلاة.. بقلوبٍ طاهرةْ.. ونياتٍ صادقةْ.. ووعيٍ للطريق.. والميعادُ كربلاء..

سِرْعَانَ ماتلَوَّنَ أُفُقُ القادسية بقافلةِ الحسين.. فَخَجِلت الشمس.. وأرسلت أشعتها خاشعةً.. تلثم نَسِيمَهُم ، وَنْثَر رِمالهم..

( المؤثرات الصوتية: قافلة في الصحراء ، فيها رغاء الجمال وصهيل الخيل من بعيد . وأصوات متزنة لرجال ، وأحيانا أصوات أطفال مطمئنين . وينبغي أن تكون المؤثرات خفيفة ومتباعدة ، وإلا صارت هي الاساس أو أخذت أذن السامع فلميبق من سمعه وحواسه شئ للموضوع . وقد وقعتم في هذا الخطأ مع الاسف سابقا )

(2) أصحاب اليقين

كان عليُّ الأكبر يذكر الله تارةً.. وتارة يردد ما قاله والده الحسين في تلك الليلة لواحدٍ من قادة يزيد هو الحرُّ بْنُ يزيدٍ الرياحي..قال له بحزم:

( أفبالموتِ تخوفني ؟! وهل يَعْدُو بكم الخَطْبُ أن تقتلوني !

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا ما نـوى حقاً وجاهَدَ مُسْلِمَ

وواســى الـرجال الصالحين بنفسـهِ وفارق مَثْبُـوراً وخالـفَ مُجـرم

فـإن عشتُ لم أندمْ وإن مِتُّ لم أُلَمْ كفى بك ذُلاً أن تعيشَ وُتُرْغَم

ورمق علي بطرفه الأفق.. وتكلم مع الله بصمت.. ومع جده رسول الله..

ونظر الى أبيه الحبيب خير أب على وجه الأرض.. فرآه قد غفا على قربوس فرسه.. وقليلاً من الليل مايَهْجَعُ الحسين.. كان له مع القرآن مَوْعِد.. ومع ربه صلاةٌ ومناجاة.. فارتاح عليٌّ لإغْفَاءَةِ أبيه.. كان يرتاح إذا ارتاح.. فهو له الوالد والرائد والإمام..

ولم تَطُلْ إغفاءَة الحسين حتى رفع رأسه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين . رددها مرتين أو ثلاثاً.. فأحسَّ علي بِخَبَر.. لعلَّ مُشْكِلةً حَدَثَتْ.. أو خَطَراً يُمْكِنُهُ أن يَدْفَعَهُ عن إمامه بروحه..

أَدْنَى عليٌّ فرسَه من فرس أبيه وقال: إنا لله وإنا اليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين.. سيدي.. يا خَيْرَ أهل الأرض وبقيةَ الأنبياء.. جُعِلْتُ فداك ، مِمَّ حَمِدْتَ الله واسترجعت ؟ قال الحسين: يا بنيّ إني خَفَقْتُ برأسي خَفْقَةً فَعَنَّ لي فارسٌ على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير اليهم ، فعلمتُ أنها أنفسُنَا نُعِيَتْ إلينا !

قال له علي الأكبر: يا أبتِ لا أراكَ الله سوءاً.. أَلَسْنَا على الحق ؟

قال الحسين: بلى والذي اليه مَرجِعُ العباد .

قال: يا أبتِ إذن لا نبالي وَقَعَ الموت علينا ، أم وَقَعْنَا على الموت..

فقال له الحسين: جزاك الله من ولدٍ ، خَيْرَ ما جزى ولداً عن والدِه .

ونظر عليٌّ أمامه في صحراء كربلاء فلم يَرَ فيها أشعةَ الشمس ولهيبها.. ورأى شمسَ الحسين تُشْرِق.. ونظر الى سمائها فَخَفَقَ قلبه الشاب ، وانحدرت دموعه الغزار ، وتكلم مع رب العالمين:

اللهم إن وليك الحسين راضٍ عني وقد دعا لي.. فَارْضَ عني..

وإن أَذِنْتَ لنا بالشهادة فاجعلني أول مقتول بين يديه !

وأحس عليٌّ الأكبر بالسكينة.. وبنسيم رباني حلَّ قلبه وسرى في عروقه.. وملأَهُ عزيمةً ونشاطاً.. فَشَدَّ حَيَازيمه.. وأدار لثامَهُ.. وواصل الطريق الى جنب قائد المسيرة..

(المؤثرات الصوتية: نشيد الأبيات الثلاثة المذكورة. من أولاد ، وكبار ، ترافق الحديث.. وبعد انتهاء القطعة نفس النشيد من رجل بصوت هادئ جاد وقر وحزين ومصمم )

(3) أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله

حاصرت قوات يزيد الكوفة لمنع الحسين عليه السلام من دخولها..

وحاصرت قوات يزيد قافلة الحسين لتمنعه من المسير في أي اتجاه وتُجْبِرَهُ على النزول في صحراءٍ لا حِصْنَ فيها ولا ماء..

وعرف الحسين المنطقة بتربتها ونورها وعبيرها.. فقد وصفها له جده..

هي.. كربلا.. وهزَّ الحسين برأسه.. نعم هي تربتي.. هاهنا مَنَاخُ ركابنا.. هاهنا مَحَطُّ رحالنا.. هاهنا تُسْفَكُ دِماؤنا !! رضاك يا رب رضانا أهل البيت..

وأمرهم بالنزول..

نزلت قافلة الرسول في كربلاء في اليوم الثاني من محرم الحرام.. وبدأ علي الأكبر رحلةَ الثمانيةِ أيامٍ في كربلاء لم يَنَمْ فيها إلا لُمَاماً.. ولم يأكل ولم يشرب إلا لُمَاماً.. ولم يترك أباه الحبيب إلا لُمَاماً..

بدأ علي بإنزال الاطفال والنساء من المحامل.. وشارك الأصحاب في نصب الخيام.. وترتيب الخندق حولهَاَ.. ولاَزَمَ أباه الإمام عليه السلام حارساً له ومحروساً به ، ومتابعاً معهً المفاوضاتِ والأحداث..

كان عليٌّ يقرأ الأحداثَ في وجه أبيه.. ويحبُّ التزوَّدَ من النظر إليه..

كان يرى أنوار الآخرة من عينيه.. وعِطْرَ الجنة من كلماتِه..

وكان الحسين يقرأ في وجه عليِّ الأكبر وجْهَ رسول الله.. فعليُّ الأكبر أشبهُ الناسِ خَلْقاً وخُلُقاً وَمَنْطِقاً بجده الرسول.. وكلُّ شئٍ فيه يُذَكِّرُ الحسين بجده وما هو بِنَاسِيه.. قسماتُه وشمائلُه.. حركاتُه وسكناتُه..كلماتُه ونَبْرَاتُه.. بسمتُه.. أدبُه.. رضاه وغضبُه.. سُمُوُّهُ على الدنيا وتطلعه الى الآخرةْ..

سبحان من خلق جده وخلقه..

(4) والفضل ماشهدت به الأعداء

علي الأكبر بن الحسين.. ابن الثمانيةَ عشر ربيعاً.. ملائكيُّ الصفات.. محمديُّ السمات.. علويُّ الشجاعة.. حسينيُّ التربية.. كان يفتخر به أخوالُه من ثقيف لأن أمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي ، ويفتخر به بنو أمية الذين قتلوه ! لأن أم أمه منهم..

كان معاوية بن أبي سفيان في مجلسه يوماً فتذكر شخصية علي الأكبر بن الحسين.. فقال للحاضرين: من أحقُّ الناس بهذا الأمر برأيكم ؟

قالوا: أنت !

قال: لا ، أولى الناس بهذا الأمر عليُّ بن الحسين بن علي.. جدُّه رسول الله.. وفيه شجاعةُ بني هاشم ، وسخاءُ بني أمية ، وزَهْوُ ثقيف !

وفيه يقول الشاعر:

لَم تَـرَ عيـنٌ نَـظَـرَتْ مِثلَهُ مِنْ مُحْتفٍ يمشي ومِنْ نَاعِلِ

يَغْلِي نَهِئَ اللحم حتى إذا أَنْضجَ لم يُغْـلِ على الآكلِ

كان إذا شبَّتْ له نارُهُ يُوقِدُهَا بالشَّرَفِ القائِلِ

كَيْمَا يَراها بَائِسٌ مُرْمِلٌ أو فَرْدُ حيٍّ لَيسَ بالآهِلِ

لا يؤثرُ الـدنيا على دينـِهِ ولا يَبِيعُ الحقَّ بالباطل

أعني ابن ليلى ذاالسَّدى والنـدَّى َ أعني بْنَ بِنْتَ الحَسَبِ الفاضِلِ

نشيد:

بَلــغ العلــى بكمـالـِهِ كشف الدُّجى بجمالِهِ

حَسُنَتْ جميعُ خِصاله صلوا عليـه وآلــه

(5) يزيد يعرض الدنيا على علي الأكبر

ثمانيةُ أيامٍ في كربلاء.. مليئةٌ بالعمل في النهار والعبادة في الليل.. وكلُّ أعمالها عبادة.. وعليُّ الأكبر له من كل خير نصيب..

شارك مع عمه العباس في الأيام الأولى في عملية إحضارِ الماءِ من الفرات.. وكانت عمليةً قتالية..فأخذ مع عمه العباس اسم سقَّاء بني هاشم..

وكان عليٌّ يُثَبِّتُ قلوب شباب بني هاشم.. محبوبُ الجميع.. يخدم الجميع.. ولكنهم لايريدون أن يخدمهم.. يريدون فقط أن يتزودوا من النظر الى وجهه.. ومن سَمَاعِ مَنْطِقِه..

كان يزيدُ بن معاوية يعرف رأي أبيه معاويةَ في علي الأكبر.. ولذا أرسل له بالأمان.. وأبلغه قادة الجيش رسالة يزيد له: ( فإن شئت آمناك ، وصرت إلى الدنيا ) فاشمأز عليٌّ من هذا الإنحطاط ، وشَكَر الله على ماهو فيه من السُّمو، وقال لهم إن كنتم تفهمون منطق القرابة وتَرْعَوْنَ حقها ، فقرابةُ رسول الله أحقُّ أن تُرْعى ! ولكن علياً يعرف أن القوم ليسوا من أهل القِيَم حتى قِيَم الدنيا العاديَّة !

كانت أبوابُ الدنيا مفتوحةً أمامَه.. ولكن كلَّ الدنيا ونَعِيمِها أضيقُ عنده من سَمَّ الخياط.. وأظلمُ من بِئْرٍ مُظلم.. ها هي أبوابُ الجنة مفتوحةٌ أمامَهُ يَرَاها.. ويشمُّ أريجَهَا.. ويخطو في ركاب أبيه اليها.. وما زالت تَرِنُّ في أذنِهِ رسالةُ أبيه الحسين الى أهل المدينة ( أما بعد فكأنَّ الدنيا لم تَكُنْ.. وكأنَّ الآخرةَ لم تَزَلْ.. من لحق بنا استشهد..ومن تخلَّفَ عنا لم يَبْلُغِ الفتح..!) فترتفع به الى عوالم الأنبياء وتُرَفْرِفُ روحُهُ بأجنحتها لأبيه.. شوقاً الى ربه..

*زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاعالحياة الدنيا والله عنده حسن المآب .

* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد .

* الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفرلنا ذنوبنا وقنا عذاب النار .

* الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار ). آل عمران 14-17

يا دنيا يا دنيا إليك عني ، أَبِي تعرضتِ ، أم إليَّ تَشَوَّقْتِ: لاَ حَانَ حِينُكِ.. هيهاتِ غُرِّي غَيْري ، لا حاجةَ لي فيكِ ، قد طلقتك ثلاثاً لا رَجْعَةَ فيها.. فعيشك قصير ، وَخَطَرُكِ يسير ، وأَمَلُكِ حقير.. آهٍ من قلةِ الزاد ، وطولِ الطريق ، وبُعْدِ السفر ، وعظيمِ المورد !

تكرر الآية والفقرة مع الحديث أو خلاله.. وبعد الحديث تعاد الآية ) .

(6) الحسين عليه السلام ينصح..أعداءه

توالى حشد قوات يزيد في كربلاء حتى صاروا ثلاثين ألفاً.. وجاء قائدهم العام عمر بن سعد بن أبي وقاص.. وتوالت طلباتهم على الحسين أن يبايع يزيداً أو القتال.. وأرسل الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعد: إني أريد أن أكلمك فَالْقِني الليلةَ بين عسكري وعسكرك ، فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج إليه الحسين عليه السلام في مثل ذلك ، فلما التقيا أمر الحسين عليه السلام أصحابه فتنحوا عنه ، وبقي معه أخوه العباس وابنه علي الأكبر ، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحوا عنه ، وبقي معه ابنه حفص وغلام له .

فقال له الحسين عليه السلام : ويلك يا ابن سعد أما تتقي الله الذي إليه معادُك ؟ أتقاتلني وأنا ابْنَ من عَلِمْت ؟ ذَرْ هؤلاء القوم وكن معي ، فإنه أقرب لك إلى الله تعالى .

فقال عمر بن سعد: أخاف أن يُهْدَمَ داري .

فقال له الحسين عليه السلام : أنا أبنيها لك .

فقال: أخاف أن تُؤْخَذَ ضيعتي .

فقال الحسين عليه السلام : أنا أَخْلُفُ عليك خيراً منها من مالي بالحجاز .

فقال: لي عيال وأخاف عليهم ، ثم سكت ولم يجبه إلى شئ .

فانصرف عنه الحسين عليه السلام وهو يقول: مَالَكَ ، ذبحكَ الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إني لأرجو ألا تأكل من بُرِّ العراق إلا يسيراً ، فقال ابن سعد: في الشعير كفاية عن البُرّ ، مستهزئاً بذلك القول !

(المؤثرات الصوتية: أصوات وحركات حشد الجيش المعادي واستعداد هم للحرب.. أصواتهم وبعض كلماتهم مع بعضهم التي تصور كثرتهم وعدم تدينهم وارتزاقهم ) .

(7) أجمل الليالي وأغناه

كان الحسين ليناً مع أعدائه.. لأن هدفه أن يُبَلِّغَ دين جده.. ويقيمَ الحجة.. ويبرِّئَ ذمته أمام الله تعالى..

قال لهم: لقد كتبتم الي أنكم لم تبايعوا يزيداً فأقدم علينا.. فأرسلت اليكم ابن عمي فبايعتموني.. فإن كنتم كارهين لي فدعوني أذهب في هذه الأرض الوسيعة..

قالوا: إما أن تُبَايِعَ يزيداً أو نُقَاتِلْك !!

قال لهم: دعوا الأمر بيني وبين يزيد.. ولا تأثموا بسفك دمي..

قالوا: لا ندعك حتى تبايع يزيداً أو نَقْتُلْك !

لم تنفعهم ليونة الحسين.. بل زادتهم عناداً وطغياناً.. وصار مطلبهم في اليوم التاسع أن يستسلم الحسين وأصحابه بدون قيد أو شرط ، ويقبل بحكم يزيد وابن زياد ، يحكمان فيهم بما يُحِبَّان..!

وزحفت قواتهم وضيقت حصارها على الحسين عليه السلام ، وألَحَّ عليه قادتُهَا عليه أن يجيبهم على مطلبهم بالنفي أو بالإثبات !

أرسل الحسين أخاه العباس ليفاوضهم وقال له: ( إرجع اليهم ، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غَدْوَةٍ وتدفعهم عنا العَشِيَّةَ ، لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أني قد كنت أحبُّ الصلاةَ له وتلاوةَ كتابه وكثرةَ الدعاء والإستغفار ) .

كان الوقت عصراً والحسين جالس على باب خيمته.. وعليُّ الأكبر يرقُبُ أباه.. وينتظر رجوع عمه.. ورجع العباس وأصحابه بالجواب ، فقد اختلف قادة جيش يزيد ، ثم اتفقوا على قبول التأجيل الى الغد.. الى صبيحة يوم عاشوراء.. وارتاح الحسين لهذه المهلة.. وعرف علي الأكبر برنامجَ العمل.. في هذه الليلة الثقيلة الجميلة:

دعوةُ الأصحابِ وجَعْلُهُمْ في حِلٍّ من البيعة..

وتقريبُ الخيام من بعضها وجعلُها شبه دائرة ، وتحصين ظهرها لحصر القتال من جهة واحدة.. وتوجيهُ النساء والأطفال لتحمُّلِ الشهادة والأسر..

وتوجيهُ زينب لإيصال صوت كربلاء الى الأمة..

وقبلَ ذلكَ وبعدَه التزودُ من عبادة الله في آخر ليلة من العمر..

وأنْجَزَ عليُّ الأكبر ما عليه من العمل.. وبات مع أصحاب الحسين في تلك الليلة ولهم دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل.. مابين راكعٍ وساجد.. وقائمٍ وقاعد.. وتالٍ للقرآن.. ورافعٍ يديهِ بالضراعةِ والدعاء..

وسِرْعَانَ ما مضى ليلُ عليِّ الأكبر.. وبدأَ الأفقُ ينسجُ خيوطَ الفجر.. وكان عليه أن يؤذنَ للصلاة..

وقف عليٌّ في مصلى كربلاء أمامَ خيمةِ الحسين.. واتجهَ نحوَ الكعبة.. وأطلقها: الله أكبر.. فترددت في الأفقِ ودَوَّتْ في أرجاءِ الصحراء ، وهَرَعَ ناسٌ من خيام جيش يزيد قائلين: هل سمعنا صوتاً من السماء.. لكنهم عرفوا أنه صوت علي الأكبر ، يؤذن لصلاة الفجر.. فانكفؤوا الى خيامهم وأبلست عيونهم فلم تدمع ، وقست قلوبهم فلم تخشع..

أما أصحاب الحسين فخشعوا لصوت الرسول من حفيده علي.. وخرجوا الى الصلاة بالدموع والسلاح.. فبعد الصلاة ميعادهم مع صلاة الدفاع عن الإسلام وآل الإسلام..

أكمل علي الأكبر أذانَهُ للصلاة.. فاستعدَّ الجميع.. وذهب النعاسُ حتى من أولئك الذين لم يعرفوا طعمَ النوم في تلك الليلة.. ونزلت عليهم اليقظةُ والنشاطُ والوعيُ والوضوح.. فكلُّ شئٍ لهم واضح.. بمقدار ماهو لأعدائهم مبهم مظلم ..

طالما صلى عليٌّ مؤتماً بأبيه.. وكلُّ حياتِهِ صلاةٌ مع أبيه.. ولكنَّ طعمَ هذه الفريضة يختلف.. ولم يكن أعظم منها في حياته إلا صلاة الظهر والعصر تحت وقع السهام خلف أبيه مباشرةً.. وبقي ذلك اليوم خلفَهُ لم يغادره لحظةً إلا عندما أرسله لتسكيت نائحة النساء.. وعندما استأذنه للقتال..

مطهــرونَ نـقـيــاتٌ ثـيـابُــهُــمُ تجري الصلاةُ عليهم أينَمَا ذُكِرو

من لم يكـن علـوياً حِيـنَ تَنْسِبُـهُ فما لهُ في قديـمِ الدهـرِ مُفْتَخَـر).

(8) شهادة علي الأكبر

طويلةٌ أيام تُمَوُّزٍ في صحراء العراق وشديدٌ حرُّهَا.. أما يومُ عاشوراء منها فهو بِطُولِ الدهر.. وقد تَلقَّى عليُّ الأكبر أحداثَه تَلقِّي الأولياء.. وثبتَ أمامَ أهوالِهِ كما يثبت أشبُه الناس برسول الله.. قال له أبوه الحسين عند طلوع الشمس: أحضرْ لِيَ الناقةَ حتى يَرَوْني فأخطبُ فيهم وأُبَلِّغُهُمْ ما يجبُ عليَّ.. واركب أنت فرسي حتى أفرغَ من خُطْبَتِي..

ورافق أباه حتى وصل الى قربِ صفوفهم.. وشهدَ خطبته فيهم.. فسمع واحدةً من خُطَبِ جده الرسول في أهل مكة.. ورأى جديداً من إِبْلاَسِ القومِ وانحطاطِ أرواحهم !

ورجع مع أبيه الى صف الملائكة.. وما هو إلا أن فتح جيشُ يزيدٍ المعركةَ بِرَشْقِ سِهَام ، كان أولها سهم عمر بن سعد إذ أطلقه وقال لمن حوله: إشهدوا لي عند الأمير أني أولُ من رمى الحسين بسهم !!

وتقدم فرسانُ جيشِ الحسينِ للمبارزة ، في طليعتهم أبو الفضل العباس وعليُّ الأكبر.. ولكن الأنصار اعترضوا وأقسموا على الحسين عليه السلام أن يدافعوا هم أولاً عن آل الرسول صلى الله عليه وآله ولا يَبْرُزَ أحد من أهلِ بيته حتى لا يبقى أحدٌ من الأنصار.. وأخذوا من الحسين وعداً بذلك..

فدمعت عينا علي الأكبر وتَسَمَّرَ خَلْفَ أبيه يراقبُ المبارزين.. ولا يشارك في القتال إلا في حراسة أبيه أو دَفْعِ حملةٍ بحملة ..

امتدَّتِ المعركةُ من بعدِ طلوعِ الشمس الى ما بَعْدَ الظهر.. وثبت اثنانِ وسبعونَ من فرسانِ العرب وتلاميذ الحسين عليه السلام في وجه ثلاثين ألفاً من فرسان الخوارج ومُرْتَزِقَةِ بني أمية.. وعليُّ الأكبر يعيش في عوالمِ ربهِ وجدهِ وأبيه.. وتتوثبُ روحُه بين جنبيه لخوضِ المعركة.. حتى لم يَبْقَ من الأنصار إلا رجلٌ أو رجلان ، فتقدم الى أبيه وهو على فرس له يدعى ذا الجناح ، وطأطأ رأسه خشوعاً وخَجِلاً ، وَطَلَبِ من أبيه أولَ طلبٍ له في حياته.. أن يأذنَ له في الحملة.. فأرخى الحسين عينيه بالدموعِ وأطرق ، ثم قال: اللهمَّ شْهَدْ إنه قد برز اليهم غلامٌ أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا اليه ، ثم صاح: يا ابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي، ولم تحفظني في رسول الله صلى الله عليه وآله . ففهم عليٌّ الإذنَ من أبيه ، وانقض على القوم وهو يقول:

أنا عليُّ بنُ الحسينِ بن علي نحـنُ وربِّ البـيتِ أولى بالنبي

أطعنُكُـمْ بالرمـحِ حتى ينثني أضربكمْ بالسيفِ أحمي عن أبي

ضربَ غلامٍ هَاشِمـيٍّ علوي تالله لا يحكـمُ فينـا ابـنُ الدَّعِي

وشد على القوم وهم ينهزمون بين يديه يمنة ويسرة.. يفعل ذلك مراراً..

ثم عاد إلى أبيه وهو يقول: يا أبت العطش قد قتلني ، وثقلُ الحديد قد أجهدني ، فبكى الحسين عليه السلام وقال: واغوثاه ، أَنَّى لي الماء.. قاتل يا بنيَّ قليلاً واصبر فما أسرع الملتقى بجدك محمد صلى الله عليه وآله فيسقيكَ بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً..

ولم يزل يحمل فيهم على فرسه ويقتل منهم ، ويرجع الى أبيه ويقول: يا أبتِ ، العطش.. وكانوا يومئذ قد منعوهم الفرات وأجهدهم العطش فيقول له الحسين عليه السلام : إصبر حبيبي فلعلك لا تمسي حتى يسقيك جدك رسول الله صلى الله عليه وآله . فلم يزل كذلك يحمل فيهم ويقتل منهم ، حتى رماه مرةُ بن منقذِ العبدي بسهمٍ في حَلْقِهِ فاعتنقَ فرسَهُ ، فكرَّ بِهِ على الأعداء فاحْتَوَوْهُ بسيوفهم فقطَّعوه ، فصاح قبل أن يفارقَ الدنيا: السلام عليك يا أبتي ، هذا جدي المصطفى قد سقاني بكأسه الأوفى ، وهو يقول لك العَجَلْ فإن لك كأساً مذخورا.. فشد الحسين عليه السلام حتى وقف عليه وهو مقطع ، فقال: قتل الله قوما قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ! ثم استهلت عيناه بالدموع وقال: على الدنيا بعدك العفا .

قال أبو مخنف: وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي: يا أخاهْ ويا ابنَ أَخَاه.. فقيل هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله ، فجاءت حتى أَكَبَّتْ عليه ، فجاءها الحسين عليه السلام فأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط ، وأقبل الحسينُ عليه السلام إلى ابنه وأقبل فتيانُهُ إليه فقال: إحملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .

(9) زيارة علي الأكبر

السلام عليك يا أولَ قتيلٍ من نسلِ خير سليل ، من سُلالةِ إبراهيمَ الخليل ، صلى الله عليك وعلى أبيك إذ قال فيك: قَتلَ اللهُ قوماً قتلوكَ يا بنيَّ ما أجرأَهُمْ على الرحمن ، وعلى انتهاكِ حرمةِ الرسول ، على الدنيا بعدك العَفَا . كأني بك بين يديه ماثلاً ، وللكافرين قاتلاً ، قائلاً:

أنا علي بن الحسن بن علي نحن وبيــت الله أولــى بالنـبي

أطعنكم بالرمـح حتى ينثني أضربكم بالسيف أجمي عن أبي

ضـرب غـلام هاشمي عربي والله لا يحكــم فينـا ابن الدعي

حتى قضيتَ نحبك ، ولقيتَ ربك ، أشهد أنك أولى بالله وبرسوله ، وأنك ابن رسوله وحجتِهِ وأمينهِ ، وابنُ حجتِهِ وأمينِهِ . حكمَ الله على قاتلِك مُرَّةَ بنِ منقذٍ بن النعمان العبدي لعنه الله وأخزاه ، ومن شَرِكَ في قتلك ، وكان عليك ظهيرا ، أصلاهم الله جهنمَ وساءت مصيرا ، وجعلنا الله من مُلاَقِيكَ ، ومرافقي جدِّكَ وأبيكَ وعَمِّكَ وأخيك ، وأمكَ المظلومة ، وأبرأ إلى الله من أعدائك أولي الجحود ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(17ذوالحجة 1417).

المقالات
بحـثـاً عـن النــور

في طريقنا الى البقيع عاود رفيقي تكرار سؤاله:

ما لي أراك ساكتا متفكراً كأنك في عالم آخر.. هل حدث لك شئ؟!

قلت: لم يحدث لي شئ ، والظاهر أني لست أهلاً لأن يحدث لي شئ أو أجد ريح يوسف ! هل نسيت ياصحبي أنا في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله ، وأنها مسكن صاحب الأمر أرواحنا فداه !

لقد شغل فكري حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة ولا بد له في غيبته من عزلة ، ونعم المنزل طيبة ، وما بثلاثين من وحشة !

مسألة بهذه الضخامة ، كيف لا تشغل الفكر والحواس؟!

نور الله في أرضه وحجته على عباده.. يسكن في هذا البلد الذي نحن فيه ولا نبحث عنه ، أو عن أثارة منه ؟ أما قرأت قوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ .

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ .

يعني أن لنوره عز وجل مركزاً في الأرض ، وأنه مثل المشكاة التي يوضع فيها السراج ، وأنه تعالى يضرب هذا المثل للناس الساكنين على الأرض ! فأين هي المشكاة ، وهذا النور الإلهي والمصباح المتوقد ؟

كيف يمكننا أن نقبل أقوال المفسرين بأن الآية التي بعدها: في بيوت أذن الله أن ترفع ، لاعلاقة لها بآية النور ، ونغمض عيوننا عن الحديث النبوي الذي نرويه عن أهل البيت عليهم السلام ، ويرويه السيوطي والثعلبي بأن هذا النور الالهي دائماً في هذه البيوت ، وأنها بيوت الأنبياء والأئمة عليهم السلام ؟!

يقول السيوطى في الدر المنثور:5/50: ( وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال: قرأ رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: في بيوت أذن الله أن ترفع ، فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يارسول الله ؟ قال: بيوت الأنبياء . فقام اليه أبو بكر فقال: يارسول الله ، هذا البيت منها ـ لبيت علي وفاطمة ـ ؟ قال: نعم من أفاضلها) ! انتهى.

وكيف نقنع بتفسير المفسرين لهذه البيوت بأنها المساجد ، وأن مشكاة نور الله في الأرض هي قناديل المساجد التي يضيؤها الناس بالشمع ، والزيت ، والنفط ، والكهرباء ؟!

ألا ترى أن مطلع الآية: الله نور السماوات والأرض ، يمهد للمسألة ويلخصها كلها.. فهو عز وجل نور النور ونور الخلق والفاعليات.. وله في كل عصر نور في الأرض أشبه ما يكون بمصباح في زاوية ، يهدي إليه من يشاء.. وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام إن الله تعالى لا يُخلي أرضه من حجة ، إما ظاهراً مشهوراً ، أو خائفاً مغموراً .

وبعد الزيارة ، اقترح صاحبى أن نجلس عند جدار البقيع ونكمل حديثنا عن الإمام المهدي عليه السلام ، فجلسنا ، وقال:

يعنى أن الإمام المهدي عليه السلام هو مركز النور الالهي في آية النور ؟

قلت: نعم ، فإن مقتضى قوله: مثل نوره كمشكاة ، أن هذه المشكاة موجودة دائماً في الأرض ، لأنه كلام مطلق من حيث الوقت وليس مقيداً بزمان ، والحديث النبوي الذي رواه السيوطي صريح في ذلك !

قال: يعني تقول إن الأفعال الإلهية في الأرض والناس ، تتم بواسطة الإمام المهدي عليه السلام ؟!

- بل أقول إن لله مصباحاً في أرضه هو مركز نوره ، ولاشك أنه كان متمثلاً بالنبي صلى الله عليه وآله ، وكان له دوره في إشعاع النور الالهي ، ودوره في فيض العطاء الالهي أكثر من تصورنا العادي..

ثم لاشك في أن هذا المصباح تمثل من بعده بعلي والأئمة من ولده عليهم السلام ضمن الحدود التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وآله .

أما فهمت من سؤال أبي بكر للنبي صلى الله عليه وآله أنه أراد أن يعرف أن بيت علي وفاطمة ، الذي يؤكد الرسول دائماً أنه بيته وأن أهله هم أهل بيته ، هل هو من بيوت الأنبياء ومراكز النور الإلهي ؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وآله بأنه ليس فقط واحداً منها بل هو من البيوت المميزة فيها !!

أما قرأت سورة القدر وملائكتها المتنزلة في كل عام بكل أمر.. ؟

أما تأملت في هذا التعميم ؟!

إن مقام نبينا صلى الله عليه وآله ومقام أئمتنا عليهم السلام ياصاحبى أعظم مما نتصور ، وأنواع الأفعال الإلهية أكثر مما نتصور، فمنها مايفعله الله تعالى مباشرة ، ومنها مايفعله بواسطة ملائكته وأنبيائه ، أو بواسطة من يشاء من خلقه !

ولعلنا نستطيع أن نجد أضواء على أنوع الفعل الإلهي وقوانينه من القرآن من نسبة الفعل الى الله تعالى بصيغة المفرد المتكلم ، أو بصيغة الجمع، أو بصيغة الغائب !

إن دراسة الأفعال المسندة الى الله تعالى في القرآن ، عن طريق إحصائها وتقسيمها وتحليلها ، يعطينا أضواء هامة على أنواع الفعل الإلهي ووسائله.. إنك تشعر أن في صيغ إسناد الفعل الإلهي في القرآن هدفا ، وأن وراءها قاعدة.. مثلاً بعض الأفعال أسندها عز وجل الى نفسه بصيغة المفرد المتكلم ، وبصيغة جمع المتكلم ، وبصيغة المفرد الغائب ، مثل: أوحيت ، أوحينا ، نوحي ، أوحي.. وبعضها أسندها بصيغة جمع المتكلم والغائب فقط ولم يسندها بصيغة المفرد: بشرنا ، أرسلنا ، صورنا ، ورزقنا ، بينا..الخ. ولم يقل بشرت أورزقت...الخ.

أشعر بأن في الأمر قاعدة ، فإن كلمات القرآن وحروفه موضوعة في مواضعها بموجب حسابات دقيقة وقواعد دقيقة ، كما وضعت النجوم في مواضعها ومداراتها في الكون: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . ولكن استكشافنا للقاعدة في استعمال الفعل سيبقى ظنياً وتخمينياً لأننا محرومون من الذي عنده علم الكتاب روحي فداه !

روى في الإحتجاج أن شخصاً جاء الى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: لولا ما في القرآن من الإختلاف والتناقص لدخلت في دينكم !

فقال له عليه السلام : وما هو ؟

فقال: أجد الله يقول: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، وفي موضع آخر يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ويقول: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ، وما أشبه ذلك ، فمرة يجعل الفعل لنفسه ومرة لملك الموت ، ومرة للملائكة !....

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، تبارك وتعالى هو الحي الدائم القائم على كل نفس بما كسبت ، هات أيضاً ما شككت فيه ؟ قال: حسبى ماذكرت.. قال عليه السلام :فأما قوله: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وقوله: يتوفاكم ملك الموت، وتوفته رسلنا ، والذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم... فهو تبارك وتعالى أعظم وأجل من أن يتولى ذلك بنفسه ، وفعل رسله وملائكته فعله ، لأنهم بأمره يعملون ، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلاً وسفرةً بينه وبين خلقه وهم الذين قال فيهم: الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس.. فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة ، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله، وكل مايأتون به منسوب اليه ، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت وفعل ملك الموت فعل الله لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء ، ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب على يد من يشاء ، وإن فعل أمنائه فعله .

قال صاحبي: يعني نعتقد بأن الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، مضافاً الى دورهم في التبليغ والهداية لهم دور في الفعل الإلهي في الطبيعة والأشخاص والمجتمعات ؟

قلت: لا بد لنا من الإعتقاد بذلك لأن الآيات تدل عليه ، والأحاديث والسيرة صريحة فيه.. أما حدود هذا الدور وتفاصيله فلا نعرفها ، والظاهر أنها من أسرارالله تعالى، فقد بنى سبحانه أكثر أفعاله على الإسرار ، حتى أنه قال لنبيه موسى عن الآخرة: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى !

قال: على هذا يحق للوهابيين أن يتهموننا بأنا مشركون نجعل الأنبياء والأئمة عليهم السلام شركاء لله تعالى !

قلت: تعالى الله عن ذلك.. كيف يجوز لهم أن يتهمونا بذلك بسبب أنا نؤمن بأن لله تعالى مشكاةً ومصباحاً في أرضه هو مَثَلُ نوره ومركز نوره ، وأنه يُنزل عليه ملائكته في ليلة القدر من كل سنة !

لايحزنك ياصاحبي الذين يرمون المؤمنين بالشرك بدون فهم ، واسألهم: إذا ثبت بآية أو حديث صحيح أن الله تعالى يجري قسماً من أفعاله بواسطة ملائكته ورسله وأوليائه ، فقبلنا ذلك وآمنا به، هل نكون مشركين؟!

أما قرأت قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ .

" يعني: أيها النبي قل لهم: أنا تابع لما يأتينى من ربي ، فإذا أخبرني أن له ولداً وأمرني بعبادته فأنا أول العابدين ، لكنه تعالى عن ذلك .

ونحن نقول: إذا دلنا الدليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله على أن الله تعالى يجري بعض أفعاله بواسطتهم ، فنحن نسمع ونطيع ونعتقد بذلك ، وهو عين التوحيد ، ونقول لمن يتهمنا: إفهموا التوحيد قبل أن تتهموا الناس . ولا تضعوا الشروط على ربكم أن تكون أفعاله مباشرة بدون واسطة ، أوتكون بواسطة الملائكة دون غيرهم من البشر والمخلوقات..

أما نحن فنوحده تعالى بدون شروط ، ونقبل أفعاله بأي واسطة أجراها ، ونعتقد بأن فعل أمنائه هو فعله ، على حد تعبير أمير المؤمنين عليه السلام ..

فأي التوحيدين أرقى.. وأعمق ؟

لاتهتم ياصاحبي بتهم الذين يفهمون فضلاً عن غيرهم..

وقل لهؤلاء: أولى لكم بدل أن تتهموا المسلمين بالشرك ، أن تعالجوا مصيبتكم حيث جعلتم ربكم شاباً أجعد قطط الشعر ، يلبس نعلين من ذهب ! فقولوا لإمامكم ابن تيمية أن يعرف ربه بدل أن يكفر الآخرين !

- وماذا يعمل الإمام المهدي في المدينة ، ومع من يعيش ؟

- كما يعمل الخضر ويعيش.. أما قرأت قصة موسى والخضر عليهما السلام في القرآن ؟

- بلى ، وهل يعتقد كل العلماء بأن الخضر عليه السلام مازال حياً يرزق ؟

- نعم ، فقد وردت الروايات الصحيحة عندنا بأنه ما زال حياً ويقوم بعمله ، وثبت ذلك عند أكثر علماء السنة ، فقد ذكر في مجموع النووي في مسألة استحباب تعزية أهل الميت بمصابهم، استدلال العلماء على ذلك بتعزية الخضر عليه السلام لأهل بيت النبي عند وفاته صلى الله عليه وآله .

إقرأ قصة الخضر في القرآن لتعرف أنه مأمور من الله تعالى بعمليات خاصة إذا صح التعبير ، وأن نبي الله موسى قد رافقه ليوم أو يومين فرأى منه ما لم يستطع عليه صبراً !

وقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وآله أنه قال: رحم الله أخي موسى لقد عجل على العالم ، أما إنه لو صبر عليه لرأى منه العجائب !

ومعناه أن نبينا رأى هذه العجائب ! صلى الله عليه وآله

- وماهي هذه العجائب ؟

- ياصاحبي إن إدارة الله تعالى وربوبيته لا يظهر منها إلا جزء واحد ، فهي تشبه كرة الثلح في الماء تسعة أعشارها لاترى !

وكل مرحلة باطنة من إدارته عز وجل أعجب من التي قبلها وأصعب فهماً ، لأنها تتم بقوانين ووسائل أعمق من التي قبلها ! وما أدري أين هو موقع نبينا وآله صلى الله عليه وآله من هذه المراحل ، لكن أدري أنهم نور الله في أرضه يجري على أيديهم ما يشاء من أفعال .

- يعني مثل الرزق والموت والحياة ؟

- وما المانع من ذلك ؟ هل تريد أن تمنع الله تعالى من أن يوكل أحداً بفعل من أفعاله ! أو تمنع عطاءه لأنبيائه عليهم السلام !

ما المانع من أن يأمرهم الله تعالى بشئ من ذلك ويعطيهم القدرة عليه ، فيفعلونه بأمره وإذنه ، لابأمرهم وقدرتهم ، فإنما هم عباد مخلوقون ليس لهم من الأمر شئ ، لكنهم أيضاً عبادٌ مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

- وهل يوجد الآن غير الخضر والإمام المهدي عليهما السلام مأمورون بهذا النوع من العمليات الخاصة ؟

- لاتضع قيوداً على فعل ربك: وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ! تقول بعض الروايات: قال موسى عليه السلام : بينا أنا والخضـر على شاطئ البحـر إذ سقط بين أيدينا طائر فأخذ في منقاره قطرة من ماء البحر ورمى بها نحو المشرق، وأخذ منه ثانية ورمى بها نحوالمغرب ، ثم أخذ ثالثة ورمى بها نحو السماء ، ثم أخذ رابعة ورمى بها نحو الأرض ، ثم أخذ خامسة وألقاها فى البحر، فبهتُّ أنا والخضر من ذلك وسألته عنه؟ فقال: لا أعلم . فبينا نحن كذلك وإذا بصياد يعمل في البحر فنظر إلينا وقال: ما لي أراكما في فكرة من أمر هذا الطائر ؟ قلنا له: هو ذاك . فقال: أنا رجل صياد وقد علمت إشارته ، وأنتما نبيان لاتعلمان؟! فقلنا: ما نعلم إلا ما علمنا !

من هذه الرواية نعرف أن لله تعالى أولياء معتمدين متعددين يجرى مايريده من أفعال بواسطتهم ، لكن يبقى للإمام المهدي عليه السلام موقعه المميز في جنود الله تعالى وأوليائه .

- تقصد أن الإمام المهدي أفضل من الخضر عليهما السلام ومن ذلك الصياد ؟

نبينا صلى الله عليه وآله أعلم من الخضر لأنه أعلم الأنبياء وأفضلهم على الإطلاق والأئمة عليهم السلام من عترته أوصياؤه وورثة علمه عليهم السلام ، وطبيعى أن يتناسب علم الوصي النائب مع علم الموصي المنوب عنه ، فإذا كان ابراهيم عليه السلام أعلم من الأنبياء الذين قبله وأفضل منهم عليهم السلام ، فلا بد أن يكون أوصياؤه أعلم من أوصياء الأنبياء قبلهم عليهم السلام . ولهذا فإن أئمتنا أفضل الأوصياء وأعلمهم على الإطلاق.. فهل تعجب أن يكونوا أعلم من الخضر عليهم السلام .

أسألك يا مرتضى: هل تعتقد بصدق النبي صلى الله عليه وآله وعصمته، يعني إذا أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله عن مقامه ومقام أهل بيته عن الله تعالى ، فهل تعتقد أن إخباره صحيح مشمول لقوله تعالى عن نبيه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هو إِلا وَحْيٌ يوحى؟ أم تتهم النبي صلى الله عليه وآله كما قال الذين في قلوبهم مرض: إنه بشر يتكلم في الرضا والغضب ، وقد يمدح فيخطئ أو يذم فيخطئ !

- معاذ الله أن أقول ذلك ، بل أقول إنه في كل كلامه صادقٌ ، مؤيدٌ من ربه ، لا ينطق عن الهوى .

- إذن ليكن معلوماً عندك أن النصوص الثابتة القطعية تقول إن مسألة النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله مسألة مميزة من الأساس ، وأن الله تعالى قد خلق نور محمد وأهل بيته عليهم السلام قبل أن يخلق آدم وينفخ فيه من روحه !

كنت رأيت هذه النصوص في مصادرنا ، ثم رأيتها في مصادر إخواننا السنة ، وحتى في مؤلفات بعض المؤلفين الذين يقللون من أهمية أهل البيت عليهم السلام ما وجدوا الى ذلك سبيلاً !

وأخيراً قرأت ذلك عند المسعودي في مقدمة تاريخه مروج الذهب ، وهو مؤرخ سني ، وقد تحدث على عادة المؤرخين عن بداية خلق العالم ، وأورد حديث خلق النور المحمدي قبل خلق آدم ، مما يدل على أن هذه النصوص كانت معروفة عند المؤرخين أيضاً !

قال المسعودي: 1/32 :

( فهذا ما روي عن أبي عبدالله جعفر بن محمد، عن أبيه محمـد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي، عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب كرم الله وجهه:إن الله حين شاء تقدير الخليقة وذرأ البرية وإبداع المبدعات ، نصب الخلق في صور كالهباء قبل دحو الأرض ورفع السماء ، وهو في انفراد ملكوته وتوحد جبروته ، فأتاح نوراً من نوره فلمع ، ونزع قبساً من ضيائه فسطع ، ثم اجتمع النور في وسط تلك الصور الخفية فوافق ذلك صورة نبينا محمد صلى الله عليـه وسلم ، فقال الله عز من قائل: أنت المختار المنتخب ، وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتى ، من أجلك أسطح البطحاء، وأمرج الماء، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار ، وأنصب أهل بيتك للهداية ، وأوتيهم من مكنون علمي ما لايشكل عليهم دقيق ولايعييهم خفي ، وأجعلهم حجتي على بريتي ، والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي .

ثم أخذ الله الشهادة عليهم بالربوبية والإخلاص بالوحدانية ، فبعد أخذ ما أخذ جل شأنه ببصائر الخلق انتخب محمداً وآله ، وأراهم أن الهداية معه والنور له والإمامة في آله ، تقديماً لسنة العدل ، وليكون الإعذار متقدماً ، ثم أخفى الله الخليقة في غيبه وغيبها في مكنون علمه ، ثم نصب العـوامل وبسط الزمان ، ومرج الماء وأثارالزبد وأهاج الدخان فطفا عرشه على الماء

فسطح الأرض على ظهر الماء ، وأخرج من الماء دخاناً فجعله السماء ، ثم استجلبهما إلى الطاعـة فأذعنتا بالإستجابة ، ثم أنشأ الله الملائكة من أنوار أبدعها وأرواح اخترعها ، وقرن بتوحيده نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فشهرت في السماء قبل بعثته في الأرض ، فلما خلق آدم أبان فضلـه للملائكة ، وأراهم ما خصه به من سابق العلم من حيث عرفه عند استنبائه إياه أسماءالأشياء ، فجعل الله آدم محـراباً وكعبـة وبابـاً وقبلــةً أسجــدَ إليهـا الأبرار والروحانيين الأنوار ، ثم نبه آدم على مستودعـه وكشف لـه خطر ما ائتمنـه عليه ، بعد ما سماه إماماً عند الملائكة ، فكان حظ آدم من الخير ما أراه من مستودع نورنا ، ولم يزل الله تعالى يخبئ النور تحت الزمان إلى أن فضل محمـداً صلى الله عليه وسلم في ظاهر الفتـرات ، فـدعا الناس ظاهـراً وباطناً ونـدبهم سراً وإعلاناً ، واستدعى عليه السلام التنبيه على العهد الذي قدمه إلى الذر قبل النسل ، فمن وافقـه وقبس من مصباح النور المقدم اهتـدى إلى سـره ، واستبان واضح أمـره ، ومن أبلستـه الغفلة استحق السخط .

ثم انتقل النور إلى غرائزنا ولمع في أئمتنا فنحن أنوارالسماء وأنوار الأرض ، فبنا النجاء ومنا مكنون العلم وإلينا مصير الأمور ، وبمهدينا تنقطع الحجج ، خاتمة الأئمة ، ومنقذ الأمة ، وغاية النور، ومصدر الأمور ، فنحن أفضل المخلوقين ، وأشرف الموحدين ، وحجج رب العالمين ، فليهنأ بالنعمـة من تمسك بولايتنا ، وقبض على عروتنا ). انتهى. ( وشبيه به في تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنبلي/128!) .

إسمع يامرتضى: إن الله تعالى يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً . ويقول عن الخضر: فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ، ولكن هل تعتقد أن الله تعالى أعطى الخضر وآل ابراهيم أكثر مما أعطى محمداً وآل محمد ؟ كلا ، ولكنه تعالى لم يذكر ذلك في القرآن لأن أمة النبي صلى الله عليه وآله لاتتحمل تفضيل محمد وعترته الى يوم القيامة ! وقد رأينا أنهم عاملو أهل بيت النبى صلى الله عليه وآله بأسوأ ماعاملت فئة تطلب السلطة أسرة نبيها من بعده !!

إن الخضر عليه السلام مكلف بما يؤمر به من علم الباطن، وموسى عليه السلام مكلف بما يؤمر به من علم الظاهر ، ونبينا وأئمتنا عليهم السلام مكلفون بما يؤمرون به من علم الظاهر والباطن !

قال: وهل يعقل أن يكون إنسان واحد مكلفاً بعلم الظاهر والباطن معاً ؟! فنحننرى أن علم الظاهر والباطن لم يستطيعا أن يتعايشا معاً لمدة قصيرة في قصة موسى والخضر ، حتى قال له الخضر: هذا فراق بيني وبينك !

- أسألك يا أخ مرتضى: هل يمكن أن يكون في جيبك مال وتحتاج الى إنفاقه ولاتنفقه ؟

- نعم يمكن ، ولكن هل هذا مثل أن يعلم الإنسان علم الباطن ولكنه يعمل بعلم الظاهر؟

- نعم هذا شبيه به ، ولكن أسألك سؤالا آخر: هل يمكنك أن تكون على علم بأن صديقك فلاناً سوف يموت في هذه السنة ولا ترتب على علمك بذلك أثراً أبداً ؟ وهل يمكنك أن تصبر على عداوة عدوك ، وأنت تستطيع أن تدعو الله عليه فيستجيب دعاءك ويهلكه ؟

قصدي من هذه الأسئلة أنك إذا ملكت وسائل وأسباباً غير عادية ، أو قدرة على صنع المعجزة ، هل تستطيع أن تعيش بالأسباب العادية والقوانين الطبيعية ؟

- لا أظن أني أستطيع ذلك ، ولذا أقول إنه لايمكن للإنسان أن يجمع بين علم الباطن ، والعمل بعلم الظاهر ، أما نبينا وأهل بيته صلى الله عليه وآله فيمكنهم ذلك بمعونة الله تعالى وعصمته ، وهذا هو الفرق بينهم وبيننا !!

قم بنا يا صاحبى فقد طال بنا الجلوس..

ومن ذلك اليوم لم يعفني صاحبي من أسئلته واستفهاماته عن مكانة الإمام المهدي عليه السلام عند الله تعالى ، وعن معيشته وعمله.. وكأن ذلك صار شغله الشاغل ! وصار الجلوس عند جدار البقيع لمدة طويلة محبباً اليه !..كان يجلس طويلاً متفكراً أو يقرأ القرآن.. أو يذكر الله تعالى..

رأيته يوماً جالساً هناك.. فجلست اليه وقلت له: حدثني يامرتضى عن عالمك ، بماذا تفكر؟

- بل أنت حدثني عن تنزل الملائكة في ليلة القدر وما هو البرنامج الذي يأتون به الى صاحب الأمر روحي فداه ؟

- وما علمي بذلك يا مرتضى.. الذي أعرفه من ذلك قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، وقد ورد في الرواية أن عمر بن الخطاب سأل النبى صلى الله عليه وآله لماذا يرقُّ قلبه عندما يقرأ هذه السورة أكثر مما يرق لغيرها ؟ فأعاد النبي قرائتها حتى وصل الى قوله تعالى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . ثم قال لعمر: وهل بقي بعد هذا شئ ، قال: كلا !

هذا الحديث يدل على تنوع الأوامر والأمور النازلة في ليلة القدر على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله أو على قلب حجة الله في أرضه عليه السلام ! وقد وردت روايات عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام تؤكد هذا المعنى وتذكر بعض التفاصيل.

- إنها مسألة كبيرة ، وقد وصلت الى أن ترك التفكير فيها أولى ، أليس كذلك ؟

- التفكير يوصلنا الى معرفة أشياء كثيرة ، ولكن ما ينزل في ليلة القدر لايمكن معرفته بالتفكير فيه ، ولا نحن مكلفون بذلك.. إنما يجب علينا أن نؤمن بقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، على عمومه وإجماله .

قال مرتضى: فكرت في هؤلاء الثلاثين الذين يلتقي بهم صاحب الأمر روحي فداه ، فوصلت الى أنه قد يعطي كل واحد منهم قسماً من برنامج السنة ويأمره بتنفيذه ، أليس كذلك ؟

- هذا محتمل ، كما يحتمل أن تنزل طريقة تنفيذ البرنامج معه ، فلا يمكننا أن نعرف بالتفكير طريقة عمل الإمام المهدي أرواحنا فداه .

- كذلك فكرت في قصة الخضر في القرآن فرأيت أن محور أعماله هو مساعدة المؤمنين وخدمتهم في أمور معيشتهم مثل أصحاب السفينة الذين خلص سفينتهم من المصادرة ، والغلامين اللذين حفظ لهما كنزهما ، أو دفع الضرر والضلال عنهم مثل والدي الغلام الشرير .

كما فهمت من قصة الخضر عليه السلام أنه شخص متجول وليس مقيماً في مكان واحد ! فقد ركب في السفينة وقصد قرية واحدة أو عدة قرى ، وكان له في كل مكان هدف وعمل . وعلى هذا يمكن أن نقول بأن أعمال صاحب الأمر وجماعته روحي فداهم تدور حول خدمة المؤمنين مادياً ومعنوياً ، وأنهم متحركون لا يقيمون في مكان واحد .

- نعم هو كذلك ، وقد ورد في كنز الغلامين أنه كان لوحاً من ذهب مكتوب عليه العلم والحكمة ، فتكون خدمه الخضر لهما خدمة في أمر معيشتهما وفي هدايتهما معاً .

- إذن مامعنى الرواية التي تقول إنهم يقيمون في المدينة المنورة ؟!

- المدينة مقر إقامتهم ، ولا يمنع ذلك من تحركهم وتجولهم .

وتركت صاحبي جالساً عند جدار البقيع ، يتأمل ويتمتم بذكر الله تعالى..

جاءني مرتضى يوماً الى مسجد النبي صلى الله عليه وآله وقال باهتمام: أرجوك أن تأتي معي بعد ظهر اليوم الى المسجد ، فقد صادفت رجلاً ورأيت منه أمراً عجيباً ، ودعوته لزيارتنا فلم يقبل وقال لى: إذا أردت أن ترانص أنت وصاحبك فلان وسماك باسمك ، فأنا بعد الظهر في الساعة الفلانية في الموضع الفلاني من المسجد.. أرجوك يا سيدي أن تذهب معي الى ملاقاته .

- وما ذا رأيت منه ؟

- كنت جالساً عند جدار البقيع فوقف عليَّ وقال: يا مرتضى لا تتعب نفسك بالتفكير فيما لم تكلف به ، ولا تتعب نفسك في البحث عن أولياء الله تعالى ، فإن كان مقسوماً لك أن ترى منهم أحداً فإنك ستراه .

قلت له: أشكرك أيها الأخ ، ولكن من أين عرفت إسمي ؟

قال: أخبرني به شخص في المسجد وأمرني أن أقول لك: لا صوم للمسافر في المدينة أكثر من ثلاثة أيام ، وليس من العبادة مافعلته من ترك الطعام والشراب !

قلت لمرتضى: وهل كنت تركت الطعام والشراب ؟ قال: نعم ، كنت صمت ثلاثة أيام ، ثم أمسكت يومين عن الطعام والشراب إلا يسيراً جداً .

- ثم ماذا رأيت من الرجل ؟

أخبرني بأمور مرت عليَّ في حياتي وبعضها لايعلمها إلا الله تعالى ، وأخبرني عن بعض ما سيحدث لي ، وعن مقدار ما بقي من عمري ! أنا مطمئن بأنه صادق ، وقد سألته هل يمكنني أن أخبر أحداً بحديثه معي فسمى لي شخصين أنت أحدهما !

بقيت أفكر في أمر مرتضى مع هذا الرجل.. وقلت في نفسي: أرجو أن لايكون مرتضى من الذين يؤثر عليهم شدة الخيال والرغبة في وقوع الشئ الى درجة أنهم يتصورون أن ما يتخيلونه قد وقع وتحقق ! إن مرتضى سليم البدن والحواس ، وذهنه سليم أيضاً بعيد عن الإغراق والتخيل، بل يبدو أنه بطئ التصديق بالكرامات والغيبيات كأمثاله من المثقفين الموظفين . لكن مجرد احتمال أن يكون الأمر صحيحاً أمر مهم، وسوف أمتحن الرجل برسالة أبعثها معه الى صاحب الأمر روحي فداه !

وذهبت مع مرتضى في موعدنا ، وقصد المكان المحدد في المسجد فتفحص الوجوه حتى رآه ففرح بذلك وقال: هذا هو ، مشيراً الى رجل يقرأ القرآن كأنه من أهل اليمن ، وأسرع إليه وتبعته فجلس أمامه على ركبيته وسلم عليه ، فنظر إلينا الرجل وقال: وعليك السلام يامرتضى ، وعلى صاحبك فلان ، وسماني . وأشار لنا بالجلوس فجلسنا الى جانبه فقال له مرتضى:

- هل تأذن لنا بالسؤال ؟

قال اليماني: تفضل يا مرتضى سل عما يعنيك ودع مالا يعنيك .

قال مرتضى: هل يمكنك أن تخدمني خدمة وأكون لك مديناً كل حياتي ؟

- ما هي ؟

- أن تأخذني الى لقاء سيدي ومولاي صاحب الأمر روحي فداه .

فانتفض الرجل قائلاً: إنك يا مرتضى تطمع في أمر عظيم ، وتسألني مالا أملكه . لاتذهب بك المذاهب فتظن أن لي مقاماً عند صاحب الأمر روحي فداه ، فإنما أنا رجل عادي أحضر في بعض مجالس المؤمنين، وقد كلفني أحدهم أن أذهب اليك عند جدار البقيع وأن أبلغك مابلغتك ، وذكر لي اسم صاحبك هذا .

قال له مرتضى: يعني أنت لم تتشرف برؤيته روحي فداه ؟

فانحدرت دموع اليماني وتحشرج صوته ، وقال:

يامرتضى ، ليس كل من تشرف برؤيته صار من أصحابه وصار بإمكانه أن يأخذ الآخرين الى ملاقاته ! لاتهونوا من مقامه روحي فداه ، ولا تتصوروا أن أصحابه من أمثالي إن أصحابه أولياء الله الكبار أهل الإيمان واليقين والبصيرة ، الذين أخلصوا دينهم وعملهم لله تعالى فأخلصهم لعبادته وخدمة حجته ، وأنا لا أبلغ أن أكون منهم ، إنما أنا رجل عادي أجلس مع أصدقاء كلهم أعلم مني وأتقى ، وربما كلفني أحدهم بإبلاغ رسالة أو عمل ، فأقوم بما أمرت به .

قال له مرتضى: يعني تنصحني أن لا أحاول التشرف بلقائه روحي فداه ؟

قال اليماني: لا أنصحك بهذا ، لكن أنصح نفسي وأنصحك بأن نكون من أصحاب اليقين والطاعة .

قال مرتضى: أرجوك أن تحدثني عن مولاي وعن أصحابه .

فقال: نعم ، إن الله عزوجل لا يترك أرضه بدون حجة على عباده ، وإن حجة الله في أرضه مقام عظيم ، وإن سيدي ومولاي روحي فداه خاتم الحجج وخاتم الأوصياء ، أقرب أهل الأرض الى الله عز وجل وأعلمهم به وأطوعهم له ، وأشبه الناس بجده خاتم النبيين صلى الله عليه وآله في خلقه وخلقه ومنطقه ، لاينطق عن الهوى ولا يعمل إلا بالهدى ، ولا يختار لصحبته ومعونته على أمره إلا بتسديد ربه ، فأصحابه أهل اليقين والتقوى والبصيرة في الدين والدنيا ، كل واحد منهم ميسر لما خلق له ومشغول بما أمر به ، يعي ما يأمره به مولاه ويفهم إشارته ، ويدرك هدفه ، ويفديه بروحه ، لا يبتغون بعلمهم ومقامهم شيئاً من حطام الدنيا ولا مقامها، إلا رضا سيدهم عنهم ورضا ربهم برضاه . أولئك أمناء الله على سره ، ومنفذوا إرادته في عباده ، وثمرات بني آدم في كل عصر .

قال مرتضى: ما هي أحسن صفة تعجبك فيهم ؟

قال اليماني: أكثر ماينفعك من صفاتهم: توكلهم على الله تعالى ويقينهم بأمره ، فتراهم لا يشغلون أنفسهم بما لم يكلفوا به ويحصرون همهم فيما أمروا به أو نهوا عنه .

قال مرتضى: الآن فهمت معنى كلامك لي عند البقيع: أترك عنك لزوم ما لا يلزم ، وماكان من عمل الله تعالى فدع عنك همه ، وما كان من عمل الناس فدع لربك حسابه ، واحصر همك فيما جعله الله عليك !

قال مرتضى: أسألك يا سيدي بحق مولاي ومولاك إلا دعوت لي الله تعالى أن يعينني على نفسى وطلبت لي من مولاي الدعاء ؟

قال اليماني: أفعل إن شاء الله .

ونهض الرجل مودعاً وغادر المكان ، وبقيت أنا ومرتضى كأنما تسمرنا في مكاننا ، ينظر أحدنا في وجه صاحبه ، ثم نطرق مع أنفسنا ، أو تنحدر من عيوننا الدموع !

قلت لصاحبي: قم يا مرتضى لنجلس في مكانك المحبب عند جدار البقيع ونتحدث فيما جرى !

قال: ألا نلحق بالرجل ، فلعلنا نجده .

قلت: لاتجده ، ولا أظننا نراه بعد اليوم .

قم ياصاحبي ، فهذا كثير علينا .

المقالات
دور علي عليه السلام وتلاميذه في الفتوحات

بسم الله الرحمن الرحيم

فتح فارس والروم كان وعداً نبوياً

كان النبي(ص) يدعو الناس في مكة الى الإسلام ويخبرهم بأن الله تعالى وعده أن يورِّث أمته ملك كسرى وقيصر ! فكل من قرأ سيرته(ص) يجد أن فتح فارس والروم كانا وعداً نبوياً من أول إعلان الدعوة ، وكان المشركونيسخرون من ذلك! واستمر هذا الوعد عنصراً ثابتاً في مراحل دعوته(ص) ، فكان برنامجاً إلزامياً للسلطة الجديدة بعد وفاته(ص) ، أيّاً كانت تلك السلطة .

ففي سنن البيهقي:7/283: ( فوالذي نفس محمد بيده ليفتحن عليكم فارس والروم ) .

وفي الكافي:8/216: (عن أبي عبد الله(ع) : لما حفر رسول الله(ص) الخندق مروا بكدية فتناول رسول الله (ص ) المعول من يد أمير المؤمنين (ع ) أو من يد سلمان رضي الله عنه فضرب بها ضربة فتفرقت بثلاث فرق ، فقال رسول الله (ص ) : لقد فتح علي في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر ، فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا بكنوز كسرى وقيصر وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلى ) . ونحوه في سيرة ابن هشام:2/365

وعندما جاءته رسالة تهديد من كسرى أخبره الله تعالى بأنه سيقتله في اليوم الفلاني:

في سيرة ابن هشام : 1/45 :

( كتب كسرى إلى باذان : إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه بني فسر إليه فاستتبه ، فإن تاب وإلا فابعث إليَّ برأسه ، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب إليه رسول صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا ، فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر ، وقال: إن كان نبيا فسيكون ما قال ، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن هشام: قتل على يدي ابنه شيرويه).

و هذا يدل ، على أن الإتجاه الى الفتوحات خطة نبوية وعقيدة معروفة عند المسلمين ، وأنه كان من الواجب على أي سلطة تأتي بعد النبي(ص) أن تتبنى هذ (الستراتيجية) وتسير فيها .

دور علي(ع) وشيعته في الفتوحات :

في رأيي أن السلطة بعد النبي(ص) خافت من حرب مسيلمة والأسود العنسي التي يسمونها حروب الردة ، كما خافت من التوجه الى فتح بلاد فارس والشام ، وأن الذي دفعها الى الفتوحات هو علي(ع) والذين قادوا أهم الفتوحات هم تلاميذه الفرسان ، الذين لم تعطهم السلطة مناصب قيادية ، لكنهم كانوا القادة الميدانيين الذين خاضوا غمار المعارك وحققوا الإنتصارات الواسعة ، كانوا من شيعة علي(ع) وهم : حذيفة بن اليمان ، وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وأخواه أبان وعمرو ، وهاشم بن أبي وقاص الأموي المعروف بالمرقال وأولاده خاصة عبدالله وعتبة . وبريدة الأسلمي ، وعبادة بن الصامت ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعثمان بن حنيف وإخوته، وعبد الرحمن بن سهل الأنصاري، ومالك بن الحارث الأشتر وإخوته ، وعدد من القادة النخعيين معه ، وصعصعة بن صوحان العبدي وإخوته ، والأحنف بن قيس ، وحجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وجعدة بن هبيرة ابن أخت أمير المؤمنين(ع) ، والنعمان بن مقرن ، وبديل بن ورقاء الخزاعي ، وجرير بن عبدالله البجلي ، ومحمد بن أبي حذيفة الأنصاري ، وأبي رافع وأولاده ، والمقداد بن عمرو ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، والبراء بن عازب ، وأبي أيوب الأنصاري ، وبلال بن رباح مؤذن النبي(ص) ، وعبدالله بن خليفة البجلي ، وعدي بن حاتم الطائي ، وأبو عبيد بن مسعود الثقفي ، وأبي الدرداء .. ويليهم: جارية بن قدامة السعدي ، وأبي الأسود الدؤلي ، ومحمد بن أبي بكر ، والمهاجر بن خالد بن الوليد.. وغيرهم من القادة الميدانيين ! ولكل واحد من هؤلاء الأبطال أدوار مهمة ، عتَّم عليها إعلام الخلافة ورواتها، وأبرزوا بدلها أصحاب الأدوار الشكلية أو الثانوية أو المسروقة !
إني أدعو الباحثين خاصة في تاريخ الفتوحات الإسلامية ، لأن يكشفوا هذه الحقيقة الضخمة التي غطت عليها حكومات الخلافة القرشية ، ورواتها الذين كتبوا التاريخ بحبر الحكام .

علي( ع ) يشكو ظلامته وتعمد نسيان دوره في الفتوحات :
تعامل علي وأهل البيت(عليهم السلام) مع الموجة القرشية ضدهم بعد النبي(ص) بنبل رسالي ، ونفذوا ما أمرهم به حبيبهم النبي(ص) ، وسجلوا صبراً لا نظير له ، فكظموا غيظهم وصبَّروا أنصارهم ، وارتفعوا على جراحهم ، فعملوا مخلصين في تسيير سفينة الإسلام وفتوحاته !

قال عليٌّ(ع) في كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها: ( أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً(ص) وآله نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ماكان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده(ص) عن أهل بيته ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده ، (يقصد(ع) أن هذا كان أمراً غيرمعقول لايتصور) فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد(ص) ! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أوهدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ،أوكما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتَنَهْنَهْ).( نهج البلاغة:3/118).

وقام أمير المؤمنين(ع) بمهته العظيمة في التخطيط والتوجيه وغرس الثقة والقوة في نفوس القادة والجنود ، حتى امتدت الدولة الإسلامية فشملت إيران وبلاد الشام ومصر وغيرها .

ولكن التاريخ الإسلامي نسب تلك الفتوحات الى أبي بكر وعمر وعثمان وخلفاء بني أمية وتعمد أن يغطي على دور علي(ع) ، لذلك نراه يشكو ظلامته ويسجلها للتاريخ :

قال شرح النهج:20/298: (قال له قائل: يا أمير المؤمنين أرأيت لوكان رسول الله(ص) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم ، وآنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ، ولولا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة، وسلماً إلى العز والأمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكرًا ، ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا ، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف .
وما عسى أن يكون الولد لوكان ! إن رسول الله(ص) لم يقربني بما تعلمونه من القُرْب للنسب واللحمة ، بل للجهاد والنصيحة ، أفتراه لوكان له ولد هل كان يفعل ما فعلت! وكذاك لم يكن يَقْرُب ما قَرُبْتُ ، ثم لم يكن عند قريش والعرب سبباً للحظوة والمنزلة ، بل للحرمان والجفوة . اللهم إنك تعلم أني لم أرد الأمرة ، ولا علو الملك والرياسة ، وإنما أردت القيام بحدودك ، والأداء لشرعك ، ووضع الأمور في مواضعها ، وتوفير الحقوق على أهلها والمضي على منهاج نبيك ، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك ). انتهى

ثلاثة أنواع من فعالية علي(ع) في الفتوحات :

الأول: أن تلاميذه تصدوا لقيادة معاركها ، حتى لو تعطهم السلطة دوراً القيادة العليا . كما نرى في خالد بن سعيد بن العاص وأبي ذر وحذيفة بن اليمان وهاشم المرقال والأشتر وحجر بن عدي وغيرهم . وكل واحد منهم يحتاج الى دراسة خاصة .

الثاني: دور أمير المؤمنين (ع) في استكمال الفتوحات في خلافته بالرغم من ثلاثة حروب داخلية فتحوها عليه ! وقد سجل التاريخ منها فتح قسم من إيران كان مستعصياً ، وفتح قسم من الهند :

الثالث: أن عمر بن الخطاب بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر مع القوات الإيرانية ، أعطى علياً(ع) الدور الأساسي في إدارة الفتوحات !

ذلك أن الفرس طمعوا في استرجاع المناطق التي فتحوها ، وهي البصرة والكوفة والمدائن وجلولاء وخانقين وقسم من الأهواز ، فاستجمعوا قواهم وجمعوا مائة وخمسين ألف مقاتل في نهاوند ، وقرروا أن يجتاحوا هذه المناطق ثم يزحفوا الىالمدينة المنورة ، لاستئصال أصل دين العرب بزعمهم !

فهذه المرحلة كانت سبباً في أن الخليفة عمر أطلق يد علي(ع) في إدارة الفتوحات ، فقد روت المصادر أن عمر خاف خوفاً شديداً ، فاستشار كبار الصحابة ، وعمل برأي علي(ع) وأطلق يده في إدارة الفتح وإرسال القادة الذين يختارهم ، فاختار النعمان بن مقرن ، فإن قتل فحذيفة ، فإن قتل فجرير بن عبدالله البجلي ، وكانت معركة نهاوند الفاصلة التي قصمت قوة فارس!
قال ابن الأعثم في الفتوح:2/290: (ذكر كتاب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبدالله عمر أمير المؤمنين من عمار بن ياسر ، سلام عليك . أما بعد فإن ذا السطوات والنقمات المنتقم من أعدائه ، المنعم على أوليائه ، هو الناصر لأهل طاعته على أهل الإنكار والجحود من أهل عداوته ، ومما حدث يا أمير المؤمنين أن أهل الري وسمنان وساوه وهمذان ونهاوند وأصفهان وقم وقاشان وراوند واسفندهان وفارس وكرمان وضواحي أذربيجان قد اجتمعوا بأرض نهاوند، في خمسين ومائة ألف من فارس وراجل من الكفار ، وقد كانوا أمَّروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، وسنفاد بن حشروا ، وخهانيل بن فيروز ن وشروميان بن اسفنديار ، وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا ، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ، ويأتونكم من بعدنا ، وهم جمع عتيد وبأس شديد ، ودواب فَرِهٌ وسلاح شاك ، ويد الله فوق أيديهم . فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، وقد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، وقد عزموا أن يقصدوا المدائن ، ويصيروا منها إلى الكوفة ، وقد والله هالنا ذلك وما أتانا من أمرهم وخبرهم ، وكتبت هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ليكون هو الذي يرشدنا وعلى الأمور يدلنا ، والله الموفق الصانع بحول وقوته ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، فرأي أمير المؤمنين أسعده الله فيما كتبته . والسلام .

قال: فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأه وفهم ما فيه وقعت عليه الرعدة والنفضة ، حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي: أين المهاجرون والأنصار ! ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، وأعينوني أعانكم الله ! ). انتهى .

وفي تاريخ الطبري:3/209: (وكتب إليه أيضاً عبد الله وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل ، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ، ازدادوا جرأة وقوة... ثم نقل الطبري مشورة عمر للصحابة وقوله: ( أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه ، حتى أنزل منزلا واسطاً بين هذين المصرين فأستنفرهم ، ثم أكون لهم رداء حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب ، فإن فتح الله عليهم أن أضربهم عليهم في بلادهم وليتنازعوا ملكهم...؟ فقام طلحة ابن عبيد الله وكان من خطباء أصحاب رسول الله(ص)فتشهد ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور وعجمتك البلايا واحتنكتك التجارب ، وأنت وشأنك وأنت ورأيك ، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك . إليك هذا الأمر فمرنا نطع وادعنا نجب ، واحملنا نركب ، وأوفدنا نفد ، وقدنا ننقد ، فإنك ولي هذا الأمر ، وقد بلوت وجربت واختبرت ، فلم ينكشف شئ من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار . ثم جلس . فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام عثمان بن عفان فتشهد وقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشأم فيسيروا من شأمهم ، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ، ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين الكوفة والبصرة ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فإنك إذا سرت بمن معك وعندك ، قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم ، وكنت أعز عزاً وأكثر... ثم جلس . فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم سارت الروم إلى ذراريهم ، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات ! أقْرِرْ هؤلاء في أمصارهم ، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق: فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم ، ولتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتقضوا عليهم ، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم . إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا هذا أمير العرب وأصل العرب ، فكان ذلك أشد لكلبهم وألبتهم على نفسك . وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره . وأما ما ذكرت من عددهم ، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكنا كنا نقاتل بالنصر . فقال عمر: أجل والله لئن شخصت من البلدة لتنتقضن عليَّ الأرض من أطرافها وأكنافها ، ولئن نظرت إلى الأعاجم لا يفارقن العرصة ، وليمدنهم من لم يمدهم وليقولن هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب ). انتهى .
وفي نهج البلاغة:2/29: ( وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، وهو دين الله الذي أظهره ، وجنده الذي أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع . ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده وناصر جنده .

ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه ، فإن انقطع النظام تفرق وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً . والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالإجتماع ، فكن قطباً ، واستدر الرحى بالعرب ، وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك ! إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب ، فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك . فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره . وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة ).

ووصف ابن الأعثم في الفتوح:2/291، مشاورة عمر للصحابة فقال: ( أيها الناس: هذا يوم غم وحزن فاستمعوا ما ورد عليَّ من العراق ، فقالوا: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن الفرس أمم مختلفة أسماؤها وملوكها وأهواؤها وقد نفخهم الشيطان نفخة فتحزبوا علينا ، وقتلوا من في أرضهم من رجالنا ، وهذا كتاب عمار بن ياسر من الكوفة يخبرني بأنهم قد اجتمعوا بأرض نهاوند ، في خمسين ومائة ألف ، وقد سربوا عسكرهم إلى حلوان وخانقين وجلولاء ، وليست لهم همة إلا المدائن والكوفة ، ولئن وصلوا إلى ذلك فإنها بلية على الإسلام وثلمة لا تسد أبداً ، وهذا يوم له ما بعده من الأيام ، فالله الله يا معشر المسلمين ! أشيروا عليَّ رحمكم الله ، فإني قد رأيت رأياً ، غير أني أحب أن لا أقدم عليه إلا بمشورة منكم ، لأنكم شركائي في المحبوب والمكروه .
ذكر ما أشار به المسلمون على عمر رضي الله عنه:

وكان أول من وثب على عمر بن الخطاب وتكلم: طلحة بن عبيد الله فقال: ياأمير المؤمنين ، إنك بحمد الله رجل قد حنكته الدهور وأحكمته الأمور وراضته التجارب في جميع المقانب ، فلم ينكشف لك رأي إلا عن رضى ، وأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة ، فنفذنا ننفذ ، واحملنا نركب ، وادعنا نجب .
قال: ثم وثب الزبير بن العوام فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تبارك وتعالى قد جعلك عزاً للدين.... وبعد فأنت بالمشورة أبصر من كل من في المسجد ، فاعمل برأيك فرأيك أفضل ، ومرنا بأمرك فها نحن بين يديك .
فقال عمر: أريد غير هذين الرأيين ، قال: فوثب عبد الرحمن بن عوف الزهري فقال: يا أمير المؤمنين ، إن كل متكلم يتكلم برأيه ، ورأيك أفضل من رأينا ، لما قد فضلك الله عز وجل علينا ، وأجرى على يديك من موعود ربنا ، فاعمل برأيك واعتمد على خالقك ، وتوكل على رازقك وسر إلى أعداء الله بنفسك ، ونحن معك ، فإن الله عز وجل ناصرك بعزه وسلطانه كما عودك من فضله وإحسانه .
فقال عمر: أريد غير هذا الرأي ، فتكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: ياأمير المؤمنين إنك قد علمت وعلمنا أنا كنا بأجمعنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله منها بنبيه محمد(ص)، وقد اختارك لنا خليفة نبينا محمد ، وقد رضيك الأخيار وخافك الكفار ، ونفر عنك الأشرار ، وأنا أشير عليك أن تسير أنت بنفسك إلى هؤلاء الفجار بجميع من معك من المهاجرين والأنصار ، فتحصد شوكتهم وتستأصل جرثومتهم . فقال عمر رضي الله عنه: وكيف أسير أنا بنفسي إلى عدوي وليس بالمدينة خيل ولا رجل ، فإنما هم متفرقون في جميع الأمصار ؟ فقال عثمان: صدقت يا أمير المؤمنين ، ولكني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيقبلوا عليك من شامهم ، وإلى أهل اليمن فيقبلوا إليك من يمنهم ، ثم تسير بأهل الحرمين مكة والمدينة إلى أهل المصرين البصرة والكوفة ، فتكون في جمع كثير وجيش كبير ، فتلقى عدوك بالحد والحديد والخيل والجنود.
قال فقال عمر: هذا أيضاً رأي ليس يأخذ بالقلب ، أريد غير هذا الرأي .
قال: فسكت الناس ، والتفت عمر رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن ! لم لا تشير بشئ كما أشار غيرك ؟
ذكر مشورة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه:
قال: فقال علي: يا أمير المؤمنين ، إنك قد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث نبيه محمداً(ص) وليس معه ثان ولا له في الأرض من ناصر ولا له من عدوه مانع ، ثم لطف تبارك وتعالى بحوله وقوته وطوله ، فجعل له أعواناً أعز بهم دينه ، وشد أزره وشيد بهم أمره ، وقصم بهم كل جبار عنيد وشيطان مريد ، وأرى موازريه وناصريه من الفتوح والظهور على الاعداء ما دام به سرورهم وقرت به أعينهم ، وقد تكفل الله تبارك وتعالى لاهل هذا الدين بالنصر والظفر والاعزاز . والذي نصرهم مع نبيهم وهم قليلون ، هو الذي ينصرهم اليوم إذ هم كثيرون....
وبعد فقد رأيت قوماً أشاروا عليك بمشورة بعد مشورة فلم تقبل ذلك منهم ، ولم يأخذ بقلبك شئ مما أشاروا به عليك ، لأن كل مشير إنما يشير بما يدركه عقله ، وأعملك يا أمير المؤمنين أنك إن كتبت إلى الشام أن يقبلوا إليك من شامهم لم تأمن من أن يأتي هرقل في جميع النصرانية فيغير على بلادهم ، ويهدم مساجدهم ، ويقتل رجالهم ، ويأخذ أموالهم ، ويسبي نساءهم وذريتهم !
وإن كتبت إلى أهل اليمن أن يقبلوا من يمنهم ، أغارت الحبشة أيضاً على ديارهم ونسائهم وأموالهم وأولادهم ! وإن سرت بنفسك مع أهل مكة والمدينة إلى أهل البصرة والكوفة ، ثم قصدت بهم قصد عدوك ، انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأطرافها ، حتى إنك تريد بأن يكون من خلفته وراءك أهم إليك مما تريد أن تقصده ، ولا يكون للمسلمين كانفة تكنفهم ، ولا كهف يلجؤون إليه ، وليس بعدك مرجع ولا موئل ، إذ كنت أنت الغاية والمفزع والملجأ . فأقم بالمدينة ولا تبرحها ، فإنه أهيب لك في عدوك ، وأرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض: إن ملك العرب قد غزانا بنفسه ، لقلة أتباعه وأنصاره ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وعلى المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه ، وابعث من يكفيك هذا الأمر . والسلام .
قال: فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا الحسن ! فما الحيلة في ذلك وقد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين ومائة ألف ، يريدون استئصال المسلمين؟
فقال له علي بن أبي طالب: الحيلة أن تبعث إليهم رجلاً مجرباً قد عرفته بالبأس والشدة ، فإنك أبصر بجندك وأعرف برجالك ، واستعن بالله وتوكل عليه واستنصره للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحب وتريد ، وإن يكن الأخرى وأعوذ بالله من ذلك ، تكون ردءا للمسلمين وكهفاً يلجؤون إليه وفئة ينحازون إليها .
قال فقال له عمر: نعم ما قلت يا أبا الحسن ! ولكني أحببت أن يكون أهل البصرة وأهل الكوفة هم الذين يتولون حرب هؤلاء الأعاجم ، فإنهم قد ذاقوا حربهم وجربوهم ومارسوهم في غير موطن. قال فقال له علي رضي الله عنه: إن أحببت ذلك فاكتب إلى أهل البصرة أن يفترقوا على ثلاث فرق: فرقة تقيم في ديارهم فيكونوا حرساً لهم يدفعون عن حريمهم . والفرقة الثانية يقيمون في المساجد يعمرونها بالأذان والصلاة لكيلا تعطل الصلاة ، ويأخذون الجزية من أهل العهد لكيلا ينتقضوا عليك . والفرقة الثالثة يسيرون إلى إخوانهم من أهل الكوفة . ويصنع أهل الكوفة أيضاً كصنع أهل البصرة ، ثم يجتمعون ويسيرون إلى عدوهم ، فإن الله عز وجل ناصرهم عليهم ومظفرهم بهم ، فثق بالله ولا تيأس من روح الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ .
ووصف ابن الأعثم في الفتوح:2/291، قال: فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه ومشورته ، أقبل على الناس وقال: ويحكم ! عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ! والله لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي ، ثم أقبل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن ! فأشر عليَّ الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون أجعله أميراً ، وأستكفيه من هؤلاء الفرس .
فقال علي رضي الله عنه: قد أصبته ، قال عمر: ومن هو ؟ قال: النعمان بن مقرن المزني ، فقال عمر وجميع المسلمين: أصبت يا أبا الحسن ! وما لها من سواه . قال: ثم نزل عمر رضي الله عنه عن المنبر ودعا بالسائب بن الأقرع بن عوف الثقفي فقال: يا سائب ! إني أريد أن أوجهك إلى العراق فإن نشطت لذلك فتهيأ ، فقال له السائب: ما أنشطني لذلك...). انتهى .
أمير المؤمنين(ع) يرتب وضع البصرة ويواصل فتح إيران والهند

في تاريخ اليعقوبي:2/183: (ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل ، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان ) .

وفي شرح نهج البلاغة:18/308: (هبيرة بن أبي وهب ، كان من الفرسان المذكورين ، وابنه جعدة بن هبيرة ، وهو ابن أخت علي بن أبي طالب ، أمه أم هاني بنت أبي طالب ، وابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة ، هو الذي فتح القهندروكثيراً من خراسان ، فقال فيه الشاعر:
لولا ابن جعدةَ لم تُفتح قهندركم ولا خراسانُ حتى ينفخ الصور . انتهى.
أقول: في معجم البلدان:4/419 ، وصحاح الجوهري:1/433: قهندز بالزاي .

وقال الطبري في تاريخه:4/46: (فانتهى إلى أبر شهر وقد كفروا وامتنعوا فقدم على علي فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه وصالحه أهل مرو ، وأصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان فبعث بهما إلى علي فعرض عليهما الإسلام وأن يزوجهما ، قالتا زوجنا ابنيك فأبى ، فقال له بعض الدهاقين إدفعهما إليَّ فإنه كرامة تكرمني بها ، فدفعهما إليه فكانتا عنده يفرش لهما الديباج ويطعمهما في آنية الذهب ، ثم رجعتا إلى خراسان ). انتهى .

وقال ابن خياط في تاريخه ص143، في حوادث سنة36: ( وفيها ندب الحارث بن مرة العبدي(من البحرين)الناس إلى غزو الهند ، فجاوز مكران إلى بلاد قندابيل ووغل في جبال الفيقان ...) .

وفي فتوح البلدان للبلاذري:3/531: (فلما كان آخر سنة ثمان وثلاثين وأول سنة تسع وثلاثين في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، توجه إلى ذلك الثغر الحارث بن مرة العبدي متطوعاً بإذن علي ، فظفر وأصاب مغنماً وسبياً ، وقسم في يوم واحد ألف رأس ). انتهى .

نماذج من أدوار تلاميذ علي(ع) في الفتوحات !

دور أبي ذر (رحمه الله) في الفتوحات

دور أبي ذر (رحمه الله) في الفتوحات واحدٌ مما طمسه تاريخ الخلافة الرسمي! فقد صوروا أبا ذر (رحمه الله) كأنه بدوي ساذج متزمت سئ الخلق ، وكأنه صغير الجثة ضعيف البنية عن الجهاد ! بينما نطقت ثنايا مصادرهم بالحقائق ، وأنه كان رجلاً جسيماً طويلاً ، وقائداً شجاعاً ذكياً ! (وكان أبو ذر طويلاً عظيماً رضي الله عنه وكان زاهداً متقللاً من الدنيا...وكان قوالاً بالحق).(تهذيب الأسماء للنووي:2/513).

(وكان أبو ذر طويلاً عظيماً) . (أسد الغابة:5/188 ، ومستدرك الحاكم:3/51) .

(رجلاً طويلاً آدم أبيض الرأس واللحية). (الطبقات:4/230) .

(فجلس... فرجف به السرير ، وكان عظيماً طويلاً ) (سير أعلام النبلاء للذهبي:2/69).

وكان له فرس أصيل يقال له: الأجدل . (أنساب الخيل لابن الكلبي ص 6، وأسماء خيل العرب وفرسانها لابن الأعرابي ص 2). ومضافاً الى الرواية المتقدمة في استنكاره على الأمير الأموي لغصبه الجارية التي تدل على أنه كان في فتح الشام(سير أعلام النبلاء:1/329 ، وتاريخ دمشق:65/250) ،

فقد قالت رواية الواقدي في فتوح الشام:2/254: (ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ، ثم من بعده أبو ذر الغفاري ، ثم تبارد المسلمون بالحملة ، فلما رأى الروم ذلك ايقظوا أنفسهم في عددهم وعديدهم وتظاهروا البيض والدرع ، ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك).وقال الواقدي أيضاً:2/583: ( ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري ، وأمَّره على خمسمائة فارس ، وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
سأمضي للعداة بلا اكتئاب****وقلبي للِّقا والحرب صابي
وإن صال الجميع بيوم حرب ****لكان الكلُّ عندي كالكلاب
أذلهمُ بأبيض جوهريٍّ****طليقِ الحدِّ فيهم غيرُ آبي ) .انتهى .

بل تدل عدة روايات كما يأتي على أن أبا ذر (رحمه الله) سكن الشام من أول حكم عمر ، للمشاركة في الفتوحات ، وعاد منها في زمن عثمان ، ثم نفاه اليها عثمان لمدة سنة ، ثم أعاده ونفاه الى الربذة فبقي فيها سنتين أو أكثر حتى توفي غريباً سنة32 هجرية . وهذا يعني أنه قضى نحو عشرين سنة في الشام .

أما دور أبي ذر في فتح مصر فقد روت أكثر مصادر الحديث أنه كان يمرِّغ فرسه ويروِّضه ، فسألوه عن حبه له فقال: (ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده ، فمنها المستجاب ومنها غير المستجاب ، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً). رواه أحمد:5/162، و170، والنسائي:6/223، وفي الكبرى:3/36 ، والبيهقي في سننه:6/330 ، وعلل أحمد بن حنبل:3/404 ، وعلل الدارقطني:6/266 ، وسنن سعيد بن منصور:2/204، والعظمة لأبي الشيخ:5/1780، وحلية الأولياء:8 /387 ، والفردوس بمأثور الخطاب:4/53 ، وتفسير ابن كثير:2/334 ، والفروسية لابن قيم الجوزية ص130، وكنز العمال:6/321 ...الخ. روته هذه المصادر وغيرها

ولم تذكر مناسبته مع أنه حديث نبوي !إلا ثلاثة منها كشفت ربما عن غير قصد دور أبي ذر في فتح مصر !

قال السيوطي في الدر المنثور:3/197: (وأخرج أبو عبيدة في كتاب الخيل عن معاوية بن خديج ، أنه لما افتتحت مصر كان لكل قوم مراغة يمرِّغون فيها خيولهم ، فمر معاوية(يقصد ابن حديج التميمي)بأبي ذر رضي الله عنه وهو يمرغ فرساً له فسلم عليه ووقف ، ثم قال: يا أبا ذر ما هذا الفرس؟ قال فرس لي ، لا أراه الا مستجاباً ! قال: وهل تدعو الخيل وتجاب ؟ قال: نعم ، ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده ، فمنها المستجاب ومنها غير المستجاب ، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً). (وحياة الحيوان للدميري ص930). وفي نهاية الإرب: ص2036: (لما نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل ، فمر حديج بن صومي بأبي ذر رضي الله عنه وهو يمرغ فرسه الأجدل ، فقال...)

وأما دوره في فتح قبرص :

فقال البلاذري في فتوح البلدان:1/182: (لما غُزيَت قبرس الغزوة الأولى ، ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت ، فلما انتهوا إلى قبرس خرجت من المركب وقدمت إليها دابة لتركبها فعثرتبها فقتلتها ، فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة الصالحة .

قالوا: وغزا مع معاوية أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، وأبو الدرداء ، وأبو ذر الغفاري ، وعبادة بن الصامت ، وفضالة بن عبيد الأنصاري ، وعمير بن سعد بن عبيد الأنصاري ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، وعبد الله بن بشر المازني ، وشداد بن أوس بن ثابت ، وهو ابن أخي حسان بن ثابت ، والمقداد ، وكعب الحبر بن ماتع ، وجبير بن نفير الحضرمي). انتهى .

أقول: حشروا إسم كعب الأحبار معهم ، لإعطائه لقب المسلم المجاهد ! وكذلك حشروا إسم معاوية بعبارة مبهمة فيها تدليس(وغزا مع معاوية) ، مع أن تاريخ كعب ومعاوية لم يسجل أنهما حملا سلاحاً وحاربا يوماً ، أو غزيا حتى لمرة واحدة ! ولذا قال في الإستيعاب:4/1931: (ويقال إن معاوية غزا تلك الغزاة بنفسه ، ومعه أيضاً امرأته فاختة بنت قرظة ). انتهى .

ويشير النص التالي الى أن معاوية كان ينتظر الجيش في الساحل بطرسوس!

ففي مسند الشاميين للطبراني:2/73 ، عن جبير بن نفير قال: (أخرج معاوية غنائم قبرس إلى الطرسوس من ساحل حمص ، ثم جعلها هناك في كنيسة يقال لها كنيسة معاوية ، ثم قام في الناس فقال: إني قاسم غنائمكم على ثلاثة أسهم: سهم لكم ، وسهم للسفن ، وسهم للقبط ، فإنه لم يكن لكم قوة على غزو البحر إلا بالسفن والقبط . فقام أبو ذر فقال: بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم: أتقسم يا معاوية للسفن سهماً وإنما هي فيؤنا ، وتقسم للقبط سهماً وإنما هم أجراؤنا ، فقسمها معاوية على قول أبي ذر) . ( ونحوه في:2/120 ، وتاريخ دمشق:66/193 ، وحلية الأولياء:5/134) .

أما البخاري فروى الحديث بدون ذكر أبي ذر، ولا أبي أيوب ، ولا غيرهما من الصحابة ! لأن غرضه فقط أن يمدح معاوية بأنه أول من ركب البحر للغزو ، ويروي حديثاً يحتمل أن يكون مدحاً لمعاوية !

قال بخاري في:3/203: (أم حرام بنت ملحان قالت نام النبي(ص)يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ، فقلت ما أضحكك ؟ قال أناس من أمتي عرضوا على يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ! قالت: فادع الله أن يجعلني منهم ،فدعا لها ، ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ، فقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين ! فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت) انتهى.

وقد صحح ابن حجر وغيره خطأ البخاري في روايته ولم يذكروا معاوية ! قال في تهذيب التهذيب:12/411: (والصحيح العكس ، فقد قال غير واحد وثبت غير واحد أنها خرجت مع زوجها عبادة في بعض غزوات البحر ، وماتت في غزاتها وَقَصَتْها بغلتها عندما نقلوا ، وذلك أول ما ركب المسلمون في البحر في زمن معاوية في خلافة عثمان . زاد أبو نعيم الأصبهاني وقبرت بقبرس . قلت: والإسماعيلي في مستخرجه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن عمار قال: رأيت قبرها ووقفت عليها بقبرس).

(ونحوه في صحيح ابن حبان:10/468 ، وطبقات ابن سعد:8/435 ، ورجال صحيح البخاري للكلاباذي:2/851 ، وتاريخ دمشق:70/217، وغيرها . وفي تهذيب التهذيب:12/82: ركبتْ البحر عامقبرس ، مع ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة ، منهم أبو ذر ).

أقول: يصعب تصديق حديث بنت ملحان وأمثاله ، الذي يذكر أن النبي(ص) كان يزورها كأنها والدته أو خالته ، وينام في بيتها ويرى رؤية تتعلق بها !

وأنها كانت تفلي رأسه كابنها أو أخيها ، وكأن رأس النبي(ص) فيه قمل كرؤوس رجالهم !

مالك الأشتر ودوره في معركة القادسية واليرموك !

تدل النصوص المتناثرة في المصادر على دور مالك البطولي والقيادي في المعارك الفاصلة من تاريخنا ! ويظهر أنه (رحمه الله) كان يتحرى بطل العدو أو قائدهم فيبرز اليه ويجندله ، فتتغير المعادلة لصالح المسلمين وتقع في عدوهم الهزيمة ، وهذا ما فعله في معركة مسيلمة الكذاب ، وفي معركة اليرموك ، وغيرهما !

وأنه بعد مشاركته في حرب مسيلمة توجه الى الشام وشارك في معارك الفتح ، ثم عاد الى العراق وشارك في بعض معاركها ، وبعد فتح عين التمر وحاجة جبهة الشام الى مدد ، بادر الى معركة اليرموك وكان بطل النصر فيها ، وبعد اليرموك كان قائداً فعالاً ففتح عدة مدن وحصون في بلاد الشام ، ثم طارد الروم الى جبال اللكام ، وعندما احتاجت اليه جبهة العراق بادر الى معركة القادسية !

وقد ادعت رواية الطبري التالية:2/597،أنه لم يحضر القادسية: (عن أرطأة بن جهيش قال كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية ، فخرج يومئذ رجل من الروم فقال من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين فقال للرومي خذها وأنا الغلام الأيادي ! فقال الرومي: أكثر الله في قومي مثلك ، أما والله لولا أنك من قومي لآزَرْتِ الروم ، فأما الآن فلا أعينهم ) . (وتاريخ دمشق:56/379) .

أقول: معنى أن هذا البطل الرومي أيادي ، أنه من الغساسنة المتنصرين ، لأنهم يرجعون مع النخع الى أياد ، وقد أعجب ذلك الفارس ببطولة ابن عمه مالك النخعي الأيادي وعاهده أن لايقاتل مع الروم ضد المسلمين .

وأما قول الرواية إن مالكاً لم يشهد القادسية ، فيردُّه ما رواه الطبري نفسه ومصادر أخرى من أنه جاء من معركة اليرموك مدداً للمسلمين في القادسية وشهدها. فقد روى له أبو تمام في ديوان الحماسة:1/39 شعراً قاله في القادسية ، قال: (وتلقني يشتد بي أجردٌ مستقدم البَرْكة كالراكب . هو مالك بن الحارث أحد بني النخع والأشتر لقب له ، كان شاعراً يمانياً من شعراء الصحابة ، شهد حرب القادسية أيام عمر بن الخطاب التي كانت بين المسلمين والفرس ، وكان لعلي في حروبه مثل ما كان علي لرسول الله(ص) ). وفي طبقات ابن سعد:6/405: (أخبرنا طلق بن غنام قال: شهد جدي مالك بن الحارث القادسية... ثم قال عن طلق بن غنام: وكان ثقة صدوقاً) .

وفي الأغاني:15/208: (قال أبو عبيدة في رواية أبي زيد عمر بن شبة: شهد عمرو بن معدي كرب القادسية وهو ابن مائة وست سنين ، وقال بعضهم: بل ابن مائة وعشر ، قال: ولما قتله العلج(كان)عَبَرَ نهر القادسية هو وقيس بن مكشوح المرادي ومالك بن الحارث الأشتر ). (ومعاهد التنصيص للعباسي:2/244) .

وفي مصنف ابن أبي شيبة:7/718: (عن الأعمش عن مالك بن الحارث أو غيره قال: كنت لاتشاء أن تسمع يوم القادسية: أنا الغلام النخعي ، إلا سمعته ) .

وفي ابن أبي شيبة:8/14، (فقال عمر: ما شأن النخع ، أصيبوا من بين سائر الناس أفرَّ الناس عنهم؟ قالوا: لا ، بل وَلُوا أعظم الأمر وحدهم).( ونحوه في الإصابة:1/196).

وذكر ابن أبي شيبة:8/15، أن النخع كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة ، أي ربع جيش المسلمين ، وأن ثقل المعركة كان عليهم !

وفي تاريخ الطبري:3/82 ، أنهم هاجروا من اليمن مع عوائلهم ، وزوجوا سبع مائة بنت الى المسلمين وخاصة الأنصار . (ونحوه في تاريخ دمشق:65/100) .

وتدل رواية الحافظ الأصبهاني في ذكر أخبار إصبهان:2/318 ، على أن الأشتر وفرسان النخعيين توغلوا في فتح إيران وشاركوا في فتح أصفهان ، قال: ( مالك الأشتر بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بنخزيمة بن سعد بن مالك بن النخع ، كان بإصبهان أيام علي بن أبي طالب فيما ذكر عن عمير بن سعيد قال: دخلت على الأشتر بإصبهان في أناس من النخع نعوده ).

ونحوها رواية السمعاني في الأنساب:5/476 ، قال: (ومات بالقلزم مسموماً سنة سبع وثلاثين من الهجرة ، سمه معاوية في العسل ، ولما بلغه الخبر قال: إن لله جنوداً من العسل ! قال عمير بن سعيد: دخلت على الأشتر بأصبهانفي أناس من النخع نعوده ، فقال: هل في البيت إلا نخعي؟ قلنا: لا ).

فاتضح أن الروايات التي تنفي مشاركته في القادسية وفتح إيران ، وضعها رواة الخلافة المتعصبون ضده وضد قومه النخعيين ، بسبب تشيعهم !

وقال الواقدي:1/68 ، عن مشاركة مالك في فتوح الشام زمن أبي بكر: (فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي... وقد عزم على الخروج مع الناس الى الشام .. واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف ، فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتاباًالى خالد بن الوليد... وقد تقدم اليك أبطال اليمن وأبطال مكة ، ويكفيك بن معد يكرب الزبيدي ، ومالك بن الأشتر ) .

وقال في462 ، في فتح الموصل: (والتقى مالك الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم أنه من ملوكهم ، فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره ) .

وقال ابن الأعثم:1/258 في فتح آمد وميافارقين في تركية:(ثم أرسل عياض مالك الأشتر النخعي وأعطاه ألف فارس ، وأرسله إلى ناحية آمد وميافارقين ، وحين وصل مالك مع الجيش إلى آمد تبين له أن القلعة حصينة جداً فأخذ يفكر بالأمر وأن مقامه سيطول هناك ، ولما اقترب من آمد وعاين بنفسه قوة الحصن ، أمر الجيش بأن يكبروا معاً تكبيرة واحدة بأعلى صوت ! فخاف أهل آمد وتزلزلت أقدامهم وظنوا أن المسلمين يبلغون عشرة آلاف ، وأنهم لا قِبَلَ لهم بحربهم ، فأرسلوا شخصاً إلى الأشتر فأجابهم الأشتر إلى الصلح ، وتقرر أن يدفعوا خمسة آلاف دينار نقداً ، وعلى كل رجل أربعة دنانير جزية ، ورضي حاكم البلد بهذا الصلح وفتحوا الأبواب ودخلها المسلمون صباح يوم الجمعة ، فطافوا فيها ساعة ثم خرجوا ، وأقاموا على بوابة البلدة ).

مالك الأشتر بطل معركة اليرموك

عندما بدأ الروم يحشدون جيوشهم لاسترجاع ما فتحه المسلمون من بلاد الشام كان مالك في العراق ، فحشدوا نحو مئة ألف مقاتل ، وكان عدد المسلمين مقابلهم أقل من ثلاثين ألفاً . ففي تاريخ دمشق:2/143:(أن المسلمين كانوا أربعة وعشرين ألفاً وعليهم أبو عبيدة بن الجراح ، والروم عشرون ومائة ألف عليهم ماهان وسقلان يوم اليرموك). وفي فتوح ابن الأعثم:1/173: (ثم جعل ماهان أميراً على جميع أجناده ، وأمر الوزراء والبطارقة والأساقفة أن لايقطعوا أمراً دونه) .

ومن النصوص التي تحدد تاريخ معركة اليرموك ، ما رواه في تاريخ دمشق:2/162 قال: (ثم بلغ ذلك هرقل فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلاً واسع العطن واسع المطرد ، ضيق المهرب...فنزلوا الواقوصة على ضفة اليرموك ، وصار الوادي خندقاً لهم وهو لهب لايدرك ، وإنما أراد باهان وأصحابه أن يستفيق الروم . . . ومخرجهم صفر سنة ثلاث عشرة وشهري ربيع لايقدرون من الروم على شئ ، ولا يخلصون إليهم واللهب وهوالواقوصة من ورائهم ، والخندق من ورائهم ، ولايخرجون خرجة إلا أديل المسلمون منهم... وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن في صفر ، فكتب إلى خالد ليلحق بهم وأمره أن يخلف على العراق المثنى ، فوافاهم في ربيع). انتهى.

أقول: وبعد وصول خالد الى دمشق توفي أبو بكر وتولى الخلافة عمر ، فبادر الى عزل خالد وتأمير أبي عبيدة مكانه ، وخاف عمر أن يؤثر عزل خالد على سير المعركة ، ولكن الله لطف على المسلمين ببطولة مالك الأشتر(رحمه الله) .

وفي تاريخ اليعقوبي:2/141:(وجمع أبو عبيدة إليه المسلمين وعسكر باليرموك... وجعل أبو عبيدة خالد بن الوليد على مقدمته فواقع المشركين ، ولقي ماهان صاحب الروم... وكانت وقعة جليلة الخطب فقتل من الروم مقتلة عظيمة وفتح الله على المسلمين... وأوفد أبو عبيدة إلى عمر وفداً فيهم حذيفة بن اليمان وقد كان عمر أرِقَ عدة ليال واشتد تطلعه إلى الخبر ، فلما ورد عليه الخبر خرَّ ساجداً وقال: الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة ، فوالله لو لم يفتح لقال قائل: لو كان خالد بن الوليد).

خوف المسلمين وعمر من جيش الروم في اليرموك

نورد خلاصة بعبارة الواقدي وابن الأعثم، قال الواقدي في:1/163:

(ثم إن الملك هرقل لما قلد أمر جيوشه ماهان ملك الأرمن ، وأمره بالنهوض الى قتال المسلمين وركب الملك هرقل وركب الروم وضربوا بوق الرحيل ، وخرج الملك هرقل ليتبع عساكره... وسار ماهان في أثر القوم بحيوشه والرجال أمامه ينحتون له الأرض ويزيلون من طريقهم الحجارة ، وكانوا لا يمرون على بلد ولا مدينة الا أضروا بأهلها ، ويطالبونهم بالعلوفة والإقامات ولا قدرة لهم بذلك فيدعون عليهم ويقولون: لاردكم الله سالمين . قال وجَبْلَة بن الأيْهم(رئيس غسان ومن معها) في مقدمة ماهان ومعه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام.... وجعل الجواسيس يسيرون حتى وصلوا الى الجابية وحضروا بين يدي الأمير أبي عبيدة وأخبروه بما رأوه من عظم الجيوش والعساكر ، فلما سمع أبو عبيدة ذلك عظم عليه وكبر لديه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وبات قلقاً لم تغمض له عين خوفاً على المسلمين.... قال عطية بن عامر: فوالله ما شبهت عساكر اليرموك إلا كالجراد المنتشر إذْ سدَّ بكثرته الوادي ! قال: ونظرت الى المسلمين قد ظهر منهم القلق وهم لا يفترون عن قول لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم ، وأبو عبيدة يقول: ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . ثم ذكر/178رسالة أبي عبيدة الى عمر فقال عمر: (ما تشيرون به عليَّ رحمكم الله تعالى؟فقال له علي بن أبي طالب: أبشروا رحمكم الله تعالى ، فإن هذه الوقعة يكون فيها آية من آيات الله....قال لعمر: يا أمير المؤمنين أكتب الى عاملك أبي عبيدة كتاباً وأعلمه فيه أن نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا ).

وقال ابن الأعثم في:1/179:(وبلغ أبا عبيدة بأن ماهان وزير هرقل أقبل في عساكره حتى نزل مدينة حمص في مائة ألف ، فاغتم لذلك... قال ثم تكلم قيس بن هبيرة المرادي فقال: أيها الأمير هذا وقت رأيٌ نشير به عليك ، أترانا نرجع إلى بلادنا ومساقط رؤوسنا ، وتترك لهؤلاء الروم حصوناً ودياراً وأموالاً قد أفاءها الله علينا ونزعها من أيديهم فجعلها في أيدينا ، إذن لا ردنا الله إلى أهلنا أبداً إن تركنا هذه العيون المتفجرة والأنهار المطردة والزرع والنبات والكروم والأعناب والذهب والفضة والديباج والحرير ، والحنطة والشعير ! ونرجع إلى أكل الضب ولبوس العباءة ، ونحن نزعم أن قتيلنا في الجنة يصيب نعيماً مقيماً ، وقتيلهم في النار يلقى عذاباً أليما ! أُثبت أيها الأمير وشجع أصحابك وتوكل على الله ، وثق به ولا تيأس من النصر والظفر . قال فقال أبو عبيدة: أحسنت يا قيس ، ما الرأي إلا ما رأيت ، وأنا زعيم لك ، ولا أبرح هذه الأرض حتى يأذن الله لي ). انتهى.

أقول: يدل هذا النص على أن خوف بعض المسلمين من الروم قد بلغ مداه ! وأن المعادلة الدنيوية كانت غالبة عليهم ، لكن بعضهم غلبت عليه الطمأنينة والمعادلة الدينية ، كما رأيت في اطمئنان علي(ع) بالوعد النبوي بهزيمة الروم .

وقال الواقدي عن نجدة مالك وخالد الى اليرموك قال:2/192: (فلما وصلوا إلى عين التمر استعجل للنصرة ، فترك الجيش وسار في سبعين فارساً ، وأتت بقية السبعمائة بعد ذلك ، وكان معه قيس بن عبد يغوث وقيس بن أبي حازم وسعيد بن نزار ومالك الأشتر النخعي ، فتقدم هاشم وقيس معه في السبعين).

وقال الواقدي:1/224يصف المعركة ونصيحة البطاركة لبطلهم ماهان:

(أيها الملك لا تخرج الى الحرب حتى نخرج نحن الى القتال قبلك ، فإذا قُتلنا فافعل بعدنا ما شئت . قال: فحلف ماهان بالكنائس الأربع لايبرز أحد قبله ! قال فلما حلف أمسكوا عنه وعن مراجعته، ثم إنه دعا بابن له فدفع اليه الصليب وقال: قف مكاني ! وقُدِّم لماهان عُدَّة فأفرغت عليه ، قال الواقدي: وبلغنا أن عدته التي خرج بها الى الحرب تقومت بستين ألف دينار ، لأن جميعها كان مرصعاً بالجوهر ، فلما عزم على الخروج تقدم له راهب من الرهبان فقال: أيها الملك ما أرى لك الى البراز سبيلاً ولا أحبه لك . قال: ولم ذلك؟ قال: لأني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز. فقال ماهان: لست أفعل والقتل أحب اليَّ من العار ! قال فبخروه وودعوه . وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق ، وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوَّف باسمه فكان أول من عرفه خالد بن الوليد فقال: هذا ماهان ، هذا صاحب القوم قد خرج ! ووالله ما عندهم شئ من الخير ! قال وماهان يُرَعِّب باسمه ، فخرج اليه غلام من الأوس وقال: والله أنا مشتاق الى الجنة وحمل ماهان وبيده عمود من ذهب كان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه الى الجنة ! قال أبو هريرة: فنظرت الى الغلام عندما سقط وهو يشير بإصبعه نحو السماء ولم يهله ما لحقه ، فعلمت أن ذلك لفرحه بما عاين من الحور العين . قال: فجال ماهان على مصرعه وقويَ قلبه ودعا الى البرازفسارع المسلمون اليه فكل يقول اللهم اجعل قتله على يدي (!) وكان أول من برز مالك النخعي الأشتر وساواه في الميدان فابتدر مالك ماهان بالكلام وقال له: أيها العلج لا تغتر بمن قتلته وإنما اشتاق صاحبنا الى لقاء ربه ، وما منا إلا من هو مشتاق الى الجنة ، فإن أردت مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية وإلا فأنت هالك لا محالة ! فقال له ماهان: أنت صاحب خالد بن الوليد؟ قال: لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله(ص) ! فقال ماهان: لا بد لي من الحرب ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال ، فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشَتَرتْ عينه فمن ذلك اليوم سميبالأشتر ، قال: فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ، ثم فكر فيما عزم عليه فدبَّرَ نفسه وعلم أن الله ناصره ، قال والدم فائرٌ من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكاً ، وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه ! وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك إستعن بالله يعنك على قرينك ، قال مالك: فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله(ص) وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعاً غير موهن فعلمت أن الأجل حصين ، فلما أحس ماهان بالضربة ولَّى ودخل في عسكره ! قال الواقدي: ولما ولى ماهان بين يدي مالك الأشتر منهزماً صاح خالد بالمسلمين: يا أهل النصر والبأس إحملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ، ثم حمل خالد ومن معه من جيشه ، وحمل كل الأمراء بمن معهم ، وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر، حتى إذا غابت الشمس وأظلم الأفق انكشف الروم منهزمين بين أيديهم ، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا ). انتهى.

أقول: يفهم من الرواية أن مالكاً ضرب قائدهم ماهان ففرَّ جريحاً ، فذهل الروم وتغيرت كفة المعركة لصالح المسلمين ! لكن المرجح أنه قتله فبرز اليه آخران فقتلهما ، ثم ثمانية من قادة جيش الروم ، أو بطاركتهم كما يسمونهم ! فقد

روى الكلاعي في الإكتفاء:3/273، واصفاً الأشتر: (كان من جلداء الرجال وأشدائهم ، وأهل القوة والنجدة منهم ، وأنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم ، وقتل منهم ثلاثة مبارزة ) ! انتهى. بل تشير رواية الطبري:3/74 ، التالية الى أن ماهان قُتل من ضربة الأشتر: (عن عبد الله بن الزبير قال: كنت مع أبي الزبير عام اليرموك فلما تعبأ المسلمون.....فهزمت الروم وجموع هرقل التي جمع فأصيب من الروم أهل أرمينية والمستعربة سبعون ألفاً وقتل الله الصقلار وباهان ، وقد كان هرقل قدمه مع الصقلار). انتهى.وستعرف أن رواة السلطة يحرصون على طمس بطولات من لايحبونهم أو سلبها منهم ونسبتها الى أتباع السلطة ، وهذا هو السبب في نسبتهم قتل ماهان الى مجهول ! أو قولهم إنه اختلف في الذي قتله ! وكذلك طمسهم مبارزات الأشتر الأخرى ، وأسماء قادة الروم الأحد عشر الذين قتلهم (رحمه الله) .

جهاد مالك الأشتر بعد اليرموك !

وصف ابن العديم في تاريخ حلب:1/569 ، توغل الأشتر بعد اليرموك في أرض الروم فقال: (وحدثني الحسن بن عبد الله أن الأشتر قال لأبي عبيدة: إبعث معي خيلاً أتبع آثار القوم وأمضي نحو أرضهم ، فإن عندي جزاءً وغناءً . فقال له أبو عبيدة: والله إنك لخليق لكل خير). وفي:1/156: (وأول من قطع جبل اللكام وصار إلى المصيصة مالك بن الحارث الأشتر النخعي من قبل أبي عبيدة بن الجراح ) .

ولا يتسع المجال للتفصيل ، فنكتفي بتسجيل نقاط مختصرة عن بطولاته في فتح بلاد الشام ، التي حكمها قاتله معاوية !

قال الكلاعي في الإكتفاء:3/273: ( وتوجه مع خالد في طلب الروم حين انهزموا فلما بلغوا ثنية العقاب من أرض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة ، أقبلوا يرمون المسلمين من فوقهم بالصخر ، فتقدم إليهم الأشتر في رجال من المسلمين وإذا أمام الروم رجل جسيم من عظمائهم وأشدائهم ، فوثب إليه الأشتر لما دنا منه فاستويا على صخرة مستوية فاضطربا بسيفيهما فضرب الأشتر كتف الرومي فأطارها ، وضربه الرومي بسيفه فلم يضره شيئاً ، واعتنق كل واحد منهما صاحبه ، ثم دفعه الأشتر من فوق الصخرة فوقعا منها ، ثم تدحرجا والأشتر يقول وهما يتدحرجان: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ . فلم يزل يقول هذا وهو في ذلك ملازم العلج لا يتركه حتى انتهيا إلى موضع مستو من الجبل ، فلما استقرا فيه وثب الأشتر على الرومي فقتله ، ثم صاح في الناس أن جوزوا ! فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتله الأشتر خلوا سبيل العقبة للناس ، ثم انهزموا ) ! انتهى.

ثم ذكر هزيمة الروم العامة بعد اليرموك ، وفرار هرقل من أنطاكية مودعاً لها: (فقال: السلام عليك ياسورية ، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبداً) !

وذكر البلاذري في فتوحه:1/194، أن مالك الأشتر كان قائداً في فتح أنطاكية .

وذكر في/630 أبا ذر والأشتر في القادة ، في محاصرة مدينة ساحلية..الخ.

وذكر في:1/302 ، وما بعدها كيف خطط مالك لفتح حلب ، ثم كيف فتح حصن عزار ، واستخلف عليه سعيد بن عمرو الغنوي ورجع الى أبي عبيدة ، فكتب أبو عبيدة الى عمر بالنصر) .

وفي تاريخ اليعقوبي:2/141أن أبا عبيدة أرسله الى: (جمع إلى الروم ، وقد قطعوا الدرب ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم انصرف وقد عافاه الله وأصحابه ).

وذكر الواقدي في:1/223 مبارزته لجرجيس أحد قادة الروم في منطقة عمورية ، قال: (وأقبل اليه راهب عمورية وأعطاه صليباً كان في عنقه وقال: هذا الصليب من أيام المسيح يتوارثه الرهبان ويتمسحون به فهو ينصرك ، فأخذهجرجيس ونادى البراز بكلام عربي فصيح حتى ظن الناس أنه عربي من المتنصرة ، فخرج اليه ضرار بن الأزور كأنه شعلة نار فلما قاربه ونظر اليه والى عظم جثته ندم على خروجه بالعدة التي أثقلته فقال في نفسه: وما عسى يغني هذا اللباس إذا حضر الأجل ، ثم رجع مولياً فظن الناس أنه ولى فزعاً ، فقال قائل منهم: إن ضراراً قد انهزم من العلج وما ضبط عنه قط أنه انهزم ! وهو لا يكلم أحداً حتى صار الى خيمته ونزع ثيابه وبقي بالسراويل ، وأخذ قوسه وتقلد بسيفه وجحفته وعاد الى الميدان كأنه الظبية الخمصاء ، فوجد مالكاً النخعي قد سبقه الى البطريق وكان مالك من الخُطَّاط إذا ركب الجواد تسحب رجلاه على الأرض ! فنظر ضرار فإذا بمالك ينادي العلج: تقدم يا عدو الله يا عابد الصليب الى الرجل النجيب ناصر محمد الحبيب ، فلم يجبه العلج لما داخله من الخوف منه ! قال فجال عليه وهمَّ أن يطعنه فلم يجد للطعنة مكاناً لما عليه من الحديد ، فقصد جواده وطعنه في خاصرته فأطلع السنان يلمع من الجانب الآخر فنفر الجواد من حرارة الطعنة ، وهمَّ مالك أن يخرج الرمح فلم يقدر لأنه قد اشتبك في ضلوع الجواد وهو على ظهره لم يقدر أن يتحرك لأنه مزرر في ظهر الجواد بزنانير الى سرجه ، فنظر المسلمون الى ضرار وقد أسرع اليه مثل الظبية حتى وصل اليه وضربه بسيفه على هامته فشطرها نصفين وأخذ سلبه ، فأتاه مالك وقال: ما هذا يا ضرار تشاركني في صيدي؟ ! فقال ما أنا بشريكك وإنما أنا صاحب السلب وهو لي ، فقال مالك: أنا قتلت جواده ! فقال ضرار: رب ساع لقاعد ، آكل غير حامل ! فتبسم مالك وقال: خذ صيدك هنأك الله به ! قال ضرار: إنما أنا مازحٌ في كلامي ، خذه اليك فوالله ما آخذ منه شيئاً وهو لك وأنت أحق به مني . ثم انتزع سلب العلج وحمله على عاتقه وما كاد أن يمشي به وهو يتصبب عرقاً . قال زهير بن عابد ولقد رأيته وهو يسير به وهو راجل ومالك فارس حتى طرحه في رحل مالك ! فقال أبو عبيدة: بأبي وأمي والله قوم وهبوا أنفسهم لله وما يريدون الدنيا ). انتهى.

أقول: لا أظن أن ضرار بن الأزور طان حياً في معركة اليرموك ، ولو كان فغرض الرواية التغطية على هزيمته ، وأن تجعله شريكاً لمالك الأشتر ، فضرار هذا من أتباع السطة ، وهو قاتل مالك بن نويرة (رحمه الله) وكان مُدمنَ خمر حتى شكاه أبو عبيدة الى عمر(الطبري:3/191 ، وتاريخ دمشق:24/390)وكان في مهمة في حي من قومه بني أسد فرأى عروساً جميلة تُزَفُّ الى زوجها فغصبها ! فكتب عمر الى خالد بن الوليد أن يرجمه فوصل الكتاب بعد وفاة ضرار ، ففرح بذلك خالد ! (مجموع النووي:19/338 ، وسنن البيهقي:9/104، وتاريخ البخاري:4/338 ، والجرح والتعديل:4/464 ، وتاريخ دمشق:24/388 ، وقد وثق في مجمع الزوائد:6/221، رواية قتله لمالك بن نويرة (رحمه الله) ، وبحث ذلك في النص والإجتهاد/121).

دور مالك الأشتر في فتح مصر

وقد روته عدة مصادر ، منها ما رواه الواقدي:2/66: (فقال يزيد بن أبي سفيان: أنا والله رأيت مالكاً الأشتر النخعي ، وعرفته بطول قامته وركبته على فرسه...).

وذكر في:2/221 ، كتاب عمر الى ابن العاص يذكر فيه مالكاً في القادة .

وذكر في:2/240: نداء مالك في المسلمين في مصر يثبتهم ويشجعهم قال: (لاتولُّوا فراراً من الموت ! أتريدون أن تكونوا عاراً عند العرب ! فما عذركم غداً بين يدي رسول الله(ص) ؟ ! أما سمعتم قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

وذكر في:2/242، أنه كان في قلب جيش الفتح المصري مقابل الروم، وفي:2/272 مشاركته في فتح البهنسا ، وقال: (ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الكثيب الأصفر قريباً من البياض الذي على المغارة نحو المدينة....فلما أصبحوا خرج أعداء الله للقائهم فقال مالك الأشتر: يا قوم إن أعداء الله خرجوا للقائكم فاشغلوهم بالقتال وأرسلوا جماعة منكم يملكون الجسر واستعينوا بالله ).انتهى.

رأيت رواية ألفتتني ، لأنها تدل على أن أبا ذر (رحمه الله) كان موجوداً في فتح الشام ، فتتبعت خيوطها ، ففتحت عليَّ باباً وكشفت لي حقائق عن الفتوحات الإسلامية ، تخالف روايات الحكومات الرسمية .

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار:2/156: (غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس وهو أمير على الشام ، فغنموا وقسموا الغنائم ، فوقعت جارية في سهم رجل من المسلمين وكانت جميلة ، فذكرت ليزيد فانتزعها من الرجل ! وكان أبو ذر يومئذ بالشام ، فأتاه الرجل فشكا إليه واستعان به على يزيد ليرد الجارية إليه ، فانطلق إليه معه وسأله ذلك فتلكأ عليه ! فقال له أبو ذر: أما والله لئن فعلت ذلك ، لقد سمعت رسول الله(ص) يقول: إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية ، ثم قام !فلحقه يزيد فقال له: أذكرك الله عز وجل أنا ذلك الرجل؟! قال: لا . فرد عليه الجارية). انتهى .

وفي سير أعلام النبلاء:1/329 ، وتاريخ دمشق:65/250: (فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد) . انتهى . وقد روت هذا الحديث أكثر مصادرهم ، وغطى أكثرها على آل أبي سفيان ، فلم يذكروا أن مناسبة الحديث غصب ابن أبي سفيان للجارية ، وقد رأيت في آخر الفصل السابق تصحيح الألباني للحديث ، دون أن يذكر مناسبته ! كما أنهم لم يذكروا شيئاً عن سلوك أخيه معاوية ، لكنه كان في جوه ! وممن غطى على بني أمية وحاول تكذيب الرواية بخاري ، فقال في تاريخه:1/45: (كان أبو ذر بالشام وعليها يزيد بن أبي سفيان فغزا الناس فغنموا...وهنا بتر بخاري القصة ، وقال: (والمعروف أن أبا ذر كان بالشام زمن عثمان وعليها معاوية ومات يزيد في زمن عمر ، ولا يعرف لأبي ذر قدوم الشام زمن عمر). انتهى. وإن أحسنا الظن ، فالبخاري غير مطلع ، وإلا فهو متعصب لبني أمية !

وقد روى ابن كثير في النهاية:8/254، قصة هذه الجارية ، ثم قال: (وكذا رواه البخاري في التاريخ وأبو يعلى عن محمد بن المثنى ، عن عبد الوهاب ، ثم قال البخاري: والحديث معلول ولانعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب).

أقول: لكن بخاري لم يروها كاملة ، ولا قال كما نقل عنه ابن كثير !

يدل الحديث المتقدم على أن أبا ذر رضوان الله عليه شارك في فتح الشام ، وكان له نفوذ على قادة جيش الفتح ! وهو ما تحرص مصادر دولة الخلافة على إخفائه ، حتى لاتُنسب الفتوحات الى شيعة علي(ع) ، وحتى لايظهر انحراف خلفائها وأمرائها ، وإدانة الصحابة الأجلاء لهم !

إني أدعو الباحثين خاصة في تاريخ الفتوحات الإسلامية ، لأن يفتحوا الباب على هذه الحقيقة الضخمة التي غطت عليها حكومات الخلافة القرشية ، والتي يشكو علي(ع) من ظلامتها !

المقالات
ما رُوِيَ في سهو النبي صلى الله عليه وآله ونومه عن الصلاة

خلط بعضهم بين روايات سهو النبي صلى الله عليه وآله ونومه عن الصلاة ، وبين السهو والإسهاء ، والنوم والإنامة ، وبين مقام الثبوت فيها والإثبات . وهذه مسائلها:

المسألة الأولى: ما روته مصادر المذاهب من نوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح نوماً عادياً ، حتى طلعت الشمس وأيقظه عمر .

المسألة الثانية: ما ورد في مصادرنا من أن الله تعالى أنام نبيه صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح رحمةً للأمة حتى لايقال من تركها هلك .

المسألة الثالثة: ما روته مصادر المذاهب من سهو النبي صلى الله عليه وآله في صلاته وأنواع اشتباهه فيها !

المسألة الرابعة: ما ورد في مصادرنا من أن الله تعالى أسهى نبيه في صلاة واحدة رحمة بالأمة ليعرفوا أنه عبد مخلوق فلا يعبدون .

المسألة الخامسة: هل نقبل أخبار الإسهاء ، أم يجب ردها لأنها تنافي عصمة النبي صلى الله عليه وآله ومقامه ؟

المسألة الأولى
أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وآله نام عن الصلاة وأيقظه عمر !

قال بخاري في صحيحه:1/88 و:2/168: (عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي (ص) وإنا أسْرَيْنا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعةً ولا وقعةَ أحلى عند المسافر منها ، فما أيقظنا إلا حَرُّ الشمس ، وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان يسميهم أبو رجاء فنسي عوف ، ثم عمر بن الخطاب الرابع ، وكان النبي (ص)إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه . فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس وكان رجلاً جليداً ، فكبر ورفع صوته بالتكبير ، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي(ص)فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم ، قال: لا ضير أو لا يضير ، إرتحلوا ، فارتحل فسار غير بعيد ، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس). وهي رواية طويلة فيها قصص أخرى فرعية . (ورواها مسلم:2/140، وأحمد:1/391 ، و:4/81 ، و434 ، و:5 /298، والبيهقي في سننه:1/218 ، وغيرهم ).

وفي هذه الرواية إشكالات ، وبعضها ذكره علماء السنة أنفسهم:

الأول :

أنها تتحدث عن غلبة النوم العادي على النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ، وهذا عندنا يتنافى مع العصمة ! ولم أجد من اعترض عليها منهم بذلك ، وذلك لأن عصمة النبي صلى الله عليه وآله عندهم محدودة ضعيفة ، ولعل السبب الأهم في عدم اعتراضهم عليها أن فيها فضيلة لعمر ، ومن عادتهم عدم الإشكال على أي روابة فيها فضيلة لعمر !

الإشكال الثاني :

كيف ينام النبي صلى الله عليه وآله عن الصلاة وقد صح عندهم وعندنا أن من خصائصه صلى الله عليه وآله أنه تنام عينه ولا ينام قلبه ! فهذا يُكذِّب ما تقوله الرواية من أنه صلى الله عليه وآله نام وغلب النوم على قلبه حتى طلعت الشمس !

فقد روى بخاري في صحيحه:4/168و:8/203، في حديث طويل في المعراج: (والنبي(ص)نائمةٌ عيناه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم).(ونحوه في:1/43 ، و208و:2/47 ، ومسلم:2/180، وأحمد:6/73 ، والحاكم:2/431).

وفي تهذيب الأسماء للنووي:1/64: (وكان لا ينام قلبه ، ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه ). كما رووا أن من خصائصه صلى الله عليه وآله أنه لايبطل وضوؤه بالنوم لأنه تنام عينه ولاينام قلبه . (صحيح بخاري:1/44) . بل رووا أن الدجال تنام عينه ولاينام قلبه ! (أحمد:5/49 ، والترمذي:3/353).

أما مصادرنا :

فروت أوسع من ذلك في صفاته صلى الله عليه وآله ففي الكافي:8/140: (تنام عيناه ولاينام قلبه ، له الشفاعة ، وعلى أمته تقوم الساعة).

وفي الإختصاص/113، فيما أنزله الله على عيسى عليه السلام في وصفه صلى الله عليه وآله :(قليل الأولاد كثير الأزواج ، يسكن مكة من موضع أساس وطْيِ إبراهيم ، نسله من مباركة ، وهي ضُرَّة أمك في الجنة ، له شأن من الشأن ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة ) .انتهى.

بل أثبتت مصادرنا هذه الصفة لكل معصوم من عترة النبي صلى الله عليه وآله :

ففي الخصال/428 عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (عشر خصال من صفات الإمام: العصمة ، والنصوص ، وأن يكون أعلم الناس وأتقاهم لله وأعلمهم بكتاب الله ، وأن يكون صاحب الوصية الظاهرة ، ويكون له المعجز والدليل ، وتنام عينه ولا ينام قلبه ، ولا يكون له فيئ ، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه).(ونحوه في الكافي:1/388 ، عن الإمام الباقر عليه السلام ، وأوسع منه في من لا يحضره الفقيه:4/418 ، عن الإمام الرضا عليه السلام ).

لذلك نعتقد أن السهو العادي والنوم العادي يتنافيان مع عصمته وصفاته صلى الله عليه وآله ، ورواياتهم في سهوه ونومه عن الصلاة كلها في النوم العادي والسهو العادي ، فلا يمكن قبولها ، بل هي إما مكذوبة أو محرفة !

وإن صح أنه صلى الله عليه وآله سها في صلاته أو نام عنها مرة ، فلا بد أن يكون الله تعالى قد أسهاه فيها أو أنامه عنها ، أو أنام المسلمين وسكت هو عنهم ثم خفف عليهم وعلمهم قضاءها ، كما سيأتي .

على أن فقهاء المذاهب حاولوا الجمع بين حديث نومه صلى الله عليه وآله عن الصلاة وحديث لاينام قلبه ، فتخبطوا فيه ولم يصلوا الى نتيجة في حل الإشكال !

ومن العجيب أن جهودهم اتجهت الى تخريب حديث (تنام عينه ولاينام قلبه) ولم يمسوا حديث نومه عن صلاة الصبح ، لأن فيه فضيلة لعمر !

قال النووي في المجموع:2/20: (من خصائص نبينا(ص)أنه لا ينقض وضوءه بالنوم مضطجعاً ، للأحاديث الصحيحة... وقال(ص): إن عينيَّ تنامان ولاينام قلبي. فإن قيل: هذا مخالف للحديث الصحيح أن النبي نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ولو كان غير نائم القلب لما ترك صلاة الصبح؟!

فجوابه من وجهين :

أحدهما : وهو المشهور في كتب المحدثين والفقهاء أنه لا مخالفة بينهما فان القلب يقظان يحس بالحدث وغيره مما يتعلق بالبدن ويشعر به القلب ، وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك ولا هو مما يدرك بالقلب ، وإنما يدرك بالعين وهي نائمة .

والجواب الثاني : حكاه الشيخ أبو حامد في تعليقه في هذا الباب عن بعض أصحابنا قال: كان للنبي نومان: أحدهما ينام قلبه وعينه ، والثاني عينه دون قلبه فكان نوم الوادي من النوع الأول ! والله أعلم) . انتهى.

وترجمة كلام هذا ( الإمام ) الشامي الذي هو أشهر شُراح مسلم: أن الغزالي حكى عن بعضهم أن: (لاينام قلبه) ليس دائماً فقد ينام قلبه حتى تطلع الشمس كما حدث ! ولم يرتضه النووي لأنه تخريبٌ صريح للنص ، لكنه ارتضى تخريبه غير الصريح ففسر معنى ( تنام عينه) بأن لايدرك وقت الصلاة ولاطلوع الشمس حتى ينبهه عمر ! فماذا صنع وماذا أبقى من: (لاينام قلبه)؟!

وقد تبنى ابن حجر رأي النووي فقال في فتح الباري:1/380: ( وقد تكلم العلماء في الجمع بين حديث النوم هذا وبين قوله(ص):إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي . قال النووي: والصحيح المعتمد هو الأول والثاني ضعيف وهو كما قال ). انتهى.

وتبعهما علماء المذاهب فقال المناوي في فيض القدير:3/354: (ولا ينافيه نومه بالوادي عن الصبح ، لأن رؤيتها وظيفة بصرية ) .

وقال في البحر الرائق:1/76: (وهذا هو المشهور في كتب المحدثين والفقهاء كذا في شرح المهذب). انتهى.

ولذلك انتقدهم قدماء علمائنا والمتأخرون ، قال السيد ابن طاووس رحمه الله في الطرائف/367 بعد أن أورد قصة نوم النبي صلى الله عليه وآله من الجمع بين الصحيحين للحميدي: (إذا نظرت أيها العاقل في وصفهم لعناية الله بنبيهم وأنه لايصح أن ينام وأن جبرئيل كانت شفقته على نبيهم دون عنايته بعمر... وأنه قد نام قلبه حتى لم يحس بخروج الوقت ، وكل ذلك يشهد عليهم بالمناقضة في رواياتهم وسوء مقالاتهم وتكذيب أنفسهم) ! (والرسائل الفقهية للشيخ الأنصاري رحمه الله /319 ) .

وأجاب السيد شرف الدين رحمه الله في كتابه: أبو هريرة/108على زعم النووي فقال: (فلا يمكن والحال هذه أن تفوته صلاة الصبح بنومه عنها ، إذ لو نامت عيناه فقلبه في مأمن من الغفلة...وقد صلى مرة صلاة الليل فنام قبل أن يوتر فقالت له إحدى زوجاته يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ فقال لها تنام عيني ولاينام قلبي(صحيح بخاري:2/47) أراد صلى الله عليه وآله أنه في مأمن من فوات الوتر بسبب وُلوعه فيها ، ويقظة قلبه تجاهها فهو هاجع في عينه يقظان في قلبه منتبه إلى وتره ، وإذا كانت هذه حاله في نومه قبل صلاة الوتر فما ظنك به إذا نام قبل صلاة الصبح). انتهى.

أقول : يبدو أنهم يعرفون أن أولُ ما يستوجبه نفيَ النوم عن قلب النبي صلى الله عليه وآله أن يستيقظ لصلاة الفريضة ، فلا مجال للجمع بين الحديثين إلا بطرح أحدهما ، ولذلك تنازلوا في عملهم وفتواهم عن حديث لاينام قلبه وتبنوا حديث نومه العادي حتى غلب على قلبه ولم يستيقظ حتى طلعت الشمس فأيقظه عمر !!

هذا ، وقد حاول صاحب عون المعبود:4/150 ، أن يجمع بينهما على مذهبنا فقال: (وفيه كلام ! لأنه صحَّ أنه عليه الصلاة والسلام كان تنام عينه ولا ينام قلبه ، نعم يجوز أن يكون فعله لإرشاد أمته وتعليمهم).انتهى.

ومثله ابن المنذر كما في فتح الباري:1/380 ، قال: ( إن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة لمصلحة التشريع ، ففي النوم أولى ). انتهى.

لكن كلامهما لايصح حتى على مذهبنا ، لأن حديث بخاري وغيره في نوم النبي صلى الله عليه وآله يتحدث عن نومه العادي كبقية الناس حتى أيقظه عمر ! والذي يصح على مذهبنا أن الله تعالى أنام نبيه صلى الله عليه وآله عن الصلاة ، أو أسهاه كما ستعرف .

الإشكال الثالث :

أن رواة السلطة لم يستطيعوا تسمية الغزوة التي وقعت فيها الحادثة المزعومة ! هل هي خيبر أو الحديبية أو مؤتة أو غيرها ؟! ولا الأشخاص الذين كانوا فيها واستيقظوا قبل عمر أو معه ؟! مع أن غزوات النبي صلى الله عليه وآله كانت بحضور المئات والألوف من أصحابه ، وأخبارها مدونة ، وحدثٌ من هذا النوع لابد أن ينقله كثيرون ويكون إسم الغزوة محفوظاً ! فعدم قدرتهم على تسمية الغزوة والأشخاص ، يوجب الشك في صحة أصل الحديث !

قال ابن حجر في فتح الباري:1/379: ( اختُلف في تعيين هذا السفر ، ففي مسلم من حديث أبي هريرة أنه وقع عند رجوعهم من خيبر قريب من هذه القصة . وفي أبي داود من حديث ابن مسعود أقبل النبي(ص)من الحديبية ليلاً فنزل فقال من يكلؤنا فقال بلال أنا.. الحديث . وفي الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلاً: عرَّس رسول الله(ص)ليلة بطريق مكة ووكَّلَ بلالاً . وفي مصنف عبد الرزاق عن عطاء بن يسار مرسلاً أن ذلك كان بطريق تبوك ، وللبيهقي في الدلائل نحوه من حديث عقبة بن عامر . وروى مسلم من حديث أبي قتادة مطولاً ، والبخاري مختصراً في الصلاة قصة نومهم عن صلاة الصبح أيضاً في السفر لكن لم يعينه . ووقع في رواية لأبي داود أن ذلك كان في غزوة جيش الأمراء ، وتعقبه ابن عبد البر بأن غزوة جيش الأمراء هي غزوة مؤتة ولم يشهدها النبي(ص)وهو كما قال . لكن يحتمل أن يكون المراد بغزوة جيش الأمراء غزوة أخرى غير غزوة مؤتة . وقد اختلف العلماء هل كان ذلك مرة أو أكثر ، أعني نومهم عن صلاة الصبح فجزم الأصيلي بأن القصة واحدة ، وتعقبه القاضي عياض بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين ! وهو كما قال..)الخ.

أضف الى ذلك : اختلاف رواياتها في مَن استيقظ أولاً هل هو النبي صلى الله عليه وآله أو عمر أو أبو بكر؟ قال ابن حجر: (فقصة عمر فيها أن أول من استيقظ أبو بكر ، ولم يستيقظ النبي(ص)حتى أيقظه عمر بالتكبير ، وقصة أبي قتادة فيها أن أول من استيقظ النبي(ص) وفي القصتين غير ذلك من وجوه المغايرات)!

وقال الزرقاني في شرحه:1/53: (فليتأمل الجامع لماذا مع هذا التغاير في الذي كلأ (حَرَس) ، وأول من استيقظ ، وأن العمرين معه في قصة عمران دون قصة أبي قتادة ، وسبق اختلاف آخر في محل النوم... ولذا قال السيوطي لا يجمع إلا بتعدد القصة ) . انتهى.

فكل ذلك من موجبات الشك في توظيف هذا الحديث أو تحريفه؟! وما تصوره عياض والسيوطي من تعدد القصة لايحل الإشكال بل يزيده ، فلو كانتا حادثتين لتوفر رواتهما وما ندروا في واحد أو اثنين ! الخ.

الإشكال الرابع :

أنهم رووا وروينا حديثاً يكشف عن أن القصة كانت بشكل آخر وليس فيها ذكر لإيقاظ عمر للنبي صلى الله عليه وآله ، ففي صحيح مسلم:2/138: (عن أبي هريرة أن رسول الله(ص)حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا ادركه الكرى عرس وقال لبلال إكلأ لنا الليل فصلى بلال ما قدر له ونام رسول الله (ص)وأصحابه فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ رسول الله(ص)ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس ، فكان رسول الله(ص)أولهم استيقاظاً ففزع رسول الله(ص)فقال: أيْ بلال؟! فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله بنفسك . قال: اقتادوا فاقتادوا رواحلهم شيئاً ثم توضأ رسول الله (ص)وأمر بلالاً فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال أقم الصلاة لذكري ، قال يونس: وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى). (وسنن البيهقي:1/403 ، ومسند الشافعي/166، وكنز العمال:8/230، مختصراً عن مسند أبي جحيفة) .

وقال الألباني في إرواء الغليل:1/292: أخرجه مسلم(2/138)وأبو داود(435) وعنه أبو عوانة (2/253) وكذا البيهقي (2/217) ، وابن ماجة (697) والسراج في مسنده (216/2) من طرق عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه . ورواه مالك (1/13/25) عن ابن شهاب عن سعيد مرسلاً . والصواب الموصول لاتفاق جماعة من الثقات عليه وهم يونس ومعمر وشعبان وتابعهم صالح بن أبي الأخصر عند الترمذي .

ثم روى الألباني نحوه في/293، وقال: (أخرجه ابن أبي شيبة (1/190/1) بإسناد صحيح . وعن ابن مسعود قال: أقبلنا مع رسول الله (ص) من الحديبية فذكروا أنهم نزلوا دهاساً من الأرض يعني بالدهاس الرمل قال: فقال رسول الله (ص): من يكلؤنا ؟ فقال بلال: أنا ، فقال النبي عليه السلام : إذا تنام قال: فناموا حتى طلعت الشمس عليهم ، قال: فاستيقظ ناس فيهم فلان وفلان وفيهم عمر ، فقلنا: إهضبوا يعني تكلموا ، قال: فاستيقظ النبي(ص)فقال: إفعلوا كما كنتم تفعلون ، قال: كذلك لمن نام أو نسي . أخرجه ابن أبي شيبة (1/189/2) وأبو داود (447 ) والطيالسي(377) وأحمد (1/364 ، 386 ، 391) وإسناده صحيح .

ثم أورد الألباني حديثاً آخر مختصراً وصححه وقال: رواه أحمد ومسلم صحيح . رواه أحمد (2/428) ومسلم (2/138) وكذا أبو عوانة (2/251) والنسائي (1/102) وابن أبي شيبة في المصنف (1/89 1/2 ) والسراج في مسنده (117/1) والبيهقي (2/218)من طريق أبي حازم عن أبي هريرة: عرسنا مع رسول الله (ص) فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس ، فقال رسول الله(ص): ليأخذ كل رجل برأس راحلته ، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان قال ففعلنا ، قال فدعا بالماء فتوضأ ثم صلى ركعتين قبل صلاة الغداة ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة . والسياق لأحمد . وفي الباب عن أبي قتادة أن النبي(ص) كان في سفر فمال رسول الله (ص) وملت معه فقال انظر فقلت: هذا ركب هذان ركبان هؤلاء ثلاثة حتى صرنا سبعة فقال: احفظوا علينا صلاتنا يعني صلاة الفجر ، فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلا حر الشمس فقاموا فساروا هنيهة ثم نزلوا فتوضؤوا ، وأذن بلال فصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر وركبوا فقال بعضهم لبعض: قد فرطنا في صلاتنا ، فقال النبي(ص): إنه لا تفريط في النوم ، إنما التفريط في اليقظة فإذا سها أحدكم عن صلاته فليصلها حين يذكرها ، ومن الغد للوقت. أخرجه مسلم ( 2/138) وأبو عوانة (2/257) وأبو داود(444) والطحاوي (1/233) والدارقطني (148) والبيهقي (2/216) وأحمد (5/8 29) والسراج (117/1).انتهى .

أما من مصادرنا :

فرواها الشهيد الأول رحمه الله في الذكرى:2/403، وصححها قال: (روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا دخل صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى بدأ بالمكتوبة ، قال: فقدمت الكوفة فأخبرت الحكم بن عيينة وأصحابه فقبلوا ذلك مني ، فلما كان في القابل لقيت أبا جعفر عليه السلام فحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وآله عرَّس في بعض أسفاره فقال: من يكلؤنا فقال بلال: أنا فنام بلال وناموا حتى طلعت الشمس ، فقال: يا بلال ما أرقدك؟! فقال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفاسكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : قوموا فتحولوا على مكانكم الذي أصابكم فيه الغفلة فقال: يا بلال أذن فأذن فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله ركعتي الفجر وأمر أصحابه فصلوا ركعتي الفجر ، ثم قام فصلى بهم الصبح ثم قال: من نسي شيئاً من الصلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله عز وجل يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي . قال زرارة: فحملت الحديث إلى الحكم وأصحابه فقال: نقضت حديثك الأول ، فقدمت على أبي جعفر عليه السلام فأخبرته بما قال القوم فقال: يا زرارة ألا أخبرتهم أنه قد فات الوقتان جميعاً وأن ذلك كان قضاءً من رسول الله صلى الله عليه وآله ). (ورواه البقية عن الشهيد في الذكرى ، كجامع أحاديث الشيعة:4/269، ووسائل الشيعة(آل البيت):4/285 ، وبحار الأنوار:17/108 ، و:84/25).

أقول:

1- هذا يدلك على أن بخاري أعرض عن الحديث الصحيح عندهم وعندنا واختار بدله رواية فيها إبهام وإشكال وتناقض، لإثبات فضيلة لعمر كما هو دأبه !

2- كما أن روايتنا عن الإمام الباقر عليه السلام تدل على أن الحادثة وقعت في رجوعهم من خيبر وزواج النبي صلى الله عليه وآله من صفية بنت حي بن أخطب اليهودي وليس فيها نص على أن النبي صلى الله عليه وآله نام عن الصلاة مثلهم ، فقد يكون صلى الفجر وتركهم يأخذهم النوم لأن الله أمره بذلك ليعلمهم كيف يقضون الصلاة ، واليه يشير قوله صلى الله عليه وآله :قوموا فتحولوا على مكانكم الذي أصابكم فيه الغفلة ، ولم يقل أصابنا ، وقد تنبه الى ذلك الشيخ الأنصار رحمه الله ،كما يأتي .

المسألة الثانية
هل ثبت أن الله تعالى أنام نبيه صلى الله عليه وآله عن الصلاة

1- تقدمت صحيحة زرارة التي رواها الشهيد في الذكرى .

2- روى الكليني رحمه الله في الكافي:3/294: (عن سعيد الأعرج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: نام رسول الله صلى الله عليه وآله عن الصبح والله عز وجل أنامه حتى طلعت الشمس عليه وكان ذلك رحمة من ربك للناس ! ألا ترى لو أن رجلاً نام حتى تطلع الشمس لعيَّره الناس وقالوا: لا تتورع لصلواتك ، فصارت أسوة وسنة فإن قال رجل لرجل: نمت عن الصلاة قال: قد نام رسول الله صلى الله عليه وآله فصارت أسوة ورحمة رحم الله سبحانه بها هذه الأمة).

3- روى الصدوق رحمه الله في الفقيه:1/358: (الحسن بن محبوب ، عن الرباطي ، عن سعيد الأعرج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الله تبارك وتعالى أنام رسوله صلى الله عليه وآله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم قام فبدأ فصلى الركعتين اللتين قبل الفجر ثم صلى الفجر . وأسهاه في صلاته فسلم في ركعتين ، ثم وصف ما قاله ذو الشمالين. وإنما فعل ذلك به رحمةً لهذه الأمة لئلا يُعَيَّرَ الرجل المسلم إذا هو نام عن صلاته أو سها فيها فيقال: قد أصاب ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله .

قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله : إن الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وآله ويقولون: لو جاز أن يسهو عليه السلام في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ لأن الصلاة عليه فريضة ، كما أن التبليغ عليه فريضة . وهذا لا يلزمنا وذلك لأن جميع الأحوال المشتركة يقع على النبي صلى الله عليه وآله فيها ما يقع على غيره ، وهو متعبد بالصلاة كغيره ممن ليس بنبي ، وليس كل من سواه بنبي كهو ، فالحالة التي اختص بها هي النبوة والتبليغ من شرائطها ، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة ، لأنها عبادة مخصوصة والصلاة عبادة مشتركة ، وبها تثبت له العبودية وبإثبات النوم له عن خدمة ربه عز وجل من غير إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبية عنه ، لأن الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحي القيوم . وليس سهو النبي صلى الله عليه وآله كسهونا لأن سهوه من الله عز وجل ، وإنما أسهاه ليعلم أنه بشر مخلوق فلا يتخذ رباً معبوداً دونه ، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا ، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبي صلى الله عليه وآله والأئمة صلوات الله عليهم سلطان ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ، وعلى من تبعه من الغاوين . ويقول الدافعون لسهو النبي صلى الله عليه وآله : إنه لم يكن في الصحابة من يقال له ذو اليدين ، وإنه لا أصل للرجل ولا للخبر ، وكذبوا لأن الرجل معروف وهو أبو محمد بن عمير بن عبد عمرو المعروف بذي اليدين ، وقد نقل عن المخالف والمؤالف ، وقد أخرجت عنه أخبار في كتاب وصف القتال القاسطين بصفين . وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن ترد جميع الأخبار ، وفي ردها إبطال الدين والشريعة . وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلى الله عليه وآله والرد على منكريه إن شاء الله تعالى) . انتهى .

4- قال القاضي النعمان في دعائم الإسلام:1/141: (وروينا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي صلوات الله عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله نزل في بعض أسفاره بواد فبات فيه فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله فنام ونام الناس معه جميعاً فما أيقظهم إلا حر الشمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما هذا يا بلال؟ فقال: أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفسكم يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وآله : تنحوا من هذا الوادي الذي أصابتكم فيه هذه الغفلة ، فإنكم بتُّم بوادي الشيطان ، ثم توضأ وتوضأ الناس وأمر بلالاً فأذن وصلى ركعتي الفجر ، ثم أقام فصلى الفجر ).

رأي علمائنا في روايات نوم النبي صلى الله عليه وآله عن الصلاة

أجمع علماؤنا على رد روايات سهو النبي صلى الله عليه وآله سهواً عادياً، لأنها تنافي العصمة، كما خطَّأ أكثرهم الصدوق رحمه الله في تجويزه الإسهاء على النبي صلى الله عليه وآله كما سيأتي .

أما روايات إنامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله عن الصلاة ، فقبلها بعضهم لصحة سندها ودلالتها ، وردها بعضهم لأنها برأيه تنافي العصمة أيضاً ، بينما توقف فيها آخرون .

المجوزون لإنامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله لحكمة :

1- الشيخ المفيد رحمه الله ، وهو أول المتشددين في رد الصدوق رحمه الله وقد ألف رسالة في نفي سهو النبي صلى الله عليه وآله رد على الصدوق فيها وهاجمه بلا هوادة ، ولكنه قَبِلَ فيها أن الله تعالى قد ينيم أنبياءه عليهم السلام عن الصلاة لمصلحة ، فقال:

( فصل: والخبر المروي أيضاً في نوم النبي عليه السلام عن صلاة الصبح من جنس الخبر عن سهوه في الصلاة ، وإنه من أخبار الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ومن عمل عليه فعلى الظن يعتمد في ذلك دون اليقين ، وقد سلف قولنا في نظير ذلك بما يغني عن إعادته في هذا الباب . مع أنه يتضمن خلاف ما عليه عصابة الحق لأنهم لا يختلفون في أنه من فاتته صلاة فريضة فعليه أن يقضيها أي وقت ذكرها من ليل أو نهار ما لم يكن الوقت مضيقاً لصلاة فريضة حاضرة . وإذا حرم على الإنسان أن يؤدي فريضة قد دخل وقتها ليقضي فرضاً قد فاته ، كان حظر النوافل عليه قبل قضاء ما فاته من الفرض أولى . هذا مع الرواية عن النبي عليه السلام أنه قال: لا صلاة لمن عليه صلاة ، يريد أنه لا نافلة لمن عليه فريضة .

فصل: ولسنا ننكر بأن يغلب النوم الأنبياء عليهم السلام في أوقات الصلوات حتى تخرج فيقضوها بعد ذلك ، وليس عليهم في ذلك عيب ولا ذلك عيب ولا نقص ، لأنه ليس ينفك بشر من غلبة النوم ، ولأن النائم لا عيب عليه وليس كذلك السهو ، لأنه نقص عن الكمال في الإنسان ، وهو عيب يختص به من اعتراه . وقد يكون من فعل الساهي تارة ، كما يكون من فعل غيره ، والنوم لا يكون إلا من فعل الله تعالى ، وليس من مقدور العباد على حال ، ولو كان من مقدورهم لم يتعلق به نقص وعيب لصاحبه ، لعمومه جميع البشر ، وليس كذلك السهو لأنه يمكن التحرز منه . ولأنا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم وأسرارهم ذوي السهو والنسيان ولا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبه النوم أحياناً ، كما لا يمتنعون من إيداعه من يعتريه الأمراض والأسقام . ووجدنا الفقهاء يطرحون ما يرويه ذووا والسهو من الحديث ، إلا أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي التيقظ والفطنة والذكاء والحصافة . فعلم فرق ما بين السهو والنوم بما ذكرناه ). انتهى.

أقول: إشكال المفيد رحمه الله ليس على إمكان أن ينيم الله رسوله صلى الله عليه وآله عن الصلاة ، بل على روايتهم التي رووها في ذلك وأنها من أخبار الآحاد ، وإلا لقبلها . وإشكاله عليها لأنها تضمنت السهو الذي لايصح نسبته الى النبي صلى الله عليه وآله ، فلو لم تتضمن ذلك لقبلها . ومعناه أن يقبل الكبرى ويناقش في الصغرى ، ويقر المبدأ في عالم الثبوت ويناقش في الإثبات .

2- الشهيد الأول رحمه الله قال في الذكرى:2/403: (وقد ذكر فيما تقدم التصريح بأن قاضي الفريضة يصلي أمامها نافلة ركعتين وأن النبي صلى الله عليه وآله فعل ذلك ، قال الكليني والصدوق: الله أنام النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح رحمة للأمة). (الكافي:3/294 ، الفقيه:1/234).

3- المحقق النراقي رحمه الله قال في مستند الشيعة:7/280: (والقدح في هذه الأخبار ، بإيجابها القدح في النبي باعتبار رقوده عن فرض ، سيما مع أنه لا ينام قلبه ، وسيما مع تضمن بعضها لقوله عليه السلام :إنما نمتم بوادي الشيطان ، الدال على أن منشأ نومهم تسلط الشيطان مع أن سلطانه على الذين يتولونه لا على المؤمنين الذين معه . مخدوشٌ جداً لمنع كون رقوده قدحاً فيه بل رحمةً للأمة كما ورد في بعض هذه الأخبار . وإنامته سبحانه له لمصلحة لا توجب قدحاً فيه أصلاً ولاتنافي تيقظ قلبه . وكونه وادي الشيطان لا يدل على تسلطه على الجميع ، غايته إنامته لبعض منهم وهذا ليس بمنفي إذ لم يكن الجميع من أهل العصمة ، بل لعل أهل النفاق كانوا فيهم أيضاً .

4- الفقيه الهمداني فقد قَبِلَ المبدأ كالمفيد ودافع عنه،قال في مصباح الفقيه:2/64: (ثم إن صاحب الحدائق قد ناقش أيضاً في الإستدلال بالصحيحة المتقدمة ونظائرها من الأخبار المتضمنة لنوم النبي صلى الله عليه وآله بأن مقتضى ما انعقد عليه إجماع الأصحاب من عدم تجويزهم السهو على النبي صلى الله عليه وآله رد هذه الأخبار أو حملها على التقية ، وقد تعجب من الأصحاب كل العجب كيف تلقوا هذه الأخبار بالقبول مع إجماعهم على عدم جواز السهو والخطأ على الأنبياء عليهم السلام ، ونقل عن شيخنا المفيد رحمه الله في بعض كلماته التصريح بان الأخبار الواردة في نوم النبي صلى الله عليه وآله أو سهوه في الصلاة من أخبار الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ، وطعن بذلك على الشهيد في مقالته بأني لم أقف على راد لهذا الخبر . وأنت خبير بأن غلبة النوم غير مندرجة في موضوع السهو والخطأ حتى تندرج في معقد إجماعهم فيشكل دعوى امتناعها على الأنبياء عليهم السلام إذ لا شاهد عليها من نقل أو عقل عدا ما قد يقال من أن نومهم عن الفريضة نقص يجب تنزيههم عنه ، وهو غير مسلم خصوصاً إذا كان من قبل الله تعالى رحمةً على العباد لئلا يعير بعضهم بعضا كما في بعض الأخبار التصريح بذلك .

وربما يستشهد له بما روى من أنه صلى الله عليه وآله كان تنام عيناه ولا ينام قلبه وانه صلى الله عليه وآله كان له خمسة أرواح منها روح القدس وأنه لا يصيبه الحدثان ولا يلهو ولا ينام فإن مقتضى هذه الروايات عدم صدور فوت الصلاة منه عند منامه أيضاً لولا السهو المجمع على بطلانه .

وفيه نظر: إذ الظاهر أن الاعمال الظاهرية الصادرة من النبي والأئمة عليهم السلام لم تكن مربوطة بمثل هذه الإدراكات الخارجة عن المتعارف

فالإنصاف أن طرح تلك الأخبار مع ظهور كلمات الأصحاب في قبولهم لها بمثل هذه الأخبار ونظائرها مما دل على أن عندهم علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة أو نحو ذلك ، مشكل .

نعم ، قد يقال بأنه لا يجوز التعويل على أخبار الآحاد في مثل هذه المسألة التي هي من العقائد ، لكن لايمنع ذلك عن الأخذ بما تضمنتها من الأحكام الفرعية عند اجتماع شرائط الحجية كما في المقام ).

ثم عاد وتوقف فيها ، قال في مصباح الفقيه:2ق2/ 606: (ولكن ربما نوقش في هذه الصحيحة بمنافاة ما تضمنته من نوم النبي صلى الله عليه وآله عن الصلاة الواجبة لمرتبة النبوة ، فلا بد من حملها على التقية. وأجيب بأن النوم ليس كالسهو نقصاً كي يجب تنزه الأنبياء عليهم السلام عنه ، خصوصاً مع ما في بعض الأخبار الواردة في نوم النبي صلى الله عليه وآله من الإشارة إلى كونه من قبل الله تعالى رحمة بالعباد . وفيه تأمل .

ومنها الأخبار ، وهي طوائف منها المستفيضة الواردة في نوم النبي صلى الله عليه وآله كصحيحة زرارة المتقدمة وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله رقد فغلبته عيناه فلم يستيقظ حتى أذاه حر الشمس ثم استيقظ فعاد ناديه ساعته وركع ركعتين ثم صلى الصبح .

وخبر سعيد الأعرج قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إن الله أنام رسوله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم قام فبدء فصلى الركعتين قبل الفجر ثم صلى الفجر ومضمرة سماعة قال سألته عن رجل نسي أن يصلي الصبح حتى طلعت الشمس قال يصليها حين يذكرها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله رقد عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم صلاها حين استيقظ ولكنه تنحى عن مكانه ذلك ثم صلى ، ولكنك عرفت فيما سبق أن الاعتماد على هذه الأخبار لا يخلو من اشكال فالأولى رد علمها إلى أهله).

الرادون لأحاديث إنامة الله تعالى لنبي صلى الله عليه وآله والمتوقفون فيها

المحقق البحراني رحمه الله قال في الحدائق الناضرة:6/270: (استدل القائلون بالجواز(تأخير قضاء الصلاة)بما رواه الشيخ عن أبي بصير في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل نام عن الغداة حتى طلعت الشمس؟ قال يصلي ركعتين ثم يصلي الغداة . وما روى بطرق عديدة منها الصحيح وغيره من نومه صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح حتى آذاه حر الشمس ثم استيقظ وركع ركعتي الفجر ثم صلى الصبح بعدهما . ومن تلك الأخبار ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله رقد فغلبته عيناه فلم يستيقظ حتى آذاه حر الشمس ثم استيقظ فعاد ناديه ساعة فركع ركعتين ثم صلى الصبح . الحديث.... ومن روايات هذه المسألة ما رواه شيخنا الشهيد في الذكرى في الصحيح عن زرارة بنحو أبسط من الخبر المتقدم عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة . قال فقدمت الكوفة فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحاب فقلبوا ذلك مني ، فلما كان في القابل لقيت أبا جعفر عليه السلام فحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وآله عرس في بعض أسفاره وقال من يكلؤنا ؟ فقال بلال أنا . فنام بلال وناموا حتى طلعت الشمس ، فقال يا بلال ما أرقدك فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ بنفسي ما أخذ بأنفاسكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله قوموا فتحولوا عن مكانكم الذي أخذتكم فيه الغفلة ، وقال يا بلال أذن فأذن فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله ركعتي الفجر وأمر أصحابه فصلوا ركعتي الفجر ثم قام فصلى بهم الصبح ، ثم قال من نسي شيئاً من الصلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله عز وجل يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي . قال زرارة: فحملت الحديث إلى الحكم وأصحابه فقالوا: نقضت حديثك الأول فقدمت على أبي جعفر عليه السلام فأخبرته بما قال القوم فقال: يا زرارة ألا أخبرتهم أنه قد فات الوقتان جميعاً ، وأن ذلك كان قضاء من رسول الله صلى الله عليه وآله .

وهذه الرواية لم نقف عليها إلا في كتاب الذكرى وكفى به ناقلاً . قال شيخنا الشهيد قدس سره في الذكرى بعد ذكر الخبر المذكور: إن فيه فوائد.... ومنها ، ما تقدم من أن الله أنام نبيه صلى الله عليه وآله لتعليم أمته ولئلا يعير بعض الأمة بذلك . ولم أقف على راد لهذا الخبر من حيث توهم القدح في العصمة به). انتهى .

ثم قال صاحب الحدائق رحمه الله : (ثم العجب كل العجب من أصحابنا رضوان الله عليهم مع إجماعهم واتفاقهم على عدم جواز السهو على النبي صلى الله عليه وآله حتى أنهم لم ينقلوا الخلاف في ذلك إلا عن ابن بابويه وشيخه ابن الوليد ، وقد طعنوا عليهما في ذلك وشنعوا عليهما أتم التشنيع حتى صنفوا في ذلك الرسائل وأكثروا من الدلائل ، ومنها رسالة الشيخ المفيد وربما نسبت إلى السيد المرتضى وهي عندي وفيها ما يقضي منه العجب من القدح في ابن بابويه ، فكيف تلقوا هذه الأخبار بالقبول واعتمدوا على ما فيها من المنقول في مثل هذا الحكم المخالف لاعتقاداتهم؟ فمن كلامه في تلك الرسالة المشار إليها ما صورته: والخبر المروي أيضاً في نوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح من جملة الخبر عن سهوه في الصلاة فإنه من أخبار الآحاد التي لاتوجب علماً ولا عملاً ، ومن عمل عليه فعلى الظن معتمد في ذلك بدون اليقين ، وقد سلف قولنا في نظير ذلك ما يغني عن إعادته في هذا الباب ، مع أنه يتضمن خلاف ما عليه عصابة الحق لأنهم لا يختلفون في أن من فاتته صلاة فريضة فعليه أن يقضيها في أي وقت ذكرها من ليل أو نهار ما لم يكن الوقت مضيقاً لصلاة فريضة حاضرة ، فإذا حرم أن يؤدي فيه فريضة قد دخل وقتها ليقضي فرضاً قد فاته كان حظر النوافل عليه قبل قضاء ما فاته من الفرض أولى ، هذا مع أن الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا صلاة لمن عليه صلاة يريد لا نافلة لمن عليه صلاة فريضة . انتهى. وهو جيد وجيه ، كما لا يخفى على الفطن النبيه .

وقال شيخنا البهائي قدس سره في كتاب الحبل المتين بعد نقله صحيحتي ابن سنان وزرارة المذكورتين ما صورته: وربما يظن تطرق الضعف إليهما لتضمنهما ما يوهم القدح في العصمة ، لكن قال شيخنا في الذكرى إنه لم يطلع على راد لهما من هذه الجهة . وهو يعطي تجويز الأصحاب صدور ذلك وأمثاله من المعصوم . وللنظر فيه مجال واسع . انتهى. أقول: قد عرفت صراحة كلام شيخنا المفيد عليه السلام في رد الأخبار المذكورة فكيف يدعى أنه لا راد لهما؟ وعدم اطلاعه عليه لا يدل على العدم . وبالجملة فمقتضى عدم تجويز السهو عليه صلى الله عليه وآله كما هو ظاهر اتفاقهم رد هذه الأخبار ونحوها أو حملها على التقية ، كما يشير إليه ما نقله من رواية العامة الخبر المذكور عن أبي قتادة وجماعة من الصحابة ، إذ لا يخفى ما بين الحكمين من التدافع والتناقض ، لكنهم من حيث قولهم بهذا الحكم واختيارهم له يغمضون النظر عما في أدلته من تطرق القدح ويتسترون بالأعذار الواهية كما لايخفى على من مارس كلامهم في الأحكام ، كما نبهنا عليه في غير مقام) . انتهى.

أما صاحب الجواهر فقد مال الى قبولها ، فقال في:7/251: (كما أنه لا يخفى عليك أولوية جواز التطوع لمن عليه فائتة بناء على المواسعة من الحاضرة ، بل لعل الجواز ظاهر المتن والقواعد ، بل صرح به الصدوق في ركعتي الصبح الفائتة مع الفريضة ، بل حكاه في الذخيرة عن ابن الجنيد والشهيدين ، بل لعله ظاهر الكليني أيضاً وغيره ممن روى أخبار نوم النبي صلى الله عليه وآله ، خصوصاً مع قوله كالصدوق فيما حكي عنهما إن الله أنام النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح رحمة للأمة... والأخبار المشتملة على رقود النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح ونافلتها وأنه قضاهما مقدما للنافلة على الفريضة سيما صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام منها المشتمل على قصته مع الحكم ابن عتيبة وأصحابه، وأنه لما ذكر له قضاء النبي صلى الله عليه وآله كذلك قال له: نقضت حديثك الأول مشيراً به إلى ما رواه زرارة لهم أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام : إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى تبدأ بالمكتوبة ، فحكى ذلك لأبي جعفر عليه السلام فقال له: ألا أخبرتهم أنه قد فاته الوقتان جميعاً ، وأن ذلك كان قضاء من رسول الله صلى الله عليه وآله ! والمناقشة في هذه الأخبار باحتمال كون الركعتين اللتين صلاهما النبي صلى الله عليه وآله فريضة فائتة لا نافلة ، وبمنافاتها لمرتبة النبوة يدفعها ظهور بعضها أو جميعها بل صراحة آخر في التطوع ، وعدم إحاطة العقل بحكم ذلك ومصالحه ، وقد ذكرنا بعض الكلام فيه في باب القضاء ، ولعله لذا لم أقف على راد لها من هذه الجهة ، كما اعترف به في الذكرى).

ثم مال رحمه الله الى ردها فقال في:13/71: (ومنها ما يستفاد من المروي من قصة نوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح من عدم تلك المبادرة والفورية للقضاء التي يدعيها الخصم ، خصوصاً على ما في الذكرى وغيرها من روايته في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة ، قال: فقدمت الكوفة فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحابه فقبلوا ذلك مني...ثم ذكر روايات نوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح وقال: (والمناقشة فيها بأن الواجب طرحها لمنافاتها العصمة كالأخبارالمتضمنة للسهو منه أو من أحد الأئمة عليهم السلام يدفعها ظهور الفرق عند الأصحاب بينه وبين السهو ، ولذا ردوا أخبار الثاني ولم يعمل بها أحد منهم عدا ما يحكى عن الصدوق وشيخه ابن الوليد والكليني وأبي علي الطبرسي في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا . (الأنعام:68) وإن كان ربما يظهر من الأخير أن الإمامية جوزوا السهو والنسيان على الأنبياء في غير ما يؤدونه عن الله تعالى مطلقاً ما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بالعقل ، كما جوزوا عليهم النوم والإغماء الذين هما من قبيل السهو ، بخلاف أخبار الأول كما عن الشهيد في الذكرى الإعتراف به حيث قال: لم أقف على راد لهذا الخبر من حيث توهم القدح في العصمة . بل عن صاحب رسالة نفي السهو وهو المفيد أو المرتضى التصريح بالفرق بين السهو والنوم ، فلا يجوز الأول ويجوز الثاني ، بل ربما يظهر منه أن ذلك كذلك بين الإمامية كما عن والد البهائي رحمه الله في بعض المسائل المنسوبة إليه أن الأصحاب تلقوا أخبار نوم النبي صلى الله عليه وآله عن الصلاة بالقبول ، إلى غير ذلك مما يشهد لقبولها عندهم ، كرواية الكليني والصدوق والشيخ وصاحب الدعائم وغيرهم لها ، حتى أنه عقد في الوافي بابا لما ورد أنه لا عار في الرقود عن الفريضة مورداً فيه جملة من الأخبار المشتملة على ذلك ، معللة له بأنه فعل الله بنبيه صلى الله عليه وآله ذلك رحمة للعباد ، ولئلا يعير بعضهم بعضاً .

لكن ومع ذلك كله فالإنصاف أنه لا يجترأ على نسبته إليهم عليه السلام لما دل من الآيات والأخبار كما نقل على طهارة النبي وعترته عليهم الصلاة والسلام من جميع الأرجاس والذنوب ، وتنزههم عن القبائح والعيوب ، وعصمتهم من العثار والخطل في القول والعمل ، وبلوغهم إلى أقصى مراتب الكمال ، وأفضليتهم عمن عداهم في جميع الأحوال والأعمال ، وأنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، وأن حالهم في المنام كحالهم في اليقظة ، وأن النوم لا يغير منهم شيئاً من جهة الإدراك والمعرفة ، وأنهم لا يحتلمون ولا يصيبهم لمة الشيطان ، ولا يتثاءبون ولا يتمطون في شئ من الأحيان ، وأنهم يرون من خلفهم كما يرون من بين أيديهم ، ولا يكون لهم ظل ، ولا يرى لهم بول ولا غائط ، وأن رائحة نجوهم كرائحة المسك ، وأمرت الأرض بستره وابتلاعه ، وأنهم علموا ما كان وما يكون من أول الدهر إلى انقراضه ، وأنهم جعلوا شهداء على الناس في أعمالهم ، وأن ملائكة الليل والنهار كانوا يشهدون مع النبي صلى الله عليه وآله صلاة الفجر ، وأن الملائكة كانوا يأتون الأئمة عليهم السلام عند وقت كل صلاة ، وأنهم ما من يوم ولا ساعة ولا وقت صلاة إلا وهم ينبهونهم لها ليصلوا معهم ، وأنهم كانوا مؤيدين بروح القدس يخبرهم ويسددهم ، ولا يصيبهم الحدثان ، ولا يلهو ولا ينام ولا يغفل ، وبه علموا ما دون العرش إلى ما تحت الثرى ورأوا ما في شرق الأرض وغربها ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، كما ورد أنهم لا يعرفهم إلا الله ولا يعرف الله حق المعرفة إلا هم ، وليسوا هم أقل من الديكة التي تصرخ في أوقات الصلوات وفي أواخر الليل لسماعها صوت تسبيح ديك السماء الذي هو من الملائكة وعرفه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وجناحاه يجاوزان المشرق والمغرب ، وآخر تسبيحه في الليل بعد طلوع الفجر (ربنا الرحمن لا إله غيره) ليقم الغافلون . تعالوا عن ذلك علوا كبيراً .

نعم لو أمكن دعوى ثبوت تكاليف خاصة لهم تقوم مقام هذه التكاليف اتجه دعوى جواز نومهم عنها ، وربما يومي إليه قول النبي صلى الله عليه وآله : أصابكم فيه الغفلة ، وقوله صلى الله عليه وآله : نمتم بوادي الشيطان ، والله أعلم بحقيقة الحال .

قال العلامة قدس سره في التذكرة: خبر ذي الشمالين عندنا باطل لأن النبي صلى الله عليه وآله لا يجوز عليه السهو مع أن جماعة أصحاب الحديث طعنوا فيه ، لأن راويه أبو هريرة وهو أسلم بعد الهجرة بسبع سنين ، وذو الشمالين قتل يوم بدر . وكيف كان ، اتفق علماؤنا قديماً وحديثاً سوى الصدوق وشيخه ابن الوليد والكليني على الظاهر على عدم جواز السهو والإسهاء على المعصومين عليهم السلام محتجين بأنه إذا جوز السهو عليهم لاسيما الأنبياء عليهم السلام فلا يأمن المكلف من سهوهم في كل حكم وتنتفي فائدة البعثة ، لكن الأخبار الواردة فيه سهوه صلى الله عليه وآله كثيرة من طرق العامة والخاصة .

قال في التكملة في ترجمة ابن أورمة: أصل الغلو في كلامهم غير معلوم المراد إذ يجوز أن يكون من قبيل قول ابن الوليد من الغلو نفي السهو والنسيان عن النبي صلى الله عليه وآله ، فإنه بهذا المعنى عين الصواب بل هو المشهور بين الأصحاب). انتهى.

أ

ما الشيخ الأنصاري رحمه الله فقد مال الى ردها فقال في رسائل فقهية/319:

(الطائفة الثالثة: ما دل على الأخبار على جواز النفل أداء وقضاء لمن عليه فائتة ، فمن جملة ذلك: ما استفاض من قصة نوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ، فقام فصلى هو وأصحابه أولا نافلة الفجر ثم صلى الصبح . ولا إشكال في سندها ودلالتها إلا من جهة تضمنها نوم النبي صلى الله عليه وآله . ثم نقل الشيخ الأنصاري كلام الشهيد الأول والمفيد والبهائي ثم رد رواية بخاري مستشهداً بكلام ابن طاووس في ذلك ، ثم قال في/322: (والإنصاف أن نوم النبي صلى الله عليه وآله أو أحد المعصومين صلوات الله عليهم عن الواجب سيما آكد الفرائض نقصٌ عليهم ، ينفيه ما دل من أخبارهم على كمالهم وكمال عناية الله تعالى بهم في تبعيدهم من الزلل ، بل الظاهر بعد التأمل أن هذا أنقص من سهو النبي صلى الله عليه وآله عن الركعتين في الصلاة .

وما تقدم من صاحب رسالة نفي السهو(للمفيد) ممنوع ، بل العقل والعقلاء يشهدون بكون السهو عن الركعتين في الصلاة أهون من النوم عن فريضة الصبح وأن هذا النائم أحق بالتعيير من ذلك الساهي ، بل ذاك لايستحق تعييراً .

وكون نفس السهو نقصاً دون نفس النوم لا ينافي كون هذا الفرد من النوم أنقص ، لكشفه عن تقصير صاحبه ولو في المقدمات .

وبالجملة ، فصدور هذا مخالف لما يحصل القطع به من تتبع متفرقات ما ورد في كمالاتهم وعدم صدور القبائح منهم فعلاً وتركاً ، في الصغر والكبر ، عمداً أو خطأً . ولعله لذا تنظَّر في الأخبار بعض المتأخرين على ما حكي عنهم منهم شيخنا البهائي بعد اعترافه بأن المستفاد من كلام الشهيد المتقدم عن الذكرى تجويز الأصحاب لذلك . وعرفت أيضاً ما عن المنتهى وغيره .

اللهم إلا أن يقال بإمكان سقوط أداء الصلاة عنه صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت لمصلحة علمها الله سبحانه ، فإن اشتراكه صلى الله عليه وآله مع غيره في هذا التكليف الخاص ليس الدليل عليه أوضح من الأخبار المذكورة حتى يوجب طرحها ، خصوصاً بملاحظة بعض القرائن الواردة في تلك الأخبار ، منها قوله عليه السلام في رواية سعيد الأعرج: إن الله تعالى أنام رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أن قال: وأسهاه في صلاته فسلم في الركعتين . إلى أن قال: وإنما فعل ذلك رحمة لهذه الأمة ، لئلا يعير الرجل المسلم إذا هو نام على صلاته أو سها...الخبر.. فتأمل . وقوله صلى الله عليه وآله لأصحابه مخاطباً لهم: نمتم بوادي الشيطان، ولم يقل نمنا فعلم أن النوم كان زللاً منهم لا منه صلى الله عليه وآله ).

وقد توقف فيها الشيخ الأصفهاني رحمه الله فقال في صلاة الجماعة/24:

(وأما استحباب الجماعة في القضاء فليس فيه نص معتبر إلا ما ورد في حكاية نوم النبي صلى الله عليه وآله وقضاء صلاة الصبح جماعة ومع ما فيه من الإشكال ، يشكل به الإستدلال في هذا المجال ).

كما توقف فيها السيد الخوئي قدس سره فقال في كتاب الصلاة:5 ق 1/197: (فالنصوص الواردة في نوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الفجر وقد تقدم ذكر بعضها تكون حجة عليهم ، بناء على الأخذ بها والإلتزام بمضمونها. فإنا تارة نبني على عدم العمل بالنصوص المذكورة وإن صحت أسانيدها لمنافاتها لمقام النبوة سيما مع ملاحظة ما ورد في الأخبار في شأنه صلى الله عليه وآله من أنه كانت تنام عينه ولا ينام قبله ، فكيف يمكن أن ينام عن فريضة الفجر؟ فلا محالة ينبغي حملها على التقية أو على محمل آخر . وأخرى ، نبني على العمل بها بدعوى: أن النوم من غلبة الله وليس هو كالسهو والنسيان المنافيين لقام العصمة والنبوة ، ولا سيما بعد ملاحظة التعليل الوارد في بعض هذه النصوص من أن ذلك إنما كان بفعل الله سبحانه رحمة على العباد ، كي لايشق على المؤمن لو نام اتفاقاً عن صلاة الفجر ، وعليه فتكون هذه النصوص منافية للتضييق الحقيقي لدلالتها على أنه صلى الله عليه وآله بعد انتباهه من النوم واعتراضه على بلال واعتذار هذا منه ، أمر بالارتحال من المكان المذكور ، ثم بعد ذلك أذن بلال فصلى النبي صلى الله عليه وآله ركعتي الفجر ثم قام فصلى بهم الصبح ، ومعلوم: أن هذه الأمور السابقة على صلاة الصبح تستغرق برهة من الوقت ، فلم يقع إذا قضاء الصبح أول آن التذكر ، بل تأخر عنه بمقدار ينافي الضيق الحقيقي) .

وقال في كتاب الصلاة:5 ق 2/10: (منها: الأخبار الصحيحة الواردة في رقود النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم قضائه صلى الله عليه وآله بهم جماعة بعد الانتقال إلى مكان آخر ، فإنها وإن أشكل التصديق بمضمونها من حيث الحكاية عن نوم النبي صلى الله عليه وآله ومن الجائز أن تكون من هذه الجهة محمولة على التقية كما مرت الإشارة إليه سابقاً ، لكنها من حيث الدلالة على مشروعية الجماعة في القضاء لامانع من الأخذ بها بعد قوة أسانيدها ، وعدم المعارض لها). وقال في/202: (رابعها: وهو العمدة الأخبار الواردة ولنذكر المهم منها معرضين عن الباقي الذي منه: ما ورد في نوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الفجر ، وأمره صلى الله عليه وآله بالارتحال بعد الانتباه عن ذلك المكان والقضاء في مكان آخر ، وقد مرت الإشارة إلى بعض ذلك ، وقلنا: إن هذه الروايات وإن تمت دلالة وسنداً مما يشكل الإعتماد عليها والتصديق بمضمونها ، فلا بد من رد علمها إلى أهلها أو حملها على بعض المحامل كالتقية ونحوها ). انتهى.

أقول: لاشك في بطلان ما رووه من سهو النبي صلى الله عليه وآله في صلاته ، وكذلك ما رروه من سهوه عنها ، أما إنامة الله لرسوله عنها فهو أمرٌ ممكن وجعله محالاً من الغلو كما ذكر الصدوق واستاذه قدس سرهما، لكن لادليل على وقوعه ، والقدر الثابت أن الله تعالى أنام المسلمين عنها وعلمهم النبي صلى الله عليه وآله كما تقدم .

المسألة الثالثة
أحاديث بخاري في سهو صلى الله عليه وآله ونومه عن الصلاة
روايتهم أن النبي صلى الله عليه وآله نسي وصلى العشاء ركعتين !

في صحيح بخاري:1/123: (عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله(ص)احدى صلاتي العشي ، قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا ، قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم ! فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى ! وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قُصرت الصلاة ! وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه ، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال: يا رسول الله أنسيتَ أم قَصُرت الصلاة ؟ قال: لم أنس ولم تَقْصُر ، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم ، فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، فربما سألوه فيقول نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم ).

وفي بخاري:1/175: (عن أبي هريرة ان رسول الله(ص)انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله(ص)أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم ، فقام رسول الله(ص)فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول).

وفي بخاري:2/66: (عن أبي هريرة قال صلى النبي(ص)إحدى صلاتي العشي قال محمد وأكثر ظني العصر ركعتين ثم سلم ، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فهابا أن يكلماه وخرج سرعان الناس فقالوا أقصرت الصلاة ورجل يدعوه النبي(ص)ذو اليدين فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال لم أنس ولم تقصر ، قال: بلى قد نسيت ! فصلى ركعتين ثم سلم ، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه فكبر ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر).

روايتهم أن النبي صلى الله عليه وآله صلى ركعتين فصحح له ذو اليدين!

في بخاري: 7/85: (عن أبي هريرة قال صلى بنا النبي(ص)الظهر ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ووضع يده عليها وفي القوم يومئذ أبو بكر وعمر فهابا ان يكلماه وخرج سرعان الناس فقالوا قصرت الصلاة وفي القوم رجل كان النبي(ص)يدعوه ذا اليدين فقال يا نبي الله أنسيت أم قصرت فقال لم انس ولم تقصر قال بل نسيت يا رسول الله قال صدق ذو اليدين فقام فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم وضع مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر).

وفي بخاري:2/66: (عن أبي هريرة قال صلى بنا النبي(ص)الظهر أو العصر فسلم فقال له ذو اليدين الصلاة يا رسول الله أنَقَصَتْ؟ فقال النبي(ص)لأصحابه: أحق ما يقول؟ قالوا: نعم ، فصلى ركعتين أخريين ، ثم سجد سجدتين....

عن أبي هريرة أن رسول الله(ص)انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله(ص)أصدق ذو اليدين ؟ فقال الناس نعم ، فقام رسول الله(ص)فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع ).

روايتهم أن النبي صلى الله عليه وآله نسي فصلى ركعتين

وفي بخاري:8/133: (عن أبي هريرة أن رسول الله(ص)انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم ، فقام رسول الله(ص)فصلى ركعتين أخريين ، ثم سلم ن ثم كبر ثم سجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده).

روايتهم أن الشك في عدد الركعات من الشيطان !

في البخاري:2/66: (عن أبي هريرة أن رسول الله(ص)قال إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس....عن أبي هريرة قال قال رسول الله(ص)إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان ، فإذا قضي الأذان أقبل ، فإذا ثوب بها أدبر ، فإذا قضي التثويب أقبل ، حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: أذكر كذا وكذا ، ما لم يكن يذكر ، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى ! فإذا لم يدر أحدكم كم صلى ثلاثا أو أربعا ، فليسجد سجدتين وهو جالس). انتهى .

روايتهم أن النبي صلى الله عليه وآله صلى الظهر خمس

في بخاري:2/65: (عن عبد الله أن رسول الله(ص)صلى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة ! فقال: وما ذاك ؟ قال: صليت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلم). وفي:8/133: (عن عبد الله قال صلى بنا النبي(ص)الظهر خمسا فقيل أزيد في الصلاة ؟ قال وما ذاك ؟ قالوا: صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم).

روايتهم أن النبي صلى الله عليه وآله صلى الظهر ونسي التشهد !

في بخاري:2/66: (عن عبد الله ابن بحينة الأسدي حليف بني عبد المطلب أن رسول الله(ص)قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم ، وسجدهما الناس معه ، مكان ما نسي من الجلوس . تابعه ابن جريج عن ابن شهاب في التكبير ). انتهى .وقد اقتصرنا على ما رواه البخاري فقط ، وقد روى غيره أكثر منه !

تحير فقهاء المذاهب في روايات سهو النبي صلى الله عليه وآله

لم يناقش أحد منهم في أسانيد رواياتها ، لأنها عندهم صحيحة بأعلى درجات الصحة حيث رواها بخاري الذي تبنوا صحة ما فيه من الجلد الجلد ! ولم يعترض أحد منهم عليها لما تنسبه الى النبي صلى الله عليه وآله من سهو وغلط في صلاته وسذاجة وتحير وتناقض! ومعنى ذلك أنهم قبلوا الطعن في عصمته صلى الله عليه وآله في صلاته التي كان يؤم فيها المسلمين ! بل قبلوا الطعن في ذاكرته صلى الله عليه وآله ومستواه الذهني حيث جعلته هذه الأحاديث أقل من إمام جماعة ذكي جيد الإنتباه !

ولكنهم مع ذلك اختلفوا في أحاديث السهو في الصلاة لأنها تضمنت ورطة أخرى ، فردها أكثرهم بسببها وأفتوا ضدها ، وقليل منهم قبلها وأفتى بها ! والورطة أن أحاديث بخاري وغيره تقول إن النبي صلى الله عليه وآله بعد أن أخطأ وأنهى صلاته ، تكلم وغضب ، وذهب الى ناحية المسجد ، وذهب الى خشبة معترضة ووضع يديه ورأسه عليها ، أو ذهب الى منزله ، ثم رجع وأتمَّ صلاته من حيث تركها ولم يُعِدْها ! وتساءلوا كيف يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قطع صلاته ثم رجع وأتمها وهو الذي يقول صلى الله عليه وآله :(إن هذه الصلاة لايصلح فيها شئ من كلام الناس). (صحيح مسلم:2/70 ، وأحمد:5/447 وغيرهما).

ومع أن بعضهم تجرأ وأفتى بأن الصلاة لاتبطل بالكلام حسب هذه الروايات؟! لكن عامة أتباع المذاهب إذا سهوْا في صلاتهم يعيدونها ، ولا يأخذون بهذه الفتوى ، ولا يستحلون فعل ما نسبه رواتهم وفقهاؤهم الى رسول الله صلى الله عليه وآله !

لقد كتب فقهاؤهم مئات الصفحات في النقض والإبرام محاولين التخلص من هذه الورطة ! وقد كان الشافعي أجرأهم فأفتى بأن من تخيَّل أن أتم صلاته وأتى بمبطل ، يبني عليها ولا يعيدها !

قال في كتاب الأم:1/147: (ومن تكلم في الصلاة وهو يرى أنه قد أكملها أو نسي أنه في صلاة فتكلم فيها بنى على صلاته وسجد للسهو ، لحديث ذي اليدين ) !

(وذهب إلى مثل قول الشافعي أبو هريرة، ومكحول، والزهري، وغيرهم). (سبل السلام1:/206) .

وكان عروة بن الزبير أجرأ من الجميع فصلى المغرب ركعتين وسلم ، سهواً أو عمداً ، ثم قطع صلاته عمداً بالكلام ، ثم أتمها من حيث قطعها وقال: هكذا فعل النبي صلى الله عليه وآله ! (قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ! ثم صلى ما بقي وسجد سجدتين وقال: هكذا فعل النبي). (بخاري:2/66) .

وفي مغني ابن قدامة:1/704: (من سلَّمَ عن نقص من صلاته يظن أنها قد تمت ثم تكلم ، ففيه ثلاث روايات:

إحداهن: أن الصلاة لا تفسد إذا كان الكلام في شأن الصلاة مثل الكلام في بيان الصلاة ، مثل كلام النبي(ص)وأصحابه في حديث ذي اليدين لأن النبي وأصحابه تكلموا ثم بنوا على صلاتهم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة!

والرواية الثانية: تفسد صلاتهم ، وهو قول الخلال وصاحبه ومذهب أصحاب الرأي لعموم أحاديث النهي.

والثالثة: أن صلاة الإمام لا تفسد ، لأن النبي(ص)كان إماماً فتكلم وبنى على صلاته ! وصلاة المأمومين الذين تكلموا تفسد ). انتهى .

وقال ابن حزم في المحلى:4/5: (فغلط في هذا الخبر صنفان: أحدهما أصحاب أبي حنيفة ، والثاني ابن القاسم ومن وافقه ! فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا لعل هذا الخبر كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ، وقالوا: الرجل المذكور قتل يوم بدر.... وهذا كله باطل وتمويه وظن كاذب.... وأما ابن القإسم ومن وافقه فإنهم أجازوا بهذا الخبر كلام الناس مع الإمام في إصلاح الصلاة).

وقال في الدر المختار:1/663: (وحديث ذي اليدين منسوخ بحديث مسلم: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس).

ورده ابن عابدين:1/663. وقال الكحلاني في شرح سبل السلام:1/203:(هذا الحديث قد أطال العلماء الكلام عليه وتعرضوا لمباحث أصولية وغيرها ، وأكثرهم استيفاء لذلك القاضي عياض ، ثم المحقق ابن دقيق العيد في شرح العمدة ، وقد وفينا المقام حقه في حواشيها ، والمهم هنا الحكم الفرعي المأخوذ منه ، وهو أن الحديث دليل على أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام ، لا يوجب بطلانها ولو سلم التسليمتين ، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة ، وكذا كلام من ظن التمام ، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف ، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وأخيه عروة وعطاء والحسن وغيرهم ، وقال به الشافعي وأحمد وجميع أئمة الحديث . وقال به الناصر من أئمة الآل . وقالت الهادوية والحنفية: التكلم في الصلاة ناسياً أو جاهلاً يبطلها ، مستدلين بحديث ابن مسعود ، وحديث زيد بن أرقم في النهي عن التكلم في الصلاة ، وقالوا: هما ناسخان لهذا الحديث . وأجيب: بأن حديث ابن مسعود كان بمكة متقدما على حديث الباب بأعوام ، والمتقدم لا ينسخ المتأخر....الخ.).انتهى.

وقصده بحديث ابن مسعود ما رواه النسائي:3/19: (قال: كنا نسلم على النبي (ص)فيرد علينا السلام حتى قدمنا من أرض الحبشة فسلمت عليه فلم يردَّ عليَّ فأخذني ما قرب وما بعد ، فجلست حتى إذا قضى الصلاة قال إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء ، وإنه قد أحدث من أمره أن لا يتكلم في الصلاة).

ونحوه في مصنف عبد الرزاق:2/335 ، ونحوه في مسلم:2/85 وزاد في طينه بَلَّة وبخاري:1/104، وزاد فيه بلتان: ( قال عبد الله صلى النبي(ص) قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص ، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شئ ؟ قال وما ذاك ؟ قالوا صليت كذا وكذا ! فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم ، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شئ لنبأتكم به ، ولكن إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ). انتهى .

وبذلك أبطلوا بكل سهولة قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى . (الأعلى:6) . وقصد الكحلاني بالهادوية ما قاله يحيى بن الحسين في الأحكام:1/114:

(لا أدري ما صحة هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله في الصلاة بعد التسليم ، ولا أرى أنه صحيح عن رسول الله(ص) ! بل القول عندي فيمن نسي فسلم في غير موضع التسليم ، ثم ذكر قبل أن يتكلم بكلام أو يحرف وجهه عن ذلك المقام ، أن صلاته قد انقطعت ، ويجب عليه الإستيناف لها فليبتد صلاته ، وليؤدها على ما فرضت عليه من حدودها ). انتهى .

وكلامه موافق لمذهبنا .

وقد حاولوا أن يتخلصوا من أحاديث ابن مسعود التي تنهى عن الكلام في الصلاة ، بأن زمنها قبل حديث ذي اليدين ، لكن مشكلتهم أن حديث ذي الدين متأخر لأن راويه أبو هريرة الذي أسلم في السنة السابعة ، وهو يقول: (صلى بنا أو صلى لنا رسول الله) صلى الله عليه وآله .

كما ردوا قول الزهري وغيره إن ذي اليدين أنصاري استشهد في بدر فلا يصح حديث أبي هريرة عنه ، وأجابوا بأن الشهيد في بدر ذو الشمالين ، أما ذو اليدين فهو الخرباق وهو أنصاري عاش الى زمن معاوية وكان معه ، وكان يسكن بذي خشب على مسيرة يوم من المدينة باتجاه الشام .

قال النووي في شرح مسلم:5/71: (واعلم أن حديث ذي اليدين هذا فيه فوائد كثيرة وقواعد مهمة ! منها جواز النسيان في الافعال والعبادات على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وأنهم لا يقرون عليه... ثم قال وهو ينقل خلاصة دفاع ابن عبد البر عن الحديث:

(فذوا اليدين الذي شهد السهو في الصلاة سُلَمي ، وذو الشمالين المقتول ببدر خزاعي يخالفه في الإسم والنسب ، وقد يمكن أن يكون رجلان وثلاثة يقال لكل واحد منهم ذو اليدين وذو الشمالين لكن المقتول ببدر غير المذكور في حديث السهو هذا قول أهل الحذق والفهم من أهل الحديث والفقه)انتهى . (راجع ثقات ابن حبان:3/301، والجرح والتعديل للرازي:4/386 ) .

وقد اضطروا لمهاجمة الزهري لقوله إن ذي اليدين قتل في بدر ، وإن سهو النبي صلى الله عليه وآله في صلاته كان قبل بدر ، قبل أن يستقر تشريع الصلاة !

قال الزهري: (وكان ذلك قبل بدر ثم استحكمت الأمور بعد) ! فعلق عليه شارح موطأ مالك:1/94: (قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عوَّل على الزهري في قصة ذي اليدين ، وكلهم تركوه لاضطرابه ! وأنه لم يقم له لا إسناداً ولا متناً ، وإن كان إماماً عظيماً في هذا الشأن . فالغلط لايسلم منه بشر ). انتهى .

أقول:

1- ينبغي للزهري أن يقبل تغليطهم له ، لأنه غلَّط معهم النبي صلى الله عليه وآله في صلاته !

2- هذا غيضٌ من بحوثهم المطولة في الدفاع عن رواتهم الذين أرادوا تبرير غلطهم أو غلط الخلفاء في صلاتهم ، فرموا بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وأشهدوا عليه بدوياً من أهل ذي خشب ! لكنهم وقعوا في كذبتهم فقالوا إن النبي صلى الله عليه وآله قطع صلاته وغضب وذهب ثم عاد وأتمها !

فصدق عليهم المثل: لاحافظة لكذوب !

المقالات
سبـحــة كربــلاء

(في سنوات حكم صدام وحربه على إيران ، كان الوصول الى كربلاء صعباً ، وكانت السبحة والتربة الحسينية قليلة نادرة.. فأهدى اليَّ صديق سبحة من تراب كربلاء ) .

قال لي صديقي وهو يتهلل فرحاً: سأهـدي لك هدية تحبها.. وأخرج من جيبه سبحة ترابية ، ما أن لحَظَتْهَا عيناي حتى فاضتا بالدمع ، فتناولتُها بكِلْتَيْ يديَّ وشممتُها ومسحت بحباتها عينىَّ ، وقلت له: ألف شكر.. إنها حقاً كربلائية إنها الرائحة الأصلية لتربة الحسين عليه السلام .

أشكرك أنك لم تضع عليها عطراً فيصعب على مثلى تمييزها .

قال: وهل تميز تربة كربلاء بالشم ؟

- نعم إذا كانت جديدة ولم تضف إليها رائحة .

- هل تستطيع أن تصف لى رائحتها ؟

- فيها نفاذٌ خاص ، وعطرٌ ليس من نوع عطور الدنيا ، ومعان غيبية تفهمها من رائحتها يصعب التعبير عنها ؟

قال: إ ن الشم علم !

-الشم عالمٌ يا صديقي قبل أن يكون علماً.. عالم ينفتح عليه الإنسان بالعشق فيعرف الروائح المرتبطة بمعشوقه ، وينفتح عليه بدرجة الايمان فيعرف روائح الأخيار والأشرار ، وقد قرأت أن الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيآت يعرفون النوايا الطيبة والخبيثة من روائحها !

ياصديقي لو كان أكبر علماء الحواس والمشمومات مع يعقوب عليه السلام ، لما وجدوا ريح يوسف ، إذا لم يكن عندهم عشق ولا إيمان .

هل سمعت بالرواية التي تقول إن إبراهيم عليه السلام مرَّ من كربلاء فشم تربتها وصلى فيها ، واشترى أرضها من أهلها و سماها كربلاء !

وهل سمعت أن قاموس اللغة الآشورية القديمة الذي وضعه علماء الآثار الغربيون يذكر أن معنى ( كربو ـ لو ): الرجل القربان ، و معنى (كربوـ ئيل) قربان الله ! فاعجب إذا أردت أن تعجب !

وهل سمعت بحديث قبضة تراب كربلاء التي أتى بها جبرئيل أو ميكائيل الى النبي صلى الله عليه وآله وأخبره أنها من تربة الأرض التي تقتل فيها أمته (!) ولده الحسين عليه السلام ! فأودعها النبي صلى الله عليه وآله عند أم سلمة وأمرها أن تضعها في قارورة زجاج ، حتى إذا كان يوم عاشوراء وقتل الحسين عليه السلام صار التراب في القنينة دماً صافياً قانياً !!

وهل سمعت أن علياً عليه السلام مرَّ على كربلاء في رجوعه من صفين ، وشم تربتها ، وأخبر بما يكون فيها !

إن هؤلاء العظماء يفهمون بالشم أموراً وأحداثاً حسب درجاتهم.. وهذا علم الشم بعد عالمه يا صديقى .

قال: وهل يوجد اليوم أحد يعرف الطيب والشرير من رائحته ؟

قلت: أما إذا أردت المعرفة القطعية فإنما هي عند الإمام المهدي عليه السلام ، وإن أردت المعرفة التي قد تحصل وقد لاتحصل ، وقد تخطئ وقد تصيب ، فهى عند كل مؤمن حسب درجة إيمانه وصفاء روحه وإرهافها.. أما ترى أنك تشم أحياناً من أشخاص رائحة روحهم الخبيثة ونواياهم الشريرة ، فلا تطيق الكلام معهم ولا الجلوس اليهم.. وتشم من أشخاص رائحة روحهم النورانية ونياتهم الصافية ، فكأنما يهبُّ عليك من أحدهم نسيمُ من الجنة !

قال صديقي: فماذا عن تحول التراب في قارورة أم سلمة الى دم عند قتل الإمام الحسين عليه السلام ؟

قلت: لقد تعجبت عندما رأيت حديث تربة كربلاء والقارورة في مصادر إخواننا السنيين ، وأذكر منها المجلد الثالث من مسند أحمد بن حنبل ، ولكن قبل الكلام فيه أروي لك حديثاً أدهشني ومازال.. يقول:

اعتلَّ الحسين فاشتد وجعه ، فاحتملته فاطمة فأتت به النبى صلى الله عليه وآله مستغيثة مستجيرة ، فقالت: يا رسول الله أدع الله لابنك أن يشفيه ، ووضعته بين يديه ، فقام صلى الله عليه وآله حتى جلس عند رأسه ثم قال: يافاطمة يا بنية ، إن الله هو الذي وهبه لك هو قادر على أن يشفيه . فهبط على جبرئيل فقال: يا محمد ، إن الله لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء وكل فاء من آفة ، ما خلا (الحمد لله) فإنه ليس فيها فاء ، فادع بقدح من ماء فاقرأ فيه (الحمد) أربعين مرة ثم صبه عليه فإن الله يشفيه ، ففعل ذلك صلى الله عليه وآله ، فكأنما أنشط من عقال !!

فاعجب يا صديقى إذا أردت العجب ، وفكر في قدرة معمار القرآن الذي حسب حساباً لكل حرف أين يوضع ، وأين لايوضع !

ثم في دلالات الحروف فوق دلالات الكلمات ، فهذا الحرف يدل على ما مضى ، وهذا يدل على نوع من الأحداث ، وذاك على نوع آخر !

ثم في تأثير تلاوة سورة الحمد في الماء لأنها بلا فاء ! وتأثير الماء في بدن لمريض ، وتأثير التكرار سبع مرات أوعشراً أو أربعين !

ثم في طريقة تفكير الزهراء عليها السلام وتصرفها ، وطريقة تفكير النبيى وتصرفه ثم لماذا كان الحسين هبة مبتدأة من الله تعالى بدون أن تقترح الزهراء على ربها شيئاً ؟ كما كان تزويجها بعلي أمراً مبتدءً من الله تعالى منذ أن تقبلها من أبيها وأمها ولم يكن لهما حق شرعاً في تزويجها !

وإذا انفتح لك هذا الباب وعرفت أن المسألة أوسع من محيطنا وقوانينه ، فلماذا لاتكون أرض كربلاء من نوع خاص ، ويكون لاختلاط دم الحسين عليه السلام بها تأثيراً فيزيائياً خاصاً !

لماذا لا نفترض قوانين فيزيائية عليا فوق مانعرفه من قوانينها الدنيا ؟

إن أمر عدد من بقاع الأرض كالكعبة ومكة وحرمها ، ومسجد النبي صلى الله عليه وآله ، وبيت المقدس ، والطور وغيرها ، لايمكن أن نفسر أحاديثها وأحداثها إلا بافتراض قوانين فيزيائيه من نوع آخر !

لماذا نتحير في أحاديث النور والإشعاع الذي يصدر من البقاع والأشخاص والأعمال ، ولا نفترض مثلاً أنه واحد من قوانين الفيزياء العالية التي لم يكتشفها العلم الى اليوم ، وقد يكتشفها بعد اليوم !

سمعت أنهم اكتشفوا أشعة تصدر من الإنسان بعد وضوئه وفي حال صلاته.. كشفوا ذلك بواسطة أجهزة.. وهي قابلة للتطوير وكشف الجديد .

وتتحدث الأحاديث عن نور الطائفين حول الكعبة ، وعن فضل السجود في الصلاة على التراب، وعن النور المنبعث عند السجود على تربة كربلاء ولكن الأشعة الى الآن لم تصور أشعة الكعبة والطائفين ، ولا أشعة كربلاء وتربتها . قد يكتشف علماء الطبيعة أشياء وأشياء ويريهم الله من آياته.. ولكنها ستبقى كشوفاً ناقصة الى أن يظهر الله تعالى معجرة نبيه الكبرى صلى الله عليه وآله على يد ولده المهدي الموعود ، وستكون هذه المرة (معجزة العلم) بعد أن كانت في أولها معجزة (الكلمة) !

يومها سيرى الناس قوانين الفيزياء والكيمياء وآياتها ، ويرون حقائق القرآن وتأويله ، وتظل أعناقهم لها خاضعين .

لكن يا صديقى لا تنتظر بإيمانك كشوف العلم ، فإنما يحتاج الى ذلك من لا إيمان له ، أو من كان إيمانه ضعيفاً .

أما الذين عندهم مصدر للإيمان من كتاب الله عز وجل وأحاديث رسوله وأهل بيته الطاهرين، فلا يحتاجون الى كشوف المكتشفين وتصوير المصورين ، لأن مصدرهم أعلى .

هذا يا صديقى عن الفيزياء الدنيا والعليا ، أما عن مقام الحسين عليه السلام فلا تستكثر أن يجعل الله آية قتله في كربلاء أن تتحول تربته المودعة في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله الى دم ، وهذا في الحقيقة من آيات رسول الله ومعجزاته .

قال صديقى: تقصد أن المعجزة شئ آخر فوق هذه القوانين الفيزيائية العالية التي ذكرتها ؟

قلت: نعم إن المعجزة مقولة أخرى ، وإن تخيل بعض المثفقين أنهما مقولة واحدة، وسأضرب لك مثلا: إذا استطاع العلم أن يكشف أن الصادق عندما يتكلم ينبعث منه إشعاع من لون معين ، والكاذب ينبعث منه إشعاع من لون آخر ، أو استطاع أن يكتشف الرائحة الكريهة عند حدوث النية السيئة ، والطيبة عند حدوث النية الطيبة.. فهذه قوانين جديدة، وهي التي عبرت عنها بقوانين الفيزياء العليا تقريباً للذهن .

أما التعبير الأصح فهو أنها إحدى آيات الله تعالى المبثوثة في هذا الكون التي لانعرف منها إلا القليل .

أما المعجزة بالمعنى الأخص فلها منطق آخر ومعادلات فوق قوانين الفيزياء العليا والدنيا..

يصف أمير المؤمنين عليه السلام معجزة مجئ الشجرة الى رسول الله صلى الله عليه وآله فيقول: ( ولقد كنت معه صلى الله عليه وآله لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب . فقال صلى الله عليه وآله : وما تسألون؟ قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال صلى الله عليه وآله : إن الله على كل شئ قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا نعم ، قال فإني سأريكم ما تطلبون وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير ، وإن فيكم من يطرح في القليب ومن يُحَزِّبُ الاحزاب .

ثم قال صلى الله عليه وآله :ياأيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن الله.. فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله مرفوفة وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى الله عليه وآله وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى الله عليه وآله ! فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علواً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ! فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً فكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله ! فقالوا كفراً وعتواً: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ! فأمره صلى الله عليه وآله فرجع .

فقلت أنا: لاإله إلاالله فإني أول مؤمن بك يا رسول الله ، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك . فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب عجيب السحر خفيف فيه ، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذ ا الغلام ! يعنوني ) !

أما مثل هذه المعجزة فهي فعل إلهي حيٌّ في الطبيعة ، بقدرة أعلى من قوانين الفيزياء الدنيا والعليا وقوانين المادة وإمكاناتها جمعاء.. ولذلك يخر لإعجازها علماء الطبيعة أجمعون .

قال صديقي: هل نفهم من قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أن العلم سيكشف قوانين الفيزياء العليا التي ذكرتها ؟

قلت: هذه الآية وعد قطعي بآيات معجزة يظهرها الله تعالى ، ولكنها مجملة من حيث الزمان ونوع الآية ، والظاهر أنها أعظم مما ذكرت ، وقد وردت الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام أنها آيات تظهر في أعداء الحق عند ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، ونص بعضها على أنها آيات انتقامية من المسخ والقذف بالصواعق ، وفقدان سيطرة الحكام الطغاة على آفاق دولهم !

قال صديقي: شكراً لك ، لقد سمعتُ جديداً عن الشم والنور ، لكن ماذا عن كلام السبحة من تراب كربلاء ، وتسبيحها في يد حاملها ؟

قلت له: هل ترى أن التسبيح في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، هل تراه تسبيحاً مجازياً ؟

إن الآية تنادي بأنه تسبيح حقيقى بدليل: لا تفقهون تسبيحهم ، والأحاديث المفسرة لهذه الآية ، وبدليل أن هذا التسبيح لو كان حقيقياً لصح أن نعبر عنه بتعبير الآية بدون إضافة حرف إليها..إن لحمل الكلام على المجاز حدوداً في اللغة العربية ، فمن أفرط فيها فقد تمحل .

نعم يا صديقى ، إنه تسبيح حقيقي ، وإن صريح الآيات والأحاديث أن جميع ما في هذا الكون كائنات حية حتى النبات والجماد ، فلايوجد كائن ميت بالموت الكامل ، ولكنها درجات الحياة تتفاوت في الناس من أعظمهم حيوية ويقظة في عقله وروحه وبدنه صلى الله عليه وآله ..الى أقلهم حياةً الذي لايكاد يفقة شيئاً ، ولا ينبض بحس !

ثم يتفاوت أحدنا في درجة حياته من أرقى حالاته في الإزدهار العقلي والروحي والبدني.. الى أضعف حالته من الخمول والركود والمرض .

وإذا جعلنا الإنسان في أول سلم الأحياء ، فإن أقل إنسان نصيباً من الحياة يقترب من أرقى حيوان صامت.. وأقل حيوان نصيباً منها يقترب من أرقى نبات أو يشتبه به.. وأقل نبات نصيباً منها يشتبه بأرقى جماد..

وكل فرد من سلسلات هذه الكائنات له روح بحسبه ، وعقل بحسبه ، وتكليف بحسبه ، ولغة وتسبيح ، ولكنا لا نفقه تسبيحهم..

أما رأيت لكل نوع من النبات والأشجار شخصية وأخلاقاً غير النوع الآخر.. وما يدريك أن تكون الصخور والجبال كذلك ؟

أما التراب يا صديقي فله قصة أخرى لأنه نحن.. أحدنا ما هو إلا نصف متر مكعب من التراب مخلوط بنفخة إلاهية..

نعم ، إن نفخة الروح هي الاساس وأصل السر ، والإنسان إنسان بروحه قبل بدنه.. ولكن السر أيضاً في قبضة التراب التي تقبل حلول النفخة فيها وتتآخى معها وتكون مقرها .

السر أيضاً في السبع قبضات التي أخذها جبرئيل من الأرض فكانت بيتاً للروح ، وفي غذاء الأبوين من نتيجة تراب الأرض الذي يصير عَلَقَةً تقبل الإنشاء الآخر !

هل سمعت أن كل العناصر الستة عشر التي يتكون منها التراب ، يتكون منها بدن الإنسان بلا زيادة ولا نقصان !

وهل سمعت ، وهل سمعت ، عن التراب.. وأن في الأرض تراباً ليس منها ، وأنه نقل اليها من الجنة ، لأمر لا أفهمه أنا ولا أنت !

الأشياء يا صديقي أكبر مما نرى وأعمق ، فلا تنظر إليها بسذاجة !

إن مثل المؤمن وغير المؤمن يا صديقي كمثل شخصين يملكان جهازي (راديو)فيفتح أحدهما جهازه ويدير مفتاحه فلا يسمع صوتاً الا الخشيش والصفير ، فيقول إنه جهاز جيد ولكن لا توجد محطات الآن .

ويفتح الآخر مذياعه فإذا به ممتلئ بالإذاعات صافية واضحة ، ولا خشيش ولا صفير !

المشكلة يا صديقي ليست في محطات الاذاعات، بل في جهاز الالتقاط!

ومشكلة هؤلاء الجامدين على الماديات ومن تبلد مثلهم من المسلمين أنهم عند ما لا يلتقط جهازهم ينفون وجود الإرسال والمرسلات ! الموجود يا صديقي أكثر مما يلتقطه جهازك وجهازي، ومحطات الإرسال موجودة في كل شئ من حولك !

حواسنا الخمس آيات كبرى من آيات الله تعالى ، ولكنها (كامرات) محدودة تستطيع أن تلتقط أجزاء من المسموع ، والمنظور ، والمحسوس ، والمشموم ، والمطعوم.. وتبقى الأجزاء الأخرى خارج عملها !

وجهاز عقلنا آية عظمى ، ولكنه يلتقط جزءً من الحقائق ، وتبقى الأجزاء الأخرى خارج عمله !

وجهاز روحنا يصل الى جزء من العوالم ، وتبقى الأجزاء الأخرى خارج عمله ! فالمسألة ياصديقي أعمق مما نتصور ، فاعجب للذين ينظرون اليها بأذهان مسطحة ، وأحياناً مُبَلَّطة !

هذه النبتة الصغيرة التي تدوسها الأقدام لها خطة وهدف ، ولها قصة قد تفوق قصة أكبر شجرة في غابات الأمازون !

وكل نبتة لها خطة وهدف وقصة ، وكل حيوان ، وكل إنسان ، بل كل ذرة من جماد أو تراب.. أليس الجميع آجرّاً في بناء هذه الأرض والحياة ، ومن هندسة ذلك المعمار ، وأي معمار ، سبحانه وتعالى !

آه لو استطعت أن أنادي في أولاء الذين لايرون إلا الأشكال والسطوح.. لو استطعت أن أهز بصيحتي عقولهم ووجدانهم.. يا هؤلاء إن البعد المادي إنما هو واحد من أبعاد الموجودات ، وهو أهونها وأصغرها..

روحي فداء رسول الله الذي أراد أن يهز عقول قريش ووجدانهم فصعد على الصفا ذات يوم ، ونادى: يا صباحاه ، فاجتمعت اليـه قريش فقالـوا: مالك؟ قال: أرأيتكم إن أخبـرتكم إن العـدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصـدقـونني ؟ قالـوا: بلى .

قال..أيها الناس إن الرائد لايكـذب أهله ، ولو كنت كاذباً لما كذبتكم والله الذي لا إله إلاهو إني رسـول الله اليكم حقاً خاصة والى الناس عامة . والله لتمـوتـن كما تنامـون ولتبعثـن كما تستيقظـون ولتحاسبن كما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءا ، وإنها الجنة أبـداً والنار أبداً..

إنا اليوم يارسول الله بحاجة الى صيحة (ياصباحاه) في قريش العالم ، وفي قريش المسلمين: في قريش العالم ليعرفوا أن وراء الماديات عوالم أعظم منها ، فيخرجوا من عبادة المادة الى نور التوحيد .

وفي قريش المسلمين ليتوقفوا عن ظلمهم لأهل بيتك ، ويرجعوا الى قيادتهم وتلقي الإسلام منهم .

ويظهر أن بوادر تقبل هاتين الصيحتين سستنامى في العالم وفي الأمة ، حتى يظهر ولدك المهدي الموعود عليه السلام فيقوم بها خير قيام .

قال صديقي: لقد استفدت من حديثك وأحببت تربة الحسين عليه السلام أكثر.. وقررت أن أسبح بها لابغيرها ما استطعت ، وأسجد لله على ترابها ما استطعت.. وسوف أهدي لك منها تربة سجود وسبحة .

قلت: خير هدية ، أشكرك عليها ، وأرجو أن لا تفارقني سبحة كربلاء في حياتي وأن يدفنوها معي في قبري . لقد أعجبتني فكرة سيف الدولة الحمداني رحمه الله حيث كان يجمع غبار ثيابه إذا رجع من جهاد الروم حتى صنع منها لبنة ، وأوصى أن توضع معه في قبره ، وأن يوضع شئ من تربة الحسين على صدره..

وهكذا كلما زاد حب الإنسان لنبيه صلى الله عليه وآله وعترته عليهم السلام وأمته.. صار أرهف حساً ، وأكثر فهماً .

المقالات
مشكلة تعويم الإجتهاد في الفقه والعقائد

بســم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
طرأ في عصرنا على الإجتهاد في فقه الإسلام وعقائده أمران ، شمل أولهما جميع المذاهب ، وهو إنهاء نفوذ الأزهر وفتح باب الإجتهاد عند إخواننا السنة . واختص ثانيهما بمذهبنا الشيعي ، حيث انتقل التشيع بعد ثورة إيران الإسلامية من مذهب خارج أضواء السياسة إلى مذهب تحت أضوائها .

وفيما يلي نستعرض هذين الحدثين من زاوية تأثيرهما على الإجتهاد في مسائل الشريعة والعقيدة الإسلامية ..

1 ـ المرجعيات البديلة عن الأزهر

كان الإجتهاد في الأزهر محصوراً في أئمة المذاهب الأربعة ، وإذا فتح بابه فإنما يفتح لكبير علماء الأزهر ، ويتقيد الشعب المصري ومن ورائه أكثر العالم السني برأيه ..

أما بعد القضاء على مكانة الأزهر ، فقد انتقل مركز الإجتهاد والفتوى إلى كل من يريد البحث في الدين من متعلمي الأمة بل من عوامها ، وكل من يرغب أن يكون له فتاوى وأتباع في فهمه للشريعة ، بل في فهمه للعقيدة أيضاً !

لقد كان هدف السلطات المصرية ومن وراءها من الغربيين ، أن تستبدل مركزية الأزهر الدينية الخطيرة برمز ديني تعينه السلطة .. ولكنهم لم يحسبوا أن معنى ذلك بمنطق التاريخ ومنطق المخزون الديني في الأمة ، أن جذور الأزهر ستبقى في نفوس المسلمين وستنبت في كل محافظة من مصر أزهر جديداً ومفتين ومقلدين جدداً ! وأن ضرب مركز الفتوى الطبيعي ، سيزرع بذور عشرات المراكز بل مئاتها .. وأن ضرب قيادة العلماء الطبيعية للمسلمين ، سوف ينبت عشرات القيادات بل مئاتها ..

وليس ذلك في مصر فحسب ، بل في كل العالم الإسلامي تقريباً .. فالذين يظنون أن مصر فقدت تأثيرها على العالم الإسلامي يقعون في خطأ كبير ، فالحقيقة أن كل المؤثرين في الساحة الفكرية والسياسية الإسلامية في العالم الإسلامي السني هم تلاميذ لعلماء من مصر ، أو متأثرون بتيارات فكرية جاءت من مصر .. سواء ذلك في الفقه والفكر ، أو في طرق العمل للإسلام !

ولكن تأثير ضرب الأزهر لم يقتصر على تجزئة مركز الفتوى، بل وصل إلى مضمون الفتوى وشروط الإجتهاد!

2 ـ تعويم الإجتهاد عند السنة

بنى المثقفون والعلماء من أوائل هذا القرن آمالاً كبيرة على دعوتهم إلى فتح باب الإجتهاد.. خاصة أنها جاءت في عصر العلم والمناهج الآكاديمية في البحث ..

لكن الذي حدث أن باب الإجتهاد انفتح عندهم على مصاريعه لكل الناس ، وفي كل أمور الدين ، في عقائده وشريعته وطريقة فهمه وممارسته ! فدخلت مصر بذلك في مرحلة تعويم الإجتهاد والفتوى لكل من يرغب أن يكتب فتاواه في أي مسألة من مسائل الإسلام ، حتى لو كان عامياً خالياً من رائحة العلم ..! فكان معنى ذلك ببساطة :

لا قواعد ثابتة في الفهم الديني .

لا ضوابط للإجتهاد في الدين .

لا تخصص في البحث الديني .

لا شروط في القيادة الدينية .

وإذا كانت النقطة الأولى تعجب دعاة التحرر الغربي ، فإن النقاط التي بعدها تكمن فيها الكارثة على الجميع ! فحرية البحث العلمي في أمور الدين حق طبيعي وأمر حيوي يجب أن نحرص عليه .. ولكنها بشكلها الذي حدث ليست إلا تعويماً فوضوياً تغرق فيه كل الموازين والقيم ، بما في ذلك حرية البحث العلمي نفسها !

إن الذي تشهده ساحة الفكر الديني في مصر من مطلع هذا القرن إلى يومنا ، ما هو إلا مجسمة هندسية لحالة العالم الإسلامي السني في العقود الماضية والعقود المقبلة ، حيث ستزداد الإجتهادات ويظهر عشرات المجتهدين بل ومئاتهم ، وكل بضاعة الواحد منهم ظنونه واستحساناته ، وقدرته على إقناع شريحة من الناس بأن يقلدوه ويتعبدوا لله تعالى بفتاواه ، وربما بأوامره العسكرية !

3 ـ تأثر الشيعة بموجة تعويم الإجتهاد

كنا نتصور أننا في لبنان والعراق وايران والهند وبلاد الخليج وغيرها من بلاد الشيعة في حصانة من المؤثرات المصرية علينا ، لأن تركيبتنا المذهبية المختلفة تمنع التفاعل والتأثير ، ولأن مرجعيتنا الدينية التي استطاعت أن تصمد في وجه الأخطار التي أطاحت بمرجعية الأزهر ، تشكل مانعاً من التأثر بالأفكار الناتجة عن انهيار مرجعية الأزهر . وقبل هذا وذاك لأن باب الإجتهاد عندنا مفتوح لم يغلق ، حتى يؤثر فتحه على فكرنا وفقهنا ..

ولكن الحقيقة كانت غير ذلك .. فقد سرى فينا مرض تعويم الإجتهاد المصري ، ولم نكتشفه إلا بعد أن استفحلت ظواهره .. فقد نشأت فينا حركات فكرية وسياسية ، ونشأت ناشئة من متعلمينا وأشباه متعلمينا ومن طلبة علوم الدين أيضاً ، يكتبون عن عقائد الإسلام وشريعته ومفاهيمه وقضاياه، ويفتون في مسائله الخطيرة كما يفتي كبار الفقهاء المتخصصين .. بل ويزيدون عليهم أنهم يحللون أهداف الله تعالى من خلقه ودينه ، وأهداف النبي صلى الله عليه وآله من أحاديثه وسيرته ، حتى كأن أحدهم كان مستشاراً لله تعالى عندما خلق السماوات والأرض ، أو مديراً لمكتب رسول الله صلى الله عليه وآله من يوم أوحى الله إليه في جبل حراء ، الى أن توفاه الله واختاره الى جواره ..!!

أذكر أنني قرأت يوماً الرواية التالية في علل الشرائع ، للصدوق رحمه الله ج 1 ص 241 :

( حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه مع جماعة فيهم على بن عيسى القصري فقام إليه رجل فقال له : أريد أسألك عن شيء ، فقال له: سل عما بدا لك ، فقال الرجل : أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله ؟ قال : نعم ، قال أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله ؟ قال : نعم . قال الرجل : فهل يجوز أن يسلط الله عدوه على وليه؟! فقال له أبو القاسم قدس الله روحه : إفهم عني ما أقول لك ، إعلم أن الله تعالى لا يخاطب الناس بشهادة العيان ولا يشافههم بالكلام ، ولكنه عزوجل بعث اليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم ، فلو بعث اليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم ، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم أنتم مثلنا فلا نقبل منكم حتى تأتونا بشيء نعجز أن نأتي بمثله فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه ، فجعل الله تعالى لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها .. فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإنذار والإعذار فغرق جميع من طغى وتمرد ، ومنهم من ألقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً ، ومنهم من أخرج له من الحجر الصلد ناقة وأجرى في ضرعها لبنا ، ومنهم من فلق له البحر وفجر له من الحجر العيون وجعل له العصا اليابسة ثعباناً فتلقف ما يأفكون ، ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله تعالى ، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، ومنهم من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك ، فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله ، كان من تقدير الله تعالى ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حال غالبين ، وفي أخرى مغلوبين ، وفي حال قاهرين ، وفي حال مقهورين ، ولو جعلهم عزوجل في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم ، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله تعالى ، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والإختبار ، ولكنه عزوجل جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين ، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين ، وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله ، وتكون حجة الله تعالى ثابتة على من تجاوز الحد فيهم ، وادعى لهم الربوبية أو عاند وخالف وعصى وجحـد بما أتت بـه الأنبياء والرسل ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .

قال محمد بن ابراهيم بن اسحاق رضي الله عنه : فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه من الغد وأنا أقول في نفسي : أتراه ذكر ماذكر لنا يوم أمس من عند نفسه ؟ فابتدأني فقال لي : يامحمد بن ابراهيم لأن (يلقى بي من شاهق أو ) أَخِرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بى الريح في مكان سحيق ، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله تعالى ذكره برأيي ومن عند نفسي ، بل ذلك عن الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه ) انتهى .

قرأت هذه الرواية وتأملت فيها طويلاً .. لأنها تعني أن حضراتنا نحن الكتاب الإسلاميين عندما نحلل تاريخ الأديان والإسلام وعقائده وأحكامه ، ونصدر فيها أحكامنا ، نفعل بأنفسنا أكثر من إلقائها من شاهق ! وتعني أن حضراتنا نحن القياديين الإسلاميين نغصب موقعاً قيادياً ليس لنا ..؟!

الرواية عندي نورها عليها .. ومنطقها قوي .. وإن كان وقعها علينا نحن الكتاب الاسلاميين أثقل من الجبال! لأنا تعودنا أن نكتب في مسائل الدين بآرائنا .. ولأنا أبناء عصر الثقافة الغربية وعصر الإنسان الغربي الذي أعطى لنفسه حق الإله في تحليل الدين ، بل في اختراع دين ودعوة الناس إليه !

لا أريد أن ألغي دور العقل في فهم الدين وتحليله ، ولا أن أتغاضى عن آيات القرآن التي تؤكد على دور العقل وتدعو الى التفكير والبحث .. الخ .

ولكني أريد ( عقلنة ) دور العقل ، والوقوف به عند المدركات العقلية القطعية أو التي عليها حجة شرعية .. فقد خلط الكتاب الإسلاميون المعاصرون بين النتائج العقلية المعتبرة وبين الظنون والاحتمالات ، فحملوا الإسلام ورسول الإسلام ورب الإسلام ظنونهم واحتمالاتهم ! وصار دور ( العقل ) دور الاندفاع مع العاطفة وتحميل الإسلام أثقالاً من ظنون العباد وتصوراتهم !

هل رأيتم صاحب مبدأ أرضي أعطى لكل أحد الحق في فهم مبدئه وتقديمه الى الناس باسمه ؟!

هل رأيتم مشرعاً أرضياً أو دولة ، أعطت لكل الناس الحق في فهم قوانينها وتطبيقها حسب فهمهم ؟!

وإذا كان تفسير المبادئ والقوانين الأرضية مسألة حساسة خاضعة لقوانين وشروط في التفسير والمفسر . فكيف يكون تفسير الإسلام مشاعاً لكل أحد ؟ وفوضى بلا ضوابط ؟!

أيها الأخوة المتدينون الذين تحبون الله ورسوله ، وتحبون أن تقدموا الإسلام الى الناس وتدعوهم اليه وتدفعوا عنه التصورات الخاطئة والشبهات المغرضة .. شكراً لكم على هذا الإهتمام والإخلاص .. لكن هل أنتم أهل اختصاص ، وهل عندكم من مقومات البحث والاجتهاد ما يجوز لكم تفسير الدين وتقديمه الى الناس ؟! وهل يكفي أحدنا يوم القيامة أن يقول لربه تعالى :

كانت الحملة الغربية على الإسلام واسعة وشرسة ، وكان العلماء المختصون قليلين فتصدينا للقيام بهذا الواجب ؟!

ما أدري .. فقد يقبل الله تعالى هذا الجواب ، خاصة من أصحاب النوايا الطيبة وهم كثيرون في الكتاب غير المجتهدين ، والحمد لله . ولكن أليس هذا كجواب المعلم أو البقال الذي ترك دكانه وعمل طبيباً يعالج الناس طوال عمره ، وأعد لآخرته جواباً أن يقول : يا رب ، كثر المرضى في بلدي وقل الأطباء ، فعملت طبيباً للناس مع قلة علمي !

مهما يكن من أمر ، فإذا جاز في ظروف معينة أن يكتب في الإسلام كتاب لا يملكون اجتهاداً وتخصصاً ، فهل يصح أن يصير ذلك قاعدة دائمة ؟! وهل يغيب عنا ونحن في عصر التخصص أنه لا يجوز أن يعمل في الطب أو يكتب فيه إلا المتخصص ، ولا في الفيزياء إلا المتخصص ؟! فهل أن التخصص في الإسلام أهون من التخصص في الطب والفيزياء والرياضيات ؟! وهل يجب أن يكون ما حدث ويحدث في مصر قاعدة تتبع ..؟!

كلا .. بل لا بد من ضوابط تحدد مواصفات الكتاب والباحثين والمجتهدين والقادة في الإسلام .. ولا بد للعلماء أن يبينوها ويوضحوها .. ولا بد للكاتب الإسلامي الذي ليس عنده اجتهاد في مجال كتابته عندما يمسك القلم ، أن يفكر ملياً : هل يجري القلم له أو عليه !

4 ـ تعويم الإجتهاد في جزيرة الوهابيين

من المعروف أن مصر كانت أول من تصدى للحركة الوهابية منذ نشأتها .. فقد كتب علماء الأزهر وكتاب مصر مقالات كثيرة وألفوا كتباً عديدة في رد فكر الوهابية وفقهها ، ثم تصدت مصر سياسياً حتى أنها قامت بالحملات العسكرية المصرية المعروفة على الحجاز .. وقد تواصل ذلك الصراع السياسي حتى عهد عبدالناصر ، وكانت نتيجته قبل عبد الناصر عودة الروح مراراً إلى الحركة الوهابية حتى تمت لها السيطرة على الحجاز .. وكانت نتيجته بعد عبد الناصر أن توجت المملكة العربية السعودية ملكة على العرب والمسلمين .

هذا ولكن نتيجة الصراع الفكري كانت بالعكس ، فقد أثرت مصر على الوهابية تأثيراً كبيراً ، ولم تتأثر بها إلا ضئيلاً !

لقد انحصر تأثير الوهابية على مصر رغم جهودها الضخمة بأن الوهابية ملكت في مصر شبكة مؤسسات للنشر والدعاية ، وشريحة صغيرة متأثرة بأفكارها أو مرتزقة من أفكارها .. وكلها مرشحة لأن تنتهي في أي وقت توقف مددها !

لكن لو لم يكن لمصر تأثير على الوهابية إلا تبني الوهابية لنظرية التعويم المصري للاجتهاد لكفى !

فمن المفارقات أن علماء المذهب الوهابي مقلدون في العقائد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومقلدون في الفقه للشيخ ابن تيمية وتلامذته ، تقليداً حنبلياً ، ومع ذلك فهم يحاولون أن يظهروا بمظهر المجتهدين المتحررين من التقليد لمذهب معين ، سواء المذاهب الأربعة أو غيرها ، ولذا تراهم يرددون مقولة أن يرجع المسلم إلى مصادر الشريعة ويأخذ بما يغلب على ظنه ويجتهد ويفتي .. فمن أين جاءهم فتح باب الإجتهاد هذا ، إلا من مصر ..؟!

بل نلاحظ أن فتاواهم أكثر ميلاً إلى العصرنة ، وأكثر إفراطاً في تسهيل أمرالاجتهاد من المصريين !

قد تجد في مصر معلمة تقرأ شيئاً عن الدين وتفتي لتلميذاتها .. ولكن لم نسمع أن شيخ الأزهر أعطاها ( شهادة مجتهدة ) يحق لها بموجبها أن تفتي .. بينما أعطت هيئة علماء الوهابيين الشهادة التالية لهذه المعلمة كما جاء في كتاب : فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في المملكة العربية السعودية مجلد 5 صفحة 48 ـ 49

- السؤال الأول من الفتوى ، رقم 4798

س : أنا مدرسة دين متخرجة من الكلية المتوسطة قسم دراسات إسلامية وقد اطلعت على مجموعة من الكتب الفقهية ، فما هو الحكم حين أسأل من قبل الطالبات فأجاوبهن على حسب معرفتي أي عن طريق القياس والإجتهاد دون التدخل في أحكام الحرام والحلال ؟

ج : الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد : عليك مراجعة الكتب والاجتهاد ثم الإجابة بما غلب على ظنك أنه الصواب ولا حرج عليك في ذلك ، أما إذا شككت في الجواب ولم يتبين لك الصواب فقولي لا أدري وعديهن بالبحث ثم أجيبيهن بعد المراجعة ، أو سؤال أهل العلم للاهتداء إلى الصواب حسب الأدلة الشرعية . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عضو : عبدالله بن قعود عضو : عبدالله بن غديان

نائب الرئيس : عبدالرزاق عفيفى الرئيس : عبدالعزيز بن عبدالله بن باز

السؤال الثالث من الفتوى رقم 4400

س : هل أن من لم يحفظ ستة آلاف حديث فلا يحل له أن يقول لأحد هذا حلال وهذا حرام، فليتوضأ وليصل صلاته فقط .

ج : الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد: كل من تعلم مسألة من مسائل الشريعة الإسلامية بدليلها ووثق من نفسه فيها فعليه إبلاغها وبيانها عند الحاجة ولو لم يكن حافظا للعدد المذكور في السؤال ... اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء ( نفس التواقيع )

هل يعرف هؤلاء السادة العلماء أن معنى فتواهم : أنه يجوز لأغلب الذين يقرؤون ويكتبون أن يفتوا ويقولوا : هذا دين الله تعالى ، وهذا حلال وهذا حرام . وتكون فتوى أحدهم صحيحة مبرئة لذمته وذمة من يعمل بها ؟!

وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا يحمل هؤلاء الفقهاء خشبة الخلاف مع المسلمين ويكفرون باجتهاداتهم..؟ مع أن أصل الفكر الوهابي ليس أكثر من اجتهاد شخص في فهم أصول الدين ، هو محمد بن عبد الوهاب ، واجتهاد عدة أشخاص في فهم فروع الدين ، هم ابن تيمية وتلاميذه ؟!

لكن يظهر أنهم يقولون : إن الإجتهاد حلال لاتباع المذهب الوهابي دون غيرهم من المسلمين !

5 ـ أصل مصيبة التعويم من العمل بالظن

يقوم منهج الاستنباط في مذهب أهل البيت عليهم السلام على ضرورة تحصيل العلم بالحكم الشرعي .. فإن لم يحصل للمجتهد العلم بالحكم من الكتاب والسنة ، فلا يجوز له الاعتماد على ظنه مهما كانت درجته عالية ، إلا إذا ثبت اعتبارهذا الظن من الشريعة بدليل قطعي يصلح أن يكون حجة للمجتهد أو حجة للمكلف .

فالاجتهاد الفقهي عندنا يتجه دائماً إلى تحصيل (الحجة القطعية) من الكتاب أو السنة أو العقل ، إماعلى الحكم الشرعى مباشرة ، أوعلى مايجب عمله عند الشك في حكم الله تعالى .. فهو في كلا المرحلتين يبحث عن العلم أو الحجة ، ما شئت فعبر .

بينما يقوم منهج الإستنباط في الفقه السني على طلب العلم بالحكم أولاً ، فإن لم يحصل للمجتهد علم بالحكم من الكتاب أوالسنة ، انتقل فوراً الى اجتهاد الرأي ، الذي يعني اتباع الظن الحاصل للمجتهد مهما كانت درجته نازلة ، بل يعني الاكتفاء بما هو أقل من الظن كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، التي لا تفيد غالباً أكثر من مجرد الاحتمال !

وبسبب هذا الفرق في منهج الاستنباط تفاوت معنى الحكم الشرعى فصار معناه عندنا ( ماعلم أنه حكم الله تعالى بالعنوان الأولي ، أو ما علم أنه حكمه تعالى لحالة الشك في الحكم ) بينما صار عند إخواننا السنة ( ماعلمه المجتهد أو ظنه أو احتمله أنه حكم الله تعالى ) !

وبسبب هذا الفرق أيضاً كان معنى دليل العقل في استنباط الاحكام عندنا: حجية مدركاته القطعية فقط ، لأنها وحدها تنهض بتنجيز التكليف على المكلف وتعذير المكلف بين يدي الله تعالى .. دون المدركات الظنية والاحتمالية . بينما معناه عند إخواننا السنة : حجية مايدركه العقل إدراكاً قطعياً أو غير قطعي .

وبسببه كان معنى التقليد عند الشيعة : الالتزام بالتعبد بما وصل إليه المجتهد من علم بالحكم الشرعى ، أو علم بما يجب عمله عند الشك في الحكم الشرعى .. بينما معنى التقليد عند إخواننا السنة : الالتزام بالتعبد بما وصل إليه إمام المذهب أو فلان المجتهد من اختيار للحكم الشرعى عن علم أو ظن أواحتمال !

وإذا عرفنا أن نسبة الاحكام التي يعتمد فيها أصحاب هذا المنهج على ظنهم واحتمالهم قد تبلغ ثلث فروع الفقه مثلاً ، فذلك يعني أن ثلث ما يأخذه العوام على أنه أحكام الله تعالى ماهو إلا ظنون واحتمالات .. لا أكثر! والأمر ليس أفضل من ذلك في تفاصيل العقائد !!

وفي اعتقادي أن ( بازار ) الظنون والاحتمالات سيبقى قائماً في مجتمعات إخواننا السنة حتى ينهض فقهاؤهم ويضعوا ضوابط علمية لهؤلاء المزدحمين في سوق الإجتهاد ، وأولئك المتجهين للدخول من أبوابه الواسعة !!

6 ـ مشكلة تعويم القيادة ليست أقل خطراً

من الذي له حق أن يقود المسلمين ويأمر وينهى ؟

من الذي له حق الحكم على أعلى مستوى .. وعلى مستويات أقل ؟

أما في زمن النبي صلى الله عليه وآله فالمسلمون متفقون على أن النبي وحده صاحب هذا الحق .

وأما في عصرنا فالمذهب الغربي أن حق الحكم لمن غلب ، مهما كانت وسائله في الغلبة ! والظاهر أن مذاهب إخواننا السنة تميل الى هذا الرأي لأنها تعتبر أن من غلب وتسلط فقد صار حاكماً شرعياً واجب الإطاعة ، ولا تسأل عن سلوكه ووسائله في الوصول الى الحكم !

وإذا تبنى المسلمون تعويم حق القيادة والحكم في أعلى مستوى في الجميع ، يكون ثبوته في المستويات الأقل بطريق الأولى .

ومعنى ذلك أن لكل إنسان الحق في أن يتصدى للوجاهة والأمر والنهي والقيادة ، على مستوى قريته أو محلته أو محيط عمله .. فإن ( توفق ) وأطاعه آخرون فهو ( أمير ) شرعي عليهم !

ومعنى ذلك أنه لا فرق بين نظرية القيادة والإمرة في الإسلام وفي الثقافة الغربية أبداً ، فهي قانوب المغالبة والغلبة الحاكم في الجاهلية الأولى والثانية ، الذي أقره الاسلام !!

ومعنى ذلك أن مجتمعاتنا سوف لا تعرف الهدوء ، لأن باب الفتوى والقيادة مفتوحان على مصراعيهما ، ورغبة الفتوى والقيادة ضاربة جذورها في شخصية الإنسان ، وبما أن المجتمع لا يتحمل تحقيق مجموع هذه الرغبات، فلا نتيجة إلا الصراع وامتلاء المجتمع بغابة الاتجاهات والقيادات !

7 ـ مذهب التشيع تحت الأضواء

فاجأ الامام الخمينى العالم بأنه استعمل في ثورته طاقة جديدة هي طاقة التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ..

وذهل الغرب واتجهت أنظاره وبحوثه لمعرفة نوع هذه الطاقة وكمية مخزونها .. وسلط أضواءه على التشيع وقدرته السياسية .

وبهرت الشعوب الإسلامية السنية بهذا الحدث المفرح الذي هز العالم ، واتجهت أنظارها لمعرفة التشيع من ناحية عقائدية وفقهية وروحية .

وبذلك صار مطلوب الجميع: معلومات، أفكار ، تحليلات ، مقالات ، كتب ، فتاوى.. عن الشيعة والتشيع . وبذلك انفتح السوق العالمي أمام الفكر الشيعي وإن كانت كتبه ممنوعة .. فأول الذين يقرؤونها هم الذين يمنعونها!

وكثرت الكتابات والخطابات عن عقائد الشيعة وفقههم وتاريخهم وآرائهم وشخصياتهم ، من علماء وكتاب وخطباء شيعة وغير شيعة .. كتابات من كل نوع ، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بالتعبير المعاصر ، وكثر العرض بسبب زيادة الطلب ، حتى اختلط الحابل بالنابل وضاعت في كثير من الأحيان قدرة القارئ على تمييز ما هو أصيل من مذهب التشيع أو غريب عنه ملصق به .

ودخلت على الخط تأثيرات التعويم المصري للاجتهاد ، فبرز المتأثرون بها من الشيعة وغيرهم يفتون بظنونهم وينسبونها إلى التشيع !

بل وصل الأمر إلى أنهم نسبوا اليه مدرسة العمل بالظن في أمور الدين التي أسسها الخليفة عمر بن الخطاب وقاومها الائمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، مقاومة شديدة !!

ولم يقتصر الأمر على الفتاوى ، بل تعداه الى عقائد الشيعة ، فرأينا فيها كتابات وفتاوى متنوعة ، وأحياناً متضادة خاصة في التفاصيل الأولى والثانية ، وبالأخص في فهم شخصيات الأئمة عليهم السلام ، وفهم عقيدة الإمامة وأهداف الله تعالى ورسوله من اعتماد نظام إمامة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله في الأمة .

وقد أوجبت هذه الحالة المعاصرة على مراجع المذهب أن يراقبوا الساحة العقائدية مراقبة أكبر ، وأن يوجهوا جهودهم الى توضيح عقيدة التشيع وتعميم تفهيمها للناس !

8 ـ رأي علماء الشيعة في الثابت والمتغير

واجه فقهاؤنا عبر العصور التعارض بين مسألتين : مسألة مراعاة الظروف المتجددة المتطورة ، ومسألة الحفاظ على عقائد الإسلام وأحكامه .. وقبل العلماء واجه الائمة من أهل البيت عليهم السلام هاتين المسألتين فكانوا أعظم قدوة فيما يجب الحفاظ عليه والثبات مهما كانت التكاليف ، وفيما هو مفتوح لتغير الزمان وتطور الحياة ..

والمتتبع لسيرة علماء الشيعة وفقههم يلاحظ أنهم اهتدوا بهدى أئمتهم عليهم السلام فمثلوا الثبات على الأصالة والنقاء حيث يجب ، والإنفتاح على الأوضاع الجديدة حيث يجوز .. وبذلك تَكَوَّنَ في فقههم خط عام سلكه الفقهاء المتأخرون واحترموه وحرصوا عليه ، لأنه يمثل حصيلة فهم الفقهاء والنوابغ عبر العصور حتى يصل إلى مصدر الفقه والفهم ، الأئمة الطاهرين عليهم السلام ..

ولا يعني ذلك إغلاق باب الإجتهاد في المذهب الشيعي ، بل يعني أن للاجتهاد فيه شروطاً وضعها النبي والأئمة من آله صلى الله عليه وآله وأخذت شكلهاعلى أيدي تلاميذهم فقهاء المذهب رضوان الله عليهم ، فصارت مما يؤمن به مراجع التقليد وطلبة العلوم الدينية ، ويشعر بها المتفقهون من جمهور الشيعة أينما وجدوا.. وأن الإجتهاد إن كان ضمن هذه الشروط تقبله فقهاء المذهب وجمهوره سواء وصفت نتائجه بأنها تميل إلى المحافظة أو تميل إلى التجدد .. أما إذا تخطى شروطه فإن حساسيتهم تعمل، وينهضون لمعالجة الحالة لأنها نشاز جاء من خلل في الفهم العلمي، أو من سبب آخر !

على هذا سار التاريخ الفقهي والعقائدي للشيعة .. وكانت تحدث نشازات في هذا القرن أو ذاك ، وفي هذه المسألة أو تلك ، ولكنها كانت تنتهي دائماً لمصلحة الفقه والعقائد المؤصلة عند فقهاء المذهب وجمهوره.. ويذهب النشاز بعيداً ليكون شيئاً منفصلاً عن المذهب !

وتشمل شروط الإجتهاد في مذهبنا : المجتهد والمنهج والمجال .. فهذه الشروط الثلاثة بمثابة شروط الفارس والفرس والميدان في السباق .. فكما أنه إذا اختل شرط منها فلا ميدان ولا سباق .. كذلك إذا اختل شرط في الإجتهاد فلا اجتهاد ولا فتوى ..

وفي تقديري أن ضغط طلب المعرفة الغربي ، وتأثير تعويم الإجتهاد المصري سيبقى إلى مدة من الزمن يلقي بآثاره على الكتابات عن التشيع وعلى ( فتاوى ) بعض المتصدين للفتوى من مدعي الخبرة بالتشيع ومدعي تمثيل الشيعة . وأن هذه المسألة ستفرض على مراجع الدين الأجلاء التصدي الى ظواهر النشاز الفقهية والعقائدية وتحذير الناس منها ، مضافاً الى جهودهم في توضيح معالم المذهب الفقهية والعقائدية

المقالات
جواب على شبهة شيخ وسيد في رؤية الإمام المهدي (عج) في غيبته الكبرى

بسـم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

له غيبتان يعلم بمكانه فيهما خاصته

منذ أن ولد الإمام المهدي(ع) سنة 255هجرية الى غيبته الكبرى سنة 329 ، كان متخفياً عن السلطة التي كانت تبحث عنه بشدة ، لكن رآه والتقى به مئات الناس ، وكان له سفراء يأخذون مسائل الناس وسؤالاتهم ، ويردون اليهم أجوبتها .

وبدأت غيبته الكبرى بوفاة آخر السفراء علي بن محمد السمري رضي الله عنه ، حيث أمره الإمام(ع) أن لا يعهد بالسفارة الى أحد بعده ،لأن الغيبة التامة بدأت حتى يأذن الله تعالى بالظهور ، وقد استمرت الى يومنا هذا ، وتستمر حتى يأذن الله تعالى له بالظهور ، فيتحرك من مكة الى المدينة ثم الى العراق ودمشق والقدس،حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وهاتان الغيبتان هما اللتان أخبر بهما النبي(ص) والأئمة من عترته .

قال الإمام الصادق(ع) (1/340): (للقائم غيبتان:إحداهما طويلة ، والأخرى قصيرة ، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه ).

ملاحظات

1. سند الحديث صحيح بدرجة عاليه : محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن إسحاق بن عمار.

ورواه النعماني بتفاوت يسير في الغيبة/175.

وهو يدل على أن خاصة شيعته كانوا يعلمون مكانه في غيبته الأولى ، وهم أنواع ومستويات ، أما في الثانية فيعلم مكانه خاصة مواليه في دينه ، وهم مستوى عالٍ من شيعته الموثوقين .

بل يدل تعبير يعلمون بمكانه ، على أن هؤلاء المجموعة أعلى مرتبة ممن يشاهده مجرد مشاهدة ، أو يلتقي به مجرد لقاء ، بل يعرفون مكان سكنه وأمكنة تحركه .

وربما كان هؤلاء أنفسهم الثلاثين الذين ترتفع بهم وحشته وربما كانوا غيرهم . فالعلم بمكانه رتبة عالية ، ولقاؤه رتبة أقل منها ، ومطلق مشاهدته رتبة أقل منها ، فاحفظ ذلك لما يأتي .

ومن الطبيعي أن يوجد غيرالذين يعرفون مكانه ، مؤمنون يتشرفون بلقائه ويكلمونه ، ودونهم مؤمنون يرونه مجرد رؤية وربما يكلمونه .

2. ويوجد حديث صحيح آخرعن الإمام الصادق(ع) يدل على إمكانية المشاهدة في الغيبة الكبرى أيضاً :

رواه في الكافي (1/340) ورواه النعماني في الغيبة/194 :

قال(ع) : (لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة ، ولا بد له في غيبته من عُزلة ، ونعم المنزل طيبة ، وما بثلاثين من وحشة ).

ومعناه أن أصل مسكنه في غيبته يكون المدينة المنورة ، وأنه يكون في عزلة عن عموم الناس ، لكنه يعيش أو يلتقي بثلاثين مؤمن ، من خاصته وأعوانه ، وقد يكون هؤلاء نفس مواليه في دينه الذين ذكرهم الحديث الصحيح الأول ، وقد يكونون غيرهم ، ممن يكلفهم بمهام في أنحاء الأرض ، ولا يشترط أن يعلموا دائماً بمكانه .

3. وحديث آخر معتبر يدل على إمكانية مشاهدته ، وهو حديث مصاحبة الخضر له(ع) :

رواه في كمال الدين (2/390 ) قال : ( حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي العمري السمرقندي رضي الله عنه قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود ، عن أبيه محمد بن مسعود ، عن جعفر بن أحمد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(ص) يقول: إن الخضر(ع) شرب من ماء الحياة فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور ، وإنه ليأتينا فيسلم فنسمع صوته ولا نرى شخصه ، وإنه ليحضر ما ذكر ، فمن ذكره منكم فليسلم عليه ، وإنه ليحضر الموسم كل سنة ، فيقضي جميع المناسك ، ويقف بعرفة فيؤمن على دعاء المؤمنين ، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته.

والمقصود أن الخضر(ع) يشاهده ويعيش معه في غيبته، أو يتواصل معه. وبما أن مقام الإمام المهدي أعلى من مقام الخضر(ص) ، فهو يعمل بأمره والإمام يعلم بمكانه، لكن لا يلزم أن يعلم الخضر بمكان الإمام(ع) .

قصص صحيحة لا يمكن ردها ولا تأويلها

أضف الى ما تقدم ، أن عدداً من الثقات العدول الأصحاء الأبدان والأذهان ، أخبروا أنهم رأوه(ع) في قصص صحيحة لايمكن ردها:

1. منها : قصة جعفر بن محمد بن قولويه(قدس سره) أستاذ الشيخ المفيد(قدس سره) ومؤلف كتاب جامع الزيارات ، قال: ( لما وصلتُ بغداد في سنة سبع وثلاثين للحج وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجر إلى مكانه من البيت ، كان أكبر همي بمن ينصب الحجر ، لأنه مضى في أثناء الكتب قصة أخذه ، وأنه ينصبه في مكانه الحجة في الزمان ، كما في زمن الحجاج وضعه زين العابدين(ع) في مكانه فاستقر . فاعتللت علة صعبة خفت فيها على نفسي ، ولم يتهيأ لي ما قصدت له فاستنبت المعروف بابن هشام ، وأعطيته رقعة مختومة أسأل فيها عن مدة عمري ، وهل تكون المنية في هذه العلة أم لا ؟ وقلت همي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه ، وأخذ جوابه ، وإنما أندبك لهذا . فقال المعروف بابن هشام: لما حصلت بمكة وعزم على إعادة الحجر في مكانه ، وأقمت معي منهم من يمنع عني ازدحام الناس، فكلما عمد إنسان لوضعه اضطرب ولم يستقم، فأقبل غلامٌ أسمر اللون حسن الوجه ، فتناوله ووضعه في مكانه فاستقام كأنه لم يزل عنه ، وعلت لذلك الأصوات ، فانصرف خارجاً من الباب ، فنهضت من مكاني أتبعه ، وأدفع الناس عني يميناً وشمالاً ، حتى ظُنَّ بي الإختلاط في العقل ، والناس يفرجون لي ، وعيني لا تفارقه حتى انقطع عن الناس ، وكنت أسرع الشدة خلفه وهو يمشي على تؤدة ولا أدركه ، فلما حصل بحيث لا يراه أحد غيري وقف والتفت إليَّ فقال: هات ما معك ، فناولته الرقعة فقال من غير أن ينظر فيها ، قل له لا خوف عليك في هذه العلة ويكون ما لابد منه بعد ثلاثين سنة. قال: فوقع عليَّ الزَّمَع، حتى لم أطق حراكاً ، وتركني وانصرف . قال أبو القاسم: فأعلمني بهذه الجملة ، فلما كانت سنة سبع وستين ، اعتل أبو القاسم فأخذ ينظر في أمره وتحصيل جهازه إلى قبره ، وكتب وصيته واستعمل الجد في ذلك ، فقيل له: ما هذا الخوف وترجو أن يتفضل الله بالسلامة فما عليك مخوفة؟ فقال: هذه السنة التي وعدت وخوفت منها، فمات في علته ) .

أقول: وقعت هذه الحادثة سنة 337 ، أي بعد أن بدأت الغيبة الكبرى بثمان سنوات ، لأن الغيبة بدأت سنة 229. وسند القصة صحيح لا مجال للطعن فيه .

(كامل الزيارات/19، والخرائج:1/477، وفرج المهموم/255، وغيرها) .

والذي رآه رسوله ومعتمده ابن هشام ، هو نفس الإمام(ع) ، ولا مجال للقول بأنه شخص أرسله ، لأن وضع الحجر مكانه من مختصاته(ع) ، وإخباره عن مدة حياة جعفر بن قولويه معجزةٌ ، تثبت صحة الحادثة .

2. قال علي بن عيسى الأربلي الثقة المتوفى 693،في كتابه كشف الغمة (3/296): (وأنا أذكر من ذلك قصتين قرب عهدهما من زماني، وحدثني بهما جماعة من ثقات إخواني: كان في بلاد الحلة شخص يقال له إسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقال لها هرقل ، مات في زماني وما رأيته ، حكى لي ولده شمس الدين قال: حكى لي والدي أنه خرج فيه وهو شباب على فخذه الأيسر توثة مقدار قبضة الانسان ، وكانت في كل ربيع تشقق ويخرج منها دم وقيح ، ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله ، وكان مقيماً بهرقل ، فحضر الحلة يوماً ودخل إلى مجلس السعيد رضي الدين علي بن طاووس(رحمه الله) وشكا إليه ما يجده منها ، وقال أريد أن أداويها ، فأحضر له أطباء الحلة وأراهم الموضع ، فقالوا هذه التوثة فوق العرق الأكحل وعلاجها خطر،ومتى قطعت خيف أن ينقطع العرق فيموت.

فقال له السعيد رضي الدين قدس الله روحه: أنا متوجه إلى بغداد وربما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء ، فاصحبني ، فأصعد معه وأحضر الأطباء فقالوا كما قال أولئك ، فضاق صدره فقال له السعيد: إن الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب ، وعليك الإجتهاد في الإحتراس ، ولا تغرر بنفسك ، فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله .

فقال له والدي: إذا كان الأمر على ذلك ، وقد وصلت إلى بغداد فأتوجه إلى زيارة المشهد الشريف بسر من رأى على مشرفه السلام ، ثم أنحدر إلى أهلي، فحسَّنَ له ذلك فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجه .

قال: فلما دخلت المشهد وزرت الأئمة(ع) ، ونزلت السرداب واستغثت بالله تعالى وبالإمام(ع) ، وقضيت بعض الليل في السرداب ، وبتُّ في المشهد إلى الخميس ثم مضيت إلى دجلة واغتسلت ولبست ثوباً نظيفاً وملأت إبريقاً كان معي ، وصعدت أريد المشهد ، فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور ، وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتهم منهم فالتقينا ، فرأيت شابين أحدهما عبدٌ مخطوط ، وكل واحد منهم متقلدٌ بسيف ، وشيخاً منقباً بيده رمح ، والآخر متقلد بسيف وعليه فرجية ملونة فوق السيف ، وهو متحنك بعذبته ، فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ، ووضع كعبه في الأرض ، ووقف الشابان عن يسار الطريق ، وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي ، ثم سلموا عليه فرد عليهم السلام فقال له صاحب الفرجية: أنت غداً تروح إلى أهلك؟ فقال: نعم ، فقال له: تقدم حتى أبصر مايوجعك ، قال فكرهت ملامستهم وقلت في نفسي: أهل البادية ما يكادون يحترزون من النجاسة وأنا قد خرجت من الماء ، وقميصي مبلول ثم إني بعد ذلك تقدمت إليه فلزمني بيده ، مدني إليه وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده التوثة فعصرها بيده فأوجعني ، ثم استوى في سرجه كما كان ! فقال لي الشيخ: أفلحت يا إسماعيل ، فعجبت من معرفته باسمي ! فقلت: أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله .

قال فقال لي الشيخ: هذا هو الإمام ، قال: فتقدمت إليه فاحتضنته وقبلت فخذه ، ثم إنه ساق وأنا أمشي معه محتضنه فقال: إرجع ، فقلت: لا أفارقك أبداً . فقال: المصلحة رجوعك ، فأعدت عليه مثل القول الأول ، فقال الشيخ: يا إسماعيل ما تستحيي يقول لك الإمام مرتين إرجع ، وتخالفه ؟! فجبهني بهذا القول فوقفت ، فتقدم خطوات والتفت إلي وقال: إذا وصلت بغداد ، فلا بد أن يطلبك أبو جعفر ، يعني الخليفة المستنصر ، فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئاً فلا تأخذه ، وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى علي بن عوض ، فإنني أوصيه يعطيك الذي تريد ! ثم سار وأصحابه معه ، فلم أزل قائماً أبصرهم إلى أن غابوا عني ، وحصل عندي أسف لمفارقته ، فقعدت إلى الأرض ساعة ، ثم مشيت إلى المشهد فاجتمع القوام حولي ، وقالوا نرى وجهك متغيراً ، أأوجعك شئ ؟ قلت: لا . قالوا: أخاصمك أحد ؟ قلت: لا ، ليس عندي مما تقولون خبر ، لكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم ؟فقالوا: هم من الشرفاء أرباب الغنم . فقلت: لا ، بل هو الإمام(ع) ! فقالوا: الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية؟ فقلت: هو صاحب الفرجية ، فقالوا: أريته المرض الذي فيك ؟ فقلت: هو قبضه بيده وأوجعني ثم كشفت رجلي ، فلم أر لذلك المرض أثراً ، فتداخلني الشك من الدهش ، فأخرجت رجلي الأخرى فلم أر شيئاً ، فانطبق الناس علي ومزقوا قميصي ، فأدخلني القُوَّامُ خزانةً ومنعوا الناس عني . وكان ناظرٌ بين النهرين بالمشهد فسمع الضجة وسأل عن الخبر فعرفوه ، فجاء إلى الخزانة وسألني عن إسمي ، وسألني منذ كم خرجت من بغداد فعرفته أني خرجت في أول الأسبوع ، فمشى عني . وبت في المشهد وصليت الصبح وخرجت ، وخرج الناس معي إلى أن بعدت عن المشهد ورجعوا عني ، ووصلت إلى أوانا فبتُّ بها ، وبكرت منها أريد بغداد ، فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة ، يسألون من ورد عليهم عن إسمه ونسبه وأين كان؟ فسألوني عن إسمي ومن أين جئت فعرفتهم فاجتمعوا عليَّ ومزقوا ثيابي ، ولم يبق لي في روحي حكم ، وكان ناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرفهم الحال . ثم حملوني إلى بغداد ، وازدحم الناس علي وكادوا يقتلونني من كثرة الزحام وكان الوزير القمي رحمه الله تعالى قد طلب السعيد رضي الدين(رحمه الله) وتقدم أن يعرفه صحة الخبر .

قال: فخرج رضي الدين ومعه جماعة ، فوافينا باب النوبي فرد أصحابه الناس عني فلما رآني قال: أعنك يقولون؟ قلت: نعم؟ فنزل عن دابته وكشف عن فخذي فلم ير شيئاً ، فغشي عليه ساعة ، وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو يبكي ويقول: يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي ، فسألني الوزير عن القصة فحكيت له ، فأحضر الأطباء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها ، فقالوا: ما دواؤها إلا القطع بالحديد ، ومتى قطعها مات ! فقال لهم الوزير: فبتقدير أن تقطع ولا يموت في كم تبرأ ؟ فقالوا في شهرين وتبقى في مكانها حفيرة بيضاء ، لا ينبت فيها شعر . فسألهم الوزير: متى رأيتموه ؟ قالوا: منذ عشرة أيام . فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم ، وهي مثل أختها ليس فيها أثر أصلاً ، فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح ! فقال الوزير حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف من عملها .

ثم إنه أحضر عند الخليفة المستنصر رحمه الله تعالى فسأله عن القصة ، فعرفه بها كما جرى ، فتقدم له بألف دينار، فلما حضرت قال: خذ هذه فأنفقها ، فقال : ما أجسر آخذ منه حبة واحدة ! فقال الخليفة: ممن تخاف ، فقال من الذي فعل معي هذا ! قال لا تأخذ من أبي جعفر شيئاً ، فبكى الخليفة وتكدر ! وخرج من عنده ولم يأخذ شيئاً !

قال أفقر عباد الله تعالى إلى رحمته علي بن عيسى عفا الله عنه: كنت في بعض الأيام أحكي هذه القصة لجماعة عندي، وكان هذا شمس الدين محمد ولده عندي وأنا لا أعرفه فلما انقضت الحكاية قال: أنا ولده لصلبه ، فعجبت من هذا الإتفاق وقلت: هل رأيت فخذه وهي مريضة ؟ فقال: لا ، لأني أصبو عن ذلك، ولكني رأيتها بعدما صلحت ولا أثر فيها ، وقد نبت في موضعها شعر.

وسألت السيد صفي الدين محمد بن محمد بن بشر العلوي الموسوي ، ونجم الدين حيدر بن الأيسر رحمهما الله تعالى، وكانا من أعيان الناس وسراتهم وذوي الهيئات منهم ، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي ، فأخبراني بصحة هذه القصة وأنهما رأياها في حال مرضها ، وحال صحتها ، وحكى لي ولده هذا: أنه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه(ع) ، حتى أنه جاء إلى بغداد ، وأقام بها في فصل الشتاء ، وكان كل أيام يزور سامراء ويعود إلى بغداد ، فزارها في تلك السنة أربعين مرة طمعاً أن يعود له الوقت الذي مضى أو يقضي له الحظ بما قضى ، ومن الذي أعطاه دهره الرضا ، أو ساعده بمطالبة صرف القضاء ، فمات(رحمه الله) بحسرته ، وانتقل إلى الآخرة بغصته ، والله يتولاه وإيانا برحمته ، بمنه وكرامته ).

ثم قال الإربلي: (وحكى لي السيد باقي بن عطوة العلوي الحسيني أن أباه عطوة كان به أُدْرَة (فتق كبير) وكان زيدي المذهب ، وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإمامية ويقول: لا أصدقكم ولا أقول بمذهبكم حتى يجئ صاحبكم يعني المهدي فيبرئني من هذا المرض، وتكرر هذا القول منه ! فبينا نحن مجتمعون عند وقت عشاء الآخرة ، إذ أبونا يصيح ويستغيث بنا ، فأتيناه سراعاً فقال: إلحقوا صاحبكم، فالساعة خرج من عندي ، فخرجنا فلم نرَ أحداً فعدنا إليه وسألناه فقال:إنه دخل إلي شخص وقال: يا عطوة ، فقلت: من أنت ؟ فقال: أنا صاحب بنيك قد جئت لأبرئك مما بك ، ثم مد يده فعصر فروتي ومشى، ومددت يدي فلم أر لها أثراً ! قال لي ولده: وبقي مثل الغزال ليس به قُلْبَه . واشتهرت هذه القصة وسألت عنها غير ابنه فأخبر عنها ).

قصص الشيخ إسماعيل نمازي

حدثني الثقة الشيخ اسماعيل نمازي(رحمه الله) بقصص تشـرفه بلقاء الإمام المهدي روحي فداه ، ومنها قصته المعروفة في طريق الحج ، قال:

كنا عائدين من الحج ومقصدنا البصـرة ، وكانت السيارات تسير في قوافل مع دليل من الشرطة، لأن الطريق صحراوي ليس فيه جادة معبدة . فقال سائقنا: لماذا نتقيد بالقافلة وبطئها وغبارها ، وأنا أعرف الطريق ! فانفصل عن القافلة ، وسرنا في الصحراء باتجاه البصرة .

كانت سيارتنا تسع 18راكباً ، وكان معنا سائقان باسم محمود وأصغر يتعاونان . لكن في رجوعنا أصر أصغر على أن يسبق سيارات القافلة ليخلص من غبارها ، ولم أوافق معه لأني أخاف الضياع في صحراء الحجاز فهم لايسيرون فيها إلا بدليل ، لكن أصغر لم يسمع كلامي وقال معنا ماء وبنزين كاف ، فسرنا أمام القافلة حتى جنَّ علينا الليل وقد ضيعنا الطريق ، فصحنا بالسائق وأمرناه أن يتوقف عن السير الى الصباح لعلنا نجد الطريق الأصيل .

وفي الصباح عزمنا على الرجوع من الطريق الذي أتينا فيه ، لكن الرياح الصحاروية كانت قد غطت الطريق فلم نستطع الرجوع منه .

وسرنا ذلك اليوم يميناً وشمالاً دون جدوى ، ولم نر أثراً لقافلة ولا طريق ولا مخلوق ، حتى صار الليل ، ونفد منا الماء والبنزين، ووقفت السيارة نهائياً !

نمنا في حالة موحشة مؤلمة ويأس من الحياة ، وحين ارتفع النهار وعلت الشمس ، وأصابنا العطش جمعت أصحابي وقلت لهم: لقد أصابنا ما أصابنا بالذنب الذي ارتكبه السائق أصغر ، وجَعَلَنا في هذه المهلكة ، ولا خلاص لنا إلا بأن نتوسل بمولانا وسيدنا الامام المهدي صلوات الله عليه ، فعلينا أن نتوسل وأن نحفر قبورنا الآن ما دام فينا قوة حتى إذا صَرَعنا العطش اضطجعنا فيها ، لنموت فيها وتسترنا رمال الصحراء ولا نصير طعمة للوحوش . وقلت لهم إنذروا إذا أنجانا الله تعالى أن ينفق كل واحد جميع مالديه من أموال في سبيل الله تعالى .

فاستجاب أصحابي لهذا الطلب ، وحفرنا قبورنا وتهيّأنا للموت ، وبعضنا جلس في قبره وهو يدعو ويبكي ، لكن أملنا في إمام العصـر ليغيثنا في هذه الشدة .

وأخذنا نتوسل بالمعصومين واحداً واحداً الى الإمام الحجة(ع) ، في بكاء وخشوع وانقطاع وإلحاح . وناديناه : يا فارس الحجاز ، يا أبا صالح المهدي أدركنا ، يا صاحب الزمان أدركنا .

وكانت أمامنا ربوةٌ رملية فصعدت عليها وأخذت أدعو فحَصَلَت لي حالة انقطاع كامل الى الله تعالى ، وقلت لله تعالى: سبحانك أنت تقول: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، ولكنا لا نريد أن نموت في هذه الصحراء ولو كنا شهداء ، نريد أن نموت في وطننا عند أهلنا . وأخذت أنادي صاحب الزمان صلوات الله عليه ، وأبكي .

في هذه الحال فوجئت براكبٍ في زيٍّ عربي يجر خلفه جِمالاً محملة ، تخيلت أنه جَمَّالٌ عابر للصحراء مسافر الى مقصدٍ له. ورأيته أشار الى جماله وراءه فأناخت، وتوجه اليَّ فقمت اليه واستقبلته بفرح ، وسلمت عليه فرد عليَّ السلام قائلاً: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، ثم قبلت وجهه الكريم ، وما أجمله وأنوره وأبهاه من وجهٍ .

كان(ع) بزيِّ العرب ، يلبس حزاماً على كتفه وصدره ، ويلبس كوفية كأهل البادية . فالتفت اليَّ وقال: ياشيخ إسماعيل ، ضيعتم الطريق؟

قلت: نعم ضيعنا الطريق . ولم يخطر ببالي كيف عرف إسمي !

قال: جئت لأدلكم على الطريق ، إمشوا في هذا الطريق بشكل مستقيم واعبروا عن ذينك الجبلين ، فسيظهر لكم جبلان آخران فاسلكوا بينهما، فستظهر لكم الجادة وترون طريق العراق أمامكم ، فسيروا في الجهة اليسرى لتصلوا الى الحدود العراقية الحجازية «الجَرْيَة ».

ثم قال: النذر الذي نذرتم غير صحيح ، فإنكم إذا أنفقتم جميع مالديكم لم يبقَ لكم شئ ، وأنتم باقون في العراق أربعين يوماً ، فتحتاجون الى السؤال والإستعطاء وهو حرام .

لكن إحسبوا أموالكم واعرفوا مقدارها ، وعندما تصلون الى وطنكم أنفقوا في سبيل الله تعالى بذلك المقدار .

ثم قال لي: إجمع رفاقك واركبوا السيارة وتحركوا ، حتى تصلوا الجَرْيَة في أول المغرب . فناديت أصحابي ، وكنت واقفاً معه على الربوة أمامهم ، وأخبروني فيما بعد أنهم لم يروه معي حتى ناديتهم !

وجاؤوا وسلموا عليه ، وقبلوا يده جميعهم ! وقلت لهم: إركبوا ، فقد دلني على الطريق، وقال لي إن النذر الذي نذرناه غير صحيح ، وقال: إن الذي معكم يكفيكم ، وإلا كنت أعطيتكم !

وأردت أن أطلب منه أن يرافقنا حتى لانضيع مرة أخرى ، فتقدّمتُ اليه وأخرجتُ قرآناً كان في جيبي وأقسمت عليه بحق هذا القرآن الكريم أن يكون معنا في السيارة ، ويوصلنا الى الجرية .

فقال: لا تقسم بالقرآن ؟ لكن حيث أقسمت أجئ معكم. ثم قال: المقصر أصغر ، فليسق محمود . أنا أقعد في الوسط ، وأنت تقعد بصفي .

كل هذا ، ولم ينتبه منا أحدٌ ويسأل نفسه: كيف عرف نذرنا وعلم ببقائنا في العراق أربعين يوماً ، وكيف عرف أن السائق إسمه أصغر وأنه هو المقصر، وأنا سنصل أول المغرب الى الجرية ؟

لكنا كنا محجوبين عن معرفته سلام الله عليه ! وكنا جميعاً مسلوبي الأذهان والإرادة ، مطيعين له في كل ما يقوله ، ولم يسأله أحد منا: من أنت ، ولا كيف عرفت أسماءنا وقصتنا ؟

قال إركبوا السيارة فركبنا ، ولم يخطر ببالنا أنه ليس فيها بنزين ، وجلس محمود السائق فقال لي(ع) : قل له يسوق ، وأشار بإصبعه الى الأمام .

فقلت لمحمود: حرك السيارة ، فشغَّلها ، وتحركت بسرعة في تلك الرمال حتى وصلنا الى وسط الجبلين . فنظر(ع) الى السماء وقال: الآن أول الظهر ، قل له يتوقف . صلوا وأنا أصلي وبعد الصلاة نركب ، وقال: في ذلك المكان ، وأشار بيده الى شوك نابت في الصحراء ، يوجد بئر ماءٍ عذبة ، فاشربوا وتوضؤوا ، واملؤوا قربكم !

فتوقفنا ونزلنا فوجدنا بئراً ماؤها على عمق شبر ونصف من سطح الأرض ! فشربنا وملأنا القرب والسيارة ، وتوضأنا وصلينا.

وأنا الآن على يقين بأنه لا يوجد في تلك الصحراء بئر في ذلك المكان .

وذهب هو(ع) وكنا نراه هنالك ، فأكمل صلاتيه الظهر والعصر، وجاء وأمر أن يتغدى كل واحدٍ منا بما عنده في داخل السيارة ، وركبنا السيارة وأتيت بما عندي وعرضت عليه أن يأكل مما معنا فأبى ، وأعطيته بعض اللوز والفستق فأبى أن يأخذه ، وقلت له هذا الخبز من حنطة زرعتها في بلدي شاهرود ، فأخذ مني كسرة يابسة ، لكني لم أره أكلها .

ودار الحديث بيننا ونحن نسير في الطريق ، وكنت أُبيّن له النعم الوافرة في ايران ورُخص الأسعار هناك ، فكان يقول: كلها من بركات الأئمة ، كلها من بركاتنا ، النعم وافرة في جميع ايران ، وكلها من بركاتنا أهل البيت(ع) . وتحدثنا عن الوهابية وعن العراق .

ولم ألتفت ولم أسأله: من أنت ، كنت أراه رجلاً صالحاً من أولياء الله سخره الله لنا ، وكنت أراه أحياناً مشغولاً بذكر الله تعالى !

وتحدث(ع) وأخذ يمدح بعض بلاد إيران وبعض علمائها ، وبعض علماء النجف ، الى أن وصلنا الى الحدود العراقية« الجرية » في أول المغرب كما كان أخبرنا(ع) ، فنزلنا من السيارة ونزل هو(ع) .

وأوصانا أن نبيت الليل هنا في الجرية ولا نسير وحدنا ، وقال إنه ستصل يوم غد قافلة من مكة ، فسيروا معها الى العراق .

وكنت واقفاً معه قرب السيارة وبيدي إبريق لأتوضأ ، فقال: أنا مفارقكم وأستودعكم الله تعالى ، فأصريت عليه أن يبقى معنا تلك الليلة ، ونتناول طعام العشاء . فقال لي: ياشيخ اسماعيل ، عندي شغل كثير ويلزم عليَّ أن أذهب ، وأنت أقسمتَ عليَّ بالقرآن الكريم فأجبتك .

فالتفتُّ في لحظة فلم أرَهُ وغاب عني وهو واقفٌ أمامي !

فشعرت آنذاك أنه كان مولانا الامام الحجة(ع) ، فأخذتُ بالبكاء وصحتُ بأصحابي بأنا كنا متشرفين الى الآن بخدمة إمامنا الذي فرّج الله تعالى عناونجانا ببركته ، وللأسف لم نحظَ بمعرفته !

فانتبه الحجاج وكأنهم أفاقوا من نومهم وأخذنا بالبكاء والعويل ، فسمع صوتنا شرطة الحدود فأسرعوا الينا وقالوا: منو ميت ، منو ميت ؟

قلنا: لم يمت أحد لكنا ضيعنا الطريق ، فبكينا الآن لما نجونا . ثم جاء بعضهم يسأل فقال له بعض الحجاج: نعم مات واحدٌ منا .

أقول: هذه القصص الصحيحة وعشرات أمثالها ، لا تدع مجالاً للشك في صحة مشاهدة الإمام(ع) في غيبته ، وبعضهم يعرفه حين رؤيته ، وأكثرهم يعرفه عند غيابه أو بعده !

الروايات التي توهم نفي إمكان الرؤية

توقيع الإمام(ع) لسفيره السمري:

وقد رواه الصدوق (كمال الدين/516) بسند صحيح ، والشيخ الطوسي ، (الغيبة/395) ، عن أبي محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: ( كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري(قدس سره) فحضرته قبل وفاته بأيام ، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً . وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه،فقيل له: مَن وصيك من بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هُوَ بالغه ، وقضى . فهذا آخر كلام سمع منه ، رضي الله عنه وأرضاه ) .

ملاحظات

1. سند التوقيع صحيح ، وفيه معجزةٌ تدل على صدوره من الإمام(ع) حيث أخبر أنه سفيره يموت قبل إكمال سبعة أيام ، وتحقق ذلك .

وقد استدل بعضهم على نفي رؤية الإمام(ع) في الغيبة بقوله(ع) : ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر .

وقد فسرالمشاهدة فيه بالرؤية ، والصحيح أن معناها ادعاء السفارة ، بقرينة قوله(ع) : وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني.. فالمنفي ادعاء شخص أنه يشاهد الإمام(ع) أي يكون في مشهده ومحضره ، فيأتي شيعتي ويدعي أنه يعيش في مشهد الإمام(ع) وأنه سفيره الى الناس. أما من يراه(ع) ولا يدعي مقاماً ولا سفارة ، فلا يشمله النفي ، ولا يصدق عليه أنه: يأتي شيعتي .

2. تستعمل المشاهدة اليوم بمعنى الرؤية ، ولكنها أخص من الرؤية لأنها تعني الحضور في حضرته(ع) ، والرؤية أعم منها، لأنها تصدق على النظر اليه سواء كلمه أم لم يكلمه ، فنفي المشاهدة لا يوجب نفي الرؤية ، بينما نفي الرؤية يعني نفي المشاهدة .

ولذلك استعمل الأئمة(ع) الرؤية في أحاديث الإمام المهدي كثيراً، ولم يستعملوا المشاهدة إلا في هذا التوقيع ، وفي حديث أبي خالد الكابلي عن الإمام السجاد(ع) في وصف المؤمنين في الغيبة (كمال الدين/320) قال: (يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان ، فإن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة ، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله(ص) ).

أي بمنزلة حضور الإمام(ع) ومشاهدته له .

3. معنى ( يدعي المشاهدة ) يفيد الإستمرار، أي يدعي أنه يشاهدني دائماً. فهذا هو المنفي ، ولوكان المنفي ادعاء الرؤية لقال: وسيأتي شيعتي من يدعي أنه رآني . ومن رآه لا يدعي استمرار رؤيته له ، وأنه في مشهده ومن خاصته .

وقد وقع اللبس على بعض المعاصرين ، بسبب عدم تتبعه للروايات ، أو عدم تمييزه بين الرؤية والمشاهدة في اللغة ، التي نفاها التوقيع الشريف .

فالميزان في النفي: أن يأتي الشيعة ويدعي لهم استمرار اللقاء به(ع) ، فهذا الذي أمرنا بتكذيبه ، قبل السفياني والصيحة . أما الذي يدعي أنه رآه ، وعرفه حين رآه ، أو عرفه بعد أن غاب عنه ، ولا يدعي مقاماً ، ولا أنه(ع) أمره بتبليغ شئ عنه ، ولا أنه من أخصائه ولا أنه يراه باستمرار ، فهذا يجب تصديقه إن استجمع شروط الوثاقة والعدالة .

ومما يُتوهم دلالته على نفي الرؤية أيضاً:

الروايات المستفيضة في أنه(ع) يرى الناس ويرونه ولا يعرفونه ،كالتي رواها الصدوق (2/440) بسند صحيح: (حدثنا محمد بن موسى المتوكل رضي الله عنه قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه ، قال سمعته يقول:والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة ، فيرى الناس ويعرفهم ، ويرونه ولا يعرفونه ).

وما رواه النعماني/143، عن الإمام الصادق(ع) قال: ( واعلموا أن الأرض لا تخلو من حجة لله عز وجل ، ولكن الله سيعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم ، ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة لله لساخت بأهلها ، ولكن الحجة يعرف الناس ولا يعرفونه ، كما كان يوسف يعرف الناس وهم له منكرون ، ثم تلا: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ) .

وما رواه الطوسي في الغيبة/341: (عن عباية بن ربعي الأسدي قال: سمعت أمير المؤمنين(ع) يقول:كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ، ولا علم يرى ، يبرأ بعضكم من بعض) !

وما رواه النعماني/142عن أمير المؤمنين(ع) : (حتى إذا غاب المتغيب من وُلدي عن عيون الناس ).

وما قاله السيد الحميري في حديث الإمام الصادق(ع) (كمال الدين/34):

ولكن روينا عن وصي محمد

وما كان فيما قال بالمتكذب

بأن ولي الأمر يفقد لا يرى

ستيراً كفعل الخائف المترقب

وما رواه الكافي ( 1/336 ) : ( عن سديرالصيرفي قال:سمعت أبا عبد الله ( ع ) يقول: إن في صاحب هذا الأمر شبهاً من يوسف ( ع ) ، قال قلت له: كأنك تذكره حياته أو غيبته ؟ قال : فقال لي : وما تنكر من ذلك هذه الأمة أشباه الخنازير! إن إخوة يوسف ( ع ) كانوا أسباطاً أولاد الأنبياء ، تاجروا يوسف ، وبايعوه وخاطبوه وهم إخوته وهو أخوهم ، فلم يعرفوه حتى قال: أنا يوسف وهذا أخي، فما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يفعل الله عز وجل بحجته في وقت من الأوقات كما فعل بيوسف!إن يوسف(ع) كان إليه ملك مصر وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوماً ، فلو أراد أن يعلمه لقدر على ذلك.لقد سار يعقوب ( ع ) وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الأمة أن يفعل الله عز وجل بحجته كما فعل بيوسف، أن يمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم حتى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف،قالوا : قَالُوا أَئِنَّكَ لانْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ ) !

كما لا يصح القول إن رواية العمري تخص الغيبة الصغرى ، فإن لسان بعضها مطلق يشمل الغيبتين، كرواية عبيد بن زرارة عن الصادق(ع) قال: (يفقد الناس إمامهم فيشهد الموسم). رواها الكافي(1/337) وغيره .

فقد يقال إن نفي معرفة الناس له(ع) في هذه الروايات،يعني نفي رؤيته.

والجواب: أن المنفي بهذه الروايات رؤية عامة الناس لاخاصتهم ، وبذلك يجمع بينها وبين ما صح عنهم(ع) من أنه يلتقي بثلاثين ، وبخاصة شيعته ، وخاصة مواليه في دينه ، والقصص الصادقة في رؤيته .

المقالات
في معرفة الله تعالى وحبه عز وجل

الدين هو الحب والبغض ؟

حب المؤمن لنبيه(ص) وإمامه(ع) حبٌّ خاصٌّ يصل أحياناً الى حد الهيام بشخصية النبي أو الإمام الفريدة المحبوبة ، التي اختارها رب العالمين لتكون قدوة وأسوة لعباده ، وجسد فيها إرادته تعالى ، وتجلت فيها أسماؤه الحسنى وأنواره والجذابة .

قال الفضيل بن يسار:«سألت أبا عبد الله(ع) عن الحب والبغض، أمن الإيمان هو؟ فقال: وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الآيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ». «الكافي:2/124» .

وفي مستدرك الحاكم «2/291»: «قال رسول الله(ص) : الشـرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء. وأدناه أن تحب على شئ من الجوْر وتبغض على شئ من العدل . وهل الدين إلا الحب والبغض . قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ الله ».

تفاوت الناس في طاقة الحب والبغض !

إن حُبَّ الذات أقوى الغرائز ، فكل إنسان يحب نفسه وما يتصوره خيراً لها ، أما الإيمان فيحتاج الى طاقة حبٍّ للخير وبغضٍ الشـر ، فهي التي تجعل الشخص يتفاعل مع الكون والطبيعة والمجتمع ، ومع العقائد والمشاعر ، فينبض قلبه وتجيش مشاعره حباً للخير وبغضاً للشر .

ويتفاوت الناس فيما منحهم الله من هذه الطاقة ، وفي تربيتها وتنميتها . وقويُّ العاطفة والحب للخير ، المملوءُ حيويةً ، مرشحٌ لأن يكون مؤمناً متديناً . أما ضعيف العاطفة ، الخامل ، الذي قلما يجيش قلبه للإيمان ، فهو شبيهٌ بالميت ، وليس مرشحاً للإيمان ، أو لدرجة عالية فيه .

لكن هذا الخامل في عالم الإيمان الذي لا يحسن حب الله ورسوله(ص) وأوليائه (ع) ، تراه يحب بدلهم في مقابلهم !

وقد وصف الله هذين النوعين من الناس فقال: وَمَا يَسْتَوِى الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. «فاطر:22».

وقال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا. «الأنعام:122».

لا قيمة لحب وبغض من لا عقل له

تحتاج طاقة الحب والبغض الى عقل يوجهها ويحفظ اعتدالها ، وهذا معنى الحب في الله والبغض في الله ، أي الخاضع لأحكام الشريعة .

ولا قيمة للحب والبغض بدون عقل ، لأن ضررهما أكثر من نفعهما !

ولذلك حذر الأئمة(ع) من قليل العقل ووصفوه بأنه لا دين له !

قال الإمام زين العابدين(ع) : ( إذا رأيتم الرجل قد حَسَّنَ سَمْتَه وهَدْيَه ، وتَمَاوَتَ في منطقه ، وتَخَاضَعَ في حركاته ، فَرُوَيْداَ لا يَغُرَّنَّكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجُبن قلبه فنصب الدين فخّاً لها ، فهو لا يزال يَخْتِلُ الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه .

وإذا وجدتموه يَعِفُّ عن المال الحرام ، فرويداً لا يغرنكم ، فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من يَنْبُو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شَوْهاء قبيحة فيأتي منها مُحَرَّماً !

فإذا وجدتموه يَعِفُّ عن ذلك فرويداً لا يَغُرَّنَّكُم ، حتى تنظروا ما عَقَدَهُ عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله .

فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغركم ، حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه ، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ؟ فإنَّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة ، حتى إذا قيل له اتَّقِ الله أخذته العزَّةُ بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد ، فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمدُّه ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ! فهو يُحِلُّ ما حَرَّم الله ويُحَرِّم ما أحل الله ، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها ! فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهيناً .

ولكن الرجل كلَّ الرجل نعمَ الرجل ، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله وقواه مبذولةً في رضا الله ، يرى الذلَّ مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تَبيد ولا تَنْفَد ، وأن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال .

فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا ، وإلى ربكم به فتوسلوا ، فإنه لا تُرَدُّ له دعوة ولا تَخِيبُ له طَلِبَة ). (الإحتجاج:1/54).

فالذي يعرف من يحب ويبغض ، وكيف ، هو صاحب العقل فقط .

قال الإمام الباقر(ع) : « قال رسول الله(ص) : وُدُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان . ألا ومن أحب في الله ، وأبغض في الله ، وأعطى في الله ، ومنع في الله ، فهو من أصفياء الله » . «الكافي «2/124».

وروى ابن عبد البر في التمهيد «17/430»: « قال رسول الله(ص) : يا عبد الله بن مسعود . قلت: لبيك يا رسول الله ، قال: تدري أي عرى الإيمان أوثق؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الولاية في الله ، والحب والبغض فيه » .

حب النبي(ص) وأهل بيته(ع) أرقى أنواع الحب

روى في الكافي «8/78» عن الإمام الصادق(ع) هذه الرواية العجيبة ، قال: «كان رجلٌ يبيع الزيت وكان يحب رسول الله(ص) حباً شديداً ، كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله(ص) !

وقد عَرف ذلك منه ، فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه ، حتى إذا كان ذات يوم دخل عليه فتطاول له رسول الله(ص) حتى نظر إليه ، ثم مضـى في حاجته فلم يكن بأسرع من أن رجع! فلما رآه رسول الله(ص) قد فعل ذلك أشار إليه بيده إجلس فجلس بين يديه فقال: مالك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل ذلك؟ فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبياً لَغَشِيَ قلبي شئٌ من ذكرك حتى ما استطعت أن أمضي في حاجتي ، حتى رجعت إليك ، فدعا له وقال له خيراً .

ثم مكث رسول الله(ص) أياماً لا يراه ، فلما فقده سأل عنه فقيل: يا رسول الله ما رأيناه منذ أيام ، فانتعل رسول الله(ص) وانتعل معه أصحابه وانطلق حتى أتوا سوق الزيت، فإذا دكان الرجل ليس فيه أحد، فسأل عنه جيرته فقيل:يا رسول الله مات ، ولقد كان عندنا أميناً صدوقاً، إلا أنه قد كان فيه خصلة ! قال: وما هي؟ قالوا: كان يرهق ، يعنون يتبع النساء . فقال رسول الله(ص) : رحمه الله ، والله لقد كان يحبني حباً لو كان نَخَّاساً لغفر الله له ».

أقول: النَّخَّاس بائع الجواري ، وهو عادةً يقع في الحرام ويرتكب الزنا معهن. ومعنى كلام النبي(ص) : أن حب الشاب بياع الزيت له وهيامه به ، يغلب ذنوبه حتى لو كانت كذنوب نخاس زناء .

ونلاحظ في الحديث شهادة رفقاء هذا الشاب بصدقه وأمانته ، فذلك من تأثير حبه للنبي(ص) ، وإن بقيت عنده معاصٍ في سلوكه .

كما نلاحظ عمق حبه رضي الله عنه حتى أنه لا يستطيع أن يذهب الى عمله كل يوم حتى ينظر نظرة الى رسول الله(ص) .

وأن حبه العميق هذا دله على أنه يرى رسول الله(ص) لآخر مرة ، فرجع اليه ليراه رؤية مودع ، ثم توفي بعد ذلك رضي الله عنه !

وقال بريد بن معاوية العجلي(رحمه الله) «تفسير العياشي:1/167»: «كنت عند أبي جعفر«الإمام الباقر(ع) » إذ دخل عليه قادمٌ من خراسان ماشياً ، فأخرج رجليه وقد تغلفتا «ورمتا من المشي» وقال: أما والله ما جاء بي من حيث جئت إلا حبكم أهل البيت !

فقال أبو جعفر(ع) :والله لو أحبنا حجر حشـره الله معنا ، وهل الدين إلا الحب ، إن الله يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ . وقال: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ . وهل الدين الا الحب .

وقال ربعي بن عبد الله: قيل لأبي عبد الله « الإمام الصادق(ع) »: جعلت فداك إنا نسمى بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فينفعنا ذلك؟ فقال: إي والله ، وهل الدين إلا الحب؟ قال الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ».

أقول: يدل قوله(ع) : لو أحبَّنا حجرٌ حَشَـَرُه الله معنا ، على أن الجمادات لها أرواح بحسبها كما نذهب اليه. قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .

كما يدل على أن الحشر يوم القيامة شامل لذوات الأوراح والنبات والجماد .

وفسره بعضهم بأن معناه: لو أحبنا شخص قلبه حجر لصلح بحبنا وحشره الله معنا، فيكون معناه تأثير حبهم(ع) في حسن العاقبة . لكنه تفسير ضعيف .

أما وجه نفع تسمية أولادنا بأسماء أهل البيت(ع) ، فلأنه يقربنا من الله تعالى فينفعنا ، كما ينفع أولادنا بتأثير وضعي وشرعي .

الفرق بين الحب والعشق

استعمل العرب مادة عَشِقَ في الحب المفرط ، واشتهر في حب الرجل للمرأة والعكس، فعندما تقول فلان عاشق فمعناه مغرم بحب امرأة ، ولا يفهم منه غير ذلك إلا بقرينة . «العين:1/124».

وقال ابن فارس«4/321»: « يدل على تجاوز حد المحبة » . ويحتمل أن يكون أصلها فارسياً ، لأن «إيشك» الفهلوية تعني غرام الرجل والمرأة .

ولم يستعمل القرآن كلمة العشق ، واستعمل بدلها الحب في أكثر من سبعين مورداً ، ولعل السبب أنها أوسع منها وأكثر احتراماً .

وقد فرق ابن الرومي بين العشق فجعله للغانيات ، وجعل الحب لعلي وأهل البيت(ع) ، قال «مناقب آل أبي طالب:2/230»:

يا هندُ لم أعشق ومثلي لا يَرَى***** عِشْقَ النساءِ ، ديانةً وتحَرُّجَا

لكنَّ حبي للوصي مخيمٌ***** في الصدر يسـرحُ في الفؤاد تولجا

فهو السـراج المستنير ومن به***** سببُ النجاة من العذاب لمن نجا

لكن النبي(ص) استعمل العشق للعبادة ، فقال «الكافي:2/83»: «أفضل الناس من عشق العبادة ، فعانقها وأحبها بقلبه ، وباشرها بجسده وتفرغ لها فهولايبالي على ماأصبح من الدنيا على عسر أم على يسر».

ونلاحظ أنه(ص) استعمل أوصاف العاشقين من المعانقة والمباشرة ، لينقل معنى العشق الجنسي الى العشق المعنوي للعبادة لتكون محبوبة العابد ، يهيم بتلاواتها ، ويأنس بركوعها وسجودها ، ويتلذذ بعطش صومه وجوعه !

كما رود عن النبي(ص) أنه جعل العشق أشد درجةً من الشوق ، فقال: « إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة ، وإن الجنة لأعشق لسلمان من سلمان إلى الجنة » . «روضة الواعظين/282».

ليس كل عشق مذموماً

العشق المذموم: مايصرف الإنسان عن واجب ، أو يوقعه في حرام .

أما ما عداه فهو عشق حلال ، وقد يكون مستحباً مندوباً اليه ، كما رأيت في وصف النبي(ص) لعاشق العبادة .

وقد ذمَّ أمير المؤمنين(ع) عشق الدنيا، وقصده الذي يسيطر على الإنسان فيرى الأمور بمنظار نفعي ، وليس بمنظار عقلاني رباني .

قال(ع) «نهج البلاغة:1/211»: « سبحانك خالقاً ومعبوداً ، بحسن بلائك عند خلقك . خلقت داراً وجعلت فيها مأدبة: مشـرباً ومطعماً ، وأزواجاً وخدماً، وقصوراً وأنهاراً ، وزروعاً وثماراً . ثم أرسلت داعياً يدعو إليها فلا الداعي أجابوا ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئاً أعشى بصـره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ، ولمن في يده شئ منها » !

وقد ذمَّ الإمام الصادق(ع) العشاق الهائمين ،لأنهم ينشغلون بعشقهم عن ذكر الله تعالى ، ففي علل الشرائع «1/140» قال المفضل بن عمر: «سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق(ع) عن العشق فقال: قلوبٌ خلت من ذكر الله ، فأذاقها الله حب غيره ».

وقال في عمدة القاري «14/127»: « وروى البزار بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: من عشق وعَفَّ وكتم ومات ، مات شهيداً ». وهو مدحٌ لمن لم يرتكب حراماً . ولم يرفعه الى النبي(ص) .

هذا ، وقد شاع عند الصوفية والعامة التعبير بعشق النبي وآله(ص) ، وقد استنكره بعضهم ، لكن لا أرى فيه بأساً ، وقد استعمله النبي(ص) للعبادة .

لايُعرف الله عز وجل إلا بإمامٍ

عندما نقول يجب على الإنسان معرفة الله تعالى ، فالمقصود معرفة وجوده عز وجل ، ومعرفة توحيده ، وصفاته .

أما معرفة ذاته عز وجل فهو فوق طاقة البشر ، ولذا نهانا النبي(ص) عن التفكر في ذات الله تعالى ، وأمرنا أن نتفكر في عظمة مخلوقاته .

وبما أن معرفة الناس لله تعالى وتصوراتهم عنه أنواعٌ ، وعبادتهم له أنواعٌ أيضاً ، فكان من الضروري أن يتلقوا معرفته من مصدر اختاره هو ونصبه حجة لعباده ، نبياً ، أو إماماً(ع) .

فالحمد لله على أنه بعث لنا رسولاً، ونصب بعده أئمةً ، نتلقى منهم دينه ونتعلم منهم حبه ، ولولا ذلك لتهنا في معرفته في كل واد ، وعرفناه خيالاً وضلالاً ، وأحببناه هواءً وهباءً !

فما أكثر الذين يتخيلون أنهم عرفوه ، وما عرفوا إلا معبوداً صنعوه بأفكارهم الناقصة ، وما عبدوا إلا رباً تخيلوه بأذهانهم القاصرة ، فهم ما بين صرعى ذات اليمين والشمال ، أو مُكِبِّينَ على وجوههم !

وما أسعد الذين عرفوه عن طريق أوليائه ، الذين عينهم ليُعرف بهم ، ولهذا كانت معرفة الأئمة(ع) مقدمة لمعرفة الله تعالى .

وصدق الإمام الحسين(ع) في قوله: (أيها الناس ، إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ، فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي ، فما معرفة الله ؟ قال معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته .

قال مصنف هذا الكتاب: يعني ذلك أن يعلم أهل كل زمان أن الله هو الذي لا يخليهم في كل زمان عن إمام معصوم ، فمن عبد رباً لم يُقم لهم الحجة ، فإنما عبد غير الله عز وجل ). (علل الشرائع:1/9).

ومعنى كلام الصدوق(رحمه الله) أن من عدل الله تعالى أن يقيم الحجة ، ويعين إماماً . وهذا أمرٌ يضاف الى أن معرفته تعالى تتوقف على دلالة إمام .

وصدق الإمام الباقر(ع) حيث قال: « إنما يَعرف الله تعالى ويعبده من عرف إمامه منا أهل البيت . ومن لايعرف الإمام منا أهل البيت ، فإنما يعرف ويعبد غير الله ، هكذا والله ضلالاً ». (الكافي:1/181).

وحيث قال(ع) : (إنما يعبد الله من يعرف الله ، فأما من لايعرف الله ، فإنما يعبده هكذا ضلالاً. قلت: جعلت فداك فما معرفة الله ؟ قال: تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله(ص) وموالاة علي(ع) والإئتمام به وبأئمة الهدى والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم ، هكذا يعرف الله عز وجل) . (الكافي:1/180).

وصدق الإمام الصادق(ع) في قوله:(الأوصياء هم أبواب الله لتي يؤتى منها ولولاهم ماعُرِفَ اللهُ تعالى وبهم احتج الله على خلقه». (الكافي:1/193).

أقول: يبدو هذا الكلام دعوى ثقيلة ، لأنه ينفي المعرفة الصحيحة عن غير الآخذين من أهل البيت(ع) . لكنك تعرف صدقها عندما ترى الى أين وصل الذين عرفوه عن غير طريقهم ، وكيف وقعوا في مطبات عظيمة ، ودخلوا في طامات كبرى ، لا مخرج منها إلا بالعودة الى أهل البيت(ع) .

روى في كفاية الأثر/156، عن علي(ع) قال: (دخلت على رسول الله(ص) في بيت أم سلمة وقد نزلت هذه الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً. فقال رسول الله(ص) : يا علي هذه الآية نزلت فيك وفي سبطيَّ والأئمة من ولدك . فقلت: يا رسول الله وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي ، ثم ابناك الحسن والحسين ، وبعد الحسين علي ابنه ، وبعد علي محمد ابنه ، وبعد محمد جعفر ابنه ، وبعد جعفر موسى ابنه ، وبعد موسى علي ابنه ، وبعد علي محمد ابنه ، وبعد محمد علي ابنه ، وبعد علي الحسن ابنه ، والحجة ولد الحسن.

هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله تعالى عن ذلك فقال: يا محمد هم الأئمة بعدك ، مطهرون معصومون ) !

(السلام على مَحَالِّ معرفة الله ، السلام على مساكن ذكر الله ، السلام على مظاهر أمر الله ونهيه.. السلام على الأدلاء على الله.. السلام على الذين من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله ، ومن عرفهم فقد عرف الله ، ومن جهلهم فقد جهل الله ، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله ، ومن تخلى منهم فقد تخلى من الله ). (الفقيه:2/680 ).

( الْحَمْدُ لِلَّه عَلَى مَا عَرَّفَنَا مِنْ نَفْسِه ، وأَلْهَمَنَا مِنْ شُكْرِه ، وفَتَحَ لَنَا مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِرُبُوبِيَّتِه ، ودَلَّنَا عَلَيْه مِنَ الإِخْلَاصِ لَه فِي تَوْحِيدِه ، وجَنَّبَنَا مِنَ الإِلْحَادِ والشَّكِّ فِي أَمْرِه». (الصحيفة السجادية/30) .

لا يُحَبُّ الله إلا بالتعلم من إمام

قال الإمام الرضا(ع) في خطبة له (التوحيد/35): (أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفة الله توحيده ، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه ، لشهادة العقول أن كلَّ صفةٍ وموصوفٍ مخلوق ، وشهادة كل مخلوقٍ أن له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كل صفة وموصوف بالإقتران ، وشهادة الإقتران بالحدث ، وشهادة الحدث بالإمتناع من الأزل ، الممتنع من الحدث ، فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته ) .

وفي التوحيد للصدوق/285: (جاء أعرابي إلى النبي(ص) فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم ، قال: ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل عن غرائبه؟ قال الرجل: ما رأس العلم يا رسول الله ؟ قال : معرفة الله حق معرفته . قال الأعرابي: وما معرفة الله حق معرفته؟ قال : تعرفه بلا مثلٍ ، ولا شِبْهٍ ، ولا نِدٍّ ، وأنه واحدٌ أحد ، ظاهرٌ باطن، أولٌ آخر ، لا كفوَ له ولا نظير . فذلك حق معرفته ).

وقرأ الإمام الصادق(ع) قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، ثم قال: يا حفص، الحب أفضل من الخوف. ثم قال: والله ما أحبَّ الله من أحب الدنيا ووالى غيرنا ، ومن عرف حقنا وأحبنا ، فقد أحب الله تبارك وتعالى ). (الكافي:8/129).

وقال رسول الله(ص) : ( أنا سيد ولد آدم ، وأنت يا علي والأئمة من بعدك سادة أمتي ، من أحبنا فقد أحب الله ، ومن أبغضنا فقد أبغض الله ، ومن والانا فقد والى الله ، ومن عادانا فقد عادى الله ، ومن أطاعنا فقد أطاع الله ، ومن عصانا فقد عصى الله ). (أمالي الصدوق/563).

وقال الله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ ) .

فالذين آمنوا يحبون الله تعالى أكثر من حب أصحاب الأنداد لأندادهم ، أي آلهتهم وأئمتهم الذين اتخذوهم بدون سلطان من الله .

والمقصود بالمؤمنين في الآية: أهل البيت(ع) (العياشي:1/62)لأن حبه تعالى متوقفٌ على معرفته ، فإن لم يعرفه فهو يحب شيئاً من تصوره !

والأئمة المعصومون(ع) أعرف الناس به ، فهم أشدُّ الناس حباً له .

وقال الإمام الصادق(ع) (الكافي:8/248): (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم ، ولنعموا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله .

إن معرفة الله عز وجل أُنْسٌ من كل وحشة ، وصاحبٌ من كل وحدة ، ونورٌ من كل ظلمة ، وقوةٌ من كل ضعف ، وشفاءٌ من كل سقم .

ثم قال(ع) : وقد كان قبلكم قومٌ يُقتلون ويُحرقون ويُنشـرون بالمناشير وتَضيق عليهم الأرض برحبها ، فما يردهم عما هم عليه شئ مما هم فيه ، من غير تِرَةٍ وَتروا مَن فعل ذلك بهم ، ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فاسألوا ربكم درجاتهم ، واصبروا على نوائب دهركم ، تدركوا سعيهم ).

وقال الشهيد الثاني في مُسَكِّن الفؤاد/27:(جعل النبي(ص) الحب لله من شرط الإيمان فقال: لايؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ولايتحقق الحب في قلب أحد لأحد مع كراهته لفعله وسخطه به ، بل مع عدم رضاه على وجه الحقيقة ، لا على وجه التكلف والتعنت .

وفي أخبار داود (ع) : يا داود ، أبلِغ أهل أرضي أني حبيبُ من أحبني وجليسُ من جالسني ، ومؤنسٌ لمن أنس بذكري ، وصاحبٌ لمن صاحبني ، ومختارٌ لمن اختارني ، ومطيعٌ لمن أطاعني .

ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه ، إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي .

من طلبني بالحق وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني . فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ، ومجالستي ومؤانستي ، وأْنسوا بي أؤنسْكم ، وأسارعْ إلى محبتكم .

وأوحى الله تعالى إلى بعض الصديقين: إن لي عباداً من عبادي ، يحبوني وأحبهم ، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، فإن أخذت طريقتهم أحببتك ، وإن عدلت عنهم مقتُّك .

فقال: يا رب وما علامتهم؟ قال: يُراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب ، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام ، وفرشت الفرش ، ونصبت الأسرة ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، نصبوا إليَّ أقدامهم وافترشوا لي وجوههم ، ونا جوني بكلامي ، وتملقوني بإنعامي ، ما بين صارخٍ وباكٍ ، وما بين متأوهٍ وشاكٍ ، وبين قائمٍ وقاعدٍ ، وبين راكعٍ وساجد . بعيني ما يتحملون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبي . أقلُّ ما أعطيهم ثلاثاً: الأول: أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني كما أخبر عنهم . والثاني: لو كانت السماوات الأرضون وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم . والثالث: أقبل بوجهي عليهم ، أفترى من أقبلت بوجهي عليه ، يعلم أحدٌ ما أريد أن أعطيه ) .

ضلال النواصب في معرفة الله تعالى وحبه

من يَضِلُّ في معرفة الله تعالى يَضِلُّ في حُبه ، ومن أعرض عن أئمة العترة الذين نصبهم الله بعد نبيه(ص) وجعلهم عِدْلَ القرآن ، ولم يتلقَّ دينه منهم يَضِلُّ لا محالة في معرفة الله تعالى ، وحبه !

وقد وصل النواصب الى الدرك الأسفل من الجهل، فزعموا أن الله تعالى جَسَدٌ محدودٌ ينزل ويصعد ، وجعلوه مخلوقاً خاضعاً لقوانين الزمان والمكان ، واتبعوا ما تشابه من القرآن ، وجعلوا لله تعالى يداً ورجلاً وأعضاء ، وتركوا محكمهُ كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىٌْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وجعلوا خالق الكون عز وجل شاباً أمرد ، وافتروا على نبيه(ص) وزعموا أنه رآه بعينه شاباً شعره أجعد يلبس نعلين من ذهب !

وأول من زرع هذه المقولات كعب الأحبار في زمن عمر، فاستنكر ذلك أهل البيت(ع) ، ورده أمير المؤمنين(ع) في مجلس عمر .

ثم استنكرته عائشة فقالت: (من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، وهو يقول:لا تدركه الأبصار) (البخاري:8/166). وقالت: ( من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله والله يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب).(الترمذي:4/328 ).

لكن النواصب ردوا قول أهل البيت(ع) وقول عائشة ، وأشربوا التجسيم وحب الشاب الأمرد ، كما أشرب اليهود حب العجل!

قال إمامهم ابن تيميه في بيان تلبيس الجهمية ، تحقيق الدكتورمحمد البُريدي المطبوع بأمر الملك فهد بالمدينة المنورة (7/288) ، وكذلك قال في كتاب: التأسيس في الرد على أساس التقديس (3/241): (فيقتضـي أنها رؤية عين ، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي في صورة شاب أمرد ، له وَفْرة ، جَعْدٌ قَطَطٌ ، في روضة خضراء ) .

وقال تلميذه ابن كثير في تفسيره (6/448) :(إسناده على شرط الصحيح ).

وروى في طبقات الحنابلة (2/45) عدة أحاديث وفيها أنه شاب أمرد عليه عباءة خضراء . وفي أحاديث أخرى أن ربهم يلبس حُلَّةً حمراء ! (السنة لابن أبي عاصم/433، ومسند أحمد:2/290) .

وكذلك فسروا حديث:لا تُقبح وجهه ، فإن الله خلق آدم على صورته ، بأن معناه على صورة الله ، وليس على صورة الشخص المشتوم !

وقد فصلناه في كتاب: الوهابية والتوحيد ، وكتاب ألف سؤال وإشكال .

وعلى هذا يكون معنى قول الوهابي:لا إله إلا الله:لا إله إلا الشاب الأمرد ! ومعنى قوله: إني أحب الله: أنه يحب الشاب الأمرد !

ويكون معنى دعوته المسلمين الى التوحيد: توحيد الشاب الأمرد ! ومعنى شرك من خالفه: أنه أشرك بعبادة الشاب الأمر د !

فاعجب لهذا البؤس والضلال الغليظ ، الذي يصرفون المليارات لتعميم ثقافته على الأمة الإسلامية والعالم ، باسم الإسلام !

واشكر الله أنك عرفت ربك سبحانه عن طريق أهل البيت(ع) ، لا عن طريق كعب ، وأبي هريرة ، وبني أمية !

وافهم معنى قولنا لأهل البيت(ع) : بكم عُرِفَ الله ، وبكم عُبِدَ الله .

قال العلامة الحلي(قدس سره) في منهاج الكرامة/39: (وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد ، راكباً على حمار ، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفاً يضع كل ليلة جمعة فيه شعيراً وتبناً ، لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح ، فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء: هل من تائب هل من مستغفر!

تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى .

وحكيَ عن بعض المنقطعين التاركين من شيوخ الحشوية، أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نَفَّاطٌ ومعه أمرد حسن الوجه قطط الشعر ، على الصفات التي يصفون ربهم بها ، فألحَّ الشيخ بالنظر إليه وكرره ، وأكثر تصويبه إليه ، فتوهم فيه النفاط ، فجاء إليه ليلاً فقال: أيها الشيخ رأيتك تلحُّ بالنظر إلى هذا الغلام ، وقد أتيتك به ، فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم ، فحَرِدَ الشيخ عليه وقال: إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله تعالى ينزل على صورة هذا الغلام ، فتوهمت أنه الله تعالى ! فقال له النفاط: ما أنا عليه من النفاطة ، أجود مما أنت عليه من الزهد ، مع هذه المقالة ) !

وحاول ابن تيمية أن يرد عليه فقال في منهاج السنة (2/631): ( هذه الحكاية وأمثالها دائرة بين أمرين ، إما أن تكون كذباً محضاً ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد ، وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب ، وأدنى العامة أعقل منه وأفقه .

وعلى التقديرين فلا يضرذلك أهل السنة شيئاً ،لأنه من المعلوم لكل ذي علم أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان ، ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا ، مع أنها صحيحة واقعة .

وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد أنها كذب محض عليهم ، وضعها إما هذا المصنف أو من حكاها له للشناعة ، وهذا هو الأقرب ، فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ، ما لا يَرُوجُ عليهم معه مثل هذا ) .

لكن ابن الجوزي وهو إمام الحنابلة ذكر ما يؤيد حكاية العلامة الحلي(رحمه الله) عن حنابة بغداد ، قال في كتابه: دفع شبه التشبيه/101: ( ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة : أبو عبد الله بن حامد ، وصاحبه القاضي ، وابن الزاغوني ، فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضـى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته ، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات ، وعينين وفماً ولهوات ، وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات ، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً ، وصدراً وفخذاً ، وساقين ورجلين ! وقالوا : ما سمعنا بذكر الرأس . وقالوا: يجوز أن يُمَسَّ ويَمُس ، ويُدني العبد من ذاته . وقال بعضهم: ويتنفس. ثم يُرضُونَ العوام بقولهم: لا كما يعقل !

وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسميةً مبتدعةً لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث ، ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل ، حتى قالوا صفة ذات ، ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة ومجئ ، وإتيان على معنى بِرٍّ ولُطف ، وساقٍ على شدة ، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة ، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين ! والشئ إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن .

ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ، ويقولون: نحن أهل السنة!وكلامهم صريح في التشبيه ، وقد تبعهم خلق من العوام ) !

وكذا قال ابن عساكر في كتابه: تبيين كذب المفتري/311:

(وتمادت الحشوية في ضلالتها والإصرار على جهالتها، وأبوْا إلا التصـريح بأن المعبود ذو قَدم وأضراسٍ ، ولهوات وأنامل ، وأنه ينزل بذاته ، ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد ، بشعر قطط ، وعليه تاجٌ يلمع ، وفي رجليه نعلان من ذهب .

وحُفظ ذلك عنهم وعللوه ودونوه في كتبهم ، وإلى العوام ألقوه ، وأن هذه الأخبار لا تأويل لها ، وأنها تجري على ظواهرها ، وتُعتقد كما ورد لفظها ، وأنه تعالى يتكلم بصوت كالرعد كصهيل الخيل .

وينقمون على أهل الحق لقولهم أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال ، منعوتٌ بالعلم والقدرة ، والسمع والبصر، والحياة والإرادة ، والكلام ، وهذه الصفات قديمة ، وأنه يتعالى عن قبول الحوادث ، ولا يجوز تشبيه ذاته بذات المخلوقين ، ولا تشبيه كلامه بكلام المخلوقين ) !

أقول: فالناصبي إما أن يكون مثل ذلك الشيخ الأبله ، الذي أصاب النفاط بأنه خير منه ، لأن النفاط ينزه الله تعالى ، والوهابي (العالم) يتخيل أن ربه شاب أمرد ، يعبده ويتقرب اليه ! وكفى بذلك ضلالاً في العقيدة والسلوك !

بل يظهرأن الشذوذ الجنسي انتشر بينهم ، بسبب هذه العقيدة الفاحشة !

ضلال القائلين بوحدة الوجود من أهل التصوف والعرفان

قال إمامهم ابن عربي (الفتوحات:2/459):(فاختلاف العالم بأسره لا يخرجه عن كونه واحد العين في الوجود، فزيدٌ ما هو عمرو ، وهما إنسان فهما عين الإنسان لا غيره ، فمن هنا تعرف العالم من هو وصورة الأمر فيه ، إن كنت ذا نظر صحيح.. فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها !

فما نظرتْ عيني إلى غير وجههِ
وما سمعت أذني خلافَ كلامه

فكلُّ وجودٍ كان فيه وجودُه
وكل شخيصٍ لم يزل في منامه

فتعبير رؤيانا لها في منامنا
فمن لامَ فليلحق به في ملامه).

وقال في فصوص الحكم/389: (فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا ، لأن ذواتنا عين ذاته ، لامغايرة بينهما إلا بالتعين والإطلاق . أو شهدنا نفوسنا فيه ، لأنه مرآة ذواتنا . وإذا شَهِدَنا أي الحق شهدَ نفسه أي ذاته التي تعينت وظهرت في صورتنا ، أو شهد نفسه فينا ، لكوننا مرآةً لذاته وصفاته ).

وقال في فصوص الحكم:1/83: « فالأمر منه إِليك ومنك إِليه . غير أنك تسمى مكلَّفاً وما كلَّفك إِلا بما قلت له كلفني بحالك وبما أنت عليه ، ولا يسمَّى مكلَّفاً ، إسم مفعول:

فيحمدني وأحمدُه
ويعبدني وأعبدُه
ففي حال أقرُّ به
وفي الأعيان أجحده
فيعرفني وأنكره
وأعرفه فأشهده
فأنى بالغنى وأنا
أُساعده فأسعده
لذاك الحق أوجدني
فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا
وحقق فيَّ مقصده)

وقال في الفتوحات (12/578):(فعلامة الحب الإلهي حب جميع الكائنات في كل حضـرةٍ معنوية أو حسية أو خيالية أو متخيلة . ولكل حضرة من هذه الحضرات عينٌ من إسمه تعالى ).

وقال في شرح فصوص الحكم (2/325): (لاعجب في نظر ابن عربي أن أحب النبي النساء ، لأن المرأة جزء من الرجل، والأصل يحن إلى فرعه والكل يحن إلى جزئه . وليس حب النبي النساء إلا مثالًا جزئياً يوضح مبدأً عاماً يسير عليه الوجود بأسره ، وهو الحب الإلهي الذي هو حنين الحق إلى الخلق ، ولكن الفرع يحن إلى أَصله أيضاً ، والجزء إلى كله: ومن هنا جاء حنين الخلق إلى الحق ، وإن كان في الحقيقة حنيناً للحق إلى نفسه في صورة الخلق المتعين .

أما شوق الحق إلى الخلق ، فهو شوق الكل إلى أجزائه ، والكل والأجزاء مستعملان هنا على سبيل المجاز . وقد ظهر في صورتين، الأولى: في حنين الذات الإلهية إلى الظهور على مسـرح الوجود الخارجي ، ذلك الحنين الذي كان علة الخلق ، وإليه الإشارة في الحديث القدسي بقوله تعالى: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق فبه عرفوني .

والصورة الثانية: هي حنين الحق المتجلي في صور الوجود إلى الرجوع إلى نفسه: أي حنين الكل المتعين بصورة الجزء إلى الرجوع إلى الكل العام . وهذا بعينه حنين الخلق إلى الحق ، لأن المشتاق عين المشتاق إليه في الحقيقة ، وإن كان غيره بالتعين ) !

وقال في شرح الفتوحات: 3 /21:(وقد قال الشعر كثيرون من متصوفي الإسلام.. وتخصصوا في ألوان منه آثروا على غيرها ، فأولعت رابعة العدوية (185ه‍ ) بالشعر في الحب الإلهي ، وهي القائلة:

أحبك حبين حبَّ الهوى
وحباً لأنك أهلٌ لذاكا

فأما الذي هو حبُّ الهوى
فكشفُك لي الحجبَ حتى أراكا

وأما الذي أنت أهلٌ له

فلست أرى الكون حتى أراكا

وصَوَّرَ الحلاج ( 309 هـ ) الحلول بصور شتى، منها قوله:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحنُ رُوحَانِ حللنا بدَنا

فإذا أبصـرتني أبصـرتَه
وإذا أبصـرتَه أبصـرتنا ).

أقول: عابد الشاب الأمرد أحسن حالاً من القائل بوحدة الوجود ، لأن عابد الأمرد يعرف من يعبد ويحب ، ولو في خياله !

لكن القائل بوحدة الوجود عليه أن يُحب كل الوجود ، لأنه كله الله تعالى ! ولا يستطيع أن يكره شيئاً حتى إبليس وفرعون ، والشر وأصحابه !

فقد حكم ابن عربي بأن عبادة اليهود للعجل كانت توحيداً ، قال في (الفصوص:1/191): (فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل ، لعلمه بأن الله قد قضى ألَّا يُعْبَد إلا إياه: وما حكم الله بشئ إلا وقع . فكان عتب موسى أخاه هارون ، لِمَا وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه . فإن العارف من يرى الحق في كل شئ ، بل يراه كل شئ فكان موسى يربي هارون تربية علم ، وإن كان أصغر منه في السن ) !

وقال في الفصوص (1/191): (لم ينكر موسى إذن على عبدة العجل عبادتهم إلَّا من حيث إنهم حصروا المعبود المطلق في تلك الصورة الخاصة ، التي هي صورة العجل ، مع أن المعبود المطلق يأبى الحصر ، لأنه عين كل ما يعبد.. وقال له: أنْظُرْ إِلى إِلهِكَ ، فسماه إلهاً بطريق التنبيه للتعليم ، لما علم أنه بعض المجالي الإلهية )! (وراجع الفصوص:2/285و192) .

وقال في إيمان فرعون:( وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق . فقبضه طاهراً مطهراً ليس فيه شئ من الخبث ، لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئاً من الآثام ، والإسلام يَجُبُّ ماقبله ، وجعله آيةً على عنايته سبحانه بمن شاء ، حتى لاييأس أحد من رحمة الله).(الفصوص:1/201).

بل على هذا المذهب لا يستطيع المتصوف أن يحب شيئاً غير ذاته ، لأنها بزعمه كل شئ ، أو جزء من الشئ الأكبر !

والنتيجة:أن الناصبي يعبد الولد الأمرد ، وصاحب وحدة الوجود يعبد نفسه.

وكل هذا الضياع والضلال ، لابتعادهما عن مصدر معرفة الله تعالى وحبه .

حب المؤمن من حب الله تعالى

حب الناس وكرههم

أعرف أشخاصاً ، يحب أحدهم كل الناس حتى الذين يكرهونه ، فهو بطبيعته محب ، وكأنه لايُحسن أن يبغض أحداً !

كل الناس عنده طيبون ، أو فيهم طيبةٌ تُحب ، ولا شغل له بسوئهم ، فهو لايراه ، وإن رآه تغاضى عنه!

وإذا أحرجته بأن فلان سئ خبيث فلماذا تحبه ، أخرج له المعاذير ، أو شكك بما يقال عن سيئاته !

وأعرف أشخاصاً ، يكره أحدهم كل الناس ، حتى نفسه أحياناً ، فهولا يرى إلا سوء الناس وخبثهم وظلمهم ، وأعمالهم الشيطانية ، فكأنه لا يستطيع أن يحب أحداً ، لأنه لا يرى فيهم ما يستحق أن يُحب !

وأعرف نوعاً ثالثاً يحب الناس ، لكنه يتعب من حبه لهم ، فيكرههم !

وأنواعاً أخرى من الناس ، ممن يحب الآخرين أو لا يحبهم .

ومنهم سريع الحب والبغض ، وبطيؤه . ومنهم ثابتٌ في حب وبغضه ، ومنهم متغير الحب والبغض لأدنى سبب !

والسؤال هنا: أي الأنواع من هؤلاء صحيحٌ ، لنقتديَ به ؟

هنا تظهر الحاجة لوجود إمام نتعلم منه: من نحب وكيف نحب ، ومن نبغض وكيف ؟ فالضوابط مهما كانت محددة ، يبقى فيها متسع للخطأ ، أما الإنسان القدوة فهو أكثرتحديداً ، وأبلغ تفهيماً للناس .

وما دمنا محرومين من الإمام الحاضر القدوة لغيابه صلوات الله عليه ، فإن سيرة المعصومين(ع) ونصوص الكتاب والسنة هي المرجع لتحديد النمط الصحيح ، للحب والبغض . وهي بمجموعها تدعو الى الحب والبغض معاً، والى التوازن فيهما ، لأن الولاية والبراءة أساس الدين .

ولهذا ترى الحب في القرآن موجهاً الى الله تعالى ورسوله(ص) والمؤمنين والخير والقيم الدينية والإنسانية . وترى البغض موجهاً الى أعداء الله تعالى ، والشيطان والكفار والشر .

يُحشر المرء مع من يحب

تقدم قول الإمام الباقر(ع) : (والله لو أحبنا حجرٌ حشـرهُ الله معنا ، وهل الدين إلا الحب ). « تفسير العياشي:1/167» .

وقد تواتر الحديث في أن المؤمن تُغفر ذنوبه ، ويَشفَعُ له أئمة أهل البيت الذين يحبهم(ع) ، كما يَشْفَعُ هو لغيره !

ففي تفسير القمي(2/123) عن الإمام الباقر(ع) بسند صحيح قال: ( والله لنشفعن في المذنبين من شيعتنا حتى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ . فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . قال: من المهتدين، قال: لأن الإيمان قد لزمهم بالإقرار ) .

وفي شرح الأخبار (3/461): (أبو الجارود، قال:قلت لجعفر بن محمد(ع) بأن الناس يعيبونا بحبكم . قال: أعدْ عليَّ ، فأعدت عليه . فقال: لكني أخبرك أنه إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الخلائق في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ويفقدهم البعيد ، ثم يأمر الله النار فتزفر زفرة يركب الناس لها بعضهم على بعض ، فإذا كان ذلك قام محمد نبينا(ص) فيشفع ، وقمنا فشفعنا ، وقام شيعتنا فشفعوا ، فعند ذلك سواهم : فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. َلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. والله يا أبا الجارود ما طلبوا الكرة إلا ليكونن من شيعتنا ) !

وفي شرح الأخبار (3/452): (وعن جعفر بن محمد(ع) أنه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي شيعتنا ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، وذلك أن الله تعالى يفضلنا ويفضل شيعتنا حتى إنا لنشفع ويشفعون ، فلما رأى ذلك من ليس منهم ، قالوا: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ).

وفي الكافي(8/78) بسند صحيح:(عن مُيسر قال:دخلت على أبي عبدالله (ع) فقال: كيف أصحابك؟ فقلت: جعلت فداك لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا! قال : وكان متكئاً فاستوى جالساً ، ثم قال: كيف قلت؟ قلت: والله لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ! فقال: أما والله لا يدخل النار منكم اثنان لا والله ولا واحد ، والله إنكم الذين قال الله عز وجل: وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ . أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ . إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ . (صاد:62-64) ثم قال : طلبوكم والله في النار ، فما وجدوا منكم أحداً ).

وفي الكافي(8/101)عن الإمام الباقر(ع) قال: ( وإن الشفاعة لمقبولة وما تقبل في ناصب ، وإن المؤمن ليشفع لجاره وما له حسنة ، فيقول: يا رب جاري كان يكف عني الأذى فيشفع فيه ، فيقول الله تبارك وتعالى: أنا ربك وأنا أحق من كافأ عنك ، فيدخله الجنة وما له من حسنة !

وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنساناً ، فعند ذلك يقول أهل النار: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) .

وقال المفيد في أوائل المقالات/79: ( إن رسول الله(ص) يشفع يوم القيامة في مذنبي أمته من الشيعة خاصة فيشفعه الله عز وجل .

ويشفع أمير المؤمنين(ع) في عصاة شيعته فيشفعه الله عز وجل .

وتشفع الأئمة(ع) في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفعهم .

ويشفع المؤمن البَرُّ لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفعه الله . وعلى هذا القول إجماع الإمامية إلا من شذ منهم ، وقد نطق به القرآن وتظاهرت به الأخبار ، قال الله تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان:فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. وقال رسول الله(ص) : إني أشفع يوم القيمة فأشفع، فيشفع عليٌّ فيشفع).

حب المؤمنين قيمة عليا في الدين

روى الصدوق في الخصال/243:(عن ابن عباس: قال رسول الله(ص) : سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل تصدق بيمينه فأخفاه عن شماله ، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل ، ورجل لقيَ أخاه المؤمن فقال: إني لأحبك في الله عز وجل ، ورجل خرج من المسجد وفي نيته أن يرجع إليه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها ، فقال: إني أخاف الله رب العالمين ).

وروى في الكافي(2/178) عن الإمام الباقر(ع) بسند صحيح، قال:(إن لله عز وجل جنةً لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق ، ورجل زار أخاه المؤمن في الله ، ورجل آثر أخاه المؤمن في الله ). انتهى.

وتسأل: وهل يحبه ويزوره ويؤثره على نفسه ، حتى لو آذاه وتكلم عليه وعاداه ؟ والجواب: نعم ، حتى لو فعل ذلك .

وقد عَلَّمَنَا تلاميذ أهل البيت(ع) أن نجعل تعاملنا مع أمير المؤمنين(ع) فيكون هو طرفنا في المعاملة ، لأنا نسامح المؤمن من أجله .

روى الكشي في رجاله (2/783): (أن يونس بن عبد الرحمن قيل له:إن كثيراً من هذه العصابة يقعون فيك ويذكرونك بغير الجميل ، فقال: أشهدكم أن كل من له في أمير المؤمنين(ع) نصيب ،فهو في حل مما قال).

وروى الكشي(2/281): (كنا عند أبي الحسن الرضا(ع) وعنده يونس بن عبد الرحمن، إذ استأذن عليه قوم من أهل البصرة، فأومى أبو الحسن(ع) إلى يونس: أدخل البيت ، فإذا بيت مسبل عليه ستر ، وإياك أن تتحرك حتى تؤذن لك. فدخل البصريون وأكثروا من الوقيعة والقول في يونس، وأبو الحسن(ع) مطرق ، حتى لما أكثروا وقاموا فودعوا وخرجوا: فأذن ليونس بالخروج ، فخرج باكياً فقال: جعلني الله فداك أني أحامي عن هذه المقالة ، وهذه حالي عند أصحابي ! فقال له أبو الحسن(ع) : يا يونس وما عليك مما يقولون إذا كان إمامك عنك راضياً ، يا يونس حدث الناس بما يعرفون ، واتركهم مما لا يعرفون ، كأنك تريد أن تكذب على الله في عرشه . يا يونس وما عليك أن لو كان في يدك اليمنى درة ثم قال الناس بعرة ، أو قال الناس درة ، أو بعرة فقال الناس درة ، هل ينفعك ذلك شيئاً ؟ فقلت: لا . فقال: هكذا أنت يا يونس ، إذ كنت على الصواب وكان إمامك عنك راضياً لم يضرك ما قال الناس .

وفي رواية: يايونس إرفق بهم فإن كلامك يدقُّ عليهم.قلت:إنهم يقولون لي زنديق! قال لي:وما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة يقول الناس هي حصاة ، وما كان ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس لؤلؤة)!

محركا الخوف والرجاء

من القصص الرمزية عن القيامة: أن رجلاً كان يمشـي الى مكانه في المحشـر ، فرأى صديقه جالساً وأمامه كيسٌ فيه ذنوبه وهو يبكي فسأله: ما بك؟ قال: هذا كيس ذنوبي فكيف أواجه به ربي؟ فقال له: أوَتخافُ من هذا ، ونحن ذاهبون الى أرحم الراحمين ! قم معي ، ومد يده الى الكيس وألقاه على ظهره ، فإذا يه يجر عربة كبيرة مملوءة من أكياس ذنوبه !

فالأول غلب عليه الخوف من ذنوبه والعقاب عليها ، والثاني غلب عليه الرجاء بالمغفرة مع أن ذنوبه أضعاف ذنوب صاحبه .

فأي الحالَيْن أصح: شدة الخوف ، أم شدة الرجاء ؟

أجابت أحاديث النبي وآله(ص) أن الإنسان يجب أن يعيش بالحالتين معاً ، فيكون راجياً وخائفاً ، وبالطبع ليس في آن واحد ، بل تتناوب عليه الحالتان ، فيعيش حالة الخوف تارة ، والرجاء أخرى .

قال الحارث بن المغيرة إنه سأل الإمام الصادق(ع) (الكافي:2/67): (ما كان في وصية لقمان ؟ قال: كان فيها الأعاجيب ، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عز وجل خيفةً لو جئته ببر الثقلين لعذبك ، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك ! ثم قال أبو عبد الله(ع) : كان أبي يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء ، لو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا ، ولو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا ).

وقال الإمام الصادق(ع) قال: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو . المؤمن بين مخافتين: ذنبٌ قد مضى لايدري ما صنعَ الله فيه، وعمرٌ قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف ). (الكافي:2/71).

فهذه الأحاديث تدل على أن حالتي الخوف والرجاء مطلوبتان بنفس المستوى، فهما كالمحركين للإنسان بالدفع والجذب . وهو يتحرك بهذه مرة ، وهذه مرة ، وبمزيج منهما مرة . والخوف والحزن مطلوب أكثر من الرجاء ، لقول الإمام الصادق (ع) : (ولايصلحه إلا الخوف).

لكن الذي يحدث أن بعض الأشخاص يغلب عليه الخوف ، وبعضهم الرجاء ، ولا بأس بذلك ما دام عنده خوف ورجاء ، وإن تحرك بغيره .

قال أمير المؤمنين(ع) :إلهي، ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا شوقاً إلا جنتك ، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك). (نهج الحق/248).

أي أخاف عقابك وأطمع في ثوابك لكن يحركني الى عبادتك عاملٌ آخر.

والحاصل: أنه يجب أن يكون في شخصية المؤمن مخزونٌ من خوف من الله ورجائه ، يتواردان عليه كل في مناسبته ، ولايضره أن يغلب عليه أحدهما فيكون طابع شخصيته ، بسبب ثقافته ، أو تكوينه ، أو تقويته هو لذلك .

وهذا كله في الدنيا ، أما يوم القيامة والمحشر فيناسبه الأمل والرجاء ، أكثر من خوف صاحب الكيس .

المقالات
اتصل بنا